التفسير الحديث

محمد عزة دروزة

مقدمة التحقيق

الجزء الأول (بسم الله الرّحمن الرّحيم) [مقدمة التحقيق] مقدمة الطبعة الأولى الحمد لله رب العالمين، إيّاه نعبد وإيّاه نستعين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، المنزل عليه القرآن، فيه شفاء وهدى ورحمة وذكرى للعالمين. وبعد، فإننا بعد أن كتبنا كتبنا الثلاثة وهي: «عصر النبي صلى الله عليه وسلم» ، و «سيرة الرسول صلى الله عليه وسلّم من القرآن» ، و «الدستور القرآني في شؤون الحياة» «1» انبثقت فينا فكرة كتابة تفسير شامل، بقصد عرض القرآن بكامله بعد أن عرضناه فصولا حسب موضوعاته في الكتب الثلاثة، نظهر فيه حكمة التنزيل ومبادئ القرآن ومتناولاته عامة بأسلوب وترتيب حديثين، متجاوبين مع الرغبة الشديدة الملموسة عند كثير من شبابنا الذين يتذمرون من الأسلوب التقليدي ويعرضون عنه، مما أدى إلى انبتات الصلة بينهم وبين كتاب دينهم المقدس، ويدعو إلى الأسف والقلق «2» .

_ (1) طبع الأول في دمشق 1365 هـ 1946 م، والثاني في القاهرة 1367 هـ 1948 م، والثالث في القاهرة أيضا 1376 هـ 1956 م. (2) ونزيد على ما قلناه في الطبعة الأولى فنقول: إن الحاجة إلى ذلك تشتد يوما بعد يوم بنسبة ازدياد ما يتعرض له شبابنا وناشئتنا من تيارات جارفة عاصفة من الإلحاد والتحلل من مختلف القيم والروابط الأخلاقية والاجتماعية، والتقليد الأعمى لكل تافه سخيف مخل بالدين والخلق والمروءة. والإقبال على قراءة المجلات والروايات الماجنة الخليعة التافهة والانصراف عن قراءة الآثار الجادة الإسلامية والعلمية والقومية التي بها وحدها يضمن المرء لنفسه الكرامة والمعرفة والنفع بحيث صار الواجب يقضي تنبيههم إلى ما هم معرضون له من هذه التيارات وإنقاذهم من نتائجها الرهيبة بشرح تراثهم الديني والقومي والخلقي والاجتماعي العظيم الرائع شرحا مؤثرا نافذا، والإهابة بهم إلى الاستمساك بحبل الله والتزود بما في كتابه وسنة رسوله من قواعد ومبادئ وتلقينات من شأنها أن تعصمهم من الزلل وتهديدهم إلى أقوم السبل في شؤون الدين والدنيا.

ولقد تيسّر لنا فراغ جديد مثل الفراغ الذي تيسّر لنا من قبل، فيسّر لنا كتابة الكتب الثلاثة المذكورة ونعني به سجننا في سجن المزة ثم في سجن قلعة دمشق الذي سجننا فيه الإفرنسيون بتحريض الإنكليز بسبب الثورة العربية الفلسطينية في أعوام 1937- 1939 والذي امتد ستة عشر شهرا (حزيران 1939- مارس 1941) إذ لم نكد نخرج من هذا السجن بعد انكسار فرنسا في الحرب العالمية الثانية حتى دهمت سوريا قوات الإنكليز والإفرنسيين الديغوليين المنضمين إليهم. فنزحنا عن دمشق إلى تركية حيث قضينا فيها خمسين شهرا كانت لنا فرصة طيبة لتنفيذ تلك الفكرة وكتابة مسودة التفسير (1941- 1945) . وقد ساعدنا على ذلك ما وجدناه في مكتبات الآستانة من كتب وتفاسير عديدة. ولما عدنا إلى دمشق صرنا نغتنم الفرص لمراجعة ما كتبناه والرجوع إلى مصادر كثيرة أخرى. فلما اتسق التفسير وتكامل بيّضناه، وظللنا نراجع ما كتبناه وندخل عليه ما نراه مفيدا من تعديلات حتى إذا يسر الله أن تطبع أجزاؤه أخذنا نبيضه تبييضا جديدا، ونقدم الأجزاء للطبع واحدا بعد آخر، حامدين الله عز وجل على تيسيره وتوفيقه. ولقد كنّا بعد فراغنا من كتابة مسودات التفسير كتبنا في هجرتنا أيضا كتابا في تنزيل القرآن وأسلوبه وأثره وتدوينه وجمعه وترتيبه وقراءاته ورسمه ومحكمه ومتشابهه وقصصه وغيبياته ومناهج تفسيره، والطريقة المثلى إلى تفسيره وفهمه، وهو الكتاب الذي طبع بعنوان (القرآن المجيد) وكان بمثابة مقدمة للتفسير. ولقد اجتهدنا في السير في التفسير وفق المنهج الذي رأيناه خير سبيل إلى تفسير القرآن الكريم وفهمه، على ما شرحناه في القرآن المجيد وهذا هو: 1- تجزئة المجموعات والفصول إلى جمل تامة، يصح الوقوف عندها من حيث المعنى والنظم والسياق. وقد تكون الجملة آية واحدة أو آيات قليلة أو سلسلة طويلة من الآيات. 2- شرح الكلمات والتعابير الغريبة وغير الدارجة كثيرا، بإيجاز ودون تعمّق لغوي ونحوي وبلاغي، إذا لم تكن هناك ضرورة ماسة.

3- شرح مدلول الجملة شرحا إجماليا، حسب المقتضى المتبادر بأداء بياني واضح، ودون تعمق كذلك في الشروح اللغوية والنظمية. مع الاستغناء عن هذا الشرح والاكتفاء بعرض الهدف والمدلول، إذا كانت عبارة الجملة واضحة نظما ولغة. 4- إشارة موجزة إلى ما روي في مناسبة نزول الآيات أو في صددها، وما قيل في مدلولها وأحكامها، وإيراد ما يقتضي إيراده من الروايات والأقوال، والتعليق على ما يقتضي التعليق عليه منها بإيجاز. 5- تجلية ما تحتويه الجملة من أحكام ومبادئ وأهداف وتلقينات وتوجيهات وحكم تشريعية وأخلاقية واجتماعية وروحية، وملاحظة مقتضيات تطور الحياة والمفاهيم البشرية. وهذه نقطة أساسية وجوهرية في تفسيرنا وهي كذلك في تفسير القرآن والدعوة القرآنية كما هو المتبادر وقد اهتممنا لها اهتماما عظيما. 6- تجلية ما تحتويه الجملة من صور ومشاهد عن السيرة النبوية والبيئة النبوية، لأن هذا يساعد على تفهم ظروف الدعوة وسيرها وأطوارها، وجلاء جوّ نزول القرآن الذي ينجلى به كثير من المقاصد القرآنية. 7- التنبيه على الجمل والفصول الوسائلية والتدعيمية «1» ، وما يكون فيها من

_ (1) نقصد بالجمل والفصول الوسائلية والتدعيمية ما أريد به تدعيم المبادئ القرآنية المحكمة مثل القصص ومشاهد الحياة الأخروية والجن والملائكة وبدء الخلق والتكوين ومشاهد الكون ونواميسه والمواقف الجدلية والحجاجية والترغيب والترهيب والوعد والوعيد والأمثال والتذكير حيث جاء جميع ذلك لتدعيم تلك المبادئ التي وصفت بوصف هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ [آل عمران/ 7] ووصف ما عداها بالمتشابهات في آية سورة آل عمران السابعة هذه هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ... ومع أن الواجب يقضي بالاهتمام للمحكمات فإن جلّ المفسرين المطولين قديما وحديثا بل كلهم اهتموا لما عداها من الفصول الوسائلية والتدعيمية أكثر من اهتمامهم للفصول المحكمة حتى انعكست الآية أو كادت، وصارت هذه الفصول جوهرية فأدى ذلك إلى الإشكالات والمناقضات وتشويش الأذهان وتعريض القرآن للنقاش والتضارب وإخراجه عن قدسيته وغايته وهي الهداية والدعوة والموعظة والتشريع وقلبه إلى كتاب تاريخ وفن ونظريات تتحمل الأخذ والرد والنقض والمعارضة على غير طائل ولا ضرورة. بل لم يقف الأمر عند هذا، فهناك من صرف كثيرا من الآيات عن مفهومها الواضح ودلالتها البينة إلى ما يشبه الألغاز والمعميات بل الهذيان ويتجاوز غاية القرآن بالهدى والموعظة وصلاح البشرية تأثرا بالنزعة الصوفية. وهناك من فعل مثل ذلك وحمل الآيات غير ما تحتمله واستخرج ما زعم أنه باطنها تأثرا بالأهواء وتأييدا لها. مما سوف نوضحه بالأمثلة في مناسباته ثم في شرح مدى آية سورة آل عمران المذكورة إن شاء الله.

مقاصد أسلوبية كالتعقيب والتعليل والتطمين والتثبيت والتدعيم والترغيب والترهيب والتقريب والتمثيل والتنديد والتذكير والتنويه، مع إبقاء ذلك ضمن النطاق الذي جاء من أجله وعدم التطويل فيه. والتنبيه بإيجاز إلى ما ورد في صدده إذا اقتضى السياق بما لا يخرج به عن ذلك النطاق. 8- الاهتمام لبيان ما بين آيات وفصول السور من ترابط. وعطف الجمل القرآنية على بعضها سياقا أو موضوعا، كلما كان ذلك مفهوم الدلالة، لتجلية النظم القرآني والترابط الموضوعي فيه. لأن هناك من يتوهم أن آيات السور وفصولها مجموعة إلى بعضها بدون ارتباط وانسجام، في حين أن إمعاننا فيها جعلنا على يقين تام بأن أكثرها مترابط ومنسجم. 9- الاستعانة بالألفاظ والتراكيب والجمل القرآنية في صدد التفسير والشرح والسياق والتأويل والدلالات والهدف والتدعيم والصور والمشاهد، كلما كان ذلك ممكنا. وهذا ممكن في الأعمّ الأغلب حيث يوجد كثير من الآيات مطلقة في مكان، مقيّدة في مكان آخر، وعامة في مكان مخصصة في مكان آخر، كما يوجد كثير من الجمل المختلفة في الألفاظ المتفقة في المعاني والمقاصد. ثم بعد ذلك بالروايات إذا ما كانت متسقة مع المفهوم والسياق ثم بأقوال المفسرين إذا كانت كذلك. 10- العطف على ما جاء في كتاب «القرآن المجيد» من بحوث حين تفسير الجملة ومقاصدها تفاديا من التكرار والتطويل. 11- عرض المعاني بأسلوب قريب المأخذ سهل التناول والاستساغة، واجتناب الألفاظ الحوشية والخشنة والغريبة والعويصة. 12- شرح الكلمات والمدلولات والموضوعات المهمة المتكررة شرحا

وافيا وخاليا من الحشو عند أول مرة ترد فيها، والعطف على الشرح الأول في المرات التالية دون تكرار شرحها في مواطن تكررها. وقد رأينا بالإضافة إلى هذا من المفيد وضع مقدمة أو تعريف موجز للسور قبل البدء بتفسيرها، يتضمن وصفها ومحتوياتها وأهمّ ما امتازت به، وما يتبادر من فحواها من صحة ترتيبها في النزول وفي المصحف، وما في السور المكية من آيات مدنية، وفي السور المدنية من آيات مكية حسب الروايات، والتعليق على ذلك حسب المقتضى. وكذلك وضع عناوين للموضوعات والتعليقات الهامة التي تناولناها بالبحث والشرح والبيان، ليسهل على من ينظر في التفسير مراجعة ما يريد منها. ولقد رأينا أن نجعل ترتيب التفسير وفق ترتيب نزول السورة، بحيث تكون أولى السور المفسرة الفاتحة ثم العلق ثم القلم ثم المزّمل إلى أن تنتهي السور المكّية ثم سورة البقرة فسورة الأنفال إلى أن تنتهي السور المدنية لأننا رأينا هذا يتّسق مع المنهج الذي اعتقدنا أنه الأفضل لفهم القرآن وخدمته. إذ بذلك يمكن متابعة السيرة النبوية زمنا بعد زمن، كما يمكن متابعة أطوار التنزيل ومراحله بشكل أوضح وأدقّ، وبهذا وذاك يندمج القارئ في جوّ نزول القرآن وجوّ ظروفه ومناسباته ومداه، ومفهوماته وتتجلى له حكمة التنزيل. وقد قلّبنا وجوه الرأي حول هذه الطريقة، وتساءلنا عما إذا كان فيها مساس بقدسية المصحف المتداول، فانتهى بنا الرأي إلى القرار عليها لأن التفسير ليس مصحفا للتلاوة من جهة، وهو عمل فني أو علمي من جهة ثانية، ولأن تفسير كل سورة يصح أن يكون عملا مستقلا بذاته، لا صلة له بترتيب المصحف، وليس من شأنه أن يمسّ قدسية ترتيبه من جهة ثالثة. ولقد أثر عن علماء أعلام، قدماء ومحدثين تفسيرات لوحدات وسور قرآنية، دون وحدات وسور «1» . كما أثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كتب

_ (1) من القدماء هشام الكلبي الذي روى ابن النديم في كتاب «الفهرست» (ص 51) طبعة المطبعة الرحمانية، أن له كتاب تفسير الآيات التي نزلت في أقوام بأعيانهم. ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية الذي كتب تفسيرا خاصا لسورة الإخلاص طبع في المطبعة الحسينية بالقاهرة سنة 1323 هـ، وكتب تفسيرا لسور الأعلى والشمس والليل والعلق والتين والبيّنة والكافرون. وقد طبعت مجموعتها في بمباي الهند سنة 1374 هـ 1954 م من قبل عبد الصمد شرف الدين، ومن المحدثين الشيخ محمد فوزي مفتي أدرنه، وقاضي بيت المقدس الذي كتب رسالتين: واحدة بتفسير سورة ألم نشرح، وأخرى بتفسير سورة النجم، وقد طبعتا في دار الطباعة العامرة. ومنهم الإمام الشيخ محمد عبده الذي نشر له تفسير سورة العصر وتفسير جزء عمّ، والإمام الشيخ محمد مصطفى المراغي الذي نشر له تفسير ميسّر لآي خاصة من القرآن الكريم.

مصحفا وفق نزول القرآن «1» ، ولم نر نقدا أو إنكارا لهذا وذاك، مما جعلنا نرى السير على هذه الطريقة سائغا. لا سيما والقصد منه هو خدمة القرآن بطريقة تكون أكثر نفعا. وليس هو الانحراف والشذوذ. والله أعلم بالنيات، ولكل امرئ ما نوى. ومع ذلك فقد رأينا أن نستوثق من صحة ما ذهبنا إليه فاستفتينا سماحة الشيخ أبي اليسر عابدين مفتي سورية والشيخ عبد الفتاح أبا غدة، الذي كان من المرشحين لإفتاء مدينة حلب، فتلقينا منهما جوابا مؤيدا حيث قال الأول في جوابه: «إن التأليف والتصنيف تابع لأغراض المؤلفين حسبما يعرض لهم من أشكال، لإظهار الفوائد التي يطلعون عليها، وليس التفسير بقرآن يتلى حتى يراعى فيه ترتيب الآيات والسور، فقد يعنّ للمفسر أن يفسر آية ثم يترك ما بجانبها لظهور معناها وقد يفسر سورة ثم يترك ما بعدها اعتمادا على فهم التالي. ولا مانع من تأليف تفسير على الشكل المذكور، والله أعلم» . وحيث قال الثاني: «إن شبهة المنع لهذه الطريقة آتية من جهة أنها طريقة تخالف ما عليه المصحف الشريف اليوم من الترتيب المجمع عليه والمتواتر إلى الأمة نقله جيلا بعد جيل. ودفع هذه الشبهة أن المنع يثبت فيما لو كان هذا الصنيع مسلوكا من أجل أن يكون هذا الترتيب مصحفا للتلاوة، أي ليتلو الناس القرآن على النحو الذي سلكتموه. أما وإن الغرض للمفسر والقارئ معا غير هذا فلا مانع من

_ (1) «الإتقان في علوم القرآن» للسيوطي ج 1، ص 65 مطبعة عثمان عبد الرزاق، طبعة عام 1306 هجرية.

سلوكه إطلاقا. ويستأنس لسواغية هذه الطريقة بما سلكه أجلّة من علماء الأمة المشهود لهم بالإمامة والقدوة من المتقدمين في تأليفهم ولم يعلم أن أحدا أنكر عليهم ما صنعوا. ويحضرني منهم الآن الإمام ابن قتيبة المتوفى سنة 276 للهجرة، فقد مشى في تفسير ما فسّره في كتابه المطبوع «تأويل مشكل القرآن» على غير ترتيب النزول وعلى غير الترتيب المتلوّ الآن. ويبدو هذا جليا في الصحف (240- 339) . على أن القول بالمنع تبعا لهذه النظرة الضيقة ينبغي أن يشمل ما سلكه الشيخ جلال الدين المحلّي، ثم جلال الدين السيوطي في تفسير هما المعروف بتفسير الجلالين إذ قد بدأ الأول بالتفسير من آخر القرآن الكريم وهو صاعد إلى سورة الكهف، ثم مات فأتمّ الجلال السيوطي من حيث وقف سلفه إلى أول القرآن الكريم. فهما لم يراعيا في مسلكهما هذا البدء على ترتيب القرآن من أوله إلى آخره. وكذلك ينبغي أن يشمل ما صنعه الشيخ عبد الوهاب النجار في كتابه «قصص الأنبياء» ، والشيخ محمد أحمد العدوي في كتابه «دعوة الرسل إلى الله» . فهما أيضا لم يراعيا في موضوعات كتابيهما ترتيب المصحف المتلو اليوم بل راعيا اعتبارا آخر، وكذلك ينبغي أن يتناول المنع كتابكم «الدستور القرآني في شؤون الحياة» ، فقد سلكتم فيه نحو طريقتكم في التفسير من جمع طائفة من الآيات الكريمة في صعيد واحد، ثم تفسيرها وبيان ما تلهمه من المعاني الكريمة. فإن قيل إن هناك فارقا بين صنيعكم في الدستور وصنيعكم في التفسير لأن الأول يمكن أن يجعل من باب التأليف على اعتبار وحدة الموضوع التي ينظر فيها إلى مدلول الآيات فحسب، في حين أن النظر في الثاني متجه إلى مراعاة النزول فحسب، فالجواب: فليجعل هذا أيضا من باب وحدة الموضوع بين السورة والسورة من حيث زمن نزولها سابقة أو لا حقة. وللعلماء أقوال في صدد ترتيب السور وما إذا كان توقيفيّا أو اجتهاديّا. فقد ذكر السيوطي في كتابه «الإتقان» : أن جمهور العلماء على الثاني، منهم مالك والقاضي أبو بكر في أحد قوليه. ومما استدل به على ذلك اختلاف مصاحف السلف في ترتيب السور- والكلام للسيوطي- فمنهم من رتّبها على النزول وهو مصحف عليّ. كان أوله اقرأ ثم المدّثر ثم نون ثم المزّمل ثم تبّت

ثم التكوير وهكذا إلى آخر المكي والمدني. وكان أول مصحف ابن مسعود البقرة ثم النساء ثم آل عمران. وكذا مصحف أبيّ وغيره. ثم ساق السيوطي رحمه الله بعد نحو صفحتين صورة عن الترتيب الذي في مصحف أبيّ بن كعب ومصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما «1» . وقد قال شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى: إن ترتيب السور بالاجتهاد لا بالنصّ في قول جمهور العلماء من الحنابلة والمالكية والشافعية، فيجوز قراءة هذه قبل هذه، وكذا في الكتابة. ولهذا تنوعت مصاحف الصحابة في كتابتها، نعني لما اتفقوا على المصحف في زمن عثمان صار هذا مما سنّه الخلفاء الراشدون. وقد دل الحديث على أن لهم سنة يجب اتباعها. وواضح كل الوضوح أن محل اتباع هذه السنة التي يجب اتباعها إنما هو في كتابة المصحف الذي يكون للتلاوة لا في كتابة تفسير وشرح لمعاني الآيات والسور الكريمة. فإن ذلك غير داخل في موضوع اختلاف العلماء أو اتفاقهم إطلاقا. بل هم فيما روي متفقون على سواغيته وجوازه. والله تعالى أعلم» . وقد استخرنا الله بعد أن تلقينا هذين الجوابين من الأستاذين الجليلين وعزمنا على السير في الطريقة المذكورة لما لها من فوائد عظيمة دون أن يكون لها مساس بقدسية ترتيب المصحف. ولقد أورد السيوطي في كتاب «الإتقان» «2» ترتيبات نزول للسور المكية والسور المدنية منسوبة إلى جابر بن زيد والحسين وعكرمة وابن عباس، وترتيبا رابعا لم يذكر صاحبه. ولقد اطلعنا في مقدمة «تفسير الخازن» على ترتيب وفي مقدمة تفسير «مجمع البيان» على ترتيب آخر، وفي المصحف الذي كتبه الخطاط الشهير بقدر وغلي- والذي طبع بتصريح من وزارة الداخلية المصرية وإذن مشيخة المقاريء المصرية من قبل عبد الحميد أحمد حنفي- ترتيب آخر أشير إليه في رؤوس السور. وبين هذه الترتيبات السبعة بعض التخالف من ناحية التقديم

_ (1) الكلام الذي ساقه الأستاذ أبو غده للسيوطي هو من كتابه «الإتقان» ج 1، ص 65 وما بعدها أيضا من الطبعة المذكورة قبل. (2) انظر الجزء الأول من طبعة مطبعة عبد الرزاق ص 10 وما بعدها.

والتأخير والمدني والمكي، على أن من الحق أن نقول: إنه ليس في الإمكان تعيين ترتيب صحيح لنزول السور القرآنية جميعها، كما أنه ليس هناك ترتيب يثبت بكماله على النقد أو يستند إلى أسانيد قوية ووثيقة. وزيادة على هذا فإن في القول بترتيب السور حسب نزولها شيئا من التجوّز. فهناك سور عديدة مكية ومدنية يبدو من مضامينها أن فصولها لم تنزل مرة واحدة أو متلاحقة، بل نزلت بعض فصولها أولا ثم نزلت بعض فصول سور أخرى، ثم نزلت بقية فصولها في فترات، وأن بعض فصول سور متقدمة في الترتيب قد نزلت بعد فصول سور متأخرة فيه أو بالعكس، وأن فصول هذه السور قد ألّفت بعد تمام نزول فصولها، وأن ترتيبها في النزول قد تأثر بفصلها أو فصولها الأولى، وأن بعض السور المتقدمة في الترتيب أولى أن تكون متأخرة أو بالعكس، أو بعض ما روي مدنيه من السور أولى أن يكون مكّيا أو بالعكس، مما سوف ننبه إليه في سياق تفسير كل سورة إن شاء الله. ومع ذلك فإن هذا لا يعني أن الترتيبات المستندة إلى روايات قديمة أو المنسوبة إلى أعلام الصحابة والتابعين غير صحيحة كلها، أو أنها لا يصحّ التعويل عليها. فالقسم الأعظم من السور المكية نزل دفعة واحدة أو فصولا متلاحقة على ما يلهم سياقها ونظمها ومضامينها. ولم تبدأ سورة جديدة حتى تكون السورة التي قبلها قد تمت. ومضامين سور عديدة مكية ومدنية تلهم أن كثيرا مما روي في ترتيب النزول صحيح أو قريب من الصحة، وكل ما يعنيه أن فيها ما يدعو إلى التوقف وأن الأمر بالنسبة لبعض السور يظل في حدود المقاربة والترجيح. ولهذا لم يكن ما يمكن أن يوجه من مآخذ إلى ترتيب نزول السور ليغير ما قرّ رأينا عليه. لأننا رأيناه على كل حال يظل مفيدا في تحقيق ما استهدفناه والمنهج الذي ترسّمناه، وخاصة بالنسبة إلى فائدة تتبع صور التنزيل القرآني مرحلة فمرحلة والاستشعار بجوّ هذه الصور، حيث يكون ذلك أدعى إلى تفهم القرآن وحكمة التنزيل. وقد اعتمدنا الترتيب الذي جاء في مصحف الخطاط قدر وغلي المذكور قبل. لأنه ذكر فيه أنه طبع تحت إشراف لجنة خاصة من ذوي العلم والوقوف، حيث يتبادر إلى الذهن أن يكون قد أشير إلى ترتيب النزول فيه (السورة كذا نزلت بعد

السورة كذا) بعد اطلاع اللجنة على مختلف الروايات والترجيح بينها. ولقد جاء في تعريف المصحف «إنه كتب وضبط على ما يوافق رواية حفص بن سليمان بن المغيرة الأسدي الكوفي لقراءة عاصم بن أبي النجود الكوفي التابعي عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي عن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبيّ بن كعب عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وأخذ هجاؤه مما رواه علماء الرسم عن المصاحف التي بعث بها عثمان بن عفان إلى البصرة والكوفة والشام ومكة، والمصحف الذي جعله لأهل المدينة والمصحف الذي اختص به نفسه، وعن المصاحف المنتسخة عنها. أما الأحرف اليسيرة التي اختلفت فيها أهجية تلك المصاحف فاتبع فيها الهجاء الغالب مع مراعاة قراءة القارئ الذي يكتب المصحف لبيان قراءته ومراعاة القواعد التي استنبطها علماء الرسم من الأهجية المختلفة على حسب ما رواه الشيخان أبو عمرو الداني وأبو سليمان بن نجاح، مع ترجيح الثاني عند الاختلاف. والعمدة في ذلك على ما حققه الأستاذ محمد بن محمد الأموي الشريشي المشهور بالخراز في منظومته (مورد الظمآن) وما قرره شارحها المحقق الشيخ عبد الواحد بن عاشر الأنصاري الأندلسي. وأخذت طريقة ضبطه مما قرره علماء الضبط على حسب ما ورد في كتاب «الطراز على ضبط الخراز» للإمام التنيسي، مع إبدال علامات الأندلسيين والمغاربة بعلامات الخليل بن أحمد وأتباعه من المشارقة. واتبعت في عدّ آياته طريقة الكوفيين عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي عن علي بن أبي طالب على حسب ما ورد في كتاب «ناظمة الزهر» للإمام الشاطبي وشرحها لأبي عبيد رضوان المخللاتي، وكتاب أبي القاسم عمر بن محمد بن عبد الكافي، وكتاب «تحقيق البيان» للأستاذ الشيخ محمد المتولي شيخ القراء بالديار المصرية سابقا. وأخذ بيان مكّية ومدنيّة من الكتب المذكورة وكتاب أبي القاسم عمر بن محمد بن عبد الكافي، وكتب القراءات والتفسير على خلاف في بعضها. وهذا هو ترتيب نزول السور على حسب ما ورد في مطالع سور هذا المصحف:

السور المكية

السور المكية رقم/ رقم اسم/ ترتيب/ ترتيبها في السورة/ نزولها/ المصحف العلق/ 1/ 96/ القلم/ 2/ 68/ المزمل/ 3/ 73/ المدثر/ 4/ 74/ الفاتحة/ 5/ 1/ المسد/ 6/ 101/ التكوير/ 7/ 81/ الأعلى/ 8/ 87/ الليل/ 9/ 92/ الفجر/ 10/ 89/ الضحى/ 11/ 93/ الشرح/ 12/ 94/ العصر/ 13/ 103/ العاديات/ 14/ 100/ الكوثر/ 15/ 108/ التكاثر/ 16/ 102/ الماعون/ 17/ 107/ الكافرون/ 18/ 109/ الفيل/ 19/ 105/ الفلق/ 20/ 113/ الناس/ 21/ 114/ الإخلاص/ 22/ 2112 رقم/ رقم/ اسم/ ترتيب/ ترتيبها في/ السورة/ نزولها/ المصحف النجم/ 23/ 53/ عبس/ 24/ 80/ القدر/ 25/ 97/ الشمس/ 26/ 91/ البروج/ 27/ 85/ التين/ 28/ 95/ قريش/ 29/ 106/ القارعة/ 30/ 101/ القيامة/ 31/ 75/ الهمزة/ 32/ 104/ المرسلات/ 33/ 77/ ق/ 34/ 50/ البلد/ 35/ 90/ الطارق/ 36/ 86/ القمر/ 37/ 54/ ص/ 38/ 38/ الأعراف/ 39/ 7/ الجن/ 40/ 72/ يس/ 41/ 36/ الفرقان/ 42/ 25/ فاطر/ 43/ 35/ مريم/ 44/ 319 رقم/ رقم/ اسم/ ترتيب/ ترتيبها في/ السورة/ نزولها/ المصحف طه/ 45/ 20/ الواقعة/ 46/ 56/ الشعراء/ 47/ 26/ النمل/ 48/ 27/ القصص/ 49/ 28/ الإسراء/ 50/ 17/ يونس/ 51/ 10/ هود/ 52/ 11/ يوسف/ 53/ 12/ الحجر/ 54/ 15/ الأنعام/ 55/ 6 الصافات/ 56/ 37/ لقمان/ 57/ 31/ سبأ/ 58/ 34/ الزمر/ 59/ 39/ غافر/ 60/ 40/ فصلت/ 61/ 41/ الشورى/ 62/ 42/ الزخرف/ 63/ 43/ الدخان/ 64/ 44/ الجاثية/ 65/ 45/ الأحقاف/ 66/ 46

السور المدنية

رقم/ رقم/ اسم/ ترتيب/ ترتيبها في/ السورة/ نزولها/ المصحف الذاريات/ 67/ 51/ الغاشية/ 68/ 88/ الكهف/ 69/ 18/ النحل/ 70/ 16/ نوح/ 71/ 71/ إبراهيم/ 72/ 14/ الأنبياء/ 73/ 221 رقم/ رقم/ اسم/ ترتيب/ ترتيبها في/ السورة/ نزولها/ المصحف المؤمنون/ 74/ 23/ السجدة/ 75/ 32/ الطور/ 76/ 52/ الملك/ 77/ 67/ الحاقة/ 78/ 69/ المعارج/ 79/ 70/ النبأ/ 80/ 378 رقم/ رقم/ اسم/ ترتيب/ ترتيبها في/ السورة/ نزولها/ المصحف النازعات/ 81/ 79/ الانفطار/ 82/ 82/ الانشقاق/ 83/ 84/ الروم/ 84/ 30/ العنكبوت/ 85/ 29/ المطففون/ 86/ 83/ السور المدنية البقرة/ 87/ 2/ الأنفال/ 88/ 8/ آل عمران/ 89/ 3/ الأحزاب/ 90/ 33/ الممتحنة/ 91/ 60/ النساء/ 92/ 4/ الزلزلة/ 93/ 99/ الحديد/ 94/ 57/ محمد/ 95/ 47/ الرعد/ 96/ 213 الرحمن/ 97/ 55/ الإنسان/ 98/ 76/ الطلاق/ 99/ 65/ البينة/ 100/ 98/ الحشر/ 101/ 59/ النور/ 102/ 24/ الحج/ 103/ 22/ المنافقون/ 104/ 63/ المجادلة/ 105/ 58/ الحجرات/ 106/ 349 التحريم/ 107/ 66/ التغابن/ 108/ 64/ الصف/ 109/ 61/ الجمعة/ 110/ 62/ الفتح/ 111/ 48/ المائدة/ 112/ 5/ التوبة/ 113/ 9/ النصر/ 114/ 110

ولقد رأينا مع ذلك أن نخالف ترتيب هذا المصحف بعض الشيء. فسور العلق والقلم والمزمل والمدثر التي وردت فيه كالسور الأولى والثانية والثالثة والرابعة بالتوالي ليست كذلك إلا بالنسبة لمطالعها فقط على أحسن تقدير، حيث إن ما يأتي بعد هذه المطالع لا يمكن أن يكون نزل إلّا بعد نزول سور وفصول غيرها، على ما سوف نشرحه في سياق تفسيرها، في حين أن هناك رواية معزوّة إلى ابن عباس ومجاهد «1» تذكر أن سورة الفاتحة التي تأتي الخامسة في ترتيب النزول هي أول ما نزل من القرآن. وهناك حديث أخرجه البيهقي والواحدي ووصف رجاله بالثقات عن شرحبيل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، أن الفاتحة أول ما نزل من القرآن «2» . ولما كان هناك أحاديث صحيحة منها حديث رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها سنورده في سياق سورة العلق تذكر أن آيات سورة العلق الخمس الأولى هي أولى آيات القرآن نزولا «3» فيمكن أن تحمل رواية أولية سورة الفاتحة على أنها أولى السور التامة نزولا بعد مطلع سورة العلق ومطالع السور الثلاث التالية لها في الترتيب والفاتحة بالإضافة إلى ذلك هي فاتحة المصحف، والواجب تلاوتها في كل ركعة صلاة، ولذلك رأينا أن تكون فاتحة التفسير أيضا. وهناك أربع سور ذكر المصحف الذي اعتمدناه أنها مدنية وهي الزلزلة والإنسان والرحمن والرعد، في حين أن مضمونها وأسلوبها مشابهان كل المشابهة للسور المكية دون السور المدنية، وأن هناك روايات تذكر أنها مكية. ولذلك فسرناها في عداد السور المكية. وهناك سور يمكن أن يلهم مضمونها أنها نزلت قبل سور متقدمة عليها في

_ (1) «الإتقان في علوم القرآن» ج 1 ص 24- 25. (2) انظر المصدر نفسه ... (3) انظر المصدر نفسه. وانظر أيضا تفسير الفاتحة في «تفسير المنار» للسيد رشيد رضا. ومما ذكره السيوطي في «الإتقان» أنه لم يرو أنه كان في الإسلام صلاة بغير الفاتحة، وهذا من المرجحات. الجزء الأول من التفسير الحديث 2

الترتيب أو بعد سور متأخرة عنها فلم نشأ الإخلال بترتيبها واكتفينا بالتنبيه إلى ذلك في مقدمة كل سورة منها. وإننا لنرجو من الله تعالى أن نكون قد وفقنا فيما عملناه إلى السداد والصواب. وأن يشملنا بعفوه ورحمته، وأن يتجاوز عما وقعنا فيه من خطأ ونسيان. وأن يتقبل منا هذه الخدمة لكتابه المجيد خالصة لوجهه الكريم وهو ولي التوفيق ولا حول ولا قوة إلّا به. المؤلف دمشق الشام في: 3 من المحرم الحرام 1380 الموافق 27 حزيران 1960

مقدمة الطبعة الثانية

مقدمة الطبعة الثانية وهذه كلمة بين يدي الطبعة الجديدة نذكر فيها بعض ما فاتنا التنبيه عليه في مقدمة الطبعة الأولى وننبه على ما أدخلناه على هذه الطبعة من تنقيحات وتعديلات وإضافات. أولا: مع ترجيحنا السير في التفسير حسب الروايات الراجحة في ترتيب نزول السور، فإننا حافظنا على وحدة السور لأنه ليس هناك ما يمكن الاستناد إليه ولا الاستئناس به بقوة وثقة في أمر وقت نزول فصول وآيات السور وبخاصة الطويلة المدنية التي تلهم مضامينها أن منها ما هو متقدم النزول ومنها ما هو متأخر، وأنها ألّفت بعد تمام ما اقتضت حكمة الله ورسوله أن تحتوي عليه من فصول وآيات بالنسبة لسائر فصول وآيات السورة أو فصول وآيات السور الأخرى التي يمكن أن تكون نزلت قبلها أو بعدها. وقد اختصصنا بالذكر السور المدنية والطويلة منها بخاصة لأنه لم يكن في معظم السور المكية مواضيع متعددة تتحمل مناسبات متباعدة بل الغالب عليها وحدة الموضوع فكانت تنزل متلاحقة الفصول على ما هو المتبادر من نظمها وروحها، ولم تكن تبدو سورة جديدة منها حتى تتم السورة التي قبلها باستثناء بضع سور منها. ولأن فحوى السور المدنية القصيرة يلهم أنها نزلت دفعة واحدة، مما سوف ننبه عليه في مقدمات السور. ثانيا: بالإضافة إلى السور الأربع التي يروي المصحف الذي اعتمدنا عليه أنها مدنية وتروى روايات عديدة أنها مكية وتلهم محتوياتها بقوة رجحان مكيتها ونعني بها سور الزلزلة والإنسان والرحمن والرعد، فهناك سورة خامسة أيضا يروي

ذلك المصحف أنها مدنية وتروى روايات أخرى أنها مكية ومعظم فصولها تلهم بقوة رجحان مكيتها مع احتمال أن يكون بعضها مدنيا وهي سورة الحج. وقد بدا لنا أن نفسرها هي الأخرى في عداد السور المكية. والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي أن سورة الرعد نزلت بعد سورة محمد وسورة الحج نزلت بعد سورة النور وسورة الرحمن نزلت بعد سورة الرعد وسورة الإنسان نزلت بعد سورة الرحمن وسورة الزلزلة نزلت بعد سورة النساء. ولما لم يكن في كتب التفسير التي تروي مكيتها ما يمكن أن يفيد ترتيب نزولها سورة بعد أخرى فقد رأينا أن نفسرها بعد الانتهاء من السور المكية وفق ترتيب نزولها المرجح. وسنفسرها حسب ترتيبها في المصحف بعد سورة (المطففون) هكذا: 1- الرعد 2- الحج 3- الرحمن 4- الإنسان 5- الزلزلة. ثالثا: لقد تبادرت لنا مرجحات قوية جعلتنا أن لا نلتزم ترتيب النزول الذي رواه المصحف الذي اعتمدنا عليه بالنسبة لبعض السور المدنية بحيث صار ترتيب السور المدنية على الوجه التالي: 1- البقرة 2- الأنفال 3- آل عمران 4- الحشر 5- الجمعة 6- الأحزاب 7- النساء 8- محمد 9- الطلاق 10- البينة 11- النور 12- المنافقون 13- المجادلة 14- الحجرات 15- التحريم 16- التغابن 17- الصف 18- الفتح 19- المائدة 20- الممتحنة 21- الحديد 22- التوبة 23- النصر. وسوف نذكر تلك المرجحات في مقدمة كل سورة. رابعا: لقد كان يفوتنا بعض التنبيهات في مناسباتها الأولى فنستدركها في المناسبات التالية، ولقد وقعت أغلاط مطبعية متنوعة، منها أغلاط في الحروف والكلمات وأرقام الهوامش. ومنها وضع نبذ في غير مكانها الصحيح تقديما أو

تأخيرا. ومنها سقوط بعض نبذ من سياق حتى بدا الكلام مختلا ولقد تنبهنا ونحن نهيء الأجزاء ونقدمها إلى المطبعة واحدا بعد آخر إلى نقاط عديدة تحتاج إلى تمحيص أو توضيح أو تعديل أو تصحيح أو توسيع فبذلنا جهدنا لتلافي كل ذلك في هذه الطبعة. خامسا: لقد أوردنا في الطبعة السابقة أحاديث كثيرة في سياق السور المدنية مما فيه توضيح وتعديل وإكمال لما احتوته هذه السور من تشريعات متنوعة ولم نورد منها في سياق السور المكية إلا قليلا لأن هذه السور ليس فيها تشريعات تنفيذية نظرا لطبيعة العهد المكي ولأن معظم الأحاديث النبوية مدنية الصدور إن صح التعبير. وقد اقترح بعض الأفاضل أن نورد في سياق هذه السور ما روي فيها أو ما يتساوق معها من أحاديث ليكون أمام القارئ وبخاصة الناشئ صورة تامة من مصدري الرسالة الإسلامية الرئيسية وهما كتاب الله تعالى وحكمة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وسنّته، فاستجبنا للاقتراح. سادسا: هناك بعض مواضيع دار عليها في كتب التفسير كلام كثير، وتتحمل هي وما أورد في سياقها من أحاديث وروايات وتأويلات تمحيصا وشرحا لم نكن نرى ضرورة لهما. ثم بدا لنا من أسئلة وردت علينا في شأنها أن نورد ونمحص ما فاتنا إيراده وتمحيصه وأن نتوسع في الشرح في هذه الطبعة إلى الحد الذي يزول به الإشكال وتطمئن به النفس. وإننا لنسأل الله عزّ وجلّ أن نكون ما فعلنا وقصدنا به خدمة كتابه المجيد الصواب والفائدة وأن يغفر لنا ما يمكن أن يكون وقع في سياق ذلك منا من خطأ ونسيان. والكمال والعصمة له وحده ولا حول ولا قوة إلا به. وكان إتمام تنقيح الأجزاء وكتابة هذه الكلمة يوم الخميس الموافق للخامس عشر من شهر محرم الحرام 1386 والسادس من أيار 1966. والله أكبر والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين. المؤلف

القرآن المجيد تنزيله وأسلوبه وأثره وجمعه وتدوينه وترتيبه وقراءاته ورسمه ومحكمه ومتشابهه وقصصه وغيبياته وتعليقات على مناهج مفسريه والطريقة المثلى لفهمه تأليف محمد عزة دروزة

مقدمة المؤلف

[مقدمة المؤلف] (بسم الله الرّحمن الرّحيم) كتبت هذا الكتاب في مدنية بورسه أثناء هجرتي في الحرب إلى تركيا وبعد أن أتم الله عليّ نعمته فانتهيت من كتابة تفسير القرآن بكامله فيها. وقد وجدت في مكتبات المدينة العديدة ما استعنت به من مراجع قيمة في التفسير والحديث والكلام والقراءات وعلوم القرآن. وقد جاء الكتاب ككتاب مستقل لما احتواه من بحوث عديدة كما جاء كمقدمة للتفسير لما احتواه من شرح المنهج الذي سرت عليه فيه وبيان الطريقة المثلى لفهم القرآن وخدمته وتفسيره. ولقد عدت فقرأت كتبا عديدة أخرى لاستيفاء الكلام في مواضيع الكتاب وتوثيقه، وأدخلت تنقيحات كثيرة على مسودة بورسه فجاء الكتاب على أسلوب ونهج جديدين بحثت في نطاقهما مختلف مسائل القرآن ووصلت بذلك إلى نتائج وحلول هامة وجديدة أرجو أن يكون الله قد هداني فيها إلى الحق والصواب، وأن أكون بذلك قد خدمت كتاب الله المجيد فيما أخذت على نفسي من خدمة له منذ أربع عشرة سنة استغرقت أكثر أوقاتي. كما أرجوه أن يتمّ نعمته وتوفيقه بتنقيح وطبع أجزاء التفسير وهو ولي التوفيق ومنه نطلب العون والسداد. المؤلف

محتويات القرآن المجيد

[محتويات القرآن المجيد] الفصل الأول القرآن وأسلوبه ووحيه وأثره - 1- القرآن والمسلمون: ليس غريبا أن يكون القرآن شغل الناس في كل زمان ومكان طيلة القرون الثلاثة عشر السالفة وطيلة ما شاء أن يكون من أمد هذه الدنيا وأن يتنافس في الكتابة فيه الكتّاب والعلماء والمصلحون والباحثون من مسلمين وغيرهم، وأن يصدر فيه كل يوم كتاب. فهو الكتاب المقدس للمسلمين المنتشرين في كل صقع من أصقاع الأرض والذين تتمثل فيهم شتى أممها، فيه أصول دينهم وشرائع حياتهم ونبع إلهامهم ونبراس أخلاقهم ونور هدايتهم في مختلف شؤونهم الدينية والدنيوية، الروحية والمادية، العامة والخاصة، السياسية والقضائية والاجتماعية والشخصية والإنسانية، وفيه أقوى الحوافز إلى أسمى الآفاق وأبعد الأشواط الموصلة إلى أعلى ما يمكن أن يكون من رفعة الذكر وعلوّ القدر وقوة التمكين والنصر، وجعل متبعيه خير أمة أخرجت للناس إذا هم قاموا بأعباء ما حمّلهم إياه من تبعات، وأدوا ما اؤتمنوا عليه فيه للإنسانية من أمانات: من دعوة إلى الخير والحق والهدى، ومن أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ومن تواص بالصبر والحق والمرحمة، ومن تناصر ضد البغي والإثم والعدوان، ومن اتصاف بكل صفات الخير والعدل والبرّ والرحمة والإحسان والكرامة والعزة والصدق والوفاء وكل خلق كريم، ومن تحظير

- 2 - القرآن وشخصية النبي:

للفواحش والآثام والمنكرات ما ظهر منها وما بطن، وما صغر منها وما عظم. وصفه الله فيه بأنه يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات بعظيم الأجر وأن فيه لهم الشفاء والرحمة والهدى، ووصفه نبيهم بهذا الوصف الشامل الرائع المأثور عن طريق علي بن أبي طالب والمثبت في كثير من كتب الأئمة والثقات: «فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره تأصله الله، وهو حبل الله المتين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم» . فهم من أجل هذا مكلفون بالاشتغال به دينيا فهما وتدبرا وتفسيرا واستنباطا واستلهاما واستيحاء. - 2- القرآن وشخصية النبي: وشخصية السيد الرسول عليه السلام الذي أنزل عليه القرآن هي الشخصية الوحيدة التي ليست محل شكّ وريب من الوجهة التاريخية وعند مختلف الملل والنحل والأقوام من بين شخصيات الأنبياء، وفي صدد حادث «نبوة النبي» المتصل بسرّ وحي الله وسرّ الوجود وواجب الوجود والذي تواترت الأخبار عن تكرره في مختلف عصور التاريخ السالفة. والقرآن الكريم هو الكتاب السماوي الوحيد الذي ليس محل شك وريب من بين الكتب السماوية المتداولة في كونه متصلا بالنبي، وفي صدوره عنه بحروفه وألفاظه وسوره بوحي من الله، وقد تكرر فيه تقرير بشرية النبي صلّى الله عليه وسلّم وكونه في طبيعته البشرية كسائر البشر وكون قصارى مهمته دعوة الناس إلى الله وحده، وإخراجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، والحثّ على مكارم الأخلاق، والتحذير من الشر والأذى والفواحش، وتبشير المستجيبين بالخير والنجاة وإنذار المعرضين

بالويل والخسران كما ترى في الآيات التالية التي هي فيض من غيض في هذا الباب: 1- قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ الأنعام: [19] . 2- وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ الأنعام: [48- 49] . 3- قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ الأنعام: [50] . 4- الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ إبراهيم: [1] . 5- قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً الكهف: [110] . وقد تكرر فيه تقرير كونه أعظم مظهر لنبوة النبي وأقوى آياتها ودلائلها كما ترى في نصّ الآيات التالية: 1- وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ الأنعام: [155- 157] .

2- وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ الأعراف: [52] . 3- وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ الحجر: [87] . 4- وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ العنكبوت: [50- 51] . وقد تكرر فيه توكيد اتصاله بوحي الله وصدوره عنه وعجز الناس عن الإتيان بمثله معلنا ذلك على ملأ من خصومه الألداء وجاحديه الأشداء كما ترى في الأمثلة التالية بالإضافة إلى الآيات السابقة: 1- وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ البقرة: [23- 24] . 2- أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً النساء: [82] . 3- لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً النساء: [166] . 4- قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً الإسراء: [88] . 5- وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ الشعراء: [192- 195] . وبالإضافة إلى هذا فقد احتوى آيات كثيرة فيها إعلان بإشهاد الله على صحة

هذه التوكيدات والتقريرات وتعظيم لجرم الافتراء على الله كما ترى في الآيات التالية: 1- وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ الأنعام: [92- 93] . 2- وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105) النحل: [101- 105] . 3- أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ الشورى: [24] . 4- أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ الأحقاف: [8] . 5- تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) الحاقة: [43- 48] . ففي أسلوب هذه الآيات وأمثالها الكثيرة ما يبعث في نفس كل منصف حسن

- 3 - الدعوة القرآنية:

النية مهما كانت نحلته وملته أقوى معاني اليقين بصدقها، ويزيل منها أي معنى من معاني الشك والارتياب في عمق إيمان الرسول عليه السلام بصحتها، وفي استغراقه فيها استغراقا تاما لا يمكن أن ينبعث إلا من أقوى الإيمان واليقين والصدق الصميم. - 3- الدعوة القرآنية: واحتوى دعوة الناس كافة إلى عبادة الله وحده، وعدم الخضوع لأي قوة من قوى الكون غيره وتنزيهه عن كل نقص وشائبة، وإلى جماع مكارم الأخلاق والفضائل، وأسباب سعادة الدارين والتصديق بنبوة أنبياء الله والكتب المنزلة عليهم وتقرير اتحاد المتبع والوجهة بين ما دعا إليه ودعوا إليه من غير تفريق بينهم، وتقرير كون هذه الدعوة التي احتواها هي الدين الحق الذي ارتضاه الله للناس جميعا منذ بعث الله رسوله محمدا عليه السلام بالهدى ودين الحق الذي فيه إظهاره على الدين كله، يقيم البشر في ظله دعائم مجتمعهم، ويسيرون في مختلف شؤونهم وفق تعاليمه ومبادئه وتلقيناته القائمة على أسس الحق والعدل والمساواة والإحسان والتعاون، ورفع الإصر والأغلال، وحل الطيبات وتحريم الخبائث والفواحش والمنكرات، وتوطيد السلم العام بين الناس كافة إخوانا متحابين، لا يظلم بعضهم بعضا، ولا يبغي بعضهم على بعض، ولا تنبذ فيه طائفة، ولا تحرم فيه فئة ولا تتعالى فيه طبقة على طبقة، مع إيجاب التناصر على الباغي حتى يفيء إلى حكم الله والحق، ومع الدعوة إلى التمرد على كل ضارّ والإقبال على كل صالح بقطع النظر عن قدمه وجدته، ومع تقرير كون الله إنما يريد للناس اليسر ولا يريد بهم العسر ولم يجعل عليهم في الدين حرجا، وبأسلوب قضي له بالخلود من حيث البرهنة على صدق الدعوة وأهدافها بتوجيه الخطاب للعقول والقلوب، وإدارته حسب أفهام الناس ومداركهم في هذا النطاق ودون أن تجعل المعجزة الخارقة دعامة أساسية في ذلك لأن مثل هذه الدعوة في غنى عن المعجزة

لإثبات حقها وصدقها، ثم من حيث سعة الأفق والشمول والمميزات التي لم تسبق ولم يلحق بها في شتى مناحي التشريع والتلقين، والتوجيه إلى أفضل المثل وأقوم الطرق مع الاتساق التام وحقائق الأمور وطبائع الأشياء والتمشي مع كل ظرف ومكان والاستجابة إلى كل شأن من شؤون الناس وحاجاتهم الروحية والمادية والعامة والخاصة، وحسب اختلافهم وتفاوتهم في العقل والسعة والثقافة والأفق. واحتوى كذلك حلولا للمشاكل المعقدة التي كانت تجعل الناس شيعا وأحزابا، وفرقا وأضدادا، وإهابة بالغلاة والمفرطين للارعواء عن غلوهم وإفراطهم، وإرشادا للحائرين والمترددين للانتهاء من حيرتهم وترددهم بأسلوب وجّه فيه الخطاب إلى العقول والقلوب معا فيه كل القوة وكل النفوذ وكل الإقناع لمن لم تخبث طويته، ويجعل إلهه هواه، ويتعمد العناد والمكابرة والاستكبار عن قصد وتصميم، ثم احتوى تنظيما للمناسبات بين مختلف فئات الناس وخاصة بين المستجيبين للدعوة- المسلمين- وغيرهم على أساس المسالمة والحرية والحق والعدل والتزام حدود ذلك بالتقابل، وكفّ الأذى وعدم الصد والتعطيل والدّس، والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن إلا الظالمين الذين يصدون عن سبل الله ويبغونها عوجا، ومقابلة العدوان بمثله حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله «1» .

_ (1) . 1- اقرأ مثلا الآيات التالية في صدد تقرير كون الدعوة في غنى عن الخوارق: الأنعام [4- 20 و 109- 117] ، ويونس [15- 36] ، والرعد [7- 32] ، والإسراء [89- 100] ، والأنبياء [2- 10] ، والفرقان [1- 10] ، والعنكبوت [45- 52] . 2- اقرأ مثلا الآيات التالية في صدد أهداف الدعوة ومبادئها ووحدتها من دعوة النبيّين وحل المشاكل وتنظيم المناسبات: البقرة [83- 90 و 101 و 136- 139 و 177 و 213 و 261- 286] ، وآل عمران [34- 64 و 104 و 110 و 189- 199 و 150- 166، والنساء [1- 38 و 90- 135 و 163- 179] ، والمائدة [1- 5 و 44- 50 و 59- 86] ، والأنعام [147- 153] ، والأعراف [29- 133 و 156- 158] ، والنحل [90- 97 و 125- 128] ، والإسراء [22- 39] ، ومريم [16- 37] ، والمؤمنون [1- 10] ، والفرقان [63- 76] ، والعنكبوت [45- 49] ، والشورى [13- 15 و 36- 43] ، والممتحنة [1- 12] ، والحشر [7- 10] ، والحجرات [1- 18] ، فإن الكتاب يضيق عن استيعابها لكثرتها. الجزء الأول من التفسير الحديث 3

- 4 - أسلوب القرآن:

- 4- أسلوب القرآن: وقد جاء في نظمه وسوره وآياته وقصصه وعظاته وتلقيناته وأمثاله وخطابه وحججه وجداله أسلوبا رائعا متميزا في ذلك كله بخصوصيات جعلته فذا بالنسبة لأسلوب الكتب السماوية السابقة، وبالنسبة لما هو مألوف من أساليب النظم والسبك والخطاب، ذا طابع خاص خالد مما لا يصح أن يقاس عليه أنواع الكلام وأساليب الكتب والتأليف ومما يصح أن يعد أسلوبا خاصا فيقال إن اللغة العربية نظم ونثر وقرآن كما قاله كبير من أدباء العربية الحديثين بقطع النظر عن الباعث عنده على هذا القول، ومما يصح أن يكون معينا لا ينضب في فنون النظم والسبك وسمو الطبقة. 5- القرآن والبيئة والسيرة النبوية: وعلى اعتباره أصدق مدونة دونت في عهد النبي، بل وأوحد مدونة من عهد النبي احتفظت بصورتها الأصلية دون تحوير وتعديل فقد جاء بما احتواه من معان وأساليب واصطلاحات ومفردات وتشبيهات واستعارات وفنون خطاب ولغة دليلا قويا رائعا على ما وصل إليه العرب الذين نزل بلسانهم في عهد نزوله من الدرجة الرفيعة في سلّم الفصاحة خاصة وما كانوا عليه من حضارة مادية وعقلية وثقافية بصورة عامة خلافا لما حلا لبعضهم أن يرويه ويقوله على ما ذكرناه في كتابنا «عصر النبي» «1» وعلى ما نبهنا عليه في مناسبات كثيرة من التفسير. واحتوى بالإضافة إلى ذلك أولا أصدق الصور وأوثقها لبيئة النبي وعصره من النواحي الاقتصادية والمعاشية والجغرافية، وعمّا كان عليه أهلها من تقاليد وظروف وعادات دينية واجتماعية وأخلاقية وعقلية وثقافية واقتصادية اتصلت

_ (1) صدر عام 1366 هـ/ 1947 م.

- 6 - الوحي الرباني والوحي القرآني:

بظروف البعثة والسيرة النبوية وتطوراتهما أوثق اتصال، وثانيا أصدق الصور وأوثقها للسيرة النبوية الشريفة في عهديهما المكي والمدني، وسواء في ذلك ما كان روحاني المظهر من حيث الصلة بالله ووحيه وتلقينه وتوجيهه ومدده وتأييده وتعليمه وتأديبه وتثبيته، أو ما كان متصلا بالناس من حيث مواقفهم من النبي عليه السلام ودعوته مسلمين وكتابين ومشركين، ومن حيث تأثرهم بهذه السيرة وهم شهود العيان لحادث «نبوة النبي» في شخص محمد عليه السلام، ثم من حيث موقف النبي من الناس ومن حيث تطور موقفهم منه وموقفه منهم بتطور الدعوة واتساع نطاقها. فالقرآن من أجل ذلك كله كان وسيظل موضوع نظر وتدبر واستلهام واستنباط لدى الناس على مختلف الملل والنحل والأجناس بطبيعة الحال. ونريد أن نستدرك بأننا لا نعني أن القرآن قد احتوى جميع صور السيرة النبوية والبيئة النبوية وأحداثها، أو أن ما احتواه منها قد جاء قصدا لها بالذات. فهناك من دون ريب أحداث وصور كثيرة من البيئة والسيرة النبوية لم ترد في القرآن، كما أن ما جاء منها فيه إنما جاء في الحقيقة عرضا وبسبيل الدعوة والموعظة والتذكير والتشريع والأمر والنهي مما اقتضته الحكمة ليكون مصدر إلهام وإيحاء وتوجيه، ومرجع تشريع وتلقين للمسلمين في جميع العصور، ولكن الذي نعنيه أن في القرآن من هذه الصور شيئا كثيرا منه ما جاء بصراحة ووضوح ومنه ما جاء إشارة وتلميحا. - 6- الوحي الرباني والوحي القرآني: وصلة النبي عليه السلام بالوحي الرباني التي كان القرآن مظهرها الرئيسي وإن كانت وظلت في حقيقة كنهها سرا على غيره، لأنها متصلة بسرّ النبوة فإن القرآن احتوى آيات عديدة قد تساعد بعض الشيء على فهم مظاهرها ومداها بقدر ما تسمح به اللغة البشرية وتتسع له أفهام البشر الذين يتخاطبون بها.

منها ما جاء في سورة التكوير: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) . حيث ترد الآيات كما هو واضح على نسبة الجنون وصلة الشيطان بالنبي التي نسبها الكفار إليه حينما أخذ يخبر بحادث رؤياه ملك الله وخطابه له، وسماعه منه أولى آيات القرآن. ولعل هذه الآيات أقدم آيات واردة في الموضوع بهذه الصراحة والصميمية النافذة. ومنها ما جاء في سورة النجم: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) . وهي كسابقتها مضمونا وتوكيدا بصدق تقرير النبي صلى الله عليه وسلّم عن صلته بالله أو ملك الله، ونزول وحي الله عليه. والآيتان الأخيرتان تشيران إلى أن رؤية النبي لملك الله كانت بعين بصيرته وفؤاده، وتتضمنان حجة قوية على انسداد مجال المماراة في هذه الرؤية الخاصة التي ليست قدرا مشتركا بين الناس. ولعل ما يصح التمثيل به- ولله ووحيه ونبيه المثل الأعلى- على سبيل التقريب لمفهوم الآيات ما يخطر ببال الإنسان من خواطر أو ما يراه الرائي في المنام، فهذه وتلك إحساسات أو رؤى خاصة ليست قدرا مشتركا بين الرائي أو الهاجس وغيره حتى تصح فيها المماراة والتكذيب كما تصح في تقرير رواية مشهد من مشاهد الكون كالشمس والقمر والشجر وغيرها. فإذا قال أحد إنه يرى القمر ولم يكن بازغا أو يرى شجرا ولم يكن هناك شجر فالمماراة واردة وصحيحة.

ومنها ما جاء في سورة الشعراء: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) . والسياق الذي جاء بعدها يلهم أنها هي الأخرى بسبيل الرد على نسبة الكفار صلة النبي إلى الشيطان دون الملائكة والتوكيد بأن القرآن وحي رباني حيث جاء بعد قليل: 1- وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) . 2- هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) . وفي الآيات الأولى 192- 195 إشارة إلى كيفية صلة وحي الله القرآني بالنبي وهي نزوله به على قلبه مما يتسق مع تقرير آيات النجم الأخيرة. ومنها ما جاء في سورة النحل: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) . إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) . وهي مثل سابقاتها تؤكد صلة النبي بالله ووحيه القرآني وتنفي صلة الشيطان المزعومة من الكفار من جهة وتنطوي على كيفية مقاربة لما جاء في الآيات السابقة من جهة أخرى. ومنها ما جاء في سورة البقرة: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ

يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) . وقد جاءت الآية في سياق التنديد باليهود ومواقفهم وإعلانهم العداء لجبريل عليه السلام، وانطوت على كيفية مماثلة للكيفية التي احتوتها آيات الشعراء مع صراحة اسم ملك الله الذي كان اسمه معروفا في معرض الوحي الرباني عند اليهود والنصارى والذي ذكر اسمه في أحد الأناجيل في معرض بشارة مريم وحملها بالسيد المسيح عليه السلام. وفي سورة الشورى آيات فيها بيان كيفيات اتصال الوحي الرباني بالبشر وبالنبي عليه السلام: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) . وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) . ومع أن الوحي الرباني اصطلاحا هو ملك الله الذي يتصل بالنبي فإن الآية الثانية تلهم أنه أريد به المعنى اللغوي وهو القذف بالقلب والروع على ما فسّره العلماء مما هو متسق مع مضمون الآية الأولى التي احتوت إشارة إلى طريقتين أخريين كما هو ظاهر. ومنها آيات في سورة القيامة: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) . وآية في سورة طه مقاربة لهذا المعنى: فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) .

وآيات القيامة خاصة احتوت نهيا صريحا للنبي عن حركة آنية كانت تبدو منه حينما كان ينزل عليه الوحي القرآني وفيها صورة عظيمة المدى لصلة الشعور النبوي بالوحي الرباني، حيث كان النبي يردد ما كان يوحى إليه بلسانه مماشاة لإلقاء الوحي القرآني في آن نزوله عليه حرصا منه على أن لا يفلت منه آية أو كلمة أو حرف أو معنى مما كان يوحى إليه به. وفي سورتي النحل وغافر آيتان وإن كانتا ليستا في صدد صلة النبي محمد عليه السلام بالوحي خاصة وشخصية فإنهما في صدد معنى ومدى صلة الله ووحيه بمن يختاره لرسالته من عباده: 1- يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ النحل [2] . 2- يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ غافر [15] . والآية الثانية قد تلهم أن الروح فيها لا تعني جبريل الذي فسرت به الكلمة في أكثر ما ورد في صدد الوحي الربّاني وإنما قد تعني تجليا ربانيا يتصل بالشخص المختار. أما الآية الأولى فإنها تلهم أن هذا التجلي يحدث بمرافقة الملائكة وإطلاقا. وفي سورة فاطر آية تؤيد هذا الإطلاق والشمول: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) . ولقد وردت في صدد صلة النبي بوحي الله أحاديث عديدة توضح أحيانا بعض ما احتوته الآيات من صور وتتسق أحيانا معها. منها حديث البخاري المشهور عن عائشة رضي الله عنها في كيفية بدء الوحي: «أول ما بدأ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم. فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبّب إليه الخلاء. وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه- وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزح إلى أهله ويتزود إلى

ذلك. ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها. حتى جاءه الحقّ وهو في غار حراء. فجاءه الملك فقال اقرأ. قال ما أنا بقارئ. قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ. فقلت ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ. فقلت ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة ثم قال اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربّك الأكرم. فرجع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرجف فؤاده فدخل على خديجة وأخبرها الخبر. لقد خشيت على نفسي. فقالت خديجة كلا والله ما يخزيك أبدا. إنك لتصل الرّحم وتحمل الكلّ وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى ابن عم خديجة. وكان امرأ قد تنصّر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي. فقالت له خديجة يا ابن عم اسمع ابن أخيك. فقال له ورقة يا ابن أخي ماذا ترى. فأخبره رسول الله خبر ما رآه. فقال له ورقة هذا الناموس الذي أنزل الله على سيدنا موسى ويا ليتني فيها جذع. ليتني أكون حيّا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو مخرجيّ هم قال نعم. لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلّا عودي. وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزّرا» . ومنها حديث رواه الطبري عن ابن الزبير: «قال رسول الله فجاءني وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال اقرأ فقلت ماذا أقرأ. فغطّني حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ماذا أقرأ. وما أقول ذلك إلا افتداء من أن يعود إليّ بمثل ما صنع بي. قال اقرأ باسم ربك الذي خلق إلى قوله علّم الإنسان ما لم يعلم. قال فقرأته ثم انتهى ثم انصرف عني وهببت من نومي وكأنما كتب في قلبي كتابا. قال ولم يكن من خلق الله أبغض عليّ من شاعر أو مجنون. كنت لا أطيق أن أنظر إليهما. قال قلت إن الأبعد يعني نفسه لشاعر أو مجنون. لا تحدّث بها عني قريش أبدا. لأعمدنّ إلى حالق من الجبل فلأطرحنّ نفسي منه فلأقتلنها فلأستريحنّ. قال فخرجت أريد ذلك حتى إذا كنت

في وسط الجبل سمعت صوتا من السماء يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل. قال فرفعت رأسي إلى السماء فإذا جبريل في صورة رجل صافّ قدميه في أفق السماء يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل. قال: فوقفت أنظر إليه وشغلني ذلك عما أردت فما أتقدم وما أتأخر وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك. فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي ولا أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي حتى بلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني. ثم انصرف عني وانصرفت راجعا إلى أهلي» . ومنها أحاديث أخرى وردت في البخاري أيضا: 1- عن عائشة رضي الله عنها أن الحرث بن هشام رضي الله عنه سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم كيف يأتيك الوحي فقال رسول الله أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدّه عليّ فينفصم عني وقد وعيت عنه ما قال. وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول. قالت عائشة رضي الله عنها ولقد رأيته يتنزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فينفصم عنه وإنّ جبينه ليتفصّد عرقا. 2- أخبر صفوان بن يعلى أن يعلى كان يقول ليتني أرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين ينزل عليه. قال فبينا النبي كان بالجعرانة وعليه ثوب قد أظلّ معه فيه أناسا من الصحابة إذ جاءه أعرابي عليه جبة متضمّخ بالطيب فقال يا رسول الله كيف ترى في رجل بعمرة في جبته بعد ما تضمخ بالطيب فأشار عمر إلى يعلى بيده أن تعال فجاء يعلى فأدخل رأسه فإذا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم محمر الوجه يغط كذلك ساعة ثم سرّي عنه فقال أين الذي يسألني عن العمرة آنفا. فالتمس الرجل فأتي به فقال أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات وأما الجبة فانزعها ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجّك. 3- أخبر زيد بن ثابت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أملى عليه لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء: 95] فجاءه ابن أم مكتوم وهو يمليها قال يا رسول الله والله لو استطعت الجهاد لجاهدت وكان أعمى فأنزل الله على رسوله وفخذه على فخذي فثقلت علي حتى خفت أن ترضّ فخذي ثم

سري عنه فأنزل الله غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ. 4- عن عائشة قالت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا عائشة هذا جبريل يقرئك السلام قالت وعليه السلام ورحمة الله قالت وهو يرى ما لا نرى. ففي بعض النصوص القرآنية صراحة بنزول وحي الله بالقرآن على قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفي بعضها ما يمكن أن يلهم أن الوحي تجلّ روحاني رباني ينزل على من يختاره الله من عباده لرسالته تارة مترافقا مع الملائكة وبتخصيص مع جبريل وتارة بدون ذلك، وفي بعضها إشارة إلى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يرى الملك الرباني بعين بصيرته وكان يسمع كلامه ويتلقى عنه أيضا. والأحاديث الواردة تفيد تارة نزول الوحي على قلب النبي، وتارة رؤية النبي لملك الله وسماعه كلامه وتلقيه عنه كذلك. وهذه وتلك وآثار عديدة أخرى تفيد أن الوحي كان ينزل على النبي وهو بين الناس أو هو في بيته فلا يشعر به غيره، وكل ما يكون من مظهره أن يأخذه الجهد ويطرأ عليه شيء من الانفعال الروحاني ويتصبب عرقا ثم ينفصم عنه وقد وعى ما نزل عليه فيبادر إلى إبلاغه وإملائه في مجلسه الذي يكون فيه، ويستأنف ما كان فيه من عمل أو حديث، وتفيد كذلك أن النبي كان يشعر بأن الوحي الرباني الذي نزل عليه بمختلف الطرق هو شيء منفصل عن ذاتيته، ولا تصح المماراة في ذلك لأنه المخبر الصادق بأمر لا يستطيع غيره أن يشعر به. هذا ولقد أثر عن النبي النهي عن تدوين شيء غير القرآن عنه كما تواترت الأخبار بأنه كان يأمر أحد كتابه بتدوين ما كان ينزل عليه من الوحي القرآني فورا. فهذا وذاك متصلان بشعوره الخاص بالفرق بين ما كان ينزل عليه من وحي قرآني وبين كلامه العادي أو ما يجول في نفسه من أفكار وخواطر أو ما يلهمه من الله إلهاما أو يوحى إليه إيحاء من غير القرآن وبالحرص على عدم الخلط بينهما. ومما يتصل بهذا الإلهامات أو الإيحاءات الربانية للنبي في صدد أعمال وتشريعات عديدة. فغزوة بدر مثلا أقدم عليها النبي نتيجة لهذه الإلهامات، وسورة الأنفال إنما نزلت بعد وقوعها.

وفي هذه السورة آيات تحتوي، إشارات إلى وقوع تلك الإلهامات قبل الخروج إحداها في صدد القافلة وهي وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ [الأنفال: 7] واثنتان منها في صدد المعركة وهما إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ... [الأنفال: 9- 10] ومع ذلك فإن النبي لم يبلغ هذه الإلهامات على أنها وحي قرآني قبل الخروج أو قبل المعركة، ولكنه سار سير المسلمين إلى الهدف بها، ولم يبلغ الآيات نصا على أنها كذلك. إلا بعد الواقعة وحينما أوحيت إليه مع فصول أخرى من سورة الأنفال على أنها كذلك. ومن هذا رحلة الحديبية وما كان من النبي فيها ورحلة خيبر وتشريع الفيء والخمس والزكاة وصلاة الجمعة وكيفيات وأوقات الصلوات الخمس والوضوء والتنكيل ببني النضير وبني قريظة وغيره وغيره مما يصعب حصره لكثرته حيث كان ذلك بالإيحاء والإلهام الرباني فلم يبلغ النبي ذلك كوحي قرآني وإنما سار وسيّر المسلمين عليه بقوته ولعلّه بكفه للمسلمين على أنه إلهام أو إيحاء مطلق ولم يبلغ ما جاء في القرآن في هذا الشأن بعد السير والتسيير والعمل إلا حينما أوحي إليه على أنه وحي قرآني. ومما يزيد هذا وضوحا ما يروى عن النبي من الأحاديث المعروفة بالأحاديث القدسية والتي تحتوي كلاما ربانيا. فليس من أحد يمكن أن يفهم منطقيا بين هذه الأحاديث وبين ما يوحى إلى النبي قرآنا. ومحتوياتها مما يتصل بمحتويات القرآن وعظا أو إنذارا أو تبشيرا أو إخبارا أو قصصا. ومع ذلك فقد فرق بينها وبين القرآن ولم يأمر النبي بتدوينها قرآنا. ومما لا ريب فيه أن هذا التفريق يتصل بالصفة القرآنية التي كان يدركها النبي لما يوحى إليه به قرآنا.

ولعلّ في آيات سورة يونس هذه: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) . دليلا قويا على ما نقرره من ذلك الشعور. كما أن فيها برهانا على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما كان يفكر في أي شيء من دعوة الناس والاستعداد لها وكل ما كان من أمره أنه كان مستغرقا في الله وآلائه وعظمته حتى صار مظهر رسالة الله والله أعلم حيث يجعل رسالته فأمر بها فصدع بما أمر. ومما يجدر التنبيه عليه: أولا- إن في القرآن آيات عديدة تبدو أنها جاءت على لسان النبي أو على لسان الملائكة مباشرة أي غير مسبوقة بأمر القول ولا معطوفة على آيات فيها ذلك. مثل: 1- الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ هود: [1- 4] . 2- وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا مريم: [64] . 3- وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ الصافات: [164- 166] . 4- فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ

مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ الذاريات: [50- 51] . وثانيا- إن فيه آيات أخرى احتوت تنبيها على حركة شخصيّة وفورية من النبي عليه السلام وليست متصلة بما سبقها أو بما لحقها من الآيات سياقا وموضوعا وهي آيات سورة طه [111] والقيامة [16- 19] التي نقلناها قبل قليل. ومع أن المفسرين قالوا في صدد الآيات المذكورة في الفقرة الأولى وأمثالها إن هناك تقديرا وهو أن الله أمر النبي بأن يقول ما قال، وأن الله بلغ النبي ما قاله الملائكة، وأن الآيات على هذا التقدير هي من الوحي الربّاني القرآني فإن في هذه الآيات وتلك ما يسبغ على المعنى الذي نقرّره وضوحا على ما هو المتبادر حيث بلغت قرآنا مع ما جاءت عليه من صيغة وأسلوب. وعلى كل حال فالنصوص والآثار تسوغ القول إن صلة الوحي الرباني بالنبي هي صلة روحية خاصة به، كان يشعر بها بالقوة التي اختصه الله بها دون أن يكون بإمكان غيره إدراكها، غير أن أثرها قائم قياما حاسما لا سبيل إلى المماراة فيه، وإن من الممكن أن يدرك بعض كيفياتها وصورها من الآيات والأحاديث والإيضاحات التي أوردناها آنفا. وروحانية صلة النبي عليه السلام بالوحي الرباني وخصوصية ذلك بإدراك النبي عليه السلام قد تبدوان واضحتين أيضا بما كان من تحدي الكفار للنبي باستنزال الملائكة مما حكته آيات مكية عديدة مثل هذه: 1- وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ الأنعام: [8] . 2- فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ هود: [12] . 3- وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ الحجر: [6- 8] .

شهود العيان لأعلام النبوة:

4- وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً الفرقان: [7] . وجلّ هذه الآيات نزل في سياق الحجاج في صحة اتصال النبي بالوحي الرباني. فلو شاءت حكمة الله أن تكون صلة النبي هذه مادية يمكن أن يدركها غير النبي لكان الملك تراءى للكفار أو غيرهم في معرض الإفحام والإلزام أو التأييد. هذا، وننبّه على أن لعلماء القرآن ومفسريه من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم وتابعيهم ومن بعدهم أقوالا كثيرة في كيفية نزول القرآن ووحيه من الناحية الشكلية والعملية مثل كيفية تلقي الملك القرآن عن الله، ومثل نقله القرآن عن اللوح المحفوظ، ومثل إنزال القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا وإنزاله منها منجما، ومثل كيفية تلقي النبي صلّى الله عليه وسلّم القرآن عن الملك وتحوله روحيا ليكون متناسبا مع الروح الملكية وقادرا على التلقي من الملك إلخ لم نر ضرورة إلى التطرق إليها في هذا المقام، لأنها يبدو عليها آثار التكلف والتجوز التي تؤدي إلى عدم الاطمئنان، ولا سيما إن فيها تطرقا لا يشفي غليلا ولا طائل من ورائه إلى السرّ الذي ظل على الرغم من ذلك كله محجوبا عن سائر الناس. على أننا سنعود إلى طرق هذا الموضوع وما يتصل به في مقام أكثر مناسبة من هذا المقام. شهود العيان لأعلام النبوة: وإذا كانت صلة الوحي الرباني بالنبي على الوجه المشروح حقيقة لا يصح إيمان المسلم إلا بالإيمان بها فإن أي شخص منصف حسن النية مهما كانت عقيدته لا يسعه إذا ما تمعن بالآيات والأحاديث، إلا التصديق بصدق الشعور النبوي بها وبكون النبي إنما يصدر عن أمر راهن مهما ظل سرا ربانيا ونبويا فإنه لا يمكن المماراة فيه. على أن في شهود العيان دعامة حقيقة حاسمة في ما نعتقد أيضا. فقد شهد حادث نبوة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم آلاف الناس منهم العرب ومنهم غير العرب، ومنهم المشركون ومنهم الوثنيون ومنهم الكتابيون، ومنهم المستقرون من هؤلاء

في مكة والمدينة ومنهم الوافدون خصيصا على هاتين المدينتين للاستعلام والاطلاع على النبأ العظيم الذي بلغهم. ولقد آمن بنبوة النبي في بدء الأمر مئات منهم في مكة طوعا وشوقا ممن طابت أنفسهم وحسنت نياتهم وأنار الحق قلوبهم في وسط المعارضة الشديدة التي تولى كبرها زعماء أشداء ألداء لأسباب عديدة ذكرها القرآن، وكان بين المؤمنين تلك الطبقة النيرة القوية في عقولها وشخصياتها وأروماتها والتي لمع أفرادها لمعانا باهرا فيه الدلالة على هذه المزايا مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وسعيد وطلحة والزبير وأبي عبيدة وغيرهم وغيرهم رضوان الله عليهم، ثم كان بينهم كثير من أهل الكتاب بل وعلمائهم مستقرين ووافدين ممن طابت طوياتهم وحسنت نياتهم وتجردوا من الهوى والغرض وأنفوا من المكابرة والعناد ولم يبالوا بما كان من قوة الزعماء الأعداء وتحرشهم وأذاهم على ما احتوته الآيات القرآنية المكية كما ترى في هذه الأمثلة: 1- الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الأعراف: [157] . 2- أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ يونس: [62- 63] . 3- وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ الرعد: [36] . 4- لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ الرعد: [18- 19] .

5- وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ النحل: [41- 42] . 6- قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً الإسراء: [107- 109] . 107- الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ «1» القصص: [52- 55] . ثم آمن بها الرعيل الأول من أهل يثرب وكان من شأنهم ما كان من نصر وتأييد وتفان في دين الله ونبيه وآمن منهم فريق من علماء اليهود وسط معارضة شديدة قادها بعض زعماء العرب مع زعماء اليهود لأسباب عديدة وصفها القرآن وصفا مسهبا وهي متصلة أيضا بنفس أسباب معارضة زعماء مكة وآمن معهم وفود من علماء النصارى وفدوا على النبي في المدينة مستطلعين مستعلمين أيضا على ما احتوته الآيات القرآنية المدنية كما ترى في الأمثلة التالية: 1- لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ... آل عمران: [113- 114] .

_ (1) هناك آيات كثيرة أخرى فيها وصف رائع لتقوى وورع وعبادة وخشية المؤمنين السابقين تدل على عمق الإيمان والاستغراق فيه في العهد المكي مثل الآيات التالية: الرعد: [20- 22] ، والفرقان [63- 76] ، والمؤمنون: [1- 8] ، والذاريات: [15- 19] ، والمعارج: [22- 35] ، والإنسان [5- 22] .

2- وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ آل عمران: [199] . 3- لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً النساء: [162] . 4- لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ المائدة: [82- 83] . 5- وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ «1» ... التوبة: [100] . فالرعيل الأول من المؤمنين العرب المشركين سابقا في مكة والمدينة الذين آمنوا رغبة وطوعا واستهانوا بكل شيء في سبيل إيمانهم، والكتابيون في مكة الذين آمنوا رغبة وطوعا مع أنهم كانوا أكثر تعرضا للأذى- وهذا وذاك في ظروف ضعف النبي المادي- وعلماء اليهود الذين آمنوا رغبة وطوعا واستهانوا بكل شيء في سبيل إيمانهم ولم يبالوا بعداء قومهم، وعلماء النصارى الذين جاؤوا مستطلعين فآمنوا

_ (1) هناك آيات كثيرة أخرى تصف شدة إيمان المؤمنين الصادقين في العهد المدني واستغراقهم في نصرة الله ودينه ونبيه مثل البقرة: [1- 5 و 155- 207] ، وآل عمران: [15- 17 و 133- 136، و 190- 195] ، والمائدة: [45- 56] ، والتوبة: [71] ، والأحزاب: [23 و 35] ، والفتح: [29] ، والحديد: [18- 19] ، والمزمل: [20] وهي مكية، والحشر [8- 10] . [.....] الجزء الأول من التفسير الحديث 4

- 7 - أثر القرآن الروحي وبلاغته النظمية:

كذلك بالصفة الرائعة التي ذكرتها آيات المائدة [81- 86] ما كانوا ليؤمنوا لو لم يشهدوا من أعلام النبوة وصدق الدعوة النبوية وصلة النبي بالله ووحيه ما لا يسع الطيب النفس المتجرد عن الغرض إلا ذلك. - 7- أثر القرآن الروحي وبلاغته النظمية: وهنا محل لاستطراد وتنبيه، فقد ذهب بعض الباحثين «1» استنتاجا مما ذكره علماء المسلمين عن بلاغة اللغة القرآنية إلى أن هذه البلاغة كانت هي المؤثر الأول في إيمان الذين آمنوا في نجاح الدعوة النبوية. ومع كون اللغة القرآنية في الذروة العليا من البلاغة ليس محل شك فإن في هذا الحصر شيئا من الخطأ في ما نعتقد، إذ يجب أن يضاف إلى ذلك روحانية القرآن وقوة نفوذه، بل إن هذه وتلك يجب أن تكونا مقدمتين. والحق إنهما كانتا المؤثرتين في الدرجة الأولى بالإضافة إل روحانية الدعوة النبوية وصدق لهجتها وشواهد أعلامها. ويبدو هذا واضحا في كون فريق الرعيل الأول من المؤمنين في مكة قد آمن في وقت مبكر جدا، وقبل أن يكون نزل من القرآن جملة كبيرة، فلا يصح أن يشك في أن إيمانهم إنما كان بما نفذ إلى أعماقهم من روحانية الدعوة النبوية وصدق لهجتها وبما شاهدوه من أعلام النبوة في الدرجة الأولى. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الوصف الذي به وصف أثر القرآن في الذين أوتوا العلم في آيات سورتي الإسراء [107- 109] والقصص [52- 53] المكيتين لا يصح أن يكون وصف أثر فصاحة القرآن وبلاغته اللغوية فقط بل ولا يصح أن يشك في أنه وصف أثر روحانية القرآن وقوة نفوذه بالإضافة إلى روحانية الدعوة النبوية وشواهد أعلامها الصادقة في الدرجة الأولى ولا سيما إن

_ (1) فيليب حتي وآخرون من المستشرقين.

المذكورين في الآيات كتابيون ويحتمل أن لا يكونوا عربا أو ممن يجيدون العربية ويتذوقون بلاغتها بقوة وإلى أمثالهم على الأرجح نسب الكفار تعليم النبي كما جاء في آية النحل وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) . حيث تقرر صراحة عجمة لسان بعض أهل العلم والكتابيين الذين كانوا في مكة. وهذا الذي نقوله في صدد المؤمنين السابقين من العرب والكتابيين في مكة ينسحب على من آمن بعدهم في مكة ثم في المدينة من الفريقين أيضا. والآيات التي نقلناها قبل قليل وخاصة آيات المائدة بالنسبة لعلماء النصارى تحتوي برهانا حاسما في هذا الشأن. وهناك ملاحظات مهمة في هذا الصدد تدعم ما نحن بسبيل تقريره، وهي أن الذين آمنوا في العهد المكي كانوا بضع مئات في حين بقيت الأكثرية العظمى من أهل مكة ثم سائر أهل المدن والبوادي العربية متصامّة عن الدعوة النبوية بل ومناوئة لها طيلة هذا العهد، والنبي يتلو القرآن على كل من يلقاه من هؤلاء وأولئك في المواسم وغيرها، وظل الأمر كذلك مع أن ثلثي القرآن قد نزلا في هذا العهد وأن الأسلوب القرآني المكي هو أقوى وأنفذ من حيث النظم والإنذار والتبشير والترغيب والترهيب والحجاج والإفحام والإلزام، وليس ما يصح قوله في حال إن الذين آمنوا هم فقط الذين تذوقوا بلاغة القرآن وتأثروا بها فغالب الزعماء والنبهاء والشعراء وذوي الشأن كانوا في صفوف الكفار ولقد ذكرت روايات السيرة «1» ما كان للقرآن من تأثير في بعض زعماء الكفار ونبهائهم في مكة، وما كان منهم من اعتراف بسمو طبقته وبلاغته وحلاوته وقوة نفوذه، ومع ذلك فقد ظلوا مناوئين للدعوة إلى النهاية استكبارا وعنادا وأنفة وعصبية وخوفا على مراكزهم وزعامتهم إلى الفتح المكي أو بعبارة أخرى إلى أن هلك بعضهم وضعف شأن من بقي منهم وأمكن الله منهم.

_ (1) ابن هشام ج 1 ص 247- 248 و 266 و 271- 272 و 285- 286.

- 8 - أثر الدعوة القرآنية في نجاح الفتوحات الإسلامية:

- 8- أثر الدعوة القرآنية في نجاح الفتوحات الإسلامية: والمناسبة تجرنا إلى استطراد وتنبيه آخر مهما كان موضوعه أمس بالتاريخ فإن له مساسا أيضا بالبحث الذي استطردنا إليه. فقد حلا لبعض المستشرقين والباحثين «1» أن يقولوا إن ما تم من انتصار الجيوش الإسلامية في بلاد الشام ومصر والعراق إنما كان انتصارا للعروبة لا «للمحمدية» - الدعوة الإسلامية- أو إن العامل الاقتصادي في بلاد العرب والعامل السياسي في امبراطوريتي الفرس والرومان هما أبرز عوامله وإن الذين أسلموا من أهل هذه البلاد إنما أسلم أكثرهم للتخلص من الجزية أو نتيجة للاضطهاد. فهذه الدعوة تدعونا هنا إلى التنبيه فقط- لأن المقام لا يتسع للإسهاب- على أن القائلين قد أغفلوا أو تجاهلوا عن قصد أو غير قصد أثر الدعوة المحمدية القرآنية العظيم في يقظة العرب الجديدة وتجمعهم وموجتهم الكبرى في عهد الخلفاء الراشدين، وكون قواد الحملات الإسلامية الأولى بنوع خاص وزعماءها ومشاهيرها كانوا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم الذين رسخت فيهم مبادئ تلك الدعوة، وكون هذه الحملات امتدادا لحركات التنكيل والتأديب الدفاعية التي بدأت في عهد النبي في نطاق تلك المبادئ، وكون الشعار الذي حمله هؤلاء هو الدعوة إلى الإسلام بالموعظة والحكمة والجزية على من أبى من الأعداء وخضع للسلطان الإسلامي حتى لا يصدّ عن الدعوة ولا يفتن المستجيبون إليها ويكون الدين كله لله، والقتال لمن ظلّ على عدائه وصدّه إلى أن يتحقق ذلك القصد، وما احتواه التاريخ الإسلامي من الصحف النورانية الوهاجة عن التصرف الذي تصرفه هؤلاء القواد والزعماء الذين زوّدهم الخلفاء الراشدون بالإضافة إلى ما رسخ فيهم من مبادئ القرآن من الوصايا بالرحمة والبرّ والرأفة والوفاء ورعاية الذمة وترك المسالمين والحياديين وغير المحاربين والعجّز والنساء والرهبان وشأنهم مما هو مستمد كذلك من تلك المبادئ ومن السيرة النبوية الشريفة، وكون

_ (1) فيليب حتي وكايتاني.

الدين الإسلامي لم يكن غريبا أو منحرفا في الأصل والجوهر عن الأديان السماوية التي كانت سائدة في هذه البلاد. فلكل من هذه الأمور أثر قوي في ما تم للعرب المسلمين من نصر وفتح، وما تم للدين الإسلامي من انتشار وإقبال في أثناء الحملات الأولى وما تبعها من ظروف، وإذا كان التاريخ يذكر بعض ثورات قامت في بعض الجهات، وبعض نكسات حدثت أو بعض أحداث نوقضت فيها تلك المبادئ فإن ذلك لا يبرر القول الذي قيل، وما أريد توجيهه من غمز أو استهانة بآثار الدعوة النبوية القرآنية. وإذا كان قصد التخلص من جزية خفيفة هي في الوقت ذاته بدل ضريبة الدم التي كان يؤدّيها المسلمون وبدل ما كان يبذله هؤلاء من حماية وذمة للدافعين سببا في اعتناق الإسلام فإنه يحمل نفسه معنى كبيرا، وهو كون الدين الذي كان المرتدون عنه يدينون به لم يكن من الرسوخ والقوة في النفوس بحيث يكون أغلى من أن يباع بدينار أو دينارين أو أربعة دنانير في السنة يؤديها الرجل البالغ القادر حسب مقدرته لأن الجزية لم تكن تؤخذ من النساء والأطفال والعجز على أن من الحقائق التي لا تتحمل مماراة أن أكثر الذين اعتنقوا الإسلام من هؤلاء قد اعتنقوه عن قناعة ورغبة لأنهم رأوه متطابقا مع ما هو عليه دينهم من أسس، ومع كثير من تقريرات كتبهم المقدسة، ووجدوا فيه حلولا لعقد عقائدية كانت تثير بينهم الحيرة والفتن الهوجاء وتجرّ عليهم الاضطهادات. ولعل انحدار أكثرهم من الأرومات العربية الجنس التي سماها المستشرقون الحديثون بالساميين، وانتساب كثير منهم للعروبة التي تمركزت فيها هذه الأرومات قد ساعد على الانطباق والاندماج. على أن بقاء شراذم من النصارى واليهود والسامريين والصابئة بعد الحملات الإسلامية الأولى ثم خلال ثلاثة عشر قرنا كان السلطان فيها والكثرة للمسلمين، بل كان هذا السلطان في بعضها قويا ليس في الميدان من يدانيه قوة وشمولا أو يتحداه لدليل خالد رائع على أن الطوائف غير المسلمة لم ترغم على الإسلام إجمالا، وخاصة في عهد الحملات الأولى والظروف القريبة منها، وأن الذين اعتنقوه إنما اعتنقوه بطوعهم وقناعتهم، وإن من بقي على دينه منهم قد تمتع بحريته وأمنه في ظل هذا السلطان وفي ظل مبادئ القرآن الذي قام عليه مما لم

يكن مثله في أي حركة دينية قبله وبعده عاضدتها القوة والغلب، بل ومما جاءت الوقائع والنصوص مؤيدة لعكسه على خط مستقيم. ومن الغريب أن يتجاهل المستشرقون المغرضون والمبشرون ذلك ويحاولوا أن يجعلوا الشذوذ في المسلمين وتاريخهم. وإنه لمن الحق والإنصاف أن يلاحظ استنادا إلى ذلك الدليل الخالد الرائع أنه قد يكون لما يمكن أن يكون وقع من نكسات أو تصرفات قاسية أسباب سياسية أو إدارية أو محلية كتمرد أو دس أو استفزاز أو استجابة لدعاة سوء وشر أو لتحريكات خارجية مما سجل التاريخ بعض شواهده في سياق النكسات والتصرفات ومما كان سببا لإيقاع مثلها في بعض طوائف المسلمين أنفسهم أيضا «1» . ومن الغريب الباعث على الدهشة أيضا ما يحلو لمبشّري النصارى بل ولكتّاب عرب «2» منهم يودون أن يظهروا غير متعصبين تعصبا أعمى وغير مغرضين من تكرار القول بقوة تأثير النصارى في المسلمين وأثر النصرانية كدين في مدنية وحضارة بلاد الشام والعراق ومصر حتى بعد اعتناقهم الإسلام وتسلسله فيهم أجيالا عديدة، وضنّهم مع ذلك أن يجعلوا للإسلام والمسلمين والمبادئ القرآنية أثرا ما في الحضارة التي صارت عليها هذه البلاد، حتى بعد أن مضى على السلطان الإسلامي منها أجيال عديدة، ثم من الإصرار على وصف رجل أو امرأة بأنه نصراني قديم أو أنه يستمد مظهره ودوره وروحه وسلوكه ومدنيته من نصرانيته ولو أنه صار مسلما راسخا وقضى في إسلامه أضعاف السنين التي قضاها نصرانيا وعدا كيانه قائما بالإسلام، حتى ولو كان عربيا أعرابيا من بني كلب أو تغلب ولا ندري لماذا لا يعقل أن ينطبع هؤلاء بالطابع الإسلامي ويتأثروا به وأنهم لا بد من أن يكونوا منطبعين دوما بالطابع النصراني وطابعين به الإسلام ثم لا ندري لماذا

_ (1) في كتاب «تاريخ التبشير والدعوة الإسلامية» لأرنولد تقريرات وشواهد كثيرة على ما جاء في هذا البحث، ومثل هذه الشواهد مبثوثة في كتب التاريخ الإسلامي أيضا. (2) فيليب حتي والآباء اليسوعيون في كتبهم العربية والإفرنسية مثلا.

- 9 - تطور سيرة النبي والتنزيل القرآني:

يحاول أولئك الكتّاب العرب خاصة تهوين هذا التراث العظيم والبناء الباذخ، وهم يعرفون أنهم إنما يحاولون عبثا لا جدوى فيه. - 9- تطور سيرة النبي والتنزيل القرآني: والمناسبة تسمح كذلك بتنبيه واستطراد آخر. فقد حلا للمستشرقين والمبشرين أن يستعملوا تعبيرا عجيبا في معرض الإشارة إلى تطور السيرة النبوية في العهد المدني فيقولون إن النبي في هذا العهد انقلب من نبي إلى حاكم أو صار سلطانا أكثر منه نبيا أو ما في معناه، وقد اتخذ بعضهم بعض ما روته الروايات أو ما تبادر لهم أنهم فهموه من عباراتها أو من عبارات القرآن في صدد بعض أحداث السيرة النبوية الشخصية والعامة في العهد المذكور وسيلة للطعن والغمز، والقول إن النبي قد نقض المبادئ التي بشر بها ودعا إليها في مكة وخالفها. أما أن السيرة النبوية في العهد المدني قد تطورت فهذا مما لا شك فيه وفي القرآن شواهد حاسمة عليه غير أن هذا لا يقتضي أن يكون النبي قد انقلب إلى حاكم أو صار سلطانا أكثر منه نبيا. لأن في القول تحكما في تعيين مدى «النبي» ومهمته لا يستند إلى دليل راهن، كما أن القول إن النبي قد نقض المبادئ التي بشر بها في مكة وخالفها خطأ فاحش لا يستند إلى حق أو شبهة من حق. والقرآن هو الحكم الحاسم والقول الفاصل في هذا وذاك، لأنه من جهة احتوى مبادئ وقواعد من شأنها تعيين مدى مهمة «النبي» ، ومن جهة احتوى صورا للسيرة النبوية في مختلف أدوارها وعهديها. فعدم النفوذ إلى مدى الآيات والفصول القرآنية أو عدم الإحاطة بها لا يمكن أن يغير حقيقة ما احتواه من هذا وذاك بطبيعة الحال، كما أنه إذا كان هناك روايات متعارضة مع هذه المحتويات فإنها تكون مدسوسة أو محرفة من دون ريب. والمماراة في ذلك مكابرة تنشأ عن الغرض وسوء النية والقصد حتما.

ولقد عين القرآن المكي مهمة النبي الرسول وهي الدعوة إلى دين الله الحق وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وإحلال الطيبات وتحريم الخبائث، ورفع التكاليف الشديدة السابقة التي تقيد البشر وتغل أيديهم ونشاطهم، وتبشير الذين يتبعونه ويطيعونه ويستجيبون إلى دعوته بسعادة الدنيا والآخرة، وإنذار الضالين المنحرفين بشقاء الدنيا والآخرة، وبيان الهدى من الضلال والحق من الباطل والحلال من الحرام، ومحاربة الشرك بكل معانيه، والأمر بمختلف المكارم الأخلاقية الشخصية والاجتماعية والإنسانية، والنهي عن مختلف الآثام والمنكرات الشخصية والاجتماعية والإنسانية، على أساس الحرية والمساواة والتسامح والتعاون والتواد والأخوة والحق والعدل والإحسان ودفع البغي والعدوان ومقابلتهما بالمثل دفاعا وضمانة لاحترام الناس حقوق بعضهم، والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة إلا مع الظالمين، وعلى أساس صلة النبي والقرآن بالوحي، ثم على أساس طبيعة النبي البشرية، والاتساق مع العقل والمنطق والمصلحة وطبائع الأمور وحقائق الأشياء. وقد وعده الله هو والمسلمين معه بالنصر وأمرهم بالصبر إلى أن يأتي أمر الله فينصر رسوله والذين آمنوا وكان حقا عليه نصر المؤمنين مما هو مثبوت في مختلف الفصول والسور المكية. فإذا أنعم المرء النظر في القرآن المدني وأخذه كمجموعة يتمّ بعضها بعضا فإنه لا يجد مندوحة عن التسليم بأنه قد ظل في حدود ما رسمه القرآن المكي لمهمة النبي والدعوة النبوية ومبادئها وأسسها وتوجيهاتها، ويرى دلائل ذلك في صريح الآيات ومراميها وتلقيناتها وروحها، فنواة كل ما ورد فيه من تشريع وأوامر ونواه وتلقين وتوجيه أو جلّه موجودة في القرآن المكي، وليس مما يصح في عقل عاقل وإنصاف منصف أن يكون النبي الذي بلّغ القرآن والذي قام الإيمان بنبوته وتنزيله وطاعته والفناء فيه من قبل المؤمنين على ما شاهدوه من أعلام نبوته وقوة روحانيته وصدقه واستغراقه في مهمته العظمى وتخلقه بأخلاق القرآن قد خالف في مختلف أدوار سيرته بأقواله أو أفعاله أو أوامره أو نواهيه أو

توجيهاته النصوص والتلقينات والمبادئ القرآنية. نقول هذا ونحن نعرف أن القائلين يذكرون فيما يذكرون على سبيل التدليل ما كان من تبدل موقف القرآن والنبي من اليهود قولا وفعلا، ومن الدعوة إلى قتال المشركين كافة ومطلقا وعدم قبول غير الإسلام منهم، ومن الأمر بقتال الكتابيين عامة حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، وما وهموه من مناقضة بين هذا وبين الحرية الدينية التي قررها القرآن المكي، ومن اقتران الدعوة إلى الجهاد بالإغراء بالغنائم، ومن ظهور النبي في مظهر ذي السلطان السياسي والحربي والقضائي والمالي والتشريعي، وما وهموه من مناقضة بين هذا وبين مهمة «النبي» وما قرره القرآن المكي من أنه لا يطلب أجرا وليس هو مسيطرا على الناس ولا جبارا ولا وكيلا ولا مسؤولا، وليس هو إلا نذيرا وبشيرا وداعيا إلى الحق فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فإنما يضلّ عليها، ومن القائلين من ضاق أفقه ونظره وخلط مع هذا زوجات النبي وحياته الخاصة أيضا. غير أن إنعام النظر مع الإنصاف والإحاطة يظهر الحقيقة ساطعة وهي أن ما كان من تطور في السيرة النبوية المدنية وفي المرامي القرآنية المدنية ليس هو تطورا في معنى الانحراف عن الأصل المكي سيرة وقرآنا وإنما هو في حدود هذا الأصل ونطاقه. فالقرآن المكي وإن كان دعا إلى ما دعا إليه ونهى عن ما نهى عنه بأسلوب الحثّ والتحريض والترغيب والترهيب والتحسين والتقبيح والتقرير والتبليغ فإنه انطوى على نواة الأمر والنهي والتشريع أيضا كما نرى في الآيات التالية مثلا: 1- قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ

كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الأنعام: [151- 152] . 2- قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ «1» . الأعراف: [33] . فإذا تطور تطور هذا إلى أسلوب التشريع الحاسم في العهد المدني فإنه إنما كان تطورا تطبيقيا ليس فيه شيء من الانحراف والغرابة، كما أن تمثل قوة التشريع والحكم والقضاء والقيادة والزعامة في شخص النبي عليه السلام هو نتيجة طبيعية لهذا التطور التطبيقي، وليس من مسوغ للقول إن طبيعة مهمة النبوة لا تتحمله. وكل ما كان من تبدل في القرآن وموقف النبي إزاء اليهود والدعوة إلى قتال المشركين والأمر بقتال الكتابيين لم يخرج في أصله عن المبادئ القرآنية المكية، ويجد الذي ينعم النظر في الفصول القرآنية المكية والمدنية دلائل حاسمة على ذلك. فالقرآن المكي قرر الحرية الدينية والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ولكنه قرر كذلك حق المسلمين في الدفاع والانتصار من البغي، وأوجب الوقوف من الظالم موقف الشدة بالمقابلة كما ترى في هذه الآيات: فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) الشورى: [36- 42] .

_ (1) ومن هذا القبيل آيات الإسراء: [32- 39] .

والقرآن المدني، إنما ثبت هذه التقريرات في صيغة الأمر والتشريع وحسب وأمر بالتزام العدل التام مع الأعداء والوفاء بعهد المعاهدين وبترك المسالمين والحياديين وشأنهم، وبل وبتشجيع البرّ بهم والتوادّ معهم، وبإنكار كون الغنائم غاية من غايات الحرب الإسلامية، وبالجنوح للسلم إذا جنح العدو لها كما ترى في الآيات التالية التي هي قليل من كثير في هذا الباب: 1- وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ البقرة: [190- 194] . 2- إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا النساء: [90] . 3- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً النساء: [94] . 4- وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ المائدة: [2] . 5- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ

شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ.. المائدة: [8] . 6- وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.. الأنفال: [61] . 7- إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ التوبة: [4] . 8- إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ.. التوبة: [7] . 9- لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ الممتحنة: [8- 9] . ولا يمكن في حال أن يكون النبي عليه السلام قد ناقض المبادئ القرآنية التي بلّغها، وروايات السيرة الوثيقة تؤيد أن ما كان من قتال بين المسلمين والمشركين العرب وغيرهم في حياة النبي إنما كان دفاعا وانتصارا من الظلم والعدوان وتوطيدا لحرية الدعوة إلى الإسلام. وإنه لم يكن بسبيل إكراه الناس على الإسلام أو بدء أحد بالعدوان والإكراه ولا يقدح في هذا أن يكون كثير من العرب قد أسلموا بعد أن قوي المسلمون وانتصروا على أعدائهم وفتح الله عليهم مما يمكن أن يكون طبيعيا لا شذوذ فيه طالما لم يكن فيه إجبار وإكراه. ولعل ما كان بين النبي عليه السلام وبين فئات المشركين من معاهدات في مختلف أدوار العهد المدني أكبر دليل على ما نحن بسبيل تقريره. ولعل التمعّن في نصّ سورة النصر يجلّي هذه الحقيقة كل التجلية. فإن في تعبير وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ

اللَّهِ أَفْواجاً (2) لو صفا رائعا للإقبال التطوعي على الإسلام مهما كان ذلك نتيجة من نتائج الفتح والنصر والتغلب على الأعداء البغاة الصادين عن دين الله وخضد شوكتهم، بل إن هذا يحمل على القول إن عدم إقبال الناس على الإسلام قد كان أثرا لنشاط هؤلاء الأعداء ومكرهم ومؤامراتهم وحسب. وهو ما تؤيده نصوص قرآنية عديدة أيضا كما ترى في الآيات التالية مثلا: 1- إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ البقرة: [166] . 2- وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إبراهيم: [21] . 3- وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً سبأ: [33] . كذلك يجد الذي ينعم النظر في النصوص القرآنية أن قتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية محدود بحد الذين لا يدينون بدين الحق ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، وأن هؤلاء ليسوا جميع أهل الكتاب وإنما فريق منهم. ومعلل كذلك بأن زعماءهم الدينيين كانوا يصدون عن سبيل الله لضمان منافعهم المادية كما ترى في الآيات التالية: 1- قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ التوبة: [29] . 2- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ التوبة: [34] .

ثم نجد أن اليهود وغيرهم تمتعوا بكل حرية الجدل والحجاج والإنكار والجحود بل بثّ الشكوك والريب في صدور المسلمين وغيرهم بل والوقوف موقف السخرية والتحدي مع احتفاظهم بدينهم وطقوسهم وعهودهم وأن موقف العداء الحربي ضد العرب منهم إنما كان مقابلة على ما بدا منهم من صدّ وأذى وطعن وإخراج وفتنة وظلم ومؤامرة وبغي. وإنّ هذا الموقف من اليهود لم يكن إلا بعد أن بدا منهم الصدّ والطعن والأذى والغدر والنكث والتآمر مع الأعداء المحاربين ومظاهرتهم في الحرب مما جاء في القرآن قويا صريحا واضحا «1» . وبالتالي إن ما كان من أحداث بين النبي واليهود لم يخرج عن نطاق المبادئ القرآنية المكية والمدنية. أما ما كان من غزوات مشارف الشام التي يقطنها نصارى العرب في زمن النبي كدومة الجندل وبني كلب ومؤتة وتبوك فالروايات كثيرة على أنها لم تقع إلا مقابلة على عدوان هؤلاء على قوافل المسلمين، والحملات التي جهّزها أبو بكر ليست إلا امتدادا لها ولحركات حروب الردة. والقول إن الجهاد اقترن بالإغراء بالغنائم مهما كان فيه شيء من الحقيقة إلا أنه طبيعي لا شذوذ فيه ما دام الجهاد دفاعيا وفي نطاق الانتصار من الظلم. على أن في إطلاق القول توسعا لا ينطبق على نصوص القرآن فأكثر آيات الجهاد اقترنت ببيان واجب الجهاد وضرورته وثوابه عند الله والقليل الذي اقترن بوعد الفتح والغنائم اقترن أيضا ببيان الواجب والضرورة وحسن الثواب عند الله، وإن من الحق

_ (1) في سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة آيات وفصول عديدة وطويلة فيما كان لليهود من مواقف حجاجية وتشكيكية وتآمرية كما أن في سور الأنفال والحشر والأحزاب آيات صريحة بمواقف النكث والعداء والخيانة التي وقفوها فاستحقوا عليها التنكيل مما يستغرق نقله حيّزا واسعا اقرأ مثلا آيات البقرة: [40- 42 و 75- 76 و 106 و 139 و 147] ، وآل عمران: [65- 120] ، والنساء: [44- 56 و 153- 165] ، والمائدة: [41- 42 و 57- 76 و 72] ، والأنفال: [55- 63] ، والأحزاب: [26- 27] ، والحشر: [1- 4] .

أن يقرر أن ذلك على كل حال قد جاء في القرآن وظل ثانويا ولم يكن رئيسيا أصلا «1» . وعلاوة على هذا فإن الحثّ على الإنفاق في سبيل الله قد شغل حيزا غير يسير من القرآن وجاء بأساليب قوية نافذة. وهذا مما يكون قرينة قوية على الهدف الذي استهدف بالجهاد وهو توطيد الأمن وحرية الدعوة ودفع البغي والعدوان وإيجاب الإنفاق عليه على المسلمين أكثر من إغرائهم بالمغانم من ورائه «2» . أما حياة النبي الشخصية وزواجاته فإنها من جهة متسقة مع طبيعة النبي البشرية التي قررها القرآن، ومن جهة فإن في الفصول القرآنية ما يزيل ما وقع من الوهم في مشكلاتها وما يدل على الخطأ في فهمها وروايتها. وفي آيات تخيير نساء النبي في سورة الأحزاب [28- 34] ما فيه كل الاتساق مع عظمة خلق النبي واستغراقه في الله ومهمته العظمى وما كان يختاره من شظف العيش وضنكه في حياته البيتية الخاصة. هذا مع القول إن الأخذ والردّ في هذه الناحية ليس إلا ظاهرة من ظواهر التمحّل والهوى وضيق الأفق والنظر والتعامي عن الجوهر واللباب «3» .

_ (1) اقرأ مثلا الآيات التالية البقرة: [154 إلى 157 و 190 إلى 194 و 216 إلى 218] ، وآل عمران: [139 إلى 148 و 169 إلى 179 و 195] ، والنساء: [72 إلى 76 و 94 إلى 100] ، والمائدة: [33 إلى 34 و 51 إلى 66] ، والأنفال: [1 إلى 8 و 38 إلى 47 و 55 إلى 71] ، والتوبة: [1 إلى 16 و 20 إلى 22 و 29 إلى 35 و 89 إلى 100 و 111 و 118 إلى 132] ، والحج: [39 إلى 41] ، والأحزاب: [10 إلى 14 و 22 إلى 27] ، والصف: [10 إلى 13] . (2) اقرأ الفصل الرائع في سورة البقرة: [260 إلى 264] وكذلك آيات البقرة: [195 و 245 و 254] ، والحديد: [10 إلى 11 و 18] مثلا. (3) في مختلف فصول كتابنا «سيرة الرسول» الذي صدر عام 1368/ 1948 شروح وبيانات وافية مؤيدة بالأسانيد القرآنية في صدد جميع ما تناوله هذا البحث وخاصة في فصول اليهود والنصارى والجهاد والتشريع في الجزء الثاني.

- 10 - القرآن والعرب في عهد النبي:

- 10- القرآن والعرب في عهد النبي: والناظر في القرآن يجد أن موضوع (القرآن) وصلته بالوحي الرباني كان موضوعا رئيسيا بل من أهمّ المواضيع الجدلية بين النبي وبين زعماء الكفار ونبهائهم. وقد نسبوا إلى النبي في سياق ذلك أنواع النسب فقالوا إنه شاعر وإنه كاهن وإنه ساحر وإنه كاذب وإنه مفتر وإنه يقتبس ما يتلوه من أساطير الأولين وكتبهم وقصصهم، وإن هناك من يعلّمه ويساعده في ما ينظمه ويتلوه، وإنه مسحور وإنه مجنون وإن الذين يوحون إليه به هم الشياطين والجن على ما كانوا يعتقدون ذلك في شأن السحرة والكهان والشعراء. وتآمروا سرا وعلنا على التشويش عليه واللغو عند تلاوته، والإعراض والصدّ عن سماعه، واستغلّوا بعض الظروف «1» في صدده فحملوا بعض ضعفاء الإيمان على الارتداد إلخ، ويجد أن هذا الموضوع قد شغل حيزا غير يسير من سور القرآن وخاصة المكي منه «2» ، وإن القرآن قد حكى عنهم ما قالوه وفعلوه بكل ما في ذلك من جرأة وصراحة وبذاءة وسوء أدب واتهام ومكابرة، وردّ عليهم ردودا قاطعة قوية عنيفة كانت تتلى عليهم على ملأ الناس وتقذف في وجوه الجاحدين والمعاندين والمكذبين والصادقين والمحاجين مسفهة تارة ومنددة تارة ومتحدية تارة ومبينة للأسباب الحقيقة التي

_ (1) اقرأ آيات النحل [98- 110] وكتابنا «سيرة الرسول» ج 1 ص 241- 244. (2) الآيات كثيرة جدا ومبثوثة في سور القرآن عامة المكي منها خاصة ومع ذلك فإننا نشير إلى بعضها للرجوع إليه والتمعن فيه: البقرة: [21- 25 و 40- 46 و 89- 91] ، والنساء: [163- 170] ، والأنعام: [68- 69 و 124] ، والأنفال: [31- 32] ، ويونس: [15- 17 و 36- 40] ، وهود: [13- 14] ، والحجر: [6- 15] ، والإسراء: [45- 48 و 89- 93] ، والكهف: [1- 6] ، والأنبياء: [2- 10] ، والمؤمنون: [66- 67] ، والفرقان: [1- 6 و 30- 34] ، والشعراء: [192- 227] ، والنمل: [1- 6] ، والعنكبوت: [45- 52] ، والسجدة: [1- 3] ، وسبأ: [1- 9 و 31- 35 و 43- 48] ، والحج: [72- 78] ، وفاطر: [29- 43] ، ويس: [1- 11 و 69- 70] ، وفصلت: [26 و 44 إلى 46] .

تمنعهم من الإيمان والتصديق تارة كالاستكبار والتعاظم والاعتداد بالمال والجاه والعصبية، وخشية فقدان المنافع والمصالح وعدوان الخارج وقطيعة الناس وانفضاض الجمهور عنهم إلخ. ثم ظل النبي بتأييد الله ووحيه وقوته وتثبيته لا يزداد إلا استغراقا في مهمته وفناء في ربّه واستمرارا في الدعوة إليه وإشفاقا على قومه لينقذهم ثم لينقذ البشر جميعا من الضلال ويخرجهم من الظلمات إلى النور، إلى أن يسّر الله أمر الهجرة إلى المدينة المنورة وأيد نبيه بنصره وحقق له وعده فنصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب، وأهلك أكثر الزعماء الأقوياء المستكبرين الصادين الذين قادوا حملة المعارضة وتولوا كبرها، ودخل الناس في دين الله أفواجا وصارت كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى. فالقرآن يمثل فيما يمثل هذه القوة الروحانية العظمى التي كانت وما زالت الحاسمة في الموقف والمثيرة للإعجاب والإعظام والإجلال. ومن الجدير بالذكر أن كل ما يمكن أن يقوله كافر جاحد عنيد شديد العداء عن القرآن والنبي قد قاله كفار العرب في حضرته مباشرة، وبكل عناد وقوة ولجاجة، وإن النبي قد ردّ عليه بلسان القرآن بكل قوة وعنف وقطعية وإفحام وصمد له صمودا رائعا عظيما. وكان ذلك على مرأى ومسمع من مختلف الفئات ثم استمر في تبليغ الدعوة إلى الله ومكارم الأخلاق وأسباب سعادة الدارين، وفي كل هذا دليل قوي أخاذ على ما كان من عمق شعوره عليه السلام بصدق رسالته وصدق صلته بالوحي الرباني وإدراكه التام لمدى مهمته العظمى واستغراقه فيها. وإن المرء ليشعر بها شعورا يملك عليه نفسه إذا كان حسن النية متجردا عن الهوى إذ يقرأ في القرآن آيات النساء [167] والأنعام [93] والشورى [24] والأحقاف [8] والحاقة [38- 52] التي نقلناها قبل ويقرأ منها آيات يونس هذه: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا الجزء الأول من التفسير الحديث 5

أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) . ومن العجيب أن يظل المغرضون من المبشرين والمستشرقين يأخذون ويردون ويعيدون ويبدئون فيما لم يقصر به زعماء كفار العرب مع النبي صلى الله عليه وسلّم مباشرة، وبعد أن احتوى القرآن ما احتواه في صدد ذلك من آيات رائعة وردود قوية وتحدّ مفحم وصميمية نافذة مستولية، وأن يتمسكوا كما تمسك أولئك بالقشور دون اللباب وبالعرض دون الجوهر وأن لا يتورعوا عن البذاءة والغثاثة والصغار والمراء بالباطل وأن لا يكون تقدم الأدب الإنساني والحضارة الإنسانية والتفكير الإنساني ذا أثر رادع في مكابرة المكابرين ومماراة الممترين وخروجهم فيهما عن نطاق الأدب والحق والمنطق.

الفصل الثاني جمع القرآن وتدوينه وقراءاته ورسم المصحف وتنظيماته

الفصل الثاني جمع القرآن وتدوينه وقراءاته ورسم المصحف وتنظيماته - 1- مجموعات من الروايات والأقوال في تدوين القرآن: أما تدوين القرآن وجمعه وترتيبه فإن الناظر في كتب علماء القرآن ورواة الحديث عنهما يجد أقوالا وروايات كثيرة حول هذا الموضوع مختلفة اختلافا غير يسير، ومتعارضة أحيانا. فأولا: إن هناك أقوالا وروايات تفيد أن النبي عليه السلام توفي ولم يكن القرآن قد جمع في شيء، وإن جمعه وترتيبه إنما تمّا بعد وفاته وإن ما كان يدوّن منه في حياته كان يدون على الأكثر على الوسائل البدائية مثل أضلاع النخيل، ورقائق الحجارة وأكتاف العظام وقطع الأديم والنسيج، وأن المدونات منه على هذه المواد لم تكن مضبوطة ولا مجموعة، وكانت على الأكثر متفرقة عند المسلمين، وأن المعول في القرآن، إنما كان على القراء وصدور الرجال: 1- فقد ورد حديث منسوب إلى زيد بن ثابت برواية الزهري جاء فيه أن النبي قبض ولم يكن القرآن قد جمع بشيء. ولقد علّق الخطابي على ما جاء في «إتقان» السيوطي على هذا الحديث بقوله إنما لم يجمع النبي القرآن لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه وآياته. فلما انقضى نزوله بوفاته ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك بوفاء وعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة فكان ابتداء ذلك على يد الصديق بمشورة عمر. ثم قال وأما ما أخرجه مسلم من حديث أبي مسلم

«لا تكتبوا عني غير القرآن» فلا ينافي ذلك لأن الكلام في كتابة مخصوصة على صفة مخصوصة. وقد كان القرآن كلّه كتب في عهد رسول الله لكن غير مجموع في موضع واحد ولا مرتب السور. 2- وقد روى البخاري حديثا عن زيد بن ثابت عن جمع القرآن بعد وفاة النبي هذا نصه: قال زيد أرسل إليّ أبو بكر بعد مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده فقال أبو بكر إن عمر أتاني فقال إن القتل استحر يوم اليمامة بقرّاء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن وإني أرى أن نأمر بجمع القرآن. فقلت لعمر كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله قال عمر هو والله خير. فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري بذلك ورأيت الذي رأى عمر. قال أبو بكر إنك شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله فتتبع القرآن فاجمعه. فو الله لو كلفوني في نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمراني به من جمع القرآن. قلت فكيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله. قال هو والله خير. فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للّذي شرح صدر أبي بكر وعمر. فتتبعت القرآن أجمعه من العسب والقحاف وصدور الرجال. ووجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره. فكانت الصحف عند أبي بكر ثم عند عمر ثم عند حفصة. 3- وقد روى ابن شهاب حديثا جاء فيه إن أبا بكر قال بعد أن تمّ جمع القرآن التمسوا له اسما فقال بعضهم السفر وقال بعضهم المصحف فإن الحبشة يسمونه المصحف. فسماه أبو بكر المصحف. وقد أورد المظفري رواية أخرى جاء فيها أن أبا بكر لما قال سمّوه قال بعضهم سمّوه إنجيلا فكرهوه وقال بعضهم سمّوه السفر فكرهوه فقال ابن مسعود رأيت بالحبشة كتابا يدعونه المصحف «1» فسمّوه به.

_ (1) القول بأنه اقترح أن تسمّى المجموعة إنجيلا محل نظر في ذاته لأن أصحاب رسول الله يعرفون أن هذه التسمية خاصة بكتاب عيسى والنصارى. ولقد قيل إن كلمة «المصحف» دخيلة ونحن نرى ذلك غريبا لأن معنى هذا أنها لم تكن معروفة الأصل والاشتقاق والمعنى عند العرب في حين أن الكلمة على ما هو الأرجح إن لم نقل على الجزم متصلة بكلمة صحف وصحيفة. وكلمة صحف وردت أكثر من مرة في القرآن حيث وردت في سور الأعلى والنجم وعبس والمدثر.

هذا في حين أن هناك حديثا بخاريا آخر في نفس السياق يذكر أن المجموعة كانت تسمى «الصحف» . وعلى كل حال فحديث تسمية المجموعة بالمصحف يفيد أن هذه التسمية التي استفاضت حتى صارت العلم على مجموعة القرآن استعملت لأول مرة في جمع عهد أبي بكر. 3- وأخرج أبو داود حديثا آخر جاء فيه أن عمر أعلن الناس من كان تلقى من رسول الله شيئا من القرآن فليأت به وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعسب. وكان لا يقبل من أحد شيء حتى يشهد شاهدان. 4- وروى ابن شهاب حديثا آخر جاء فيه: إنه لما أصيب المسلمون باليمامة فزع أبو بكر وخاف أن يذهب من القرآن طائفة فأقبل الناس بما معهم حتى جمع على عهد أبي بكر في الورق. فكان أبو بكر أول من جمع القرآن. 5- وروى الليث بن سعد حديثا جاء فيه أن عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها زيد لأنه كان وحده. 6- وروى عمارة بن غزية حديثا جاء فيه أن زيد بن ثابت قال أمرني أبو بكر فكتبته في قطع الأديم والعسب. فلما هلك أبو بكر وكان عمر، كتبت ذلك في صحيفة واحدة. 7- وروى عكرمة أن عليّ بن أبي طالب قعد في بيته بعد بيعة أبي بكر فقيل لأبي بكر كره بيعتك. فأرسل إليه فقال أكرهت بيعتي. قال لا والله. قال ما أقعدك عني. قال رأيت كتاب الله يزاد فيه فحدثت نفسي أن لا ألبس ردائي إلا لصلاة حتى أجمعه. قال له أبو بكر نعم ما رأيت. 8- وأخرج ابن سيرين حديثا جاء فيه أن عليا لما مات النبي قال آليت أن

- 2 - روايات وأقوال في تدوين القرآن وجمعه

لا آخذ علي ردائي حتى أجمع القرآن فجمعه وأنه كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ. 9- وأخرج أبو داود حديثا عن علي جاء فيه أعظم الناس في المصاحف أجرا أبو بكر رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله. 10- وأورد ابن أشته في كتاب المصاحف حديثا جاء فيه أن أول من جمع مصحفا بعد وفاة النبي هو سالم مولى حذيفة. 11- وأورد السيوطي في «الإتقان» أن ابن فارس وهو من علماء القرآن قال إن تأليف السور كتقديم السبع الطوال وتعقيبها بالمئين قد تولته الصحابة. 12- وقال الحاكم إن جمع القرآن الثالث هو ترتيب السور وقد تمّ ذلك في زمن عثمان. - 2-[روايات وأقوال في تدوين القرآن وجمعه] وثانيا: إن هناك روايات كثيرة عن وجود اختلاف في ترتيب مصاحف بعض الصحابة وعن كلمات زائدة كتبت في بعض المصاحف ولم تكتب في المصحف المتداول وعن آيات كانت تقرأ ولم تكتب كذلك هي هذا المصحف مما يفيد أن النبي توفي ولم يكن القرآن قد جمع ورتب أيضا: 1- فمن الروايات التي أوردها السيوطي نقلا عن كتب علماء القرآن والمصاحف أنه كان لكل من أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وهما صحابيان وعالمان في القرآن «1» مصحف وأن ترتيب سور كل منهما مغاير لترتيب الآخر من جهة ومغاير لترتيب سور المصحف العثماني المتداول من

_ (1) في حديث عن عبد الله بن جابر أورده السيوطي أنه سمع النبي يقول خذوا القرآن عن أربعة عبد الله بن مسعود ومعاذ وسالم وأبي. وهناك أحاديث أخرى في هذا المعنى فيها بعض الخلاف ولكن اسمي عبد الله وأبي موجودان فيها. [.....]

جهة أخرى، وأن في أحدهما زيادة وفي أحدهما نقصا وأن المصحفين ظلا موجودين يقرآن إلى ما بعد عثمان بمدة طويلة. وقد نقل السيوطي كلا من الترتيبين عن كتاب المصاحف لابن أشته، وفي مصحف أبيّ سورتان صغيرتان زائدتان عن سور المصحف واحدة اسمها سورة الحفد وهذا نصها: «اللهم إياك نعبد. ولك نصلي ونسجد. وإليك نسعى ونحفد نخشى عذابك. ونرجو رحمتك. إن عذابك بالكفار ملحق» . والثانية اسمها سورة الخلع وهذا نصها: «اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك. ونخلع ونترك من يفجرك» . وقد أخرج الطبراني بسند صحيح عن أبي إسحاق على ما ذكره السيوطي أن أمية بن خالد أمّ الناس في خراسان فقرأ بسورتي الحفد والخلع. وهذا كان بعد عثمان بمدة طويلة. ومما أورده السيوطي أن سورتي الفيل وقريش في مصحف أبيّ سورة واحدة. وأن سورتي الضحى والانشراح في مصاحف بعض الصحابة سورة واحدة كذلك. أما مصحف ابن مسعود فليس فيه على ما رواه أولئك الرواة سور الفاتحة والمعوذتين، ومن المروي كذلك أنه كان يحكّ المعوذتين ويقول إنهما ليستا من كتاب الله. 2- وروى عبد الله بن زبير الغافقي أن عبد الملك بن مروان قال له لقد علمت ما حملك على حب أبي تراب «1» إلا أنك أعرابي جاف. فقال له والله لقد جمعت القرآن «2» من قبل أن يجتمع أبواك. ولقد علمني منه علي بن أبي طالب سورتين علّمه إياهما رسول الله ما علّمتهما أنت ولا أبوك وهما سورتا الخلع والحفد. 3- وروى البيهقي أن عمر بن الخطاب قنت بعد الركوع فقال بسم الله

_ (1) كان النبي قال لعلي مرة أبا تراب من قبيل المداعبة على ما روي فصار خصومه ينعتونه بهذا اللقب على سبيل التنقّص. (2) كانوا يعنون بجمع القرآن حفظه غيبا أحيانا.

الرحمن الرحيم ثم سرد سورتي الحفد والخلع. واستدل على أنهما سورتان من تقديم البسملة عليهما. 4- وأورد السيوطي حديثا عن عائشة برواية عروة بن الزبير جاء فيه أن سورة الأحزاب كانت تقرأ في زمن النبي مئتي آية. فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها إلا ما هو الآن. 5- وأورد كذلك حديثا عن أبيّ بن كعب أنه سأل زر بن حبيش كم تعد سورة الأحزاب قال اثنين وسبعين أو ثلاثا وسبعين. قال إن كانت لتعدل سورة البقرة وإن كنا لنقرأ فيها آية الرجم. قال: وما آية الرجم قال: إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم. 6- وأورد عن أمامة بن سهل قالت لقد أقرأنا رسول الله آية الرجم الشيخ والشيخة فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة. 7- وأورد حديثا رواه مسلم عن ابن عباس جاء فيه أن عمر بن الخطاب خطب الناس قائلا لقد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل لا نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله. إن الله بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها وو عيناها وعقلناها ورجم رسول الله فرجمنا معه ألا وإن الرجم حق على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينة أو كان الحمل أو الاعتراف. 8- وروي عن الليث بن سعد أن عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها زيد لأنه كان وحده. 9- وروي عن حميدة بنت أبي أويس قالت قرأ علي أبي وهو ابن ثمانين في مصحف عائشة (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وعلى الذين يصلون في الصفوف الأولى) .

وذلك قبل أن يغير عثمان المصاحف. 10- وروي عن أبيّ بن كعب بإخراج الحاكم أن رسول الله قال لي إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن فقرأ «لم يكن الذين كفروا إلى آخر السورة ومن جملة ما قرأ «لو أن ابن آدم سأل واديا من مال فأعطيه سأله ثانيا وإن سأل ثانيا فأعطيه سأله ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب. وإن ذات الدين عند الله الحنيفية غير اليهودية ولا النصرانية. ومن يعمل خيرا فلن يكفره» . 11- وروي عن أبي واقد الليثي أن رسول الله كان إذا أوحي إليه بشيء أتيناه فعلمنا ما أوحي إليه قال فجئت ذات يوم فقال إن الله يقول «إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. ولو أن لابن آدم واديا لأحبّ أن يكون إليه الثاني ولو كان إليه الثاني لأحب أن يكون الثالث. ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. ويتوب الله على من تاب» . 12- وروي عن عدي بن عدي عن عمر قال: كنا نقرأ «ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم» ثم قال لزيد بن ثابت أكذلك قال نعم. 13- وروي عن أبي سفيان الكلاعي أن مسلمة بن مخلد الأنصاري قال لهم ذات يوم أخبروني بآيتين في القرآن لم يكتبا في المصحف فلم يخبروه وعندهم أبو الكنود سعد بن مالك فقال ابن مسلمة هما «إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ألا أبشروا أنتم المفلحون. والذين آووهم ونصروهم وجادلوا عنهم القوم الذين غضب الله عليهم أولئك لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون» . 14- وروى المسور بن مخرمة أن عبد الرحمن بن عوف قال ألم نجد

في ما أنزل علينا «جاهدوا كما جاهدتم أول مرة» فإنّا لا نجدها. قال أسقطت فيما أسقط من القرآن. 15- وروي عن ابن عمر: لا يقولن أحدكم أخذت القرآن كله وما يدريه ما كلّه قد ذهب منه قرآن كثير. ولكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر. 16- وروي عن أبي موسى الأشعري: كنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات مما نسبناها غير أني حفظت منها، يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا ما لا تفعلون. فتكتب لكم شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة. 17- وأورد محمد صبيح في «كتاب القرآن» (ص 164) رواية لم يورد مصدرها عن سورة اسمها سورة النورين يزعم بعض المستشرقين أن عثمان أسقطها من مصحفه وإنها مثبتة في مصحف علي بن أبي طالب وهذا نصها: «يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالنورين. أنزلهما يتلوان عليكم آياتي ويحذرانكم عذاب يوم عظيم. نوران بعضهما من بعض وأنا السميع العليم» إن الذين يوفون بعهد الله ورسوله في آيات لهم جنات النعيم. والذين كفروا من بعد ما آمنوا بنقضهم ميثاقهم وما عاهدوا الرسول عليه يقذفون في الجحيم. ظلموا أنفسهم وعصوا وليّ الرسول أولئك يسقون من حميم. إن الله الذي نور السماوات والأرض مما شاء واصطفى من الملائكة والرسل وجعل من المؤمنين أولئك من خلقه يفعل الله ما يشاء. لا إله إلا هو الرحمن الرحيم قد مكر الذين من قبلهم برسلهم فأخذتهم بمكري إن أخذي شديد أليم. يا أيها الرسول بلغ إنذاري فسوف يعلمون. مثل الذين يوفون بعهدك إني جزيتهم جنات النعيم. وإن عليا لمن المتقين. ولقد أرسلنا موسى وهارون بما استخلف فبغوا هارون فصبر جميل فاصبر فسوف يبلون. ولقد آتيناك الحكم كالذين من قبلك من المرسلين وجعلنا لك منهم وصيا لعلهم يرجعون. إن عليا قانتا بالليل ساجدا يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربّه قل هل يستوي الذين ظلموا وهم بعذابي يعلمون» . 18- وقد ورد في «موطأ» الإمام مالك عن أبي يونس مولى عائشة قال

أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا ثم قالت إذا بلغت هذه الآية فآذني حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [البقرة: 238] . فلما بلغتها آذنتها فأملت علي «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر» ثم قالت سمعتها من رسول الله. وفي «الموطأ» حديث عن عمر بن رافع أن حفصة أمرته أن يكتب لها مصحفا ثم يتم الحديث بنفس الصيغة السابقة حرفيا. 19- وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ آية الكهف هكذا «وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا» وآية البقرة هكذا «لا جناح عليكم أن تبتغوا فضلا من ربكم في المواسم» . وروي عن ابن الزبير أنه كان يقرأ آية آل عمران هكذا «ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ما أصابهم» . وروي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ آية آل عمران هكذا «وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله من أجل ما جئتكم به» ، ويقرأ آية النساء هكذا «فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن» ويقرأ آية الأحزاب هكذا «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم» ويقرأ آية المجادلة هكذا «ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم إذا أخذوا بالتناجي» . 20- إن هناك روايات عديدة تفيد أن بعض الصحابة كانوا يقرأون كلمات بدل كلمات مثل «أيمانهما» بدلا من «أيديهما» في آية السرقة في سورة المائدة، و «لا تجزى نسمة عن نسمة» بدلا من «لا تجزى نفس عن نفس» في آية سورة البقرة، و «صفراء لذة للشاربين» بدلا من «بيضاء لذة للشاربين» في آية سورة الصافات، و «إدراس وإدراسين» بدلا من «الياس والياسين» ، في آية سورة الصافات، و «جاءت سكرة الحق بالموت» بدلا من «جاءت سكرة الموت بالحق» في آية سورة ق، و «صراط من أنعمت عليهم» بدلا من «صراط الذين أنعمت عليهم» في سورة الفاتحة، و «الحي القيام» بدلا من «الحي القيوم» في آية سورة آل عمران، و «للذين يقسمون» بدلا من «للذين يؤلون» في سورة البقرة، و «مثقال

نملة» بدلا من «مثقال ذرة» في سورة النساء، و «اركعي واسجدي في الساجدين» بدلا من «واسجدي واركعي مع الراكعين» في سورة آل عمران، و «تزودوا وخير الزاد التقوى» بدلا من و «تزودوا فإن خير الزاد التقوى» في سورة البقرة، و «أتموا الحج والعمرة إلى البيت» بدلا من «وأتموا الحج والعمرة لله» في سورة البقرة، و «شاورهم في بعض الأمر» بدلا من «وشاورهم في الأمر» في سورة آل عمران إلخ. 21- ويصح أن نورد أحاديث نسخ المصاحف في عهد عثمان في هذا الباب. لأن فيها ما يفيد أن المسلمين كانوا يختلفون في قراءة القرآن حتى أفزع اختلافهم عثمان وغيره من كبار الصحابة وبالتالي يفيد أن القرآن لم يكن في كتابته ومصاحفه وصحفه المتداولة وفي قراءته محررا بحيث يؤمن معه ذلك الخلاف: 1- فقد أورد البخاري حديثا عن أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال لعثمان أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك. فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف. وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنما نزل بلسانهم. ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردّ عثمان الصحف إلى حفصة وبعث إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق. قال ابن هشام وأخبرني خارجة بن زيد سمع زيد بن ثابت قال ففقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله يقرأ بها فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ... [الأحزاب: 23] فألحقناها في سورتها في المصحف. 2- وقد روي حديث آخر عن أنس بن مالك أيضا جاء فيه أن الناس اختلفوا

- 3 - تابع إلى روايات وأقوال في تدوين القرآن

في القرآن على عهد عثمان حتى اقتتل الغلمان والمعلمون فبلغ ذلك عثمان فقال عندي تكذبون وتلحنون به فمن نأى عني كان أشد تكذيبا ولحنا. يا أصحاب محمد اجتمعوا فاكتبوا للناس إماما فاجتمعوا فكتبوا فكانوا إذا اختلفوا وتدارأوا في آية قالوا هذه أقرأها رسول الله فلانا فيرسل إليه وهو على رأس ثلاث من المدينة فيقال له كيف أقرأ لرسول الله آية كذا فيقول كذا وقد تركوا لها مكانا. 3- وقد أخرج أبو داود حديثا وصف بأنه بسند صحيح عن سويد بن غفلة قال: قال لي علي لا تقولوا في عثمان إلا خيرا فو الله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا على ملأ منا. قال ما تقولون في هذه القراءة فقد بلغني أن بعضهم يقول إن قراءتي خير من قراءتك وهذا يكاد يكون كفرا. قلنا ما ترى. قال أرى أن يجمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة ولا اختلاف. قلنا فنعم ما رأيت. 4- وأخرج أبو داود حديثا جاء فيه لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثني عشر رجلا من قريش والأنصار فبعثوا إلى الربعة التي في بيت عمر فجيء بها. - 3-[تابع إلى روايات وأقوال في تدوين القرآن] وثالثا: إلى جانب تلك الأحاديث والأقوال والروايات يوجد أحاديث وروايات وأقوال يستفاد منها أن القرآن كان يدون وترتب آياته وسوره في حياة النبي عليه السلام وبأمره، وأن ترتيب المصحف العثماني متصل بعهد النبي وتوقيفه: 1- فقد أخرج الحاكم عن زيد بن ثابت حديثا وصف بأنه بسند صحيح على شرط الشيخين جاء فيه «كنا عند رسول الله نؤلف القرآن من الرقاع» ، وقد علق البيهقي على ذلك كما جاء في «الإتقان» بقوله يشبه أن يكون المراد به تأليف ما نزل من الآيات المفرقة في سورها وجمعها فيها بإشارة النبي. ويصح أن يستفاد من الحديث أنه كان يكتب ما ينزل به الوحي في رقاع منفردة ثم تنقل هذه الرقاع إلى صحف معدة كالسجل فتلحق فصولها ببعضها وفق ما كان يشير به النبي.

2- وقد أخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم حديثا عن ابن عباس جاء فيه قلت لعثمان ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين «1» فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموهما في السبع الطوال فقال عثمان كان رسول الله تنزل عليه السور ذات العدد «2» فكان إذا نزل عليه شيء دعا بعض من كان يكتب له فيقول ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا «3» ، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن نزولا وكانت قضيتها شبيهة بقضيتها فظننت أنها منها وقبض رسول الله ولم يبين لنا أنها منها فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله ووضعتهما في السبع الطوال. وهذا يفيد أن الأنفال في زمن النبي كانت تدون قبل براءة مباشرة ولم يكن بينهما فاصل أو بسملة فتركنا على ذلك وهو الترتيب المتداول. 3- وأخرج الإمام مسلم حديثا عن عمر قال ما سألت النبي عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن في صدري بأصبعه وقال تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء. وهذا يفيد أن سورة النساء كانت مرتبة على ما هو عليه في المصحف المتداول في حياة النبي ولو لم يكن ترتيبها بتوقيف النبي وإشارته لوضعت الآية المذكورة في مكان أكثر مناسبة من السورة. 4- وأخرج الإمام البخاري حديثا عن عبد الله بن الزبير جاء فيه قلت لعثمان وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً [البقرة: 234] قد نسختها الآية الأخرى فلم نكتبها أو ندعها. قال يا ابن أخي لا أغير شيئا من مكانه. الآية الناسخة في سورة البقرة وهي الآية (234) متقدمة في الترتيب على الآية المنسوخة في نفس السورة

_ (1) المثاني هي السور المتوسطة التي تكون آياتها أقل من مئة والمئين هي السور التي كانت آياتها مئة آية أو أكثر قليلا. (2) السور الطويلة أو المتوسطة التي كانت تنزل فصولا متفرقة. (3) هذا تعبير كان يستعمل في عهد النبي للدلالة على شخصية السورة أو اسمها.

وهي [240] . وجواب عثمان يفيد أن الترتيب إنما كان بإشارة النبي فلم ير تغيير شيء من مكانه. 5- وأخرج الإمام أحمد حديثا بإسناد وصف أنه حسن عن عثمان بن أبي العاص قال كنت جالسا عند رسول الله إذ شخص ببصره ثم صوبه ثم قال أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية في هذا الموضع من هذه السورة إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى [النحل: 90] إلى آخرها وهذا يفيد أن النبي كان يأمر بوحي الله بترتيب آيات السور وأن الترتيب المتداول هو مستند إلى ذلك. 6- وروى البخاري حديثا عن زيد بن ثابت أن رسول الله أملى عليه لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء: 95] . فجاء ابن أم كلثوم وهو يمليها عليه فقال يا رسول الله والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت وكان أعمى فأنزل الله على رسوله وفخذه على فخذه فثقلت عليه حتى خاف أن ترضّ فخذه ثم سرّي عنه فأملى عليه غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وهذا يفيد أن النبي كان يستدعي أحد كتاب الوحي حين نزول القرآن عليه فيملي عليه ما ينزل عليه فورا. 7- وروى البخاري أيضا حديثا قريبا من هذا عن البراء لما نزلت آية لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ قال النبي ادعوا زيدا فجاء ومعه الدواة واللوح أو الكتف فقال اكتب لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وخلف النبي ابن أم كلثوم الأعمى فقال يا رسول الله أنا ضرير فنزلت غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ. 8- وحديث زيد بن ثابت الذي رواه عن جمع القرآن في عهد أبي بكر والذي نقلناه في المجموعة الأولى يفيد أن آيات السور كانت معروفة الترتيب في حياة النبي حيث ذكر افتقاد آخر آيتين في سورة براءة ووضعهما في مكانهما حين وجودهما. وترتيبهما هو وفاق ترتيب المصحف المتداول. وحديث البخاري عن نسخ المصاحف في عهد عثمان والذي نقلناه في المجموعة الثانية يفيد نفس الشيء

حيث يذكر افتقاد آية الأحزاب ووضعها في مكانها المعروف في حياة النبي والذي هو وفاق المصحف المتداول أيضا. 9- وروى البخاري عن ابن عباس أن آخر آية نزلت آية الربا وروى النسائي عن ابن عباس أيضا أن آخر آية نزلت وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة: 381] ، وأخرج ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن أحدث القرآن عهدا بالعرش آية الدين. وقد لا يكون تناقض بين الروايات لأن هذه الآيات في سلسلة واحدة. وجميعها موضوعة في سورة البقرة بأمر النبي وترتيبه وجاء في «مجمع التبيان» للطوسي أن أبي بن كعب وسعيد بن جبير والحسن بن قتادة رووا أن الآيتين الأخريين من سورة التوبة هما آخر ما نزل من القرآن. وهذا يفيد أن آيات السور كانت معروفة الترتيب في حياة النبي وبأمره كذلك. 10- وروى علي بن إبراهيم عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله جعفر بن محمد «الإمام جعفر الصادق» أن رسول الله قال لعلي يا علي إن القرآن خلف فراشي في المصحف والحرير والقراطيس فاجمعوه ولا تضيعوه كما ضيعت اليهود التوراة، فانطلق علي فجمعه في ثوب أصفر ثم ختم عليه. وهذا يفيد أن القرآن كان يدون على وسائل الكتابة المعروفة وكان مدونا كذلك في حياة النبي وكان النبي يعنى بحفظه في بيته. 11- وقد روى علماء الحديث حديثا ورد في أكثر من كتاب من كتب الحديث المشهورة جاء فيه «لا تكتبوا عني غير القرآن» حيث يفيد أن الصحابة كانوا يدونون في حياة النبي ما يسمعونه من النبي من القرآن. 12- وقد أخرج أبو داود حديثا جاء فيه أن عمر أعلن الناس من كان تلقى عن رسول الله شيئا من القرآن فليأت به وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعسب. وهذا يفيد ما أفاده الحديث السابق. 13- وروى واثلة عن النبي قال أعطيت مكان التوراة السبع الطوال ومكان

الزبور المئين ومكان الإنجيل المثاني وفضلت بالمفصل «1» وهذا يفيد أن ترتيب سور القرآن حسب المصحف المتداول الطوال أولا فالمئون ثانيا فالمثاني ثالثا فالمفصل رابعا من ترتيب النبي وعهده. 14- وروى البخاري حديثا عن ابن مسعود أن النبي قال إن بني إسرائيل «2» والكهف ومريم وطه والأنبياء هنّ من العتاق الأول وهنّ من تلادي. وهذه السور متسلسلة الترتيب في المصحف المتداول وفاق الترتيب الوارد في الحديث. 15- وأخرج الإمام أحمد وأبو داود حديثا عن أبي أوس وكان قدم على النبي في وفد جاء فيه: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عليّ حزب من القرآن فأردت أن لا أخرج حتى أقضيه. فسألنا أصحاب رسول الله كيف تحزبون القرآن؟ قالوا نحزبه ثلاث سور وخمس سور وسبع سور وتسع سور وإحدى عشرة سورة وثلاث عشرة سورة. وحزب المفصل من سورة ق حتى نختم. وعدد السور من البقرة إلى الحجرات تسع وأربعون ومجموع عدد السور المحزبة هو تسعة وأربعون. والحديث يفيد أن سور القرآن كانت مرتبة وفاق ترتيب سور المصحف المتداول منذ حياة النبي. 16- وروى حذيفة عن النبي حديثا جاء فيه أنه قرأ سور البقرة وآل عمران والنساء واحدة بعد أخرى. وهذا يفيد أن السور الثلاث كانت مرتبة في حياة النبي وفاق ترتيبها في المصحف المتداول.

_ (1) المفصل هي السور القصيرة وسميت كذلك لكثرتها وكثرة الفصل بينها. وهناك أحاديث فيها بعض الخلاف في تعيين سور كل مجموعة من مجموعات السور الأربع. فهناك حديث عن ابن عباس أن السبع الطوال هي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف. قال الراوي وذكر السابقة فنسيتها. وعن مجاهد وسعيد أنها يوسف. وعن الحاكم أنها الكهف. والمفصل يبدأ في رواية للبخاري بالجاثية. وهناك قول إنه يبدأ بالصافات وقول إنه يبدأ بسورة ق وقول إنه يبدأ بالحجرات وقول إنه يبدأ بتبارك وقول إنه يبدأ بالفتح وقول إنه يبدأ بالضحى ... (2) اسم آخر لسورة الإسراء. الجزء الأول من التفسير الحديث 6

17- وروى البخاري حديثا عن فاطمة أن النبي أسرّ إليها بأن جبريل يعارضه بالقرآن كل سنة وأنه عارضه في العام الذي توفي فيه مرتين وقال لها ولا أراه إلا حضر أجلي. وروى البخاري حديثا آخر عن أبي هريرة جاء فيه: كان القرآن يعرض على النبي كل عام مرة فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه. وقال البغوي في «شرح السنة» «1» إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي بين فيها ما نسخ وما بقي وكتبها لرسول الله وقرأها عليه وكان يقرىء الناس بها حتى مات. ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه وولاه عثمان كتب المصاحف. وهذا يفيد أنّ النبي كان يستعرض القرآن جميعه في رمضان وإنه استعرضه مرتين في رمضان الأخير وإن المصحف الذي كتبه زيد في عهد أبي بكر إنما كان وفاقا لذلك نصّا وترتيبا. 18- وروى النسائي عن عبد الله بن عمر حديثا جاء فيه: جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة فبلغ النبي فقال اقرأه في شهر. وقد روي عن ابن عمر أنه قال: قال لي رسول الله اقرأ القرآن في شهر قلت إني أجد قوة. قال اقرأه في عشر. قلت إني أجد قوة. قال اقرأه في سبع ولا تزد. وقد روي عن ابن مسعود حديث جاء فيه «لا تقرءوا القرآن في أقل من ثلاث» وروي عن سعيد بن المنذر حديث جاء فيه قلت يا رسول الله أأقرأ القرآن في ثلاث قال نعم إن استطعت. وروي عن قيس بن صعصعة حديث جاء فيه: قلت يا رسول الله في كم أقرأ القرآن قال في خمسة عشر قلت إني أجدني أقوى من ذلك قال اقرأه في جمعة. وهناك روايات تذكر أسماء صحابة عديدين كانوا يحفظون القرآن جميعه مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود ومعاذ وسالم وأبيّ وأبي الدرداء وزيد بن ثابت وطلحة وسعد وحذيفة وأبي هريرة وعائشة وحفصة وأم سلمة وعبادة بن الصامت ومسلمة بن مخلد وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وسعيد بن المنذر وقيس بن صعصعة. ولا شك في أن هذه الأسماء ليست كل الأسماء وإنما هي التي نقلتها الروايات. وقد جاء في البخاري في حديث شهداء بئر معونة أن بعض العرب جاؤوا يطلبون

_ (1) رسالة الكلمات الحسان للشيخ بخيت.

مددا من النبي فأرسل معهم سبعين من الأنصار ممن كانوا يسمون القراء في زمنهم. وفي حديث جمع القرآن في عهد أبي بكر إشارة إلى القتل الذي استحر بالقراء والخشية من موتهم في المواطن الأخرى. فهذه الأحاديث والروايات تفيد أولا أن القرآن كان محفوظا في الصدور ومدونا في الصحف في ترتيب ثابت آيات في سور وسور في تسلسل لأن حفظ القرآن لا يمكن أن يتيسر إلا بذلك، وتفيد ثانيا أنه كان من الصحابة من يواظب عل تلاوته تعبدا وتفقها، وتفيد ثالثا أن طبقة القراء والحفاظ كانت كثيرة العدد في حياة النبي. 19- وأخرج الحاكم عن عبد الله بن قسطنطين أنه قرأ ختمة على عبد الله بن كثير وهذا إمام من أئمة القراء وهو تابعي فلما بلغ الضحى قال كبّر حتى تختم وأخبره أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك وأن مجاهدا أخبره أنه قرأ على ابن عباس فأمره بذلك وأن ابن عباس أخبره أنه قرأ على أبيّ فأمره بذلك، وأن أبيا أخبر ابن عباس أنه قرأ على النبي فأمره بذلك. وقد روي عن الإمام الشافعي أنه قال إذا تركت التكبير فقد تركت سنّة من سنن نبيك. وهذا وذاك يفيد أن القرآن كان مرتب السور في حياة النبي وفاق ترتيب المصحف المتداول. 20- وروى أبو منصور الأرجاني في كتاب «فضائل القرآن» أن النبي كان يقول عند ختم القرآن اللهم ارحمني بالقرآن واجعله لي إماما ونورا وهدى ورحمة. اللهم ذكرني منه ما نسيت وعلمني منه ما جهلت وارزقني تلاوته آناء الليل والنهار واجعله حجة لي يا ربّ العالمين. وهذا يفيد ما تفيده الأحاديث السابقة آنفا. 21- وفي «مسند الإمام أحمد» حديث عن عبد الله بن مسعود جاء فيه أنه سمع من فم رسول الله بضعا وسبعين سورة. وهذا يفيد أن ما يقرب من ثلثي سور القرآن كان معروف الشخصية تام الترتيب في آياته منذ حياة النبي عليه السلام. 22- وفي حديث البخاري أن ابن عباس قال إنه جمع المحكم في عهد رسول الله فسأله الراوي عن المحكم فقال المفصل وكان ابن عباس صبيا في حياة النبي كما هو معروف. وهذا يفيد أن السور كانت مرتبة وفاق ترتيبها المتداول

الطوال فالمئون فالمثاني فالمفصّل. وأن القرآن كان يحفظ على ما اعتيد حفظه إلى اليوم الأقصر أولا ... 23- وأخرج الحاكم حديثا عن ابن عباس وصف بأنه صحيح أنه قال كان النبي إذا جاءه جبريل فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم علم أنها سورة وورد حديث آخر عن ابن عباس جاء فيه كان المسلمون لا يعلمون انقضاء السورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم. وأخرج البيهقي عن ابن مسعود أنه قال كنا لا نعلم فصلا بين سورتين حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم. وهذا يفيد أن شخصيات السور أو بالأحرى ترتيب الآيات سورا تامة كان معروفا في حياة النبي. 24- وقد ذكر السيوطي أقوالا لبعض علماء القرآن تفيد أنهم كانوا يعتقدون بصحة ما احتوته الأحاديث والروايات في هذه المجموعة من تقريرات بوجه الإجمال. فقد أثر عن الحارث المحاسبي في كتاب «فهم السنن» قوله إن كتابة القرآن ليست محدثة فإن النبي كان يأمر بكتابته. وقال أبو بكر الأنباري إن اتساق السور كاتساق الآيات والحروف كلّه عن النبي فمن قدّم سورة أو أخّرها فقد أفسد نظم القرآن. وقال الإمام مالك برواية ابن وهب إنما ألّف القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبي. وقال البيهقي كان القرآن على عهد رسول الله مرتبا سوره وآياته على هذا الترتيب وقال البغوي في «شرح السنّة» إن الصحابة قد جمعوا بين الدفتين القرآن الذي أنزله الله على رسوله من غير أن زادوا ونقصوا منه شيئا خوف ذهاب بعضه بذهاب حفاظه فكتبوه كما سمعوه من رسول الله من غير أن قدموا شيئا أو أخروه أو وضعوا ترتيبا لم يأخذوه عن رسول الله وكان رسول الله يلقن أصحابه ويعلمهم ما نزل عليه على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا بتوقيف جبريل إيّاه على ذلك. وقال ابن الحصّار إن ترتيب السور في وضع الآيات مواضعها إنما كان بالوحي فكان رسول الله يقول ضعوا آية كذا في موضع كذا. وقد حصل اليقين من النقل المتواتر بهذا الترتيب من تلاوة رسول الله ومما أجمع الصحابة على وضعه هكذا في المصحف.

- 4 - تعليقات على الروايات والأقوال وترجيح تدوين وترتيب القرآن في عهد النبي ومرجحات ذلك

25- وقال أبو بكر الباقلاني «1» والذي نذهب إليه أن جميع القرآن الذي أنزل الله وأمر بإثباته ورسمه ولم ينسخه ولم يرفع تلاوته بعد نزوله هو هذا الذي بين الدفتين الذي حواه مصحف عثمان، وأن ترتيبه ونظمه كلاهما ثابت على ما نظمه الله سبحانه ورتبه عليه رسوله من آي وسور لم يقدّم من ذلك مؤخّر ولا أخّر منه مقدّم وإن الأمة ضبطت عن النبي ترتيب آي كل سورة ومواضعها كما ضبطت عنه نفس القراءة وذات التلاوة. 26- وقال العالم المذكور في كتابه «الانتصار» : لم يقصد عثمان قصد أبي بكر في جمع نفس القرآن بين لوحين وإنما قصد جمعه على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي وإلغاء ما ليس كذلك وأخذهم بمصحف واحد مع مثبت رسمه ومفروض قراءته وحفظه خشية دخول الفساد والشبهة على من يأتي بعده. 27- وقال ابن الجوزي وإنما لم يجمع رسول الله لأنه كان بمعرض أن ينسخ منه أو يزاد عليه فلو جمعه كان الذي عنده نقص ينكر على من عنده زيادة. فلما أمن هذا الأمر بموته جمعه أبو بكر. ولم يصنع عثمان في القرآن شيئا. وإنما أخذ الصحف التي وضعت عند حفصة وأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن الحارث بن هشام وسعيد بن العاص وأبيّ بن كعب في اثني عشر رجلا من قريش والأنصار فكتب منها مصاحف وسيرها للأمصار. - 4- تعليقات على الروايات والأقوال وترجيح تدوين وترتيب القرآن في عهد النبي ومرجحات ذلك ومن الحق أن نقول إن في المجموعات الثلاث التي أوردناها ما ليس موثقا بالأسناد القوية، وما يتحمل النظر والتوقف، ومنها ما يتعارض بعض ما جاء في

_ (1) الكلمات الحسان.

مجموعة منه مع بعض ما جاء في نفس المجموعة، ومنها ما يصطبغ بصبغة الأهواء الحزبية الأولى أو فيه رائحتها، ومنها ما يبدو عليه قرائن قصد التوفيق أو التلفيق غير أن من الحق أن يقال إن المجموعة الثالثة أكثر توثقا في الإجمال من جهة وأكثر اتساقا مع طبائع الأمور والظروف من جهة أخرى. فالقرآن أعظم مظاهر النبوة ومعجزتها الخالدة، وكان مدار الاحتجاج والدعوة مع العرب والكتابيين الذين كانت لهم كتبهم المتداولة في أيديهم وقد تكرر في القرآن كثيرا الإشارة إلى كتب الكتابيين من جهة وذكر الكتاب بمعنى القرآن كثيرا من جهة أخرى فلا يعقل في حال أن يهمل النبي عليه السلام تدوين ما كان ينزل عليه من الوحي القرآني، والعناية بهذا التدوين عناية فائقة، والحرص على حفظ المدونات حرصا شديدا بل والمعقول أن يكون ذلك من أمهات مشاغل النبي المستمرة أيضا وهذا يجعلنا نعتقد أن ما روي من أن القرآن كان يدون على قطع عظيمة الحجم ثقيلة الوزن صعبة الحمل والحفظ والترتيب كأضلاع النخيل وأكتاف العظام ورقاق الحجارة والخشب لا يمكن أن يكون هو الواقع على إطلاقه، كما أن هذا القول يطرد في ما يمكن أن يستتبع ذلك من فقدان أو نقص وسائل الكتابة اللينة المعروفة في ذلك العصر في البلاد المجاورة كالقرطاس والورق والحرير والقماش والرقوق الناعمة المسواة. ولقد قيل فيما قيل إن نطاق القراءة والكتابة كان ضيقا جدا في مكة والمدينة مما يمكن أن يظن أن هذا متصل بالنقطة الأولى أو من أسبابها. وهذا أيضا لا يمكن التسليم بصحته على إطلاقه كذلك. ونحن لا نرسل هذا النفي جزافا. فالثابت علميا وبصورة لا تقبل المراء أن الخط العربي الذي كان مستعملا في بيئة النبي وعصره يمتد وجوده إلى عشرات السنين قبل بعثته كما أنه متطور عن أشكال لخطوط أخرى كان يستعملها عرب الشام واليمن، وكذلك فإن من الثابت علميا أن ذلك الخط كان منتشرا بمقياس غير ضيق في بلاد الشام واليمن والحجاز والعراق حتى كان يشمل بدو هذه البلاد ولو بمقياس ضيق. وما جاء في بعض الكتب العربية عن نشأة الخط العربي ووصوله

إلى الحجاز وضيق انتشاره فيه ضيقا شديدا هو تخليط لا يتحمل نقدا «1» . والبيئة الحجازية إلى هذا وخاصة مكة والمدينة كانت بيئة تجارية متصلة بالبلاد المجاورة التي كانت تتمتع بحظ غير يسير من الحضارة والثقافة وكان فيها جاليات كتابية نصرانية ويهودية نازحة من تلك البلاد وكانت تتداول الكتب الدينية وغير الدينية قراءة وكتابة. فلا يعقل أن يظل العرب أهل هذه البيئة غافلين عن اقتباس وسيلة من أشد الوسائل ضرورة إلى الأشغال التجارية ومن أعظم مظاهر الحضارة التي اقتبسوا منها من البلاد المجاورة الشيء الكثير «2» . وهناك رواية مشهورة وهي أن أسرى قريش الفقراء في وقعة بدر الذين لم يستطيعوا أن يدفعوا فدية نقدية كلفوا بتعليم بعض أطفال المسلمين في المدينة القراءة والكتابة، فإذا كان فقراء أهل مكة يقرأون ويكتبون فأولى أن يكون كذلك أغنياؤها وتجارها ونبهاؤها وأن تكون القراءة والكتابة مما هو مألوف ومنتشر بنطاق غير ضيق. ويضاف إلى هذا ما هو أقوى دلالة وهو محتويات القرآن. ففيه آيات كثيرة جدا احتوت تنويها بالعلم والقراءة والكتابة وحضّت عليهما وحضّت خاصة على تدوين المعاملات التجارية نقدا ودينا وصغيرة وكبيرة كما أن فيه آيات عديدة حكت أقوال المشركين المكيين تدل على اتساع نطاق القراءة والكتابة والمعرفة بوجه عام عندهم «3» . وبيئة هذه صلاتها بالبيئات المجاورة المتمدنة التي تتيسر فيها وسائل الكتابة والقراءة المألوفة على تنوعها، وفيها كثيرون من أهل هذه البيئات يقرأون ويكتبون

_ (1) اقرأ مثلا «العقد الفريد» ج 3 ص 202. وننبه على أن للمستشرق الطلياني كايتاني في كتابه «تاريخ الإسلام» فصلا قيّما في نشأة الخط العربي وانتشاره مستندا إلى دراسات ومكتشفات وآثار حاسمة. (2) اقرأ فصل الحياة العقلية في كتابنا «عصر النبي وبيئته قبل البعثة» ففيه بحث مسهب موثق في هذا الأمر. (3) المصدر نفسه.

ويتداولون الكتب، وحركتها التجارية قوية واسعة، وقد احتوى القرآن من أوصاف حياتها ومعايشها وحضارتها ووسائلها ما فيه الدلالة الوافية على أنها هي أيضا كانت على درجة غير يسيرة من الحضارة ووسائلها، والكتابة والقراءة فيها منتشرتان بمقياس غير ضيق لا يعقل في حال أن لا يكون فيها وسائل مدنية للكتابة وأن لا يوجد ما يدون عليه القرآن إلا ألواح العظام ورقائق الحجارة وأضلاع النخيل وقطع الخشب. هذا بالإضافة إلى أن القرآن قد احتوى كلمة القرطاس أكثر من مرة مما يصح أن يكون دليلا على أنه كان معروفا ومألوفا كوسيلة للتدوين والكتابة بل إن هذه الكلمة مفردة وجمعا قد جاءت في سورة الأنعام في سياق الكلام عن كتب الله كما ترى: 1- وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ الأنعام: [7] . 2- قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً.. الأنعام: [91] . فهذا النص القرآني يلهم أن الكتابة على القرطاس وكون الكتب مؤلفة من قراطيس هو الشيء المألوف الذي لم يكن ليتصور غيره. كذلك فإن القرآن احتوى كلمة «الصحف» أكثر من مرة في معرض الإشارة إلى القرآن والكتب السماوية كما ترى: 1- فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ عبس: [13- 14] . 2- إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى.. الأعلى: [18- 19] . 3- بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً المدثر: [52] . ولم يذكر أحد أن كلمة الصحيفة كانت تطلق على تلك الوسائل البدائية وإنما كانت تطلق على ما كان معروفا من وسائل الكتابة التي تحمل بسهولة وتطوى بسهولة ويجمع بعضها إلى بعض بسهولة ولعل في آية القيامة قرينة على أن الصحف

كانت تنشر وتطوى، وهو ما لا يمكن أن يتصف به إلا وسائل الكتابة اللينة كالقماش وورق القماش وورق الحرير والرقوق الناعمة المسواة إلخ. ولعل في آية سورة الأنبياء هذه يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [104] قرينة أو بالأحرى دليلا على أن طي الورق أو ما كان يقوم مقامه من وسائل الكتابة اللينة ليكون سجلا للكتابة والتدوين كان مألوفا شائعا. وهذا لن يكون إلا حيث تكون الكتب والقراطيس والوسائل الكتابية اللينة الأخرى. ومما يمكن إيراده لتقوية هذه الملهمات والقرائن هذه الآيات: 1- هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ الجاثية: [29] . 2- أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ.. الإسراء: [93] . حيث تخاطب الأولى الناس- ومشركو مكة من أول من خوطبوا- بما لا يعقل إلا أن يكون من مألوفاتهم من الكتابة واستنساخ الكتب وحيث تحكي الثانية قول مشركي مكة مما يعبر عن مفهوم الكتاب المكتوب المقروء المألوف والمنتشر بينهم. ولقد كثرت كما قلنا الإشارات القرآنية إلى كتب الكتابيين وكتابتها وتعليمها ودراستها، وجل الكتابيين الذين كانوا في الحجاز جاليات نازحة من البلاد المجاورة التي كانت وسائل الكتابة اللينة فيها معروفة ميسورة فلا يعقل أن تكون كتبهم هذه مكتوبة على تلك الوسائل البدائية الثقيلة الضخمة، ولا يعقل إلا أن يكون النبي قد اهتم لتدوين القرآن معجزته الكبرى على نسق ما دونت عليه كتب الكتابيين. ولقد احتوت المجموعات الثلاث روايات عديدة تفيد أن الورق والقرطاس مما استعمل في كتابة القرآن في عهد النبي وفي عهد أبي بكر مما هو متسق مع الظروف ولا يكاد يتحمل شكا في صحته بقطع النظر عن وثوق الروايات من الوجهة التعديلية والتجريحية. ونشير بنوع خاص إلى ما كان في أيدي

المسلمين من صحف ومصاحف ورقاع خاصة أمر عثمان بإحراقها بعد ما فرغ من نسخ المصاحف الموحدة ليزول أهم سبب من أسباب الخلاف في القراءة مما ذكره حديث البخاري والإحراق خاصة لا يتوارد معه إلا الورق والقرطاس والرقوق مما يدل على أن التدوين على هذه الوسائل كان هو المألوف السائغ. على أننا لا نريد أن ننفي بالمرة ما ورد في الأحاديث العديدة عن كتابة القرآن على الألواح والأكتاف والرقائق والأديم فإن من الممكن أن يكون لها أصل صحيح أيضا، ولكن على غير الصورة أو المقصد الذي عبرت عنه الروايات أو تركته غامضا. فمن المحتمل أن يكون النبي إذ يستدعي أحد كتابه لإملاء ما يكون نزل عليه من وحي فورا أن لا يكون متيسرا إلا شيء من هذه الوسائل البدائية فيكتب الكاتب عليها ما يمليه النبي مؤقتا ريثما ينقله إلى مكانه من سجلات القرآن، مما عبر عنه زيد بن ثابت في الحديث الذي نقلناه في المجموعة الثالثة في قوله كنا نؤلف القرآن من الرقاع في عهد رسول الله. ومن المحتمل كذلك أن أصحاب رسول الله من أهل المدن أو البادية قد كانوا يكتبون بعض الفصول القرآنية التي يتلقونها عن النبي على قطعة من تلك القطع للتبرك والحفظ والنقل على اعتبار أنها أبقى على الزمن وأقل تعرضا للفناء والتمزيق على نحو ما اعتاد المسلمون أن يفعلوه من قديم الأجيال في كتابة الألواح مع بعض التعديل. فلما دعي المسلمون إلى الإتيان بما عندهم من قرآن بقصد زيادة الاستيثاق والضبط والتحرير والمعارضة أتوا فيما أتوا به بهذه القطع فحفظت الروايات هذه الصورة ونقلتها. هذا من جهة التدوين، وما نقلناه يصح إيراده بتمامه على ترتيب القرآن آيات في سور وسورا في تسلسل أيضا. فالنبي الذي لا شك في أن القرآن كان من أهم مشاغله لا يمكن أن يكون قد أهمل ترتيبه وترك مدوناته مشوشة فوضى لا يعرف لها أول من آخر سواء في التدوين أو في القراءة والتعليم، ولا بد من أن يكون قد عني بترتيبه نفس العناية الفائقة التي كانت منه بتدوينه وحفظ مدوناته.

ولقد قال بعض علماء القرآن كما جاء في كلام الخطابي الذي أوردناه في المجموعة الأولى أن استمرار الوحي في حياة النبي كان سببا في عدم ترتيبه. والذي يتبادر لنا أن هذا لا يوجب عدم ترتيب القرآن آيات في سور وسورا في تسلسل، فإن من السائغ جدا أن يكون الترتيب النهائي قد تمّ في أخريات حياة النبي، وبعد نزول سورة النصر التي أذنت بفتح الله ونصره ودخول الناس في دينه أفواجا، وبالتالي أذنت بانتهاء مهمة النبي. وقد احتوت أحاديث معارضة النبي للقرآن في رمضان الأخير مرتين وكتابته من قبل زيد ما يستأنس به على ذلك، كما أن من السائغ جدا أن يصح احتمال إضافة ما يمكن أن يكون نزل بعد هذا الترتيب من آيات إلى مواضع مناسبة لها في السور. وفي الأحاديث التي نقلناها في المجموعة الثالثة ما يستأنس به على وقوع شيء من هذا فعلا، فلما التحق النبي عليه السلام بالرفيق الأعلى صار ما كان ثابتا من القرآن هو القرآن التام، وصار من واجب خليفة النبي الأول وكبار أصحابه الاهتمام لضبطه وجمعه كاملا، وتحرير نسخة تكون إماما كاملا محفوظا عند إمام المسلمين وخليفة نبيهم وتكون مرجعا عند الخلاف وضمانا من الطوارئ والضياع، وانتقال النسخة التي كتبت في عهد أبي بكر إلى عهدة عمر بن الخطاب الخليفة الثاني وحفظها عند حفصة حينما اغتيل والدها عمر من القرائن القوية على ذلك. ولسنا نرى أن ما نقرره يمكن أن ينقض أيضا بما جاء في حديث زيد بن ثابت من أنه تتبع القرآن فجمعه من العسب والقحاف وصدور الرجال ولا يفنده افتقاد آخر آيتي سورة التوبة وعدم وجودهما إلا عند أبي حذيفة ولا بما جاء في حديث مصاحف عثمان من افتقاد زيد آية الأحزاب وعدم وجودها إلا عند حذيفة أو بما جاء في حديث آخر أن الناس دعوا إلى الإتيان بما عندهم ولم يكن يقبل من أحد شيء إلا بشهادتين، فهذا كله لا يقتضي أن لا يكون للقرآن مدونات مرتبة محفوظة في بيت النبي مما ألفي من الرقاع ومدونات مرتبة محفوظة كذلك عند كبار

أصحاب رسول الله وقرائهم، بل يصح- ونحن نجزم بذلك- أن يكون هذا كله من قبيل الاحتياط والحرص الشديد على الضبط والتحرير. ولقد كان من المحتمل أن يختلط الأمر على بعض الصحابة في بعض الآيات، وأن يكون بعضهم ما يزال يحفظ آيات قد نسخت أو يحتفظ برقاعها مما هو طبيعي كما أن من المحتمل أن يكون مما استهدف معارضة مدونات القرآن المختلفة عند مختلف الفئات مع بعضها لإتقان الضبط والتحرير، فكان هذا التشدد والحرص العظيمان المتناسبان مع موضوع تفوق خطورته أي موضوع آخر، واللذان يصحان أن يكونا مثلا رائعا للتدقيق والفحص والتحري العلمي. ومن النقاط المهمة الجديرة بالتنبيه في هذا المقام أنه لم يرد أي حديث منسوب إلى النبي عليه السلام أو أصحابه المعروفين يمكن أن يفيد أن القرآن لم يكن مرتب الآيات والسور ومعروف الترتيب في حياة النبي، وكل ما جاء في هذا الباب تعليقات وتخمينات متأخرة. وحديثا البخاري في كتابة المصحف في عهد أبي بكر ونسخه في عهد عثمان وهما المعول الأقوى والأشهر قد خلوا من أي إشارة إلى ذلك، بل فيهما على ما أوردناه في المجموعة الثالثة ما يؤيد كون آيات القرآن معروفة الترتيب منذ حياة النبي، وننبه بنوع خاص على أن حديث نسخ المصحف في عهد عثمان صريح جدا بأن ما كان ليس جمعا أو تدوينا جديدا كما توهمه الحاكم على ما أوردناه في المجموعة الأولى وإنما هو نسخ طبق الأصل عن مصحف أبي بكر، وبأن القصد منه ضبط كتابة ألفاظ القرآن من حيث الإملاء وتوحيدها حتى لا يكون محل للاختلاف في قراءتها، حيث كانت المصاحف والصحف التي في أيدي الناس مكتوبة بخطوط متنوعة من المعقول جدا أن تكون متخالفة الإملاء والهجاء، وهو ما أدى إلى الخلاف والفزع منه فعلا. وما دام القرآن قد جمع وضبط وحرر في عهد أبي بكر على ملأ من الصحابة وخاصة كبارهم، وفي وقت يكاد يكون فوريا بعد وفاة النبي، وعلى هذا الوجه من الحرص والتحري الشديدين دون أن يكون أي إشارة إلى قصد ترتيب الآيات أو السور فإنه يصح أن يقال بجزم إن دفتي المصحف الذي حرر قد احتوتا كل ما ثبت

عند كبار الصحابة وقرائهم وحفاظهم بل وكل من شهد العمل منهم أنه القرآن الذي مات النبي عنه وهو ثابت لم ينسخ بترتيبه المعروف في حياته. وما دام النسخ الذي جرى في عهد عثمان إنما كان عن هذا المصحف وكان هذا أيضا على ملأ من الصحابة والقراء والحفاظ وبمعرفة علماء القرآن منهم، ولم يكن الباعث عليه إلا إيجاد إمام يضبط فيه الإملاء والقراءة ويجمع به الناس على رسم واحد، وما دامت المصاحف المتداولة في أيدي المسلمين هي طبق هذا المصحف الإمام كما هو ثابت بالتواتر الفعلي الذي لم ينقطع والذي هو يقيني- باستثناء بعض التنظيمات الشكلية على ما سوف نذكر بعد- فهي بطبيعة الحال طبق مصحف أبي بكر من حيث الألفاظ والآيات والسور وترتيبها، وبالتالي طبق ما مات النبي عنه من قرآن ثابت بترتيبه وتسلسله. وإذا كان من المحتمل أن لا تكون إحدى نسخ مصاحف عثمان الأصلية موجودة اليوم- مع ما يقال عن وجود بعضها قولا غير مؤيد بشاهد ووصف عياني موثوقين- فإن هذا لا ينقض ما نقوله من التواتر الفعلي. ولقد ذكر علماء قديمون أنهم شاهدوا بعض هذه النسخ، وقرروا أن المصاحف المتداولة هي صورة تامة عنها رسما وترتيبا. ومن أقدم من ذكر ذلك أبو القاسم عبيد الله بن سلام من علماء القرن الهجري الثاني الموثوقين ومحدثيهم. وتقرير هذا العالم يهدم كل قول حول التشكيك في مصحف عثمان وكون المصحف المتداول هو صورة تامة صحيحة عنه، وحول رواية أن المصحف المتداول إنما هو مصحف الحجاج وجمعه وترتيبه إذا كان يراد بذلك جمعا وترتيبا جديدين، وأن الحجاج قد جمع المصاحف المتداولة ومصاحف عثمان وأبادها. ولعل الرواية محرفة عن حادثة عناية الحجاج بإعجام القرآن أو نقطه، مما صار نساخ المصاحف بعدها يأخذون به. فقد انتشر المسلمون في عهد الحجاج أكثر من ذي قبل في أنحاء الأرض، وانتشرت نسخ القرآن العثمانية كذلك، فلم يكن في إمكان الحجاج جمع المصاحف المتداولة وإبادتها البتة، ولم يقل أحد إنه رأى مصحفا للحجاج فيه تغاير ما مع المصحف العثماني في نصه وترتيبه، ولو كان وقع شيء من هذا لاهتمّ له أعداء الأمويين

والحجاج الذين بذلوا كل جهد في تشويه سيرتهم وتسويئ سمعتهم بالحق وبالباطل وتعقب كل عمل أو بادرة منهم، ولرأيناه في رأس المطاعن التي يطعنونهم بها. وقد قال أحد أعلام علماء الشيعة ومشهوريهم وكبار مفسريهم الإمام الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، صاحب تفسير «التبيان» ، ومن رجال القرنين الرابع والخامس الهجريين، في مقدمة تفسيره، بصدد الكلام في زيادة القرآن المتداول ونقصه (وأما الكلام في زيادته ونقصانه فمما لا يليق به أيضا لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانه والنقصان منه فالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا، وهو الذي نصره المرتضى رحمة الله عليه، والظاهر في الروايات. والروايات التي رويت من جهة الخاصة والعامة بنقصان آيات منه أو نقلها من موضع إلى موضع فطريقها الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا. والأولى الإعراض عنها وترك التشاغل بها. ولو صحت لما كان ذلك طعنا على ما هو موجود بين الدفتين إذ كان ذلك معلوما صحته لا يعترضه أحد من الأمة ولا يدفعه) . ومع كل هذا فمما روي أن الحجاج إنما صحح اثنتي عشرة كلمة في مصحف عثمان هي هذه: «لم يتسن» حيث جعلها «لم يتسنه» «1» و «شريعة» حيث جعلها «شرعة» «2» و «ينشركم» حيث جعلها «يسيركم» «3» «وآتيكم» حيث جعلها «أنبئكم» «4» و «معايشهم» حيث جعلها «معيشتهم» «5» و «غير ياسن» حيث جعلها «غير آسن» «6»

_ (1) سورة البقرة، الآية: 259. (2) سورة المائدة، الآية: 48. [.....] (3) سورة يونس، الآية: 22. (4) سورة يوسف، الآية: 45. (5) سورة الزخرف، الآية: 32. (6) سورة محمد، الآية: 15.

- 6 - تابع إلى تعليقات على الروايات والأقوال

و «اتقوا» حيث جعلها «وأنفقوا» «1» و «سيقولون لله» حيث جعلها «سيقولون الله» «2» و «بظنين» حيث جعلها «بضنين» «3» ونقل كلمتي «المرجومين» و «المخرجين» في آيتي الشعراء [116 و 167] كلا منهما مكان الأخرى فصارت المرجومين في قصة نوح والمخرجين في قصة لوط وأنه لم يصنع ما صنعه إلا بعد اجتهاد وبحث مع القراء والفقهاء المعاصرين له وبعد إجماعهم على أن جميع ذلك من تحريف الكتاب والناسخين الذين لم يريدوا تغييرا أو تبديلا وإنما حدث بعض ما حدث لجهلهم بأصول الكتابة وقواعد الإملاء والبعض الآخر لخطأ الكاتب في سماع ما يملى عليه أو التباسه في ما يتلى عليه «4» . هذا في حين أن هناك رواية «5» تفيد أن بعض ما صححه الحجاج إنما صححه عثمان نفسه مثل لم يتسن حيث جعلها لم يتسنه. وبكلمة أخرى إن الحجاج لم يكتب مصحفا جديدا ولم يضع ترتيبا جديدا، وإن تسمية «مصحف الحجاج» ليست في محلها حتى لو صحت رواية تصحيحه لبعض كلمات وحروف رأى فيها مع القراء والعلماء تحريفا من النساخ، هذا بقطع النظر عن ضعف رواية مصحف الحجاج وعدم تناقلها وعدم تعليق الشيعيين عليها تعليقا جالبا للنظر على طريقتهم في التعليقات وخاصة إذا ما كان الأمر متصلا بالأمويين ورجالهم وفيه مجال لقول أو غمز أو تعليق. - 6-[تابع إلى تعليقات على الروايات والأقوال] وعلى هذا كله فكل ما يتعارض مع النتائج الي قررناها من الروايات هو موضع نظر وتوقف أو محمل تخريج. وفي الحق إننا إذا نظرنا في الروايات

_ (1) سورة الحديد، الآية: 7. (2) سورة المؤمنون، الآية: 87 و 89. (3) سورة التكوير، الآية: 24. (4) «الفرقان» لابن الخطيب 50- 52. (5) «الفرقان» أيضا، الآية: 40

المناقضة لهذه النتائج نجدها كلها أو جلّها غير واردة في كتب الحديث الصحيحة. وكثير منها لم يذكر له أسناد متسلسلة معدلة، وفيها من التناقض والتغاير ما يحمل على الشك في صحة روايتها أو متونها. فحديث زيد عن تأليف القرآن من الرقاع أقوى سندا وأكثر اتساقا مع المنطق من حديثه الذي جاء فيه أن النبي قبض ولم يكن القرآن قد جمع في شيء، حتى إذا صح فيجب حمله على جمع القرآن في مصحف واحد كما علق على ذلك الخطابي على ما ذكرناه سابقا. وهذا المعنى هو ما يجب تخريج ما جاء في حديث جمع القرآن في عهد أبي بكر به من المراجعة بين أبي بكر وعمر ثم بين أبي بكر وزيد. وأبي بن كعب وعبد الله بن مسعود من كبار الصحابة وعلماء القرآن الأعلام، فلا يعقل أن يكون جمع القرآن وتحريره وضبطه في عهد أبي بكر ثم نسخه في عهد عثمان قد تمّ دون اشتراكهم أو علمهم، ولا يعقل أن يرمى بأقوالهم عرض الحائط في زيادة أو نقص في الآيات والكلمات والسور لو كان لهم في ذلك رأي وقول حقا، ولا يعقل أن يكونا قد انفردا دون سائر الصحابة في العلم بزيادة أو نقص في القرآن أو أن تكون شهادتهما قد ردّت أو أن يكونا قد عجزا عن إثبات قولهم. وإذا سلمنا بهذا جدلا مع ذلك فالمعقول أن ما يكونان قد ذكراه لم يثبت عند ملأ الصحابة فلم يؤخذ به. وما دام الأمر قد تمّ على ما ثبت عند ملأ الصحابة وأجمعوا عليه فلا يعقل أن يكونا قد أصرا على مخالفة إجماع الصحابة وكبارهم وخلفاء رسول الله فاحتفظا بمصحفيهما وزوائدهما ونواقصهما وتغايرهما للترتيب الثابت وأن لا يكونا قد أطاعا خليفة رسول الله فأحرقا ما عندهما كما أحرق الناس ما عندهم. وهذا ما يجعلنا نشك في بقاء مصحفين لهما مخالفين لمصحف عثمان رسما وترتيبا وعدد سور وكلمات حتى وصل علم ذلك أو عيانه إلى وقت متأخر. ونرجح إن لم نقل نعتقد أن كل هذا مخترع فيما بعد بقصد التشويش والتشكيك من أعداء الإسلام وأن في بعضه أثرا للحزبية السياسية. وقد قال بعض علماء أعلام أقوالا وجيهة في هذا الباب، فقال النووي إن المسلمين أجمعوا على أن المعوذتين والفاتحة من القرآن وأن من جحد منها شيئا كفر وما نقل عن ابن مسعود باطل ليس

بصحيح. وقال الرازي الأغلب أن نقل هذا عن ابن مسعود باطل لأن النقل المتواتر حاصل في عصر الصحابة أنها من القرآن فإنكار ذلك يوجب الكفر. وإن قلنا ليس التواتر حاصلا في ذلك الزمن فلزم أن القرآن ليس بمتواتر في الأصل وهذا خلاف الإجماع. وقال ابن حزم هذا كذب على ابن مسعود وموضوع، وإنما صح عنه قراءة عاصم عن زر عنه وفيها المعوذتان والفاتحة. والسورتان المسماتان بالحفد والخلع هما دعاءا قنوت ورواية عمر لهما صريحة بأنه إنما قنت بهما بعد قيامه من الركوع. فمن المحتمل حتى في حالة صحة القول بهما من أبيّ- وهو ما نشك فيه- أن يكون أبيّ قد وهم ثم رجع عن ذلك حينما ثبت عند الملأ أنهما ليستا قرآنا فظلّ أثر القول قائما متداولا. وعمر القوي الشديد في إيمانه ومركزه بين الصحابة والذي دعا إلى ضبط القرآن وتحريره وحفظه أجلّ من أن تردّ له شهادة بشأن آية الرجم وأقوى من أن يسكت على عدم إثبات آية يعتقد أن النبي مات وهي قرآن لم تنسخ. ولذلك فإن رواية ردّ آية الرجم منه لأنه أتى بها وحده مما يتحمل كل الشك ولا سيما أن هناك رواية تقول إنه قبل من أبي خزيمة آيتي سورة التوبة الأخيرتين بشهادته وحده. ومثل هذا غرابة وموضع شك شديد رواية أنه ظل يعتقد أنها قرآن بعد أن صارت الخلافة إليه، يضاف إلى هذا أن تعدد روايات آية الرجم وتباين صيغتها مما يثير الشك فيها، وأنه ليس من المعقول أن ينفرد عمر أو صحابي أو صحابيان في علم قرآنية هذه الآية التي تحتوي تشريعا خطيرا دون ملأ الناس أو أن يتواطأ هذا الملأ على عدم إثباتها. وكل ما يمكن فرضه أنها كانت آية فنسخت في حياة النبي. ومثل هذا القول يصح في ما ورد عن عائشة سواء في صدد كلمة «صلاة العصر» أو في صدد آيات سورة الأحزاب. فإنها أجلّ من أن ترفض شهادتها أو تسكت عن عدم إثبات آية أو كلمة أو آيات تعتقد أنها قرآن باق بعد النبي. وإذا كان ورود حديثها عن صلاة العصر في «الموطأ» مما يقويه فينبغي أن يلاحظ أن في «الموطأ» حديثا مثله حرفيا عن حفصة. وأن هذا التشابه مما يبعث على الحيرة الجزء الأول من التفسير الحديث 7

والتوقف. وهذا بالإضافة إلى احتمال أن تكون الجملة تفسيرية أو أن تكون نسخت ولم يثبت بقاؤها عند ملأ الصحابة. ومن غير المعقول أن تخالف عائشة الإجماع فتبقي أو تكتب في مصحفها ما لم يثبت في المصحف الإمام. وهذا القول يصح بتمامه كذلك بالنسبة للروايات المروية عن الكلمات الزائدة في بعض الآيات أو الكلمات المبدلة المعزوة إلى بعض الصحابة بقطع النظر عن احتمال الغلط والدسّ وقصد التشويه والتشويش وعن عدم استناد الروايات إلى أسناد موثقة. ورواية مصحف علي ومخالفته لترتيب المصحف المتداول موضع شك كبير أيضا. فإنه لم يرد أي رواية صحيحة تفيد أن أحدا اطلع على هذا المصحف أو رآه متداولا. وقد روي عن ابن سيرين وهو تابعي أنه تحرى هذا المصحف في كل طرف في المدينة فلم يقع عليه، ولو كان صحيحا لعض عليه الشيعة بالنواجذ كما عضوا على أوهى مما ورد في صدد مخالفة أبي بكر وعمر وعثمان، ولم يرو عنهم شيء من هذا. وفي المجموعتين الأولى والثانية روايات عن ثناء علي على أبي بكر وعثمان على ما قاما به من عمل عظيم في صدد جمع القرآن وتحريره ونسخ مصاحفه. فليس والحالة هذه أي مسوغ للشك في كون المصحف المتداول قد احتوى جميع القرآن الذي مات النبي عنه وهو قرآن ثابت نصا وترتيبا بسبب أي رواية من الروايات المماثلة مما قد لا نكون اطلعنا عليها، ونعتقد أن أي رواية من مثل ذلك لن تكون إلا مخترعة أو مدسوسة بقصد سيء أو ناتجة عن لبس وخطأ على أقل تقدير. فإن مما لا يصح أن يشك فيه أن أصحاب رسول الله قد حرصوا كل الحرص واهتموا أشدّ الاهتمام للقيام على أمر تحريره وضبطه على أحسن وجه وأقومه، وأنهم تضامنوا في ذلك كل التضامن حتى كان مصحف أبي بكر الإمام المتطابق لما مات النبي عنه نصا وترتيبا، وأنهم كانوا مسوقين في حرصهم واهتمامهم بسائق ديني ملك عليهم مشاعرهم رهبة وهيبة وتقديسا وتعظيما يبدو واضحا لكل من دقق

- 7 - تابع إلى تعليقات على الروايات والأقوال

في ما ورد عن أصحاب رسول الله وأولي الشأن فيهم من ثناء وتنويه في القرآن ومن ثناء وتنويه من النبي ومن وصف شدة فنائهم واستغراقهم في النبي، وعمق إيمانهم بنبوته وبصلة القرآن بالوحي القرآني، فالعمل لم يكن عملا شخصيا أو سياسيا بل عمل متصل بأقوى عمد الدين وأعظم مظاهر النبوة وأكبر تراث خلّفه النبي فيهم، فمن المعقول الحق أن يكون حرصهم على استقصائه وتحريره وضبطه أشد حرص وأقومه وأتمه. وننبه على أننا استعملنا تعبير «جميع ما مات النبي عنه وهو قرآن» ولم نستعمل تعبير «جميع القرآن الذي نزل على النبي» قصدا لأن في القرآن نصوصا صريحة مكية ومدنية مثل: 1- ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها البقرة: [106] . 2- وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ النحل: [101] . تفيد أنه وقع بعض التبديل والنسخ في بعض آيات القرآن في عهدي النبي المكي والمدني بوحي الله مما هو مؤيد بأحاديث عديدة مثل حديث مروي عن أبي موسى الأشعري جاء فيه «نزلت سورة نحو براءة ثم رفعت» ومثل حديث أخرجه الطبراني عن ابن عمر جاء فيه أن النبي أقرأ رجلين سورة فكانا يقرآن بها فقاما ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف فأصبحا غاديين على رسول الله فذكرا له ذلك فقال إنها مما نسخ فالهوا عنها، ومثل حديث رواه البخاري عن أنس أنه نزل في قصة أصحاب بئر معونة قرآن قرأناه ثم رفع إلخ. - 7-[تابع إلى تعليقات على الروايات والأقوال] ولقد أدرنا الكلام في الفقر السابقة في نطاق الروايات المروية المتعارضة والتعليقات الواردة عليها، وما يتسق مع طبائع الأمور والظروف وما لا يتسق. ونقول الآن إن في القرآن ملهمات تؤيد النتائج التي قررناها، وتوثق الروايات التي

تستند إليها، وتدلّ أو تقوم قرينة على أن القرآن كان يدوّن بانتظام ويحفظ بانتظام وإن آياته قد رتبت في السور وسوره قد رتبت في تسلسل في حياة النبي عليه السلام، مما يعدّ جديدا في هذا الباب لم نطلع على مثله. فأولا إن في بعض السور آيات احتوت قرائن قوية على أن ما كان ينزل من القرآن كان يدوّن حال نزوله وأن مدوناته كانت تحفظ وتتلى على ملأ الناس: 1- ففي سورة القيامة الآيات التالية: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ . فهذه الآيات جاءت معترضة بين آيات متصل قبلها بما بعدها اتصال موضوع وخطاب ونظم، في حين أنها غير متصلة بهذه الآيات موضوعا ولا خطابا ولا نظما كما يبدو حين قراءة السياق بطوله «1» . وقد روي بمناسبتها حديث يستفاد منه أنها نزلت على النبي لأنه كان حينما يتلقى وحي القرآن يحرك شفتيه بما ينزل على قلبه خشية نسيانه. ووجود هذه الآيات في موضعها يلهم بقوة أنها أوحيت إلى النبي في أثناء نزول الآيات التي قبلها والتي بعدها. ولا يصح فرض غير هذا فيما نعتقد لفهم حكمة وجودها في السياق، ولا مناص من فرض ثان مع الفرض الأول وهو أن النبي أمر بتدوين آيات السورة فور وحيها، وأملى على الكاتب هذه الآيات في سياق آيات السورة لأنها أوحيت إليه مع آيات السورة، مع أنها كانت خطابا خاصا له وبقصد تعليمه كيفية تلقي الوحي فدونت كما جاءت. وفي هذه الآيات في موضعها ملهمات أخرى

_ (1) لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ. وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ. أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ. بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ. بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ. يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ. فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ. وَخَسَفَ الْقَمَرُ. وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ. يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ. كَلَّا لا وَزَرَ. إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ. يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ. بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ. وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ. لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ. كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ. وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ إلخ ...

عظيمة الخطورة أيضا في صدد القرآن، فهي تقف أمام أي شك حتى من أشد الناس تشككا بأن ما كان يبلغه النبي من آيات القرآن إنما كان وحيا يشعر به في أعماق نفسه ويدركه ويستمع إليه بإذن بصيرته ويعيه بقلبه، وهي تبين مقدار عظيم حرصه على أن لا يفلت منه أي كلمة أو حرف أو معنى مما كان يوحى إليه به قرآنا فكان يسارع إلى ترديده وإملائه حتى يبلغه تاما كاملا لا تبديل فيه ولا زيادة ولا نقصا ولا تقديما ولا تأخيرا. وهي تقرر معنى من معاني العصمة النبوية في صدد ما يبلغه النبي من وحي القرآن الرباني في توكيدها بأن الله سيثبت في قلبه ما يلقى عليه ويجعله يحيط به ويلهمه فهمه وبيانه. فالنبي بهذا قد عصم من الغلط والنسيان والخطأ والتقديم والتأخير والزيادة والنقص في القرآن، فكل ما بلغه من آيات القرآن هو وحي رباني، وقد بلغ كل ما أوحي إليه به بتمامه وحرفيته. ولعلها تقوم قرينة على أن لا محل ولا معنى للقول إن القرآن نزل على النبي بالمعنى لا باللفظ أيضا. وإذا لاحظنا أن ضمير الآيات هو ضمير المتكلم وأن القرآن كلام الله وأوامره أمكننا أن نقول إن في الآيات دلالة على أن القرآن كان وحيا ربانيا مباشرا ينقذف في قلب النبي فيعيه ويبلغه، أو على الأقل إن هذه الطريقة من الطرق التي كان يوحي الله إلى النبي بما يشاء أن يوحي إليه به وهذا القول يتسق مع طرائق اتصال الله بأنبيائه على ما جاء في آيات سورة الشورى [51- 52] التي شرحناها في بحث سابق. كذلك فإن هذه الآيات تفيد أن ما كان يوحى به إلى النبي عليه السلام كان النبي يبادر إلى الأمر بتدوينه وتسجيله حتى ولو كان موضوعه خاصا به وبصدد تعليمه تلقي الوحي واستيعابه، وأن النبي قد جرى على هذا منذ أوائل نبوته لأن هذه السورة من أوائل القرآن نزولا. وهذا المعنى عظيم من وجهة عصمة النبي في تبليغ كل ما كان ينزل على قلبه من وحي الله بما في ذلك من خطرات النفس وأسلوب تلقي القرآن والتصرف الشخصي أو الحركة الشخصية اللاشعورية، وهو مؤيد بآيات عديدة علّقنا عليها في مناسباتها من التفسير الكامل الذي كتبناه. 2- في سورة طه آية فيها مشهد مماثل لهذا المشهد في معناه وظروفه وهي هذه:

5 - ويسلك في هذا الباب أيضا آيات متشابهة الألفاظ فيها تقديم أو تأخير كلمة فحسب

فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) . وكل ما قلناه بشأن الآيات السابقة يصحّ بشأن هذه الآية. 3- في سورة الشعراء سلسلة طويلة من قصص الأنبياء، وكل من هود وصالح ولوط وصفوا بصفة أخيهم إلا شعيبا فإن هذه الصفة لم تلحق به في حين أنها ألحقت به في فصول سور أخرى «1» . فهذا يلهم بقوة أن الفصول القرآنية دونت كما أنزلت على قلب النبي ولم يكن فيها وصف الأخ لحكمة يعلمها منزل الوحي. ومع أن بعض العلماء قالوا إن مدين التي وصف شعيب في سياق قصتها بأخيهم في سور الأعراف وهود والعنكبوت هي غير أصحاب الأيكة الذين ذكرت قصتهم سورة الشعراء فإن بعضهم قال إنهم واحد. ويلاحظ أولا بأن الكلام عن أصحاب الأيكة مماثل للكلام عن أصحاب مدين. وثانيا أنه لم يجمع في آية واحدة بين الفريقين «2» . وهاتان الملاحظتان تسوغان الترجيح إن لم نقل الجزم بأنهما واحد وتجعلان ما استدللنا عليه في هذه النبذة في محله. 4- ومن هذا الباب الآية التي ذكر فيها إسماعيل واليسع وذو الكفل في سورة ص [48] فكل الأنبياء الذين ذكروا في الآيات المتقدمة أي داود وسليمان وأيوب وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وصفوا بعبد الله وبعباد الله إلا الأنبياء الثلاثة الذين ذكروا في الآية [48] فهذا يلهم بقوة أيضا أن الفصول دونت فورا كما أنزلت على قلب النبي ولم يكن فيها وصف عبادنا للأنبياء الثلاثة لحكمة يعلمها منزل الوحي كذلك. 5- ويسلك في هذا الباب أيضا آيات متشابهة الألفاظ فيها تقديم أو تأخير كلمة فحسب مثل آية المؤمنون [83] لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ في

_ (1) اقرأ آيات الأعراف: [85- 93] ، وهود: [84- 95] ، والعنكبوت: [36- 37] ، مثلا. (2) اقرأ مثلا آيات سورة ق: [13- 14] ، وص: [12- 13] ، والتوبة: [70] ، والحج: [43- 44] .

حين أن آية مماثلة في سورة النمل [68] قد تقدمت فيها كلمة «هذا» كما ترى فيها لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ حيث يصح ما قيل في الفقرتين السابقتين فيها ويستدل منها على الإملاء والتدوين الفوريين. 6- وفي سورة النحل موضوع طريف في صدد ما نحن بسبيل تقريره. فقد اقتضت الحكمة الربانية تبديل آية مكان آية فاستغل المشركون الحادث استغلالا عظيما حتى كان من نتيجة ذلك أن ارتدّ بعض ضعفاء الإيمان في مكة كما يستلهم من آيات السورة هذه: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) . فهذا الحادث يلهم أن آيات القرآن كانت مدوّنة فأمر النبي بوضع آية مكان آية وفقا لما أوحي إليه فكان ما كان من موقف الكفار، ويسوغ القول أن القرآن لا بدّ من أنه كان مدونا يتلى حتى يكون مجال لهذا الموقف. فهذه عدة أمثلة متصلة بعدة سور مكية متفاوتة في فترات نزولها حتى ليصحّ أن يقال إن منها ما نزل أوائل عهد مكة ومنها ما نزل بعدها بقليل ومنها ما نزل في

أواسطه، تحتوي دلائل على أن القرآن كان يدوّن حال نزوله ويتلى وينشر بين الناس ويسمعه المشركون كما يتداوله المسلمون أيضا. 7- إن القرآن المكي احتوى آيات كثيرة تصف القرآن بالكتاب- وهذه الكلمة تأتي بمعنى المكتوب أيضا- ومنها ما يجمع بين الكلمتين معا «الكتاب والقرآن» «1» أي الكتاب المقروء المكتوب «2» ، وتنوه بخطورته وتشير إليه كأعظم مظهر وآية للنبي والنبوة وتذكر أنه أنزل ليتلى على الناس، وأن فيه متنوع الأمثال ليتدبروا آياته ويعقلوها، وأنه أنزل على النبي ليبيّن لهم ما أنزل إليهم من ربهم ويوضح لهم ما اختلفوا فيه كما يستفاد منها أن القرآن نفسه كان موضوع جدل رئيسي بل أهم موضوع جدل بين النبي والمشركين في مكة «3» . فكل هذا يلهم أنه كان يدون وتتلى مدوناته على الناس مسلمين ومشركين كما يلهم أن المسلمين أيضا كانوا يدونونه ليتدبروا ويتذكروا ويتعلموا ويتفقهوا فيه. 8- في سورة الفرقان آية تلفت النظر وهي: وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها «4» فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) فهذه الآية تلهم أن القول ليس مما يرمى جزافا وإنما هو مستند إلى مشاهدة بأن آيات القرآن وسوره كانت تدون وتتلى على الناس في صحف فكان المشركون يصفونها بهذه الصفة، ويريدون بذلك أن النبي كان يستكتبها عن كتب الأولين وأساطيرهم.

_ (1) مثل الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ الحجر: [2] . وطس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ النمل: [1] . (2) يرجح بعض علماء اللغة أن كلمة القرآن مصدر من مصادر «قرأ» ونحن نعتقد أنها متصلة بجذر «قرأ» على كل حال وقد قال بعض المستشرقين إنها دخيلة عبرانية. ولا نرى لهذا مبررا لأن جذر قرأ أصلي في اللغة العربية، على أن ما لا شك فيه أن الكلمة بصيغتها كانت مستعملة قبل نزول القرآن وليس من الضروري أن تكون دخيلة عبرانية معربة إذا لاحظنا خاصة أن العربية والعبرانية تمتّان إلى أصل واحد وأن كثيرا من الجذور فيها متّحد. [.....] (3) هذه الآيات كثيرة جدا ومنبثة في مختلف السور المكية مما يجعلنا في غنى عن التمثيل لها. (4) تأتي بمعنى استكتبها كما ذكر الزمخشري في «الكشاف» .

9- في سورة الواقعة الآيات التالية: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) . وفي سورة عبس الآيات التالية: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) . فهذه الآيات وتلك وإن كانت تشير إلى صلة القرآن بالملائكة وطهارة أصله ومصدره وكرامته فإن روح عباراتها تلهم أيضا وبقوة أن القرآن صار مكتوبا في صحف وصار لهذه الصحف واجب التكريم فلا يمسها إلا المطهرون. وهذا ما كان يجري فعلا كما جاء في الروايات الوثيقة وخاصة في رواية إسلام عمر وصحيفة القرآن التي كانت في يد أخته ورفضها تسليمها إليه إلا بعد أن يتطهر «1» وأصل التقليد الإسلامي الفقهي بعدم جواز مسّ المصحف إلا على طهارة هو من هذا الباب. 10- في سورة الحجر هذه الآية إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ «2» وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) . فهذه الآية إن احتوت وعد الله بحفظ القرآن فإنها احتوت تلقينا توجيهيا للنبي بتدوينه وحفظه أيضا. 11- لقد كثر في القرآن المكي ترديد ذكر أهل الكتاب وكتبهم، وتقرير معنى التطابق بين القرآن وبين هذه الكتب والاستشهاد بأهل الكتاب على صحته ووصف مواقفهم حينما كانت تتلى عليهم آيات القرآن. وطبيعي أن النبيّ كان يعرف أن الكتب السماوية متداولة في أيدي اليهود والنصارى ومكتوبة في صحف وقراطيس، ومجموعة في أسفار أو سجلات، فمما لا ريب فيه أن الآيات التي احتوت ذلك قد احتوت تلقينا توجيهيا للنبي والمسلمين بأن يدونوا الفصول القرآنية ويجمعوها في أسفار وسجلات أسوة بتلك الكتب التي نزل القرآن مصدقا لها ومتطابقا في أسسه وروحه ومصدره معها، ولا يعقل إلا أن يكون النبي والمسلمون قد اعتنوا كل العناية بهذه النقطة.

_ (1) ابن هشام ج 2 ص 2. (2) يعني القرآن.

- 8 - تابع إلى تعليقات على الروايات والأقوال

- 8-[تابع إلى تعليقات على الروايات والأقوال] وثانيا: إن في القرآن المكي ملهمات عديدة لترتيب الآيات في السور وتأليف السور في حياة النبي عليه السلام: 1- فقد تكرر فيه كلمة «سورة» وخاصة في معرض تحدي المشركين وجاءت مرة بتحديهم بالإتيان بسورة ومرة بعشر سور كما ترى في يونس وهود هاتين: 1- أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ (38) . 2- أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ (13) . وعبارة الآيات لا تدع مجالا للشك في أن مدلول السورة هو مجموعة مستقلة من الآيات أو الفصول القرآنية، ولا تدع مجالا للشك كذلك في أن مجموعات القرآن حينما نزلت هذه الآيات- وترتيب السورتين يلهم أنهما مما نزل في أواسط العهد المكي- كانت سورا مستقلة تامة حتى يصح التحدي والتمثيل. وطبيعي أن هذا الأسلوب قد ظل العمل به مستمرا. 2- إن السور المكية المسجعة أو الموزونة أو المقفاة «1» خمس وستون سورة بما فيها الرحمن والإنسان والزلزلة التي نرجح مكيتها والتي ذكرت مكيتها روايات عديدة في حين أن بعض الروايات قال إنها مدنية منها أربع وخمسون قصيرة هي الفاتحة والناس والفلق والإخلاص وأبي لهب والكافرون والكوثر والماعون وقريش والفيل والهمزة والعصر والتكاثر والقارعة والزلزلة والعاديات والقدر والعلق والتين والانشراح والضحى والليل والشمس والبلد والفجر والغاشية والأعلى والطارق

_ (1) الفرق فيما نعتقد هو أن الأصل في المسجوع وحدة القافية دون التزام التوازن وأن الأصل في الموزون هو التوازن دون التزام وحدة القافية. ومن الممكن أن يكون المسجوع موزونا أيضا. وفي القرآن نماذج لكل ذلك. وهناك سور احتوت فصولا متنوعة في الوزن والقافية أيضا. وفي كتابنا عصر النبي وبيئته قبل البعثة عرض وبحث في هذا الباب في فصل اللغة القرآنية.

والبروج والانشقاق والمطففون والانفطار والتكوير وعبس والنازعات والنبأ والمرسلات والإنسان والقيامة والمدثر والمزمل والجن ونوح والمعارج والحاقة والقلم والملك والواقعة والرحمن والقمر والنجم والطور والذاريات وق، ووحدة الموضوع في هذه السور بارزة بروزا تاما. فالغرض الصحيح الذي نعتقد أنه لا يصحّ غيره هو أنه نزل كل منها دفعة واحدة وكسبت شخصيتها كسور مستقلة. وإذا كان من الممكن أن يكون استثناء فهو قليل بالنسبة إلى هذا العدد الكبير من جهة، وهو في الوقت نفسه ليس استثناء ينقض هذا الغرض في جوهره من جهة أخرى. وقد احتطنا بهذا الاستدراك من أجل ما روي من أن آيات العلق الأولى هي أول ما نزل وأنها نزلت منفردة مما يبرره مضمون آيات السورة، ومن أجل ما روي من مثل ذلك بالنسبة إلى آيات سور المزمل والمدثر والقلم الأولى مما يبرره كذلك مضمون آيات السور «1» ثم من أجل ما روي من أن الآية الأخيرة من سورة المزمل مدنية وليست مكية مما يبرره مضمونها أيضا. 3- إن التدقيق في فصول بقية السور المسجعة أو الموزونة المتوسطة إلى سور ص والصافات ويس وفاطر والشعراء والفرقان وطه ومريم والكهف والإسراء والحجر يظهر تلاحق فصولها وانسجامها بالإضافة إلى تسجيعها وتوازنها. وهذا وذاك يلهمان أو يحملان على الترجيح بأنها هي الأخرى نزلت دفعة واحدة أو فصولا متتابعة بدون اعتراض بفصول من سور أخرى إلى أن تمّ كل منها واكتسب شخصيته كسور مستقلة. 4- إن السور المكية غير المسجعة وغير الموزونة ست وعشرون، وهي الأحقاف والجاثية والدخان والزخرف والشورى وفصلت وغافر والزمر وسبأ والسجدة ولقمان والروم والعنكبوت والقصص والنمل والمؤمنون والحج «2» والأنبياء والنحل وإبراهيم والرعد «3» ويوسف وهود ويونس والأعراف والأنعام.

_ (1) في مبحث أوليات الوحي في الجزء الأول من كتابنا «سيرة الرسول» بيان واف لذلك. (2) أدخلنا الحج لترجيحنا أن جلّ آياتها مكي وبعض الروايات تذكرها في عداد السور المدنية. (3) بعض الروايات تذكر سورة الرعد في عداد المدنيات وبعضها تذكرها في عداد المكيات وأسلوبها ومضمونها يحملان على ترجيح مكيتها.

ووصفنا إياها بغير المسجوعة وغير الموزونة هو من وجه عام، وقد احتوى بعضها فصولا مسجوعة أو موزونة أيضا. ومن هذه السور تسع ضاربة إلى القصر أكثر منها إلى التوسط وهي الأحقاف والجاثية والدخان والزخرف والشورى وفصلت وسبأ والسجدة ولقمان وباقيها متوسط وقريب من الطويل وطويل. ومع أنها غير مسجعة وغير موزونة الآيات كما قلنا فإن خواتم آياتها مركزة. والذي يمعن فيها يجد تلاحقا في السياق وترابطا في الفصول، ويجد أكثرها ذا وحدة موضوعية أيضا. وكل هذا يلهم أن الضاربات إلى القصر منها قد نزلت دفعة واحدة وأن ما يحتمل أن لا يكون نزل دفعة واحدة من باقي السور قد نزل فصولا متتابعة من دون اعتراض بفصول من سور أخرى. إلى أن تمّ كل منها واكتسب شخصيته المستقلة. وما جاء في الرقمين 3 و 4 يمكن توثيقه بمميزات القرآن المكي والعهد المكي. فإن هذا العهد كان عهد دعوة، وأحداثه متشابهة من حيث كونها مواقف دعوة وحض وإنذار وتبشير وتنديد وتذكير ووعظ من جانب النبي، ومواقف إنكار وعناد ومكابرة وجدل وتحدّ وأذى من جانب الكفار. والقرآن المكي قد دار جميعه على هذه المواقف المتشابهة فطبيعة هذا العهد لا تقتضي كما يبدو مستقيما نزول فصل من سورة ثم تعقيبه بفصل من سورة أخرى وقبل أن تتم فصول السورة السابقة. وتلاحق فصول السور المكية المتوسطة والطويلة وانسجامها بل ووحدة الموضوع فيها بوجه الإجمال مما يقوم دليلا قويا على ذلك. 5- إن سبعا وعشرين سورة من السور المكية المتنوعة تبتدئ بحروف متقطعة وهي القلم وق والأحقاف والجاثية والدخان والزخرف والشورى وفصلت وغافر وص ويس والسجدة ولقمان والروم والعنكبوت والقصص والنمل والشعراء وطه ومريم والحجر وإبراهيم والرعد ويوسف وهود ويونس والأعراف. وسبع عشرة منها وجلّها من القصار تبتدئ بالإقسام وهي العصر والعاديات والتين والضحى والليل والشمس والفجر والبلد والطارق والبروج والنازعات والمرسلات والقيامة

- 9 - تابع إلى تعليقات على الروايات والأقوال

والنجم والطور والذاريات والصافات. وتسعا وهي متنوعة أيضا تبتدئ بالثناء والحمد والتسبيح وهي الفاتحة والأعلى والملك وفاطر وسبأ والفرقان والكهف والإسراء والأنعام. وتسعا أخرى كلها من القصار تبتدئ بالاستفهام وهي الماعون والفيل والانشراح والقارعة والغاشية والنبأ والإنسان والمعارج والحاقة. وتسعا أخرى من القصار كذلك تبتدئ بخطاب النبي نداء أو أمرا وهي الناس والفلق والإخلاص والكافرون والكوثر والعلق والمدثر والمزمل والجن. وأربعا منها تبتدئ بالدعاء والإنذار وهي المسد والهمزة والتكاثر والمطففون. وخمسا منها تبتدئ بحرف إذا التنبيهي أو التذكير وهي الزلزلة والانشقاق والانفطار والتكوير والواقعة، أي إن ثمانين سورة مكية من مجموع إحدى وتسعين ذوات مطلع خاص فيه دلالة ما على شخصية السورة واستقلالها. أما بقية السور المكية فمنها سبع قصار مسجوعة هي قريش والقدر وعبس ونوح والرحمن والقمر والزمر يجري عليها ما قلناه من طابعها البارز الذي يدل على نزولها دفعة واحدة واكتسابها شخصيتها. والأربع الأخرى وهي المؤمنون والحج والأنبياء والنحل فإن مطالعها تلهم بدء سورة خاصة مستقلة إذا ما أنعم النظر فيها. - 9-[تابع إلى تعليقات على الروايات والأقوال] وثالثا: إذا صحّ ما قلناه واستلهمناه من آيات القرآن المكي وأساليب نظمه من أن القرآن المكي كان يدوّن فورا ويحفظ بانتظام وهو ما نعتقد بصحته فإن هذا ما ينبغي أن يكون صحيحا من باب أولى بالنسبة للقرآن المدني بطبيعة الحال. لأن الحالة بعد الهجرة أصبحت أعظم خطورة من ناحية الدعوة وتطورها إلى تشريع وتركيز، وأصبح المسلمون أكثر طمأنينة واستقرارا، وهذا يتسع للتدوين والحفظ ويقتضيهما من باب أولى. ثم إنه كان في المدينة جالية كبيرة من اليهود، وكان لها أحبارها وربانيوها وقضاتها ومدارسها وكتبها، وقد نشب بينها وبين النبي عليه السلام منذ حلوله في المدينة تشادّ وخلاف وجدل حول الدعوة والقرآن والتوراة والأنبياء، وهذا كله سائق لتدوين القرآن وحفظه بانتظام كذلك. فليس من مبرر

للشك قط في أن ما جرى عليه النبي والمسلمون في مكة من تدوين القرآن فورا وفي الصحف والقراطيس لم يظل مستمرا في العهد المدني. بالإضافة إلى هذا فإن في القرآن المدني أمثلة مشابهة لما ذكرناه في صدد تدوين القرآن المكي. ففي سورة البقرة آيتان متشابهتان مع فرق قليل في النظم وهما هاتان: 1- وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) . 2- وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) . وفي سورتي البقرة وآل عمران الآيتان التاليتان: 1- قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ البقرة: [136] . 2- قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ آل عمران: [84] . وفي سورة التوبة آيتان متشابهتان مع فرق قليل في النظم كذلك وهما هاتان: 1- فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55) . 2- وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85) . والسياق قد يلهم أن كلا من آيتي البقرة قد نزل في سياق طويل في مجلس

واحد، والفرق في النصّ يلهم أن كلا منهما قد دون فورا بعد نزولهما كما أملاهما النبي عليه السلام، وكذلك الأمر في آيتي التوبة أيضا والبقرة من أوائل ما نزل والتوبة من أواخر ما نزل من القرآن. وهذا يعني أن التدوين بدأ منذ أول العهد المدني واستمرّ إلى آخره. والفرق في آيتي البقرة وآل عمران المتشابهتين يلهم ما تلهمه الآيات الأخرى من فورية التدوين بطبيعة الحال. أما من حيث ترتيب آيات القرآن المدني في السور ومن حيث شخصيات سوره فالناظر يجد: 1- أن سورتين منها تبتدئان بحروف متقطعة وهما البقرة وآل عمران. وثماني منها تبتدئ بنداء النبي وتوجيه الخطاب إليه وهي النصر والتحريم والطلاق والمنافقون والمجادلة والفتح والأحزاب والأنفال. وخمسا منها تبتدئ بالتسبيح وهي التغابن والجمعة والصف والحشر والحديد. وثلاثا تبتدئ بخطاب المؤمنين وهي الممتحنة والحجرات والمائدة، أي أن ثماني عشرة سورة من مجموع ثلاث وعشرين ذوات مطالع تلهم أنها مبادئ سور وتلهم أن سورها ذوات استقلال وشخصية. أما باقي السور المدنية وهي البينة ومحمد والنور والتوبة والنساء فمطالعها هي الأخرى تلهم استقلالها وشخصية سورها إذا ما أمعن فيها ولو لم تكن ذات طابع مطلعي خاص. 2- أن من السور المدنية اثنتين قصيرتين جدا وهما النصر والبينة وثلاث عشرة قصارا وهي التحريم والطلاق والتغابن والمنافقون والجمعة والصف والممتحنة والحشر والمجادلة والحديد والحجرات والفتح ومحمد وباستثناء اثنتين منهما وهما الجمعة والمجادلة فإن جميعها أي ثلاث عشرة من خمس عشرة ذوات موضوع واحد. وهذا يلهم أنها نزلت وكسبت شخصيتها دفعة واحدة. كذلك فإن إحدى السور المتوسطة وهي الأنفال ذات موضوع واحد وفصولها تلهم أنها نزلت دفعة واحدة هي الأخرى. 3- أن السور التي احتوت مواضيع عديدة وفصولا متنوعة وغير مترابطة

أحيانا تسع منها اثنتان قصيرتان هما الجمعة والمجادلة، واثنتان متوسطتان هما الأحزاب والنور، وخمس طوال هي التوبة والمائدة والنساء وآل عمران والبقرة وفي الحق أن مواضيع هذه السور وفصولها تلهم أنها لم تنزل دفعة واحدة ولا فصولا متتابعة بدون اعتراض، وتلهم أنها ألّفت تأليفا على ما هي عليه في المصحف بعد تكامل فصولها من دون سائر السور القرآنية المكية والمدنية. ونرجح أن الكلام والتخمين في أمر ترتيب آيات القرآن في سورها قد كان بسبب هذه السور وحولها في الدرجة الأولى لأن وحدة موضوع سائر السور ونظمها وتلاحق سياقها وتناسب فصولها المتتابعة يلهم وحدة النزول أو التتابع فيه. والذي نعتقده أن ترتيب آيات وفصول هذه السور على الوجه الذي هو عليه في المصحف المتداول قد كان في حياة النبي وبأمره وأن ما ورد عن زيد بن ثابت- وهو أنصاري- في حديث تأليف القرآن من الرقاع على عهد النبي «1» وما جاء من أحاديث تتضمن أن النبي كان يوحى إليه بفصل قرآني من السور ذوات العدد كما جاء في حديث عثمان «2» أو بكلمة ثانية ذوات الفصول المتعددة ويمليه على كتّاب وحيه يأمرهم بوضعه في مكان من سورة يعيّنها لهم هو الصورة الصحيحة الصادقة لما كان يقع خاصة في صدد هذه السور المدنية السبع. ولعل من ملهمات القرآن على صحة ذلك التناسب البارز بين كثير من الفصول في هذه السور وخاصة في السور الطويلة موضوعا أو مدى أو مفهوما أو مناسبة حينما ينعم النظر فيها مما نبهنا عليه في التفسير من مثل تسلسل الأسئلة وأجوبتها التشريعية في سورة البقرة، وتسلسل فصول أحكام الأسرة في سورة النساء وتسلسل فصول أهل الكتاب في سورة المائدة، وتسلسل فصول الجهاد ومواقف المشركين والمنافقين في سورتي آل عمران والتوبة، وتسلسل الفصول التأديبية والتعليمية والإرشادية وما يتصل بمشاكل الأسر في سورة النور، وتناسب فصول سورة الأحزاب في الحملة على المنافقين والكفار والتنديد بمواقفهم

_ (1) المجموعة الثالثة. (2) المصدر نفسه.

المختلفة من جهة وتناسب فصولها الأخرى في صدد التأديب والأنكحة في حين أن من هذه الفصول والآيات ما نزل متأخرا أو ما نزل متقدما أو ما نزل بعد فصول سور أخرى إلخ مما نبهنا عليه في التفسير وما يمكن أن نمثل عليه بفقرة من آية النساء [25] التي تذكر أن على الإماء المحصنات نصف ما على الحرائر من الحد، حيث وضعت هذه الفقرة في الآية لمناسبة السياق في حين أنها نزلت حتما بعد آية سورة النور [2] التي تذكر الحدّ على الزناة. ولعل من ملهمات القرآن كذلك على ترتيب آيات وفصول هذه السور المتنوعة الفصول في حياة النبي الآية الأخيرة من سورة النساء في وارث الكلالة، حيث يلهم وضعها أنها نزلت متأخرة وبعد أن تم تأليف السورة فألحقت بأمر النبي بالسورة ولو بآخرها لأن الموضوع الذي تتصل به قد جاء في سورة النساء. ولو كانت فصول سورة النساء وآياتها لم ترتب على عهد النبي وبأمره أو لو كانت هذه السورة غير مرتبة الآيات والفصول حينما نزلت الآية لكانت وضعت، على ما يبدو مستقيما في سياق فصل التوارث مثل عقوبة الإماء المحصنات التي وضعت في مناسبتها، وهذه ظاهرة خطيرة أو بالأحرى دليل قرآني حاسم على أن ترتيب السور إنما تم في حياة النبي وأمره. ومن هذه الملهمات آية الأحزاب [49] بشأن عدة المطلقة بدون مسّ ودخول. وقد احتوت البقرة سلسلة آيات بهذا الشأن [235- 241] وقد انصبت كلها على مهورهن. أما آية الأحزاب فذكرت عدم وجوب العدة عليهن. فلو كانت سورة البقرة لم يتم ترتيبها في عهد النبي عند ما نزلت آية الأحزاب لكان المتبادر أن تلحق بسلسلة البقرة للتناسب الوثيق ولما وضعت في سورة الأحزاب كفصل خاص لا صلة له بسابق ولا لاحق. ومن باب أولى أن يكون ذلك لو كان الترتيب تمّ في عهد أبي بكر. ولقد يرد أن هناك آيات مدنية في سور مكية وآيات مكية في سور مدنية، وأن هذا قد يقوم قرينة على أن السور المكية لم تكن تامة الترتيب في العهد المكي الجزء الأول من التفسير الحديث 8

ونقول من حيث الأساس إن الآيات المدنية المروية في السور المكية ليست كثيرة العدد حتى مع التسليم بصحة رواية مدنيتها جميعها. ففي مصحف مصطفى نظيف قدور أو غلي المطبوع من قبل عبد الحميد أحمد حنفي والمصدق عليه من قبل اللجنة المعينة بأمر الملك فؤاد (147) آية قيل إنها مدنية في (34) سورة من مجموع الآيات البالغ عددها أربعة آلاف ونيفا، فليس مما ينقض ما قررناه وجود هذه الآيات في هذه السور بحيث يمكن أن يفرض أن النبي أمر بإضافة هذه الآيات إلى المكان المناسب لها في السور المكية لتناسب السياق أو الموضوع أو لتدعيمه، ولا يترتب على هذا أن لا تكون السور المكية مرتبة قبل ذلك. هذا مع أن دمج هذه الآيات في سياق مناسب لها في سور مكية يدل دلالة قوية على العكس، أي على أن الآيات المكية كانت مرتبة في سورها من جهة وعلى أن ترتيب الآيات في السور قد كان في حياة النبي وأمره بل وعلى أن عملية التأليف والترتيب والتركيز كانت مستمرة بأمر النبي وتناسب الموضوع وتلازمه بين الآيات المدنية التي لا تحتمل مدنيتها شكا في السور المكية وهي آخر آية في سورة المزمل وآخر آية في سورة الشعراء والآيات [164- 171] في سورة الأعراف يعد دليلا قرآنيا على أن وضعها كان بأمر النبي، ومؤيدا لما نحن في صدد تقريره، فآية المزمل الأخيرة تخفف التكليف الذي كلف به النبي في أولها من قيام الليل وتعذر المسلمين بسبب كثرة مشاغلهم وواجباتهم التي منها القتال الذي لم يكن إلا في العهد المدني، وآية الشعراء تستثني الشعراء المسلمين الذين كانوا يقابلون شعراء المشركين على هجوهم النبي والمسلمين من النعت الذميم الذي نعت به الشعراء وآيات الأعراف في صدد حادثة عدوان اليهود في يوم السبت وما كان من غضب الله عليهم بسببه وقد وضعت في سلسلة قصة بني إسرائيل وبدئت بأمر النبي بتذكير يهود المدينة بأمرهم. فالتناسب قائم بين الآيات المدنية والفصول المكية كما هو ظاهر. أما الروايات عن الآيات المكية في السور المدنية فإنها قليلة جدا فهي في المصحف الذي ذكرناه سبع آيات في الأنفال [30- 36] وآخر آيتي التوبة والآية

- 10 - تابع إلى تعليقات على الروايات والأقوال

[13] من سورة محمد وقد شككنا في الروايات لأن مضامين الآيات وسياقها يحمل على التوقف بالإضافة إلى روايات أخرى تخالفها. ومع ذلك فعلى فرض صحتها فإنها ليس من شأنها أن تخلّ بما نقرره وأن تمنع أن يكون النبي قد أمر بإخراج بعض الآيات من سور مكية وإضافتها إلى سياق مناسب لها أكثر في سور مدنية بل إن في هذا نفس الدلالات التي ذكرناها آنفا. وعلى كل حال فليس من المعقول أن يتصرف الصحابة بعد النبي فينقلوا آيات من سور مكية إلى سور مدنية وآيات من سور مدنية إلى سور مكية البتة، وأنه لا يكاد يتحمل شكا في أن نقل آيات نزلت في عهد إلى سور أو مجموعة آيات نزلت في عهد آخر إنما يكون وقع في حياة النبي وبأمره. وقد يرد ما ذكرته الروايات عن آخر الآيات نزولا مثل آيات الدين أو الربا في سورة البقرة، فعلى صحة هذه الروايات فإنه ليس فيها ما ينقض ما قررناه من ترتيب آيات القرآن في السور في حياة النبي عليه السلام وبأمره، إذ من الممكن والمعقول أن يفرض أن النبي هو الذي أمر بوضعها في مكانها التي هي فيه الآن كما كان شأن آخر آيات سورة النساء، بل وإن وجود هذه الآيات في مواضعها ليقوم دليلا على صحة هذا الفرض بل وعلى أن لا يكون إمكان لغرض غيره. ففي سورتي البقرة وآل عمران مثلا آيات مقاربة لموضوع الآيات المذكورة، في سورة البقرة، فلو لم تكن الآيات موضوعة في مكانها بأمر النبي لكانت وضعت هذه الآيات المتقاربة في سلسلة واحدة. ويقاس على هذا غيره. - 10-[تابع إلى تعليقات على الروايات والأقوال] ورابعا: أما ترتيب السور في تسلسلها على ما هو في المصحف المتداول فليس في القرآن ما يمكن أن يستلهم منه على أن ذلك قد تم في حياة النبي وبأمره، إلا قرائن قليلة قد لا تكون شافية. منها عدم فصل سورة التوبة عن سورة الأنفال في البسملة وتقديم الأنفال عليها مع أنها ليست من الطوال ولا من المئين. والسورتان إذا اجتمعتا تكونان سورة طويلة وتنسجمان مع السور الطوال الست

السابقة. والثابت المؤيد بمضامين السورتين أن الأنفال من أوائل ما نزل في المدينة في حين أن التوبة من أواخر ما نزل فيها فورودهما واحدة وراء الأخرى وفي سلك الطوال ودون فاصل ببسملة يلهم أنه بأمر النبي إذ لو كان هذا الترتيب بعده لو ضعت الأنفال في سلسة المثاني كما هو شأن سورتي النور والأحزاب المدنيتين اللتين جاءت كل منهما منفردة بين سور مكية ومنها ما يلاحظ من الشذوذ في ترتيب السور الأطول وما يليها. فسورة المائدة أقصر وأقل عدد آيات وحيزا من سورتي الأنعام والأعراف بل ومن سورة التوبة بمفردها ولكنها جاءت قبلها. وسورة الشعراء من حيث عدد آياتها تأتي بعد سورة البقرة فهي أكثر عدد آيات من سائر السور الطويلة وسور المئين وقد جاءت مع ذلك بعد ثلاث وعشرين سورة كلها أقل عدد آيات منها ومنها ما هو أقل حيزا أيضا وآيات سورة الصافات التي جاء ترتيبها متأخرا جدا أكثر عددا من آيات سور النساء والمائدة والأنعام وهي أكثر آيات من جميع السور باستثناء البقرة والشعراء والأعراف والنساء وسور إبراهيم والرعد، والحجر أقل حيزا وعدد آيات من سور النحل والإسراء والكهف ومريم وطه ومع ذلك فقد جاءت قبلها. وسورة الأحزاب أكبر حيزا وأكثر عدد آيات من سور الروم ولقمان والسجدة التي سبقتها. وسورة الأعراف أكثر عدد آيات وأكبر حيزا من سورتي الأنعام والمائدة اللتين تقدمتاها. وسورة القصص أكبر حيزا وأكثر عدد آيات من سور الفرقان والنور والحج وأكبر حيزا من سورة النمل التي تقدمتها. وسورة غافر أكبر حيزا وأكثر عدد آيات من سور الزمر ويس وفاطر وسبأ وأكبر حيزا من سورة ص التي تقدمتها ومثل هذا يقال في سورة الزمر وما تقدمها من بعض السور وما ذكرناه هو الشذوذ البارز. وهناك غيره غير قليل مما يدخل في هذا النطاق من حيث الحيز وعدد الآيات أو الأمرين معا بين السور المتوسطة والقصيرة ففي هذا على ما يتبادر لنا ملهمات بأن الترتيب قد كان بأمر النبي للحكمة التي رآها اجتهادا أو بناء على وحي رباني، فلم يكن من شأن أصحابه من بعده أن يبدلوا أو يغيروا فيه ولو لم يكن الأمر كذلك لاجتهدوا في إتمام النسق وفقا للترتيب الذي رأوه وجيها من تقديم الأطول ثم الذي يليه دون ما شذوذ بارز على الأقل. وليست

السور مرتبة بحسب مكيتها ومدنيتها أو بحسب نزولها حتى يعلل هذا الشذوذ بذلك وليس هذا بعسير التعيين والعمل كما يبدو للمدقق في السور. وننبه على أننا هنا بسبيل الاستلهام من القرآن. ونعتقد أن ما قررناه تعليقا على الروايات والأحاديث والأقوال بأن ترتيب الآيات في السور وترتيب السور في تسلسلها المتداول في حياة النبي وبأمره هو قوي بذاته فضلا عن ما تلهمه القرائن القرآنية، وقوته مستمدة بنوع خاص من اتساقه مع طبائع الأمور والظروف، ومن سكوت جميع الروايات والأحاديث المتصلة بأصحاب رسول الله عن القول بأن تحرير المصحف في زمن أبي بكر ونسخ المصاحف في زمن عثمان قد استهدفا ترتيب آيات في سور أو سور في تسلسل أو تناولاه ولهذا دلالته الخطيرة، ومن أن مصحف عثمان هو نسخة طبق الأصل لمصحف أبي بكر وهو أصل المصحف المتداول في ترتيب آياته وسوره. هذا وأخيرا نريد أن ننبه على أمر مهم في صدد هذه المباحث ومداها فإن ما تناولته إنما هو بسبيل البحث العلمي والتاريخي، وليس من شأنه أن يمسّ لبّ الموضوع، وهو كون القرآن المتداول بين المسلمين والذي هو في متناول الجميع سوره وفصوله ومجموعاته وآياته وكلماته ونظمه متصلا بالنبي وصادرا عنه مباشرة بوحي رباني نزل على قلبه، وكون هذا لم يكن في وقت من الأوقات موضع أخذ وردّ ومحل شك وتوقف من قبل المسلمين على اختلاف نحلهم وفرقهم وأهوائهم ومن لدن مشاهدي العيان في حياة النبي إلى الآن، كما أن صدوره مباشرة عنه لم يكن محل ريب من قبل غير المسلمين أيضا، وكون ما جاء ذكره في الروايات جميعها وعلى ما فيها من علل كثيرة من الآيات والكلمات والحروف لا يزيد على أكبر تقدير عن واحد في المائة من آيات القرآن التي تزيد عن ستة آلاف ومئتين، وكلماته التي تزيد عن سبعة وسبعين ألفا وحروفه التي تزيد عن ثلاثمئة ألف، وكون هذه النسبة التافهة جدا مع العلل الكثيرة التي تجعلها غير صحيحة ليس من شأنها أن تخل بتلك الحقيقة المسلم بها، وأن القرآن كان وظلّ ولن يزال معجزة النبي العظمى الخالدة أصفى منبع للأحكام والعقائد والتشريع والإلهام والفيض والتوجيه

والتلقين، فيه الحق والهدى والصدق والرشد، وفيه المبادئ السامية والشفاء للصدور والعلاج للنفوس والحلول لمتنوع المشاكل الإيمانية والروحية والسلوكية للناس كافة، أنزله الله على قلب نبيه الكريم وخلفه النبي عليه السلام في المسلمين فلا يضلّون أبدا إذا ما اتبعوه وتمسكوا به، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم. وإنه ليصحّ أن يقرر جزما أنه قد ظل سليما في حفظ الله محفوظا كل الحفظ من كل تبديل وتغيير وتحريف وزيادة ونقص مجمعا عليه في رسم واحد ونصّ واحد ومصحف واحد وترتيب واحد في مشارق الأرض ومغاربها، وظل يحتفظ بإشراقه وسنائه وروحانيته، ونفس ألفاظه وحروفه وأسلوب ترتيله وتلاوته التي تلاها رسول الله وبترتيبه الذي وضعه، وبكل ما فيه من معاتبات ومؤاخذات وبهت وتكذيب وهزء وزراية ونسبة افتراء وسحر وشعر وكهانة وتعلم واقتباس وجدل مع مختلف طبقات الناس، ومن تقريرات لحقيقة شخصية الرسول البشرية، وتطور في التشريع والمواقف المتنوعة مما لم يتيسر لأي كتاب سماوي ولا لأي نبي، وظل بعد هذا مرجع كل خلاف، والحكم في كل نزاع بين المسلمين على اختلاف فرقهم وأهوائهم والقول الفصل في كل مذهب وعند كل نحلة من مذاهبهم ونحلهم على كثرتها، فتحققت بذلك معجزة الآية الكريمة إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] وإنها لمعجزة كبرى تستحق التنويه في هذا المقام، ويكفي لتبيين خطورتها أن نذكر ما كان من فتن وخلاف وشقاق وحروب منذ صدر الإسلام الأول وما كان من اجتراء الناس في ذلك العهد وبعده على رسول الله والكذب عليه في وضع الأحاديث المتضمنة تأييد فئة على فئة ورأي على رأي ودعوة على دعوة ولإضعاف ذلك بالمقابلة، وما كان من وضع الروايات والأحاديث لصرف آيات من القرآن إلى غير وجهها بسبيل ذلك، وما كان من استعلاء قوم على قوم وشيعة على شيعة استعلاء القوة والسلطان مع اشتداد العداء والتجريح واشتداد تيار الأحاديث المفتراة، وأن نذكر أن هذا كان في حين لم يكن القرآن مطبوعا أو مصورا، وفي حين لم يكن من المستحيل أن يجرأ الذين اجترءوا على رسول الله وعلى كتاب الله

- 11 - خاتمة لموضوع تدوين القرآن

فيغيروا ويبدلوا ويزيدوا وينقصوا شيئا جوهريا سائغا على المسلمين وينشروا به مصاحف جديدة وخاصة في الآيات التي حاولوا صرفها لتأييد الآراء والأهواء أو إضعافها لتكون أكثر مطابقة مع الوجوه التي أريد صرفها إليها سلبا وإيجابا ونفيا وإثباتا، وفي حين كانت الكتابة العربية سقيمة محرجة ولم يكن قد اخترع الشكل والإعجام، وكان التشابه بين الحروف كثيرا واحتمال اللبس قويا، وحفظت ببركته اللغة العربية القرشية التي نزل بها قوية مشرقة بكل ما وصلت إليه من سعة وبلاغة ودقة وقوة ونفوذ وعمق لتظل لغة الأمة العربية الفصحى في كل صقع وواد، وفي كل دور وزمان وهو ما لم يتيسر لأمة من أمم الأرض ولتكون إلى ذلك لغة عبادة الله لجميع الملل الإسلامية المنتشرة في أنحاء الأرض خلال ثلاثة عشر قرنا ثم خلال القرون الآتية إلى آخر الدهر بل ولتترشح لتكون لغة العالم الإسلامي، وحفظت ببركته الأمة العربية قوية الحيوية دون أن يبيدها ما نزل بها من صروف الدهر الجسام التي أباد أخف منها من هو أقوى منها تكمن فيها مواهبها العظيمة وخصائصها القومية التي جعلتها خير أمة أخرجت للناس إن هي قامت بما حملها إياه القرآن من عبء الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. - 11-[خاتمة لموضوع تدوين القرآن] وإتماما لموضوع تدوين القرآن نرى أن نورد بعض البحوث الموجزة في أمور تتصل به. فأولا أسماء السور: 1- إن الضابط أو الأصل العام في تسمية السور القرآنية على ما يبدو من أسمائها هو تسمية السورة بكلمة أو باشتقاق كلمة واردة فيها. وإذا كانت الأسماء المشهورة لبعض السور لا تستمد من هذا الأصل مثل سور الفاتحة والأنبياء والإخلاص فإن هناك روايات بأسماء أخرى لهذه السور تستمد منه مثل الحمد للأولى واقتربت للثانية والصمد للثالثة.

2- على أن بعض المصاحف يختلف عن بعض في الأسماء مع المحافظة على ذلك الأصل فسورة التوبة مثلا تذكر في بعض المصاحف باسم «براءة» والإسراء باسم «إسرائيل» وغافر باسم «المؤمن» وفصلت باسم «السجدة» والملك باسم «تبارك» والنبأ باسم «عم» والبينة باسم «لم يكن» والتبت باسم «أبو لهب» والإخلاص باسم «الصمد» . 3- وهذا الاختلاف ناشىء عن روايات مختلفة معزوة إلى بعض الصحابة كما أن هناك روايات مثلها بتسمية سور أخرى بأسماء أخرى وإن لم نطلع على مصاحف تذكر ذلك مثل سورة التوبة التي يروى أن من أسمائها: «العذاب والمشردة والمنكلة والمدمدمة والمتشقشقة» والفاتحة التي يروى من أسمائها «السبع المثاني والوافية والشافية والصلاة والدعاء وأم القرآن والقرآن العظيم» والأنفال والشعراء والنمل والسجدة والزمر وفصلت والجاثية وق والمجادلة والحشر والطلاق والصف والنصر التي لها أسماء أخرى هي بالتوالي بدر والجامعة وسليمان والمضاجع والغرف والمصابيح والشريعة والباسقات والظهار والنضير والنساء الصغرى والحواريين والتوديع. وهناك كذلك روايات سميت فيها بعض السور بأكثر من كلمة واحدة مثل سورة المؤمنون التي ذكرت بتعبير «قد أفلح المؤمنون» والإنسان بتعبير «هل أتى على الإنسان» والأعلى بتعبير «سبح اسم ربك الأعلى» والليل بتعبير «والليل إذا يغشى» . 4- هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن هناك أحاديث وروايات مختلفة في طريقة تسمية السور. فقد روي عن أنس بن مالك حديث جاء فيه «لا تقولوا سورة البقرة ولا سورة آل عمران ولكن قولوا السورة التي يذكر فيها البقرة والسورة التي فيها آل عمران. وقد ذكرت جلّ السور في تفسير ابن عباس رواية أبي صالح بالطريقة الثانية، في حين أن البخاري روى عن ابن مسعود في معرض تجويز القول سورة كذا أنه قال هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة، وأن هناك أحاديث نبوية وصحابية نقلناها في المجموعة الثالثة في مبحث تدوين وترتيب القرآن احتوت

- 12 - فصل السور بالبسملة: وثانيا - فصل السور بالتسمية:

أسماء بعض السور بالطريقة المختصرة المتداولة أي سورة البقرة وسورة آل عمران وسورة النساء وسورة الكهف إلخ، بل هناك حديث طويل منسوب للنبي ورد فيه جميع أسماء السور وفضائلها ذكره الزمخشري والخازن والبيضاوي في تفسير هم بالطريقة المتداولة المختصرة وأوردوا وراء تفسير كل سورة فضيلة السورة المذكورة في الحديث. 5- ومن جهة ثالثة فإن أسماء السور لم تكتب في جميع المصاحف المخطوطة التي هي الأصل في المصاحف المطبوعة والتي كانت هي المتداولة قبل الطباعة على رؤوس الصحف حيث منها ما كتب فيه الأسماء على رؤوس الصحف وفي فواصل السور ومنها ما كتبت فيه الأسماء في فواصل السور فقط. فكل ما تقدم يمكن أن يسوغ القول إن كتابة أسماء السور في فواصلها وعلى رؤوس صحف المصاحف حسب المتداول ليست واردة في مصحف عثمان لأنها لو كانت كذلك لما كان محل لهذا الخلاف في التسمية والكتابة، وإنما هو عمل تنظيمي متأخر عن نسخ هذا المصحف. وقد يكون- بل هذا هو الأرجح- مستندا إلى روايات تنوقلت فكتبت في المصاحف وكتب القراءات والتفاسير على الوجه الشهير المتداول أو المختلف أحيانا، ونرجح بناء على ذلك أيضا أن للأحاديث والروايات أصلا صحيحا ما، وأنه كان للسور كلها أو كثير منها منذ عهد النبي أسماء تذكر وتعرف بها. - 12- فصل السور بالبسملة: وثانيا- فصل السور بالتسمية: إن المصحف العثماني ومصحف أبي بكر الذي نسخ ذلك عنه قد فصل بين السور فيه بالبسملة كما يستفاد من أحاديث ابن عباس وابن مسعود التي أوردناها في المجموعة الثالثة من بحث التدوين. وليس من خلاف في ذلك بين المصاحف المتداولة. ولذلك يصح أن يقال بشيء من الجزم إن هذا متصل بأول ترتيب

السجدات: وثالثا - السجدات ومواضعها:

للمصحف من عهد أبي بكر وبالتالي بترتيب السور في حياة النبي. وهناك اختلاف في ما إذا كانت البسملة آية أصيلة في كل سورة أم لا. ومنشأ هذا الخلاف على الأرجح أحاديث ابن عباس وابن مسعود من أن الوحي كان ينزل بالبسملة في أول كل سورة، وإنهم كانوا يعرفون أنها سورة جديدة بذلك. فمن أخذ بهذه الأحاديث اعتبر البسملة آية أصلية ومن لم يأخذ بها لم يعتبرها كذلك، هذا مع التنبيه على أن الجمهور على أن البسملة في الفاتحة آية أصلية. ومهما يكن من أمر فإن هذا الخلاف لا ينقض ما جزمنا به من اتصال فصل السور بالبسملة منذ ترتيب المصحف الأول. السجدات: وثالثا- السجدات ومواضعها: إن هناك أحاديث عديدة متصلة بأصحاب رسول الله ومستندة إلى مشاهدة النبي على اختلاف وتفاوت في أسنادها ومتونها تعين أربع عشرة سجدة في القرآن. وللفقهاء بحوث مستندة إلى هذه الأحاديث في وجوب السجود عند تلاوتها أو استحسانه أو عدم وجوبه في بعضها دون بعض حيث أوجبه بعضهم في بعضها واستحبه في بعضها ولم يوجبه في بعضها على اختلاف في ذلك مرجعه اختلاف متون الأحاديث وأسنادها ورتبها مما لا نرى ضرورة للتوسع فيه هنا. ونكتفي بالقول إن هذا الاختلاف يدل على أن مواضع السجدات لم تكن معينة كتابة أو إشارة في مصحفي أبي بكر وعثمان، وإن رواياتها ظلت تتناقل فأخذ بعض نساخ المصاحف يشير إلى مواضعها فيها متأخرا عن ذينك المصحفين كعمل تنظيمي وفي وقت ليس من السهل تعيينه، وإن كان اختلاف أئمة المذاهب يمكن أن يساعد على القول، إن ذلك كان في القرنين الثاني والثالث الهجريين. ورابعا- مبادئ الأجزاء والأحزاب: إن هناك كذلك بعض الخلاف في مبادئ الأجزاء والأحزاب وأواخرها، وليس هناك فيما اطلعنا عليه أحاديث متصلة بالنبي أو أصحابه عن هذه التقسيمات

- 13 - كتابة ترتيب نزول السور القرآنية وعدد آياتها:

الموجودة في المصاحف المتداولة عدا الحديث المطلق الذي أوردناه في المجموعة الثالثة عن تحزيب القرآن والذي لا يفيد شيئا في ما نحن بصدده، وإن كان يستأنس به أن قراء القرآن منذ حياة النبي عليه السلام كانوا يقرأونه أقساما أقساما، ويقفون عند مواقف خاصة حينما يتوقفون عن القراءة. وهذا يسوغ القول إن هذه التقسيمات في المصاحف عمل تنظيمي متأخر عن المصحف العثماني، مع التنبيه على أن ذلك الحديث يمكن أن يكون الباعث عليه. ولعله مستند إلى قراءة القراء التي كان القراء يتلقونها شفهيا خلفا عن سلف إلى أن تتصل بأصحاب رسول الله. - 13- كتابة ترتيب نزول السور القرآنية وعدد آياتها: خامسا- كتابة ترتيب نزول السور وصفاتها وعدد آياتها وأرقامها وفواصلها: إن بعض المصاحف تذكر في فواصل السور: (1) ترتيب نزول كل سورة أي أن السورة قد نزلت بعد السورة الفلانية. (2) وصفة كل سورة أي مكية أو مدنية. (3) وعدد آيات كل سورة. (4) ورقم الآيات المدنية في السورة المكية ورقم الآيات المكية في السورة المدنية إذا كانت السورة احتوت آيات مكية ومدنية معا. (5) ورقم كل آية بعد كتابتها في السورة. في حين أن بعض المصاحف لا تذكر شيئا من هذا وتكتفي بذكر اسم السورة، وأن بعضها تذكر بعض هذه الأمور دون بعض وأن بين المصاحف التي تذكر هذه الأمور جميعها أو بعضها اختلافا في ما تذكره حيث يذكر بعضها سورة ما مكية بينما يذكرها بعضها مدنية. وحيث يكون عدد آيات السورة في مصحف أقل أو أكثر منه في مصحف آخر، وحيث يكون عدد الآيات المكية والآيات المدنية في السور المدنية والمكية وأرقامها في مصحف مغايرة لعددها وأرقامها في مصحف آخر، وحيث توضع فاصلة وراء آية ما في بعضها بينما لا تكون مفصولة في بعضها، وحيث تكون الفواصل بين الآيات في بعضها صماء بينما تكون في بعضها تحمل رقم الآية المتسلسل.

فالواضح من كل ذلك أن هذه الأمور- عدا فصل الآيات بفاصلة ما- هو عمل تنظيمي متأخر وليس له أصل في المصحف العثماني. وقد استثنينا فصل الآيات بفاصلة ما لأننا نعتقد أن المصحف العثماني لم يسرد الآيات سردا دون فصل بينها، ولأن الآية هي الوحدة القرآنية الصغرى المستقلة، وقد أشير إليها في القرآن نصا كذلك كما جاء مثلا في آية النحل [101] هذه وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ. فلا يعقل إلا أن توضع فواصل بين الآيات. ولعل الفاصلة التي كانت تفصل بين الآيات في المصحف العثماني هي نقطة صماء. وهناك اختلاف في عدد آيات كثير من السور. وقد ذكر السيوطي في «الإتقان» أن المتفق على عدد آياته أربعون سورة فقط. ومع أن هناك حديثا أورده ابن العربي عن النبي عليه السلام ونقله السيوطي يفيد أن الفاتحة سبع آيات والملك ثلاثون آية فإن هذا لم يمنع الخلاف على عدد آيات هاتين السورتين أيضا. وقد قال بعض العلماء إن سبب اختلاف السلف في عدد الآيات أن النبي عليه السلام كان يقف على بعض كلمات من الآيات فيحسب السامع أنه يقف على آخر الآية. على أن مما يرد أن يكون ليس في تمييز بعض الفواصل في المصحف العثماني فكان هذا الخلاف في المصاحف التي نسخت عنه وتدوولت. وننبه على أن الخلاف في عدد الآيات ليس كبيرا، وكل ما تناوله دار في نطاق ضيق من نقص آية أو آيتين في بعض السور أو زيادة آية أو آيتين في بعض آخر مثل وصل بعضهم كلمات «طسم وطس» في سور الشعراء والنمل والقصص و «الم» في سورة العنكبوت وغيرها و «الر» في سورة يونس وغيرها و «حم» في سورة فصلت وغيرها وعدها موصولة مع ما بعدها أو مفصولة عنه فتكون آية عند من عدها مفصولة ولا تكون كذلك عند من عدها موصولة، ومثل عدّ البسملة آية في سورة الفاتحة وعدم عدها، وعدّ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ في سورة الفاتحة آية عند بعضهم أو آيتين عند بعض آخر.

ونقول في صدد ترتيب نزول السور إننا اطلعنا على عدة ترتيبات. منها ترتيب المصحف الذي اعتمدناه ونعني مصحف قدور أو غلي، ومنها ترتيب للسيوطي استند فيه إلى ما اعتمده من الروايات، ومنها ترتيب في تفسير الخازن وآخر في تفسير الطبرسي، وثلاثة أخرى أوردها السيوطي في «الإتقان» منسوبة إلى الحسن وعكرمة وابن عباس وجابر. وبين هذه الترتيبات تخالف يسير أو كبير، مع التنبيه على أن مضامين بعض السور المكية والمدنية تسوغ التوقف في ترتيبها الوارد في هذه الترتيبات، وتحمل على القول إنها لا تمثل الحقيقة تمثيلا صادقا، وإنه ليس هناك ترتيب يثبت على النقد والتمحيص بكامله أو يستند إلى أسناد وثيقة متصلة بالعهد النبوي. فهناك روايات عديدة مختلفة في صفات بعض السور وبينما يسلك بعضهم سورا في سلك السور المكية أو بالعكس مثل سور الرعد والحج والرحمن والإنسان والزلزلة والفلق والناس والإخلاص والكوثر وقريش والعصر والعاديات والقدر والمطففون والفاتحة التي تسلكها بعض الروايات في السلك المدني بينما تسلكها روايات أخرى في السلك المكي، ومثل سور الحديد والصف والتغابن والبينة التي تسلكها بعض الروايات في السلك المكي، بينما تسلكها روايات أخرى في السلك المدني. وفضلا عن ذلك فإن في القول بترتيب نزول سور القرآن تجوزا خاصة بالنسبة لبعض السور المدنية حيث تلهم مضامينها أن بعض فصول سور متقدمة في روايات الترتيب قد نزلت بعد بعض فصول سور متأخرة فيه، وإن فصول هذه السور قد ألفت تأليفا متأخرا عن نزولها وقتا ما مما ذكرنا بعض نماذجه ونبهنا عليه في بحث سابق. وكل ما يمكن أن يقال في مثل هذه السور إن وضعها في ترتيب النزول كسور تامة بعد سور تامة حقيقة أو رواية إنما جاء من أن فصلها الأول أو فصولها الأولى قد نزلت بعد الفصل الأول أو الفصول الأولى من السورة التي قبلها. ولقد أجمعت الروايات مثلا على أن سور العلق والقلم والمزمل والمدثر هي أوائل السور نزولا على اختلاف في الأولية بينها، وعند التدقيق تراءى لنا أن هذه

تميز الأسلوب المكي والأسلوب المدني:

الروايات محل نظر، فالآيات الأولى من سورة القلم احتوت آية إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) والآيات الأولى من سورة المزمل احتوت آية وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) والآيات الأولى من سورة المدثر احتوت آية إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) والآيات التي أعقبت الآيات الخمس الأولى من سورة العلق احتوت آيات فيها وصفا لموقف بعض الطغاة من دعوة النبي وصلاته، بالإضافة إلى حكاية السور الثلاث الأولى مواقف بعض الكافرين والمكذبين وجدلهم ومكابرتهم وإلى حملات عليهم فيها بسبب ذلك. فهذا كله يلهم بقوة أنه ينبغي أن يكون قد نزل قبل هذه السور وبعد آيات سورة العلق الخمس الأولى على الأقل قرآن يصح أن يرتل، وأن يقال عنه أساطير الأولين، وقول البشر، وفيه دعوة وإنذار عامان وقد تلي على الناس ودعوا إلى الله به فوقف الكفار منه موقف الجاحد المعاند فنزلت بقية سورة العلق والسور الثلاث الأخرى تحكي مواقفهم وترد عليهم. ومن أجل هذا خمّنّا أن تكون سور الفاتحة والأعلى والشمس والعصر والليل وأمثالها مما لا يحتوي إلا الدعوة والإنذار والأهداف بصورة عامة هي السابقة بالنزول بعد آيات العلق الخمس الأولى إن لم يكن هناك قرآن نزل ثم رفع يحتوي ذلك، ويمكن إيراد أمثلة متعددة أخرى كثيرة أيضا. تميز الأسلوب المكي والأسلوب المدني: ونستطرد فنقول إن أسلوب القرآن يساعد بنطاق غير ضيق على التمييز بين السور المكية والسور المدنية بل الآيات المكية والآيات المدنية أيضا فالسور المكية أولا تنحو في الأغلب نحو التسجيع والتوازن، وثانيا تتكثف فيها الدعوة إلى الله وإثبات استحقاقه وحده للخضوع والعبادة ومحاربة الشرك وكل ما يتصل به وتعنيف الكفار وتقريعهم بسببه، وثالثا إن أسلوبها المتصل بالدعوة إلى المكارم الاجتماعية والروحية والإنسانية وبالتحذير من الآثام والفواحش أسلوب دعوة وحض وتشويق وتنديد وتنويه. ورابعا إن القصص ومشاهد الآخرة والحديث عن الملائكة والجن وحكاية أقوال الكفار وجدلهم وافتراءاتهم ونسبهم المختلفة للنبي قد كثرت

وتكررت، وخامسا إن وحدة الموضوع في السور الطويلة والمتوسطة فضلا عن القصيرة ملموحة في كل سورة منها تقريبا، وسادسا إن تلاحق الفصول والسياق جدلا وحكاية وإنذارا وتبشيرا ووعدا ووعيدا وتدعيما وتمثيلا وتذكيرا وقصصا وتطمينا وتوجيها وتلقينا وبرهنة ملموح كذلك في كل سورة منها تقريبا وفي السور المكية تبرز مبادئ الدعوة القرآنية قوية واضحة، وتبرز خصوصيات القرآن ومميزاته الأسلوبية والموضوعية بالنسبة إلى الكتب السماوية الأخرى قوية واضحة كذلك ومن مميزات الأسلوب المكي اللهجة الخطابية القوية النافذة إلى الأعماق والقارعة للأسماع والقلوب واللهجة التي يذكر بها اليهود خاصة حيث خلت من التقريع والتعنيف والجدل والأخذ والرد، وتلك الصور الجحودية والإزعاجية والتشكيكية والدسية الواردة عنهم في القرآن المدني واللهجة المحببة الاستشهادية التي يذكر بها الكتابيون وأولو العلم كأنما هم حزب المسلمين والدعوة النبوية والأسلوب المكي يغلب فيه وصايا الصبر والتطمين والتسكين وعدم المبالاة بمواقف الكفار كما أنه خلا من الحض على الجهاد ووقائع الجهاد وخلا كذلك من ذكر المنافقين ومواقفهم ودسائسهم والحملات القاصمة عليهم. وواضح أن هذا كله متصل بظروف العهد المكي من السيرة النبوية مما نبهنا عليه في سياق التفسير. أما القرآن المدني فالسجع فيه قليل بل نادر، وطول نفس الآيات غالب، ونقل فيه فصول القصص ووصف مشاهد الآخرة والجن والملائكة والجدل ووصف مشاهد الكون أو تقصر ويكتفى من ذلك بالتذكير والإشارات الخاطفة، وتصطبغ فيه المبادئ والتكاليف التعبدية والأخلاقية والاجتماعية والقضائية والسلوكية بصبغة التقنين والتقعيد، وفيه تشريع الجهاد ووقائعه وظروفها، وفيه إبطال عادات وتقاليد قديمة، وإقرار عادات وتقاليد قديمة أخرى مع الإصلاح والتهذيب، وإنشاء عادات وتقاليد جديدة في سبيل الإصلاح الأخلاقي والاجتماعي، وفيه صور النفاق والمنافقين ومواقفهم، ولهجته عن اليهود لهجة شديدة في الدعوة والتعنيف والتنديد وفيه صورة عن مواقفهم وأحوالهم، وفيه الاستفتاءات والأسئلة القضائية والاجتماعية والأخلاقية والأسروية وأجوبتها التشريعية، وواضح أن هذا كله متسق

- 14 - الشكل والنقط: سادسا: شكل المصاحف ونقطها:

أيضا مع ظروف العهد المدني من السيرة النبوية مما نبهنا عليه في سياق التفسير كذلك. وعلى ضوء هذه المميزات ومع استلهام المضمون والسياق أمكننا ترجيح مكية سور الرعد والحج والرحمن والإنسان والزلزلة التي يذكر مصحف قدور أو غلي وغيره مدنيتها، وأمكننا كذلك ترجيح مكية ومدنية السور القصيرة الأخرى التي اختلفت الروايات فيها، وترجيح احتمال تقدم بعض السور المتأخرة وتأخر بعض السور المتقدمة، وترجيح مكية آيات ذكرت الروايات أنها مدنية في سور مكية ومدنية آيات ذكرت الروايات أنها مكية في سور مدنية مما نبهنا عليه في سياق التفسير الكامل. - 14- الشكل والنقط: سادسا: شكل المصاحف ونقطها: من الثابت المسلم به أن النقط والشكل على الوجه المستعمل في المصاحف المتداولة قد اخترعا بعد النبي وفي أخريات دور الخلفاء الراشدين أو أواسط دور الأمويين على اختلاف في البدء والتطور. ولذلك فإنهما محدثان وليس لهما أصل في المصحف العثماني وما قبله جزما وقد مست الحاجة إلى إدخالهما على المصحف لضبط القرآن وتيسير قراءته صحيحة وعدم ترك المجال للالتباس. ولا سيما أن المسلمين قد انتشروا في بقاع الأرض أكثر من ذي قبل ودخل الإسلام أمم وطوائف غير عربية، وصارت اللغة العربية تعلّم تعليما ولم تبق سليقية، وقد كان من شأن بقاء القرآن بدون إعجام (تنقيط) خاصة أن يلتبس على قارئه في المصحف قراءة الحروف المتشابهة الشكل التي لا يميزها عن بعضها إلا النقط مثل ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ض ط ظ ع غ كما كان من شأن بقائه بدون شكل أن يلتبس على القارئ غير العربي سليقة تمييز الكلمات المتشابهة الشكل التي لا يميزها عن بعضها الآن إلا الشكل أو كثرة الممارسة وحسب فهم المعنى

علامات الوقف والوصل:

وتمييز أواخر الكلمات ولا سيما حينما يتأخر الفاعل ويتقدم المفعول مثلا، ومما لا ريب فيه أن إدخالهما على الخط العربي عامة وعلى المصحف خاصة خطوة خطيرة جدا في سبيل الإتقان والإحسان والفهم والتمييز. والمرجح أنهما لم يخترعا كاملين، وإنهما سارا سيرا تطوريا حتى بلغا مبلغهما التام في القرنين الثاني والثالث الهجريين. علامات الوقف والوصل: سابعا: علامات الوقف والوصل والأداء: إن ما قررناه في الفقرة السابقة يصح على علامات الوقف والوصل والمدّ والقصر والسكون فوق الكلمات والحروف القرآنية في المصحف العثماني، من حيث كونها محدثة وليست أصيلة في المصحف العثماني ومن حيث قصد ضبط قراءة القرآن وإتقان أداء كلماته وحروفه مع التنبيه على أنه دون خطوة الشكل والنقط خطورة أولا وأنها قد أحدثت بعد هما على الأرجح ثانيا. وننبه كذلك على أن ما نقصده هو وضع العلامات، وهذا لا يقتضي طبعا أن لا يكون النبي عليه السلام وأصحابه قد عنوا بالوقوف على ما ينبغي الوقوف عليه ووصل ما ينبغي وصله والسكوت عند ما يجب السكوت ومدّ ما يقتضي مدّه وقصر ما يحسن قصره إلخ. فلا يصح أن يشك في أن كل هذا قد كان، وأنه متصل بطبيعة النطق الخطابي والتقريري التي هي من طبيعة التلاوة القرآنية ومقتضيات أداء معاني القرآن مما لا يمكن إلا أن يكون، سواء في تلاوته من النبي على الناس أم تلاوته من قبل الصحابة، وسواء أكان ذلك في الصلاة أم في مجال التلاوة والوعظ والبيان، فضلا عن أن طبيعة الخطاب والتلاوة بوجه عام تقتضي ذلك. والراجح أن الأمر القرآني وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل 4] . وهو من أوليات القرآن نزولا هو في صدد ذلك أو مما استهدفه. وتلاوة القرآن على الأداء المعروف متصلة فيما يعتقد بالسماع خلفا عن سلف حتى تتصل بالعهد النبوي. وقد جرى الأمر على هذا بالتواتر الفعلي السماعي الذي لم ينقطع من لدن النبي عليه السلام. ومما لا ريب فيه أن العلامات الجزء الأول من التفسير الحديث 9

- 15 - رسم المصحف العثماني:

وحدها لو لم يكن هذا النقل السماعي المتواتر لا تجزي وحدها ولا تجعل قارئ القرآن يؤدي دلالاتها على وجهها دون تعليم وسماع. والمعقول أن وضع العلامات كان من قبل أعلام القراء والرواة حينما رأوا أن الحاجة صارت ماسة إلى ذلك، وأن بقاء القرآن بدونها قد يؤدي إلى إساءة التلاوة والأداء والانحراف عن الأسلوب الصحيح القويم المتناسب مع طبيعة المفاهيم القرآنية والذي كان يرويه القراء والرواة راو عن راو وقارئ عن قارئ، على أن المعقول أيضا أن وضعها هو من قبيل التذكير بدلالاتها التي كانت تتلقى سماعا. والراجح أن هذا قد كان كذلك في القرنين الثاني والثالث الهجريين. - 15- رسم المصحف العثماني: ثامنا: رسم المصحف العثماني-: إن أكثر العلماء وأئمة القراء قرروا وجوب الاحتفاظ في كتابة القرآن بالرسم العثماني. ومنهم من كره كتابته برسم آخر ومنهم من حرّمها. ولم نطلع على أقوال وأحاديث موثوقة متصلة بأصحاب رسول الله في هذا الشأن. ولذلك يصح أن نقول إنها أقوال اجتهادية. ويبدو أن هذا التشديد متصل بروايات القراءات السبع أو العشر، وخاصة بما يتصل بالصرف والنحو وأجسام الكلمات مثل «ملك ومالك» و «مسجد ومساجد» و «يفعلون وتفعلون» و «فتحت وفتّحت» و «أرجلكم وأرجلكم» و «تبينوا وتثبتوا» إلخ مما يقع في وحدة الرسم، ومتصل كذلك بالقول إن هذه القراءات صحيحة كلها لأنها تقع في نطاق وحدة الرسم من ناحية ومتصلة بالسماع المتسلسل الواصل إلى قراء الصحابة الذين تلقوا القرآن عن النبي من ناحية أخرى بحيث يورد أن شأن كتابة القرآن بغير الرسم العثماني وبالخطوط الدارجة في الأدوار التالية أن تحول دون قراءة الكلمات القرآنية بقراءات مختلفة يحتملها الرسم العثماني ومتصلة بقراء الصحابة، فيكون في ذلك تحكم في تصويب قراءة دون قراءة وإبطال قراءة دون

قراءة أو وسيلة مؤدية إليهما، وأن هذا هو ما تحرز منه العلماء والقراء في مختلف العصور تورعا وتدينا وزيادة في التحري في تلاوة القرآن تلاوة قويمة صحيحة متصلة بالنبي والذين سمعوا منه وتلقوا عنه. ومهما يبدو من وجاهة هذا القول ونتائجه، وخاصة فوائده التي من أهمها أن احتفظت المصاحف خلال ثلاثة عشر قرنا برسم واحد قد كتب وفاقا لما كان يكتب في عهد النبي وبإملائه، وحفظ القرآن بذلك من التحريف والتشويه، ومن الخلافات التي لا بد من أن تنشأ بسبب تطور الخطوط من وقت لآخر وتبدلها في أدوار لم يكن فيها مطابع ولا تصوير شمسي، ومنعت تكرر المأساة التي أفزعت عثمان وحملته على توحيد هجاء القرآن وجعل المصاحف بهجاء واحد تنسخ عن الأصل الذي أمر بنسخه وتنتشر في مشارق الأرض ومغاربها موحدة، فإننا نعتقد أنه ليس من شأنه أن يمنع جواز كتابة المصحف اليوم بالخط الدارج على شرط مراعاة قراءة من القراءات المشهورة المتصلة بأحد أئمة قراء الصحابة والنص على ذلك في مقدمة المصحف. لأنه لا يوجد نصّ ثابت متصل بالنبي وأصحابه يمنع ذلك فيما اطلعنا عليه، ولأننا نعتقد أن في هذا تيسيرا واجبا لتعليم القرآن وتعلّمه وحسن ضبطه وإتقانه. فبين الرسم العثماني والرسم الدارج فروق غير يسيرة فضلا عن ما بين رسوم القرآن نفسها من تناقض مما سوف نشير إليه بعد قليل مؤد في نفس الوقت إلى زيادة التعقيد والتعسير. ومن العسير أن يتعلّم القارئ هذا الرسم بالإضافة إلى الرسم الدارج الذي ألفه في كتابته وكتبه وقراءاته الأخرى. وبالإضافة إلى هذا فإن هناك مسلمين وغير مسلمين لا يتيسر لهم تلقي القرآن من قراء مجازين أو قراء تلقوا أو قرأوا أو سمعوا من قراء مجازين مما يصعب إتقان تلاوة القرآن برسمه العثماني بدونه، والمصاحف في متناول جميع الناس على اختلاف الملل والأجناس، ففي كتابته بالرسم الدارج منع لمغبة الغلط في القراءة والتشويه وسوء الفهم والتفسير، وتيسير واجب لنشر القرآن الذي هو من أهم واجبات المسلمين أيضا، ولا سيما أن الرسم العثماني محفوظ لن يبيد بما يوجد منه من ملايين النسخ المطبوعة وغير المطبوعة والرسوم الشمسية ما فيه الضمانة على بقائه المرجع

والإمام أبد الدهر، وقد رأينا للإمام المفسر الكبير ابن كثير في كتابه «فضائل القرآن» وهو من علماء القرن السادس قولا يبيح به كتابة المصحف على غير الرسم العثماني وفي هذا توكيد وتوثيق لوجهة النظر التي نقررها. هذا أولا. وثانيا إن الذي نعتقده أن رسم المصحف العثماني لم يكن ليكون محتملا للقراءات السبع أو العشر، وليس هو توقيفيا عن النبي عليه السلام كما يظن أو يقول البعض، فليس هناك حديث وثيق بل وغير وثيق متصل بالنبي أو أصحابه المعروفين يؤيد ذلك، وإنما هو الطريقة الدارجة للكتابة في ذلك العصر، ولم يكن النبي يقرأ ويكتب، وإنما كان يملي ما يوحى إليه به على كتابه فيكتبونه وفق ما يعرفونه من طريقة الكتابة. وليس من سبيل إلى غير ذلك. وما دامت طريقة الكتابة قد تطورت فإن تسويغ كتابة المصحف وفق الطريقة الدارجة طبيعي أيضا وخاصة بعد أن صار الاحتفاظ بالرسم العثماني ليكون المرجع والإمام مطبوعا ومحفوظا ومصورا كما قلنا ممكنا إلى ما شاء الله. أما التناقض أو التباين في رسم المصحف العثماني نفسه فإنه في الحقيقة يبعث على العجب والحيرة، حيث وردت كلمات واحدة أو متقاربة في سور مختلفة بل وأحيانا في سورة واحدة مختلفة الرسم في حين أن كثيرا منها متماثل في مواقع الصرف والنحو وإعراب الأواخر والمعنى كما ترى في الثبت التالي مثلا: لا أذبحنه لأعذبنه «1» بنبإ بنبأى «2» سموات سماوات «3» بنت بنات «4» لشيء لشاىء «5» ابن أم ابنؤم «6» إحسانا أحسنا «7» إصلاح

_ (1) سورة النمل، الآية: [21] . (2) سورة القصص الآية: [3] ، وسورة الأنعام، الآية: [34] . (3) سورة فصلت، الآية: [12] ، وسورة الملك، الآية: [3] . (4) سورة الصافات، الآية: [153] ، وسورة الأنعام، الآية: [100] . [.....] (5) سورة النحل، الآية: [40] ، وسورة الكهف، الآية: [23] . (6) سورة الأعراف، الآية: [150] ، وسورة طه، الآية: [94] . (7) سورة البقرة، الآية: [89] ، وسورة النساء، الآية: [36] .

اصلح «1» جزاء جزوأ «2» نعمت نعمة «3» رحمة رحمت «4» قرة قرت «5» امرأة امرأت «6» سنة سنت «7» جنة جنت «8» لعنة لعنت «9» بقية بقيت «10» بسطة بسطت «11» الأيكة لايكة «12» . فهذه المباينات «13» تسوغ القول إن أول ما نسخ وكتب برسم واحد من المصاحف العثمانية مصحف واحد كتبه كاتب أملاه عليه قارئ وتعاقب عليه أكثر من كاتب وأكثر من قارئ فكتب بعضهم الكلمات في مواضع برسم وكتب بعضهم نفس الكلمات في مواضع برسم آخر ثم نسخت المصاحف الأخرى العثمانية التي أرسلت إلى الأقطار عن هذا المصحف حرفيا وأن العلم بالكتابة بين الصحابة لم يكن موحدا وأن الكتابة والإملاء لم يكن متقنا، وحتى لو فرضنا أن المصاحف العثمانية كتبت جميعها معا من ممل واحد فلا بد من أن نفرض أنه تعاقب على كتابتها آخرون، ولعله كان في المصحف والمصاحف المتداولة في أيدي المسلمين إذ ذاك أخطاء ومباينات أكثر وأفدح في الكتابة والإملاء مما أفزع عثمان وكبار الصحابة وحملهم على توحيد الرسم واجتهدوا اجتهادهم فلم يستطيعوا أن

_ (1) سورة البقرة، الآية: [22] ، وسورة النساء، الآية: [114] . (2) سورة البقرة، الآية: [85] ، وسورة المائدة، الآية: [29] . (3) سورة البقرة، الآية: [11 و 131] . (4) سورة الزخرف، الآية: [31] ، وسورة آل عمران، الآية: [74] . (5) سورة القصص، الآية: [9] ، وسورة الفرقان، الآية: [74] . (6) سورة آل عمران، الآية: [35] ، وسورة النساء، الآية: [12] . (7) سورة الأحزاب، الآية: [63] ، وسورة فاطر، الآية: [43] . (8) سورة البقرة، الآية: [264] ، وسورة الواقعة، الآية: [89] . (9) سورة آل عمران، الآية: [61 و 87] . (10) سورة هود، الآية: [86] ، وسورة البقرة، الآية: [268] . (11) سورة البقرة، الآية: [247] ، وسورة الأعراف، الآية: [69] . [.....] (12) سورة الحجر الآية: [78] ، وسورة الشعراء، الآية: [116] . (13) اكتفينا بمثال لكل مباينة مع أن هناك أكثر من آية في أكثر من سورة فيها بعض التباين أيضا.

يتخلصوا من بعض الأخطاء والمباينات أن جاءت غير ذات بال من حيث الجوهر والمعنى، وإذا كان مثل هذه الأخطاء يقع اليوم والمدارس منتشرة والناشئة تتعلم فيها بطريقة موحدة بسبب تفاوت الإتقان والعناية والمران فوقوعها في ذلك العصر الذي لم تكن الكتابة فيه قد وصلت إلى تمامها من النضج من باب أولى. وقد فرضنا أن يكون المنسوخ في أول الأمر من المصاحف العثمانية مصحفا واحدا تعاقب عليه أكثر من كاتب ثم نسخت عنه المصاحف الأخرى لأن هذا الفرض هو الذي يستقيم ويتسق مع وجود تلك المباينات إذ لو نسخت المصاحف جميعها مرة واحدة من قبل عدد من الكتاب لكان تعذر فرض اتحادهم في هذه المباينات التي لا ترجع إلى سبب إملائي فني كما أن ما فرضناه هو المعقول الذي تطمئن به النفس ويتفق مع طبيعة الأمر على ما هو المتبادر. ولقد علق ابن خلدون على هذه الظاهرة فقال: كان الخط العربي لأول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة. وانظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم لمصحف حيث رسمه الصحابة بخطوطهم، وكانت غير محكمة في الإجادة فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته رسوم صناعة الخط عند أهلها. ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيها تبركا بما رسمه أصحاب رسول الله وخير الخلق بعده كما يقتفى لهذا العهد خط ولي أو عالم تبركا ويتبع رسمه خطأ أو صوابا ... ونحن نعرف أن لعلماء القراءات تخريجات لهذا التباين. ولكن المدقق يجد فيها تكلفا وتجاوزا كبيرين لا يبعثان اطمئنانا ولا يوجبان اقتناعا ولا سيما أن في هذا التباين كما قلنا أمثلة لا تختلف عن بعضها نحوا وصرفا ونظما وموقع جملة ومعنى. وهناك مسألة أخرى في صدد رسم المصحف العثماني يثيرها حديثان أحدهما مروي عن عائشة ووصف بأنه بإسناد صحيح على شرط الشيخين، وقد

روي عن عروة قال سألت عائشة عن لحن «1» القرآن في قوله تعالى إِنْ هذانِ لَساحِرانِ «2» وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ «3» وإِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ «4» فقالت يا ابن أختي هذا من عمل الكتاب أخطأوا في الكتاب «5» . وثانيهما عن عكرمة وغيره جاء فيه أنه لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان فوجد فيها حروفا من اللحن فقال لا تغيروها فإن العرب ستغيرها أو قال ستعربها بألسنتها. وقد أنكر بعض العلماء الحديث المنسوب إلى عثمان وقالوا إن إسناده ضعيف مضطرب منقطع، وإن عثمان جعل للناس إماما يقتدون به فلا يصح أن يكون قد رأى فيه لحنا وتركه لتقيمه العرب بألسنتها وكان أولى الناس بتصحيحه، كما خرّج علماء آخرون ما ظن أنه لحن تخريجا نحويا سليما، ومما قاله الزمخشري في صدد وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ [النساء: 162] لا تلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان، وغبي عليه أن السابقين الأولين الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام وذبّ المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدها من بعدهم وخرقا يرفوه من يلحق بهم «6» . ومع ما في كلام الزمخشري من قوة خطابية فإننا لا نرى من المستحيل ولا مما لا يتسق مع طبائع الأمور ولا مما ينتقص من قيمة وصحة بل وقدسية المصحف أن يخطىء ناسخ المصحف الأول من المصاحف العثمانية في كتابة

_ (1) يقصد بالكلمة الغلط الصرفي أو النحوي. (2) سورة طه، الآية: [63] . (3) سورة النساء، الآية [162] . (4) سورة المائدة، الآية [69] . (5) أي في الكتابة والرواية من كتاب «الفرقان» لابن الخطيب ص 41 و «الإتقان» للسيوطي. (6) «الكشاف» الجزء 1 ص 397.

- 16 - القراءات:

بعض الكلمات حيث جاءت مخالفة للقواعد اللغوية القرآنية. وقد رأينا فيما اطلعنا عليه من المصاحف المخطوطة أخطاء عديدة وقع فيها النساخ ومنهم خطاطون بارعون لا يتهمون بقصور في الإملاء منها ما ترك على حاله، ومنها ما شطب عليه وكتب صحيحه فوقه أو بعده أو على الهامش ومن هذه الأخطاء ما هو أكثر من كلمة أو جزء من كلمة. وكثيرا ما وقع هذا معنا مع أننا كنّا نحرص أن نكتب عن المصحف دون حافظتنا. ولم نطلع على إنكار لحديث عائشة سواء في سنده أو في متنه مثل ما كان بالنسبة لحديث عثمان، بل رأينا في «الإتقان» تعليقا يؤيد صحته ويحاول تعليل ما جاء فيه محاولة غير شافية. ونحن لا نرى في الحديث شيئا شاذا وغير متسق مع طبيعة الأمور على ما نبهنا عليه آنفا. - 16- القراءات: تاسعا: القراءات المشهورة: إن القراءات المشهورة سبع تنسب إلى سبعة أئمة من القراء هم نافع بن أبي رويم في المدينة وعبد الله بن كثير في مكة وأبو عمرو بن العلاء في البصرة وعبد الله بن عامر في الشام وعاصم بن أبي النجود وحمزة بن حبيب الزيات وعلي الكسائي في الكوفة ويضم إليهم أحيانا أبو جعفر بن يزيد في المدينة ويعقوب الحضرمي في البصرة وخلف البزاز في الكوفة فيبلغون عشرة وتبلغ القراءات عشرا. وأربعة منهم تابعون يروى أنهم تلقوا قراءاتهم عن قراء من الصحابة والباقون تابعو تابعين تلقوا قراءاتهم على ما يروى عن تابعين تلقوا عن قراء من الصحابة. وكل منهم يروي قراءته عن قارئ صحابي معروف كما أن لكل منهم رواة ولكل من رواتهم رواة إلى أن وصل الدور إلى عهد التدوين فدونت القراءات وخلافياتها في تعاريف عامة من جهة وفي كل سورة لحدتها من جهة أخرى. وتدور هذه الخلافيات على الأغلب في النطاق التالي: (1) مخارج الحروف

كالترقيق والتفخيم والميل إلى المخارج المجاورة كنطق الصراط بإمالة الصاد إلى الزاي (2) والأداء كالمد والقصر والوقف والوصل والتسكين والإمالة والإشمام (3) والرسم كالتشديد والتخفيف مثل «يغشى يغشّى» و «فتحت وفتّحت» والإدغام والإظهار مثل «تذكرون وتتذكرون» والهمز ومدّ الألف مثل «ملك ومالك» و «مسجد ومساجد» لتحمل الرسم النطقين (4) والتنقيط والحركات النحوية مثل «يفعلون وتفعلون» و «أرجلكم وأرجلكم» مثلا. وقد وضع علماء القراء شروطا أربعة لصحة القراءة الخلافية وهي (1) التواتر بحيث لا تصح قراءة غير القراءة المتواترة والمشهورة (2) وموافقة العربية بوجه ما بحيث لا تصح قراءة خلافية لا تتفق مع قواعد اللغة (3) ورسم المصحف العثماني بحيث لا تصح قراءة خلافية مغايرة للرسم المذكور (4) وصحة سند القراءة بحيث لا تصح قراءة خلافية لا تستند إلى سند وثيق يتصل بأحد قراء الصحابة. واجتماع الشروط الأربعة شرط لازم بحيث لا تصح قراءة خلافية لا تجتمع فيها. على أن هناك ما يمكن ملاحظته في صدد خلافيات القراءات المذكورة فالمقول والمشروط أن أئمة القراءة قد أخذوا قراءاتهم سماعا عن قراء من الصحابة، وأن قراء الصحابة قد أخذوا قراءاتهم سماعا عن النبي. ومعقول أن يكون قراء الصحابة مختلفين في القراءة الناشئة عن النطق بالحروف وأدائها من ترقيق وتفخيم ومدّ وقصر وإمالة وإشمام ووقف ووصل وتسكين وتنوين حتى ولو قرأوا قراءاتهم على النبي عليه السلام وأجازها لهم على اختلافها في ذلك، وأن يكون سمعها منهم غيرهم من الصحابة والتابعين. ولكن مما يدعو إلى التوقف والنظر أن يكونوا مختلفين في القراءة الناشئة عن الرسم والتنقيط من تشديد وتخفيف وإظهار وإدغام وقراءة المضارع بالغائب أو المخاطب وقراءة بعض الكلمات منصوبة حينا ومجرورة حينا مثل «أرجلكم وأرجلكم» ومفردة حينا وجمعا حينا مثل «مسجد ومساجد» واسم فاعل حينا واسم عادي حينا مثل «ملك ومالك»

ونحو ذلك إلا مع فرض أنهم كانوا يقرأون من المصاحف ولم يسمعوها من النبي، وإن هذا كان شأن أئمة القراءة التابعين وتابعي التابعين فالنبي لم يكن يتلو من مصحف وكان ما يبلغه وحيا، وإذا كان يجنح إلى التيسير كما يدل عليه أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف مما سوف نبحث فيه في مناسبة أخرى «1» فإن هذا منه إنما كان على ما نعتقد بقصد التسهيل على الناس في مخارج الحروف والأداء لأن هذا متصل بتكوين آلة النطق البشرية ومتصل كذلك بعادة إخراج الحروف وأدائها تبعا لاختلاف اللهجات أو المنازل العالية والواطئة والحارة والباردة والتي لا معدى من التسهيل فيها وحكمتها واضحة قائمة وليس في هذا التسهيل تبديل وتغيير في كلمات القرآن وحروفه ونحوه وصرفه. إذ أنه ليس مما يحتمل أن يكون النبي قرأ مرة «يفعلون» وأخرى «تفعلون» ومرة «تغفر» وأخرى «يغفر» ومرة «فتبينوا» وأخرى «فتثبتوا» «2» ومرة «ييأس» وأخرى «يتبين» «3» فضلا عن عدم احتمال تبديله الكلمات بغيرها ولو في معناها مما يروى في غير نطاق رسم المصحف العثماني ولا سيما أن الخلافيات في هذه هي أكثر الخلافيات حتى لقد رأينا الزمخشري في كشافه يروي أمثلة كثيرة جدا منها. ولعله يستقيم أن يفرض أيضا أن القراء التابعين كانوا يقرأون على قراء الصحابة من المصحف قراءات مختلفة ناشئة عن تلك الأسباب والعلل الطبيعية وإن قراء الصحابة كانوا يحبذونها استئناسا بما كان من تساهل النبي وأمره بالتيسير في قراءة القرآن. أما والحالة على ما ذكرنا فإن مما يخطر للبال سؤال عما إذا كان هناك ضرورة دينية لهذه القراءات المتعددة المختلفة بل والمتباينة حينا في قطر واحد. والذي نراه أنه ليس هناك من ضرورة دينية لذلك، وخاصة بالنسبة لجمهور المسلمين، وأنه يكفيهم أن يقرأوا القرآن بقراءة واحدة من القراءات المأثورة من

_ (1) أوردنا هذه الأحاديث وعلقنا عليها في الفصل الرابع من الكتاب «البحث السادس» . (2) سورة الرعد، الآية: [31] . (3) سورة النساء، الآية [94] .

مصحف كتب بالرسم الدارج بينهم، فيه بعض العلامات الضرورية للوقف والوصل والمد والسكوت ونحو ذلك مما تقتضيه هذه القراءة المأثورة بحيث يكون من الميسور للمسلمين وغيرهم- والمصاحف في متناول الجميع- أن يقرأوا القرآن صحيحا بسهولة ويسر، فلا تكون قراءتهم متوقفة دائما على التلقي، لأن ذلك غير ميسور دائما، ونعتقد أنه إذا لم ييسر هذا على هذا الوجه وقع الحرج من سوء التلاوة وسوء الأداء وتحريف الألفاظ والمعاني. وليس من بأس إلى هذا بل لعله مستحب أن يكون هناك فئة من الهواة بل فئة تنفق عليها الحكومات الإسلامية أو المؤسسات الدينية لتظل تتدارس القراءات ويتداولها القراء جيلا بعد جيل فإن فائدة ذلك بمثابة الفائدة المستحبة للتي نوهنا بها في الاحتفاظ برسم المصحف العثماني مطبوعا ومخطوطا ومصورا فيستمر ذاك كما يستمر هذا قائما أبدا بين جماعة المسلمين في كل قطر من أقطارهم، مع ملاحظة نراها هامة وهي وجوب عدم الغلو في أداء هذه القراءات وخاصة الغنّ والمط والترديد مما يخرج القرآن عن قدسيته ويضعف نفوذه الروحي ومما يكاد يبدو من القراء أنه بسبيل التعالم والانتفاخ أكثر منه بسبيل الرواية قراءات غير القراءة الدارجة العامة في قطرهم. ولقد قال الإمام الطحاوي والقاضي الباقلاني وأبو عمر بن عبد البر وغيرهم من أئمة الكلام «1» إن القراءات جميعها كانت رخصة في أول الأمر لتعسر القراءة بلغة قريش على كثير من الناس ثم نسخت بزوال العذر وتيسر الحفظ وكثرة الضبط وتعلم الكتابة. وفي هذا من الوجاهة ما فيه. ولابن قتيبة كلام يمتّ إلى هذا المعنى وفيه من الوجاهة ما فيه حيث قال كان من تيسير الله أن أمر نبيه أن يقرىء كل قوم بلغتهم- يعني بأدائهم الطبيعي في النطق- فالهذيلي يقرأ الحاء عينا والأسدي يقرأ تعلمون بكسر أوله، والتميمي يهمز والقرشي لا يهمز. وللطبري كلام وجيه آخر في تقريره معنى كتابة المصاحف العثمانية حيث قال إن أمير المؤمنين عثمان بن

_ (1) «الفرقان» لابن الخطيب ص 167.

عفان لما رأى اختلاف الناس في القراءة وخاف من تفرق كلمتهم جمعهم على حرف واحد وهو هذا المصحف الإمام، واستوثقت له الأمة على ذلك بل أطاعت ورأت فيما فعله الرشد والهداية. ومع أن المدى الذي انطوت عليه هذه المقتبسات يختلف عن المدى الذي قررناه في هذا المبحث فإن فيها فيما نرى ما يمكن الاستئناس به على صواب ما قررناه.

الفصل الثالث الخطة المثلى لفهم القرآن وتفسيره

الفصل الثالث الخطة المثلى لفهم القرآن وتفسيره تمهيد لقد شغفت منذ شبابي بالقرآن، وتذوقت أسلوبه الرائع الحكيم في شتى مواضيعه ودعوته وتوجيهاته وتقريراته، واطلعت على جملة من كتب التفسير وغيرها من الكتب العربية قديمها وحديثها مما يتصل بموضوع القرآن ومبادئه وأهدافه والجدل حوله، واستظهرت كثيرا من روائعه الجهادية والأخلاقية والاجتماعية والروحية، وكانت لي منهاجا في ظروف حياتي التعليمية والجهادية ثم تيسرت فرصة السجن في دمشق قبل الحرب العالمية الثانية من قبل السلطات الإفرنسية بسبب الثورة الفلسطينية فرغت فيها لنفسي، ورأيتها سانحة مباركة للاشتغال بالقرآن وخدمته أكثر من ذي قبل، فحفظته غيبا من جهة وعدت إلى قراءة ما تيسّر لي من كتب التفسير والكتب القرآنية الأخرى من جهة أخرى، وألفت كتبي الثلاثة فيها «1» ، فكان لي من ذلك مجال لإدامة النظر وإمعان الفكر والتدبر وانتهى بي الأمر إلى اليقين بأن أفضل الطرق لفهم القرآن وتفسيره أن يلاحظ الناظر فيه الأمور التالية مجتمعة:

_ (1) «عصر النبي وبيئته قبل البعثة» - «صور مقتبسة من القرآن» . صدر عام 1366/ 1947، و «سيرة الرسول» جزءان- «صور مقتبسة من القرآن» صدر عام 1367/ 1948، و «نظم القرآن ودستوره في شؤون الحياة» .

القرآن والسيرة النبوية:

القرآن والسيرة النبوية: أولا: إن القرآن سلسلة تامة للسيرة النبوية وتطورها منذ البدء إلى النهاية متصل بعضها ببعض، ومفسر بعضها لبعض، مع ملاحظة الاستدراك الذي أوردناه في آخر الفقرة (5) من الفصل الأول. ففي كل سورة من سوره ومجموعة من مجموعاته، أو فصل من فصوله صورة لموقف من مواقف النبي من سكان بيئته من العرب وغير العرب ومن المشركين والكتابيين، أو صورة لموقف من مواقفهم منه ومن دعوته، أو صورة من صور مواقف النبي من الذين استجابوا للدعوة أو من مواقفهم منه، أو من مواقف الكفار منهم أو مواقفهم من الكفار أو صورة لتطورات جميع هذه المواقف، دعوة وتبيانا وبرهنة وتدليلا وعظة وتنبيها وتبشيرا وإنذارا، ووضعا وتشبيها وقصصا وأمثالا وترغيبا وترهيبا ووعدا ووعيدا، وجدالا وتحديا وعنادا ومكابرة واستكبارا وأذى، وتنديدا وتنويها وتسلية وتثبيتا وتطمينا وتعبيرا، وسؤالا وجوابا وجهادا وتشريعا إلخ وكل صورة معطوفة على صورة سابقة أو مرتبطة بصور لاحقة، في اتساق وانسجام تامين وضمن نطاق واحد مما يتضح لكل من ينعم النظر في القرآن ويقرأ سورة خاصة وفق تتابع النزول بقدر الإمكان. وملاحظة ذلك مهمة جدا في فهم مواضيع القرآن وتقريراته ومداها وروحه وفي جعل الناظر فيه لا يبتعد عن حقيقة الواقع والباعث ويعصمه من التورط، ولا يتورط في التخمينات والتزيدات والجدليات وتحميل العبارات القرآنية ما لا تتحمله. وتوضيحا لذلك نقول إن في القرآن مثلا ما يفيد أنه جرى تبديل بعض الآيات ببعض وإنه نسخت بعض آيات أو أمور مأمورة بغيرها كما يدل على ذلك آيات النحل: [98- 105] والبقرة: [98- 105] ، وفيه ما يفيد أن أحكاما وأوامر وتشريعات عدلت أو نسخت أو تطورت كما تدل على ذلك آيات الأنفال: [65- 66] والمجادلة: [12- 13] والنساء: [15- 16] والنور: [2] ، وفيه تنوع في الخطاب للناس عامة مسلمين وغير مسلمين، سواء أكان ذلك في صدد الدعوة أم

في صدد المواقف أم في صدد التبشير والإنذار والتمثيل والتشريع والهداية والضلال والكفر والإيمان والإحسان والإساءة حيث يكون الخطاب شديدا موئسا حينا ولينا مؤملا حينا، وجانحا حينا إلى تقرير كون الهداية والضلال والكفر والإيمان والإحسان والإساءة من مكتسبات المرء بما أودعه الله فيه من المواهب والقوى الاكتسابية والتمييزية وتقرير عودة التبعة فيها عليه حسنة أو سيئة من أجل ذلك، وجانحا حينا إلى تقرير كون ذلك من تقديرات الله الحتمية التي لا ينفع فيها إنذار ولا تبشير مما هو منبث في مختلف السور والفصول القرآنية، وفيه تقريرات شديدة ومؤئسة بالنسبة للكفار والمنافقين كما جاء في آيات يس: [8- 10] والبقرة: [6- 7] بالنسبة للأولين، والبقرة: [8- 18] والنساء: [137- 143] والمنافقون: [2- 6] بالنسبة للآخرين فيها جزم بمصيرهم الرهيب المحتوم من عدم الإيمان واستحقاق الخلود في النار مع أن كثيرا منهم بل أكثرهم قد آمنوا وحسن إيمانهم وتبدل مصيرهم إلى الثواب والنعيم واستحقوا التنويه والثناء، ونزل في صدد ذلك آيات قرآنية أخرى كما جاء في آيات الأنفال: [25] والنحل: [110] والفرقان: [70- 71] إلخ وقد كانت هذه الأمور وما تزال مثار جدل وحيرة حول ما إذا كان يصح على الله المحيط بما كان ويكون والأزلي العلم والإرادة البداء أي الرجوع عن ما أنزله وقرره وأمر به وأراده ونسخه وتعديله وتبديله وتنويع مفهوم الاحتمالات والنصوص فيه، في حين أن ملاحظة صلة الوحي القرآني الوثيقة بالسيرة النبوية وأحداثها على تنوع صفحاتها وظروفها تجعل الناظر في القرآن يندمج في الوقائع والمقتضيات. وتجعله يعتقد أن الفصول القرآنية، إنما كانت تنزل حسب حوادث السيرة وظروف الدعوة، وأنه لما كانت هذه الحوادث والظروف عرضة للتطور والتبدل والتنوع فإنها تجعله يرى الحكمة واضحة في التبديل والتعديل والنسخ والتنويع والشدة واللين في الخطاب، وتجعله يرى أن الجدل في ذلك النطاق لا محل له ولا طائل من ورائه، لأن التطور والتنوع في الأحداث والظروف والأذهان متسقان مع طبائع الأمور ونواميسها التي فطر الله الكون عليها فلا بدع أن تقتضي حكمته أن يكون ذلك في التنزيل القرآني اتساقا مع هذه الطبائع والنواميس.

- 2 - القرآن والبيئة النبوية:

والمدقق في آيات القرآن التي تفيد ذلك يجد القرآن يورد التقريرات المقتضية حسب الأحداث والظروف وتنوعها وتطورها على أسلوب الحكيم، فلا يدخل في نقاش جدلي إلا بمقدار الضرورة المتناسبة مع الموقف الواقعي، فيعلمنا بذلك الطريقة المثلى لفهم القرآن وروحه ومداه وظروف تنزيله وتنوعه وأسلوبه، وكون المهم فيه هو الإصلاح والتوجيه إلى خير الوجهات لظروف قائمة وأذهان وفئات ومواقف متفاوتة ومتنوعة ومتطورة، وينطوي ذلك في الوقت نفسه على التلقين والتوجيه المستمرين إلى الآماد التالية مما يرشح القرآن للخلود والشريعة القرآنية الإسلامية للعمومية والأبدية. - 2- القرآن والبيئة النبوية: وثانيا: إن الصلة قائمة ووثيقة بين ما كانت عليه بيئة النبي وعصره من تقاليد وعادات وعقائد وأفكار ومعارف وبين البعثة النبوية والسيرة النبوية، وبالتالي بين الوحي القرآني وبين ما كانت عليه هذه البيئة. وهذه الصلة واضحة أولا من جهة أن الدعوة النبوية والوحي القرآني بوجه عام إنما اقتضتهما حكمة الله بسبب ما كان عليه الناس- وأهل بيئة النبي في مقدمتهم وهم المخاطبون الأولون- قبل البعثة من ضلال في فهم وإدراك وجوب وجود الله وكمال صفاته ونزاهته عن الشريك والولد واستغنائه عن الولي والمساعد ومطلق تصرفه في كونه، واستحقاقه وحده للعبودية والخضوع والاتجاه ووجوب نبذ ما سواه، ومن انحراف عن طريق الخير والحق والعدل والفضيلة ومن اختلاف عظيم في المذاهب والعقائد والطقوس، سواء في ذلك كله العرب وغيرهم، والكتابيون والمشركون، ثم بسبب أن ذلك ناشىء عن ما كان من تقاليد وعادات وأفكار ومعارف وأهواء وتأويلات ومفاهيم من ما احتواه القرآن من فصول الجدل والتنديد والتقريع في صدد هذه التقاليد والعادات والأفكار والمعارف والأهواء والتأويلات والمفاهيم التي احتوى القرآن إشارات كثيرة إلى كثير من صورها المتنوعة، وربط بينها وبين مواقف العرب والدعوة النبوية.

يضاف إلى هذا المظهر القرآني العام نصوص قرآنية خاصة «1» في هذا المعنى وردت في مواضع عديدة وبأساليب متنوعة إذا تمعن القارئ فيها ظهرت له هذه الصلة ظهورا جليا. وتزيد في إيضاح ذلك بالأمثلة التالية: 1- في القرآن توكيدات بعدم جدوى الشفاعة والشفعاء عند الله إلا بإذنه ورضائه، وتنديدات باعتذارات المشركين عن عبادتهم لشركائهم واتجاههم إليهم في الدعاء والتضرع بأنهم إنما يتخذونهم شفعاء ووسائل قربى إلى الله، وقد كثرت في هذا الباب مما يدل على رسوخ هذا المفهوم في أذهان المشركين في بيئة النبي وعصره قبل البعثة. 2- إن آيات القرآن الواردة في طقوس الحج تفيد صراحة حينا وضمنا حينا آخر أنها كلها أو جلّها قد كانت ممارسة قبل البعثة النبوية فأقرت في الإسلام بعد تنقيتها من شوائب الشرك والوثنية، مع أن فيها ما لا يمكن فهم حكمة إقراره الآن مثل الطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار واستلام الحجر الأسود وتقبيله إلخ فهذه الآيات متصلة بتقاليد الحج العربية قبل الإسلام ورسوخها وأهدافها، وفيها مظهر ما لوحدة العرب على اختلاف منازلهم ونحلهم حيث كانوا جميعهم يشتركون في الحج ومواسمه وتقاليده. وحرماته وأشهره الحرم، وحكمة إقرارها في الإسلام منطوية في ذلك الرسوخ من جهة وما كان له من فائدة وأثر في الوحدة المذكورة التي كان القرآن يدعو إليها من جهة ثانية ولعل قصد تأنيس العرب بالدعوة الإسلامية مما ينطوي في تلك الحكمة أيضا. 3- ليس في القرآن المكي حملات عنيفة على اليهود الذين كان يسكن منهم

_ (1) اقرأ مثلا الآيات التالية: البقرة: [81- 85 و 107- 116 و 125- 129 و 158- 189 و 197- 203 و 219- 247 و 275- 283] ، وآل عمران: [59- 60 و 77- 78 و 93- 97] ، والنساء: [2- 12 و 19- 34 و 152- 161] ، والمائدة: [1- 5 و 12- 19 و 72- 80 و 90- 97 و 101- 104] ، والأنفال: [31] ، والنحل: [64] ، ولقمان: [21] ، والقصص: [51- 53] ، والشعراء: [192- 197 و 210- 212، 221- 223] ، ويوسف: [111] ، وفصلت: [3] . [.....] الجزء الأول من التفسير الحديث 10

في الحجاز جاليات كبيرة، واكتفى فيه بذكر قصص موسى وفرعون وبني إسرائيل الأولى مستهدفا بذلك ما استهدف بذكر قصص الأنبياء الأخرى، وقد جاءت تلك القصص بإسهاب أوفى مما جاءت هذه مما يمكن أن يكون الحكمة فيه وجود تلك الجاليات الكبيرة وصلتها الوثقى بالبيئة الحجازية العربية وسكانها. ولقد احتوى القرآن المكي آيات كثيرة فيها استشهاد بأهل الكتاب على صحة رسالة النبي بأسلوب يفيد أنهم شهدوا ويشهدون بذلك «1» ، وتحمل في ثناياها تنويها بهم، وتقرير الاتساق بينهم وبين الدعوة القرآنية والمستجيبين إليها، هذا في حين أن القرآن المدني احتوى حملات شديدة لاذعة على اليهود ووصف سوء أخلاقهم ودسائسهم ومكائدهم، ووصل حاضر هذه الأخلاق بأخلاق الآباء. فهذا متصل بدون ريب بحالة قائمة في البيئة النبوية وظروفها. فإنه لم يكن لليهود في مكة كتلة ذات مركز قوي راسخ في حين كان لهم ذلك في المدينة، ولم يقع بينهم وبين النبي في مكة بسبب ذلك احتكاك وتشاد في حين أن ذلك قد وقع في المدينة بسبب ما كان لهم في المدينة من كتلة قوية وقدم راسخة ومصالح حيوية ومركز ممتاز مما احتوت الآيات القرآنية وصفا لذلك. ومن الممكن إيراد أمثلة كثيرة من هذا النوع الذي يبين صلة مما كانت عليه بيئة النبي بالبعثة النبوية والسيرة النبوية والتنزيل القرآني. وقد اكتفينا بهذه الأمثلة ونبهنا على أمثالها الكثيرة في سياق التفسير. فملاحظة هذه الصلة مهمة جدا كسابقتها في فهم مواضيع القرآن وتقريراته وروحه ومداه، وفي جعل الناظر فيه يندمج في الوقائع ومقتضياتها، ولا يبتعد عن حقيقة الواقع والباعث ويعصمه عن أن يتورط في الجدل والتزيد وتحميل العبارات القرآنية ما لا تتحمله وما لا طائل من ورائه.

_ (1) الأحقاف: [10] ، والأنعام: [114] ، والرعد: [36] ، والشعراء: [197] ، والقصص: [51- 53] ، والعنكبوت: [47] .

- 3 - اللغة القرآنية:

- 3- اللغة القرآنية: ثالثا: إن لغة القرآن في مفرداتها وتراكيبها واصطلاحاتها وأساليبها وأمثالها وتشبيهاتها واستعاراتها ومجازاتها هي لغة البيئة النبوية وإنها مألوفة ومفهومة ألفة وفهما تامين من أهلها. وليس الذي نعنيه بهذا تقرير قضية قد تكون بديهية في بعض الأذهان ولكن الذي نعنيه وجوب ملاحظة ذلك حين النظر في القرآن لأنه يساعد على فهم اصطلاحات لغة القرآن وأساليبها وأمثالها وتعبيراتها واستعاراتها ومجازاتها من جهة، وكون القرآن من جهة ثانية قد وجّه أول ما وجّه إلى أناس ألفوا لغته كل الألفة وفهموها كل الفهم، ووصلوا في عقولهم ومعارفهم وبيانهم ودقة تعابيرهم وبلاغة أساليبهم وفصاحة ألسنتهم، والاستمتاع بمتنوع أشكال الحياة المادية والمعاشية، والنفوذ إلى المفاهيم الأخلاقية والاجتماعية والدينية والعلمية والأدبية إلى درجة غير يسيرة من الرقي متناسبة مع ما عبرت عنه وأشارت إليه وتضمنته لغة القرآن، مما هو نتيجة لازمة لكون القرآن إنما نزل بلسانهم، وكون لغة القوم هي أصدق مظهر لحياتهم المادية والعقلية والاجتماعية والدينية «1» . ثم نعني بالإضافة إلى هذا أن ينتفي من ذهن الناظر في القرآن المعنى الذي حلا لبعضهم أن ينوه به وهو انطواء بعض حروف القرآن وكلماته بل وبعض جمله وتعابيره وصور سبكه ونظمه على أسرار وألغاز ومعميات وكذلك المعنى الذي قرره بعضهم من علو طبقة اللغة القرآنية عن أفهام سامعيها إطلاقا دون استثناء، والمعنى الذي قرره بعضهم من أن لغة القرآن قد احتوت أو قصد أن تحتوي جميع لهجات ولغات العرب القديمة والحديثة مع لغات الأمم الأخرى. ففي «الإتقان» للسيوطي فصول عديدة تشير إلى هذه المعاني ونذكر خاصة منها الفصل السابع والثلاثين كما أن كثيرا من الكتب الموضوعة عن القرآن وتفسيره

_ (1) في عصر النبي وبيئته قبل البعثة بحوث مستفيضة في كل ذلك مقتبسة من الآيات القرآنية.

قد احتوت تقرير هذه المعاني أيضا وفي الأقوال الواردة في تلك الفصول وهذه الكتب المروية أو الصادرة عن علماء قديمين كثير من التكلف والتزيد والتجوز والتخمين والتورط إن لم نقل التحريف. ولقد جاء فيما جاء في فصول «الإتقان» نقلا عن كتاب «الإرشاد» للواسطي في صدد تعدد اللغات التي احتواها القرآن أن في القرآن خمسين لغة وهي لغات قريش وهذيل وكنانة وخثعم والخزرج وأشعر ونمير وقيس وعيلان وجرهم واليمن وأزد شنؤة وكندة وتميم وحمير ومدين ولخم وسعد العشيرة وحضر موت وسدوس والعمالقة وأنمار وغسان ومذحج وخزاعة وغطفان وسبأ وعمان وبني حنيفة وتغلب وطي وعامر بن صعصعة والأوس ومزينة وثقيف وجذام وبلي وعذره وهوازن والنمر واليمامة ومن غير العربية الفارسية والرومية والنبطية والحبشية والبربرية والسريانية والعبرانية والقبطية.. ولو عرف القائل قبائل عربية وأمما غير عربية أخرى غير الذي ذكره لأوردها أيضا.. وزاد غيره تفريعا فقال إن فيه من لغة بلي لغات الطائف وثقيف وهمدان ونصر بن معاوية وعك وليس هذا كل ما قيل وإنما هو أوسع ما قيل فإن في فصول «الإتقان» أقوالا كثيرة في هذا الباب. وكلام القائلين ليس هو من قبيل تقرير ما قد يكون معقولا وصحيحا من أن لغة القرآن التي هي لغة قريش متطورة مع الزمن عن لغات العرب قبل نزوله، ومن أن في القرآن ألفاظا معربة عن اللغات الأجنبية أعلاما وغير أعلام دخلت على اللغة العربية القرشية وجرت مجراها وصارت جزءا منها قبل نزوله كذلك، بل بقصد تقرير أن ذلك التعدد واقعي وأنه إنما كان أولا بسبب أن القرآن حوى علوم الأولين والآخرين ونبأ كل شيء فلا بدّ من أن تقع فيه الإشارة إلى أنواع اللغات والألسن لتتم إحاطته بكل شيء فاختير له من كل لغة أعذبها وأخفها وأكثرها استعمالا وثانيا بسبب أنه امتاز عن غيره من سائر الكتب المنزلة فنزلت هذه بلغة القوم الذين أنزلت عليهم ولم تدخل فيه لغة من لغات غيرهم في حين أن القرآن احتوى جميع لغات العرب والعجم. وثالثا بسبب أن النبي محمدا عليه السلام مرسل إلى كل أمة وقوم وقد قال الله وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [إبراهيم: 4] فلزم أن يكون

في الكتاب المنزل عليه شيء من لسان كل قوم وإن كان أصله بلغة قومه هو. وجميع هذه المعاني لا تصح في حال. فمن ناحية علو طبقة القرآن عن أسماع الناس وأفهامهم أو انطواء حروفه وكلماته على أسرار وألغاز ومعميات فإن في القرآن نصوصا حاسمة تنفي ذلك حيث تنص على أنه أنزل بلسان مبين أي واضح مفهوم وإن آياته قد فصلت تفصيلا، وإنه أنزل ليتدبره السامعون ويعقلوه ويفهموه ويحلون به ما يختلفون فيه كما أنه كان موجها إلى كل طبقة من أهل بيئة النبي عليه السلام يحكي كلامهم وأسئلتهم ويرد عليها مجيبا أو منددا أو مكذبا أو ملزما أو واعظا أو مشرعا أو في هذا ما يتنافى كذلك مع تلك المعاني. وهذا فضلا عن أنها غير متسقة مع مهمة النبي المكلف بمخاطبة مختلف الطبقات والمأمور بتبليغ ما أنزل إليه من ربه لهم والذي كان يتلوه على الناس كافة من مختلف الفئات في جميع ظروف سيرته الشريفة في عهديها المكي والمدني وأنها غير متسقة مع كون القرآن هدى للناس كافة يؤمرون باتباع ما أنزل فيه وتدبر آياته والتروي في أحكامه ومحتوياته، ويقال لهم فيه إنه مرجعهم في مختلف شؤونهم، ومنه يستمدون تشريعهم وأخلاقهم ونذرهم وبشائرهم وحلول مشكلاتهم إلخ. ومن ناحية احتواء القرآن مختلف لهجات ولغات الأمم عربها وعجمها وقديمها وحديثها على المقصد الذي شرحه القائلون فإنه لا يتسق في حال مع نصوص القرآن المطلقة والمتعددة بأنه أنزل بلسان عربي وجعل لسانا عربيا وإنه أنزل بلسان النبي العربي القرشي ولا مع نصّ حديث البخاري في صدد نسخ المصاحف في عهد عثمان الذي احتوى تقريرا صريحا بأنه إنما أنزل بلغة قريش. ومن هذا الباب ما قيل حتى أصبح مستفيضا وحجة خطابية حاضرة من أن الله كما أرسل موسى في ظرف ارتقى فيه السحر وشاع بمعجزة تشبه السحر وليست سحرا فغلب الساحرين، وأرسل عيسى في ظرف ارتقى فيه الطب وشاع بمعجزة تشبه الطب فأتى بما يعجز الطب والأطباء فإنه أرسل محمدا بالقرآن فائقا على بلاغة البلغاء في ظرف كانت سوق الفصاحة فيه رائجة، وبلاغة الكلام فيه قد وصلت إلى أعلى الذرى نظما ونثرا فقصر عنه البلغاء والفصحاء وكان فيه معجزته، فهذا القول

مع ما في ارتقاء السحر وشيوعه والطب إلى أعلى الذرى في عهدي موسى وعيسى من محل نظر وتوقف- يعني أن القرآن قد قصد به أن يكون معجزا في فصاحته وبلاغته اللغوية والنظمية والفنية كأنما هو معلقة من معلقات الشعر الخالدة، أو قد قصد به أن يكون أعلى من مستوى أفهام الناس وبلاغة بلغائهم. وهذا لا يصح في اعتقادنا على ما ذكرناه آنفا والقرآن يقرر أنه إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ «1» وهذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ «2» إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً «3» ووَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ «4» وفَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا «5» ووَ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ «6» ووَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ «7» وإِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها «8» إلخ. يضاف إلى هذا أن القرآن في لغته وسبكه وأساليبه واصطلاحاته ومفهوماته وإشاراته ليس مغلقا أو غامضا أو معقدا أو صعبا على متوسط الأفهام والأذهان، وأنه كان يفهمه مختلف أوساط العرب حضرهم وبدوهم بل والمستعربون المقيمون

_ (1) سورة يس، الآية: [69- 70] . (2) سورة إبراهيم، الآية: [52] . (3) سورة الإسراء، الآية: [9- 10] . (4) سورة الإسراء، الآية: [82] . (5) سورة مريم، الآية: [97] . (6) سورة النحل، الآية: [64] . (7) سورة النحل، الآية: [44] . (8) سورة الزمر، الآية: [42] .

في الحجاز أو الوافدون على النبي عليه السلام من البلاد المجاورة من عرب ومستعربين أيضا. ففي القرآن آيات كثيرة تشير إلى أنّ النبي كان يتلو آيات القرآن على مختلف طبقات الناس كما جاء في آيات الكهف [27] والنمل [92] والعنكبوت [45] والأحقاف [28- 30] والجن [1] مما هو متسق مع مهمته، وإن منهم من كان يقول إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر: 25] وإِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الأنعام: 25] وقَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [الأنفال: 31] ولقد تكرر في القرآن المكي والمدني الإشارة إلى أهل الكتاب وأهل العلم وفي بعض الآيات ما يفهم أن من هؤلاء من جاء خصيصا ليجتمع بالنبي ويستمع للقرآن وقد كان منهم من تفيض عيونهم من الدمع ويخرون خشعا سجدا من تأثير ما يسمعون منه ويعلنون إيمانهم وتصديقهم به «1» مما يلهم أنهم كانوا يسمعون كلاما يفهمونه مع أنهم جاؤوا من نجران اليمن أو بلاد الشام أو الحبشة حسب ما أوضحته الروايات، كما أن اليهود الإسرائيليين والنصارى غير الحجازيين والذين يمتون أو يمتّ أكثرهم إلى أصول غير عربية والذين كانوا متوطنين في مكة والمدينة كانوا ممن وجهت إليهم الدعوة وكان القرآن يتلى عليهم ويفهمونه وقد اندمجوا في ظروف السيرة النبوية إيجابيا وسلبيا. وإذا كان يبدو اليوم فيه شيء من ذلك أو إذا كان بدا فيه شيء من ذلك منذ قرون عديدة سابقة أو إذا كان يبدو فيه اليوم وقبل اليوم كذلك مفردات غريبة على الأسماع والمألوف فإن هذا كله إنما نجم عن بعد الناس عن جوّ نزول القرآن وزمنه وجو لغته وجو البيئة التي نزل فيها من جهة، وعن ما طرأ على اللسان العربي من الفساد من جهة، وعن ما كان من اندماج كثير من غير العرب في العروبة ولغتها وتعلّمها تعلّما لا يمكن أن يقوم مقام السليقة الأصلية في بنيها الأصليين من جهة. ولقد احتوى نصوصا كثيرة تقرر المرة بعد المرة ما هو عليه من وضوح وإبانة وإحكام وتفصيل ويسر فهم وسهولة إدراك في معرض التنديد بالمكابرين

_ (1) اقرأ آيات المائدة: [81- 84] ، والإسراء: [107- 109] ، والقصص: [52- 55] مثلا.

والجاحدين والمجادلين «1» وهذا إنما هو ملزم مفحم لأن اللغة التي يسمعونها واضحة بينة مما ألفوه كل الألفة وليس فيها غموض ولا تعقيد وإشكال، ولا علوّ عن الأفهام لا من ناحية النظم والسبك واللغة ولا من ناحية المعنى والمفهوم والدلالة. ونريد أن نستدرك شيئا. فإننا لسنا نعني بما نقرره أننا نشك في إعجاز القرآن وعلوّ طبقته اللغوية والنظمية كما أن كلامنا لا يقتضي ذلك فإعجاز القرآن لا يحتمل شكا، فهو مقرر في القرآن وثابت فعلا بعجز أي كان عن الإتيان بمثله أو بشيء من مثله رغم تكرر التحدي، والإيمان بذلك واجب، وعلوّ طبقته بارز بروزا في غنى عن التدليل، ولم يبق العلماء الثقات في تقرير ذلك محل زيادة لمستزيد غير أن الذي نعنيه أن إعجاز القرآن وعلوّ طبقته وروعة أسلوبه لا تقتضي أن يكون أعلى من مستوى أفهام العرب الذين خوطبوا به ووجّه إليهم، ولا أن يكون أبعد من متناول إدراكهم ولا أن تكون مفرداته ومضامينه وتراكيبه غير مألوفة لديهم، ولا أن يكون قد قصد به أن يكون معجزا في بلاغته اللغوية والنظمية والفنية، والفرق كبير بين المعنيين كما هو واضح فيما يتبادر لنا. ولعلّه مما يصح أن يذكر في هذا المقام على سبيل التمثيل والتقريب- ولله ولكتابه ونبيه المثل الأعلى- كاتب ذو أسلوب راق شائق قوي النفوذ يجعله في الطبقة الأولى أو ذروتها في حين يكون سهل التناول غير غامض ولا معقد، يستطيع أن يسيغه مختلف القراء وأواسطهم، بل وإن هذا الأسلوب ليكون دائما أحسن الأساليب وأفصحها وهو الذي يسميه البيانيون بالسهل الممتنع. هذا عدا عن أن إعجاز القرآن فيما نعتقد ليس من ناحية نظمه وأسلوبه اللغويين فحسب بل هو أيضا من ناحية روحانيته النافذة الباهرة التي تنفذ إلى أعماق عقل الإنسان وقلبه وروحه، ونعتقد أن لهذا الاعتبار الأول في إعجازه، وأن التحدي وتقرير عدم إمكان الإتيان بمثله أو بشيء من مثله إنما هو «للقرآن»

_ (1) النساء: [82] ، والأنعام: [155- 157] ، وهود: [1- 2] ، ويونس: [1- 2] ، والحجر: [6] ، والنور: [1] ، والشعراء: [1- 2] ، والفرقان: [1] ، والنمل: [1- 2] ، والعنكبوت: [51- 52] مثلا.

وهذا هو التعبير الذي استعمل في القرآن. الذي كما هو لغة وأسلوب هو كذلك معان ودعوة قوية نافذة باهرة في مداها ومضمونها وشمولها وسعة أفقها وروحانيتها التي وصف أثرها القرآن نفسه بهذا الوصف: 1- لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ.. الحشر: [21] . 2- اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ.. الزمر: [23] . 3- وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الإسراء: [82] . ثم التي وصف أثرها القرآن في أهل العلم والنية الحسنة من الكتابيين بهذا الوصف القوي النافذ: 1- وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ المائدة: [83- 84] . 2- وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ.. الرعد: 36. 3- قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً.. الإسراء: [107- 109] . 4- وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا.. القصص: [53] . ولعل من الدلائل على أن لغة القرآن ولغة بيئة النبي شيء واحد- ونعني المفردات والمصطلحات والتراكيب- حكاية القرآن لكلام الكفار وغير الكفارة وردّه عليهم، والأحاديث الكثيرة جدا الواردة عن النبي وأصحابه التي لا فرق بين لغتها ولغة القرآن بل ولقد رويت أحاديث تذكر أن بعض الصحابة والكفار قالوا كلاما

بعينه فنزل القرآن بنفس النظم الذي صدر عنهم منها: 1- حديث روي عن عمر بن الخطاب أنه قال لنساء النبي حينما تآمرن على النبي بسائق الغيرة: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن. 2- حديث بخاري مروي عن زيد بن أرقم أنه سمع عبد الله بن أبيّ يقول «لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله» ويقول «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ ... » . وآيات سورة المنافقون: [7- 8] وسورة التحريم: [5] قد احتوت هذه النصوص كما هو معلوم. ونحن نرى هذا بديهيا ومن تحصيل الحاصل، ولكنا أثبتناه لأن فكرة أن هناك فرقا عظيما بين لغة القرآن ولغة أهل بيئة النبي وأن تلك اللغة أعلى من مستوى أفهام هؤلاء قوية الرسوخ. ومما يقوم شاهدا قرآنيا على هذا الذي نقرره في هذه النقطة خاصة ما جاء في بعض الآيات من حكاية لأقوال الكفار في القرآن مثل إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ «1» ووَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا.. «2» وقالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ.. «3» . فهذه النصوص تتضمن قرائن حاسمة على أن سامعي القرآن وخاصة الطبقة المتزعمة والنبيهة التي كانت تتولى كبر المعارضة وقيادتها كانوا يسمعون كلاما يفهمونه كل الفهم بجميع دقائقه، لا يعلو عن أفهامهم ولا يبعد عن مألوفاتهم ويرونه شبيها بأقوال الناس بل ويصفونه بأنه كذلك.. ونريد كذلك أن ننبه على نقطتين أخريين:

_ (1) سورة المدثر، الآية: [25] . (2) سورة الفرقان، الآية: [5] . [.....] (3) سورة الأنفال، الآية: [31] .

فأولا: إن ما قلناه من فهم المخاطبين العرب على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم للقرآن لا يقتضي أن يكون متناقضا مع ما هو مقرر بصورة حاسمة من أن لغة القرآن هي لغة قريش فالقرآن وجّه أول ما وجّه إليهم وإلى القبائل والمدن الحجازية كما جاء في آيتين متماثلتين في سورتي الأنعام والشورى وهما: 1- وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها.. الأنعام: [92] . 2- وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها الشورى: [7] . على أن لغة قريش من جهة أخرى كانت إجمالا في عهد البعثة النبوية لغة العرب جميعهم على اختلاف منازلهم أو على الأقل مفهومة من العرب جميعهم بسبب ما كان من اشتداد التحاك بين قريش وسائر العرب في مواسم الحج التي كان يشترك فيها العرب جميعهم والتي كانت تقام قبل البعثة النبوية بمدة طويلة وبسبب وحدة الأصل من حيث المبدأ. ولعلّ في آية الشورى الآنفة الذكر خاصة دلالة أو قرينة على ذلك حيث وصفت القرآن بالعروبة مع إشارتها إلى مهمة الرسول في إنذاره مكة ومن حولها وقد وصف القرآن بهذا الوصف في آيات مكية عديدة أخرى كما ترى فيما يلي. 1- إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.. يوسف: [2] . 2- وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا الرعد: [37] . 3- نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ الشعراء: [192- 195] . 4- وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.. الزمر: [27- 28] . 5- كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فصلت: [3] .

6- إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ الزخرف: [3] . مما يدعم النقطة التي قررناها. وكذلك مما يدعمها أن القرآن وصف غير العربية بالأعجمية كما ترى فيما يلي: 1- وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ النحل: [103] . 2- وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ فصلت: [44] . بحيث يستفاد من ذلك أن العربية كانت حينما تطلق تشمل لغة العرب جميعهم، وأنه لم يكن للعرب جميعهم لغة غير اللغة التي نزل بها القرآن وأن لغة قريش التي هي لسان النبي الذي ذكر القرآن أن الله قد يسّر القرآن به أي لغته كانت هي لغة العرب جميعهم. وثانيا: - إن ما قلناه من أن كل كلمة في القرآن كانت مفهومة من العرب على حقيقة مداها ومعناها لا يقتضي أن يكون مناقضا لما هو طبيعي فرضا وواقعا وبديهة من وجود كلمات فيه لا يفهم مداها ومعناها إلا الفئات الخبيرة النيرة منهم بل ومن وجود كلمات قد لا يكون سمعها أو قد يجهلها بعض أفراد من هذه الفئات نفسها، ومن وجود أفراد قليلين أو كثيرين أو قبائل برمتها تجهل المعنى الحرفي لقليل أو كثير من مفردات القرآن بل ومن بعض تعابيره كذلك. وهذه الظاهرة مشاهدة ملموسة في كل ظرف وقطر ومن كل فئة بما فيها الفئات المتعلمة ومع ذلك فمن المشاهد الملموس أن الناس على اختلاف فئاتهم وثقافاتهم وخاصة أواسطهم لا يعيبهم أن يفهموا ما يقرأونه من رسائل وكتب وصحف ويسمعونه من خطب وإذاعات. وطبيعي أن العرب في عصر النبي وعهد بعثته لم يكونوا ليخرجوا عن نطاق هذه الظاهرة، وإذا روي عن بعض الصحابة جهلهم لمعنى كلمة من الكلمات القرآنية فلا يكون في ذلك غرابة ما بقطع النظر عن صحة الرواية متنا وسندا.

- 4 - القرآن أسس ووسائل:

ومن هذه البيانات تتجلى فائدة الملاحظة التي هي موضوع البحث الأصلي مهما بدت للبعض بديهية، حيث تجعل الناظر في القرآن يندمج في جو لغته وأساليبه واصطلاحاته التي هي لغة عهد نزوله وأساليبه واصطلاحاته ولغة ظروف هذا العهد فينجلي له كثير من الأمور والمعاني على وجهها وحقيقتها، ولا ينجرّ إلى معان ومدى ومفهومات وتزيدات وتكلّفات وتخمينات ومعميات لا تتحملها نصوص القرآن وأساليبه ودلالاته وظروف نزوله ومهمة من أنزل عليه. - 4- القرآن أسس ووسائل: رابعا: إن محتويات القرآن نوعان متميزان وهما الأسس والوسائل، وإن الجوهري فيه هو الأسس لأنها هي التي انطوت فيها أهداف التنزيل القرآني والرسالة النبوية من مبادئ وقواعد وشرائع وأحكام وتلقينات مثل وجوب وجود الله تعالى ووحدته وتنزهه عن كل شائبة وشريك وولد واتصافه بجميع صفات الكمال ومطلق التصرف في الكون واستحقاقه وحده العبادة والخضوع ونبذ كل ما سواه والقيام بالواجبات التعبدية له، ومثل المبادئ والأمر والنواهي والتشريعات والأحكام والتلقينات الكفيلة بصلاح الإنسانية وطمأنينتها والتعاون الأخوي التام بينها أفرادا وجماعات وسلبية وإيجابية وأخلاقية واجتماعية وسياسية وحقوقية وسلوكية واقتصادية والنهي عن كل ما يناقض ذلك. أما عدا ذلك مما احتواه القرآن من مواضيع مثل القصص والأمثال والوعد والوعيد والترهيب والترغيب والتنديد والجدل والحجاج والأخذ والرد والتذكير والبرهنة والإلزام ولفت النظر إلى نواميس الكون ومشاهد عظمة الله وقدرته ومخلوقاته الخفية والعلنية مثل الجن والإنس وإبليس والشيطان ومشاهد الرؤية فهي وسائل تدعيمية وتأييدية إلى تلك الأسس والأهداف وبسبيلها. ومع أن جل هذه الوسائل ممّا له صلة ببيئة النبي وعصره من جهة والسيرة النبوية من جهة وبفهمها، وأن منها ما يتصل بالأسس والمبادئ من بعض

النواحي كنتائج لها مثل الحياة الأخروية ومشاهدها وأهوالها ونعيمها وعذابها والملائكة والجن ومعجزات الأنبياء مما يدخل في الغيبيات الإيمانية من جهة، ومع أنها قد شغلت حيزا كبيرا أو بالأحرى الحيز الأكبر من القرآن فإن من فائدة هذه الملاحظة أن تجعل الناظر في القرآن يقف عند الأهداف والمبادئ ويعتني العناية الكبرى بتجليتها وإبرازها، ولا يحمل الوسائل والتدعيمات ما لا ضرورة لتحميلها إياه ولا يترك لها المجال لتغطي على تلك، وتكون له شغلا شاغلا مستقلا بحيث يستغرق فيها مثل استغراقه في الأسس فضلا عن استغراقه فيها أكثر من استغراقه في هذه مما هو واقع ومشاهد كالانشغال مثلا في ماهية القصص القرآنية والنواميس الكونية، أو ماهية الملائكة والجن أو ماهية مشاهد الحياة الأخروية، وبحيث يغفل عن هدفها الرامي إلى تدعيم الأسس والأهداف مما يؤدي به إلى إهمال التدبر بالجوهري والتورط فيما لا طائل من ورائه والوقوع في الحيرة والبلبلة دون ما ضرورة. وننبه على أن هذا التقسيم بالمعنى الذي نقرره مستلهم بوجه عام من روح القرآن وأسلوبه وآياته، مما يستطيع أن يلمسه كل من أنعم النظر فيها، حيث يجد أنه لم ترد قصة أو مثل أو موعظة أو حملة تنديد وإنذار أو إشارة تنويه بملكوت الله وعظمته والدعوة إلى التفكير في آلائه أو ذكره للملائكة والجنّ أو تذكير بما كان من دعوة سابقة ومعجزات نبوية خارقة، أو تنبيه إلى الحياة الأخروية ومشاهدها ونتائجها المبهجة أو المزعجة إلا بعد تقرير تلك الأسس والأهداف أو شيء منها والدعوة إليها، أو بيان الحق والخير والصلاح والسعادة فيها، أو حكاية مواقف الكفار منها أو تثبيت النبي والمسلمين فيها وتصبيرهم عليها، وهذا من مميزات الأسلوب القرآني وخصوصياته بالنسبة لسائر الكتب المنزلة، وحيث يجد أن هذه الأسس والأهداف تظل محكمة ثابتة مع ما هو طبيعي من اختلاف مواقف النبي وتنوعها بالنسبة لفئات الناس والعقول والظروف في حين أن ما هو من باب الوسائل والتدعيمات يتنوع ويختلف أسلوبا ومدى وتعبيرا مع اختلاف تلك المواقف وتنوعها وهذا خاصة من شأنه أن يكون مقياسا وضابطا للتفريق بين

القسمين القرآنيين، بل ومن شأنه أن يحل ما يتوهمه الناظر في القرآن من إشكالات قرآنية في الأسلوب والمدى والتعبير أيضا. وهو مستلهم بوجه خاص من بعض نصوص صريحة في القرآن- مع ملاحظة ما قد يكون لها من خصوصيات زمنية يأتي في مقدمتها وقد يكون أقواها مدى وأوضحها دلالة آية آل عمران السابعة هذه: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ... وهذه الآية نزلت في سياق الردّ على وفد نصراني تناظر مع النبي عليه السلام في أمر المسيح فسأله الوفد ألا يقول القرآن إن المسيح كلمة الله وروح منه قال بلى قال فهذا حسبنا. فنزلت الآية تندد بالوفد الذي ترك الأصل القرآني المحكم وهو أن الله واحد لا يصح أن يكون له ولد ولا شريك وجنح إلى التأويل الفاسد لبعض النصوص التي أنزلت بقصد التقريب والتمثيل. وعلى خصوصية الآية من حيث المناسبة فإنها جاءت بأسلوب تقريري عام لتكون شاملة الحكم والمدى، بحيث يصح أن يستلهم منها بقوة أن القرآن قسمان متميزان أحدهما محكم أساسي ثابت لا يحتمل تأويلا ولا تنوعا ولا وجوها افتراضية وتقريبية، وثانيهما متشابهة بسبيل التقريب والتمثيل والإلزام والبرهنة ويحتمل التأويل والتنوع والوجوه الافتراضية. ولسنا منفردين في هذا التخريج فقد سبق إليه كثير من أعلام العلماء والمفسرين على تنوع أقوالهم واختلاف مدى السعة والضيق فيها «1» وقد روي عن ابن عباس «2» في صدد الآية أن المحكم هو ناسخ القرآن وحلاله وحرامه وحدوده

_ (1) «تفسير المنار» ج 3. (2) «الإتقان» للسيوطي.

وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به وأن المتشابه هو منسوخ القرآن ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به. وقد نوّه للأول بآيات الأنعام: 151- 153 والإسراء: 23- 38 التي هي مجموعات رائعة من المبادئ والأهداف التوحيدية والأخلاقية والاجتماعية والسلوكية. وفي سورة محمد آية يصح أن تكون دليلا قرآنيا وهي هذه: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) . حيث يلهم نصّها أن معنى «محكمة» هو الفرض الأساسي الحاسم من فروض القرآن وتكاليفه. وفي القرآن آيات كثيرة جدا يبرز فيها تأييد هذا المعنى كآيات البقرة: [12- 26] والأعراف: [57- 58] والكهف: [54- 59] وطه: [113] والعنكبوت: [40- 49] والروم: [20- 28] والزمر: [9- 29] والحاقة: [4- 52] والمعارج: [11- 44] والمدثر: [30- 47] إلخ. وهو متسق مع حكمة بعثة الرسل وهي هداية البشر وإخراجهم من الظلمات إلى النور والدعوة التي دعوا إليها وهي الدعوة إلى الله وحده وإلى مكارم الأخلاق والمبادئ التي يقوم عليها صلاح الإنسانية وسعادة الناس في الدارين. أما ما ظهر على أيدي الرسل من معجزات وما صدر عنهم الوحي الرباني من نذر وبشائر ووعد ووعيد وتذكير وتمثيل وقصص ومواعظ فإنه بسبيل تلك الحكمة وإعلائها وتجليتها والإقناع بها والتوجيه إليها كما يبدو واضحا وبديهيا عند ذوي الألباب والرؤية. ومما يزيد ما نقرره قوة ووضوحا ما يلاحظ من تطور التنزيل القرآني وتطور إطلاق تعبير «القرآن» على أجزاء القرآن وسوره وفصوله. فالقرآن يطلق كما هو معروف على مجموعة السور التي بين دفتي المصحف، غير أن هذا التعبير قد بدىء

باستعماله منذ مبادئ نزول القرآن، وبدىء بإطلاقه على ما كان ينزل من مجموعاته قبل تمامه، بل قبل أن ينزل منه إلا القليل ثم ظلّ يطلق على ما كان ينزل منه وما يجتمع من مجموعاته إلى أن تمّ تمامه بوفاة النبي عليه السلام كما يفهم من آيات المزمل: [4] وق: [1] والبروج: [21] وص: [3] والجن: [1] والفرقان: [32] وطه: [114] والواقعة: [77] والنمل: [1] والإسراء: [9] ويونس: [82] والحجر: [1] إلى كثير غيرها من السور المكية «1» ثم ظل يطلق في السور المدنية على ما نزل وكان ينزل كما يفهم من آيات البقرة: [2] وآل عمران: [3- 4] والنساء: [82] والحشر: [21] ومحمد: [24] وغيرها.. والمعقول والواقع أن الآيات والسور القرآنية التي نزلت قبل غيرها قد احتوت في الأكثر أسس الدعوة ومبادئها وأهدافها واقتصرت أو كادت تقتصر على التبشير بها وإنذار الذين لا يستجيبون إليها ولم تتوسع في الوسائل كما ترى في سور الفاتحة والأعلى والشمس والليل والعصر والإخلاص والتكاثر والتين والقارعة، مما يؤيد أن الأهداف والأسس هي المقصودة الجوهرية في القرآن أولا. وقد خلت هذه السور وأمثالها أو كادت تخلو من العنف مما هو طبيعي لأن الدعوة وأهدافها ومبادئها هي التي يجب أن تعرض أولا وتنشر دون ما عنف ولا جدال، ثم أخذت الفصول التالية لها تحتوي إلى جانب تقرير المبادئ والأهداف والتوسع فيها حملات عنيفة على الجاحدين والكافرين والصادين وحكاية مواقفهم وإنكارهم لصحة الوحي القرآني كما أخذت تتوسع في الوسائل التدعيمية من قصص وأمثال ووصف نواميس ومشاهد وذكر غيبيات إيمانية إلخ مما هو طبيعي كذلك، لأن الجحود والجدل والإنكار والشك والاستغراب والأذى والصدّ والتحدي والتحريض إنما وقع بعد عرض الدعوة وتقرير الأهداف، ولأن مواقف الجاحدين والمفكرين والشاكين والمستغربين والمترددين والصادين والمكابرين والمتحدين استتبعت التوسع في الوسائل التدعيمية والتأييدية. ولقد احتوت الفصول التالية

_ (1) هذه السور من السور المكية المبكرة بالنزول قليلا أو كثيرا. الجزء الأول من التفسير الحديث 11

- 5 - القصص القرآنية:

المذكورة جدلا وحجاجا بين النبي والكفار حول «القرآن» وصحة الوحي الرباني مثل آيات القلم: [9- 15] والتكوير: [19- 29] والفرقان: [1- 6 و 32] والشعراء: [192- 226] والإسراء: [45- 47 و 105- 111] ويونس: [15- 17 و 37- 40] وهود: [13- 14] والسجدة: [1- 3] وسبأ: [31] وفصلت: [40- 45] إلخ، والمعقول أن يكون الكفار قد جادلوا في أول الأمر في ما احتوته الأجزاء الأولى من القرآن وكادت تقتصر عليه من الأسس والمبادئ وكفروا بنبوة النبي وصحة الوحي الرباني فأخذت هذه الآيات وأمثالها تحكي أقوالهم وترد عليها ردودا مفحمة، وتضرب لهم الأمثال وتذكرهم بمن سبقهم من الأمم والأنبياء وتتوعدهم وتنذرهم بالآخرة وهولها وعذابها. وتتحداهم وتندد بما هم عليه من ضلال وسخف، وتبشر المستجيبين بسعادة الدنيا ونعيم الآخرة وتثبتهم وتصبرهم وتسلي النبي وتطمئنه إلخ ثم استمر الأمر على ذلك كله مع تنوع في الأساليب حسب تنوع المواقف وتجددها فالإنذار والتبشير والتنديد والتنويه والوعد والوعيد والقصص والأمثال والإلزام والإفحام والجدال إنما هو كما هو واضح جاء تبعا للأسس والمبادئ والأهداف ودار حولها، بسبيل التدعيم والتأييد اللذين اقتضتهما ظروف السيرة والدعوة ومواقف الناس مسلميهم وكفارهم من تلك الأسس والمبادئ والأهداف التي هي الأصل والجوهر في التنزيل القرآني. - 5- القصص القرآنية: خامسا: إن ما ورد من قصص وأخبار متصلة بالأمم السابقة وأحداثها أولا لم يكن غريبا عن السامعين إجمالا، سماعا أو مشاهدة آثارا أو اقتباسا أو تناقلا، وسواء منه ما هو موجود في أسفار كتب الكتابيين وغيرهم المتداولة مماثلا أو زائدا أو ناقصا أو مباينا لما جاء في القرآن. أم ليس موجودا فيها مما يتصل بالأمم والأنبياء الذين وردت أسماؤهم فيها مثل قصص إبراهيم المتعددة مع قومه وتسخير الجن والريح لسليمان وقارون والعبد الصالح مع موسى ومائدة المسيح، أو

مما يتصل بغيرهم من الأمم والبلاد العربية وأنبيائهم مما لم يرد أسماؤهم فيها مثل قصص عاد وثمود وسبأ وتبع وشعيب ولقمان وذي القرنين. وثانيا لم يورد للقصة بذاتها وإنما ورد للعظة والتمثيل والتذكير والإلزام والإفحام والتنديد والوعيد. وفي القرآن شواهد وقرائن ونصوص عديدة مؤيدة للنقطة الأولى مثل ما جاء في آيات سورة الروم: [9] وسورة غافر: [21] وسورة الحج: [45- 46] وسورة الصافات: [133- 138] وسورة القصص: [58] وسورة الفرقان: [40] وسورة العنكبوت: [38] وسورة هود: [100] وسورة إبراهيم: [45] . وفي أسلوب القصص القرآنية الذي لم يكن سردا تاريخيا كما هو الحال في قصص التوراة والذي تخلله الوعظ والإرشاد والتبشير والإنذار بل والذي جاء سبكه وعظا وإرشادا وتبشيرا وإنذارا، ثم في سياق إيراد القصص عقب التذكير والتنديد والتسلية والتطمين والموعظة وحكاية مواقف الكفار وعنادهم وحجاجهم أو بين يدي ذلك، وتكرارها لتنوع المواقف النبوية دعوة وحجاجا وتنديدا وبيانا وعظة سنين طويلة وتجاه فئات مختلفة تأييد للنقطة الثانية، يضاف إلى هذا ما في القرآن من شواهد ونصوص خاصة وكثيرة أيضا مما يؤيدها كما يبدو واضحا لمن يتمعن في آيات الأعراف: [101 و 163- 166 و 175- 177] والمائدة: [28- 33] والأنفال: [53- 54] والتوبة: [69- 70] ويونس: [12- 13 و 71- 98] وهود: [100- 103] ويوسف: [111] والرعد: [38- 42] وإبراهيم: [9- 14] ومريم: [54- 63] وطه: [99- 101] والفرقان: [35- 40] والنمل: [45- 58] والقصص: [1- 6 و 58- 59] والعنكبوت: [37- 41] ويس: [13- 31] وص: [12- 17] . واللازمة التي اتبعت بكل قصة في سورة الشعراء وهي إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) . وهناك آيتان في سورتي الأنبياء والقصص جديرتان بالتنويه بصورة خاصة لما فيهما من دلالة قوية على أن العرب كانوا يعرفون أخبار الأنبياء ومعجزاتهم وهما هاتان: 1- بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما

أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ ... الأنبياء: [5] . 2- فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا «1» أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى.. القصص: [47] . وحكمة النقطة الأولى ظاهرة جلية فيما يتبادر لنا. فالمخاطبون إنما يتأثرون بما احتوته الحادثة أو القصة التي تورد عليهم من موعظة أو مثل أو تذكير وزجر وتنبيه ودعوة إلى الاعتبار والارعواء والتأسي والتدبر في العاقبة إذا كانت مما يعرفونه أو مما يعرفه بعضهم جزئيا أو كليا مفصلا أو مقتضبا. أما إذا لم يكونوا يعرفونه فإنه لا يأتي مستحكم الإلزام والإفحام والتأثير والعبرة، ولا سيما على مخاطبين كافرين بأصل الدعوة التي يراد التذكير بمواقف الغير والسابقين من مثلها وبمصائرهم بسبب هذه المواقف أو جاهلين للحادثة التي يراد استخراج العبرة من سيرها وظروفها وعواقبها. وهذه الملاحظة مهمة وجوهرية جدا، لأن من شأنها أن تحول دون استغراق الناظر في القرآن في ماهيات ووقائع ما احتوته القصص التي لم تقصد لذاتها، وأن تغنيه عن التكلف والتجوز في التخريج والتأويل والتوفيق أو الحيرة والتساؤل في صدد تلك الماهيات والوقائع، وأن تجعله يبقي القرآن في نطاق قدسيته من التذكير بالمعروف والإرشاد والموعظة والعبرة ولا يخرج به إلى ساحة البحث العلمي وما يكون من طبيعته من الأخذ والرد والنقاش والجدل والتخطئة والتشكيك على غير طائل ولا ضرورة. ونريد أن نبحث في ما يمكن أن يرد على موضوع الملاحظة وخاصة نقطتها الأولى. فلقد ورد في سورة هود بعد قصة نوح خاصة وورد في سورة يوسف بعد إتمام القصة وورد في سورة آل عمران في سياق نشأة مريم آيات جاء فيها تنبيه على

_ (1) بمعنى هلا.

أن ذلك من أنباء الغيب كما ترى فيها: 1- تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ هود: [49] . 2- ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ يوسف: [102] . 3- ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ آل عمران: [44] . وظاهر الآيات ينقض تلك النقطة كما هو المتبادر. غير أننا نلاحظ أن قصتي نوح ويوسف خاصة قد وردتا في التوراة قريبتين جدا مما وردتا في القرآن، وإن التوراة كانت متداولة بين أيدي الكتابيين الذين كان كثير منهم يعيشون في بيئة النبي قبل بعثته وبعدها، كما أن أهل هذه البيئة كانوا على صلة وثيقة بهم وبالبلاد المجاورة الكتابية الدين أي الشام ومصر والحبشة والعراق العربي، وأن القرآن قد أكثر من ذكر التوراة مصدقا حينا ومنوها بما احتوته من نور وهدى وحق حينا ومتحديا بها اليهود حينا، وأن فيه آيات تفيد صراحة أو ضمنا أن أهل بيئة النبي كانوا يسمعون من الكتابيين أشياء كثيرة عن كتبهم كما ترى في الأمثلة التالية: 1- أَتَأْمُرُونَ «1» النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ.. البقرة: [44] . 2- وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا «2» فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ.. البقرة: [89] . 3- وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ

_ (1) يعني اليهود. (2) يعني العرب.

بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ البقرة: [76] . 4- أَمْ تُرِيدُونَ «1» أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ البقرة: [108] . 5- وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ «2» مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.. آل عمران: [78] . 6- كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ آل عمران: [93] . 7- وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ المائدة: [43- 44] . وإن أهل هذه البيئة كانوا يثقون بما عند الكتابيين من علوم ومعارف، مما ينطوي في ذلك حكمة ما تكرّر في القرآن من الاستشهاد بهم على صحة الرسالة النبوية مما أوردنا آياته في مناسبة سابقة. والروايات متضافرة على أن اليهود كانوا يتبجحون بالتوراة في سياق الدعوة النبوية وأحداثها. وأنهم نشروها مرة أو أكثر في مجالس النبي، وعلى أنه كان من أهل بيئة النبي العرب من كان يدين بالنصرانية واليهودية ومطلعا على التوراة والإنجيل فضلا عن من يدين بالنصرانية خاصة من العرب الذين يقطنون في أنحاء أخرى من الجزيرة العربية وأطرافها والتوراة كتاب النصارى كما هي كتاب اليهود فضلا عن اختصاص الأولين بالإنجيل كما هو معروف. وفي حديث البخاري عن

_ (1) يعني المسلمين. (2) يعني المسلمين.

بدء الوحي وقد أوردناه في الفصل الأول صراحة بمعرفة ورقة بن نوفل اللغة العبرانية واطلاعه على التوراة والإنجيل. فليس مما يصح فرضه أن لا يكون من العرب السامعين للقرآن من يعرف هاتين القصتين. ومثل هذا يقال بالنسبة لقصة مريم التي ورد في بعض الأناجيل شيء قريب مما ورد عنها في القرآن وفي بدء قصة يوسف آية هذا نصها: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ [7] والسؤال عن أمرهم لا بدّ من أن يكون آتيا من معرفة شيء ما أو سماع شيء ما عنهم من دون ريب. لذلك فإن في الآيات الثلاث المذكورة إشكالا يدعو إلى الحيرة، ولا يستطاع النفوذ إلى الحكمة الربانية فيه نفوذا تاما. وليس من مناص إزاء الواقع ومداه من أن قصص نوح ويوسف ومريم من القصص المشهورة إلا بتأويل هذه الآيات وتخريجها بما يزيل الإشكال ويتسق مع الواقع. وقد رأينا المفسر الخازن يعلق على آية هود فيقول إن قصة نوح مشهورة وإنه ليس مما يحتمل أن لا تكون معروفة، وإنه يجب صرف الآية على محمل قصد عدم معرفة النبي وقومه بجميع تفصيلاتها. وفي هذا التعليق وجاهة ظاهرة كما أنه لا معدى عنه أو عن ما يقاربه كصرف الغيب إلى معنى البعيد غير المشاهد أو الذي صار في طيات الدهر في صدد القصص التي وردت عقبها خاصة هذه الآيات. وننبه على أن بقية الفصول القصصية في سورتي هود وآل عمران، وكذلك الفصول القصصية المتنوعة الواردة في مختلف السور بما في ذلك قصص نوح ومريم ويوسف لم يرد فيها مثل هذا التعليق والتقييد، وأن قصة نوح ذكرت بتفصيل أو اقتضاب مرات كثيرة في السور التي نزلت قبل سورة هود مثل ص والأعراف والقمر والشعراء، وأن قصة مريم وولادة عيسى ذكرت بتفصيل أيضا في سورة مريم التي نزلت هي الأخرى قبل سورة آل عمران وأشير إليها باقتضاب في سور متعددة أخرى ولم يرد كذلك في سياقها مثل هذا التعليق والتقييد مما يجعل التأويل والتخريج سائغا وصوابا. ولعل مما يحسن إيراده في صدد قصة نوح مسألة أصنام قوم نوح المذكورة

في سورة نوح وهي ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر فقد كانت الأصنام من الأصنام المعبودة عند بعض قبائل العرب في عصر النبي وقد تسمّى كثير من الأشخاص المعاصرين للنبي بعبودية بعضها مثل عبد ودّ وعبد يغوث وفي بعض الروايات أن العرب اقتبسوا هذه الأصنام وعبادتها من قوم نوح ولعل هذا ما كان متداولا بينهم قبل البعثة. وعلى كل فإن هذا قرينة على أن العرب لم يكونوا جاهلين قصة نوح ومواقفه من قومه بالكلية. ومما يصحّ إضافته إلى الآيات القرآنية الكثيرة التي احتوت دلائل وقرائن تفيد أن السامعين كانوا يعرفون أخبار الأمم والأنبياء التي تتلى عليهم من القرآن على سبيل العظة والتذكير أن المفسرين قد أوردوا بيانات كثيرة في سياق كل قصة من القصص القرآنية مسهبة حينا ومقتضبة حينا آخر، ومعزوة إلى علماء السير والأخبار إطلاقا حينا وإلى علماء بأسمائهم مثل ابن عباس ومقاتل ومجاهد والضحاك والكلبي وابن إسحاق ووهب بن منبه وكعب الأحبار وغيرهم حينا، واحتوت تفاصيل وجزئيات حول هذا القصص أو قصصا بسبيلها مهما كان فيها من إغراب ومفارقات فإننا نستبعد أن تكون كلها موضوعة بعد النبي عليه السلام، ونميل إلى القول بل نرجح أنها احتوت أشياء كثيرة مما كان يدور في بيئة النبي قبل البعثة وبعدها حولها، وأنها مما يمكن الاستئناس به في تأييد النقطة الأولى من الملاحظة مما هو متسق مع المنطق وهدف التذكير والوعظ القرآني. ومما يصح إضافته أيضا صيغة أعلام القصص مثل طالوت وجالوت ويونس وأيوب وفرعون وهامان وقارون وهارون وإبراهيم وآزر وسليمان وداود وإدريس ونوح والمسيح عيسى وموسى وهاروت وماروت إلخ فإن هذه الأعلام قد جاءت في القرآن معربة وعلى أوزان عربية ومن المستبعد أن تكون قد عربت لأول مرة في القرآن، ومن المرجح أن تكون قد عربت وتداولت بأوزانها العربية قبل نزولها وبهذا وحده يصح أن يشملها تعبير إنزال القرآن بلسان عربي مبين لأنها جزء منه وتداولها معربة قبل نزول القرآن يعني كما هو بديهي معرفة العرب شيئا من أخبار أصحابها على الأقل.

وفي ما تكررت حكايته في القرآن عن الكفار من قولهم إنه أساطير الأولين وأن النبي كان يستكتبها وتملى عليه، وإنه كان أناس آخرون يعينونه عليها، وأنهم لو شاؤوا لقالوا مثلها كما جاء في آيات الأنعام: [25] والأنفال: [30] والفرقان: [5] والقلم: [8 و 15] مثلا قرينة قوية كذلك إن لم نقل قرينة حاسمة على أن العرب كانوا يسمعون من قصص القرآن ونذره وبشائره وتذكيراته ما اتصل بهم علمه وكان من المتداول بينهم. ولقد يرد أن الكفار حينما كانوا يرددون على النبي تعبير أساطير الأولين خاصة كانوا في موقف المكابر المستخف ومع التسليم بهذا فإن كلمة أساطير لا تقتضي دائما أن تعتبر مرادفة لكلمة قصص خرافية كما هو من مفهوماتها فإنها قد تفيد أيضا معنى المدونات لأنها مشتقة من «سطر» بمعنى «كتب» كما هو وارد في القرآن ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ [القلم: 1] وآية الفرقان الخامسة وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا تلهم أن هذا من المعاني المقصودة للكلمة. ومهما يكن من أمرها فإنها تعني على كل حال أنهم يسمعون أخبارا وقصصا وصلت إلى علمهم عن الأمم السابقة حقيقة كانت أو خرافية. ومما يرد على ما نخمّن سؤال عن مدى ما بين القصص القرآنية وأسفار التوراة والإنجيل المتداولة من مباينات. فقد قلنا قبل قليل إن في القرآن قصصا مقاربة لما في هذه الأسفار كما أن فيه قصصا مباينة في الأسماء والأحداث أو بزيادة ونقص، وأن فيه قصصا متصلة بأسماء رجال هذه الأسفار من أنبياء وغيرهم دون ورودها فيها. والذي نعتقده أن ما قلناه ينطبق على هذا أيضا، وأن ما ورد في القرآن هو الأكثر اتساقا مع ما كان معروفا ومتداولا عند السامعين إجمالا وهذا هو المتمشي مع الحكمة التي نبهنا عليها في القصص القرآنية ونراه طبيعيا ومتسقا مع الواقع والمألوف وهو تداول الناس أخبارا وأسماء على غير الوجه المدون في الكتب والصحف بل وكون المتداول أحيانا كثيرة هو الأكثر صحة من المدون أيضا. فليس والحالة هذه ما يمنع أن يكون لدى النصارى واليهود في عصر النبي

وقبله متداولات مدونة وغير مدونة تساق وتورد على هامش ما ورد في أسفار التوراة والإنجيل وبقصد التوضيح والتفسير والتعليق، هذا بقطع النظر عن احتمالات الاختلاف والمباينة بين الأسفار المتداولة اليوم والأسفار المتداولة قديما. وفي كتب تفسير القرآن روايات كثيرة معزوة إلى الصحابة والتابعين احتوت بيانات عن أحداث تاريخية واجتماعية عربية وغير عربية، وعن أحداث متصلة ببيئة النبي وسيرته ولم ترد في القرآن، وإنما وردت إشارة إليها قريبة أو بعيدة، فأوردت على هامش تفسير الآيات القرآنية وبقصد تفسير بعض الوقائع والأحداث والإشارات والمفهومات التي احتوتها والتعليق عليها ولا يمتنع أن تكون صحيحة كليا أو جزئيا. ولقد تكون قصص إبراهيم خاصة لافتة للنظر أكثر من غيرها في هذا الباب لأن جلّ ما ورد منها في القرآن لم يرد في التوراة. والمدقق في القصص التي لم ترد في التوراة يجد أنها متصلة بالحياة والظروف والتقاليد التي كانت عليها البيئة النبوية، وبمواقف الكفار العرب وعقائدهم أيضا اتصالا وثيقا سواء في أمر إسكان ذرية من إبراهيم في مكة أو في إنشاء الكعبة، أو في أصول الحج وتقاليده، أو موقفه من أبيه وبراءته منه، أو حملته على عبادة الأصنام وموقفه من قومه من أجلها وتكسيره إياها وإلقائه في النار بسبب ذلك، أو محاجّته مع الملك أو نظرته في النجوم وانصرافه عنها، ويجد أنها داعية إلى التأسي لأنه أبو العرب. والذي نعتقده أن هذه القصص كانت متداولة بين العرب ومتناقلة فيهم جيلا عن جيل دون ما حاجة إلى أن تكون مستقاة من اليهود مع احتمال أن يكون اسما إبراهيم وإسماعيل قد اقتبسا من اليهود لأن التوراة هي أول ما جاء يحمل هذين الاسمين مدونين، وأن من تلك الناحية خاصة تجيء قصص إبراهيم ملزمة للعرب، وتورد في القرآن بقوتها التلقينية والتذكيرية المستحكمة النافذة التي وردت بها كما يمكن أن يبدو لمن يتمعن في آيات البقرة: [124- 141 و 258 و 260] وآل عمران: [65- 68 و 94- 97] والأنعام: [74- 90] والتوبة: [113- 114] وإبراهيم: [35- 41] ومريم: [42- 50] والأنبياء: [51- 70] والحج: [26- 37 و 78]

والزخرف: [26- 28] والممتحنة: [4- 6] ، وهذا هو هدف القصة القرآنية بالذات. ونظن أنه ليس من شيء يرد من مثل هذا على موضوع القصص الأخرى التي لم يرد أسماء رجالها ومواضيعها في أسفار التوراة والإنجيل ولا سيما أن جل هذه القصص عربي الأمم والأنبياء والبلاد، وأن كونها مما كان متداولا عند العرب لا يصحّ أن يكون موضع شك وجدل، وفي الآيات القرآنية دلالات قوية على هذا خاصة مثل آيات العنكبوت: [36- 38] والأحقاف: [37] والصافات: [137- 138] والقصص: [58] والحج: [45- 46] . هذا، ومعلوم أنه يوجد في القرآن قصص أنزلت جوابا على سؤال صريح مثل قصص ذي القرنين ويوسف وأصحاب الكهف والرقيم، كما أن هناك قصصا أوردت مباشرة مثل قصة نشأة موسى وسيرته في مطلع سورة القصص. ولقد يرد أن في هذا نقضا لما قلناه من أن القصص القرآنية لم تورد لذاتها كما أنه قد يكون بالنسبة لبعض هذه القصص نقضا لما قلناه من أن القصص الموحاة مما كان متداولا وليس غريبا على الأسماع بالمرة. ولقد قلنا قبل في صدد قصة يوسف إن السؤال عنها لا يمكن أن يكون ورد إلا من أناس سمعوها وعرفوها أو سمعوا وعرفوا شيئا عنها. وهذا ينطبق على قصة ذي القرنين كما هو بديهي، ومضامين آيات أصحاب الكهف والرقيم تلهم أنه كان جدل حول قصتهم وعددهم وسني لبثهم، وهذا يعني أن السؤال وجّه على سبيل الاستفسار- وهذا ما روته الروايات- وبالتالي أن السائلين قد سمعوا وعرفوا شيئا عن القصة. ومعرفة السائلين بعض الشيء لا تقتضي بالبداهة أن لا يكون هناك أناس آخرون يعرفون أشياء كثيرة عنها كما لا تقتضي أن يكون أناس يعرفون ثم أرادوا التحقيق أو الاستفسار أو التحدي إلخ. وفي كتب التفسير بيانات وتفصيلات جزئية كثيرة عن هاتين القصتين أيضا مما يمكن أن يكون فيه- بسبب كونه مستندا إلى روايات متصلة بعهد النبي- دلالة على تداوله في هذا العهد أيضا. أما قصة موسى فلا نظن أنه يرد أنها كانت غريبة

عن الأسماع وفي القرآن دلالات حاسمة على عكس ذلك أوردنا بعض الآيات عنها. هذا بالنسبة للنقطة الأولى. أما بالنسبة للنقطة الثانية فإن قصة موسى في سورة القصص قد أعقبها آيات تنديدية وتذكيرية ووعظية معطوفة عليها وكنتيجة لها كما يبدو من الآيات [37- 50] . وهذا ما يدخلها في نطاق القصص الأخرى الواردة في معرض التذكير والتمثيل والإنذار والدعوة والاعتبار. وكذلك قصة يوسف فقد أعقبها آيات مثل تلك وهي الآيات [103- 111] وانتهت بآية فيها قصد العبرة صراحة حيث جاء هذا التعبير لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يوسف: 111] آخرها. وقصة أصحاب الكهف والرقيم قد جاءت بعد آيات فيها حملة على الكفار لنسبتهم الولد إلى الله وهي الآيات [4- 8] ، كما أعقبها آيات فيها استمرار في الحملة وهي الآيات [23- 31] ، وأسلوبها متسق مع أسلوب سائر القصص أي أنه تضمن المواعظ والتلقينات الأخلاقية والاجتماعية والدينية واستهدف التدعيم والتأييد للدعوة النبوية وأهدافها حتى ليبدو أن هذا هو المقصود بها عند إنعام النظر في سلسلة آياتها [1- 31] وخاصة في أمر النبي بعدم المماراة كثيرا في شأنهم وإيكال علم ذلك إلى الله. ومع أن قصة ذي القرنين جاءت جوابا على سؤال صريح فإنّ أسلوبها مثل ذلك الأسلوب وقد أعقبتها آيات تضمنت حملة على الكافرين الجاحدين ومتصلة بآيات القصة اتصالا وثيقا نظما وانسجاما. وهذا وذاك يبدوان بارزين عند إنعام النظر في سلسلة الآيات. وعلى هذا فإن من الصواب أن يقال إن هذه القصص لا تشذ عن الطابع العام للقصص القرآنية الذي نوهنا به في مطلع البحث. ومما هو جدير بالتنويه ومتصل بالمعنى الذي نقرره وخاصة بالنسبة للنقطة الأولى من الملاحظة أنّ محتويات القصص القرآنية على تنوعها لم تكن موضع جدل ومماراة لا من مشركي العرب ولا من الكتابيين بدليل أنه لم يرد في القرآن أي

إشارة تفيد ذلك صراحة أو ضمنا مع أنهم كانوا يحصون على النبي كل شيء ويترصدون لكل ما يتوهمون فيه تناقضا أو شذوذا عما يعرفونه ويعتقدونه ويتداولونه ويتوارثونه ويسارعون إلى إعلان استنكارهم وتكذيبهم، ويستغلونه فرصة للصد والدعاية والتأليب مما حكى القرآن شيئا كثيرا منه. وقد يؤيد هذا أن العرب جادلوا في الحياة الأخروية أشد جدال وكذبوا وأنكروا أعنف تكذيب وإنكار فحكت ذلك آيات قرآنية كثيرة حتى لقد شغل هذا الجدل والتكذيب والإنكار وما اقتضاه من ردود وتوكيدات متنوعة الأسلوب حيزا كبيرا من القرآن المكي ولقد كان من أسباب هذا الإنكار والتكذيب والجدل أن العرب كانوا يسمعون ما لا علم لهم به سابقا وما لم يسمعوا عنه شيئا مهما من الكتابيين الذين كانوا مصدرا رئيسيا من مصادر معارفهم لأن أسفار هؤلاء لم تكد تحتوي عن الحياة الأخروية شيئا. وليس ما نقل عن العرب من قولهم عن القرآن إنه أساطير الأولين مما يفيد تكذيبهم للقصص التي يسمعونها ومماراتهم فيها لأن هذا التعبير كما قلنا عنى كما تدل عليه مضامين الآيات القرآنية مدونات الأولين وقصصهم إطلاقا، ولأنهم كانوا يردّدون هذا القول بقصد تكذيب صلة الله ووحيه بالنبي وصحة التنزيل القرآني والدعوة النبوية والحياة الأخروية لا بقصد المماراة في هذه القصص وتكذيبها وإنكارها كما يظهر من التمعن في هذه الآيات التي ورد فيها التعبير: 1- وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ الأنعام: [25] . 2- وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ الأنفال: [31- 32] .

3- وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ النحل: [24] . 4- وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً الفرقان: [5- 6] . 5- فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ القلم: [5- 15] . ولقد أنكر اليهود أمورا واردة في التوراة فتحداهم القرآن بالإتيان بالتوراة وتلاوتها إن كانوا صادقين في إنكارهم كما جاء في آية آل عمران: [93] صراحة وآيات المائدة: [43- 45] ضمنا. ولقد حاجّوا في ما قرره القرآن عن إبراهيم وملته، وقدم الكعبة وصلته بها كما يفهم من آيات البقرة: [132- 141] وآل عمران: [66- 99] صراحة وضمنا. فلو رأى العرب فيما يسمعونه من القصص تناقضا أو تباينا أو شذوذا عما يعرفونه منها إجمالا أو تفصيلا، أو لو سمعوا أشياء لا عهد لهم بها بالمرة ولو رأى الكتابيون وخاصة اليهود في ما يسمعونه مباينة لما كان متداولا في أيديهم من الكتب وتفسيرها وشروحها أو لما هو متداول ومتناقل بينهم على هامشها مما يتصل بأسماء أنبيائهم لجادلوا وطعنوا وغمزوا، ولذكر ذلك عنهم القرآن في معرض التكذيب والردّ كما ذكر عنهم جدالهم وحجاجهم وإنكارهم وطعنهم في هذا المعرض في الأمور الأخرى التي توهموا فيها تناقضا أو تغايرا أو جديدا لا عهد لهم به، ولا غتنموه فرصة للغمز والطعن والدعاية والتهويش. ولقد يرد سؤال عما إذا كان النبي يعرف أيضا القصص القرآنية قبل بعثته أو

عن غير طريق الوحي، وعما إذا لم يكن فيما نقرره تعارض معا مع نزول الوحي بها. والذي نعتقده أن النبي خلافا لما قاله بعضهم كان يعرف كثيرا مما يدور في بيئته من قصص الأمم والأنبياء السابقين وأخبارهم ومساكنهم وآثارهم سواء منها المذكور في أسفار التوراة والإنجيل أو غيره كما أنه كان يعرف كثيرا من أحوال الأمم والبلاد المجاورة للجزيرة العربية بالإضافة إلى ما كان يعرفه من أحوال سكان الجزيرة أيضا وتقاليدهم وأفكارهم وعاداتهم وأخبار أسلافهم، وأن هذا هو المتسق مع طبيعة الأشياء، وأن النبي قد اتصل قبل بعثته بالكتابيين الموجودين في مكة وتحدث معهم حول كثير من الشؤون الدينية وحول ما ورد في الكتب المنزلة واستمع إلى كثير مما احتوته، ونرجح أن هذه الصلة قد استمرت إلى ما بعد بعثته، وأنها انتهت بإيمان الذين اتصل بهم بنبوته لما رأوا من أعلامها الباهرة فيه. ولعل فيما ورد في بعض آيات القرآن قرينة على ذلك، فقد جاء في سورة الفرقان هذه الآية وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وفي سورة النحل هذه الآية وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) فهذه الأقوال الصادرة عن الكفار التي حكاها القرآن لا بد من أن تكون مستندة إلى مشاهدة اتصال النبي ببعض أشخاص كانوا يعرفون أنهم ذوو علم أو مظنة علم وتعليم ومعاونة، ومنهم غرباء، والمرجح أن الغرباء خاصة منهم كتابيون، فوهموا أنه يستعين بهم أو يعينونه على نظم القرآن وتأليفه فقالوا ما قالوه. والآيات تنفي التعليم والإعانة ولكنها لا تنفي الاتصال. وقد وردت في كتب التفسير روايات تذكر وقوع شيء من هذا الاتصال، وقد جاء في «كشاف» الزمخشري مثلا أنه كان لحويطب بن عبد العزى غلام اسمه عايش أو يعيش وكان صاحب كتب وقيل هو جبر غلام رومي كان لعامر بن الحضرمي وقيل عبدان جبر ويسار كانا يصنعان السيوف في مكة ويقرآن من التوراة والإنجيل، فكان رسول الله إذا مرّ وقف عليهما يسمع ما يقرآن. وحديث بدء الوحي للبخاري صريح بأن النبي اجتمع بورقة بن نوفل الذي تنصر وقرأ العبرانية وكان يقرأ الإنجيل ويكتبه، وفي روايات السيرة أن

ورقة هذا تولى تزويج النبي وكان عمره خمسا وعشرين سنة بخديجة ابنة عمه، ففي كل هذا ما يستأنس به على صحة ما ذكرناه. ومن الواضح أن هذا ليس بمخلّ بقدر النبي عليه السلام وعظمته التي إنما كانت تقوم في الحقيقة على ما امتاز به من عظمة الخلق وقوة العقل وصفاء النفس وكبر القلب وعمق الإيمان والاستغراق بالله، ولقد قرر القرآن طبيعة النبي البشرية، وهذا متصل بهذه الطبيعة التي من البديهي جدا أن لا تتناقض مع وقوف النبي على ما كان متداولا في بيئته أو في أي بيئة ونحلة تيسّر له الاتصال بأهلها من أقوال وأفكار وأخبار وعقائد وتقاليد وظروف وأحداث حاضرة وغابرة، بل إن من البديهي جدا أن يكون واقفا على كل ذلك غير غافل عنه، وإن هذا هو المعقول الذي لا يمكن أن يصح في العقل غيره. وإننا لنشعر بالدهشة مما أبداه ويبديه بعض العلماء من حرص على توكيد كون النبي لم يكن له معارف مكتسبة مما لا يتسق مع المنطق والمعقول والبديهي توهما بأن في هذا مأخذا ما على كون ما بلّغه النبي من القرآن إنما أتى من هذه المعارف، ونرى في هذا التوهم خطأ أصليا في تلقي معنى الرسالة النبوية التي هي هداية وإرشاد ودعوة والتي لا يعهد بمهمتها العظمى إلا لمن يكون أهلا لها في عقله وخلقه وقلبه وروحه كما ذكرت آية الأنعام [24] اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ كما أنه آت فيما يتبادر لنا من عدم ملاحظة كون القرآن قسمين متميزين أسسا ووسائل. ومما يورده هؤلاء حجة آيات العنكبوت هذه: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ [48- 49] . حيث يظنون على ما يبدو أن اكتساب المعارف والاطلاع على ما عند الناس من أخبار وأفكار إنما هو حصر على القارئ الكاتب، وليس هذا صحيحا دائما كما أنه ناشىء عن قياس الغائب بالحاضر وهو قياس مع الفارق. والآيات بسبيل تقرير

كون الدعوة التي يدعو إليها النبي وما يبلغه في صددها إنما هو وحي رباني ولم يقتبسه من كتاب، ولا ينبغي أن يكون عندهم محلّ للشك في ذلك لأنهم يعرفون أنه لم يكن يقرأ ولا يكتب، ولا يجحد بآيات الله التي تصدر عن الذين يختصهم الله بمهمته وبيناته إلا المكابرون الظالمون على ما يتبادر. وليس في هذا نقض لما قررناه. والذي نعتقده أنه ليس في ما قررناه أو في كون القصص القرآنية متسقة إجمالا مع ما كان معروفا متداولا تعارض من ناحية ما مع نزول الوحي الرباني بها على قلب النبي عليه السلام- وهو سبب القول أن النبي لم يكتسب معارفه اكتسابا- لأنها لم تنزل لذاتها بقصد القصص والإخبار وإنما أنزلت بالأسلوب والمدى والنحو الذي اقتضت الحكمة نزولها به، في معرض التنديد والموعظة والتذكير والجدل، وكوسيلة من وسائل تدعيم أهداف القرآن وأسس الدعوة النبوية إزاء مواقف المكابرين والمجادلين والجاحدين مما هو موضوع هذا البحث وفوائد الملاحظة التي عقد عليها. ولقد ورد في القرآن فصول كثيرة جدا مما له صلة ببيئة النبي وحاضر تقاليد أهلها وحياتهم وأمثالهم ومعايشهم وما في أذهانهم من صور متنوعة مما هو معروف مشهود بأسلوب الموعظة والتذكير والتنديد وكوسيلة من وسائل التدعيم والتأييد، وليس من فرق من حيث الجوهر بين هذا وذاك وليس مما يصح في حال أو يمكن أن يرد على بال ولا مما ادعاه أحد أن النبي لم يكن يعرفه عن غير طريق الوحي. وقد بقيت مسألتان قد تبدوان مشكلتين، أولاهما ما إذا كان ما احتواه القرآن من قصص صحيحا في جزئيات وقائعه وحقائق حدوثه، وثانيتهما ما بين بعض القصص القرآنية المتصلة بنبي أو أمة من بعض الخلاف مثل وصف عصا موسى بالحية في سورة والثعبان في سورة أخرى، ومثل ذكر وقت ما كان يقع على بني إسرائيل من فرعون من قتل الأبناء واستحياء النساء حيث ذكر هذا الوقت في سورة أنه قبل بعثة موسى وفي سورة أنه بعد بعثته. فنحن كمسلمين نقول إن كل ما احتواه القرآن وحي رباني واجب الإيمان وإنا آمنا به كل من عند ربنا، كما أننا نقول بوجوب ملاحظة كون القرآن في قصصه إنما استهدف العظة والتذكير فحسب، الجزء الأول من التفسير الحديث 12

- 6 - الملائكة والجن في القرآن:

وهما لا يتحققان إلا فيما هو معروف ومسلم به إجمالا من السامع وأن هذا أيضا من الحق الذي انطوى فيه حكمة التنزيل، وبوجوب الوقوف من هذه القصص عند الحدّ الذي استهدفه القرآن وعدم الاستغراق في ماهياتها على غير طائل ولا ضرورة، لأنها ليست مما يتصل بالأهداف والأسس على ما ذكرناه في مطلع البحث وهذا هو الجوهري فيه. وهذا القول يصح على المسألة الثانية مع التنبيه على أن الخلاف ظاهري ويمكن التوفيق فيه وتأويله، وعلى أنه متصل بالماهيات والحقائق التي لم تقصد لذاتها كما كررنا قوله. ونريد أن ننبه على ظاهرة قرآنية مهمة فيها توكيد لما نقرره واتساق معه، وبالتالي فيها دليل انسجام في الأساليب القرآنية ومراميها مكية كانت أو مدنية. وذلك أن أسلوب القرآن القصصي وهدفه قد اتسقا مع ما ورد فيه من ذكر الوقائع الجهادية والمواقف القضائية والحجاجية وغيرها من أحداث السيرة النبوية، بحيث إن الناظر في القرآن يجد أن ما ورد فيه من ذلك إنما ورد بقصد العظة والتذكير والتنبيه والحثّ والتحذير والإرشاد والتعليم والتأديب والتشريع، ولم يرد بأسلوب السرد التاريخي وقصده. وهذا ظاهر من كون تلك الوقائع والمواقف لم تحتو كل الصور والمشاهد والتفصيلات والأحداث، وإنما احتوت ما يحقق ذلك القصد منها. ولعل هذا هو الذي يفسر حكمة عدم ورود ذكر أو تفصيل لأمور كثيرة من أحداث السيرة وفيها ما هو مهم من وقائع جهادية كفتح مكة والطائف وغزوات مشارف الشام ومؤتة واليمن إلخ. فالظاهر أنه لم يكن فيها أمور تستوجب ذلك وتتصل بالقصد المذكور فاقتضت الحكمة عدم إنزال شيء في بعضها والاكتفاء بالإشارات العابرة بالنسبة لبعضها الآخر. - 6- الملائكة والجن في القرآن: سادسا: إن ما ورد من أخبار الملائكة والجنّ لم يكن هو الآخر غريبا عن السامعين جزئيا أو كليا، وإنه من وسائل التدعيم للدعوة وأهدافها وليس مقصودا بذاته.

ففي القرآن آيات عديدة تدل على عقيدة العرب في الملائكة ووجودهم وأنهم موضع أمل ورجاء ومصدر برّ ورحمة. وقد ذكر القرآن أن العرب يعتقدون أنهم بنات الله وذوو حظوة لديه وأنهم اتخذوهم آلهة وشفعاء ليقربوهم إليه زلفى وقد قرر كذلك أنهم كرام بررة متصلون بالله ومختصون بخدماته لا يعصونه في ما يأمر ويقدسونه ويسبحون بحمده على الدوام. وهكذا يبدو أن ما قرره القرآن عن عقائد العرب فيهم متصل بما قرره عن صفاتهم وأعمالهم وصلتهم بالله مع سوء فهم العرب وباطل تأويلهم لهذه الصلة مما كان سبب الحملة عليهم والتنديد بهم في القرآن ولقد حكى القرآن تحدي العرب النبي باستنزال الملائكة ليؤيدوه في دعوته ما دام يقول إنها بوحي الله وهذا التحدي متصل بعقيدتهم فيهم وبتقرير القرآن عنهم كما هو واضح. كذلك في القرآن آيات عديدة تدل على عقيدة العرب في الجن ووجودهم وأنهم مبعث خوف ومصدر أذى وشر، وأنهم كانوا يعوذون بهم ويشركونهم مع الله في العبادة خوفا منهم وتزلفا إليهم وأنهم يختلطون في عقول الناس، وقد قرر القرآن في صددهم أنهم ذوو أعمال خارقة ومصدر غواية وخبث، وأن إبليس وجنوده والشياطين الذين ذكروا مرادفين لإبليس وجنوده أحيانا كثيرة هم منهم، وأنهم يوسوسون في صدور الناس، ويسترقون السمع من السماء ويلقون بأكاذيبهم إلى الأفاكين الكاذبين. وهكذا يبدو أن ما قرره القرآن عن عقائد العرب فيهم متصل بما قرره عن صفاتهم وأحوالهم كذلك «1» . وفي كتب التفسير بيانات كثيرة في صدد الملائكة والجنّ وإبليس وماهياتهم وأعمالهم جاءت في سياق ما ورد عنهم في القرآن سواء فيما له صلة بعقائد العرب أم بأعمالهم وأخبارهم وأقوالهم مسهبة حينا ومقتضبة حينا آخر ومعزوة إلى علماء ورواة معينين حينا وبدون تعيين حينا آخر. ومهما يكن من أمر هذه البيانات فإن من

_ (1) في كتاب «عصر النبي وبيئته قبل البعثة» . بحثان مستفيضان عن عقائد العرب وتقريرات القرآن عن الملائكة والجن.

المستبعد أن تكون موضوعة كلّها بعد الإسلام، ونرجح أنها احتوت أشياء مما كان يدور في بيئة النبي عليه السلام حولهم، وأنها مما يمكن أن يستأنس به بأن العرب كانوا يتداولون عنهم أمورا كثيرة بقطع النظر عن صوابها وخطأها وزيادتها ونقصها، ومن الممكن أن يكون منها ما أتاهم عن الكتابيين لأن أسفار التوراة والإنجيل تحتوي أشياء كثيرة عنهم، كما أن من الممكن أن تكون أو يكون منها ما هو قديم لأن عقيدة وجود مخلوقات خفية طيبة وخبيثة من العقائد البشرية القديمة العامة التي تكاد توجد في جميع الأمم على اختلاف درجتها في الحضارة. ومن المتبادر أن ما ورد عن الجن والشياطين وإبليس من صور قرآنية بغيضة ومن حملات على الكفار في سياقها متصل بما في أذهان العرب عنهم، وبسبيل تقرير كون الانحراف عن الحق والمكابرة فيه والاستغراق في الإثم والخبائث والانصراف عن دعوة الله هو من تلقيناتهم ودسائسهم ومظهرا من مظاهر الانحراف نحوهم وبسبيل التحذير من الاندماغ بهم لما في ذلك من مهانة ومسبّة. ومن هنا يأتي الكلام قويا ملزما ولا ذعا على ما هو ملموس في مختلف الآيات القرآنية، ويقوم البرهان على أن ذلك هو من الوسائل التدعيمية لأهداف القرآن وأسس الدعوة النبوية. ولعلّ الحكمة الربانية في ما أوحى الله به من استماع نفر من الجنّ مرتين للنبي مرة في سورة الجن تلهم أن المستمعين يقولون بولد وصاحبة لله سبحانه- وهذا متصل من ناحية بعقائد العرب المشركين ومن ناحية بعقائد النصارى- ومرة في سورة الأحقاف تلهم أن المستمعين يؤمنون بكتاب موسى ومهتدون بكتاب هداه تنطوي من جهة ما على قصد التدعيم للرسالة النبوية بالإخبار بإيمان بعض طوائف الجنّ ممن يدين بديانات مختلفة منزلة وغير نازلة بالرسالة المحمدية ولهم ما لهم في أذهان العرب من صور هائلة. ومن المتبادر كذلك أن ما ورد عن الملائكة من خضوعهم لله وعدم استكبارهم واستنكارهم واستنكافهم عن عبادته، واستغراقهم في تنفيذ أوامره

ومعرفتهم حدودهم منه، وعدم عصيان أمر له، وعدم إمكان شفاعتهم إلا بإذنه ورضائه، وما يكون من أمرهم في تلقي الكفار بالعنف والشدة وتلقي المؤمنين بالتطمين والبشرى في الآخرة، وما كان من أمرهم من المسارعة إلى السجود لآدم تنفيذا لأوامر الله بينما تمرد إبليس عن ذلك متصل هو الآخر بذلك القصد في بيان واقع الملائكة الذين لهم في أذهان العرب تلك الصور العظيمة الفخمة، وإن الكلام من هذه الناحية يأتي هو الآخر ملزما ومرهبا للكفار، ومطمئنا ومثبتا للمسلمين، ويقوم البرهان على أن ذلك هو من الوسائل التدعيمية لأهداف القرآن وأسس الدعوة النبوية. ولعل المتمعن في الآيات التي جاء فيها ذكر الملائكة والجن وإبليس والشياطين وأعمالهم وتنوعها من جهة وما هنالك من آيات وجمل قرآنية عديدة فيها تقريرات حاسمة عن إحاطة الله بكل شيء في كل آن، وشمول قدرته لكل شيء، واستغنائه عن كل عون في تصريف ملكوت السماوات والأرض يلهم الناظر في القرآن أيضا أن تلك الآيات مع اتصالها بما في أذهان السامعين من صور قد جاءت بسبيل التقريب والتمثيل للناس الذين اعتادوا أن يروا الوسائل والوسائط في متنوع الأعمال ووجوه الحياة، ويعتبروها مظهرا من مظاهر العظمة والإحاطة ولا يدركوا المجردات إدراكا صحيحا. فمن هذه الشروح يبدو واضحا كما هو المتبادر أن ما ورد عن الملائكة والجن ليس غريبا عن السامعين وإنه إنما استهدف كما قلنا التدعيم للدعوة النبوية وأهداف التنزيل القرآني أولا وليس هو مقصودا بذاته ثانيا، وإنه قائم على حكمة التدعيم بما هو معروف متداول ثالثا، وإن في ذلك تدليلا على أهمية ملاحظة ذلك في سياق النظر في القرآن تدبرا وفهما وتفسيرا، لأن من شأنها أن تحول دون استغراق الناظر فيه في الماهيات والكيفيات لذاتها من مثل خلقة الملائكة والجن وكيفية اتصالهم بالله والناس وقيامتهم بأدوارهم على اعتبار أن هذه الماهيات والكيفيات غير مقصودة لذاتها أولا ولا طائل من وراء التنقيب والاستغراق فيها لأنها ليس مما يدخل في نطاق الأسس والأهداف ثانيا كما أنها ليس مما يدخل

- 7 - مشاهدات الكون ونواميسه:

في نطاق المشهودات والملموسات المادية ثالثا ولا سبيل إلى فهمها بالإدراك البشري العادي رابعا، وليست هي إلا حقائق إيمانية غيبية خامسا، ولأن من شأنها كذلك أن تغني الناظر في القرآن عن التكلف والتجوز والتخمين والتوفيق في صدد ما يقوم في سبيل الماهيات والحقائق والكيفيات لذاتها، وأن تجعله يقف منها عند حدّ ما وقفه القرآن، ويبقى القرآن في نطاق قدسيته من الإرشاد والموعظة والهدى ولا يخرج به إلى ساحة البحث التي من طبيعتها الأخذ والرد والنقاش والجدال والجرح والتعديل إلخ. - 7- مشاهدات الكون ونواميسه: سابعا: إن ما ورد في القرآن من مشاهد الكون ونواميسه قد استهدف لفت نظر السامعين إلى عظمة الله وسعة ملكوته وبديع صنعه وإتقانه بقصد تأييد هدف رئيسي من أهداف الدعوة وهو وجوب وجود الله واتصافه بأكمل الصفات وتنزهه عن الشوائب، واستغنائه عن الولد والشريك والنصير والمساعد ووحدته وانفراده في الربوبية واستحقاقه وحده للخضوع والعبادة والاتجاه والدعاء، ومطلق تصرفه وشمول علمه وإحاطته بكل شيء دق أو عظم، وحكمته السامية في خلق الكون على أسس النواميس التي شاءت قدرته أن تقوم عليها ثم بقصد بثّ هيبة الله في قلوب السامعين وحفزهم على الاستجابة إلى دعوة نبيه والانصياع لأوامره ونواهيه، والتزام حدوده، وبتعبير إجمالي آخر قد استهدف العظة والإرشاد والتنبيه والتلقين والتدعيم والتأييد دون أن ينطوي على قصد تقرير ماهيات الكون وأطوار الخلق والتكوين ونواميس الوجود من الناحية العلمية والفنية. وحكمة هذا واضحة، فالقرآن خاطب الناس جميعا على تفاوت مداركهم وأذهانهم، وقصد الموعظة والإرشاد والتنبيه والهدى هو القدر المشترك بينهم من جهة وهو الأصل في القرآن والمتسق مع طبيعته ومداه من جهة أخرى، بحيث يمتد لكل دور ومكان وتجاه أعلم العلماء وأبسط البسطاء، كما أن شواهده قائمة

في آيات القرآن وفصوله وأسلوبه أيضا سواء أكان ذلك في كيفية التعبير والسياق أم في تنوعهما مما هو منبثّ في مختلف السور وخاصة المكية منها لأن هذه هي التي أنزلت في ظروف الدعوة التي تقتضيها. ولعل في تعبير الأوتاد عن الجبال، والسقف المبني عن السماء، والمصابيح المضيئة التي زينت بها السماء عن النجوم وجريان الشمس ومنازل القمر، والسراج الوهاج للأولى، والمصباح المنير للثاني، وفي ذكر إنزال الماء من السماء، وتسيير السحاب وتصريف الرياح، وإرسال الرعد والبرق والصواعق، وإنبات مختلف الزروع والأشجار، وتسخير الدواب والأنعام، وتيسير البحار والأنهار والفلك، وجعل الأرض بساطا، وتصويرها مركزا للكون والإنسان، قطبا للأرض، حيث سخر له كل ما في السماوات والأرض، وأسبغت عليه نعم الله ظاهرة وباطنة، وسوّاه الله بيده ونفخ فيه من روحه اتساقا واضحا مفهوما مع مشاهد ومدركات مختلف فئات الناس الذين يوجه إليهم الكلام، وبالتالي لعل في ذلك دلالات على ما استهدف من هذه التعابير القرآنية مما ذكرناه آنفا وعلى أنها تنص في نطاق وصف المتشابهات التي يراد بها التقريب والتمثيل. وفي القرآن تشبيهات وأمثلة وتذكيرات متنوعة المضامين والسياق فيها ذلك الاتساق وهذه الدلالات واضحة جلية إذا ما أنعم النظر فيها. وإنه ليصح أن يقال بالإضافة إلى ما تقدم وبناء عليه إن المضامين القرآنية في هذه المواضيع متسقة مع ما في أذهان سامعي القرآن عن مظاهر الكون ومشاهده ونواميسه، وتجلي عظمة الله وقدرته فيها. وهذه النقطة متصلة بالمبدأ العام الذي ما فتئنا نقرره من أن القرآن خاطب الناس بما يتسق مع ما في أذهانهم إجمالا من صور ومعارف لما يكون من قوة أثر الخطاب فيهم بمثل هذا الأسلوب. وملاحظة ذلك جوهرية جدا لأنها تجعل الناظر في القرآن يقف من الفصول الواردة في هذا الباب فيه عند الحدّ الذي استهدفته والذي أشرنا إليه، وتحول بينه وبين التكلف والتجوز والتخمين والتزيد ومحاولة استخراج النظريات العلمية

8 - الحياة الأخروية في القرآن:

والفنية في حقائق الكون ونواميسه وأطواره منها والتمحل والتوفيق والتطبيق مما يخرج بالقرآن عن نطاق قدسيته من الوعظ والإرشاد ولفت النظر وبث الهيبة والاستشعار بعظمة الله والتزام حدوده إلى مجال البحث وتعريضه لطبيعة هذا المجال من الجدل والنقاش والتعارض والأخذ والرد على غير طائل ولا ضرورة ولا اتساق مع هدف القرآن وطبيعته. وبالإضافة إلى هذا الذي يتسق مع الهدف والمضمون والمدى القرآني فيما هو المتبادر فإن لملاحظة ذلك فائدة عظيمة لذاتها، حيث تجعل المسلم غير مقيد بنظريات كونية معينة يوهم أنها مستندة إلى القرآن ومستخرجة منه- مع ما في هذا دائما من تمحل- وتبقيه حرا طليقا في ساحات العلوم والفنون ونظرياتها وتطوراتها وتطبيقاتها فلا يختلط عليه الأمر ولا يصطدم في السير، ويكون كل ما يجب عليه أن يظل من ذلك أن يظل في حدود الأسس والأهداف والمبادئ والمثل العليا وفي نطاق أركان الإيمان العامة التي قررها القرآن، وحيث يظل قصد القرآن ومداه ومفهومه سليما في جميع الأدوار، يخاطب بآياته وفصوله مختلف الفئات في مختلف الأزمنة فيثير فيهم الإجلال والهيبة والإذعان سواء كانوا علماء أو بسطاء. وهو قصد القرآن الجوهري من دون ريب. 8- الحياة الأخروية في القرآن: ثامنا: إن ما ورد في القرآن عن الحياة الأخروية وأعلامها ومشاهدها وصورها وأهوالها وعذابها ونعيمها وهو ما ينطبق عليه وصف المتشابهات التي يراد بها التقريب والتمثيل قد ورد بأسلوب منسجم مع مفهومات السامعين ومألوفاتهم، ومتناول إدراكهم وحسهم، وخاصة العرب الذين كانوا أول المخاطبين به، وإنه ورد بالأسلوب الذي ورد به على سبيل التقريب، واستهدف فيما استهدفه إثارة الخوف والرهبة في نفوس الضالين حتى يرعووا ويستقيموا، وبث الاغتباط والطمأنينة في نفوس المؤمنين الصالحين حتى يثبتوا في الطريق القويم الذي اهتدوا إليه.

وحكمة هذا واضحة هي الأخرى، فالقصد القرآني في أصله هو دعوة الناس إلى الله وطريق الحق والخير والهدى، وتحذيرهم من الضلال والانحراف والإثم، وإنذارهم وتبشيرهم بالحياة الأخرى التي يوفى فيها كل منهم بما فعل من خير أو شرّ بما يستحقه. وهذا الأسلوب وسيلة من وسائل تأييد القصد وتدعيمه، لأن ما يراد إثارته في نفوس الناس لا يتم إلا إذا جاء بالأوصاف التي يستطيعون أن يحسوها ويدركوا مداها إحساسا وإدراكا متصلين بتجاربه ومشاهداته ومألوفاته بطبيعة الحال. فإذا ذكر في سياق مشاهد يوم الحساب ما فيه من صور مجالس القضاء والخصوم والشهود والاتهام والمحاورات الدفاعية والكتب والوثائق المدونة ففي ذلك صور دنيوية مألوفة للسامع يستطيع إدراك مداها والتأثر بها. وإذا ذكر أن الجبال تتفتت وتصبح كالهباء والعهن المنفوش، والأرض تحمل وتدك، والسماء تنفطر وتتشقق، والكواكب تنثر وتتكدر وتنطفىء، والبحار تتفجر، والعشار تتعطل، والوحوش تحشر والولدان يصيرون شيبا، ففي ذلك صور هول لا يمكن للسامع إلا أن يتأثر بها ويدرك مداها، ولا سيما تبدل مشاهد الكون الماثلة عظمتها في الذهن وإذا ذكر في أوصاف النعيم ما ذكر من جنات فيها أنهار جارية وسرر موضوعة، وفرش مرفوعة، ومجالس شراب أنيقة، وظلال وارفة وقطوف دانية، وولدان مخلدون كاللؤلؤ المكنون يطوفون بالأباريق الفضية البراقة الشفافة، والكؤوس الممزوجة بالكافور والزنجبيل، وفواكه كثيرة مما تختاره النفوس، ولحوم طير متنوعة مما تشتهيه، وصحاف الذهب والفضة يتناول فيها أصحاب النعيم طعامهم، وثياب الحرير والإستبرق والسندس يلبسونها، وحلى اللؤلؤ والأساور الذهبية والفضية يتزينون بها وحور عين كالبيض المكنون يستمتعون بها إلخ، فلا يمكن إلا أن يتأثر بها السامعون ويفهموا مداها وتتوق إليها نفوسهم لأنها منتهى ما تصبو إليه النفوس والعرب خاصة من نعيم وهناء وحبور يعرفون صورها في الدنيا معرفة مشاهدة أو استمتاع أو سماع. وإذا ذكر في أوصاف العذاب ما ذكر من نار حامية شديدة شررها كقطع الحطب الضخمة ولهبها كالجبال، لا ماء فيها

إلا الحار الشديد الحرارة (الحميم) ولا ظل فيها إلا ظل المساكن التي لا تحجب حرارة ويكون الظل فيها كوهج النار، ولا هواء فيها إلا الريح السموم، ولا شراب فيها إلا الغسلين والغساق، ولا طعام فيها إلا الزقوم والضريع، فإن السامعين والعرب خاصة لا يمكن إلا أن يتأثروا بها ويفهموا مداها لأنها منتهى ما تهلع له قلوبهم وتتكره منه نفوسهم من عذاب وبلاء متصل وصفها بالمشاهد والمعاني الدنيوية المألوفة أو المتصورة لديهم. وإذا كان هناك شيء من الاستثناء مثل أنهار الخمر والعسل واللبن ووصف عرض الجنات بعرض السماوات والأرض فالأسلوب قوي الدلالة على أنه قد جاء في معرض التفخيم والتشبيه مما هو مألوف في كلام السامعين والعرب خاصة وأساليب لغاتهم وخطابهم. وقد اختصصنا السامع العربي بالذكر لأن كثيرا من الأوصاف والألفاظ مما يحمل الدلالة على الحياة العربية والبيئة العربية بنوع خاص، بل وربما على الحياة والبيئة في الحجاز بنوع أخص. وهذا في ذاته قرينة قوية قائمة على ما نقرره. ولعل في تنوع الأوصاف والصور والمشاهد القرآنية عن الآخرة وأهوالها ونعيمها وعذابها قرينة أو دليلا على صواب ما نقرره، فالجبال مثلا في جملة قرآنية تسير سير السحاب، وفي أخرى تنسف نسفا، وفي أخرى كثيب مهيل، وفي أخرى كالعهن المنفوش، وفي أخرى كالهباء المنثور، والسماء في جملة قرآنية تفتّح أبوابا وفي أخرى تتشقق، وفي أخرى تكسف، والنجوم في جملة تنتثر وفي أخرى تنطمس، والشمس في جملة تتكور، وفي أخرى تجمع مع القمر، وبينما السماء تتبدل نواميسها ومشاهدها مستقلة عن الأرض في جملة، والأرض تدك في جملة وتحمل الأرض والسماء فتدك دكة واحدة في جملة أخرى، وتبدل الأرض غير الأرض والسماوات غير السماوات في جملة أخرى كذلك، إلخ، والكافرون في جملة يدافعون عن أنفسهم في جملة، ويوردون متنوع الأعذار في جملة، ويجري أنواع الحوار بين بعضهم أو بينهم وبين الملائكة أو بينهم وبين الله في جمل بينما لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون ولا يتساءلون في جمل أخرى، وفي

جملة ينفخ في الصور وفي أخرى ينقر في الناقور، وفي جملة ليس للكافرين طعام إلا من ضريع وفي أخرى إن شجرة الزقوم طعام الأثيم، وفي أخرى ليس لهم طعام إلا من غسلين، وفي جملة يحشرون وقد كشف عنهم غطاؤهم وأصبح بصرهم حديدا وفي أخرى يحشرون عميا ويسألون الله عن ذلك مع أنهم كانوا في الدنيا مبصرين إلخ. هذا بالإضافة إلى تنوع أوصاف النعيم حيث تأتي في بعض الفصول بسيطة متسقة مع الحياة العادية الدنيوية كما في سورة الغاشية بينما تأتي في أخرى في غاية الأناقة والفخامة مع اتصالها بمعاني ومشاهد الدنيا كما في سورتي الإنسان والواقعة مثلا، وهذا عدا التنوع في الجزئيات حيث تكون الصحاف والأساور في جمل من فضة بينما تكون في أخرى من ذهب، وحيث يذكر في جملة الحلي الذهبية، وفي أخرى الحلي الفضية، وفي أخرى الحلي اللؤلوية، وحيث تشبه الحور العين في جملة بالياقوت والمرجان بينما تشبه في أخرى بالبيض المكنون أي اللؤلؤ إلخ. ومع تقريره (أن الإيمان باليوم الآخر وحسابه ونعيمه وعذابه واجب وأنه ركن من أركان العقيدة الإسلامية، وأن حكمة الله في ذلك قائمة في قصد توفية الناس أعمالهم إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا، وفي تقرير أن الله لم يخلق الكون عبثا) . فإن ملاحظة ما قدمناه جوهرية مثل سابقاتها لأن من شأنها أن تجعل الناظر في القرآن يتجنب الاستغراق في الجدل حول مشاهد الحياة الأخروية وصورها، والتورط والتكلف والتزيد في صدد ما يقوم في سبيل الماهيات والحقائق لذاتها، ويذكر أن هدف القرآن في ما جاء من التعابير والأوصاف هو العظة والتنبيه وإيقاظ الضمائر ليرعوي الضّالّ عن ضلاله ويثبت المهتدي في طريقه بأسلوب يتسق مع متناول إحساس المخاطبين وتجاربهم ومشاهداتهم ومداركهم ومألوفاتهم ويثير فيهم الرهبة من العاقبة، ويتذكر أن ماهية هذه الحياة وحقيقتها مغيبتان لا يستطاع فهم شيء عنهما إلا بالأوصاف الدنيوية، وأن حكمة الله اقتضت وصفهما بهذه الأوصاف على سبيل التقريب والتشبيه. وإذا كانت الحياة الأخروية ومشاهدها وأوصافها وصورها المتنوعة قد شغلت حيزا كبيرا في القرآن حتى لا تكاد سورة من سوره تخلو من ذكرها أو

- 9 - ذات الله في القرآن:

الإشارة إليها بشكل ما فإن مرد ذلك- على كونه من خصوصيات القرآن- إلى أن هذه الحياة من أقوى الدعائم الإنذارية والتبشيرية القرآنية لأهداف القرآن وأسس دعوته وأشدها تأثيرا وإثارة لأنها تمثل عالم ما بعد الموت الذي لا يكاد يخلو إنسان في أي دور من استشعار الرهبة منه من جهة، ومن العقائد الإيمانية الإسلامية من جهة، ولأنها كانت من المواضيع الرئيسية أو بالأحرى أهم موضوع دار حوله الجدل بشدة واستمرار بين النبي ومشركي العرب مما له صلة بظروف الدعوة النبوية من جهة. - 9- ذات الله في القرآن: تاسعا: إن ما ورد في القرآن مما يتصل بذات الله السامية من تعابير اليد والقبضة واليمين والشمال والوجه والاستواء والنزول والمجيء وفوق وتحت وأمام وطي وقبض ونفخ، إنما جاء بالأسلوب والتعابير والتسميات التي جاءت به من قبيل التقريب لأذهان السامعين الذين اعتادوا أن يفهموا منها معاني القوة والإحاطة والشمول والحضور والحركة الدائمة والصفات التي لا تتم هذه المعاني إلا بها. ولقد ورد في القرآن عبارات لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] ولا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: 103] ووَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [البقرة: 255] يصح أن تكون ضوابط حاسمة في صدد الذات الإلهية، وتنطوي على قرينة على صحة ما ذكرناه آنفا في مدى تلك التعابير. ولعل هذه الضوابط تشمل كل ما ورد في صدد الذات السامية من أسماء وأفعال وصفات أخرى قد توهم مماثلة لأسماء وصفات وأفعال البشر أيضا، حيث يصح أن يقال إن ورودها في القرآن إنما جاء كذلك على سبيل التقريب والتشبيه. فالله سميع ولكن ليس كمثل سمعه شيء، وبصير وليس كمثل بصره شيء، ومتكلم وليس كمثل تكلمه شيء، وهو حي وعليم ومريد وقوي وحكيم وصبور وقابض وباسط وليس كمثل حياته وعلمه وإرادته وقوته وحكمته وصبره وقبضه وبسطه شيء.

- 10 - تسلسل الفصول القرآنية وسياقها:

والمتمعن في الآيات القرآنية التي وردت فيها تلك التعابير وهذه الأسماء والصفات مضمونا أو أسلوبا وسياقا يجدها قد استهدفت من جهة تقرير معاني القوة والإحاطة والشمول والقدرة والوجود الدائم الشامل، ومن جهة أخرى تقرير أحسن الأسماء والصفات الدالة على أكمل الحالات وأتمّ المعاني اللائقة بالذات الإلهية بما تتسع له لغة البشر التي نزل القرآن بها. ولعل التنوع الموجود في التعابير القرآنية مما يقوم قرينة قوية على صحة ما نقرره. وملاحظة هذا مهمة جدا من شأنها أن تحول دون استغراق الناظر في القرآن في التكلف والتجوز والتخمين والماهيات من جهة، ودون تورطه في الجدل الكلامي على غير طائل ولا ضرورة من جهة أخرى، وتجعله يقف من هذه التعابير والأسماء والصفات عند الحد الذي وقف عنده القرآن، ويفهم منها الأهداف التي استهدف تقريرها بها دون تزيد ولا تكلّف ولا تمحّل. على أن الناظر في أساليب القرآن المتنوعة يجدها في هذا الصدد كما هو الشأن في ما يتصل بمشاهد الكون والآخرة وأخبار الأمم السابقة وأنبيائهم والجن والملائكة أسلوب الحكيم الذي لا يدخل في نقاش وجدل وتقريرات كلامية، ويتسق مع طبائع الأشياء من حيث إنه يخاطب أناسا متفاوتين متنوعين في أذهانهم وظروفهم، المهم والجوهري من أمرهم دعوتهم إلى الخير وإصلاحهم وتوجيههم إلى أحسن الوجهات، وتقريب الأمور والمعاني إلى عقولهم بأساليب سائغة منسجمة مع مداركهم، وإعطاء كل موضوع في كل موضع ما يتحمله لتدعيم هذه الدعوة وتأييدها وجعلها مؤثرة نافذة، وفي ذلك من دون ريب تعليم للطريقة الفضلى التي يجب الأخذ بها إزاء التعابير والأساليب القرآنية. - 10- تسلسل الفصول القرآنية وسياقها: عاشرا: إن أكثر الفصول والمجموعات في السور القرآنية متصلة السياق ترتيبا أو موضوعا أو سبكا أو نزولا، وإن فهم مداها ومعانيها وظروفها الزمنية

والموضوعية وخصوصياتها وعمومياتها وتلقينها وتوجيهها وأحكامها فهما صحيحا لا يتيسر إلا بملاحظة تسلسل السياق والتناسب، وإن في أخذ القرآن آية آية أو عبارة عبارة أو كلمة كلمة بترا لوحدة السياق في كثير من المواقف والمواضيع، وهو مؤدّ إلى التشويش على صحة التفهم والتدبر والإحاطة أو على حقيقة ومدى الهدف القرآني. ولتمثيل ذلك وإيضاحه نذكر آية الصافات (96) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ فهذه الآية كثيرا ما تورد في معرض الحجاج والبرهنة في بعض المذاهب الكلامية على أن القرآن ينصّ على أن الله قد خلق أعمال الناس، وبطلان القول الذي يقوله بعض المذاهب الكلامية الأخرى أن الإنسان خالق أفعال نفسه ومسؤول عن تبعتها. فبقطع النظر عن هذا الموضوع الكلامي الخلاقي فإن الذين يوردون الآية في معرض الحجاج والبرهان قلّما يلحظون أنها ليست تقريرا ربانيا مباشرا في صدد خلق الناس وخلق أعمالهم، وبالتالي في صدد الموضوع الكلامي، وإنما هي جزء من سلسلة تتضمن حكاية قول إبراهيم لقومه في سياق التنديد بهم، لأنهم يعبدون ما ينحتون من الأصنام مع أن الله كما خلقهم خلق المادة التي يعملونها أي ينحتونها أصناما ليعبدوها، وهي السلسلة [83- 113] من السورة. فالآية هي جزء من حكاية أقوال إبراهيم، ولو لوحظ السياق جميعه لما كان هناك محل لاقتطاع هذه الآية وحدها من السلسلة وتلقيها كتقرير رباني مباشر بخلق أعمال الناس، كما أن من الواضح مع ملاحظة جزئية الآية من السلسلة أنها لا تصح أن تورد في معرض البرهان الذي تورد فيه، هذا بقطع النظر عما ورد في السلسلة نفسها من نسبة العبادة والنحت والإلقاء وإرادة الكيد إلخ إلى قوم إبراهيم وتقرير صدور هذه الأعمال عنهم.. ونذكر جملة وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً في آية التوبة [36] فكثير من المفسرين يفسرونها منفردة ويصفونها بأنها آية السيف ويقولون إنها نسخت كل ما جاء في القرآن من عدم قتال غير المعتدين والمقاتلين من المشركين، وبذلك ينسفون آيات محكمة في هذا الصدد، مع أن في الآية فقرة أخرى مرتبطة أشد

الارتباط بها ومحتوية للتعليل الرائع المعقول المتسق مع طبيعة الأمور للأمر الذي تضمنته بقتال المشركين كافة وهي كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة: 36] فلو لوحظ ذلك ولم تجزأ الآية لما كان محل لذلك التفسير والوصف والقول حيث يبدو واضحا أنها في معرض حثّ المسلمين على قتال المشركين المحاربين مجتمعين وإلبا واحدا كما يقاتلونهم كذلك ولزال الإشكال الذي ينشأ عن هذا التفسير ويؤدي إلى نسخ أحكام وآيات محكمة متسقة مع مبادئ القرآن ومثله السامية، ومع طبائع الأمور ووقائع السيرة النبوية المؤيدة بالآيات من جهة والأحاديث من جهة أخرى وتعني حصر القتال في الأعداء المقاتلين أو المعتدين ودون المشركين والكفار المعاهدين الموفين بعهدهم والمحايدين والمسالمين والعاجزين والنساء والأطفال مما يقتضي قتالهم جميعا وفاق ذلك التفسير. ونذكر آية المجادلة الثالثة كمثل ثالث، وهي التي جاء فيها وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فكثير من المفسرين ينظرون إلى هذه الآية مستقلة عن سابقتها ويحارون في تأويل جملة ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا حتى قال غير واحد منهم إن الجملة من مشكلات القرآن، واضطروا إلى اعتبار «لما» بمعنى «عن ما» وقالوا إن الجملة تعني «ثم يرجعون عن ما قالوا عنه ويرغبون في معاشرة أزواجهم» أو إلى تأويلات أخرى، هذا مع أن هذه الآية متصلة كل الاتصال بسابقتها التي جاء فيها الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ [المجادلة: 2] . فلو لوحظ ذلك لما كان هناك محل لهذه الحيرة والإشكال والتأويل. فالآية الأولى نددت بالمظاهرين والظهار وعدته عملا منكرا ثم انتهت بمقطع وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ فكأنما تقدمت باستنكار الظهار من حيث المبدأ وتقرر أن الله يعفو ويغفر للمظاهرين قبل نزول هذا الاستنكار وبالتالي قبل نزول الآيتين على اعتبار أنه لم يكن مستنكرا ومنهيا عنه ثم أعقبتها الثانية لتقرر الحكم الإسلامي فالذين يعودون إلى ما نهوا عنه واستنكر أي الظهار بعد ذلك

الاستنكار والوصف تجب عليهم الكفارة قبل معاشرة أزواجهم لأنهم يكونون قد أتوا بعمل عده القرآن منكرا وزورا. وطبيعي أن الحكم الإسلامي صار حكما ملزما لكل مظاهر وأن العفو عن المظاهر ظل خاصا بمن ظاهر قبل نزول الآية الأولى وهي حالة خصوصية الزمن لا تتكرر. ولقد احتوت السورة نفسها نفس الحروف في الآية [8] التي جاء فيها أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ [المجادلة: 8] حيث يأتي المعنى فيها واضحا بأن العودة هي لما نهي عنه وأن الوعيد هو للعائدين إلى التناجي بعد النهي عنه، ولا فرق بين الجملتين كما هو ظاهر. وهناك أمثلة كثيرة أخرى بالنسبة لآيات واردة في السور الطويلة والمتوسطة مما نبهنا عليه في سياق التفسير. فبينما تكون المجموعة أو الفصل القرآني مفهوما سائغا يبدو عليه الانسجام والترابط التامان سبكا وموضوعا إذا قرىء ونظر فيه ككل اضطرب على الناظر في القرآن فهمه وقامت في ذهنه بلبلة أو مشكلة أو حيرة في مداه ومدلوله إذا أخذه آية آية أو عبارة عبارة. ومما يجدر التنبيه عليه في هذا المقام أن هناك روايات كثيرة تورد كأسباب لنزول آيات منفردة أو جزء من آية في حين أن سياق الآية ومفهومها لا يتفقان مع الرواية كسبب للنزول، ويلهمان أن الآية منسجمة الأجزاء، وأنها متصلة اتصالا وثيقا بما قبلها أو بعدها في السياق، وكل ما يمكن فرضه في أمر الرواية في حالة صحتها أن تكون الآية أوردت على سبيل الاستشهاد على حادث ما وقع بعد نزولها، أو يكون الحادث قد وقع قبل نزولها بمدة ما فجاءت الإشارة إليه في السياق العام الذي أتت فيه الآية على سبيل التشريع أو التذكير أو التنديد أو التنبيه أو العظة إلخ، فالتبس الأمر على الراوي وظنّ أن الحادث هو سبب النزول. فقد روي مثلا عن ابن مسعود قوله: لما أمرنا بالصدقة كنّا نتحامل فجاء أبو عقيل بنصف صاع وجاء إنسان بأكثر منه فقال المنافقون إن الله لغني عن صدقة ذلك

وإن ما فعله الآخر ليس إلا رياء فنزلت الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ التوبة: [79] . فهذه الرواية توهم أن الآية نزلت منفردة بسب هذا الحادث مع أنها متصلة بسياق عام سابق ولا حق بها أشد الاتصال، وأن في السياق قرائن تدلّ على أن الفصل الطويل الذي تقع فيه هذه الآية [38- 99] قد نزل كلّه أو جلّه في أثناء غزوة تبوك وظروفها وسببها. وهناك رواية أخرى في البخاري عن ابن مسعود أن رجلين من قريش وختنا لهما من ثقيف كانوا في بيت فقال بعضهم لبعض أترون أن الله يسمع حديثنا قال بعضهم يسمع بعضه وقال بعضهم لئن كان يسمع بعضه لقد يسمعه كلّه فنزلت الآية وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ.. فصلت: [22] . مع أن الآية متصلة بسياق يحكي فيه محاورة في الآخرة بين الكفار وبين أعضاء أبدانهم التي تشهد عليهم أشد الاتصال وليس هناك تطابق ما بين مفهوم الرواية وعبارة الآية. والفصول الأولى من سورة النساء من مواريث وأنكحة مترابطة ومنسجمة، والآية الأولى في السورة بمثابة براعة استهلال لما تضمنته من هذه الفصول، وروح آيات الفصول يلهم أنها وحدة تشريعية، في حين أن هناك روايات تكاد تجعل لكل آية مناسبة نزول مستقلة وتوهم أنها نزلت منفردة بسببها. ويقال هذا في فصول سورة الحجرات أيضا. وأمثال ذلك كثير جدا نبهنا عليها في سياق التفسير. فملاحظة السياق والتناسب والترابط بين الفصول والمجموعات القرآنية ضرورية ومفيدة جدا في فهم مدى القرآن ومواضيعه وأهدافه من جهة وفي لمس ناحية من نواحي الروعة والإعجاز والإتقان فيه، لأنهما يظهران الناظر في القرآن الجزء الأول من التفسير الحديث 13

على ما هو عليه من ترتيب وانسجام وترابط نظما وموضوعا من جهة ثانية، وعلى نقاط الضعف في روايات كثيرة وردت في سياق الآيات القرآنية وخاصة في مكية بعض الآيات في السور المدنية ومدنية بعض الآيات في السور المكية من جهة ثالثة، وتزيلان ما هو عالق في الذهن خطأ من أن الفصول القرآنية فوضى لا ترتيب ولا انسجام بينها من جهة رابعة. ومن فوائد هذه الملاحظة المهمة إزالة وهم التعارض والتناقض في نصوص القرآن وتقريراته المتكررة بأساليب متنوعة حسب المواقف والمناسبات وخاصة في القصص والمواعظ والإنذار والتبشير والمشاهد الكونية والأخروية، وبنوع أخص في عبارات وجمل الهداية والضلال والكفر والإيمان وتزيين الأعمال والطبع على القلب وتسليط الشياطين والإغواء ومسؤولية الإنسان عن عمله وحكمة الله في عدم خلق الناس أمة واحدة إلخ، ففي تدبر سياق كل مناسبة وكل جملة قرآنية من هذا القبيل يمكن أن يلمح الناظر في القرآن حكمة ورود كل منها بالأسلوب الذي وردت به والمناسبة التي جاء فيها والمعنى الذي أريد منها والهدف الذي استهدفه، وكل هذا قد يكون متنوعا بتنوع المواقف والأساليب والمضامين والسياق، فيطمئن بسلامة المعنى وحكمة النصّ الوارد في السياق الذي ورد فيه، ويزول وهم التعارض والتناقض وما يؤدي إليه من الحيرة أحيانا، ويحمل عليه من التكلف والتجوز والتخريج والجدل على غير ضرورة ولا طائل وعلى غير اتساق مع الهدف القرآني ونطاقه. فأنت مثلا إذا أخذت جملة يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ في آية فاطر [8] وجملة كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ في آية المدثر [31] وقعت في حيرة لأن هناك آيات كثيرة جاء في بعضها وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ الكهف: [29] وفي بعضها قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها.. يونس: [108] . ولكنك إذا قرأت سياق آيتي فاطر والمدثر كوحدة [3- 10 فاطر] و [1- 31

المدثر] ظهر لك المعنى سائغا مفهوما، وبدا لك أنهما استهدفتا فيما استهدفتاه التنديد بالكافرين والضالين والحملة عليهم من جهة والتنويه بالمؤمنين الصالحين وتطمينهم وتبشيرهم من جهة وتسلية النبي فيما ألم به من حزن وحسرة على مكابرة الكافرين وعنادهم من جهة، بل ظهر لك أن تلك المعاني التي تقررها آيات الكهف ويونس منطوية في نفس سياق جملتي سورتي فاطر والمدثر حيث احتوى سياق آية فاطر يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [5- 8] وحيث احتوى سياق آية المدثر إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) . ويطرد هذا في أمثال كثيرة مثل آية البقرة [16] مع سياقها وآية النحل [93] مع سياقها وآية القصص [56] مع سياقها وآيتي يونس [99- 100] مع سياقها إلخ مما عليه في التفسير عند مناسباته. وأنت إذا أخذت مثلا جملة إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً في سورة الكهف الآية [58] لحدتها وجدت نفسك أمام مشكلة محيرة لأنها توهم أن الله قد صرف الكفار عن فهم القرآن والتأثر به وحتم عليهم عدم الإجابة والاهتداء، ولكنك إذا تدبرت سياق الآية جميعه [الآيات 45- 59] بل أول الآية التي وردت فيها ظهر لك قصد وصف مكابرة الكفار وعنادهم والتسرية عن النبي إزاء هذه المكابرة والعناد. ويطرد هذا كذلك في أمثال كثيرة كآيات هود: [118] والرعد: [31] والبقرة: [7] ويس: [9] وسياقها. ونقول استطرادا إن هذه الأمثلة قد كانت موضوع أخذ ورد وجدل في كتب التفسير بسبب صلتها بالموضوع الخلافي الكلامي في صدد فعل الإنسان وكسبه

وإرادته، حيث ذهب فريق إلى ما يفيد أن الإنسان مجبور على أفعاله وأنها محتمة عليه في الأزل لا معدى له عنها ولا اختيار له فيها من كفر وإيمان وفساد وصلاح وشرّ وخير، وأن العقاب والثواب ينالان الناس بمحض مشيئة الله وفضله، ولا صلة ولا أثر لأعمالهم فيها في حقيقة الأمر، وحيث ذهب فريق آخر إلى ما يفيد أن الإنسان خالق أفعال نفسه فيؤمن ويكفر ويفسق ويصلح بإرادته واختياره، وأن الله لا يصح عليه إرادة الكفر والفسق من العبد ولا تقديرها عليه، بل ولا يصح أن يكون مريدا للقبيح وأنه يجب عليه الأصلح لعباده، وأن الإنسان يعاقب ويثاب على أفعاله حقا وعدلا، وحيث توسط فريق فذهب إلى ما يفيد أن الله هو خالق أفعال عباده من كفر وإيمان وعصيان وطاعة ومنكرات وصالحات، وكل بإرادته ومشيئته وقضائه وتقديره في حدود عموم تأثير صفاته الأزلية، وأن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء بمعنى خلقه الضلال والهدى، وأنه لا يجب عليه الأصلح، وقرروا مع ذلك للإنسان فعلا اختياريا يثاب عليه إذا كان طاعة وصلاحا ويعاقب عليه إذا كان معصية وفسادا، وقالوا إن معنى أن الله أراد من الكافر كفره ومن الفاسق فسقه ومن المؤمن إيمانه ومن الطائع طاعته إنه أرادها باختيار الناس وكسبهم، وتشاد الجميع حول هذه المواضيع كل يؤيد رأيه ويرد على رأي الآخرين بأساليب جدلية من جهة وعبارات قرآنية من جهة أخرى مقتطعة من آيات أو سياق دون تدبر في بقية الآية أو السياق، ويؤول ما هناك من نصوص تناقض رأيه في ظاهرها ولا تتسق معه على ما هو مبسوط في كتب المتكلمين المسلمين على اختلاف مذاهبهم. والموضوع في أصله أي كون الإنسان مخيرا أو مسيرا عويص وموضوع جدلي عام لا ينحصر التشاد حوله في المذاهب الإسلامية الكلامية وله جبهات متنوعة ولا يدخل التبسط فيه في موضوع هذا الكتاب، غير أن المقام يتحمل بعض القول بسبب ما احتواه القرآن من آيات كثيرة جدا اتخذها علماء المذاهب الكلامية الإسلامية مستندا لمذاهبهم المختلفة في هذا الموضوع. ومع أن من المسلم به أن النصوص القرآنية هي سند رئيسي في العقائد والشرائع والأحكام الإسلامية فالذي نعتقده أن الناظر في الآيات القرآنية إذا أخذ المجموعة القرآنية وحدة ولم يغفل

سياقها وظروف نزولها وهدفها، ولم يقتطع منها الجمل وينظر فيها على حدة كما يفعل أصحاب المذاهب الكلامية في تشادهم ومجادلاتهم فيما بينهم- وهذا هو موضوع هذا المبحث في الأصل- يستطيع أن يتبين أهداف القرآن في العبارات الواردة تبينا يزول معه من نفسه ما قد يقوم من وهم التعارض والتناقض في آياته، والقرآن بريء من التعارض والتناقض بنص صريح فيه جاء في آية النساء: [82] أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ويجد حلا لما يبدو من إشكال وتعليلا سائغا لما يوهم ظاهره من معان متعارضة فيه، ويظهر له أن كثيرا مما دار ويدور من جدل ونقاش وحجاج وخلاف لا تتحمله عبارات القرآن ولا تقتضيه، وليس من ورائه طائل ولا ضرورة. وإن هذه العبارات ليست في صدد هذه التقريرات الكلامية، وفي الأمثلة التي أوردناها دلائل كافية، وهي مطردة في سائر فصول القرآن ومجموعاته التي وردت أمثالها فيها، ثم يجد- وهذا مهم جدا- أن النصوص والأهداف القرآنية تجري في مدى هداية الناس ودعوتهم إلى الخير وإصلاحهم وتوجيههم إلى أفضل الوجهات وأنفعها، والتنويه بالمستجيبين المهتدين الصالحين المتقين المحسنين وتبشيرهم وتطمينهم والتحذير من الفساد والإثم والفاحشة وإنكار الله ووحدته وكمال صفاته والتنديد بالضالين الآثمين المكابرين المنافقين الظالمين وإنذارهم، ولا تجري في أي حال في مجرى التقريرات الكلامية التي يدور حولها الخلاف والجدل المذهبي، وهذا هو أسلوب الحكيم الذي يعلمنا إياه القرآن في جميع الأمور، المتسق مع طبائع الأشياء وحقائقها ونعني كون القرآن يخاطب بشرا تعورف على أنهم ذوو قابليات وكسب واختيار، وأن لهم أثرا فيما يصدر عنهم من أعمال وأقوال ومواقف وفقا لما تمليه عليهم عقولهم وميولهم ومداركهم وتقديراتهم ومنافعهم وظروفهم الخاصة والعامة، وأنهم متفاوتون في كل هذا وأنهم ذوو تمييز للخير والشر والحسن والقبيح في نطاق تلك العقول والميول والمدارك والتقديرات والمنافع والظروف والقابليات المتفاوتة، وأن المهم في الأمر هو دعوتهم إلى الهدى والخير وإخراجهم من الظلمات إلى النور وإنقاذهم من الضلال وإثارة نفوسهم وإيقاظ

- 11 - فهم القرآن من القرآن:

ضمائرهم، وتبشير المستجيبين وإنذار المكابرين وإرشاد الضالين الجاهلين منهم، وإن من الممكن أن تؤثر فيهم الدعوة فيستجيبوا تسليما وإذعانا وإدراكا أو خوفا وطمعا ورغبة ورهبة وإن الانحراف عن هذا النطاق والمدى إلى الجدل في ما وراء ذلك تكلف وتجوز وبعد عن مقاصد القرآن وأهدافه، ومؤدّ إلى البلبلة والحيرة والتشويش على هذه المقاصد والأهداف وعلى الراغبين في تفهم القرآن والناظرين فيه. - 11- فهم القرآن من القرآن: حادي عشر: إن الأوثق والأوكد والوسيلة الفضلى لفهم مدى القرآن ودلالاته وتلقيناته بل وظروف نزوله ومناسباته تفسير بعض القرآن ببعض، وعطف بعضه على بعض، وربط بعضه ببعض كلما كان ذلك ممكنا لغة أو مدلولا أو حادثا أو مناسبة أو سبكا أو حكما أو موقفا أو تقريرا، وسواء ذلك ما يدخل في نطاق الأسس والأهداف أو الوسائل والتدعيمات. وإمكانيات ذلك قائمة على نطاق واسع في مختلف فصول القرآن المكية والمدنية. فإن القرآن يكاد يكون سلسلة تامة يتصل بعضها ببعض أوثق اتصال في ما يمثل من أدوار السيرة النبوية في عهديها كما أن من شأن عباراته وجمله وأحكامه ومشاهده وقصصه ومواعظه وحججه أن يفسر بعضها بعضا وأن يدعم بعضها بعضا. وفائدة هذه الملاحظة عظيمة كما يتضح عند التدبر، حيث يمكن أن تغني الناظر في القرآن عن الفروض والتكلف والتخمين، وتحول بينه وبين التورط في موهمات التعارض والإشكالات اللغوية وغير اللغوية، وكثيرا ما تساق على تمييز القوي من الضعيف والصحيح من الباطل من الأقوال والروايات الواردة في تفسير كثير من الآيات أو في مناسبات نزولها وأسبابها. وهذا باب واسع الشمول والمدى. ولنضرب مثلا لذلك آية وردت في سورة الأنعام جاء فيها إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159) .

فقد قال غير واحد من المفسرين وعلماء المذاهب أقوالا يستفاد منها أن الآية قد احتوت إخبارا غيبيا بما نجم بعد النبي من خلافات ومنازعات وفرق وشيع وبدع إلخ، في حين أنه جاء في سورة الروم جملة مثلها مسبوقة بجملة فيها صراحة بأنها تعني المشركين كما ترى مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) . فلو لو حظت هاتان الآيتان وربط بينهما وبين آية الأنعام لما كان محلّ لتلك الأقوال التي تبدو فيها رائحة ما نجم من تلك الخلافات والمنازعات والفرق والشيع والبدع بعد وفاة النبي بسنين قليلة، بل لوحظ سياق آية الأنعام على ما نبهنا عليه في المبحث السابق وخاصة الآيتين: 155- 156 لظهر أنه احتوى تنديدا بالمشركين ومواقفهم من الدعوة والقرآن ولبدا الاتساق واضحا بين آيات السورتين القرآنيتين ولما كان محل لتلك الأقوال أيضا، ومن الأمثلة التي تساق في صدد المبحث الحالي ما روي عن ابن عباس في الآية وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا الكهف: [50] . وهو قوله إن الجن طائفة من الملائكة وإن التسمية من الاختفاء الذي يشمل الملائكة كما يشمل الجن، هذا في حين أن الآية جمعت بين الملائكة والجنّ على اعتبارهما خلقين مستقلين، وإن هناك آيات قرآنية عديدة حكت قول إبليس إنه مخلوق من النار وأخرى قررت أن الجن قد خلقوا من النار، فملاحظة هذا الاشتراك تظهر عدم صحة الرواية لأن هذا ليس مما يمكن أن يخفى عن ابن عباس الذي يوصف بما يوصف به من سعة العلم وقوة الذكاء والإحاطة بالقرآن، وتساعد على القول الحاسم في جنّية إبليس في النصوص القرآنية. ويمكن أن تساق الآيات التي نصّت على أن الله يهدي من يشاء ويضلّ من

يشاء، ولا نريد أن نكرر ما قلناه قبل قليل في هذا الأمر. ولكنا نريد أن ننبه على أن في القرآن آيات من هذا الباب فيها إيضاح من شأنه أن يضع الأمر في نصاب الحق بالنسبة لإطلاق العبارة في آيات أخرى. ففي سورة البقرة: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ (26) . وفي سورة الرعد: قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) . وفي سورة إبراهيم: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27) . فهذه الآيات حينما تلاحظ أثناء تلاوة وتفسير الآيات التي جاءت عبارتها مطلقة وتفسر بها يزول كل ما يدور حول هذا الموضوع الكلامي من أسباب الحجاج والنقاش ويبدو قصد تقرير كون هدى الله إنما يكون لمن استنار قلبه وحسنت نيته ورغب في الإنابة إلى الله، وكون الضلال إنما يكون للظالمين والفاسقين وأردياء النية والخلق، وكون الهدى والضلال منوطين بحسن نوايا الناس وسوئها والرغبة في الإنابة إلى الله والمكابرة فيها، ويسوق الناظر إلى التماس سبب مجيء العبارة مطلقة في الآيات التي جاءت فيها مطلقة في أسلوبها وسياقها على ما ذكرناه قبل. ويمكن أن تساق آية الشورى هذه كمثل آخر: ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) . فإن بعض المفسرين وخاصة مفسري الشيعة فسروا الآية على أنها تفيد إيجاب محبة أقارب النبي الأدنين والبرّ بهم وطاعتهم، في حين أن هناك آيات قرآنية عديدة «1» أمرت النبي بالقول إنه لا يسألهم أجرا دون أي استثناء. فملاحظة ذلك تجعل الناظر في القرآن يحمل ما جاء في آية الشورى من استثناء على محمل آخر يبعد عن القرآن وهم التعارض، وينزه الله ونبيه عن تقاضي الأجر على هداية

_ (1) آيات يوسف: [104] ، والمؤمنون: [77] ، والفرقان: [57] ، وسبأ: [47] ، وص: [86] ، والقلم: [46] .

الناس وإيجابه بالنسبة لذريته أو أقاربه الأدنين، ولا يتورط في تأويل يؤيد الاستثناء والأجر اللذين يثيران حيرة وإشكالا. هذا بقطع النظر عن ما في ذلك التفسير من تمحل وتجوز لا يتحملهما مضمون الآية، وعن ما هنالك من رواية مأثورة عن ابن عباس في صددها تجعلها متسقة كل الاتساق مع النصوص القرآنية الأخرى وتفيد أن قصد الآية تقرير كون حرص النبي على هداية قومه لا يمكن أن يتهم لأنه لا يطلب عليها أجرا وكون مردّ هذا الحرص هو ما بين النبي وقريش من أوشاج القربى حيث لم يكن بطن من بطون قريش إلا وبينه وبين النبي قرابة. وهناك تأويل آخر جاء في تفسير ابن كثير المشهور وهو أن الآية بمعنى أني لا أريد منكم شيئا إلا أن تحترموا قرابتي لكم وتوادوني من أجلها وتكفوا عن الأذى والصدّ والتعطيل وهو تأويل وجيه ومتسق مع روح القرآن واللغة. وننبه على أننا هنا في صدد فهم نصوص القرآن ولسنا في صدد نفي واجب المسلمين في برّ ومودة الصالحين الأتقياء الذين ليست نسبتهم إلى بضعة الرسول محلّ شكّ وريب من أجل هذه النسبة الشريفة الكريمة. ومن فوائده ملاحظة ما هو موضوع هذا البحث أنها تساعد على معرفة الناسخ والمنسوخ وصور التطورات المتنوعة في سير الدعوة النبوية والسيرة النبوية والتشريع القرآني. فآيات النساء: [15- 16] مثلّا تشير إلى جريمة الزنا وتعين نصاب شهود ثبوتها ولكنها لا تعين حدا وتكتفي بالأمر بإمساك النساء في البيوت وأذية الزناة بعبارة مطلقة في حين أن آية سورة النور الثانية تعين حدا للزانين والزانيات مئة جلدة. فملاحظة آيات النساء والنور معا في النظر والتفسير تساعد على معرفة كون آيات النساء قد نزلت قبل آيات النور وأن آيات النور هي المحكمة في جريمة الزنا دون آيات النساء، وأن في نزول آيات النور بعد آيات النساء تطورا في التشريع القرآني. وفي آية النساء [25] جملة تنصّ على أن حد الإماء المحصنات (المتزوجات) إذا زنين هو نصف حدّ الحرائر المحصنات وهي هذه فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ فملاحظة آية النور في تفسير هذه الجملة تساعد على معرفة أن هذه الجملة نزلت

- 12 -

بعد آيات النور، بعكس الآيات السابقة حيث نزلت آيات النساء قبل آيات النور، وإنها وضعت في محلّها للتناسب الموجود في سلسلة أحكام الأنكحة والأسرة والمواريث الواردة في سورة النساء وتساعد كذلك على معرفة صورة من صور التأليف القرآني، كذلك إذا قرأنا آيتي سورة المنافقون هاتين هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) . ثم قرأنا آيتي التوبة هاتين وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) . استطعنا أن نتبين من ملاحظة آيات السورتين أن المنافقين في المدينة كانوا في أوائل العهد المدني معتدّين بقوتهم ومالهم ومركزهم بينما صاروا في أواخر هذا العهد إلى حالة الخوف والضعف وأن نلمس صورة تطورية من صور السيرة النبوية، وأن نحكم على تهافت الرواية التي ذكرت أن معسكر المنافقين عند الاستعداد لغزوة تبوك كان يعادل في سعته وعدده معسكر المؤمنين المخلصين. والأمثلة في هذا الباب كثيرة جدا ومنبثّة في السور والفصول القرآنية مكيها ومدنيها نبهنا عليها في التفسير. وهذه الكثرة تظهر فائدة هذه الملاحظة في حسن فهم القرآن وتفسيره كما هو واضح. - 12- ولا أدعي بأن هذه الملاحظات جديدة وغير مسبوقة، ففي «الإتقان» للسيوطي لنفسه ولغيره من العلماء والمؤلفين نبذ عديدة في شروط التفسير وأصوله احتوت غير واحدة من هذه الملاحظات، كما أن كثيرا من العلماء والباحثين والمفسرين نبهوا عليها بأساليب متنوعة، ومنهم من فعل ذلك في مقدمات كتبهم التفسيرية أو في ما كتبوه عن القرآن من كتب خاصة بل ومنهم من سار عليها قليلا

أو كثيرا غير أني لم أر في ما تيسّر لي من الاطلاع عليه من كتب التفسير «1» العديدة القديمة والحديثة أن هذه الملاحظات قد لوحظت جميعها معا في تفسير واحد، وإن صحّ القول إنها لو حظت متفرقة وبسعة أو إيجاز حيث يمكن أن يكون مفسّر لاحظ بعضا وسار عليه وآخر لاحظ بعضا وسار عليه مع أن ملاحظتها جميعا والسير وفقها جوهري جدا فيما أعتقد لفهم القرآن فهما صحيحا وخدمته خدمة فضلى، هذا مع اعترافي بالتقصير إزاء ما أحرزه الذين بحثوا في القرآن وعلومه وألفوا فيه وفسروه قديما وحديثا من علم واطلاع وتمكن وممارسة طويلة وتفرغ أطول وخاصة في علوم الصرف والنحو والبلاغة واللغة وأصول الفقه والحديث والرواية والخلافات المذهبية والكلامية ومع اعترافي بالمجهود الذي بذله كل منهم في خدمة القرآن وتفسيره وما لكثير من كتب التفسير من خصوصيات مفيدة إما من حيث الإسهاب والإيجاز أو من حيث اللغة والبلاغة، والقواعد النحوية والصرفية، أو من حيث التنويه بالمعاني والقضايا وتفريعاتها، أو من حيث الأحكام واستنباطها، أو من حيث إبراز ما في القرآن من إشراق وبعد مدى وقوة تلقين وتوجيه، أو من حيث روايات المناسبات وأسباب النزول والناسخ والمنسوخ، أو من حيث التعليق على ما فيه من قصص وإيضاحها، أو من حيث شرح المذاهب الكلامية والفقهية وجدلياتها.

_ (1) من كتب التفسير التي اطلعت قراءة أو تصفحا على جميع أو بعض أجزائها التفسير المعزو إلى ابن عباس رواية أبي صالح وباب التفسير في البخاري وتفاسير الطبري والنسفي وأبي السعود والطوسي والخازن والرازي والزمخشري والطبرسي والبيضاوي والجوهري وفريد وجدي ورشيد رضا والألوسي وأبي حيان وابن كثير والبغوي والقرطبي والمراغي والعادلي.

الفصل الرابع نظريات وتعليقات على كتب المفسرين ومناهجهم

الفصل الرابع نظريات وتعليقات على كتب المفسرين ومناهجهم تمهيد ومع ما ذكرناه في صدد كتب المفسرين فإن الناظر في كثير منها يلحظ ثغرات عديدة تنقص من قيمة تلك الفوائد التي احتوتها والجهود التي بذلت فيها قليلا أو كثيرا، وتجعلها غير شافية للنفس شفاء تاما. - 1- روايات أسباب النزول: فأولا: إن هناك روايات كثيرة في أسباب النزول ومناسباته وقد حشرت في كثير من كتب التفسير التي كتبت في مختلف الأدوار لا تثبت على النقد والتمحيص طويلا، سواء بسبب ما فيها من تعدد وتناقض ومغايرة أو من عدم الاتساق مع روح الآيات التي وردت فيها وسياقها بل ونصوصها أحيانا، ومع آيات أخرى متصلة بموضوعها أو موضحة لها أو عاطفة عليها، حتى أن الناقد البصير ليرى في كثير من هذه الروايات أثر ما كان من القرون الإسلامية الثلاثة الأولى من خلافات سياسية ومذهبية وعنصرية وفقهية وكلامية قوي البروز، وحتى ليقع في نفسه أن كثيرا منها منحول أو مدسوس أو محرف عن سوء نية وقصد تشويش وتشويه ودعاية ونكاية وحجاج وتشهير، أو قصد تأييد رأي على رأي، وشيعة على شيعة. والمتبادر أنه لما كان عهد التدوين الذي راجت فيه الرواية تلقف المدونون من الأفواه الغثّ والسمين والصحيح والفاسد والمعقول وغير المعقول والملفق

والمنحول والمحرف فدونوه وتناقلوه، وجعله المفسرون القديمون من عمد تفسيرهم، بل كان وظلّ الركن الأقوى والأوسع في التفسير، فكان هذا التساهل من جانب المدونين أولا والمفسرين المتقدمين ثانيا باعثا على تسلسل الدور وانتقال الروايات من عهد إلى عهد من دون تحفظ أو تمحيص إلا قليلا حتى صارت كأنها قضايا مسلّمة أو نصوص نقلية يجب الوقوف عندها والتقيد بها أو التوفيق بينها إلخ، وأدى هذا إلى الوقوع في أخطاء وتشويشات ومفارقات كثيرة، سواء كان في صدد السيرة النبوية وأحداثها أو ظروف ما قبل البعثة، أو المفهومات والدلالات والأحكام القرآنية. ولقد كان هذا في أحيان كثيرة مستندا من مستندات أعداء العرب والإسلام المتعقبين للثغرات فيهم، فتمسكوا بكثير من الروايات الواردة في التفسير مع ما هي عليه من وهن وتهافت فأساؤوا فهم القرآن وخلطوا فيه عن عمد أو غير عمد، شأنهم في ذلك شأنهم في التمسك بكثير من الروايات الواردة عن السيرة النبوية والبيئة النبوية وظروفها وما بعدها من أحداث الحركة الإسلامية وظروفها وتاريخها. والأمثلة على ذلك كثيرة جدا، وقد نبهنا عليها في سياق التفسير، وإليك بعضها على سبيل التمثيل والإيضاح: (1) فقد نقل الخازن «1» في تفسير أوائل سورة التوبة عن محمد بن إسحاق ومجاهد وغيرهما أن النبي عليه السلام أمّر أبا بكر على الحج في أول حجّ بعد فتح مكة وبعث معه أربعين آية من سورة براءة ليقرأها على أهل الموسم، ثم بعث بعده عليا ليقرأ على الناس صدر براءة ويؤذن بمكة ومنى أن قد برئت ذمة الله وذمة رسوله من كل مشرك، وأن لا يطوف بالبيت عريان، وأن أبا بكر رجع فقال يا رسول الله بأبي أنت وأمي أنزل في شأني شيء قال لا ولكن لا ينبغي أن يبلغ هذا

_ (1) إن إشارتنا إلى كتب تفسير بعينها في هذا الفصل وغيره لا تعني أن عدا هذه الكتب خال من الثغرات التي ننبه عليها ونمثل لها. فإن أكثر ما اطلعنا عليه من هذه الكتب ينطوي على واحدة أو أكثر من هذه الثغرات، وبعضها ينقل عن بعض حرفيا وبعضها يعزو إلى بعض والقليل منها تعليق على ما يورده أو ينقله أو يعزوه وكثير منها يورد فيها بدون تعليق كأنما يتبناه أو ليس له اعتراض وتعليق عليه.

إلا رجل من أهلي. هذا بينما ورد في البخاري حديث عن أبي هريرة أن أبا بكر بعثه في الحجة التي أمّره رسول الله عليها في رهط يؤذن في الناس يوم النحر أن لا يحج بعد العام مشرك ويطوف بالبيت عريان. وفي الحديث الثاني تعارض مع الأول كما هو ظاهر، ولقد كان الحديث الأول موضع تأويل متقابل من الشيعة والسنة، فالأولون احتجوا به لصواب مذهبهم لأنه مؤيد لحق علي في القيام مقام النبي بعده، وكون ما تمّ هو مخالف لتلقين النبي، والآخرون قالوا مقابل ذلك إنما بعث النبي عليا في هذه الرسالة حتى يصلي خلف أبي بكر ويراه الناس أنه تحت إمرته ويكون في ذلك تنبيه على إمامة أبي بكر بعد رسول الله، وأن الأمير على الناس كان أبا بكر ولم يكن عليا وأن في هذا تقديما له عليه، ولم يكلف من هؤلاء وأولئك نفسه عناء البحث في متن الرواية، فإنّ ما احتواه حديث بعث النبي مع أبي بكر أربعين آية من صدر سورة براءة يجعل الحديث موضع نظر وتوقف لأن هذا العدد من صدر السورة احتوى مواضيع متنوعة ومنها ما نزل في شؤون أخرى، ومنها ما هو متصل بسلسلة طويلة من بعده، بل ومنها ما نزل قبل الفتح المكي على ما ذكرته من روايات أخرى يؤيدها أو يقوم قرينة عليها نصوص بعض هذه الآيات، هذا فضلا عن رائحة التشاد الحزبي بين الشيعة والسنة القوية في الحديثين وما يمكن أن تعنيه من وضعهما لتأييد كل رأيه وتجريح رأي خصمه هجوما ودفاعا! (2) وقد روى السدّي عن الزبير على ما جاء في «كشاف» الزمخشري أنه قال إن آية وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: 25] ، نزلت فينا، وأنه كان يساير النبي يوما فأقبل عليه فضحك له الزبير فقال رسول الله كيف حبك لعلي فقال يا رسول الله بأبي أنت وأمي إني أحبّه كحبي لولدي أو أشدّ قال فكيف أنت إذا سرت إليه تقاتله. هذا في حين أن الآية شديدة الانسجام مع سابقاتها ولا حقاتها، وأن السياق في صدد تثبيت المسلمين وتذكيرهم وتحذيرهم وعظتهم على أثر التشاد الذي كان بينهم حول غنائم بدر وفي سبيل توطيد طاعة للنبي في نفوسهم، وفي حين أنه لا يبدو قط أي اتساق وصلة بين الرواية والآية

معنى أو موضوعا أو مدى، فضلا عما يلفت النظر فيها من أثر الفتنة التي نجمت مذ مقتل عثمان ومن عدم احتمال صدورها عن الزبير لأن فيها إدانة له. ومن هذا الباب روايات كثيرة في أسباب نزول آيات كثيرة تضمنت صرف الآيات إلى بعض الصحابة وتشم فيها رائحة الخلاف السني الشيعي ولا تتسق في حال مع الآيات وظروف نزولها وسياقها، فقد روى بعض الشيعة رواية بأن آية وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) [الزمر: 33] قد نزلت بحق علي، وروى بعض السنيين رواية بأنها نزلت في حق أبي بكر، والسياق يدل على أنها مع ما سبقها ولحق بها عامة متصلة بظروف الدعوة في العهد المكي الذي لم يكن علي في أوائله إلا صبيا، ومن ذلك ما رواه بعض السنيين من أن آية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 64] ، قد نزلت عند إسلام عمر، ومن أن جملة وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: 159] ، نزلت في إيجاب مشاورة أبي بكر وعمر، مع أن آية الأنفال مدنية ومتصلة بظروف الجهاد في العهد المدني وجزء من سياق منسجم، وأن جملة آية آل عمران من آية يدل مضمونها نفسه على أنها متصلة بموقف بعض المسلمين والمنافقين في ظروف وقعة أحد فضلا عن أنها جزء من سياق منسجم في ظروف هذه الوقعة، ومن ذلك ما رواه الشيعيون من أن آية وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ [الصافات: 24] ، قد نزلت في الذين ينكرون حقّ علي في الولاية مع أن السياق عام متصل بظروف الدعوة في العهد المكي، وفيه حكاية عن ما يراه الكافرون والمؤمنون من المشاهد الأخروية ترهيبا وترغيبا. (3) وجاء في البخاري عن أنس أن عمر بن الخطاب قال يا رسول الله يدخل عليك البرّ والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب، بينما جاء في البخاري عن أنس أيضا أنه لما تزوج رسول الله زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا فلما رأى ذلك قام فلما قام من قام وقعد ثلاثة نفر فجاء النبي ليدخل فإذا القوم جلوس ثم

إنهم قاموا فانطلقت فأخبرت النبي أنهم انطلقوا فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه وأنزل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلى آخر آية الأحزاب: [53] ، وهي الآية التي ذكر فيها الحجاب والتي توصف بأنها آية الحجاب والتي نزلت بناء على مراجعة عمر كما جاء في الرواية الأولى، وجاء كذلك في البخاري عن عائشة أن عمر بن الخطاب كان يقول لرسول الله احجب نساءك فلم يفعل وكان أزواج النبي يخرجن ليلا قبل المناصع «1» فخرجت سودة بنت زمعة وكانت امرأة طويلة فرآها عمر وهو في المجلس فقال عرفتك يا سودة حرصا على أن ينزل الحجاب قالت فأنزل الله آية الحجاب. وجاء في البخاري أيضا عن عائشة قالت خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها فرآها عمر بن الخطاب فقال أما والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين قالت فانكفأت راجعة إلى رسول الله في بيتي وإنه ليتعشى وفي يده عرق فدخلت فقالت يا رسول الله خرجت لبعض حاجتي فقال عمر كذا وكذا قالت فأوحى الله إليه ثم رفع عنه وأن العرق في يده ما وضعه فقال إنه أذن لكن أن تخرجن. فهذه أربعة أحاديث بخارية حول الحجاب، وثلاثة منها في مناسبة نزول آية الحجاب في سورة الأحزاب، وفيها ما فيها من التغاير في هذه المناسبة وكل هذا في حين أن الحجاب المذكور في الآية يعني الستر على باب البيت كما رواه أنس في أحد أحاديثه السابقة وأمر الناس بأن يطلبوا ما يكون لهم من حاجات من زوجات النبي من ورائه ولا يدخلوا عليهن بسبب ذلك كما أن الآية لم تنزل خاصة في الحجاب حتى تسمى آيته كما يظهر ذلك لمن ينعم النظر فيها. (4) وروى الضحاك عن ابن عباس على ما جاء في الخازن أن آية إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً.. إلخ. [المائدة: 33] ، نزلت في قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين رسول الله عهد وميثاق فنقضوا عهد الله وأفسدوا في الأرض فخير الله رسوله إن يشأ يقتل وإن يشأ يصلب وإن يشأ

_ (1) محلات الغائط. [.....] الجزء الأول من التفسير الحديث 14

- 2 - روايات التفسير:

يقطع الأيدي والأرجل من خلاف بينما روى الكلبي عن ابن عباس أيضا أنها نزلت في قوم هلال بن عويمر وذلك أن النبي وادع هلالا على أن لا يعينه ولا يعين عليه وأن من مرّ بهلال إلى النبي فهو آمن، فمرّ قوم من بني كنانة يريدون الإسلام بقوم هلال فشدوا عليهم فقتلوهم وأخذوا أموالهم فنزل جبريل بالقضاء فيهم بهذه الآية، وهذا وذاك في حين أن رواية عن سعيد بن جبير تقول إن الآية نزلت في قوم من عرينه وعكل أتوا رسول الله وبايعوه على الإسلام وهم كذبة، فاستوخموا المدينة فبعثهم رسول الله إلى إبل الصدقة فارتدوا وقتلوا الراعي واستاقوا الإبل. فهذه ثلاث روايات في سبب نزول آية كل منها مخالف للأخرى من حيث القصة وكل منها يفيد أن الآية نزلت مستقلة بسبب حادث معين، واثنتان منها على تخالفها مرويتان عن ابن عباس، مع أن الذي ينعم النظر في سياق الآية يجدها غير منفصلة عن السياق السابق الذي يدور الحديث فيه عن اليهود والتنديد بهم ويربط حاضرهم بماضيهم، ثم يجد في الآية التالية لها ما يدل على أن الذين هم موضوع الكلام ليسوا في متناول يد النبي وأن ما نسب إليهم إنما صدر عنهم في ظرف كفرهم، وأنها أمرت بقبول توبتهم أي إسلامهم إذا تابوا قبل أن يقعوا في متناول يد النبي ويجد السياق التالي لها متصلا بالسياق السابق أيضا [الآيات 32- 37 المائدة] . ولقد روى البخاري حديثا عن أنس بن مالك في قصة عرب عكل وعرينه التي ذكرت في الرواية المعزوة إلى سعيد بن جبير جاء فيه أن النبي سمّر أعينهم كواها بأسياخ النار وقطع أيديهم وأرجلهم وتركهم في ناحية الحرة حتى ماتوا، ولم يرد في هذا الحديث أن الآية نزلت فيهم كما أنها لا تحتوي تسمير العينين ومحال أن يخالف النبي نصّ الآية لو أنها نزلت فيهم. - 2- روايات التفسير: ثانيا: إن هناك أولا تفسيرا كاملا معزوا إلى ابن عباس رواية أبي صالح عن الكلبي احتوى تفسيرات لغوية وكثيرا من أسباب النزول وتأويلات للقصص

والتعابير والمشاهد والأوصاف القرآنية وتعليقات عليها، وثانيا أقوالا كثيرة جدا في كتب التفسير معزوة إلى ابن عباس منها ما ورد في ذلك التفسير ومنها ما لم يرد، واحتوت هي الأخرى تفسيرات لغوية وأسباب نزول وتأويلات للقصص والتعابير والمشاهد والأوصاف القرآنية وتعليقات عليها. وثالثا أقوالا كثيرة جدا كذلك في كتب التفسير معزوة إلى علماء من التابعين وتابعي التابعين أمثال مجاهد والضحاك وقتادة والحسن البصري وعكرمة وسعيد ومسروق ومحمد القرظي وسفيان بن عيينة وعطاء إلخ فيها كذلك تفسيرات لغوية وأسباب نزول وتعليقات وتأويلات بل وهناك روايات عن كتب تفسير معزوّة إلى بعض هؤلاء مثل مجاهد والضحاك وقتادة وسفيان، وقد وصف السيوطي ما ورد عن ابن عباس من روايات تفسيرية بكلمة «لا تحصى» دلالة على كثرته، وذكر أن عدد مثل هذه الروايات المروية عن الصدر الأول قد بلغ بضعة عشر ألفا، والأرجح أن هذا العدد لا يشمل ما يرويه الشيعة بطرقهم وشروطهم الخاصة التي لا يستقيم كثير منها عند السنيين ولا يحتجون بها والتي ربما بلغ عددها نفس العدد أو زاد، وكثير من الأقوال المنسوبة إلى هذا الصدر ومن يليه يصح عليها ما قلناه في الفقرة السابقة من أنه لا يثبت على النقد والتمحيص للأسباب التي ذكرناها هناك، ومن حيث ما يقع في النفس من تلقفها من الأفواه وتدوينها في عهد رواج الرواية فاختلط حابلها بنابلها وغثّها بسمينها وصحيحها بباطلها، وظهر على كثير منها أثر تلك الخلافات السياسية والحزبية والكلامية والمذهبية والعنصرية، ومن حيث ما يقع في النفس من قصد التشويش والتشويه في بعضها وتعمد النحل والتلفيق في بعض آخر منها، وفي بعضها ما هو أدخل في باب الخرافة منه في باب الحقيقة أو الاحتمال كما أن كثيرا منها لا يصح تصديق صدوره عن صحابة وتابعين وتابعي تابعين وخاصة من علمائهم الأجلاء المشهورين في سلامة المنطق والفهم والذكاء والدراية والورع. ويؤيد هذا قول الإمام الشافعي بأنه لم يثبت عن ابن عباس مما عزي إليه من روايات التفسير إلا نحو مئة، بينما المنسوب إليه يبلغ بضعة آلاف، ويؤيده كذلك موقف الإمام الحنبلي من هذه الروايات حيث يسلك روايات التفسير المعزوة إلى

الصحابة والتابعين- وكل ذلك مما يدخل في شمول كتب الحديث- في سلك روايات الملاحم والمغازي من حيث غلبة احتمال تسرب الأخطاء والمبالغات وعدم صحة السند فيقول إنها لا أصل لها. ومع ذلك فقد صارت هي الأخرى من عمد المفسرين القديمين وكتبهم وانتقلت من دور إلى دور حتى استفاضت في كتب التفسير جميعها تقريبا وغدت نصوصا نقلية يوقف عندها ويتقيد بها بل ويحتج بها بسبب مكانة المصدر الذي نسبت إليه بدءا، ولم تحظ إلا بقليل من النقد والتمحيص، بل وإن ما جرح منها ظل ينتقل من دور إلى دور ويستفيض في كتب التفسير، ويورد في سياق الآيات من جملة الأقوال والتأويلات، ومنها ما لا يذكر جرحه، ولقد جرح بعض علماء القرآن والرواية رواية ابن الكلبي بل سمّاه بعضهم بالكذاب، ولكن كثيرا مما رواه أخذه المفسرون القدماء وتنوقل عنهم دورا بعد دور، منهم ما ذكر راويه ومنهم ما لم يذكر، ودخل كذلك في عداد النصوص المروية التي يوقف عندها ويتقيد ويحتج بها، وهذا شأن كثير من الروايات المجروحة أيضا، فأدى ذلك كله إلى أخطاء وتشويشات وتشويهات ومفارقات ومجادلات كثيرة، وكان وسيلة من وسائل غمز الأغيار والباحثين المستشرقين وطعنهم أيضا كما كان ذلك في روايات الأسباب والمناسبات على ما ذكرناه قبل والأمثلة على ذلك كثيرة جدا نورد بعضها فيما يلي للتمثيل والإيضاح: (1) ففي تفسير سورة القلم من تفسير ابن عباس المذكور أن النون هو السمكة التي تحمل الأرضين على ظهرها، وهي في الماء وتحتها الثور وتحت الثور صخرة وتحت الصخرة الثرى ولا يعلم ما تحت الثرى إلا الله- كأن هذا من العلم الذي عرفه البشر- وأن اسم السمكة ليواش ويقال ليوتي واسم الثور يلهموت ويقال يلهوى ويقال ليوتا، وهي في بحر يقال له عصواص وهو كالصور الصغير في البحر العظيم، وهذا البحر في صخرة جوفاء، وفي هذه الصخرة أربعة آلاف خرق يخرج منها الماء. وقد وردت هذه الأقوال بعينها أو مزيدا عليها أو مبدلة بعض الشيء في كتب عديدة من كتب التفسير منها ما عزي إلى ابن عباس عن أبي صالح

عن الكلبي ومنها ما لم يذكر راويه ومصدره. (2) وقد صرفت كلمة (ربك) في هذا التفسير في جملة فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [المائدة: 24] إلى هارون. (3) ولقد علّق فيه على جملة وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ بأن الله قد صور آدم بين مكة والطائف. (4) وقد صرف فيه المقصود من آيتي الأعراف هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) إلى آدم وحواء. وروى فيه أنهما جعلا لله شركاء في ما أتاهما حيث سمى أحد أولادهما عبد الله والآخر عبد الحارث. وقد ورد هذا القول في الخازن عن ابن عباس بغير ذكر الكلبي بهذا النص: كانت حواء تلد لآدم أولادا فيسميهم عبد الله وعبيد الله وعبد الرحمن فيصيبهم الموت فأتاهما إبليس فقال إن سرّكما أن يعيش لكما ولد فسمّياه عبد الحرث- يعني نفسه- فولدت ولدا فسمّياه كذلك فعاش! (5) وذكر فيه نسب نمرود هكذا: نمرود بن كنعان بن سنحاريب بن كوش. (6) وعلّق فيه على جملة فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ [الحجر: 19] كل شيء يوزن مثل الذهب والفضة والحديد والصفر والنحاس. (7) وفسّرت فيه كلمتا تَمَنَّى وأُمْنِيَّتِهِ الواردتان في آية الحج وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [52] بمعنى قرأ وقراءته فكان هذا التفسير من أركان الأقوال والروايات التي قيلت ورويت في قصة الغرانيق وكون الشيطان هو الذي أجرى على لسان النبي الجملتين (تلك الغرانيق العلى. وإن شفاعتهن لترتجى) في أثناء تلاوة سورة النجم في صلاة أقامها بالمؤمنين في فناء الكعبة، وكون آيات الحج. هي بسبيل نسخ تلك العبارات

والتنبيه على أنها من إلقاء الشيطان، مما كان مثار أخذ ورد ومغامز ومطاعن في حين أن عبارات آيات الحج [52- 54] وروحها وسياقها لا يتسق مع ذلك التفسير ولا مع تلك الأقوال قط على ما فصلناه في سياق تفسيرها «1» ، فضلا عما هناك من رواية تفيد أن هذه الآيات نزلت على النبي بطريق هجرته إلى المدينة. (8) وقد أولت فيه آيات زواج النبي بمطلقة متبنيه الواردة في سورة الأحزاب تأويلا تنزه رسول الله عنه من عشقه لزينب ومخادعته لزيد كان مثار أخذ وردّ ومغامز ومطاعن أيضا في حين أن عبارة الآيات وظروفها تناقض هذا التأويل. كما فصلناه كذلك في سياق تفسيرها «2» . (9) ومما نقل عن ابن عباس من غير طريق ابن الكلبي وأشرك معه غيره من الصحابة والتابعين ما نقله الخازن عن قصة هاروت وماروت العجيبة والشائقة معا حيث جاء فيها أنهما كانا أعبد الملائكة وأنهما عيرا الله في خلقه البشر على عصيانهم وأن الله قد تحداهما أن يثبتا إذا ركب فيهما طبائع البشر، وأنهما لما انقلبا بشرا زنيا وشربا الخمر وقتلا النفس وسجدا للأصنام وأساءا استعمال اسم الله الأعظم إلخ بتفصيل طويل، مما لا يتسق مع منطق من جهة وفيه ما فيه من موقف نحو الله من جهة أخرى. ولقد صارت هذه القصة وسيلة لجدل كلامي في عصمة الملائكة، واحتج القائلون بعدمها بالقصة كحجة نقلية مروية بألفاظ متقاربة عن ابن عباس وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وكعب الأحبار والسدي والربيع ومجاهد! (10) ومن ذلك أن لحملة العرش قرونا وأن ما بين أخمص أحدهم إلى كعبه مسيرة خمسمائة عام ومن كعبه إلى ركبته مسيرة خمسمائة عام ومن ترقوته إلى موضع القرط منه مسيرة خمسمائة عام. (11) وروى «الكشاف» عن عكرمة في تأويل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ [الفتح: 29] أن هذا مثل ضربه الله لبدء الإسلام

_ (1) اقرأ أيضا كتاب «سيرة الرسول» الجزء الأول ففيه بحث وتمحيص. (2) المصدر نفسه.

وترقيه فأخرج شطأه بأبي بكر وآزره بعمر واستغلظ بعثمان واستوى على سوقه بعلي. وأثر المقالات الخلافية في ترتيب الخلفاء الراشدين ظاهر القول. (12) وروى «الكشاف» معزوا إلى الحسن في صدد خلق الأرض والسماء أن الله خلق الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان ملتزق بها ثم أصعد الدخان وخلق منها السماوات وأمسك النهر في موضعه وبسط منه الأرض فذلك قوله كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما الأنبياء: [30] . (13) وروى الخازن معزوا إلى عبد الله بن عمر أن الذين يحملون العرش ما بين سوق أحدهم إلى مؤخر عينيه خمسمائة عام. (14) وروى الخازن أيضا معزوا إلى عروة بن الزبير أن من حملة العرش من صورته على صورة الإنسان ومنهم من صورته على صورة النسر ومنهم من صورته على صورة الثور ومنهم من صورته على صورة الأسد. (15) وروى أيضا معزوا إلى نوفل البكالي في وصف السلسلة التي ذكرت في سورة الحاقة ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) ، أن كل ذراع سبعون باعا وكل باع أبعد ما بينك وبين مكة وكان هو في رحبة الكوفة. (16) وروت روايات شيعية عن مقاتل عن أبي عبد الله أنه وجد في كتاب علي بن أبي طالب أن آدم لما هبط إلى الأرض كانت رجلاه بثنية الصفا ورأسه دون أفق السماء وأنه شكا لله حرارة الشمس فأوحى إلى جبريل أن أغمزه فغمزه فصير طوله سبعين ذراعا بذراعه ثم غمز حواء غمزة فصير طولها خمسة وثلاثين ذراعا بذراعها. وقد رأينا تعليقا على رواية تقصير آدم وحواء لمؤلف شيعي آخر حاول فيه أن يعلل أذى الشمس بأن حرارتها تكون من غير جهة الانعكاس وتكون قامة آدم طويلة بحيث تتجاوز طبقة الزمهرير! ثم أيد صحة طول آدم واحتمال تأذيه من حرارة الشمس بقصة عوج بن عناق فذكر كيف كان يأخذ السمكة من قاع البحر ويشويها في عين الشمس، ولم يكتف المؤلف بهذا فقد أخذ يورد احتمالات ووجوها من طرائفها أن جبريل غمز آدم فجعله سبعين لا سبعين وغمز حواء

فجعلها خمسين وثلثي الخمس لا خمسة وثلاثين وأن من المحتمل أن يكون الناقل وهم في القراءة. (17) وجاء في تفسير القرطبي معزوا إلى ابن عباس أنه كان يوضع لسليمان ستمائة كرسي ثم يجيء أشراف الإنس فيجلسون مما يليه ثم يأتي أشراف الجن فيجلسون مما يلي الإنس ثم يدعو الطير فتظللهم ثم يدعو الريح فتقلهم وتسير بالغداة الواحدة مسيرة شهر. (18) وجاء فيه معزوا إلى جابر بن عبد الله إلى النبي عليه السلام أنه كان نقش خاتم سليمان بن داود «لا إله إلّا الله محمد رسول الله» . (19) وجاء فيه أيضا معزوا إلى الحسن أن الجياد المذكورة في قصة سليمان في سورة ص إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) ، خرجت من البحر لها أجنحة، ومعزوا إلى الضحاك أنها كانت منقوشة ذات أجنحة، ومعزوا إلى علي أن الشيطان أخرجها مجنحة من مروج البحر وكانت عشرين فرسا. (20) وفي الخازن عن البغوي عن الثعلبي عن كعب الأحبار أن موسى نظر في التوراة فقال إني أجد أمة هي خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالكتاب الأول والآخر ويقاتلون أهل الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الدجال، ربّ اجعلهم أمتي قال هي أمة محمد يا موسى. قال ربّ إنّي أجد أمة هم الحمادون المحكمون إذا أرادوا أمرا قالوا نفعل إن شاء الله فاجعلهم أمتي قال هي أمة محمد. قال ربّ إني أجد في التوراة أمة يأكلون كفاراتهم وصدقاتهم- وكان الأولون يحرقون كفاراتهم بالنار- وهم المستجيبون والمستجاب لهم الشافعون والمشفوع لهم فاجعلهم أمتي. قال هي أمة محمد. ويستمر الكلام فيتناول بضع صور أخرى من هذا القبيل. ونقول بهذه المناسبة إن المفسرين كثيرا ما نقلوا عبارات وجملا على أنها واردة في التوراة والإنجيل ومنها ما يشبه بعض آيات وعبارات القرآن، ويعزون ذلك إلى كعب الأحبار أو عبد الله بن سلام أو ابن عباس أو بعض التابعين ومن جملة ذلك ما رواه البيهقي عن ابن عباس أن سورة

الكهف تسمى في التوراة الحائلة وسورة يس المعمة كأنما كل سورة في القرآن لها ما يقابلها أو لها ذكر في التوراة. (21) وجاء في الخازن أن سعيد بن جبير قال عن ألواح موسى إنها من ياقوتة حمراء، وإن الكلبي قال إنها من زبرجدة خضراء، وإن ابن جريج قال إنها من زمرد وإن الله أمر جبريل فجاء بها من جنة عدن وكتبها بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد- أي أخذ الحبر- من نهر النور، وإن الربيع بن أنس قال إن الألواح كانت من زبرجد، وإن وهبا قال: إن الله أمر جبريل فقطعها من صخرة صماء عينها له ثم شقها الله بأصبعه وسمع موسى صريف الأقلام بالكلمات العشر وكان ذلك أول يوم من ذي الحجة، وكان طول الألواح عشرة أذرع على طول موسى واختلفوا في عدد الألواح فروي عن ابن عباس أنها كانت سبعة، وروى عنه رواية أخرى أنها لوحان ورجحه الفراء وقال إنما جمعت على عادة العرب في إطلاق الجمع على الاثنين، وإن وهبا قال إنها عشرة وإن مقاتلا قال إنها تسعة، وإن الربيع بن أنس قال إنها كانت وفر سبعين بعيرا يقرأ الجزء منها في سنة ولم يقرأها إلا أربعة نفر موسى ويوشع وعزير وعيسى. (22) وجاء في الخازن عن الربيع عن أنس أن درجات الجنة سبعون ما بين الدرجتين حضر الفرس المضمر سبعين سنة. (23) وجاء فيه عن ابن مسعود أن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام وما بين كل سماء وسماء خمسمائة عام وفضاء كل سماء وأرض خمسمائة عام وما بين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام وما بين الكرسي والماء خمسمائة عام والعرش على الماء والله على العرش. وهناك خبر عن ابن عباس أن المسافة ... فحاول أحد المفسرين التوفيق بين القولين فقال إن الخلاف في قدر المسافة على اختلاف سير الدواب. (24) وجاء فيه معزوا إلى ابن عمر أن السور الذي ذكر في القرآن فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ [الحديد: 13] ، هو سور

- 3 - تعليقات المفسرين على القصص:

بيت المقدس الشرقي باطنه فيه المسجد وظاهره من قبله العذاب وادي جهنم. وهذا قليل جدا من كثير جدا مما ورد من هذا الباب معزوا مثل ما تقدم إلى صحابة وتابعين عن الخلق والتكوين والقصص وتأويل الآيات والأحداث المتصلة بالسيرة النبوية وظروف الدعوة. وهذا غير ما روي من روايات تأويلية وتفسيرية كثيرة جدا في كتب السنة والشيعة معزوة إلى صحابة أو تابعين ممن عرفوا بالعلم والدراية والورع وسلامة المنطق متناقضة من جهة ويبرز فيها أثر الخلافات الحزبية والمذهبية والسياسية بروزا واضحا من جهة أخرى. وفي كل هذا ما هو ظاهر من الإغراب والتخمين بل والتخريف وعدم الاتساق مع مرامي الآيات ومضمونها وظروفها، ودلائل الجهل بحقائق الكتب المنزلة ومحتوياتها وبما هو معروف إذ ذاك من الحقائق العلمية والتاريخية والجغرافية مما يشوش على الراغب في تفهم القرآن ويجعل القرآن عرضة للحجاج والجدل والأخذ والرد، ويشوه أسماء كثير من أصحاب رسول الله وتابعيهم، ويجعل المسلم يقف موقف الحيرة والبلبلة مما نقل عنهم. - 3- تعليقات المفسرين على القصص: ثالثا: إن كثيرا من المفسرين قد ولعوا بالتعليق على ما ورد في القرآن من قصص ولعا كبيرا تجاوزوا فيه حدود الروايات المنسوبة إلى الصحابة والتابعين على علّات كثير من هذه الروايات، وجالوا في ساحات التخمين والتخرص والتكلف والتزيد والمبالغة جولات مسهبة حينا وموجزة حينا آخر، ومنسوبة إلى رواة من غير تلك الطبقة بالأسماء حينا وبدون أسماء حينا وصادرة عنهم أو موهمة أنها كذلك حينا آخر، حتى ليقع في نفس القارئ من فحوى عباراتهم وأساليب إيرادهم أحيانا أنهم يعنون أن القصص القرآنية أو بعضها على الأقل قد وردت في القرآن لذاتها، وبقصد الإخبار والماهيات والحقائق أكثر من قصد العظة والتذكير، وكثير مما أورده لا يتفق مع دلالات الآيات ولا تتحمله أهدافها ولا تقتضيه عباراتها كما فيه

مفارقات كثيرة وما هو أدخل في باب الخرافة منها في باب الحقائق. وإليك بعض الأمثلة من ذلك للتمثيل والإيضاح: (1) فهذه سلسلة مما ورد عن ذي القرنين ويأجوج ومأجوج منقولة عن الخازن وأبي السعود والبيضاوي والكشاف، وأكثرها بتعبير روي وقيل وأحيانا بدون ذلك وقليل منها معزو لقائل معين: 1- إن الله إنما ذكر ذا القرنين لأن حكمته شاءت تخليد اسمه في القرآن على مرّ الدهور لما بلغه من عظمة السلطان وسعة الملك. 2- إن ذا القرنين دخل الظلمة في طلب عين الحياة، وإن الخضر كان من رجال جيشه فوقع على العين فاغتسل وشرب منها. 3- إن عمر ذي القرنين ألف وثلاثون سنة. 4- وقال ابن جريج كان عند العين الحمئة مدينة يقال لها الجاسوس لها اثنا عشر ألف باب وسكانها من نسل ثمود الذين آمنوا بصالح ولولا ضجيج أهلها لسمع الناس وجيب الشمس حين تغيب. 5- إن يأجوج أمة ومأجوج أمة، وكل أمة أربعة آلاف أمة، ولا يموت الرجل منهم حتى يرى من صلبه ألف رجل قد حمل السلاح، وهم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال الأرز شجر بالشام طوله عشرون ومئة ذراع، وصنف منهم عرضه وطوله سواء عشرون ومئة ذراع وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد، وصنف منهم يفترش أحدهم أذنه ويلتحف بالأخرى، ولا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه، ومنهم من طوله شبر. وقال كعب إن آدم احتلم ذات يوم وامتزجت نطفته بالتراب فخلق الله من ذلك الماء يأجوج ومأجوج، فهم متصلون بنا من جهة الأب دون الأم. 6- كان لذي القرنين قرنان فأمر قومه بتقوى الله فضربوه على قرنه الأيمن فمات فأحياه الله ثم بعثه فأمرهم بتقوى الله فضربوه على قرنه الأيسر فمات فأحياه الله.

7- سخر الله لذي القرنين السحاب فحمل عليه، ومدّ له الأسباب وبسط له النور فكان الليل والنهار عليه سواء. وخاطبه قائلا إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم، منهم أمتان بينهما طول الأرض إحداهما عند مغرب الشمس يقال لها ناسك والأخرى عند مطلعها يقال لها منسك، ومنهم أمتان بينهما عرض الأرض إحداهما في القطر الأيمن يقال لها هاويل والأخرى في قطر الأرض الأيسر يقال لها تاويل، ومنهم أمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج! فقال بأي قوة أكابدهم وبأي جمع أكاثرهم وبأي لسان أناطقهم، فقال الله إني سأقويك وأبسط لسانك وأشد عضدك فلا يهولنك شيء، وألبسك الهيبة فلا يرو عنك شيء وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك. فالنور يهديك من أمامك والظلمة تحوطك من ورائك. 8- إنه الإسكندر الذي ملك الدنيا. وقيل ملكها مؤمنان وهما ذو القرنين وسليمان وكافران وهما نمرود وبختنصر. 9- قيل إنه كان عبدا صالحا ملكه الله الأرض وأعطاه العلم والحكمة وسخر له النور والظلمة، فإذا سرى يهديه النور من أمامه وتحوطه الظلمة من ورائه. وقيل كان نبيا وقيل كان ملكا من الملائكة. وعن علي أنه ليس بملك ولا نبي ولكنه عبد صالح ضرب على قرنه الأيمن في طاعة الله فمات ثم بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر فمات فبعثه الله فسمي ذا القرنين، وإن فيكم لمثله. وعلق المفسر قائلا إن عليا أراد نفسه. 10- إن معاوية قرأ جملة عَيْنٍ حَمِئَةٍ [الكهف: 86] «عين حامية» فقرأها ابن عباس «عين حمئة» فقال معاوية لعبد الله بن عمر كيف تقرأها فقال كما يقرأ أمير المؤمنين، ثم إن معاوية وجّه إلى كعب الأحبار كيف تجد الشمس تغرب في التوراة قال في ماء وطين فوافق قول ابن عباس. (2) وهذه سلسلة أخرى في سياق قصص موسى وفرعون وبني إسرائيل وسليمان منقولة عن «الكشاف» . وقد وردت في كتب تفسير أخرى مقاربة أو نصا

كما جاءت في «الكشاف» : 1- قيل إن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطا تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا الله أن يفرق بينهم وبين إخوانهم ففتح الله لهم نفقا في الأرض فساروا فيه سنة ونصفا حتى خرجوا من وراء الصين، وهم هناك حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا. وذكر عن النبي أن جبريل ذهب به ليلة الإسراء نحوهم فكلمهم فقال لهم جبريل هل تعرفون من تكلمون قالوا لا قال هذا محمد النبي الأمي فآمنوا به ثم قالوا يا رسول الله إن موسى أوصانا من أدرك منكم أحمد فليقرئه مني السلام فردّ محمد على موسى السلام، ثم أقرأهم عشر سور من القرآن نزلت بمكة ولم تكن نزلت فريضة غير الصلاة والزكاة وأمرهم أن يقيموا مكانهم، وكانوا يسبتون فأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت. 2- روي أن معسكر سليمان كان مئة فرسخ في مئة. خمسة وعشرون للجن وخمسة وعشرون للإنس. وخمسة وعشرون للطير وخمسة وعشرون للوحش، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة زوجة وسبعمائة سرية، وقد نسج له الجنّ بساطا من ذهب وإبريسم فرسخا في فرسخ، وكان له منبر يوضع في وسطه، وهو من ذهب فيقعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة، وحولهم الإنس وحول الإنس الجنّ والشياطين، وتظللهم الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليهم الشمس، وترفع الريح البساط فتسير به مسيرة شهر في يوم وأن الله أوحى إليه مرة وهو يسير بين الأرض والسماء أني قد زدت في ملكك فلا يتكلم أحد بشيء إلا ألقته الريح في سمعك، فيحكى أنه مرّ بحراث فقال لقد أوتي آل داود ملكا عظيما فألقته الريح في أذنه فنزل ومشى إلى الحراث وقال: إنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه. وكان من أمره أن سمع كلام النملة من ثلاثة أميال. وقد ذكر بعض المفسرين في سياق هدهد سليمان أنه كان مكلفا بالتنقيب عن مواضع المياه للجيوش اللجبة التي تسير مع سليمان لأن الأرض في عيني الهدهد ككرة من زجاج شفاف يرى ظاهرها وباطنها.

3- كانت عند شعيب عصي الأنبياء، فأمر موسى أن يدخل ويأخذ له عصا، فوقعت يده على عصاه وكان آدم هبط بها من الجنة ولم يزل الأنبياء يتوارثونها، فضنّ بها على موسى وألقاها بين العصي أولا وثانيا وثالثا إلى السابعة وكانت في كل مرة تقع في يده فوقع في نفس شعيب أن له شأنا فأعطاها له. 4- أرسل فرعون خلف بني إسرائيل ألف ألف وخمسمائة ألف ملك، ومع كل ملك ألف، وخرج فرعون في جمع عظيم، وكانت مقدمته سبعمائة ألف كل رجل على حصان وعلى رأسه بيضة. وعن ابن عباس أن فرعون خرج في ألف ألف حصان سوى الإناث، وهذا سبب استقلاله قوم موسى وقوله عنهم إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ.. [الشعراء: 54] ، مع أن عددهم ستمائة ألف وسبعون ألفا. 5- إن بلقيس كانت من الجن، وإن الجن خشوا أن يتزوجها سليمان فيجتمع في ابنه منها فطنة الإنس والجن فدسوا له عنها وشنعوا له سيقانها فامتحنها بالصرح الممرد، ولما ظهر له كذبهم استنكحها وكان يزورها في الشهر مرة. 6- حينما كانت العصا تنقلب ثعبانا في يد موسى كان يبدو أنه ثعبان ذكر أشعر فاغرا فاه بين لحييه ثمانون ذراعا وقد وضع حينما ألقاه بين يدي فرعون لأول مرة لحيه الأسفل في الأرض ولحيه الأعلى على سور القصر ثم توجه نحو فرعون ليأخذه فوثب من سريره وهرب وأحدث ولم يكن أحدث قبل ذلك، وهرب الناس وصاحوا، وحمل على الناس فانهزموا فمات منهم خمسة وعشرون ألفا قتل بعضهم بعضا. 7- كان عدد السحرة سبعين ألفا وقيل ثمانين ألفا وقيل بضعة وثلاثين ألفا. 8- في الجزء الخامس عشر من تفسير القرطبي المعروف ب «جامع أحكام القرآن» اثنتان وثلاثون صحيفة في تفسير الآيات الواردة في سورة ص عن داود محشوة حشوا عجيبا بالقصص عن داود وسليمان والأقوال التي تدور حول هذه القصص، وفيها من الإغراب ما يثير الدهشة. منها ما جاء في صدد توبة داود معزوا

إلى عطاء الخراساني أن داود سجد أربعين يوما حتى نبت المرعى حول وجهه وغمر رأسه فنودي أجائع فتطعم وعار فتكسى فنحب نحبة هاج المرعى من حرّ جوفه فغفر له وستر بها ذنبه فقال يا ربّ هذا ذنبي فيما بيني وبينك قد غفرته فكيف بفلان وكيف بفلان وكذا وكذا رجلا من بني إسرائيل تركت أولادهم أيتاما ونساءهم أرامل، قال يا داود لا يجاوزني يوم القيامة ظلم أمكنه منك ثم أستوهبك منه بثواب الجنة.. ثم قيل يا داود ارفع رأسك فذهب ليرفع رأسه فإذا به قد نشب في الأرض فأتاه جبريل فاقتلعه عن وجه الأرض كما يقتلع من الشجرة صمغها. رواه الوليد بن مسلم عن ابن جابر عن عطاء.. قال الوليد وأخبرني منير بن الزبير قال فلزق مواضع مساجده على الأرض من فروة وجهه ما شاء الله.. وقال وهب إن داود نودي إني قد غفرت لك فلم يرفع رأسه حتى جاءه جبريل فقال لم لا ترفع رأسك وربك قد غفر لك. قال يا ربّ كيف وأنت لا تظلم أحدا فقال الله لجبريل اذهب إلى داود فقل له يذهب إلى قبر أوريا فيتحلل منه فسأسمعه نداءه. فلبس داود المسوح وجلس عند قبر أوريا ونادى يا أوريا فقال لبيك من هذا الذي قطع عليّ لذتي وأيقظني فقال أنا أخوك داود أسألك أن تجعلني في حلّ، فإني عرضتك للقتل قال عرضتني للجنة فأنت في حلّ. وفي الخبر وكان داود يقعد على سبعة أفرشة من الليف محشوة بالرماد فكانت تستنقع دموعه تحت رجليه حتى تنفذ من الأفرشة كلها، وكان إذا جاء يوم نواحه نادى مناديه في الطرق والأسواق والأودية والشعاب وعلى رؤوس الجبال وأفواه الغيران ألا إن هذا يوم نواح داود فمن أراد أن يبكي على ذنبه فليأت داود فيسعده فيهبط الناس من الغيران والأودية وترتج الأصوات حول منبره والوحوش والسباع والطير عكّف وبنو إسرائيل حوله فإذا أخذ في العويل والنواح وأثارت الحرقات منابع دموعه صارت الجماعة ضجة واحدة نوحا وبكاء حتى يموت حول منبره بشر كثير في مثل ذلك اليوم.. وفي هذا الجزء من تفسير القرطبي أربع عشرة صحيفة أخرى محشوة بمثل هذه الأقوال في سياق الآيات الواردة في سورة ص. كذلك عن سليمان تثير الدهشة في إغرابها وتفصيلاتها وخاصة في وصف كرسي سليمان وانتقال موكبه بواسطة الريح

وشياطينه المسخرة والمصفدة والبنائين والغواصين وخاتم سليمان والجسد الذي ألقي على كرسيه ونسائه، منها ما هو معزوّ إلى رواة ومصادر معينة ومنها ما هو مروي بصيغة المجهول مما يطول الأمر بنقله. وهذا الذي نقلناه غيض من فيض وقطرة من بحر مما أورده المفسرون في سياق القصص القرآنية. ولقد كان أمرهم أن استغرقوا فيها حتى صاروا يحاولون التوفيق بين مختلف الروايات الواردة فيها والجدل في ذلك بالإضافة إلى محاولات التوفيق والتلفيق والتأليف بين ما جاء فيها وبين ما يبدو من مناقضة العبارات القرآنية لبعض ما فيها، أو لما يجب من حق الله والأنبياء والملائكة ويضاف إلى هذا محاولتهم أخذ بعض الأحداث القصصية كحجة لأحكام فقهية في الإسلام مثل ما فعلوا في قصة أيوب واستنباط جواز الحيلة في التحلل من اليمين لأن القصة احتوت أمرا لأيوب يضرب زوجته بضغث من حشيش بدلا من جلدها بالسوط مئة مرة كما أقسم، ومثل تجويز أن تكون أجرة الراعي صداقا وعدم تعيين البنت التي آجر موسى نفسه مقابل نكاحها في قصة موسى وشعيب.. وهكذا كاد القرآن يخرج من نطاق قدسيته من الموعظة والدعوة والتذكير إلى نطاق بحوث في التاريخ والوقائع المروية وفي نطاق هذه الروايات العجيبة التي أوردت على هامش القصص القرآنية والتي لا يتفق كثير منها مع ما ورد في القرآن منها، ويتعرض بذلك إلى الأخذ والرد والنفي والإثبات والجدل والتصويب والتخطئة، بل ويدخل محتويات بعض قصصه مثل قصص آدم وإبليس ويوسف مع امرأة العزيز ويونس في مغاضبته وإبراهيم في طلبه من الله إراءته كيف يحيي الموتى وموسى في طلبه رؤية الله وفي قتله القبطي، والملائكة في مراجعتهم الله في شأن خلقه آدم في نطاق الجدل بين أصحاب المذاهب الكلامية من نواح متعددة تخطئة وتصويبا وتخريجا وتأويلا، كما يدخل محتويات بعض قصصه مثل حقيقة واسم مؤمن آل فرعون وإيمان امرأة فرعون، وحقيقة الذبيح، والدراهم التي بيع بها يوسف والأذى الذي أوذي به موسى وأسماء أهل الكهف وكلبهم، وأسماء امرأة فرعون ومؤمن آل فرعون والذي أماته الله هو وحماره ثم بعثه وعفريت سليمان والذي عنده علم الكتاب والذي

- 4 - تعليقات المفسرين على مشاهد الكون والجن والملائكة:

اشترى يوسف وامرأته وفرعون والغلام الذي قتله العبد الصالح وأبويه والغلامين اليتيمين ورهط قوم صالح وعاقر الناقة وابن لقمان والشيطان الذي ألقي على كرسي سليمان وشيطان أيوب ونفر الجن الذين استمعوا القرآن إلخ إلخ في نطاق البحث والنقاش واستنباط حقائق التاريخ لذاتها، وإيراد الأقوال والروايات في هذه الشؤون التي فيها كثير من التكلف والمفارقات والتخمين والإغراب والتخريف، مما هو منبث بكثرة في كثير من كتب التفسير، ومما يجعل المرء يندهش ويحار من روايتها وإيرادها من قبل علماء أعلام وجوازها عليهم، ومما ظل أثره مستمرا متمكنا إلى عصرنا هذا، حيث كان كثير من هذه القصص بالإضافة إلى القصص القرآنية مواضيع كتب خاصة عليها طابع الكتب التاريخية وتحمل اسم «قصص الأنبياء» وحيث يتجادل الباحثون على صفحات المجلات في ذي القرنين وماهيته وما هو معروف عن تاريخ الإسكندر، وفي ما إذا كان بنو إسرائيل قد ورثوا ملك فرعون في مصر وملكوها بعد أن غرق هو وجنوده أجمعون إلخ ويتكلفون بما لا طائل من ورائه. وكل هذا مؤدّ كما هو ظاهر إلى التشويش على الناظر في القرآن ومراميه في القصص وعلى أهدافه السامية وإلى غدو كتب تفسيره معرضا للكثير من المفارقات والمبالغات والتمحلات والمجادلات والمنحولات والمدسوسات وغدو القرآن بذلك عرضة للغمز والجرح من قبل الأغيار أيضا. كما أن ذلك قد أدى إلى استحواذ القصة القرآنية لذاتها على أفكار السواد الأعظم من المسلمين بل وخاصتهم، وصارت عندهم كذلك موضوعا ذاتيا ومجالا واسعا للأخذ والرد والسؤال والاستفتاء والاستقصاء والحجاج والاحتجاج والتصويب والمناظرة إلخ، مما كاد يضيع معه مواضع العبرة في القصة وقصد القرآن الجوهري منها. - 4- تعليقات المفسرين على مشاهد الكون والجن والملائكة: رابعا: إن كثيرا من المفسرين قد ولعوا أيضا بالتعليق على ما ورد في القرآن من تعابير وإشارات وتذكيرات وتنبيهات وتقريرات حول مشاهد الكون ونواميسه، الجزء الأول من التفسير الحديث 15

وحول ما ورد كذلك في صدد الملائكة والجن وإبليس وخلقه آدم ولعا تجاوزوا فيه حدود الروايات المنسوبة إلى الصحابة والتابعين وتابعيهم، وجالوا في ساحات التخمين والتكلّف والتزيد والإغراب، وأوردوا أقوالا منسوبة إلى رواة ومصادر من غير تلك الطبقة بأسماء وبدون أسماء وصادرة أحيانا عنهم أو موهمة أنها كذلك، حتى ليقع في نفس القارئ أنهم يعنون أن ما ورد في القرآن في هذه الشؤون كله أو بعضه قد ورد لذاته وبقصد تقرير الماهيات والحقائق أكثر من قصد الدعوة والتذكير والتدعيم به وفي كثير مما نقلوه وقالوه ما لا يتفق مع دلالات الآيات ولا تتحمله أهدافها ولا تقتضيه عباراتها كما أن فيه مفارقات كثيرة هي أدخل في باب الخرافة منها في باب الحقيقة. وإليك بعض الأمثلة على سبيل الإيضاح، منقولة عن كتب تفسيرية متعددة: (1) إن سماء الدنيا سوح مكفوف والثانية مرمرة بيضاء والثالثة حديد والرابعة صفر وقيل نحاس والخامسة فضة والسادسة ذهب والسابعة ياقوتة حمراء وما بين السابعة إلى الحجب صحار من نور. (2) إن وجهي الشمس والقمر متجهان إلى السماوات وضوءهما فيهن جميعا وأقفيتهما نحو الأرض. (3) إن اللوح من درة بيضاء طوله ما بين السماء والأرض وعرضه ما بين المشرق والمغرب وحافتاه الدر والياقوت ودفتاه ياقوتة حمراء وقلمه من نور وأصله في حجر ملك. (4) إن الأنهار التي أنزلها الله من عين من عيون الجنة واستودعها الجبال وأجراها على الأرض وهي سيحون وجيحون ودجلة والفرات والنيل هي التي عنيت في الآية وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ [المؤمنون: 18] . (5) لما خلق الله الأرض وفتقها سبع أرضين بعث من تحت العرش ملكا فهبط إلى الأرض حتى دخل تحت الأرضين السبع وضبطها فلم يكن لقدميه موضع قرار فأهبط الله من الفردوس ثورا له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة وجعل

قرار قدم الملك على سنامته فاستقرت، وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض ومنخاره في البحر، فهو يتنفس كل يوم نفسا فإذا تنفس كان مدّ البحر وإذا ردّ نفسه كان جزره، ولم يكن لقوائم الثور قرار فخلق الله صخرة كغلظ سبع سماوات وسبع أرضين فاستقرت قوائم الثور عليها وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ [لقمان: 16] ، ولم يكن للصخرة مستقر فخلق الله نونا وهو الحوت العظيم فوضعت الصخرة على ظهره والحوت على البحر والبحر على متن الريح والريح على القدرة، ولقد تغلغل إبليس إلى الحوت فوسوس إليه فقال أتدري ما على ظهرك يا ليوتا من الأمم والدواب والشجر والجبال لو نفضتهم لألقيتهم عن ظهرك، فهمّ ليوتا أن يفعل فبعث الله له دابة فدخلت منخره فوصلت إلى دماغه فضجّ الحوت إلى الله منها فأذن لها فخرجت، وإنها لتنظر إليه وينظر إليها إن همّ بشيء من ذلك عادت كما كانت. (6) إن القلم من نور وإن طوله ما بين السماء والأرض. وقد نظر الله إليه أول ما خلقه فانشقّ نصفين ثم قال له أخبر بما هو كائن إلى يوم القيامة فجرى على اللوح المحفوظ. والناس إنما يجرون على أمر قد فرغ منه. (7) إن بين كل سمائين مسيرة خمسمائة عام وغلظ كل سماء كذلك، والأرضون مثل ذلك، وإن الصخرة التي تحت الأرض السابعة والتي منتهى علم الخلائق على أرجائها يحملها أربعة من الملائكة لكل منهم أربعة وجوه وجه إنسان ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر. فهم قيام عليها قد أحاطوا بالسماوات والأرض ورؤوسهم تحت العرش. (8) إن الناس ينادون يوم القيامة من صخرة القدس لأنها أقرب إلى السماء باثني عشر ميلا وإنها في وسط الأرض. (9) إن المطر ينزل من السماء كل عام بقدر واحد لا يزيد ولا ينقص. (10) إن في العرش تمثال ما خلق الله في البرّ والبحر وذلك تأويل قوله تعالى وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ [الحجر: 21] .

(11) إن سدرة المنتهى شجرة نبق في السماء السابعة عن يمين العرش ثمرها كقلال هجر وورقها كآذان الفيل. ينبع من أصلها الأنهار التي ذكرها الله في القرآن ويسير الراكب في ظلها سبعين عاما لا يقطعها. (12) إن جبريل نزل بالميزان فدفعه إلى نوح وقال مر قومك يزنوا به. (13) إن آدم نزل من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد وهي السندان والكلبتان والمطرقة والإبرة والميقعة وقيل إن معه كذلك المرو والمسحاة. (14) اختلف في عدد عوالم الله فقيل إنها ألف عالم ستمائة في البحر وأربعمائة في البرّ، وقيل ثمانون ألف عالم أربعون ألفا في البرّ ومثلها في البحر، وقيل ثمانية عشر ألفا منها عالم الدنيا عالم واحد، وما العمران في الخراب إلا كفسطاط في صحراء. (15) لما أراد الله أن يخلق آدم أوحى إلى الأرض إني خالق منك خليقة منهم من يطيعني ومنهم من يعصاني فمن أطاعني أدخلته الجنة ومن عصاني أدخلته النار. قالت الأرض أتخلق مني خلقا يكون للنار. قال نعم. فبكت الأرض فانفجرت منها العيون إلى يوم القيامة. وبعث الله جبريل ليأتيه بقبضة منها أحمرها وأسودها وطيبها وخبيثها، فلما أتاها ليقبض منها قالت أعوذ بعزة الله الذي أرسلك أن لا تأخذ مني شيئا. فرجع جبريل إلى مكان وقال يا ربّ استعاذت بك مني فكرهت أن أقدم عليها فقال الله لميكائيل انطلق فأتني بقبضة منها فلما أتاها قالت له مثل ما قالت لجبريل فرجع إلى ربّه فقال ما قالت له. فقال الله لعزرائيل انطلق فأتني بقبضة منها فلما أتاها قالت له ما قالت لجبريل وميكائيل فقال وأنا أعوذ بعزته أن أعصي له أمرا فقبض منها قبضة من جميع بقاعها من عذبها ومالحها وحلوها ومرها وطيبها وخبيثها وصعد بها إلى السماء، فسأله ربّه وهو أعلم بما صنع فأخبره بما قالت له الأرض وبما ردّ عليها فقال الله وعزتي وجلالي لأخلقن مما جئت به خلقا ولأسلطنك على قبض أرواحهم لقلة رحمتك، ثم جعل الله تلك القبضة نصفها في الجنة ونصفها في النار ثم تركها ما شاء الله ثم أخرجها فعجنها طينا لازبا

مدة ثم حمأ مسنونا مدة ثم صلصالا «1» ثم جعلها جسدا وألقاه على باب الجنة. فكانت الملائكة يعجبون من صفة صورته لأنهم لم يكونوا رأوا مثله. وكان إبليس يمرّ به ويقول لأمر ما خلق هذا. فنظر إليه فإذا هو أجوف فقال هذا خلق لا يتمالك، وقال يوما للملائكة إن فضل عليكم ماذا تصنعون. قالوا نطيع ربنا ولا نعصاه. فقال إبليس في نفسه لئن فضّل علي لأعصينه، ولئن فضلت عليه لأهلكنه. فلما أراد الله أن ينفخ فيه الروح أمرها أن تدخل في جسد آدم فنظرت فرأت مدخلا ضيقا فقالت يا ربّ كيف أدخل هذا الجسد قال الله ادخليه كرها وستخرجين منه كرها، فدخلت يافوخه فوصلت إلى عينيه فجعل ينظر إلى سائر جسده طينا، فسارت إلى أن وصلت إلى منخريه فعطس فلما بلغت لسانه قال الحمد لله ربّ العالمين، وهي أول كلمة قالها فناداه الله رحمك ربك يا أبا محمد، ولهذا خلقتك. ولما بلغت الروح إلى ركبتيه همّ ليقوم فلم يقدر فقال الله خلق الإنسان من عجل. فلما بلغت الساقين والقدمين استوى قائما بشرا سويا لحما ودما وعظاما وعروقا وعصبا وأحشاء وكسي لباسا من ظفر يزداد جسده جمالا وحسنا كل يوم. (16) إن الملائكة الذين ذكروا في آية البقرة [30] هم الذين كانوا في الأرض. وذلك أن الله خلق الأرض والسماء وخلق الملائكة والجن فأسكن الملائكة السماء وأسكن الجن الأرض فعبدوا دهرا طويلا، ثم ظهر فيهم الحسد والبغي فأفسدوا واقتتلوا فبعث الله عليهم جندا من الملائكة يقال لهم الجان ورأسهم إبليس وهم خزان الجنان فهبطوا إلى الأرض وطردوا الجن إلى جزائر البحار وشعاب الجبال، وسكنوا الأرض، وخفف الله عنهم العبادة، وأعطى إبليس ملك الأرض وملك السماء الدنيا وخزانة الجنة وكان رئيسهم وأكثرهم علما. فكان يعبد الله تارة في الأرض وتارة في السماء وتارة في الجنة. فدخله العجب وقال في نفسه ما أعطاني الله هذا الملك إلا لأني أكرم الملائكة عليه فقال له ولجنده إني

_ (1) يظهر أن القائل أراد أن يوفق بين التعابير القرآنية حيث جاء في أحدها أن الله خلق البشر من طين لازب وفي أحدها من حمأ مسنون وفي أحدها من صلصال.

جاعل في الأرض خليفة بدلا منكم ورافعكم إلي فكرهوا ذلك لأنهم كانوا أهون الملائكة عبادة. (17) كان إبليس من حي من الملائكة وقيل من الجن ممن يولد له ويأكلون ويشربون بمنزلة الآدميين، ومن الجن من هو بمنزلة الريح لا يأكلون ولا يشربون ولا يتوالدون. وقيل إن إبليس يدخل ذنبه في دبره فيبيض فتنفلق البيضة عن جماعة من الشياطين، وإن من أولاده لا قيس ولهاب والهفاف ومرة وزنبور وبتر والأعور ومطوس وداسم، ومنهم من يتولى إفساد الصلاة وآخر يتولى التنجيس وآخر يزين اللغو والأيمان الكاذبة وآخر يغري بالزنا فينفخ في إحليل الرجل وعجيزة المرأة. وهذا قليل من كثير من هذا الباب مما يكاد يكون من عمد أكثر كتب التفسير القديمة، وفيه ما هو ظاهر من الإغراق والمفارقات ودلائل الجهل بما كان معروفا من الحقائق الكونية حتى ليدهش المرء من جوازه على علماء أعلام ونقلهم إياه بأساليب وسياقات تدل على أنهم مندمجون فيه ومنزلوه منزلة الحقائق أو على الأقل غير شاكين فيه ولا مكذبيه، وأنهم يرمون أو يرمي بعضهم إلى التوفيق بين مختلف الآيات والتعابير القرآنية وإلى شرحها وتعليل مداها، وفي ذلك ما هو واضح من أسباب التشويش على أهداف القرآن وصرف الذهن عن مراميه، وجعل كتب التفسير معرضا لكثير من المفارقات والمبالغات والمنتحلات والمدسوسات. ومما هو جدير بلفت النظر أن بعض الباحثين والناظرين في القرآن بل ومفسريه من المتأخرين والمعاصرين قد ولعوا بمثل ذلك الولع مع تعديل اقتضته تطورات العلوم والمفاهيم، حيث نراهم يحاولون استنباط النواميس العلمية والفنية واستخراج نظريات الدورات الشمسية والقمرية والأرضية وكروية الأرض ونظام الأفلاك والمطر وأطوار النشوء ونمو الأحياء وانفتاق الأرض والسماء والذرة والكهرباء إلخ إلخ من بعض الآيات القرآنية، أو يحاولون تطبيق النظريات العليمة والفنية المتصلة بنواميس الكون والتكوين والشمس والقمر والسماء والأرض والحياة والكهرباء والبرق والرعد إلخ إلخ على بعض الآيات القرآنية ليدللوا على

احتواء القرآن أسس هذه النظريات أو نواتها مما أخذ يستفيض في الكتب والمجلات بل والصحف منذ أواخر القرن السابق. و «تفسير الجواهر» للشيخ طنطاوي جوهري الذي صدر في أوائل القرن الحاضر مثال عجيب لهذه المحاولات والتطبيقات. والثغرة في هذا هو ما يفيده ويوهمه هذا الولع كما ذكرنا هذا في ما تقدم من أن ما ورد في القرآن من الإشارات والتنبيهات والتعابير مقصود لذاته وماهياته، وما يؤدي هذا إليه من صرف هذه الإشارات والتنبيهات والتعابير عن هدفها الوعظي والتدعيمي للدعوة أولا، ومن إخراج محتويات القرآن في نطاق هذا الهدف وقدسيته إلى نطاق الجدل والبحث والنفي والإثبات في حقائق النظريات العلمية والفنية الكونية، وما تتعرض له هذه النظريات من تبدل وتطور وجدل ثانيا، في حين أن تلك المحاورات أو بالأحرى التمحلات قائمة على الظن والتخمين ومنها ما هو متهافت جدا من جهة، وإن أسلوب الآيات القرآنية من جهة أخرى واضح الدلالة على اقتصار ما احتوته على الهدف المذكور، وعدم استهدافه التقريرات العلمية والفنية في ماهية الخلق والتكوين ونواميسهما، حيث هو أسلوب خطابي موجّه إلى مختلف طبقات الناس بقصد إيقاظ ضمائرهم ولفت أنظارهم إلى ما يقع تحت مشاهدتهم من مشاهد الكون العظيمة، وما يرونه من مظاهر نواميسه، وما يتمتعون به من مختلف تلك المشاهد وهذه النواميس في مختلف حياتهم على الوجه الذي يفهمونه منها، وتمتلىء أذهانهم بها، وبقطع النظر عن ماهياتها لذاتها، والتدليل بهذا الأسلوب العام الموجه إلى مختلف الطبقات على وجود الله وعظمته وقدرته وشمول حكمه وتصرفه ووحدته واستحقاقه وحده للخضوع والعبادة وصحة الدعوة إليه وواجب طاعته في ما يأمر وينهى بواسطة أنبيائه وتنزيله مما يستطيع أن يلمسه كل من أنعم النظر في الآيات والفصول القرآنية. وما أحسن ما قاله الإمام الغزالي في «تهافت الفلاسفة» من كلام قوي حكيم يتصل بهذا الموضوع حيث قال في صدد تقسيم مذاهب الفلاسفة «والقسم الثاني ما لا يصدم مذهبهم فيه أصلا من أصول الدين وليس من ضرورة تصديق الأنبياء

- 5 - التشاد المذهبي في سياق التفسير:

والرسل منازعتهم فيه كقولهم إن خسوف القمر عبارة عن إمحاء ضوئه بتوسط الأرض بينه وبين الشمس من حيث إنه يقتبس نوره من الشمس، والأرض كرة، والسماء محيطة بها من الجوانب فإذا وقع القمر في ظل الأرض انقطع عنه نور الشمس، وكقولهم إن كسوف الشمس معناه وقوع جرم القمر بين الناظر والشمس وذلك عند اجتماعهما في العقدتين على دقيقة واحدة. وهذا الفن أيضا لسنا نخوض في إبطاله إذ لا يتعلق به غرض. ومن ظنّ أن المناظرة في إبطال هذا من الدين فقد جنى على الدين وضعف أمره، فإن هذه الأمور تقوم على براهين هندسية وحسابية لا تبقى معها ريبة في من يطلع عليها ويتحقق أدلتها حتى يخبر بسببها عن وقت الكسوفين وقدرهما ومدة بقائهما إلى الانجلاء قبل وقوعهما، وإذا قيل له إن هذا على خلاف الشرع لم يسترب فيه وإنما يستريب في الشرع. وضرر الشرع بمن ينصره بغير طريقه أكثر ممن يطعن عليه بطريقه وكما قيل عدوّ عاقل خير من صديق جاهل» . ونضيف إلى هذا أن عظمة شأن القرآن هي في روحانيته القوية النافذة وفي قوة هدايته الخالدة وفي ما احتواه من أسس ومبادئ ومثل عليا تستجيب لحاجات الإنسانية المتنوعة على كرّ الدهور ومتنوع الظروف، وإن الواجب الأعظم هو التزام حدود هذه الأسس والمبادئ والمثل وتجليتها وإزالة كل ما يشوش عليها ويعرقل بروزها أو إهماله والانصراف عنه. - 5- التشاد المذهبي في سياق التفسير: خامسا: إن بعض المفسرين قد اتخذوا التفسير وسيلة من وسائل الجدل المذهبي وخاصة في علم الكلام. فقد تجاذبوا وتشادوا حول العبارات القرآنية التي جاءت عن ذات الله وصفاته وأفعاله وأعضائه ونزوله وعروجه واستوائه نفيا وتأويلا وإثباتا وتسليما. وقد تجاذبوا كذلك وتشادوا حول ما جاء عن أعمال الإنسان وسلوكه وإيمانه وكفره وذنوبه وحسناته وثوابه وعقابه واختلاف الناس الطبيعي أو

الخلقي، فقرر بعضهم قدرة الإنسان على العمل وكسبه إياه وقابليته الذاتية على التمييز بين الحقّ والباطل والحسن والقبيح واختياره ما يختار منهما واستحقاقه الثواب والعقاب عدلا وحقا نتيجة لذلك وبقصد تنزيه الله عن الظلم والتناقض، في حين أن آخرين رأوا في ذلك تغايرا مع قدرة الله ومطلق تصرفه ونقضا لعلمه الأولي ولكونه المؤثر الحقيقي في كل شيء فقرروا أن أفعال الإنسان مكتوبة عليه في الأزل لا معدى له عنها، وإن الله لا يسأل عما يفعل، وإنه لا يصح أن يقاس ما يجريه بمقياس البشر في الحسن والقبيح والعدل والظلم إلخ، وقد تجاذبوا وتشادوا حول ما ورد من عبارات في توبة التائب وغفران الذنوب بدون قيد فقرر بعضهم أنه لا غفران بدون توبة وأن أصحاب الكبائر مخلدون في النار وأن الله كتب على نفسه قبول التوبة فصار واجبا عليه قبولها، في حين أن آخرين قرروا أن الله لا يجب عليه نحو خلقه شيء وأنه يغفر لمن يشاء ما يشاء دون قيد وشرط، وأن المؤمن لا يخلّد في النار ولو كان صاحب كبيرة. وتجاذبوا وتشادوا في ما يجوز على الله وما لا يجوز وما يجب وما لا يجب في عصمة الأنبياء المطلقة وإمكان صدور الأخطاء منهم ووقوع السحر عليهم، وفي المفاضلة بينهم وبين الملائكة، وفي عصمة الملائكة المطلقة وإمكان صدور الهفوات والأخطاء عنهم، وفي خلق القرآن، وفي صفات الله وكونها ذات الله أو غير ذاته، وفي إمكان رؤية الله أو رؤية الجن والملائكة إلخ من المسائل الكلامية الخلافية الكثيرة. واستند كل فريق إلى آيات قرآنية تؤيد رأيه في كل مسألة من تلك المسائل، وأول ما استند إليه الفريق الآخر من الآيات التي يتعارض ظاهرها مع رأيه، واستغرق الفريقان في الجدل والتشاد والتجاذب كل يؤيد مذهبه ويندد بالمذهب المخالف حتى خرجا في أحيان كثيرة عن وقار العلم بما وجّهوه إلى بعضهم من الشتيمة والتسفية والغمز والانتقاص بل والتكفير، وحتى يبدو للذي ينعم النظر أن كلا الفريقين يصرف أحيانا الكلام عن وجهه الحق ويتجوز ويتكلف فيه عصبية للحزبية المذهبية إن صحّ التعبير مع أن كلا منهم في الأصل صادق الإيمان والإخلاص مستهدف تنزيه الله وتوقيره.

وفي تفسير «الكشاف» للزمخشري وهو من أعلام علماء القرن السادس الهجري ويمثل مذهب الاعتزال أو ما يسميه مذهب أهل العدل والتوحيد وفي تعليقات القاضي ابن المنير عليه وهو من علماء القرن السابع ويمثل مذهب الأشاعرة من أهل السنة أمثلة كثيرة على ذلك حتى ليصح أن يقال إن التفسير والتعليق قد استهدفا هذه الوجهة في الدرجة الأولى. يقول الزمخشري في سياق تفسير جملة الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة: 275] ، وتخبط الشيطان من زعمات العرب، حيث يزعمون أن الشيطان يتخبط الإنسان فيصرعه، ثم يستطرد فيقول ورأيت لهم- ويقصد أهل السنة- قصصا وأخبارا وعجائب في الجنّ، وإنكار ذلك عندهم كإنكار المشاهدات، فيعلّق ابن المنير على هذا القول فيقول إنه على الحقيقة من تخبط الشيطان بالقدرية- يعني المعتزلة- في زعماتهم المردودة بقواطع الشرع فاحذرهم قاتلهم الله. ويقول الزمخشري في سياق تفسير جملة كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ [الأنعام: 71] ، إن هذا جاء على ما كانت تزعمه العرب فيعلق ابن المنير قائلا ومن أنكر استيلاء الجنّ على بعض الإناس واستهوائهم حتى يحدث من ذلك الخبط والصرع فهو ممن استهوته الشياطين في مهامه الضلال الفلسفي. ويقول الزمخشري في سياق تفسير جملة إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ [النساء: 17] ، بوجوب قبول التوبة على الله فيعلق ابن المنير قائلا إنه إطلاق يتقيد عنه لسان العاقل ويقشعرّ منه جلده استبشاعا لسماعه ويتعثر القلم عند تسطيره. على أن من لطف الله أنه لم يجعل حاكي الكفر كافرا وحاكي البدعة لضرورة ردّها مبتدعا. ويقول الزمخشري في سياق تفسير جملة يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [المائدة: 171] ، إن غلوهم كغلوّ الأشاعرة في جعلهم لله صفات أفعال فهم كالنصارى، فيردّ عليه قائلا إن التشبيه بهم أولى، فالنصارى غلوا فجعلوا الإله ثلاثة ولكن المعتزلة غلوا فجعلوا كل آدمي خالقا وشريكا لله.

وفي سياق تفسير معنى استواء الله ووجهه ويده ونزوله وعروجه يورد الزمخشري الأبيات المشهورة: وجماعة سموا هواهم سنة ... لجماعة حمر لعمري مؤكفة قد شبهوه بخلقه وتخوفوا ... شنع الورى فتستروا بالبلكفة «1» فيورد ابن المنير ردا عليه الأبيات التالية: وجماعة كفروا برؤية ربّهم ... حقا ووعد الله ما إن يخلفه وتلقبوا الناجين كلا إنهم ... إن لم يكونوا في لظى فعلى شفه ويذكر الزمخشري رواية عن طاووس التابعي جاء فيها أنه طرد رجلا من مجلسه يقول بالقدر فقيل له هذا فقيه فقال إبليس أفقه منه لأنه قال فيما أغويتني وهذا يقول إني أغوي نفسي، ثم يقول إن الرواية من تكاذيب المحيرة الذين بلغ بهم من تهالكهم على إضافة القبائح إلى الله أن لفقوا الأكاذيب على الرسول والصحابة والتابعين، فيرد ابن المنير فيقول إن كلامه حيدان عن العقيدة الصحيحة، وإن ذنب أهل السنة أنهم يؤمنون بخالق واحد في حين أن القدرية يتهالكون حتى ليشركوا كل شخص مع الله في الخلق. ويحمل الزمخشري على الأشاعرة في سياق تفسير جملة وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ [الحج: 3] ، فيقول وما أرى رؤساء أهل الأهواء والبدع والحشوية المتلقبين بالإمامة في دين الله إلا داخلين تحت هذا دخولا أوليا، بل هم أشد الشياطين ضلالا وأقطعهم لطريق الحق حيث دونوا الضلال تدوينا ولقنوه أشياعهم تلقينا وكأنهم ساطوه بلحومهم ودمائهم. ويندد بخصومه في صدد تفسير جملة فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ [البقرة: 284] فيقول إن أهل الأهواء والبدع يتصامون عن آيات الله فيخبطون خبط عشواء ويطيبون لأنفسهم بما يفترون على ابن عباس في قولهم هذا، وإن انتظار

_ (1) منحوتة عن جملة «بلا كيف» يعني أن الأشاعرة يقولون إن الله استوى إلى العرش ولكن دون أن يعرف أحد كيفية هذا الاستواء.

الغفران بدون توبة وانتظار الشفاعة بدون سبب غرور وحمق وجهالة. وفي إحدى المناسبات يشبه ابن المنير المعتزلة بالمشركين ويقول إنهم يقولون هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا حيث يثبتون خالقا غير الله ولا يأنفون عن إثبات رازق غيره فأنّى يؤفكون. وفي سبيل الهوى المذهبي يصرف الزمخشري جملة وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النساء: 64] ، إلى معنى جرحه الله بمخالب قدرته.. ثم ينسى هذا فيقول في سياق آية وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف: 143] ، أسمعه الله كلاما وحروفا وأصواتا خلقها في ما حوله. وبينما يؤول الزمخشري (عرش الله) في سياق آيات عديدة بعظيم قدرته وملكه يقول في سياق آية وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ [هود: 7] ، إن فيها لدليلا على أن العرش والماء قد خلقا قبل السماوات والأرض، فيعترف بذلك بوجود مادي للعرش يناقض تأويله الأول. وهذا قليل متنوع المدى من كثير جدا في «الكشاف» وتعليقات ابن المنير عليه يكفي لإيضاح ما قصدنا إليه. وليس معنى اكتفائنا بنقل ما جاء في «الكشاف» والتعليقات أنهما الوحيدان في هذا الباب، فإن المدقق في مختلف كتب التفسير كالخازن والبيضاوي وأبي السعود والرازي وغيرها يجد غمزات شديدة وخفيفة في مناسبة كثير من العبارات القرآنية، وتنبيهات على ما فيها من دلائل ضد مذهب مخالفيهم، أو على ما في استناد هؤلاء المخالفين إليها من وهن كما يجد توجيهات وتأويلات تتسق مع مذهبهم وتؤيده سلبا أو إيجابا وممن ذكرهم صاحب «الإتقان» على نمط الزمخشري في اتخاذ تفاسيرهم وسيلة إلى شرح مذاهبهم وتأييدها والطعن على غيرهم عبد الرحمن بن كيسان الأصمّ والجبائي وعبد الجبار الرماني. وهذا عدا ما احتوته الكتب الكلامية والخلافية والنحلية والمذهبية الأخرى من التشاد والتجاذب حول العبارات القرآنية وصرفها من جانب كل فريق إلى مذهبه

تقريرا أو تأويلا مما هو خارج عن مدى الموضوع الذي نحن بسبيل التنبيه عليه وإن يكن فرعا من أصل. وليس يعنينا هنا بيان المصيب أو تأييد مذهب على مذهب، وإنما يعنينا الثغرة في الأسلوب، وبيان ما صارت إليه كتب التفسير بسببه من معارض تشاد وتسفيه ومهاترة وتكلف في صدد الجدل الكلامي. ومع أن من المسلّم به أن النصوص القرآنية في حد ذاتها مستند للعقائد والأحكام والتشريع الإسلامي، إلا أننا نعتقد أن أصحاب المذاهب الكلامية والخلافية قد تكلفوا وتمحلوا في كثير مما تجاذبوا وتشادوا فيه على غير طائل ولا ضرورة، وإنهم حملوا العبارات القرآنية ما لا محل لتحميلها إياه ولا يقتضيه السياق الذي جاءت فيه، وإن هذا قد نشأ بنوع خاص من أخذهم إياها مستقلة لذاتها في حين تكون قد جاءت متصلة بسياق لا تفهم على وجهها إلا معه، وبمناسبة لا تلمح حكمة صيغتها إلا بملاحظتها، أو على سبيل التقريب والتمثيل، أو على سبيل التسلية والتطمين أو التنديد والتسفية أو الحجاج والإلزام أو الحكاية إلخ تبعا لتنوع الأساليب والمناسبات القرآنية ومواقف وأحداث السيرة النبوية مما يمكن أن يتبينه كل من أمعن النظر في المجموعات القرآنية التي وردت فيها العبارات التي تكون موضوع التشاد والتجاذب، وإن العبارات القرآنية إذا ما نظر فيها مع سياقها السابق أو اللاحق أو كليهما زال الموهم فيها واتسقت التقريرات والمعاني القرآنية، وإن محاولات أهل المذاهب الكلامية والخلافية هذه تجعل القرآن يناقض بعضه بعضا مما يجب تنزيهه عنه ومما هو منزه عنه فعلا بنصّ القرآن. ومما يحسن إيراده هنا ما جاء في تفسير الرازي حيث قال في إحدى المناسبات إن الرافضة يعني الشيعة- قالت إن هذا الذي عندنا ليس هو القرآن الذي جاء به محمد بل غيّر وبدّل، والدليل عليه اشتماله على هذه المناقضات التي ظهرت بسبب المناظرات الدائرة بين أهل الجبر وأهل القدر. وإطلاق الرازي كلمته

يوهم أن الشيعيين جميعا يقولون هذا، وهو غير صحيح لأن الشيعة والإمامية خاصة تعترف بالقرآن الموجود بين دفتي المصحف اعترافا تاما، وقد نقلنا في مناسبة سابقة كلمة أحد أعلام مفسريهم القدماء الشيخ الطوسي في هذا الصدد، ولا يمنع هذا أن تكون إحدى فرقهم الغالية قد قالت هذا لأن من هذه الفرق من تعمّد هدم الإسلام والتشكيك في القرآن تعمدا. وعلى كل حال فإن كلمة الرازي صدى لما كان من تجاذب وتشادّ حول العبارات القرآنية في سبيل الخلاف المذهبي وتأييد لما نحن في صدده من ضرر ذلك وخطله، واعتباره ثغرة خطيرة في تفسير القرآن. وما ذكرناه هو ما يتصل بالخلاف المذهبي الكلامي. وهناك تفاسير عديدة احتوت أشياء كثيرة مما يتصل بالخلاف الشيعي السني ومنها ما اتخذ وسيلة إلى تقريرات وتأويلات متصلة بهذا الخلاف، مما يمتّ إلى الثغرة التي نحن بصدد التنبيه عليها، ومما ينسحب عليه الكلام الذي قلناه آنفا بطبيعة الحال. ولقد أشرنا إلى بعض هذه التقريرات والتأويلات في مناسبات متنوعة، ونكتفي هنا بإيراد شيء منها منقول عن «تفسير التبيان» للشيخ الطوسي. ففي سياق تفسير آية آل عمران المعروفة بآية المباهلة فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61) ، قال الشيخ دون استناد إلى حديث أو رواية ولما نزلت الآية أخذ النبي بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ثم دعا النصارى إلى المباهلة. ثم قال واستدل أصحابنا بهذه الآية على أن أمير المؤمنين- يعني عليا- كان أفضل الصحابة من وجهين أحدهما أن موضوع المباهلة هو تمييز الحق من الباطل وذلك لا يصح أن يكون إلا بمن هو مأمون الباطن مقطوعا على صحة عقيدته وأفضل الناس عند الله، والثاني أنه جعله مثل نفسه بقوله وأنفسنا وأنفسكم والآية تدل على أن الحسن والحسين ابنا النبي بلا خلاف لأنها تقول أبناءنا وتدل على أن تعبير نساء النبي بقوله نساءنا قد صرف إلى فاطمة فقط،

- 6 - الولع بأسرار القرآن ورموزه ومنطوياته:

وإذ جعل النبي أمير المؤمنين مثل نفسه وجب ألا يدانيه أحد في الفضل والإيثار به، ومتى قيل إنه أدخل في المباهلة الحسن والحسين مع كونهما غير بالغين وغير مستحقين للثواب، وإن كانا مستحقين للثواب لم يكونا أفضل الصحابة قال لهم أصحابنا إن الحسن والحسين كانا بالغين مكلفين لأن البلوغ وكمال العقل لا يفتقران إلى شرط مخصوص، وقد تكلم عيسى في المهد بما دلّ على كونه مكلفا عاقلا، وقد ذكر الشيخ في سياق آية الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3] ، أنه روي عن أبي جعفر وأبي عبد الله أن الآية نزلت بعد أن نصب النبي عليا علما للأمة يوم غدير خم منصرفه من حجة الوداع، كما ذكر في سياق آية يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ [المائدة: 67] ، أنه روي عن أبي جعفر وأبي عبد الله أن الله لما أوحى إلى النبي أن يستخلف عليا كان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من أصحابه فأنزل الله هذه الآية تشجيعا له ... والهوى الحزبي ظاهر البروز في ذلك كله. - 6- الولع بأسرار القرآن ورموزه ومنطوياته: سادسا: إن بعض المفسرين والمشتغلين بالقرآن قد ولعوا بتخمين انطواء القرآن على أسرار ورموز، واستغرقوا في استقراء الحروف والكلمات والتراكيب القرآنية بقصد الكشف عن تلك الأسرار والرموز واتسع مجال التفريع والتكلف والإغراب في هذا المجال كثيرا. ولعل أصل هذا الولع يرجع إلى بعض روايات في الحروف المتقطعة المنفردة التي جاءت في مطالع نحو ربع السور القرآنية مكية ومدنية. فمع أن القسم الأكبر من هذه المطالع قد أعقبه ذكر القرآن والكتاب وتنزيله وإحكامه وحكمته قسما أو بيانا أو تنويها أو تنبيها «1» ، ومع أن روحها تلهم أنها جاءت بسبيل التوكيد

_ (1) هي سورة القلم وق وص والأعراف ويس وطه والشعراء والنمل والقصص ويونس وهود ويوسف والحجر ولقمان وغافر وفصلت والشورى والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف وإبراهيم والسجدة والبقرة وآل عمران والرعد. أما السور التي مطلعها حروف متقطعة منفردة ولم تعقب بالإشارة إلى القرآن فهي سورة مريم والروم والعنكبوت.

والتنبيه واسترعاء الأسماع إلى القرآن وآياته وعبره وحكمته وإحكامه مما قرره غير واحد من أعلام علماء القرآن من ابن عباس فما بعد ومما تطمئن إليه النفوس ويتسق مع مهمة الذي أنزل عليه القرآن وخطاب القرآن لجميع الفئات وتوكيده أنه واضح مبين لا عوج فيه ولا أمت ولا تعقيد ولا اختلاف فقد روى في سياق البحث في الحروف المذكورة رواية مفادها أن اليهود جاؤوا إلى النبي فسألوه عما أوتيه من عمر الدنيا فقال لهم «ال م» فحسبوها فجاءت (71) في الحساب المعروف بالحساب الجمل والذي هو حساب يهودي يقوم على ترتيب الأحرف الهجائية العبرانية (اب ج د هـ وز إلى آخره) فقالوا ثم ماذا فقال لهم (ال م) ثانية ثم (ال م ص) إلى آخر السور فحسبوا حساب الحروف جميعها فبلغ سبعمئة وكسورا من السنين «1» فأقروا بالأمر تسليما بأن النبي قد بعث بين يدي الساعة. ومع أن هذه الرواية ليست موثقة ولا يثبت مضمونها ومداها على نقد وتمحيص من وجوه عديدة فقد تنوقلت واستفاضت في جملة ما تنوقل واستفاض في مختلف كتب التفسير والقرآن. ومثل هذه الرواية أقوال مروية أخرى معزوة إلى بعض الصحابة والتابعين ومستفيضة في كتب التفسير وليست هي الأخرى موثقة أو من شأنها أن تثبت على نقد وتمحيص ذكر فيها أن هذه الحروف ترمز إلى بعض أسماء الله وأسماء النبي، وأنها تحتوي أسرار القرآن وسرّ اسم الله الأعظم. ومن هذه الروايات روايتان أوردهما الرازي في سياق تفسير أول البقرة إحداهما معزوة إلى أبي بكر جاء فيها أن لكل كتاب سرا وسرّ القرآن في أوائل سوره، وثانيتهما معزوة إلى علي بن أبي طالب جاء فيها أن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي. وهناك روايات وأقوال شيعية المصدر جاء في بعضها أن الحروف تحتوي رموزا للنبي وعلي والحسن والحسين، وفي بعضها أن كل مطلع من المطالع المتقطعة

_ (1) حساب الحروف جميعها يتجاوز الثلاثة آلاف والمائتين!.

يشير إلى دور من أدوار التاريخ المتصلة بالأئمة العلويين، ومن ذلك أن مطلع سورة آل عمران يشير إلى حادث الحسين ومطلع سورة الأعراف يشير إلى دور العباسيين. وقد نقل عن تفسير الطبري أن مطلع سورة الشورى يشير إلى أحداث تاريخية عظيمة في مدينتين من مدن المشرق وملكين من ملوكها، وقد ذكر السيوطي في «الإتقان» أن لمحمد بن حمزة الكرماني كتابا في مجلدين سماه «العجائب والغرائب» وضمنه أقوالا ذكرت في الحروف المتقطعة مثل (ح م ع س ق) مطلع سورة الشورى حيث ترمز الحاء إلى حرب علي ومعاوية والميم إلى الدولة المروانية والعين إلى الدولة العباسية والسين إلى الدولة السفيانية والقاف إلى الدولة المهدوية اللتين تظهران في آخر الزمان. ثم اتسع القول في مدى هذه الحروف ودلالاتها الفنية والنظمية فتراءى للزمخشري مثلا بعض أسرارها، فهي نصف حروف المعجم، وعدد السور التي تبتدئ بها على قدر حروف المعجم، وهي تحتوي نصف الحروف المهموسة ونصف الحروف المجهورة، وتحتوي كذلك نصف الحروف المستعلية ونصف الحروف المنخفضة ونصف الحروف القلقة. وتراءى لصاحب كتاب البرهان على ما ذكره السيوطي في الإتقان أن كل سورة بدأت بحرف منها فإن أكثر كلماتها وحروفها مماثل له، وحق لكل سورة منها أن لا يناسبها إلا الحروف الواردة فيها، وذكر على سبيل المثال سورة ق حيث كان ذلك لأن حرف القاف قد تكرر كثيرا في كلمات السورة، وسورة ص حيث كان ذلك لأنها احتوت خصومات عديدة خصومة النبي مع الكفار وخصومة الخصمين أمام داود وخصومة أهل النار وخصومة إبليس، وسورة يونس حيث بدأت بحروف الألف واللام والراء بسبب تكرر هذه الحروف وخاصة الراء فيها إلى آخره، والتكلف شديد البروز وفي هذه الأقوال عند إمعان النظر كما أنها غير مطردة عند التطبيق حيث فيها النقص والزيادة والخلاف «1» .

_ (1) نقول من قبيل الاستطراد إننا اطلعنا على بحث وجيز للأستاذ نصوح الطاهر تضمن تقرير كون الحروف المتقطعة تشير إلى عدد آيات السور. ولم نجد فيما جاء في مقاله الموجز شفاء يساعد على القطع برأي حاسم في صحة النظرية وبطلانها، ثم في صواب شمول الأمثلة لجميع السور ذات الحروف المتقطعة على ما يقول به صاحب النظرية. وقد تراءى لنا من الأمثلة الواردة أن هناك تجوزا وتحكما في حساب الآيات ودمج بعض السور في بعض وترجيحا بغير مرجح لروايات الآيات المدنية في السور المكية والآيات المكية في السور المدنية، ولروايات أخرى في صدد عدد وحجم بعض السور وإسقاط بعض سور مشابهة في مطلعها لسور أخرى كإسقاط سورة الحجر مع أنها تبدأ بجملة «الر» وإسقاط سورة الأحقاف مع أنها تبدأ بجملة «حم» وكل ذلك رغبة في التوفيق والتطبيق بسبب صدفة في حساب آيات أو وحدات وانطباق على حساب الروايات. وقد وعد الأستاذ بنشر البحث تاما شاملا لجميع السور «المبدوءة بالحروف المتقطعة والتي يقول إن نظريته وحسابه قد صح فيها جميعها فلننتظر وفاءه بما وعد حتى نتمكن من القطع في النظرية. وقد كتبنا هذا من قبيل الاستطراد وليس من شأنه أن يؤثر في البحث الذي بحثناه حول ما دار في صدد أسرار القرآن أو ألغازه أو رموزه وآثارها كما هو واضح. الجزء الأول من التفسير الحديث 16

ثم اتسع القول فقال قائل إنه ما من شيء إلا يمكن استخراجه من القرآن، وإنه لو ضاع عقال بعير لوجدته في كتاب الله، واستنبط بعضهم عمر النبي ثلاثا وستين سنة من سورة المنافقون لأنها الثالثة والستون من السور وفق ترتيب المصحف وقد جاء فيها آية وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها [11] وقال قائل إن نصوص القرآن ليست على ظاهرها، وإن لها معاني باطنة محجوبة عن غير الواصلين والمعلمين، وقال قائل إن علوم القرآن خمسون علما وأربعمائة علم وسبعة آلاف علم أو سبعون ألف علم على عدد كلم القرآن مضروبة في أربعة إذ لكل كلمة ظهر وبطن وحدّ ومطلع وقال قائل إنه ما من كائن ويكون من أحداث الدنيا منذ بدئها إلى منتهاها إلا احتوت حروف القرآن وكلماته علمها وغيبها، وأنه احتوى جميع علوم الأولين والآخرين، وقال قائل إن لكل آية ستين ألف فهم وروى راو عن علي بن أبي طالب أنه لو أراد أن يوفر حمل سبعين بعيرا من تفسير أم القرآن- يعني الفاتحة- لفعل، وفصل بعضهم وفود العلوم المستنبطة من القرآن استنادا إلى ما ورد من بعض كلمات لها صلة ما لغة أو معنى بعلم أو فن أو صناعة ما من العلوم والفنون والصناعات المعروفة فقال إن في القرآن أصل علم الهندسة

مستنبطا من جملة ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ [المرسلات: 30] ، وأصل علم الجبر والمقابلة مستنبطا من أوائل السور التي فيها ذكر مدد أمم سالفة وأعوامها وأيامها وتواريخها وتاريخ ومدة أيام الدنيا وما مضى وما بقي بعضها ببعض، وأصل علم الطب مستنبطا من ثلاث آيات وهي آية الفرقان وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) وآية الإسراء وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [82] وآية النحل يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ [69] . وأصل علم الهيئة مستنبطا مما ورد من ذكر ملكوت السماوات والأرضين وما بثّ في العالم العلوي والسفلي من المخلوقات، وأصل علم المواقيت مستنبطا من آيات الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم والبروج والمنازل، وأصل علم التنجيم مستنبطا من جملة أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ [الأحقاف: 4] ، وأصل علم تعبير الرؤيا مستنبطا من قصة يوسف، وأصل علم الحساب مستنبط مما فيه من ضروب الجمع والقسمة والضرب والأعداد والموافقة والتأليف والمناسبة والتنصيف والمضافة، وأصل كل من علوم النحو والصرف والبيان والبديع والجدل والمنطق والتاريخ والقصص والقضاء والتشريع والفقه والفرائض مستنبطا مما فيه من قواعد صرفية ونحوية ونظم بياني وبديعي وجدلي ومنطقي وقصصي وتاريخ وأحكام وحدود وأنكحة ومواريث إلخ، وأصل صناعات التجارة والحدادة والزجاجة والقصارة والبناء والخياطة والصباغة والفلاحة والنحت والفخارة والكيالة والرمي والصيد والصياغة والملاحة مستنبطا من كلمات وآيات وردت فيها إشارات إلى هذه الصناعات أو ما يتصل بها «1» . ورأى مفسرو الشيعة وباحثوهم في كثير من آيات القرآن وعباراته إشارات ورموزا إلى علي وفاطمة والحسن والحسين مثل جملة مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ [الرحمن: 19] ، حيث ترمز إلى علي وفاطمة وجملة يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) نفس السورة، حيث ترمز إلى الحسن والحسين. وجملة

_ (1) جميع هذه الأقوال واردة في «الإتقان» للسيوطي.

أَلْفِ شَهْرٍ (3) في سورة القدر، حيث ترمز إلى مدة الدولة الأموية. وجملة هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الحج: 19] ، حيث ترمز إلى علي وخصومته لدى ربّه مما وقع عليه من حيف في الخلافة، وجملة يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 3] ، حيث ترمز إلى المهدي المنتظر، وجملة وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات: 107] ، حيث ترمز إلى الحسين، وجملة أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ [النمل: 82] ، حيث ترمز إلى علي يوم رجعته، وجملة وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرعد: 43] ، حيث ترمز إلى علي، وجملة أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ [الشعراء: 205] ، حيث ترمز إلى الأمويين. وجملة سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الحجر: 87] ، حيث ترمز إلى الأئمة السبعة. وجملة حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً [الأحقاف: 15] ، حيث ترمز إلى الحسين وفاطمة. وجملة وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ [الزخرف: 61] ، حيث ترمز إلى المهدي. وجمل رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ [الإسراء: 6] ، وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا [النمل: 83] ، إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر: 51] ، رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ [الحجر: 2] . ووَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ [القصص: 5] ، حيث ترمز إلى الرجعة والدور الذي يكون فيه الأئمة الفاطميون أصحاب السلطان ويتمكنون فيه من الانتقام من خصومهم وسالبي حقوقهم. حتى إن الناظر في ما كتبه بعضهم ليجد أن كثيرا من محتويات القرآن مصروف إلى الأئمة وذرية فاطمة، ومحمول على تأييد أقوالهم ومذاهبهم وأئمتهم ورجعتهم وخصومهم وفيه من الغرائب والمفارقات العجيبة ما لا يتسع له أي حوصلة. ولعل مما يتصل بهذا الباب ما أدير من الأقوال حول أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف فقد ورد عدة أحاديث في ذلك منها أن عثمان بن عفان وقف على المنبر فقال أذكر الله رجلا سمع النبي قال إن القرآن أنزل على سبعة أحرف كلها شاف وكاف إلّا قام فقاموا حتى لم يحصوا فشهدوا فقال وأنا أشهد معهم، ومنها

عن ابن عباس أن النبي قال أقرأني جبريل على حرف فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف. ومنها حديث نبوي رواه النسائي أن جبريل وميكائيل أتياني فقعد جبريل عن يميني وميكائيل عن يساري فقال جبريل اقرأ القرآن على حرف فقال ميكائيل استزده حتى بلغ سبعة أحرف، وفي حديث مروي عن أبي بكرة زيادة مفادها أنه لما بلغ سبعة أحرف نظرت إلى ميكائيل فسكت فعلمت أنه قد انتهت العدة. ومنها عن أبيّ عن النبي قال أرسل إليّ ربي أن أقرأ القرآن على حرف فرددت عليه أن هوّن على أمتي فأرسل إليّ أن أقرأه على حرفين فرددت عليه أن هوّن على أمتي فأرسل إليّ أن أقرأه على سبعة أحرف. ومنها حديث آخر عن أبيّ قال لقي رسول الله جبريل فقال يا جبريل إني بعثت إلى أمة أميين منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط قال يا محمد إن القرآن أنزل على سبعة أحرف ومنها حديث ابن مسعود أن النبي قال كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف زجر وأمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال، فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه وقولوا آمنا كل من عند ربنا. ومنها حديث جاء في «الموطأ» قال عمر سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأها وكان رسول الله أقرأنيها فكدت أن أعجل عليه ثم أمهلته حتى انصرف يعني أتم صلاته ثم لبسته بردائه فجئت به رسول الله فقلت يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها، فقال رسول الله أرسله ثم قال اقرأ فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله هكذا أنزلت، ثم قال لي اقرأ فقرأت فقال هكذا أنزلت ثم قال إن القرآن نزل على سبعة أحرف فاقرأوا منه ما تيسّر. فمع أن هذه الأحاديث المروية ومداها وظروفها بوجه الإجمال باستثناء حديث ابن مسعود الذي يتحمل نصّه التوقف والنظر أكثر من غيره لأنه لا يتسق مع سائر الأحاديث الواردة وفيه تقسيم وتصنيف علميين يشبهان تقسيم العلماء

المتأخرين عن عهد النبي كثيرا تلهم أنها في صدد التيسير والتسهيل في قراءة القرآن نطقا وأداء وعدم الإحراج والإعنات في ذلك وهذا مما قرره غير واحد من العلماء. فإن البحث حولها اتسع حتى خرج عن هذا النطاق ودخل في نطاق آخر يتصل بما ذكرناه من التخمينات حول أسرار القرآن ومكنوناته وشموله. ولقد عدّ صاحب «الإتقان» خمسة وثلاثين قولا في هذه الأحاديث أقلها متصل بتسهيل القراءة وأكثرها من قبل تلك التخمينات كما ترى في هذه السلسلة: 1- سبعة أوجه للقراءة. 2- سبعة أوجه يقع فيها تغاير في فتح ورفع وكسر وتقديم وتأخير وتخفيف وتشديد وإدغام. 3- سبعة أنواع من الآيات: آية في صفات الله وآية تفسيرها في آية أخرى وآية بيانها في السنة الصحيحة وآية في قصة الأنبياء والرسل وآية في خلق الأشياء وآية في وصف الجنة وآية في وصف النار. 4- سبع جهات من صفات الله. 5- سبعة أنواع أخرى من الآيات آية في وصف الصانع وآية في إثبات الوحدانية له وآية في إثبات صفاته وآية في إثبات رسله وآية في إثبات كتبه وآية في إثبات الإسلام وآية في إثبات الكفر. 6- سبع قراءات لسبعة من الصحابة وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وأبيّ بن كعب. 7- ظهر وبطن وفرض وندب وخصوص وعموم وأمثال. 8- تصريف ومصادر وعروض وغريب وسجع ولغات مختلفة كلها في واحد. 9- سبعة ألفاظ عام أريد به الخاص وخاص أريد به العام، وعام أريد به العام وخاص أريد به الخاص ولفظ يستغني تنزيله عن تأويله ولفظ لا يعلم تأويله إلا الراسخون ولفظ لا يعلم تأويله إلا الله.

10- المطلق والمقيد والعام والخاص والنصّ والمؤول والناسخ والمنسوخ والمجمل والمفسر والاستثناء وهذا قول الفقهاء. 11- الحذف والصلة، والتقديم والتأخير، والاستعارة والتكرار، والكناية والحقيقة والمجاز، والمجمل والمفسر، والظاهر والغريب وهذا قول علماء اللغة. 12- التذكير والتأنيث، والشرط والجزاء، والتصريف والإعراب والإقسام وجوابها، والجمع والإفراد والتصغير والتعظيم، واختلاف الأدوات وهو قول علماء النحو. 13- الزهد والقناعة مع اليقين والجزم والخدمة مع الحياء، والكرم والفتوة مع الفقر، والمجاهدة والمراقبة مع الخوف، والرجاء والتضرع والاستغفار مع الرضى، والشكر والصبر مع المحاسبة والمحبة والشوق مع المشاهدة وهذا قول الصوفية. 14- أمر ونهي وبشارة وإنذار وأخبار وأمثال. 15- علم الإنشاء، وعلم الإيجاد، وعلم التوحيد والتنزيه، وعلم صفات الذات، وعلم صفات الفعل، وعلم صفات العفو والعذاب، وعلم الحشر والحساب، وعلم النبوات. 16- المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ والخصوص والعموم والقصص. 17- سبع لغات لغة قريش ولغة اليمن ولغة جرهم ولغة هوازن ولغة قضاعة ولغة تميم ولغة طي. 18- سبعة أوجه إعراب للكلمة الواحدة حتى يكون المعنى واحدا وإن اختلف لفظا. 19- سبعة أحرف هي أمهات الهجاء وهي الألف والباء والجيم والدال والزاي والسين والعين. 20- إن جبريل كان يكرر كل كلمة سبع مرات على سبعة أوجه. 21- تقرير كون القرآن نزل بمعان متسق مفهومها مختلف مسموعها حيث يجوز التغاير إذا لم تبدل كلمة عذاب بكلمة رحمة. وروى القائلون في معرض

تدليلهم على قولهم إن ابن مسعود كان يقرأ (امهلونا) مكان انْظُرُونا في سورة الحديد [13] ، وأن أبيّا كان يقرأ (سعوا) بدل مَشَوْا في سورة البقرة [20] ، وأن ابن مسعود أجاز للقارىء أن يقرأ (طعام الفاجر) بدل طَعامُ الْأَثِيمِ (44) في سورة الدخان لأنه لم يكن يحسن النطق بكلمة الأثيم. 23- التسهيل في التقديم والتأخير مثل جاءت سكرة الحق بالموت بدلا من وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ في سورة ق [19] . وواضح أن في كل ما ذكرناه في هذا المبحث ثغرات عديدة من شأنها التشويش على القرآن ومداه وعلى الناظر فيه والراغب في تفهمه، وصرف القلب عن روحانيته وأهدافه الوعظية والإرشادية والتذكيرية والتوجيهية، والاستغراق في هذه الناحية حتى تنقلب جمل القرآن وكلماته وحروفه إلى معادلات جبرية ورياضية وكيمياوية وتنجيمية ومنطقية وكلامية وجدلية إلى آخره مما يخرجه عن قدسيته ولا يتسق مع طبيعة توجيهه إلى مختلف طبقات الناس، وما تقتضيه هذه الطبيعة من عدم انطوائه على أسرار ورموز وغوامض غيبت عن فئة دون فئة، واختصت بها فئة دون فئة، كما لا يتسق مع نصوص القرآن الصريحة بأنه أنزل ليكون موعظة وهدى ورحمة للناس كافة، وبأن الناس جميعهم مدعوون إلى تفهمه وتدبره والتزام حدوده الإيجابية والسلبية، وهذا فضلا عن ما في الأقوال أو كثير منها من التكلف والتزيد والتجوز والتحكم، وعن ما يبدو في بعضها من آثار الخلافات الحزبية والسياسية والنحلية والمذهبية من جهة وعما يبدو في بعضها من جهة ثانية من مقاصد الدسّ على القرآن والإسلام من بعض النحل والفرق التي حرصت أن تبثّ في الأذهان أن التكليفات الشرعية معاني وأهدافا مكنونة تخالف ظاهرها، وأن تثير في النفوس نحو القرآن الشكوك والريب، وفضلا عن ما يبدو من جهة ثالثة من مقاصد التجزئة على التبديل والتغيير في نظم القرآن وكلماته من ناحية ما هناك من روايات الخلافات اللفظية والنظمية، ونكاد نجزم أن كثيرا من هذه الروايات الكثيرة جدا والواردة في مختلف كتب التفسير والقراءات والمعزوة إلى الصحابة، والتي

- 7 - الولع بالتفريع والاستطراد:

تدور في نطاق الألفاظ والنظم تبديلا وتقديما وتأخيرا وزيادة ونقصا ونحوا وصرفا مدسوس أو محرّف، وأنه يمتّ إلى هذه المقاصد الخبيثة على اعتبار أن صحة صدور القرآن عن النبي منوطة بوحدة اللفظ والنظم، وأن تشويه هذه الوحدة كفيل بالتشكيك في صحة صدور القرآن المتداول عن النبي، مع التنبيه على أننا لا نرى ما يمنع أن يكون بين المندمجين في هذه الروايات والتخمينات أناس ذوو نيات حسنة وطويات سليمة ومقاصد بريئة. - 7- الولع بالتفريع والاستطراد: سابعا: إن بعض المفسرين قد ولع ولعا غريبا في التفريع والتقسيم والاستطراد إلى البحوث المتنوعة الآلية والعقلية والكونية والكلامية والطبيعية والفقهية والفلسفية. والعلم البارز في هذا الباب من قدماء المفسرين الرازي في تفسيره «مفاتيح الغيب» وهذا الولع ليس من نوع الولع بالرموز والأسرار والمغيبات، وهذا ما جعلنا نفرد له نبذة خاصة. وقبل كل شيء نريد أن ننبه على أن تفسير هذا الإمام من ناحية متناوله العلمي الأسلوبي القديم كنز غني ومعلمة كبرى يصح أن تكون مفخرة من مفاخر المؤلفين الإسلاميين وبما بلغوا إليه من رفيع المستوي في البحث والعلم وسعة الاطلاع وشموله وطول النفس، ولو أنه ألّف كتابه الذي يقع في أكثر من ستة آلاف صحيفة من القطع الكبير ذي الحرف الدقيق كمعلمة مرتبة على حروف الهجاء أو الكلمات أو المواضيع لكان عملا عظيما لا غبار عليه، ولكن الثغرة فيه أنه كتبه في صدد تفسير القرآن في حين أن الناظر فيه يكاد ينسى أنه يقرأ تفسيرا لكثرة التفريع وتعداد المسائل والوجوه وتوالي الاستطرادات التي كثيرا ما لا تكون متصلة بالموضوع القرآني إلا اتصالا لفظيا.

وفي الصفحات الأولى لهذا التفسير يبدو أن الدافع إليه هو الرغبة في تعداد كثرة المسائل التي تتفرع من كل فصل أو آية أو عبارة في القرآن فيقول المؤلف مثلا إنه قال إن سورة الفاتحة يمكن أن يستنبط منها عشرة آلاف مسألة فاستبعد هذا بعض ذوي الهمم القاصرة، ثم يأخذ يجمل في التعداد وفي أنواع المسائل وما تحتويه من وجوه وأمثلة حتى ينتهي به القول إلى أن الاستعاذة وحدها تحتوي عشرة آلاف مسألة، وأن البسملة وحدها تحتوي مثل ذلك، وأن الحمد لله رب العالمين تحتوي مثل ذلك، ثم يجمل فيقول إن سورة الفاتحة تحتوي ألف ألف (ميليون) مسألة أو أكثر وليس عشرة آلاف كما قرر أولا من باب التساهل، فربّ العالمين مثلا على أسلوبه تعني جميع المخلوقات السماوية والأرضية من ملائكة وسماوات وكواكب وأرضين وجنّ وإنس ودواب وطيور وهوام ومعادن ومياه وبحار ونباتات وأشجار وما يتصل بكل ذلك من عادات ونواميس ومعايش إلى آخره، حيث يبدو في هذا من الإغراق العجيب في التجوز والتوسع في سياق تفسير القرآن ما يثير العجب. ولقد بلغ عدد الصفحات الكبيرة التي فسر فيها سورة الفاتحة مئتين وستا وعشرين احتوت أكثر من مئة ألف كلمة أو بمقدار المصحف جميعه مرة ونصفا. فيذكر الكلمة من ناحية تركيبها الهجائي عكسا وطردا وتبديل مواقع حروف وثنائيا وثلاثيا ورباعيا وخماسيا وسداسيا، ثم من ناحية اشتقاقها ومعانيها في كل هذه التركيبات الهجائية والأوزان الصرفية، ثم من ناحية صرفها ونحوها ومداها الفلسفي والمنطقي والكلامي والجدلي والذهني والاستعمالي والحسي والنفسي والتصوري والفقهي، مع استعراض أقوال وافتراض أسئلة وإيراد ردود وأجوبة إلى آخره، فلا يلبث القارئ كما قلنا أن ينسى أنه يقرأ تفسيرا للقرآن وإنما معلمه فيها كل شيء مما حمل بعض العلماء على القول إن فيه كل شيء عدا التفسير. وبنفس هذا الأسلوب الاستطرادي ذي النفس الطويل يتناول البحث في ماهية كل موضوع، سواء أكان ذلك من مشاهد الكون والخلق والتكوين، أم من مشاهد الآخرة أم من مواضيع الملائكة والجن والشياطين فيستعرض أقوال مختلف الفئات من طبيعيين والهيين وفلاسفة وملاحدة وفرق إسلامية في تلك المشاهد وهذه

المواضيع وأدلتهم واعتراضات خصوم كل فئة وفرقة وأدلتهم ويناقش ويجادل ويقرر ويصوّب ويخطىء. وبنفس الأسلوب يدخل في بحوث جدلية كلامية فيورد أقوال مختلف الفئات والفرق وأدلتهم واعتراضاتهم على خصومهم ويناقش ويجادل ويقرر ويصوب ويخطىء أيضا. ومع ما على كلام المؤلف من طابع الاستقلال بوجه عام وما تدل عليه استطراداته وتعليقاته واستدراكاته ومنقولاته من قوة العقل وسعة الأفق والنظر والمشاركة الواسعة في مختلف العلوم والمواضيع من نحو وصرف وبلاغة ومنطق وجدل وفقه ورواية وفلسفة وطبيعيات وإلهيات إلى آخره فإن المدقق فيها يجد كثيرا من التكلف والتحكم والاضطراب والتخمين والمفارقة والمبالغة والإغراب في مواضع ومواضيع كثيرة يرى القارئ شيئا منها في بعض الأمثلة التي سننقلها عنه بعد قليل. وهذا بالإضافة إلى نظره في القرآن جملة جملة وعبارة عبارة وسوقه التعليقات والاستطرادات على هذا الاعتبار في الأعمّ الأغلب، وإلى ما في كتابه في صدد القصص القرآنية من تعليقات فيها ما في كتب غيره من المبالغات والتهافت والمفارقات والإغراب، وإلى ما في كتابه مع طابع الرأي والشخصية من الأحاديث الكثيرة المعزوة إلى الصحابة والتابعين ومن الأحاديث النبوية التي أوردت في سياق التعليقات والاستطرادات ومناسبات النزول فيها شيء كثير لا يستند إلى أسناد موثقة ولا يثبت على النقد والتمحيص. والكتاب جميعه أمثلة على ما قلناه آخذ بعضها برقاب بعض حتى إن الناظر فيه لا يجد أي صعوبة في تلقف الأمثلة في سياق أي جملة أو عبارة قرآنية. ومع أن نقل نماذج في هذا المقام مؤدّ إلى التطويل بسبب كثرة التداخل والتفريع والاستطراد وطول النفس فإننا رأينا أن نورد بعض المقتطفات الموضوعية مع مثال أسلوبي واحد:

(1) تساءل المؤلف في سياق جملة أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ [البقرة: 19] ، عن فائدة ذكر السماء مع أن الصيّب لا يكون إلا من السماء وأجاب بقوله إن ذلك لئلا يظن احتمال نزول الصيّب من بعض جوانب السماء دون بعض، فلما ذكرت السماء دلّ على أنه عام مطبق آخذ بآفاق السماء جميعها. ثم استطرد فقال إن من الناس من قال إن المطر يحصل من ارتفاع أبخرة من الأرض إلى الهواء فتنعقد هناك من شدة برد الهواء ثم تنزل مرة أخرى فذاك هو المطر فأبطل الله ذلك المذهب حيث بيّن أن الصيّب نزل من السماء، وأكّده في آيات أخرى مثل وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً [الفرقان: 48] ، ووَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ [النور: 43] ، والتكلّف في التساؤل واضح كما أنه ربط في استطراداته نظرية ماهية المطر بنصوص قرآنية وفي هذا تعريض للقرآن للنقاش الجدلي. (2) قال في سياق تعبير يا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة: 21] ، إنه روى عن علقمة والحسن أنهما قالا إن كل شيء في القرآن يبدأ بهذا النداء فإنه مكي وما ابتدأ بنداء المؤمنين فهو مدني. ثم قال إن القاضي قال إن هذا الذي ذكروه إن كان مرجعه النقل فمسلّم به وإن كان السبب فيه حصول المؤمنين في المدينة على الكثرة دون مكة فهو ضعيف لأنه لا يجوز أن يخاطب المؤمنون مرة بصفتهم ومرة بجنسهم، وقد يؤمر من ليس بمؤمن بالعبادة كما يؤمر المؤمن بالاستمرار عليها فالخطاب في الجميع ممكن. وغفل هو والقاضي ومن نقل عن علقمة والحسن أو هذان إذا كانا قالا القول الذي نقل عنهما عن واقعية وقطعية مدنية آيات فيها الخطاب بنداء المسلمين مثل آية النساء الأولى والآية [170] منها ومثل آية الحجرات [13] مثلا فأراد القائلون أن يحلوا المسألة بالمنطق أو التسليم بالنقل مهما كان بادي الوهن دون الواقع الراهن. (3) قال في سياق جملة الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً [البقرة: 22] ، إنها دليل على أن الأرض ساكنة غير متحركة لا بالاستقامة ولا بالاستدارة فلو كانت

متحركة بالاستقامة لما كانت فراشا على الإطلاق لأن من ظفر من موضع عال يجب أن لا يصل إلى الأرض لأنها هاوية وذلك الإنسان هاو والأرض أثقل من الإنسان والثقيلان إذا نزلا كان أثقلهما أسرعهما والإبطاء لا يلحق الإسراع فثبت أنها لو كانت هاوية لما كانت فراشا.. أما لو كانت حركتها بالاستدارة فلا يمكن انتفاعنا بها لأن حركة الأرض إذا كانت إلى المشرق مثلا والإنسان يريد أن يتحرك إلى جانب الغرب فيجب أن يبقى في مكانه ولا يستطيع أن يصل إلى حيث يريد لأن حركة الأرض أسرع ولما أمكنه الوصول علمنا أن الأرض غير متحركة بالاستدارة أيضا. (4) تساءل عن أيّهما أفضل الأرض أم السماء في سياق آية البقرة [22] فأورد أربعة أقوال لمفضلي السماء على الأرض هي: (1) إن السماء متعبد الملائكة وما فيها بقعة عصى الله فيها أحد (2) إن آدم لما ارتكب المعصية قيل له اهبط من الجنة وقال الله لا يسكن في جواري من عصاني (3) إن ذكر السماء على الأغلب قد ورد مقدما والتقديم دليل التفضيل (4) إن الله قال وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً [الأنبياء: 32] ، وتَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً [الفرقان: 61] ، ولم يذكر الأرض في ذلك، ثم أورد أقوال مفضلي الأرض وهي: (1) إن الله وصف بقاعا من الأرض بالبركة (2) الله وصف جملة الأرض بالبركة (3) إن الله خلق الأنبياء من الأرض (4) إن الله كرّم الأرض بالخلق منها في حين أنه لم يخلق من السماء شيئا (5) إن الله كرم نبيه فجعل له الأرض كلها مسجدا وجعل له ترابها طهورا. (5) ومما قاله في تعليل طلوع القمر وغيابه إن الله جعل في كلا الحالتين مصلحة، ففي غروبه نفع لمن هرب من عدوه فيستره الظلام ويخفيه فلا يلحقه طالب فينجو، وفي طلوعه نفع لمن ضلّ عنه شيء وأخفاه الظلام قبل الطلوع. (6) وقال فيما قاله في سياق جملة وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ.. [البقرة: 30] ، روي أن بني آدم عشر الجن وإن الجن عشر حيوانات البرّ وهؤلاء كلهم عشر

الطيور وهؤلاء كلهم عشر حيوانات البحر وهؤلاء كلهم عشر ملائكة الأرض الموكلين بها وكل هؤلاء عشر ملائكة السماء الدنيا، وكل هؤلاء عشر ملائكة السماء الثانية وعلى هذا الترتيب إلى السماء السابعة، ثم الكل في مقابلة ملائكة الكرسي نزر قليل، ثم كل هؤلاء عشر ملائكة السرادق، وعدد سرادقات العرش ستمائة ألف وطول كل واحد وعرضه وسمكه إذا قوبلت به السماوات والأرضون وما فيها وما بينها فإنها كلها تكون شيئا يسيرا وقدرا صغيرا، ثم كل هؤلاء في مقابلة الملائكة الذين يحومون حول العرش كالقطرة من البحر ولا يعلم عددهم إلا الله، ثم هؤلاء في مقابلة ملائكة اللوح الذين هم أشياع إسرافيل والملائكة الذين هم جنود جبرائيل مثل ذلك. ثم استطرد فقال إنه قرأ في بعض الكتب أن النبي حين عرج به رأى الملائكة بمنزلة سوق بعضهم يمشي تجاه بعض فسأل جبريل أين يذهبون فقال لا أدري إلا أني أراهم مذ خلقت ولا أرى واحدا منهم قد رأيته قبل ذلك، ثم سألوا واحدا منهم. مذ كم خلقت فقال لا أدري غير أن الله تعالى يخلق كوكبا كل أربعمائة ألف سنة فخلق الله مثل ذلك الكوكب منذ خلقني أربعمائة ألف. وروى في سياق الجملة القرآنية المذكورة عن ابن عباس أن النبي بينما كان في ناحية ومعه جبريل إذ انشقّ أفق السماء فأقبل جبريل يتضاءل ويدخل بعضه في بعض ويدنو من الأرض فإذا ملك قد مثل بين يدي رسول الله فقال يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويخيرك بين أن تكون نبيا ملكا أو نبيا عبدا قال عليه السلام فأشار إليّ جبريل بيده أن تواضع فعرفت أنه لي ناصح فقلت عبدا نبيا فعرج ذلك الملك إلى السماء، فقلت يا جبريل قد كنت أردت أن أسألك عن هذا فرأيت من حالك ما شغلني عن المسألة فمن هذا يا جبريل، قال هذا إسرافيل خلقه الله يوم خلقه بين يديه صافا قدميه لا يرفع طرفه وبينه وبين الرب سبعون نورا ما منها نور يدنو منه إلا احترق، وبين يديه اللوح المحفوظ فإذا أذن الله في شيء من السماء أو من الأرض ارتفع ذلك اللوح بقرب جبينه فنظر إليه فإن كان من عملي أمرني به، وإن كان من عمل ميكائيل أمره به وإن كان من عمل ملك الموت أمره به، قلت على أي شيء أنت يا جبريل قال على الرياح والجنود، قلت على أي شيء ميكائيل

قال على النبات، قلت على أي شيء ملك الموت، قال على قبض الأنفس، وما ظننت أنه هبط إلا لقيام الساعة، وما ذاك الذي رأيت مني إلا خوفا من قيامها.. وهذا مثال أسلوبي منه قال: إن جملة يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة: 21] ، تحتوي مسائل (المسألة الأولى) طرز الخطاب وفيها فوائد: (الفائدة الأولى) تحريك السمع (الثانية) توجيه الخطاب (الثالثة) الانتقال من الغيبة إلى الحضور (الرابعة) الأمر بالتكليف. (المسألة الثانية) احتوت شرح كلمة الناس ومداها واشتقاقاتها. (المسألة الثالثة) في النداء فذكر وجوه النداء وموانعه أولا وثانيا وثالثا. (المسألة الرابعة) في حروف النداء. (المسألة الخامسة) في صلة النداء. (المسألة السادسة) في الأمر الذي احتوته الجملة وفيها أبحاث: (الأول) حرف التعريف ومداه (الثاني) موضع الخطاب (الثالث) شموله وعدم شموله للسامعين (الرابع) مدى الأمر بالعبادة (الخامس) ما إذا كان يتناول الكفار (السادس) إنكار التكليف وأقوال المفكرين فأورد منها خمسة وردّ على كل منها (السابع) استثناءات شمول التكليف. (المسألة السابعة) سبب الدعوة للعبادة ومنها يستطرد إلى الجملة الثانية من الآية الَّذِي خَلَقَكُمْ وهذا الذي ذكرناه رؤوس أقوال فإن المؤلف قد شرح كل مسألة وكل بحث وكل فائدة احتوتها المسألة شرحا وافيا بإيراد الوجوه ووجوه الاعتراض والأقوال والأدلة والردّ عليها إلخ واستغرق الكلام على هذه الجملة وحدها وهي نصف آية خمس صحف كبيرة وهناك جمل كثيرة جدا استغرق الكلام عليها أكثر مما استغرقه الكلام على هذه الجملة، واستفاض الكلام فيها استفاضة أبعد عن الشروح اللغوية والنظمية، وجاء فيها استطرادات ضعيفة الصلة جدا بالجملة ومداها. ونظن أننا في غنى عن القول إن هذا الأسلوب مشوش على الناظر في القرآن والراغب في تفهم مراميه ومبادئه واستيحاء توجيهاته وأحكامه وتلقيناته الكافلة لسعادة الدارين والتي هي الأصل والجوهر فيه وفي الدعوة التي قامت عليه!

وهذا فضلا عما فيه من مآخذ التكلف والتخمين والتزيد والإغراب وإيراد الأقوال والروايات المتهافتة والاستغراق في الجدل والماهيات الكونية والغيبية والعقائدية. وإذا كنا اختصصنا تفسير الرازي بالكلام في هذه الفقرة فإننا لا نعني أنه هو وحده الذي سارع على هذا الأسلوب فهناك تفاسير عديدة وكثيرة التفريع والاستطراد إلى ما لا صلة له بتفسير القرآن إلا ما يمكن أن يكون من صلة بعيدة لغوية أو موضوعية ذكر «الإتقان» منها تفسير الثعلبي. وقد اطلعنا في إحدى مكتبات بورسة على تفسير مخطوط ضخم وعديد المجلدات اسمه العادلي ينحو مؤلفه هذا النحو. ولعل «تفسير المنار» من التفاسير الحديثة مما يصح أن يسلك في هذا السلك. فقد صدر منه اثنا عشر مجلدا تبلغ صفحاتها نحو ستة آلاف من القطع الكبير والحرف الدقيق لتفسير اثني عشر جزءا من القرآن أي أن الله لو فسح في حياة مؤلفه العظيم وأتمه لبلغت صفحاته خمسة عشر ألفا أي أكثر من ضعف تفسير الرازي، ولعله يكون بذلك أضخم تفسير في القديم والحديث. وقد توسع مؤلفه في البحوث وأكثر من الاستطرادات والتفريعات والتعليقات والتزم في كثير منها أسلوب المناظرة وخاصة بين الإسلام والنصرانية ومبشري النصارى وكتابهم بحيث يكاد القارئ ينسى أنه يقرأ تفسيرا وبحيث يصعب التفرغ لقراءته، فأبعده ذلك فيما نعتقد عن أن يكون التفسير المثالي، مع أن التمحيص والتدقيق في بحوثه غالبان، والتكلّف والتهافت فيها قليلان: وقد نمّ عن فهم عميق لأهداف القرآن ومراميه، بحيث يعدّ بحق أحسن المؤلفات الإسلامية القرآنية الكبيرة وأقومها وأقواها وأشدها حرارة وحيوية. وهو من هذه الناحية معلمة إسلامية قرآنية عظيمة القدر من الخسارة أن يموت مؤلفها قبل إتمامها، وفرق كبير من ناحية التمحيص والتدقيق وقلة التكلّف والتهافت والإغراب بينه وبين تفسير الرازي وغيره من التفاسير الكبيرة القديمة والحديثة.

- 8 - بحوث وآراء حول القرآن

ولقد اطلعنا على تفسير حديث نشر معظمه للأستاذ المراغي «1» ومع أن قصد التحرز والتحاشي وعدم الإغراب والسير بأسلوب قريب المتناول على أوساط الأفهام ملموس فيه فإنه يأخذ كثيرا من الروايات والأقوال الضعيفة وغير المتسقة مع الآيات سندا أو كقضايا مسلمة ولا يندمج في جو القرآن ونزوله وبيئته، وليس فيه تلك الحرارة والحيوية اللتين تثيران الاهتمام والشوق فضلا عن تفصيلات كثيرة لا طائل من ورائها أدخلته في عداد كتب التفسير الضخمة التي لا تسمح لكثير من الراغبين بالإحاطة به واستيعابه حيث تبلغ صفحاته نحو سبعة آلاف ونيفا، وكل ذلك لا يجعله تفسيرا مثاليا فيما نعتقد. - 8-[بحوث وآراء حول القرآن] بالإضافة إلى ما شرحناه من الثغرات وأوردناه من التعليقات والمآخذ حول كل مبحث من مباحث هذا الفصل فإن هناك بحوثا وآراء دارت حول القرآن، وكانت فيما يتبادر لنا مظاهر عامة مشتركة بين هذه الثغرات يصح أن تشرح وأن يعلق عليها في هذا المقام. روايات نزول القرآن جملة واحدة وأثرها: فأولا: من ذلك الآثار المروية بأن القرآن قد نزل جملة واحدة إلى سماء الدنيا ثم صار ينزل على النبي خلال مدة حياته بعد بعثته. فالذي يبدو لنا أنه كان لهذه الآثار أثر قليل أو كثير في بعض الثغرات التي ذكرناها أو بالأحرى في أكثرها، بحيث صارت عاملا بين حين وآخر وبقصد وغير قصد في إغفال صلة الفصول القرآنية بالسيرة والبيئة النبوية، ومفهوم الأساليب الخطابية العربية ومدارك سامعي القرآن ومألوفاتهم ومتداولاتهم وعاملا كذلك في إسباغ معان خاصة أو مستقلة على

_ (1) هو غير المرحوم شيخ الأزهر. الجزء الأول من التفسير الحديث 17

الألفاظ والأساليب القرآنية، واستخراج معان خاصة منها تباعد بيننا وبين نزول القرآن وجو البيئة النبوية التي تتصل بالقرآن ونزوله وأساليبه وألفاظه اتصالا مباشرا ووثيقا على ما شرحناه في مناسبة سابقة. ومع أن من العلماء من توقف في التسليم بمدى هذه الآثار ورأى فيها تعارضا مع ما في القرآن من ناسخ ومنسوخ وجدل، وقال إن القرآن كان ينزل على قلب النبي من عند الله منجما حسب الحوادث فإن كثيرا منهم أخذوا بها كما يبدو من التدقيق في مختلف الكتب والتفاسير القديمة التي كانت عماد كتب التفسير التالية قليلا أو كثيرا، ومنهم من جمع بين الأخذ بها وبين القول بنزول القرآن حسب الحوادث معا، وجل هذه الآثار إن لم يكن كلّها منسوب إلى ابن عباس مع اختلاف في النصوص والطرق: 1- فقد أخرج الحاكم من إحدى الطرق عن ابن عباس أنه قال: «أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة ثم قرأ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا [الفرقان: 32] . 2- وأخرج الحاكم كذلك بطريق أخرى عن ابن عباس أنه قال «فصل القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة من السماء الدنيا فجعل جبريل ينزل به على النبي» . 3- وأخرج الطبراني من إحدى الطرق عن ابن عباس قال «أنزل القرآن في ليلة القدر إلى سماء الدنيا جملة واحدة ثم أنزل نجوما» . 4- وأخرج الطبراني كذلك عن ابن عباس من طريق أخرى أنه قال «أنزل القرآن جملة واحدة حتى وضع في بيت العزة في السماء الدنيا ونزله جبريل على محمد بجواب كلام العباد وأعمالهم» . 5- وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس «أن القرآن دفع إلى جبريل في ليلة القدر جملة واحدة ثم جعل ينزله تنزيلا» .

6- وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال «نزل القرآن جملة واحدة من عند الله من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا فنجمته السفرة على جبريل عشرين ليلة ونجمه جبريل على النبي عشرين سنة» . وقد سيقت هذه الروايات في سياق هذه الآيات: 1- شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة: 185] . 2- إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ [الدخان: 3] . 3- إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1] . ووردت متقاربة المدى مع بعض التباين في الصيغة في التفسير المنسوب إلى ابن عباس وفي تفاسير عديدة مثل الطبري و «الكشاف» والخازن وأبي السعود والبيضاوي جريا على العادة من اتخاذ المفسرين الروايات الواردة في أغلب الأحيان عمادا للتفسير مهما كان أمرها ورواتها على ما شرحناه في مناسبة سابقة. ولم يقتصر الأمر على الروايات المعزوة إلى ابن عباس فإن بعض العلماء رووا روايات وقالوا أقوالا أخرى في الموضوع فقال أبو شامة وهو من علماء القرآن باحتمال أن يكون القرآن قد أنزل إلى السماء قبل نبوة النبي. وروي عن عكرمة أنه قال إن آية فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ [الواقعة: 75] ، تعني نزول القرآن منجما من السماء الأولى. وعلّق بعض العلماء والمفسرين على ما تضمنته الروايات تعليقات تطبيقية وتوفيقية على اعتبار أنها قضية مسلمة فقال أبو شامة إن السرّ في إنزاله إلى السماء تفخيم أمره وأمر من نزل عليه، وذلك بإعلام سكان السماوات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم قد قربناه إليهم لننزله عليهم، ولولا أن الحكمة الإلهية اقتضت وصوله إليهم منجما حسب الوقائع لهبط به الأرض جملة واحدة كسائر الكتب المنزلة قبله، ولكن الله باين بينه وبينها فجعل له الأمرين بإنزاله جملة ثم إنزاله مفرقا.. وقال الحاكم والترمذي أنزل القرآن جملة واحدة إلى

سماء الدنيا تسليما منه للأمة ما كان أبرز لهم من الحظ بمبعث محمد، وذلك أن بعثة محمد كانت رحمة فلما خرجت الرحمة بفتح الباب جاءت بمحمد وبالقرآن فوضع القرآن ببيت العزة في السماء الدنيا ليدخل في حدّ الدنيا ووضعت النبوة في قلب محمد، وجاء جبريل بالرسالة ثم بالوحي، كأنه تعالى أراد أن يسلم هذه الرحمة التي كانت حظ هذه الأمة من الله.. وقال السخاوي إن في إنزاله إلى السماء جملة واحدة تكريما لبني آدم وتعظيما لشأنهم عند الملائكة، وتعريفهم عناية الله بهم ورحمته لهم، ولهذا أمر سبعين ألفا من الملائكة أن تشيع سورة الأنعام «1» ، وزاد سبحانه في هذا المعنى بأن أمر جبريل بإملائه على السفرة الكرام وإنساخهم إياه وتلاوتهم له، وفيه تسوية بين نبينا وبين موسى في إنزاله كتابه جملة، والتفضيل لمحمد في إنزاله جملة ومنجما..! وجاء في تفسير الخازن في سياق سورة القدر وبعد إيراد الروايات المذكورة سابقا: قيل إنما أنزله إلى سماء الدنيا لشرف الملائكة بذلك ولأنها كالمشترك بيننا وبين الملائكة فهي لهم سكن ولنا سقف وزينة، وذكر السيوطي في إتقانه أنه ورد في تفسير النيسابوري أن جماعة من العلماء قالوا نزل القرآن جملة ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى بيت يقال له بيت العزة فحفظ جبريل وغشي على أهل السماوات من هيبة كلام الله فمرّ بهم جبريل وقد أفاقوا وقالوا ماذا أنزل ربكم قالوا الحق يعني القرآن وهو معنى قوله تعالى حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ: 23] ، فأتى به جبريل إلى بيت العزة فأملاه على السفرة الكتبة يعني الملائكة وهو معنى قوله تعالى: بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) [عبس 15- 16] ، وآية سبأ جاءت في سياق مشهد من مشاهد الآخرة وفيه إنذار وتنديد بالكفار وحكي فيه موقف من مواقف الجدل بينهم وبين النبي ولا صلة قط بينه وبين المعنى أو المشهد الذي أورده النيسابوري، وفي هذا مثل آخر لأخذ المفسرين الآيات آية أو جملة من آية وعدم ملاحظتهم السياق الذي جاءت فيه.. ومنهم من ناقش ما إذا كانت جملة

_ (1) هناك حديث روي عن النبي بذلك.

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1] من جملة القرآن الذي نزل جملة واحدة أم لا لأنها تتضمن إخبارا وتوهم التعارض، ثم خرجوها بأن معنى أنزلناه في الجملة قضيناه وقدرناه «1» . كل هذا في حين أن هذه الأقوال وخاصة المعزوة إلى ابن عباس وهي الأصل فيها ليست مرفوعة إلى النبي، وهي أخبار عن غيب متصل بعلم الله وسرّ ملكوته ووجوده لا يمكن العلم بها إلا عن طريق النبي وهو ما لم يثبت فيما اطلعنا عليه، ونستبعد صدورها عن ابن عباس لما فيها من تخمين في أمر لا يصح أن يلقى الكلام فيه جزافا ومن غير سند نبوي ثابت أو صراحة قرآنية. وفي الروايات الوثيقة الواردة أن الوحي نزل لأول مرة على النبي بأول آيات القرآن في ليلة من ليالي رمضان وهو معتكف في غار حراء على عادته من الاعتكاف في هذا الشهر، وما احتوته آيات البقرة والدخان والقدر هو فيما نعتقد إشارة إلى هذا الحادث، وقد جاءت كلمة القرآن في أوائل سورة المزمل التي هي من أوائل القرآن نزولا ثم ظلت تتكرر في السور المكية والمدنية وكانت تعني بطبيعة الحال الجزء الذي تم نزوله على قلب النبي، وفي هذا دليل على أن تعبير إِنَّا أَنْزَلْناهُ في آيتي الدخان والقدر وجملة شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ في آية البقرة [158] لا تقتضي أن تكون قصدت جميع القرآن مما يمكن أن يكون محل إشكال أريد تخريجه على الوجه الذي خرج به. ولقد أورد السيوطي في إتقانه حديثا نبويا برواية واثلة بن الأسقع جاء فيه أن النبي قال إن التوراة نزلت لست مضين من رمضان والإنجيل لثلاث عشرة والزبور لثمان عشرة والقرآن لأربع وعشرين خلت منه، وسيق هذا الحديث في معرض تلك الآيات والروايات والأقوال، ومهما يكن من أمره فليس من شأنه على فرض صحته أن يؤيد تلك الأقوال والروايات لأنه ليس فيه صراحتها، وليس من المستبعد أن يكون أريد به الإشارة إلى أول نزول الكتب السماوية بما فيها القرآن كما هو الواقع

_ (1) الأقوال التي أوردناها قد ورد جلّها في «الإتقان» للسيوطي.

المروي في الأحاديث الصحيحة بالنسبة إلى القرآن. ومن الطريف أن بعض المعلقين استنبط على ما ذكره السيوطي من عدم الرد على الكفار فيما تحدوه من إنزال القرآن جملة واحدة صحة ما قيل من أن الكتب السماوية نزلت جملة واحدة وقال إنها لو لم تكن نزلت جملة واحدة لكان القرآن ردّ على المتحدين. وإذا كان بعض العلماء توقف في ما إذا كانت جملة إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1] هي من جملة القرآن الذي نزل جملة واحدة أم لا لأنها تتضمن إخبارا وتوهم التعارض فكم بالأحرى الآيات الكثيرة المماثلة ثم الفصول الكثيرة جدا الواردة في مختلف السور والتي تحكي حجاج الكفار وجدلهم في القرآن وتحديه أو تحكي مواقف الكفار من الدعوة النبوية ومن إنذارات القرآن وتبشيراته باليوم الآخر وحسابه وثوابه وعقابه، وهزؤهم بالنبي وتحديه بإحداث المعجزات وإنزال الملائكة إلخ، ثم التي تحكي وقائع السيرة الجهادية والتشريعية، ثم التي تندد بالكفار وتصور عنادهم وتحتم لهم الخلود في النار وتلك التي تذكر إسلام كثير منهم وتوبة الله عليهم وانتقالهم من صف الكفار إلى صف المسلمين ومن مصير الخلود في النار إلى الخلود في الجنة وأمثال ذلك مما كان يقع نتيجة لسير الدعوة وظروفها الطارئة ومما يغلب عليه طابع الوسائل التدعيمية لأهداف القرآن وأسسه ودعوته. ولا ندري كيف سوغ القائلون لأنفسهم بعد هذا أن يقولوا إن القرآن- وهم يعنون جميع ما بين الدفتين من أسس ووسائل- قد نزل جملة واحدة يوم بعثة النبي أو قبله. وعلى كل حال فإن ما ساقه القائلون في حكمة إنزال القرآن جملة واحدة إلى السماء عند بدء النبوة أو قبلها وكذلك ما علقوا به من تعليقات هي الأخرى أقوال تخمينية، وفيها من التكلّف والتزيد بل والتهافت ما يستطيع أن يلمسه المدقق الذي ينعم النظر، وأن القول في أصله يظل غير مفهوم الحكمة، وغير متسق مع طبائع الأمور وحقائق الأشياء، ولقد غاب عنهم فيما يتراءى لنا أن القرآن بصفته وحي الله

- 9 - روايات نزول القرآن بالمعنى وأثرها:

قد تحققت فيه جميع معاني التعظيم والتفخيم والتكريم، وإنه ليس في حاجة إلى المزيد بمثل هذه المظاهر كما غاب عنهم أنهم يقررون ماهيات مادية عن السماء الأولى وبيت العزة والحفظة والسفرة والتوزيع على جبريل وتلقي جبريل عنهم، ويصفون مشاهد إبصارية لا يصحّ إلقاء الكلام فيها جزافا، وليس عندهم أي دليل نقلي ثابت وصحيح صادر عن النبي الذي هو وحده صاحب الحق في الإخبار عن الغيبيات. ومهما يكن من أمر فإن هذه الأقوال تدل على أن كثيرا من الناظرين في القرآن وعلمائه ومفسريه اعتبروا أو يقع الوهم بأنهم اعتبروا القرآن- ومن جملته الفصول الوسائلية والتدعيمية والوقائع الجهادية والأسئلة والأجوبة ومواقف التحدي والجدل والحجاج المتقابلة- مستقلا في أصله عن الأحداث التي نزل بمناسباتها، وكون هذه الأحداث ليست إلا ظروفا عابرة لنزوله حتى مع قولهم إن القرآن قد نزل منجما حسب الحوادث- لأن هذا يبدو غريبا إزاء القول إن القرآن نزل في بدء نبوة النبي أو قبلها جملة واحدة إلى سماء الدنيا- فقالوا ما قالوه وولعوا بما ولعوا به من أسرار القرآن، واستقراء حروفه ورموزه ومغيباته، واستغرقوا في ماهيات ما جاء فيه من مشاهد كونية وقصص تاريخية، وحاولوا أن يستخرجوا حقائق ما كان ويكون من الوقائع والعلوم ونظرياتها، وفي هذا ما فيه من التكلّف والتجاوز والتشويش وتعريض القرآن للمغامز والمطاعن في حين أنه لا طائل من ورائه ولا ضرورة له ولا أسناد وثيقة تدعمه. - 9- روايات نزول القرآن بالمعنى وأثرها: ثانيا: ومن ذلك ما قاله بعض العلماء من نزول القرآن على قلب النبي بالمعنى لا باللفظ. فقد ذكر صاحب «الإتقان» هذا الموضوع في فصل كيفية نزول القرآن على قلب النبي بالمعنى لا باللفظ. فقد ذكر صاحب «الإتقان» هذا الموضوع في محل كيفية نزول القرآن، وقال إن هناك أربعة أقوال: (1) إنه نزل باللفظ

والمعنى وإن جبريل حفظ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به. (2) إن جبريل إنما نزل به بالمعاني خاصة وإن النبي علم تلك المعاني وعبر عنها بلغة العرب، واستند قائلو هذا القول بظاهر قوله تعالى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشعراء: 193- 194] . (3) إن القرآن ألقي إلى جبريل بالمعنى وإنه عبر عن المعاني بالألفاظ العربية وبها نزل على النبي، وإن أهل السماء يقرأونه بالعربية. (4) إن الوحي نزل باللفظ حينا وبالمعنى حينا فما نزل باللفظ فهو القرآن وما نزل بالمعنى فهو السنّة، أي أن الأحاديث النبوية هي أيضا وحي رباني ولكنها نزلت بالمعنى، وعلّل أصحاب هذا القول إنه كان يقصد التخفيف عن الأمة، ولذلك جازت رواية الأحاديث النبوية بالمعنى. ويلاحظ أن هذه الأقوال تخمينية، ولم يورد قائلوها أسنادا موثقة لها في حين أن الموضوع متصل بسرّ وحي الله وسرّ النبوة كذلك، فهو أمر غيبي إيماني لا يصح قول شيء فيه إلا بنصّ صريح من قرآن أو حديث ثابت عن النبي، وما دام أنه لم يرد شيء من ذلك، وإن النبي قد بلغ القرآن الموحى به إليه بألفاظه العربية التي دوّنت وحفظت عنه بالتواتر اليقيني فليس من محل للقول إن القرآن أوحي إليه بالمعنى كما أنه ليس من ورائه طائل، وإن الحق في هذا هو ما يتسق مع الواقع وحسب وهو أن ما بلغه النبي من ألفاظ القرآن هو ما نزل الوحي به على قلبه، وأنه لا يصح أن يعدل عن هذا إلى غيره بالظنّ والتخمين. على أن النصوص القرآنية هي في جانب ما نقول أيضا أكثر منها في الجانب الآخر أو في جانب السكوت. فآيات يوسف [2] والزخرف [3] والزمر [28] وفصلت [3 و 44] التي تذكر تنزيل القرآن عربيا وجعله عربيا- وقد نقلناها في مناسبات سابقة- تحتوي قرائن بل دلائل قوية على قصد تقرير كون الألفاظ العربية التي بلغها النبي هي ما نزل الوحي به على قلبه. ومن الغريب أن القائلين بنزول القرآن بالمعنى استندوا إلى آيتي الشعراء: [193- 194] اللتين نقلناهما وغفلوا عن ما بعدها بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) ، كما

هي العادة من أخذ آية دون آية ودون سياق للتدليل بهما على رأي ما، في حين أن بعدهما أي الآية [195] يحتوي ما ينقض ذلك بصراحة، ومن الغريب أكثر أن لا يحتج القائلون بنزول القرآن بألفاظه بهذا النصّ القرآني الصريح القاطع. ومما يجدر التنبيه عليه في هذه المناسبة أن القول بأن الأحاديث النبوية مما كان ينزل به الوحي بالمعنى على إطلاقه لا يتسق مع الواقع والنصوص القرآنية. فقد احتوت آيات عديدة عتابا للنبي على بعض الحوادث والوقائع والمواقف والأقوال التي صدرت منه بل وعلى بعض الأفكار والخطرات التي دارت في ذهنه في العهد المكي والعهد المدني على السواء مما تشير إليه آيات سورة عبس: [1- 10] والإسراء: [73- 75] وهود: [12] والأنفال: [67- 68] والتوبة: [43 و 113- 117] والأحزاب: [37] والتحريم: [1- 2] والنساء: [105- 112] . فلو كان كل ما قاله النبي وفعله وفكر فيه وحيا على إطلاق القول لما كان محل لمعاتبته. ولقد أثر عن النبي حوادث وأخبار وأحاديث كثيرة ووثيقة في تقرير كونه بشرا قد يخطىء ويصيب في اجتهاداته في أمور الدنيا وسياستها وفي ما يبدو له من ظواهر الأمور التي لا يكون مطلعا على بواطنها وملابساتها، وإنه لا يحلف على شيء فيرى ما هو خير إلا كفّر عن يمينه وأتى الذي هو خير إلخ. ولقد استند القائلون بالوحي العام الشامل إلى آيتي سورة النجم وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4) ، مع أن روح الآيات وسياقها هما في صدد توكيد صحة ما أخبر به النبي عن اتصال وحي الله به بصورة عامة كما هو المتبادر منها، وهو ما تكررت في صدده الآيات واستهدفته، وإن من التجوز تشميل مداها لكل قول صدر عن النبي لتعارض ذلك مع الوقائع والنصوص. ونريد أن ننبه على نقطة هامة، فنحن لا نعني بما نقرره أن لا يكون النبي في كثير مما قاله وفعله وأمر به ونهى عنه وخاصة مما لم ينزل فيه قرآن ناقض أو معدل أو معاتب ملهما به من الله، ففي القرآن دلائل عديدة على أن كثيرا مما وقع من النبي قبل نزول قرآن به قد وقع بإلهام رباني، وإن القرآن الذي نزل بذلك جاء مؤيدا

له فيه، كما أن جميع ما ثبت عن النبي من سنن قولية وفعلية، وأوامر ونواه مات عنها دون أن ينقضها هو أو القرآن هو تشريع واجب الاتباع بنص القرآن «1» ، وإنما الذي نعنيه التعليق على القول بأن جميع ما صدر عنه من قول وفعل إطلاقا، وبأن جميع السنن النبوية القولية والفعلية وحي من جنس الوحي القرآني مع فارق واحد وهو أن هذا باللفظ وذاك بالمعنى مما لم يرد ما يؤيده من حديث نبوي ثابت أو نص قرآني صريح، ومما لا يجوز الكلام فيه بالظن والتخمين والاجتهاد. وفي القرآن مشاهد كثيرة تدل على أن النبي كان يجتهد في أمر فينزل القرآن مؤيدا له ومثبتا فيه ومنددا بالذين وقفوا منه موقف المخالفة أو التردد أو التمرد، فلو كان ذلك وحيا من جنس الوحي القرآني مع ذلك الفارق لكان يقتضي أن ينصّ عليه حين صدوره عن النبي، أو حين تثبيت النبي فيه قرآنيا بعد صدوره أنه كان وحيا ربانيا وهذا لم يقع. ولقد استهدف بعض الذين قالوا ذلك تقرير العصمة النبوية. وننبه على أن ما نقرره لا يمسّ هذه العصمة، عدا أنه قائم على براهين محكمة قرآنية وواقعية. فالعصمة النبوية تتناول ما يبلغه النبي عن الله، وآيتا النجم مصوبتان على هذا المعنى، والمبلغ عن الله بصراحة هو القرآن فقط ثم تتناول امتناع النبي عن اقتراف إثم أو جريمة أو فاحشة أو مخالفة للقرآن قولا وفعلا، ولا تتناول فيما نعتقد الأقوال والأفعال والمواقف الاجتهادية والعادية التي لم تؤيد بقرآن وليس فيها نية الإثم والضرر والشر والمخالفة، والتي قد يكون فيها الخطأ والصواب وخلاف الأولى الذي في علم الله والذي لا ينكشف للنبي إلا بوحي. وفي القرآن مشاهد عديدة تدل على أن النبي كان يجتهد في أمر فيصدر عنه قولا أو فعلا فينزل القرآن معاتبا حينا ومنبها أو مذكرا حينا بما هو الأولى كمشاهد أسرى بدر وتحريم النبي على نفسه زوجاته واستغفاره لأقاربه من المشركين وإذنه للمعتذرين عن الانضمام لحملة تبوك، وزواجه بمطلقة متبنيه وحادث الأعمى وخطرات نفسه في التساهل

_ (1) اقرأ آيات الحشر: [7] ، والنساء: [80] ، وآل عمران: [31] .

مع المشركين مما احتوت الإشارات إليه سورة الأنفال والتحريم والتوبة والأحزاب وعبس والإسراء، مما لا يمكن أن يحتمل القول معه أن ذلك كان إلهاما ربانيا في معنى الوحي البتة. ونحن من المؤمنين بالعصمة النبوية ولكن لا على ذلك المعنى الذي يجعل النبي يمتنع عليه أن يصدرمنه أي اجتهاد في خلاف الأولى المغيب عنه علمه أو أي خطأ بريء مما لا يمكن أن ينتفي عن الطبيعة البشرية النبوية المقررة في القرآن، ومما تنعدم به حكمة الثناء العظيم الذي أثناه الله في القرآن على أخلاقه، وحكمة اختصاصه من دون الناس بالرسالة، ولكن على المعنى الذي يتحقق في الكمال النبوي خلقا وروحا وعقلا والذي لم يصل النبي إلى درجة الاصطفاء الرباني إلا بعد أن وصل إليه، فصار من سموّ الأخلاق وصفاء الروح وعظم القلب ورجاحة العقل إلى ما يرتفع به عن كل ما يشين، ثم على معنى عصمته من أي خطأ في تبليغ ما أوحي إليه والتزامه له بكل دقة وأمانة وصدق واستغراق. ومهما يكن من أمر، ومع أن كثيرا من العلماء على رأي أن القرآن نزل بألفاظ عربية، وأن ما بلغه النبي من ألفاظه هو ما ألقي إليه من الوحي فالذي يتبادر لنا أن لتلك الأقوال أثرا في الروايات الكثيرة عن خلافيات القراءة وخاصة الخلافيات اللفظية والنظمية من بدل كلمة بكلمة ومن تقديم وتأخير مما أوردنا أمثلة عديدة عنه في مناسبة سابقة، أو أن الذين تداولوا ودونوا هذه الخلافيات دون تمحيص ونقد قد تأثروا بهذه الأقوال، أو أن الذين اخترعوا ودسوا هذه الخلافيات أو بعضها بقصد التشكيك قد استغلوا وروجوا هذه الأقوال، أو أن كل هذا قد وقع معا، كما أنه مما يتبادر لنا أن تكون هذه الأقوال قد أثرت أو تأثرت بأحاديث الأحرف السبعة وتأويلاتها العجيبة التي ذكرنا بعضها سابقا، وخاصة ما ورد في بعض وجوهها من أنها بقصد تقرير أن القرآن قد نزل بمعان متسق مفهومها مختلف مسموعها حيث يجوز التغاير إذا لم تبدل كلمة عذاب بكلمة رحمة. ولعل ما عزي إلى أبي حنيفة من تجويزه الصلاة بقراءة القرآن بالترجمة الفارسية، وتقريره أن المهم في القرآن هو المعنى متصل بهذه الأقوال. وقد ذكر الزمخشري أن أبا حنيفة استند إلى ما روي عن ابن مسعود من إجازته لقارىء بقراءة

- 10 - الخلاف على خلق القرآن وأثره:

«طعام الفاجر» بدلا من طَعامُ الْأَثِيمِ [الدخان: 44] على شرط أن تؤدي الترجمة المعاني على كمالها، وعلق الزمخشري على هذا بقوله إن هذا الشرط بمثابة المنع لأن في كلام العرب وخصوصا القرآن الذي هو معجز بفصاحته وغرابة نظمه وأساليبه من لطائف المعاني والأغراض ما لا يستقل بأدائه لسان من فارسية وغيرها، ولم يكن أبو حنيفة يحسن الفارسية فلم يكن ذلك التقرير منه عن تحقيق وتبصّر، ثم قال إن صاحبي أبي حنيفة أنكرا جواز الصلاة بالقراءة الفارسية، وإن عليّ بن الجعد روى عن أبي يوسف أن أبا حنيفة هو على رأي صاحبيه في الإنكار. وننبه على أننا لسنا هنا في معرض منع ترجمة القرآن أو عدم جوازه، بل إننا نرى هذا مفيدا جدا وواجبا لازما في سبيل نشر الدعوة الإسلامية القرآنية العظمى، كما أن عموم الرسالة النبوية، وعموم الخطاب القرآني لجميع الناس من الدلائل على هذا الوجوب، على أن يقوم بها الأكفاء في فهم القرآن ولغته ولغة ترجمته، وعلى أن يكون القصد منها النشر والدعوة والتبشير لا الصلاة بها، حيث نعتقد بصواب رأي أبي يوسف والحسن صاحبي أبي حنيفة في إنكار الصلاة بها وعدم جوازها إلا بالألفاظ القرآنية العربية التي نزل القرآن بها، لأن القرآن قد وصف فيه بأنه قرآن عربي ولا يمكن أن يعتبر قرآنا تصح به صلاة إلا بهذا الوصف. - 10- الخلاف على خلق القرآن وأثره: ثالثا: ومن ذلك ما دار عليه الخلاف الكلامي المشهور من كون القرآن مخلوقا أو غير مخلوق. ومع أن هذه المسألة فرع من أصل موضوع صفات الله ومعانيها ومداها فإنها اشتهرت أكثر من غيرها لأن الخلاف فيها أدى إلى أحداث تجاوزت الجدل الكلامي بين العلماء إلى الميدان السياسي، وكان من آثارها فتن عمياء أريق فيها الدماء واضطهدت حرية الرأي والعقيدة، وازدرى فيها العلماء واشترك فيها الغوغاء مع الساسة في ساحة واحدة حتى صارت رئيسية، وحتى قال بعضهم إن علم الكلام قد سمّي بهذا الاسم بسبب الخلاف الشديد المشهور على

صفة الكلام الإلهي المتصلة بمسألة خلق القرآن وعدمه. وكان الخلاف من حيث الأساس بين المعتزلة الذين سموا أنفسهم أهل العدل والتوحيد وبين أهل السنة الذين التزموا ما كان عليه السلف من قول وما وردت به الأحاديث أو دلت عليه الآيات، أو كانوا في موقف يرون أنفسهم فيه كذلك. على أن هؤلاء افترقوا في القول حيث إن ابن حنبل وأشياعه قالوا غير ما قاله أبو الحسن الأشعري وجماعته مثلا. ومن أصول الخلاف بين المذهبين صفات الله، فالمعتزلة قالوا إن صفات الله هي ذات الله فهو عالم بذاته قادر بذاته متكلم بذاته إلخ أي بدون علم وقدرة وكلام زائد عن ذاته أو غير ذاته، على اعتبار أن الذهاب إلى كون صفات الله القديمة بقدمه غير ذاته هو تعدد الله القديم الذي يستحيل عليه التعدد، وأهل السنة قالوا إن لصفات الله معنى زائدا عن ذاته فهو عالم بعلم وقادر بقدرة ومتكلم بكلام، واحترزوا بهذا لمنع تعدد الله القديم بتعدد صفاته لأنهم مثل أولئك معتقدون باستحالة التعدد في حق الله، ثم تكشف الخلاف في هذا الباب حول صفة كلام الله وماهية القرآن باعتباره كلام الله، فقال الأشاعرة إن الله متكلم بكلام أزلي قديم زائد عن ذاته وغير منفك عنها، وإن القرآن معنى قائم بذات الله، وقيدوا أنهم لا يعنون بذلك الحروف والأصوات المقروءة المسموعة المكتوبة، ومثلوا على ذلك بالفرق بين ما يدور في خلد الإنسان من كلام دون أن ينطق به فهو شامل في آن واحد لجميع الكلام الذي يدور في الخلد، أما الحروف والأصوات المقروءة المسموعة المكتوبة من القرآن فإنها ليست من تلك الصفة القديمة وإنما هي من الحوادث، لأنها تابعة لترتيب يتقدم فيه حرف عن حرف نطقا وكتابة وسمعا وهذا من سمات الأمور الحادثة، وافترق الحنابلة وهم من أهل السنة عن الأشاعرة في تقريرهم أن حروف القرآن المكتوبة المقروءة وأصواتها المسموعة غير منفكة عن صفة كلام الله الأزلي القديم وأنها مثلها قديمة أزلية أيضا أي ليست حادثة ولا مخلوقة. أما المعتزلة- والشيعة الإمامية مثلهم في أكثر المذاهب الكلامية- فقد قالوا إن الله متكلم بذاته بدون كلام زائد عنها، وإنه يخلق الحروف والأصوات في الأعراض

فتقرأ وتسمع، وإن القرآن باعتبار أنه متصف بما هو صفات المخلوق وسمات الحدوث من تأليف وتنظيم وإنزال وتنزيل وكتابة وسماع وعروبة وحفظ وناسخ ومنسوخ إلخ هو مخلوق ولا يصح أن يكون قديما أزليا، ويقولون إن القرآن اسم لما نقل إلينا عن دفتي المصحف تواترا وهذا يستلزم كونه مكتوبا في المصاحف مقروءا بالألسن مسموعا بالآذان وكل ذلك من سمات الحدوث بالضرورة، فيجيبهم الأشاعرة بأنه كلام الله مكتوب في مصاحفنا محفوظ في قلوبنا مقروء بألسنتنا مسموع بآذاننا غير حال فيها بل هو معنى قديم قائم بذات الله يلفظ ويسمع بالنظم الدال عليه ويحفظ بالنظم المخيل، ويكتب بنقوش وصور وأشكال موضوعة للحروف ويكتب بالقلم، وإن المراد بأن القرآن غير مخلوق هو حقيقته الموجودة في الخارج إلخ. وواضح أن الجماعات المختلفة معترفون بكمال صفات الله، وإن اختلافهم هو حول آثار هذه الصفات الكاملة وتخيلها وتفهمها ومداها، وأن شأنهم في هذا شأنهم في الخلافيات الكلامية الأخرى منهم المعظم لله ومنهم المنزّه له وإنهم متفقون على أن القرآن منزل من الله على نبيه. ولا يعنينا التبسط في هذه المسألة الخلافية وتاريخها، ونعتقد أنها ذات صلة بالأحداث السياسية والنحلية والطائفية والعنصرية التي حدثت في القرون الإسلامية الأولى، وكان لتسرب الأساليب الكلامية والكتب الفلسفية الأجنبية أثر قوي فيها، وأنها لا تتصل بآثار نبوية وراشدية موثقة ثابتة في ذاتها، فضلا عن ما هناك من آثار نبوية وراشدية تنهى عن التورط في بحوث قد تنتهي إلى الخوض في ماهية الله والقرآن ومحتوياته وإنه يكفي للمسلم أن يظل فيها في حدود التقريرات القرآنية من أن القرآن كلام الله ومن عند الله، ومن أن الله ليس كمثله شيء، وإن ما عدا ذلك متصل بسرّ الوجود وواجب الوجود وسرّ الوحي والنبوة مما لا يستطاع إدراكه بالعقل البشري، وإنه لا طائل من الجدل والخلاف فيه ولا ضرورة له، وإنما الذي يعنينا هنا هو تقرير أن هذه المسألة الخلافية قد تكون أدت بين حين وآخر وبقصد وبغير قصد إلى إغفال صلة الفصول والآيات القرآنية بأحداث السيرة النبوية

- 11 - النهي عن التفسير بالرأي وأثره:

وظروف البيئة النبوية، واعتبار هذه الأحداث والظروف شأنا عابرا. وأن هذا قد أدى إلى ما قيل من أقوال وضمّن من تخمينات حول أسرار القرآن وحروفه ورموزه ومغيباته وماهيات ما جاء فيه من مشاهد الكون ونواميس الخلق وقصص التاريخ والأمثال ومطوياتها مما لا يتسق مع حقائق الأمور وأهداف القرآن الواضحة في الهداية والإرشاد والدعوة إلى الخير والحق وأسباب السعادة، ومما فيه تشويش على الأهداف وعلى الناظر في القرآن والراغب في تفهمه وتفهم السيرة النبوية والبيئة النبوية والأسس والمبادئ القرآنية، وما كان من سير التشريع القرآني وتطوره. - 11- النهي عن التفسير بالرأي وأثره: رابعا: ومن ذلك ما ورد في النهي عن تفسير القرآن بالرأي. وما قيل من وجوب الوقوف في تفسيره عند حدود الروايات المروية عن النبي والصحابة والتابعين أو علمائهم. فقد قال بعض العلماء إنه لا يجوز لأحد أن يتعاطى تفسير شيء من القرآن إلا أن ينتهي إلى ما روي عن النبي في ذلك، وقال بعضهم إن التفسير قسمان قسم ورد تفسيره بالنقل وقسم لم يرد، والأول إما أن يكون عن النبي أو الصحابة أو رؤوس التابعين، وإما لم يرد فيه نقل فهو قليل، وقال بعضهم إن ما ورد فيه حديث نبوي لا يعدل عنه فيه إلى غيره، وما لم يرد فيه حديث نبوي وورد فيه قول صحابي فلا يعدل فيه إلى غيره، وما لم يرد فيه قول صحابي وورد فيه قول عالم تابعي أو قول تابعي- على اختلاف في التخصيص والإطلاق- فلا يعدل فيه إلى غيره، وإنه إذا كان هناك أقوال عديدة من مصدر من هذه المصادر الثلاثة فيجتهد في التوفيق والجمع بينها. وقد روي عن الشافعي أنه قال إنه لا يحلّ تفسير المتشابه إلا بسنّة أو خبر أو إجماع «1» ، ولم يحدد المتشابه في هذا

_ (1) الأقوال ملخصة عن «الإتقان» للسيوطي.

القول مع أن مداه واسع جدا وموضوع خلاف كبير. ولما كان قد ورد روايات منسوبة إلى المصادر الثلاثة المذكورة كثيرة جدا وصف ما ورد عن ابن عباس منها بوصف لا يحصى، وقيل إن ما روي منها منسوبا إلى النبي والصحابة نحو خمسة عشر ألفا، وتكاد تشمل كل آية في القرآن، بل وإن كثيرا ما ورد في آية واحدة أكثر من رواية وحديث، وقد روي تفسير كامل عن ابن عباس وحده، ونسب إلى تابعين وتابعي تابعين تفاسير عديدة كاملة أو ناقصة فإن من شأن الأقوال الواردة في إيجاب الوقوف في التفسير عند الروايات والأقوال المنسوبة إلى المصادر الثلاثة المشار إليها أن يؤدي إلى أن هذا الموقف يجب أن يشمل جميع آيات القرآن. هذا من جهة ومن جهة أخرى فقد روي حديثان نبويان أخرج أحدهما أبو داود والترمذي والنسائي جاء فيه «من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» وأخرج ثانيهما أبو داود جاء فيه «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» وفسّر بعضهم تعبيري «برأيه» و «بغير علم» في الحديثين بغير سند من حديث أو رواية أو خبر.. وقد التزم إمام المفسرين بعد عصر تابعي التابعين أي الطبري هذا المبدأ فألّف تفسيره الكبير في نطاقه، ويكاد يكون قاصرا على الروايات المروية عن المصادر الثلاثة المذكورة. وفعل قبله مثله البخاري في الكتاب الذي عقده في صحيحه على التفسير وبوّبه على ترتيب السور في المصحف مع التزامه شروطه في رواية الأحاديث والأقوال المنسوبة إلى هذه المصادر. ومع أن من العلماء المتقدمين من خرّج الحديثين النبويين تخريجا من شأنه التوسيع فقال إنهما في صدد النهي عن التفسير بالهوى، وعن القول بقول يعلم قائله أن الحق غيره، وعن الكلام في القرآن بغير علم يساعد صاحبه على الاستنباط وحسن الإدراك من معرفة باللغة والفقه والناسخ والمنسوخ إلخ، وإن منهم من أورد بعض الأحاديث التي تسوغ النظر في القرآن والاجتهاد في الاستنباط منه مثل

الحديث الذي أخرجه أبو نعيم وجاء فيه «القرآن ذو وجوه فاحملوه على أحسن وجوهه» ، وإن منهم من قال إن المسلمين مأمورون بنص القرآن بالنظر فيه وتدبره وتفهم أحكامه وهذا هو متناول التفسير والتأويل، وإن نصوص القرآن تحتم صرف الأحاديث النبوية في حالة صحتها إلى مثل ما صرفت إليه، وأنه ما من آية إلا ويحب الله أن يعلم الناس فيما أنزلت وما أريد منها، ومع أن هذا التوجيه متسق مع طبائع الأشياء، بحيث يكون النهي في الأحاديث إذا صحت قد استهدف النعي على الذين يحاولون صرف نصوص القرآن ودلالاته إلى تأييد بدعة في القول أو رأي فيه انحراف عن جادة الحق وتلقينات القرآن الواضحة ومفهوماته المتواترة، وعلى الذين يلقون الكلام في القرآن على عواهنه ويحملون عباراته غير ما تتحمله ويخوضون في الماهيات الغيبية التي وردت الإشارات إليها بغير سند، ولم يستهدف خطر التدبر في آيات القرآن وأهدافه وتفهم معانيه بالعقل والتفكير والدراية والاستنباط والمقايسة، وخاصة في سبيل تجلية الأهداف السّامية والمثل العليا والأحكام الشرعية التي تنطوي فيه، لأن هذا هو الذي أوجبه القرآن على سامعيه وأنزل على النبي من أجله وجرى السلف الصالح عليه، وهو الذي تدل عليه الروايات الكثيرة جدا المعزوة إلى علماء الصحابة والتابعين وتابعيهم والوارد كثير منها في كتب الأحاديث الصحيحة أيضا إذ أن كثيرا من هذه الروايات إن لم يكن أكثرها تأويلات وتفسيرات اجتهادية شخصية، ويدل عليه كذلك سير المفسرين الذين جاؤوا بعد هذه الطبقة على هذا النمط متجاوزين أحيانا كثيرة حدود الروايات المعزوة إلى المصادر الثلاثة، ومدونين هم الآخرون تأويلات وتفسيرات اجتهادية شخصية نقول إنه مع ذلك كله فإن الروايات ظلت عماد التفسير الأقوى وركنه الأعظم. ومما لا ريب فيه أن الفكرة من حيث أصلها وجيهة كل الوجاهة، لأن الصحابة والتابعين وخاصة علماءهم هم أعلم بمفهومات القرآن ودلالاته ومناسبات نزوله ومدى مقاصده على اعتبار أنهم أشد الطبقات اتصالا بظروف نزوله وجو نزوله، ومما لا ريب فيه أن القول أقوى صحة ووجاهة وصوابا وأولوية بالنسبة الجزء الأول من التفسير الحديث 18

للأحاديث النبوية، كما أن للنهي والتشديد ما يبرر هما لأن خطورة شأن القرآن من جميع الاعتبارات توجب حتما الاحتياط والتروي والتدبر وعدم إلقاء الكلام فيه جزافا، وتجعل الانحراف عن هذه الخطة والخطأ الناشئ عن غير علم وروية إثما كبيرا، لما يترتب عليه من آثار تمسّ بأمور الإيمان والعقيدة ومصالح الإنسانية عامة والمسلمين خاصة. ومما لا ريب فيه أيضا أن هناك أحاديث نبوية وصحابية قوية الأسناد وردت في كتب الصحاح ومتسقة مع روح الآيات القرآنية ومضامينها كما أن هناك أقوالا منسوبة إلى الصحابة والتابعين وخاصة علمائهم وردت في كتب الحديث المعتبرة سائغة ومعقولة المتون كذلك في شرح العبارات القرآنية وتفسيرها وإيضاح مداها، فيجب الأخذ بتلك الأحاديث وهذه الأقوال والوقوف عندها وإدارة الكلام في نطاقها تبيانا وشرحا وتجلية وتطبيقا. غير أنه مما لا ريب فيه أن الروايات والأقوال لا يصح أن تؤخذ قضايا مسلمة في هذا الصدد كما في غيره إلا بعد التمحيص متنا وسندا وتطبيقا ومقايسة على العبارات والدلالات القرآنية، وإنه قد تسوهل في هذا الباب تساهلا عظيما، وإن كثيرا مما ورد إن لم نقل أكثره مما يحمل على التوقف فيه من حيث أسناده ومتونه، لغلبة احتمال الخطأ والتحريف والتلفيق والدسّ والانتحال والغرض السياسي والطائفي والنحلي فيه وخاصة ما لا يتسق في مداه ومعناه مع روح الآيات والوقائع التي يلهمها القرآن، وإنه يصدق فيه قول ابن حنبل الذي أشرنا إليه في مناسبة سابقة «ثلاثة لا أصل لها التفسير والمغازي والملاحم» بل ولعلّه إنما قيل بسبب هذه العلات. ومع أن العلماء والمفسرين قالوا بوجوب التمحيص والنقد، وتوقفوا في روايات وأقوال كثيرة وناقشوها وجرحوها، وفي طليعتهم إمام مفسري المأثور الطبري فإن النهي في أصله والقول بالأخذ بالروايات أولا، وكثرة الروايات كثرة عجيبة ثانيا جعل هذه الروايات تستفيض في مختلف كتب التفسير على علاتها،

وتكون عمادا قويا بل العماد الأقوى فيها، ولم يحظ إلا القليل منها بالنقد والتمحيص والجرح، بل وإن هذا المنقود المجروح لم يبعد من كتب التفسير، ومنها ما لم يشر إلى جرحه، وكان هذا من أسباب وعلل ما وقع في هذه الكتب من تشويش واضطراب وإغراب ومفارقة، وما أدى إليه من تشويش على الناظر في القرآن والراغب في تفهمه، ومن اتخاذه من قبل المغرضين وسيلة إلى الغمز والطعن وسوء التفسير والاستنباط، سواء أكان ذلك في أحداث السيرة النبوية المختلفة أم في ظروف البيئة النبوية، أم في ما احتواه القرآن من قصص ومشاهد كونية وأخروية وأخبار إيمانية غيبية، أم في انسجام الفصول والمجموعات القرآنية وتوجيهاتها وتلقيناتها ومداها الخاص والعام والزمني المستمر.

خاتمة

خاتمة ذلك اليقين بالخطة المثلى لفهم القرآن وخدمته التي شرحناها في الفصل الثالث، وهذه الثغرات العديدة التي نبهنا عليها في الفصل الرابع جعلنا نعتقد أن الحاجة ما تزال ماسة إلى تفسير واف بالغرض غير مطول مملّ ولا موجز مخلّ، تجتمع فيه الملاحظات، وتتحاشى فيه الثغرات، ويسار فيه وفق هذا المنهج المتسق مع الخطة التي شرحناها والثغرات التي نبهنا عليها: (1) تجزئة المجموعات والفصول القرآنية إلى جمل تامة يصح الوقوف عندها من حيث النظم والمعنى والسياق، وقد تكون هذه الجمل آية واحدة أو آيات قليلة أو سلسلة طويلة. (2) شرح الكلمات والتعابير الغريبة والجديدة وغير الدارجة كثيرا بإيجاز ودون تعمق لغوي ونحوي وبلاغي إذا لم يكن هناك ضرورة ماسة. (3) شرح مدلول الجملة شرحا إجماليا حسب المقتضى والمتبادر بأداء بياني واضح وبسيط، والاكتفاء من ذلك بعرض الهدف والمدلول إذا كانت العبارة واضحة للمتوسطين نظما ولغة. (4) إشارة موجزة إلى ما روي في مناسبة الآيات أو في صددها وما قيل في مدلولها وأحكامها وقصصها إذا كان الموضوع يقتضي ذلك، وإيراد ما يقضي إيراده من الروايات والأقوال، والتعليق على ما يقتضي التعليق عليه منها بإيجاز. (5) تجلية ما تحتويه الجملة من أحكام أو مبادئ أو تلقينات أو توجيهات تشريعية وأخلاقية واجتماعية وروحية.

(6) تجلية ما تحتويه الجملة من صور ومشاهد عن السيرة النبوية والبيئة النبوية، وقد اهتممت لذلك حتى جاء الكلام أحيانا بحثا ودرسا وتقريرا موضوعيا مع أنه ليس من الأسس، لأني رأيت أن هذا يساعد على تفهم ظروف الدعوة النبوية وسيرها وصورها وتطورها، وعلى تجلية جوّ نزول القرآن الذي ينجلي به كثير من المقاصد القرآنية سواء أكانت أسسا أم وسائل، فضلا عن أنه يساعد على تصحيح كثير مما جاء مضطربا أو ناقصا أو محرّفا في الروايات من سور البيئة ومشاهد السيرة النبوية وأحداثها. (7) التنبيه على الجمل الوسائلية والتدعيمية، وعلى ما يكون فيها من مقاصد أسلوبية كالتعقيب والتعليل والتطمين والتثبيت والتبصير والترغيب والترهيب والتقريب والتمثيل والتشبيه والتنديد والتنويه والتذكير إلخ، مع إبقاء ذلك ضمن المقصد الذي جاءت من أجله، وعدم الاستغراق والتطويل فيه، والتنبيه بإيجاز على ما ورد في صدده مما يخرج به عن هذا النطاق إذا اقتضى الأمر. (8) وصل الجمل القرآنية بعضها ببعض سياقا أو موضوعا كلما كان ذلك مفهوم الدلالة، والتنبيه على هذا لتجلية النظم القرآني والترابط الموضوعي أو السياقي أو الهدفي أو الوسيلي. وقد اهتممت لهذه النقطة اهتماما خاصا لأنها مما يساعد كثيرا على فهم دلالات القرآن وظروف نزوله ومدى متناوله. (9) الاستعانة بالألفاظ والتراكيب والجمل القرآنية قبل كل شيء في صدد التفسير والشرح والسياق والدلالات والهدف والتدعيم والصور والمشاهد ما دام ذلك ممكنا وضروريا. ثم بعد هذا بالروايات إذا ما كانت متسقة مع المفهوم والسياق، ثم بأقوال المفسرين إذا كانت كذلك وما دام ذلك ممكنا وضروريا أيضا. (10) العطف على ما جاء في السور السابقة حين تفسير الجمل القرآنية ومقاصدها إذا ما كان ذلك ممكنا وضروريا وكافيا لتفادي التكرار والتطويل. وإنا لنرجو الله أن يوفقنا إلى إخراج تفسيرنا الحديث الذي نهجنا فيه هذا المنهج فنتمّ به السلسلة القرآنية التي بدأناها بكتاب «عصر النبي عليه السلام وبيئته

قبل البعثة» مقتبسا من القرآن ثم بكتاب «سيرة الرسول عليه السلام» مقتبسا كذلك منه ثم بكتاب «نظم القرآن ودستوره في شؤون الحياة» ، ولا سيما إننا نشعر برغبة ملحة عند كثير من شباب المسلمين في فهم القرآن ومدلولاته وظروفه بتفسير حديث يتسق مع روح العصر، وبأسلوب قريب التناول، غير ضارب بالتفريع والاستطرادات والتزيد في العلوم الآلية، ثم لا سيما إن الرغبة أخذت تزداد عند المسلمين عامة في تخطي القرون الطويلة التي ساد فيها الجهل والغفلة ووقف المسلمون فيها جامدين في نطاق التقليد والترديد والتعقيد، وفي تفهّم أهداف الدعوة الإسلامية وظروفها وتوصياتها في «القرآن المجيد» معجزتها الخالدة.

(بسم الله الرحمن الرّحيم)

التفسير الحديث السور مرتبة حسب النزول محمد عزّة دروزة الجزء الأول

السور المفسّرة في هذا الجزء «1» 1- الفاتحة 2- العلق 3- القلم 4- المزّمل 5- المدّثر 6- المسد 7- التكوير 8- الأعلى 9- الليل 10- الفجر 11- الضحى 12- الشرح 13- العصر

_ (1) انظر الفهرست المفصل في آخر الجزء. [.....]

سورة الفاتحة

(بسم الله الرّحمن الرّحيم) سورة الفاتحة فيها تقرير الحمد لله تعالى وربوبيته للعالمين، وسعة رحمته، وتعليم بعبادته وحده والاستعانة به وحده وطلب الهداية منه، والوقاية من طريق الضالين والمغضوب عليهم. وقد ورد حديث نبوي يفيد أنها أولى السور القرآنية التامة نزولا على ما ذكرناه في المقدمة، وقد قال كثير من المفسرين إنها براعة استهلال رائعة للقرآن. ولعل في ذلك كله تنطوي حكمة وضعها فاتحة للمصحف وإيجاب قراءتها في كل ركعة صلاة، ومطلعها مما تكرر في مطالع سور عديدة أخرى وهي الأنعام والكهف وسبأ وفاطر مما يمكن أن يعد أسلوبا من أساليب القرآن في مطالع سوره. [سورة الفاتحة (1) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) (1) (1) الرحمن الرحيم: مما قيل في الفرق بينهما أن الرحمن يعني المنعم بجلائل النعم، والرحيم المنعم بدقائقها. ومن ذلك أن الرحمن يعني المنعم بنعم عامة تشمل جميع الناس مؤمنين وكفارا، والرحيم هي خاصة بالمؤمنين. وفي ذلك

في السورة:

أن الرحمن لا يطلق إلا على الله عزّ وجلّ في حين أن الرحيم يمكن أن يطلق على الناس مثل عليم وحكيم وحليم وجميل. وعلى كل حال فممّا لا ريب فيه أن هناك فرقا في اللفظين، وأن هذا ما يفسر حكمة التنزيل في استعمالهما معا. (2) الربّ: لها في القرآن معان عديدة. منها المعبود الرئيسي، ومنها المعبود الثانوي الذي يشرك مع الله، ومنها الرئيس، ومنها صاحب الشيء، وسيد الأشخاص الذين يكونون تحت رعايته، والمتسلط والراعي، والمربي، والحاكم. وهي هنا بمعنى المعبود الرئيسي، وصاحب السلطان الشامل لجميع الأكوان والعالمين. (3) العالمين: هنا كناية عما في الكون من كائنات ومخلوقات. (4) الدين: للدين في القرآن أكثر من معنى وهي هنا بمعنى الجزاء والحساب والقضاء. ويوم الدين كناية عن أول يوم من الحياة الأخروية الذي يحاسب فيه الناس على أعمالهم في الدنيا. (5) الصراط: الطريق. في السورة: 1- تقرير الحمد لله ربّ الأكوان وما فيها من كائنات ومخلوقات. 2- وتقرير لصفات الرحمة الشاملة لله، وملك يوم الجزاء له وحده. 3- وخطاب موجّه من عباده إليه كتعليم لهم بأن يقولوا إنهم يعبدونه وحده ويستعينون به وحده. 4- ودعاء موجه منهم إليه كتعليم لهم، بأن يدعوه أن يهديهم الطريق القويم، وهو طريق الذين أنعم عليهم لا طريق الضالين ولا المغضوب عليهم. أسماء السورة جرت تسمية السور القرآنية على الأغلب بكلمة أو اسم يكون فيها. والاسم المشهور لهذه السورة هو الفاتحة الذي وضعناه عنوانا لها. وهذا الاسم ليس ممّا احتوته السورة من كلمات كما هو ظاهر. والمتبادر أن هذا الاسم اشتهر لأنه جاء

من وضع السورة في مفتتح السور القرآنية في ترتيب المصحف الذي نرجح أنه من متصل بالنبي صلى الله عليه وسلم ثم من أنها مفتتح التلاوة القرآنية في كل صلاة ذات ركوع وسجود. وهناك أسماء أخرى للسورة منها ما ورد في حديث رواه أبو داود والترمذي وصححه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الحمد لله ربّ العالمين أمّ القرآن وأمّ الكتاب والسبع المثاني» «1» . ولقد ذكرت بعض الروايات أن السورة مدنية «2» ، وذكرت رواية أنها نزلت

_ (1) انظر كتاب «التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول» ج- 4، ص 13. وسوف يأتي ذكر هذا الكتاب كثيرا. وتعريفا به نقول إنه من تأليف الشيخ منصور ناصف وهو في خمسة أجزاء. وجمع فيها المؤلف معظم الأحاديث الواردة في صحيحي البخاري ومسلم وسنن أبي داود وجامع الترمذي ومجتبى النسائي. وقد اتفق العلماء على أن الأحاديث الواردة في هذه الكتب هي أوثق وأصح من غيرها وتعتبر عندهم الطبقة الأولى من كتب الحديث. وحين نذكر عبارة الخمسة نعنيهم. وحين نذكر كتب الأحاديث الصحيحة نعني هذه الكتب وهو ما يقوله علماء الحديث. وإن كان بعضهم يحصر وصف (صحيح) في ما جاء في كتابي البخاري ومسلم اللذين ينعتان أحيانا بالشيخين. ويطلق علماء الحديث على كتب الثلاثة الآخرين اصطلاح (أصحاب السنن) وترتيبهم: أبو داود أولا فالترمذي فالنسائي. وحين نذكر هذا الاصطلاح نعني أن الحديث مروي من قبل ثلاثتهم وحينما نذكر رواه الثلاثة نعني البخاري ومسلم وأبو داود. والأربعة يكون الرابع الترمذي. (انظر «قواعد التحديث» للقاسمي ص 225 وما بعدها) . وننبه على أن هناك كتابا آخر هو كتاب «الموطّأ» للإمام مالك وهو أقدم ما وصل إلينا من كتب الحديث تأليفا وصاحبه توفي سنة 170 هـ واحتوى عددا كبيرا من أحاديث النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وتابعيهم ويلحقه كثير من علماء الحديث بالكتب الخمسة. وكثير ممّا ورد فيه ورد في الكتب الخمسة. وننبه في هذه المناسبة على أمر هام وهو أن هناك أحاديث نبوية وصحابية كثيرة أخرى في كتب أئمة آخرين من أئمة الحديث يأتي في مقدمتهم أبو عبد الله القاسم والشافعي وأحمد بن حنبل وابن ماجه والبيهقي والدارقطني والحاكم وغيرهم تروى عن راو عن راو إلى رسول الله أو أصحابه تحتمل الصحة من حيث رواتها ومتونها وكثير منها من باب ما جاء في الكتب الستة. (2) انظر تفسير السورة في «تفسير الآلوسي» و «الإتقان» ج 1، ص 24- 25.

حكم البسملة في مفتتح هذه السورة ومفتتح السور الأخرى

مرتين، مرة في مكة ومرة في المدينة «1» . وأسلوبها ثم التواتر اليقيني بأنها مفتتح التلاوة في كل صلاة والتواتر اليقيني المؤيد بمضامين قرآنية بأن الصلاة كانت تمارس منذ بدء الدعوة حيث احتوت هذه المضامين آيات سورة العلق هذه: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) يسوغ القول بشيء من الجزم أن السورة مكية وهو ما عليه الجمهور. حيث ذكرت كذلك في جميع تراتيب السور المروية، أما رواية نزولها مرتين مرة في مكة وأخرى في المدينة، فنحن نتوقف فيها لأننا لم نر حكمة ظاهرة لذلك. حكم البسملة في مفتتح هذه السورة ومفتتح السور الأخرى لقد اختلفت الأقوال التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل في هذه المسألة. فهناك من قال إن البسملة في هذه السورة آية أصلية خلافها للسور الأخرى وهناك من قال إن البسملة آية أصلية في كل سورة. وهناك من قال إنها ليست آية أصلية لا في هذه السورة ولا في السور الأخرى. وهناك أحاديث يوردها المفسرون في صدد هذه المسألة «2» منها حديث يرويه الدارقطني عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا قرأتم الحمد فاقرأوا بسم الله الرحمن الرحيم فإنها أم القرآن والسبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها» . وحديث يرويه مسلم عن أنس جاء فيه: «كان إذا نزل على رسول الله سورة قال أنزلت عليّ آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم» . وحديث يرويه أبو داود في «سننه» والحاكم في «مستدركه» عن ابن عباس جاء فيه: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم» . وحديث عن ابن مسعود جاء فيه: «كنا لا نعلم فصلا بين سورتين حتى تنزل بسم الله الرحمن

_ (1) «الإتقان» أيضا ج 1، ص 24- 25. (2) انظر تفسير السورة في تفسير ابن كثير والخازن ورشيد رضا مثلا.

الرحيم» ، وحديث رواه الترمذي والحاكم عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجهر بقراءة بسم الله الرحمن الرحيم قبل سائر آيات السورة» . وحديث رواه أبو داود والحاكم عن أم سلمة: «أنه كان يقرأ البسملة مع سائر آيات السورة» . وليس شيء حاسم في الصدد الذي نحن فيه إلّا في الحديث الأول ويظهر أنه لم يثبت عند أصحاب الأقوال الأخرى. وليس في الأحاديث الأخرى حسم بدليل اختلاف الأقوال في المسألة. ومما استدل عليه الذين قالوا إنها آية في كل سورة وضعها في مفتتح كل سورة باستثناء سورة التوبة لسبب خاص سوف نشرحه في مناسبتها. وقال غيرهم إن وضعها هو للتبرك وحسب. والذين قالوا إنها آية أصلية في الفاتحة اعتبروا جملة صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ آية والذين قالوا إنها ليست أصلية قطعوا هذه الجملة إلى آيتين. والجمهور على أن البسملة آية أصلية في هذه السورة دون غيرها. والله تعالى أعلم. وننبه على أن هذا الخلاف لا يمسّ كون جملة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ جزءا من آية أصلية في الآية [30] من سورة النمل. ولقد أورد ابن كثير حديثا في سياق البسملة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «كلّ أمر لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أجذم» «1» . ولقد درج المسلمون منذ النبي صلّى الله عليه وسلّم على أن يبدأوا رسائلهم وكتبهم وعزماتهم وأكلهم وشربهم بالبسملة حتى غدت طابعا مميزا لهم. وهناك من يختصره ويكتفي بجملة باسم الله. حيث رويت أحاديث نبوية يأمر النبي فيها بعض المسلمين بقولها إذا أكلوا أو باشروا عملا أو عثروا «2» .

_ (1) ذكر ابن حجر في فصل تخريج أحاديث تفسير «الكشاف» في الجزء الرابع من هذا التفسير هذا الحديث بفرق يسير وهو بدل (أجذم) (أقطع) مرويا عن أبي هريرة من طريق بشر بن إسماعيل عن الزهري. (2) روى الأربعة عن عمر بن أبي سلمة قال: «كنت غلاما في حجر رسول الله وكانت يدي تطيش في الصّحفة فقال لي يا غلام سمّ الله وكل بيمينك» «التاج» ج 3، ص 106. وروى ابن حجر في الفصل المذكور حديثا رواه أحمد جاء فيه: «كلّ أمر لا يفتتح بذكر الله فهو أبتر أو أقطع» . وقد يكون من هذا الباب حديث آخر رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» التاج ج 1 ص 88. الجزء الأول من التفسير الحديث 19

خطورة شأن الفاتحة

خطورة شأن الفاتحة ولقد أكثر المفسرون القول في صددها ومداها وبركاتها «1» . وقالوا فيما قالوه إنها احتوت رموزا لكل ما جاء في القرآن من مواضيع. ففيها التوحيد وفيها الثناء على الله وتقرير ربوبيته العامة وفيها العبادة لله والاستعانة به. وفيها إشارة إلى اليوم الآخر، وإشارة إلى الأمم على اختلافها من مهتدين ومغضوب عليهم وضالين. وفيها إشارة إلى ملكوت الله وما فيه من عوالم إلخ. ورأوا فيها من أجل ذلك كله براعة استهلال رائعة للقرآن وعنوانا لمواضيعه. ولمحوا من هذا حكمة جعلها في ترتيب المصحف فاتحة القرآن وفي الصلاة مفتتح التلاوة وتكرارها في كل ركعة. ولعل في كل هذا تدعيم لأولية نزولها كسورة تامة ولا سيما أنها لا تحتوي إشارة ما إلى وقائع السيرة التي وقعت بعد أن سار النبي صلّى الله عليه وسلّم شوطا ما في الدعوة، وأن ما فيها هو تعليم وتلقين عامان مما يصح أن يكون طابع الآيات والسور الأولى. وأسلوب السورة يلهم أنها بسبيل تعليم المسلمين ما يجب عليهم من حمد الله وعبادته وطلب الهداية منه. وفيها تلقينات جليلة: فالإله الذي يؤمن به المسلمون هو ربّ جميع العالمين ورحمته شاملة عامة. وهو ملك يوم الآخرة. وعليهم أن يفرغوا أنفسهم وقلوبهم من غيره فلا يخضعوها لأحد ولا يبالوا في الحق أحدا. لأنه هو النافع والضار والخالق والرازق والشامل برحمته جميع الخلق. وهم مدينون له في حياتهم ومماتهم وهدايتهم ورزقهم وكيانهم وفي هذا ما فيه من إنقاذ المسلم وروحه من تأثير غيره فيه، وبثّ القوة والاعتماد والكرامة فيه. والصراط المستقيم يصح أن يكون الطريق القويم في أمور الدين والدنيا معا. فالإيمان بالله وبما جاء به رسوله هو طريق قويم. والقيام بالواجبات التعبدية هو

_ (1) لا يكاد يخلو كتاب تفسير قديم وحديث من شيء من ذلك، فلم نر ضرورة إلى تعيين مصادر للأقوال.

طريق قويم. والتزام الصدق والوفاء وسائر مكارم الأخلاق هو طريق قويم، وكل ما يغاير هذا هو طريق أعوج لا يسير فيه إلّا الضالون والمستحقون لغضب الله. وهناك أحاديث نبوية وردت في كتب الأحاديث الصحيحة في خطورة هذه السورة ووجوب قراءتها في كل ركعة من كل صلاة. منها حديث رواه الخمسة عن عبادة بن الصامت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» «1» ، وحديث رواه الخمسة إلّا البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ الكتاب فهي خداج ثلاثا غير تمام. قيل لأبي هريرة: إنّا نكون وراء الإمام، فقال: اقرأ بها في نفسك» «2» . وحديث رواه البخاري وأبو داود والترمذي عن أبي سعيد بن المعلّى قال: «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ألا أعلّمك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد، فأخذ بيدي فلمّا أردنا الخروج قلت له: يا رسول الله إنّك قلت لأعلّمنّك أعظم سورة في القرآن، قال: الحمد لله ربّ العالمين، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» «3» . وحديث رواه مسلم عن ابن عباس قال: «بينما جبريل قاعد عند النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سمع نقيضا من فوقه فرفع رأسه فقال هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قطّ إلّا اليوم فنزل منه ملك فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قطّ إلّا اليوم فسلّم فقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبيّ قبلك: فاتحة الكتاب وخواتم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلّا أعطيته» «4» . وحديث رواه الخمسة إلّا البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين. ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد: الحمد لله ربّ العالمين قال الله: حمدني عبدي. وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: أثنى عليّ عبدي. وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجّدني عبدي. فإذا قال: إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، قال:

_ (1) التاج ج 1، ص 156. (2) انظر المصدر نفسه. (3) التاج ج 4 ص 13- 14. (4) انظر المصدر نفسه.

تعليق على موضوع الأحاديث القدسية

هذا بيني وبين عبدي. ولعبدي ما سأل. فإذا قال: اهدنا الصّراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضّالين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» «1» . تعليق على موضوع الأحاديث القدسية وهذا الحديث الأخير مما يسمى في اصطلاح علماء الحديث بالحديث القدسي، لأن الكلام فيه مروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الله عز وجل، وبهذه المناسبة نقول إن هناك أحاديث كثيرة مروية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم عن جبريل عن الله عز وجل، أو عن النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الله عز وجل. ومنها ما ورد في الكتب الخمسة. ومن واجب المؤمن أن يؤمن ويصدق بكل ما ثبت صدوره عن النبي صلّى الله عليه وسلم. ولما كان القرآن يبلّغ عن الله تعالى بواسطة الوحي الرباني أو جبريل عليه السلام فقد تكون مسألة الأحاديث القدسية موضع سؤال عن الفرق بين الوحي بالحديث القدسي والوحي بالقرآن، وحكمة ذلك. ولما كان هناك كما قلنا أحاديث قدسية صحيحة فالذي يمكن أن يقال في صددها أنها هي الأخرى من سرّ النبوة مثل سرّ الوحي القرآني الذي لا يدرك بالعقول العادية ويجب الإيمان به لأنه ثابت بنص القرآن والحديث النبوي مع فارقين أو لهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يفرق بين الحديث القدسي وبين الوحي القرآني، فيأمر بتدوين الوحي القرآن حال نزوله ويبلّغه كقرآن، ويخبر بالحديث القدسي إخبارا مرويا عن الله ولا يأمر بتدوينه بل كان يدخل في متناول النهي النبوي كتابة غير القرآن حيث روى مسلم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تكتبوا عني غير القرآن ومن كتب شيئا فليمحه» . ومن الحكمة الملموحة في هذا الحديث الحرص على عدم اختلاط أي كلام غير قرآني بالقرآن. وهو أمر ذو دلالة خطيرة في صدد عمق اليقين النبوي بالوحي القرآني وتمييزه عن أي معنى آخر

_ (1) التاج ج 4، ص 32- 33.

تعليق على كلمة (الله) جل جلاله

يحبك في صدر رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويحدث به أصحابه، أو أي معنى آخر يوحي الله به إليه أو يلهمه إياه ويحدث به أصحابه دون أن يتصف بأنه قرآن. وهذا يشمل كما هو المتبادر الأحاديث القدسية التي يحدث بها النبي صلى الله عليه وسلّم عن الله تعالى والأحاديث العادية التي كان يقولها لأصحابه في مناسبة ما. ويبدو ذلك السرّ وهذه الدلالة الخطيرة أقوى صورة إذا لوحظ أن السنن النبوية القولية والفعلية واجبة الاتباع مثل القرآن وهي مصدر التشريع الإسلامي مثله وكل ما في الأمر أنها تأتي بعده «1» . ولقد جاء في سورة النساء هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) ، والقرآن يمثل الله تعالى والحديث يمثل رسوله بعد موته. وفي ذلك السر وهذه الدلالة ردّ مفحم على الأغيار الذين ينسبون القرآن إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم. أما الفارق الثاني فهو أن أسلوب الأحاديث القدسية مماثل لأسلوب الأحاديث النبوية العادية أي أسلوب مخاطبة عادية دون أسلوب القرآن من حيث التقطيع والتوازن والتركيز في أواخر المقاطع أو الآيات كما هو ملموح في الحديث الذي أوردناه عن أبي ذر وفي غيره مما سوف نورده في مناسبات أخرى والله تعالى أعلم «2» . تعليق على كلمة (الله) جلّ جلاله وبمناسبة ورود اسم الجلالة (الله) لأول مرة في البسملة والسورة نقول إن من المفسرين «3» من قال إن الكلمة مضعفة أو معدلة من لفظ (إله) وإنها من جذر (أله)

_ (1) انظر كتاب «السنة» للسباعي ص 72. (2) انظر «قواعد التحديث» للقاسمي ص 39- 45 ففيها بحث واف عن الأحاديث القدسية ومداها. [.....] (3) انظر تفسير الفاتحة في تفسير الطبري والزمخشري والطبرسي والخازن وغيرهم.

بمعنى عبد أو (وله) بمعنى حار من شدة الوجد أو (لاه) بمعنى سكن إلى الشيء. ومما قاله بعضهم إن كلمة (اللاة) المعبود الجاهلي المشهور المذكور في سورة النجم هي مؤنث (الله) . ويقتضي القول الأخير أن تكون كلمة (اللاة) عربية فصحى أصلا مع أن هذه الكلمة قرئت بصيغ متنوعة متقاربة مثل (اللاتو) و (اللت) و (هاللت) على آثار قديمة بابلية ونبطية وثمودية وتدمرية ولحيانية «1» قبل البعثة بأمد طويل قد يصل إلى ألفي عام ولا يقل عن أربعمائة عام أي قبل أن تصبح اللغة العربية فصحى مثل لغة القرآن وعصر النبي صلّى الله عليه وسلّم. ولما كانت لغة البابليين والثموديين واللحيانيين والأنباط والتدمريين واللغة العربية الفصحى من أصل قديم واحد فلا يبعد أن يكون أصل الكلمة يعني الربّ المعبود وأن تكون من جذر من الجذور السابقة الذكر. وأن تكون كلمة (الله) الفصحى هي تطور من ذلك. وفي اللغات العربية القديمة وردت كلمة (ايل) بمعنى الله أو الإله أو المعبود. وكانت تطلق على المعبود الأعظم أحيانا وعلى بعض المعبودات أحيانا في بلاد اليمن والعراق والشام قبل البعثة النبوية بمئات السنين. وكانوا يضمون إليها كلمات متنوعة ويسمون أنفسهم بها تسجيلا لعبوديتهم للمعبود الذي كانت ترمز إليه. ومن ذلك يسمع ايل (إسماعيل) ويصدق ايل وحي ايل وباب ايل وإسرائيل. وقد يكون من هذا الباب جبرائيل وميكائيل وعزرائيل وإسرافيل إلخ ... فليس من المستبعد أن تكون كلمة (الله) في الفصحى وكلمة (اللاة) تطورا عن تلك الكلمات وأن يكون أحد الجذور المذكورة مشتركة بين هذه اللغات وأن تكون الكلمة من أحدها. وفي اللغة العبرانية التي هي شقيقة من شقائق اللغة العربية كلمة (الوهيم) بمعنى الآلهة حيث يبدو من ذلك صورة من صور تطور الكلمة من أحد تلك الجذور.

_ (1) انظر «تاريخ العرب قبل الإسلام» جواد علي ج 5، ص 72 وما بعدها.

تعليق على مدى جملة رب العالمين

وعلى كل حال فإن كلمة (الله) قد غدت في اللغة العربية الفصحى قبل الإسلام علما على القوة العظمى العاقلة الخالقة المدبرة الرازقة المحيية المميتة، أو اسما رئيسيا وأصيلا لها. وقد كان العرب يستعملونها في هذه الدلالة على اعتبار أنه لا بدّ لهذا الكون العظيم البديع من صانع عاقل حكيم مدبر والدينونة له بالعبودية والعبادة. وكانوا يعبدونه ويحلفون بكلمتي (الله) و (اللهم) ويسمون أنفسهم (عبد الله) للدلالة على ذلك. وإن كانوا يشركون معه شركاء للتقرب إليه والاستشفاع بهم عنده مما حكته آيات قرآنية كثيرة كثرة تغني عن التمثيل. ولقد استعمل القرآن هذا اللفظ علما أو اسما رئيسيا على تلك القوة أيضا. وورد فيه لحدته أحيانا ومع صفات الله وأسمائه الحسنى أحيانا. ومع تقرير وجوب وجود القوة العظمى التي يرمز إليها ووجوب الاعتقاد بها وشمول ربوبيتها ووجوب الدينونة لها بالعبادة والخضوع، والإخلاص لها وحدها، ووجوب تنزيهها عن أية شائبة ومماثلة وشراكة بأي اعتبار كان، ووصفها بجميع صفات الكمال مما احتوت تقريره والتدليل عليه آيات كثيرة كثرة تغني عن التمثيل كذلك. ومما غدا الطابع المميز للعقيدة الإسلامية. وقد جرى المسلمون على إطلاق لفظ (الجلالة) على الله تقويا وتعظيما. تعليق على مدى جملة رَبِّ الْعالَمِينَ في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم والتي كتبت بأقلام بشرية بعد موسى عليه السلام تكرر وصف الله تعالى برب إسرائيل وإله إسرائيل، وتكررت حكاية أقوال بني إسرائيل بأن الرب رب إسرائيل والإله إله إسرائيل على معنى الاختصاص والحصر حتى صار ذلك عندهم عقدة وعقيدة. وبلغ الأمر بهم أنهم رفضوا أن يشترك أهل منطقة السامرة في فلسطين الذين كانوا يدينون بالدين الموسوي في تجديد معبد أورشليم حين سمح لهم كورش ملك الفرس بالعودة من بابل إلى أورشليم وتجديد المعبد. فقد حكى سفر نحميا أحد أسفار الكهنة القديم أن أهل

تعليق على الحياة الأخروية

السامرة جاؤوا إليهم وقالوا لهم نبني معكم معبد الرب الذي نعبده مثلكم فرفضوا وقالوا لهم إننا نبني معبد إله إسرائيل. وهذا من دون ريب تحريف وتشويه للحق والحقيقة بكون الله عز وجل رب جميع الأكوان والمخلوقات. ومن هذا الاعتبار فإن تقرير هذا المعنى لله عز وجل في أولى سور القرآن يصح أن يعتبر تصحيحا ربانيا لذلك النشوز والتحريف، ووضعا للأمر في نصاب الحق المحكم ليكون عقيدة الدين الإسلامي الذي شاء الله سبحانه أن يكون دين الناس جميعهم على اختلاف أجناسهم وألوانهم وبلادهم ولغاتهم. ووعد أن يظهره على الدين كله كما جاء في هذه الآية من سورة الفتح: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) «1» . تعليق على الحياة الأخروية ويَوْمِ الدِّينِ في الآية الثالثة يعني يوم القضاء بين الناس ويوم جزائهم على أعمالهم. والمقصود منه هو الحياة الأخروية التي يبعث الناس فيها ويقفون في يومها الأول أمام ربهم عز وجل ليحاسبوا على ما فعلوه في الدنيا ويجزوا عليه. وهذه أولى إشارة إلى هذه الحياة، تأتي في أولى سور القرآن التي يجب تلاوتها في كل ركعة من ركعات كل صلاة مما يسبغ عليها مغزى هام وخطير. ثم توالت الإشارات إليها بأساليب متنوعة حتى شغلت حيزا عظيما في القرآن وحتى يمكن أن يقال إنها ذكرت في معظم سوره بإسهاب حينا واقتضاب حينا آخر. وصار الإيمان بها بمقتضى النصوص القرآنية ركنا من أركان الإسلام كما ترى في آية سورة البقرة هذه: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ

_ (1) تكرر هذا مرتين بتوكيد أقوى في سورتي الصف والتوبة بصيغة مماثلة تقريبا في الآيات 32- 33 من سورة التوبة و 8- 9 من سورة الصف. وهذا نصّ آيات سورة التوبة: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) .

وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ ... [177] ، وهذه الآية في سورة النساء: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً (136) ، وحتى صارت تشغل حيزا كبيرا في القرآن وخاصة في المكي منه بحيث يمكن أن يقال إنها كانت من أقوى وسائل الدعوة وتنبيه الناس وحثّهم على الإيمان بالله وحده والعمل الصالح وتحذيرهم من الآثام والمنكرات والفواحش. ولقد احتوت الآيات القرآنية فيما احتوته بيانا للأهداف والمقاصد يمكن تلخيصها بأن الله تعالى لا يمكن أن يكون خلق الكون عبثا وأن حياة الإنسان الذي شاء أن يكون أكمل مخلوقاته الأرضية عقلا لا يمكن أن تكون قاصرة على الزمن القصير الذي يحياه في الدنيا. وأنه لا بد من أن يكون لها تتمة أكمل وأفضل وأدوم يسود فيها أهل الإيمان والحق والعدل والخير وينخذل فيها أهل الجحود والباطل والظلم والشر. وأنه لا يتسق مع عدل الله أن يفلت الشرير مما يرتكبه من الآثام التي كثيرا ما ينجو من عواقبها في الدنيا ومن عقاب جحوده لخالقه وما أسبغه عليه من نعم. وأن يذهب عمل المؤمن الصالح وما قد يناله في سبيل الحق والخير من أذى وحرمان كثيرا ما لا ينال عليه مكافأة في الدنيا هدرا وهباء. وأن يكون الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالجاحدين لله المفسدين في الأرض والمتقون كالفجار. وأن حكمة الله اقتضت من أجل ذلك تلك التتمة المسماة بالحياة الأخرى. يرجع فيها الناس إلى ربهم ويكافأ فيها المؤمن المحسن، ويعاقب فيها الجاحد المسيء. والمؤمن بالله الذي ينعم النظر في مشاهد الكون ونواميسه ويلمس فيها ما يذهب بلبّه ويملك عليه مشاعره من العظمة والإتقان والنظام واجد كل الطمأنينة والحق في هذه المقاصد والأهداف. وواجد أن الحياة الأخروية ليست مما يخرج عن نطاق قدرة الله مبدع هذا الكون ومدبره وحكمته السامية. ومن المتبادر بالإضافة إلى ما تقدم أن فكرة الحياة الأخروية وثوابها وعقابها تنطوي على الحافز

على الخير والوازع عن الإثم. فالذين لا يخافون الآخرة وحسابها ولا يعتقدون بها قلّما يأبهون للحق والخير في شتى مجالاتهما. ويندفعون فيهما اندفاعا ذاتيا وجدانيا دون انتظار مقابلة أو جزاء في الدنيا، وقلما يتورعون عن الإثم والمنكرات والفواحش إذا ما تيقنوا من النجاة من العقوبة وأمنوا منها في الدنيا. وفي هذا ما فيه من مقاصد صلاح الإنسانية وخيرها على مختلف المستويات. وفي القرآن آيات عديدة تتضمن ذلك صراحة وضمنا، مثل آية سورة النحل هذه: إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) [22] ، وآيات سورة المؤمنون هذه: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61) وآية سورة المؤمنون هذه: وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74) . وهذا يعني فيما يعنيه أن الإيمان بالآخرة يجعل صاحبه يتحمل المكاره ويصبر على الشدائد ويقوم على التضحية بماله ونفسه في سبيل الله والحق دون أن يهتم كثيرا لما قد يصيبه أو يناله من جزاء دنيوي أو حرمان أو أذى أو نكران لأنه يعتقد أنه سوف يستوفي جزاءه على أوفى ما يكون في ذلك اليوم أكثر بكثير من غير المؤمن بها وعلى أي مستوى. ونحن نعرف أن من الذين لا يؤمنون بالآخرة من يقول أنه ليس لفكرتها التأثير الخلقي العميق، لأنها سبب خارجي أو نظري ليس من كيان النفس وأعماق الضمير. وإن أقل صدمة لهذا السبب تجعل ما أوجده من الحافز والوازع عدما. وإن تربية الناس تربية خلقية عميقة نافذة هي التي تستطيع أن تكون الحافز والوازع الذاتيين. وينسى القائلون- ونقول هذا من قبيل المساجلة- أن الأمل في هذه التربية وشمولها خيال مستحيل التحقيق بالنسبة لجميع البشر أو جمهورهم أو لكثرة ما منهم. وإنه إذا أمكن أن تكون في أناس فإنهم من الندرة والقلة في الدرجة التي لا يكون منها أي أثر إيجابي محسوس بالنسبة للمجموع، بل إن هناك ظروفا

اجتماعية ونفسية يفقد فيها الحافز والوازع في هذه الطبقة القليلة النادرة، وتصبح تحت حكم الغرائز والطبائع البهيمية. هذا إلى أن الكثرة العظمى من المجتمع لا يمكن أن تستغني عن حافز ووازع مؤثرين وما اضطرار الهيئات الحاكمة في الجماعات وما اضطرار الهيئات الاجتماعية إلى وضع القوانين والحدود والتقاليد إلا مظهر من مظاهر هذه الحاجة وتثبيت لها. ولم يقل أحد إنه ليس من حاجة إلى هذه القوانين والحدود لمنع الناس من الشذوذ والبغي والآثام وحفزهم على العمل الصالح والاستقامة على طريق الحق. وإن هذا وذاك يمكن التحقق ذاتيا. وما دامت التجربة قد أثبتت أن كثيرا من الأفراد ينزعون إلى التفلّت من القوانين والتقاليد والقيود ومعاكستها بشتى الأساليب تحقيقا لمنافعهم وأهوائهم الخاصة حينما يأمنون المغبة ولا يقبلون على الخير لذاته ولا يستقيمون على طريق الحق، إذا أمنوا اللوم والمهانة والحرج والخطر فإن الحاجة تظل ماسة إلى حافز ووازع أقوى تأثيرا وأعمق أثرا في النفوس من القوانين والتقاليد يجعلان المرء رقيبا على نفسه ولو لم يكن عليه رقيب ويحملانه على الرهبة من الإثم والشر والشذوذ والرغبة في المعروف والخير والاستقامة في حال سرّه وعلنه وفي داخل نفسه وأعماقها. والإيمان بالآخرة وثوابها وعقابها هو الذي يستطيع أن يسد هذه الحاجة. وإذا كان كثير من المؤمنين بالآخرة ينزعون أيضا إلى الإثم والشر ولا يندفعون إلى الخير فإن غير المؤمنين أكثر نزوعا إلى التفلّت من وازع الضمير ووازع الرهبة من القوانين والتقاليد لأن أثرا ما من إيمان المؤمنين والخوف من الحساب الأخروي يظل في هؤلاء قد يوقظهم في لحظة ما ويجعلهم يندمون ويثوبون ويصلحون ... بينما لا يكون في الجاحدين أثر من شيء ما داموا مستطيعين التفلت من العقوبة المانعة والفوز بالمنفعة الذاتية. ويمكن أن يضاف إلى هذا أمر خطير آخر وهو ما تكون عليه قلوب ونفوس الجاحدين من فراغ ويأس وحيرة وقلق وتساؤل لا جواب عليه من أمر هذه الحياة

التي يحيونها بدون غاية ومدى بدءا وسيرة ونهاية. في حين أن المؤمنين بالله واليوم الآخر تكون قلوبهم مطمئنة بحكمة الله السامية في خلقهم وحياتهم وسيرتهم ومماتهم ويملأ نفوسهم الأمل بتتمة أفضل وأسعد لكل ذلك. ولقد قلنا إننا نقول هذا من قبيل المساجلة وحسب، وإلّا فإن فكرة الآخرة متصلة أشد الاتصال بفكرة الإيمان بالله وعظمته وعدله وقدرته وحكمته. ثم هي متصلة بما في أعماق النفس البشرية من فكرة الدين. وبما تثيره عظمة الكون وبدائعه ونواميسه في هذه النفس من يقين عميق ذاتي بوجود واجب الوجود وعظمته وحكمته وعدله واستحالة أن يكون خلق ما خلق من أكوان ومخلوقات عبثا لا يكاد يستطيع أن يتفلت منها أحد حتى الذين يظنون أحيانا أنهم استطاعوا التفلت منها وبخاصة في وقت الرخاء والسعة حيث إنهم لا يشعرون إلّا وهم تحت تأثيرها حينما تلمّ بهم النائبات وتجتاحهم الأخطار. ولقد كانت الحياة الأخروية كما قلنا من أكثر ما دار حولها الجدل بين النبي صلّى الله عليه وسلّم والكفار على ما حكته الآيات الكثيرة جدا. وكان ذلك من أسباب هذه الكثرة على ما هو المتبادر. ولقد احتوت ردودا متنوعة على جحود الكفار المتنوع الصور والأساليب للحياة الأخروية فيها توكيد وبراهين على قدرة الله على ذلك وحكمته السامية المتوخية للحقّ والعدل في هذه الحياة. وقد جاءت بأساليب نافذة إلى أعماق النفوس والقلوب باعثة أشد اليقين فيها بحقيقة هذه الحياة على ما سوف ننبه عليه في مناسباته الآتية. هذا، ويلحظ أولا أن كثيرا من الآيات التي ذكرت فيها الحياة الأخروية قد جاءت بأساليب تلهم أنها بالإضافة إلى حقيقتها الإيمانية استهدفت في جملة ما استهدفته الترغيب والترهيب وحمل الناس على الإيمان بالله وحده واليوم الآخر، والتزام ما رسمه من حدود وأحكام من الإقبال على الخير والعدل والحق والابتعاد عن الشر والظلم والباطل، كما جاء مثلا في آيات سورة الزمر هذه: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ

الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16) ، وآيات سورة الشورى هذه: تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ... [22- 23] ، وفي سورة طه آية مهمة في هذا الباب وهي: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) . ويلحظ ثانيا أن مشاهد الحياة الأخروية وأهوالها وحسابها وثوابها وعقابها في القرآن متساوقة مع مألوفات الناس في الحياة الدنيا مما يتمثل في آيات لا تكاد تحصى كثرة. والإيمان بكل ما ورد في القرآن وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم من المشاهد الأخروية على مختلف أنواعها وكونه في نطاق قدرة الله عز وجل واجب مع واجب الإيمان بأنه لا بدّ من أن يكون للأسلوب والعبارات التي ذكرت بها تلك المشاهد حكمة، ولعل من ذلك قصد التأثير في النفوس التي لا تتأثر إلّا بما تعرفه وتحس به والله أعلم. وننبّه على أن هناك أحاديث نبوية واردة في كتب الأحاديث الصحيحة المشهورة وغيرها في صور مشاهد الحياة الأخروية على أنواعها متساوقة مع ما ورد من ذلك في القرآن. وقد أجّلنا إيرادها إلى مناسبات آتية أكثر ملاءمة. والحياة الأخروية ليست عقيدة إسلامية فقط، بل هي عقيدة مشتركة بين جميع الأديان والنحل والملل وفي جميع الأدوار البشرية. ومنها ما شملت هذه الحياة ومشاهدها ونعيمها وعذابها حيزا غير يسير فيها يشبه ما ورد عنها في النصوص الإسلامية. غير أن وصفها بالأوصاف والسعة التي جاءت في القرآن هو من الخصوصيات القرآنية لأنها لم ترد بسعة وصراحة وتركيز إلّا في القرآن. وليس من ذلك في أسفار اليهود والنصارى المتداولة اليوم إلّا إشارات غامضة ومقتضبة وخاطفة.

والجاحدون للحياة الأخروية يركزون على ناحية من أمر هذه الحياة وهي أنها تجعلهم ينفضون أيديهم من الحياة الدنيا ويعتبرون أنفسهم عابري سبيل فيها. ونقول إنهم بالنسبة للمسلمين يقيسون الأمر على الواقع الذي لا يتحمل الإسلام والقرآن مسؤوليته. فكل ما في القرآن حتى العبادات من صلاة وصيام وحج هادف إلى صلاح الإنسان في الحياة الدنيا على ما سوف نشرحه في مناسباته. وحتى الحياة الأخروية نفسها قد انطوت على هذا الهدف على ما مر شرحه. وصلاح الإنسان في الدنيا أمر عام يشمل كل شيء، ولقد: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [النور/ 55] ، والصالحات التي قرنت بالإيمان كل شيء يجعل المسلمين صالحين لهذه الخلافة من علم وعمل وعزة وكرامة وقوة وتقدم في كل مجال من مجالات الحياة. وكل هذا هو عماد النجاح للاستخلاف في الأرض والتمكن منها. ولا يصح أن يكون الله قد رشحهم لذلك ويرضى منهم أن ينفضوا أيديهم منه بطبيعة الحال. ولقد توقع الله منهم أن يكونوا عند هذا حينما هتف بهم: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) [آل عمران/ 104- 105] ، وكُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران/ 110] ، والَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج/ 41] ، والمعروف هو كل ما فيه خير ونفع ومصلحة وعزة وكرامة وعدل واستقامة وصلاح وحق. والمنكر هو كل ما فيه أضداد ذلك. وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة/ 143] ، أي حاملي مشعل الهداية لهم والخير العادل المستقيم على الحق الذي برىء من الإفراط والتفريط والغلوّ والتقصير.

وقد استكبر الله تحريم طيباته وجعل للمسلمين حقهم فيها مثل غيرهم في الدنيا مع اختصاصهم بها في الآخرة: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) [الأعراف/ 32] . ويحسن أن ننبه في هذه المناسبة على نقطة هامة، وهي أن الوعد والوعيد في القرآن للمؤمنين الصالحين المتقين والجاحدين والآثمين الباغين ليسا قاصرين على الحياة الأخروية. ففيه آيات كثيرة وعد فيها الأولون بالحياة السعيدة الرضية والآخرون بالخيبة والشقاء والعذاب في الحياة الدنيا أيضا. حيث يبدو من هذا تساوق حكمة التنزيل مع الحاجات النفسية العاجلة والآجلة معا لتحقيق أهدافها بصلاح البشر وسعادتهم في الدنيا والآخرة. والآيات في ذلك كثيرة كما قلنا فنكتفي بالأمثلة التالية: 1- وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف/ 96] . 2- وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ [النحل/ 30] . 3- أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ [النحل/ 45] . 4- وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [النور/ 55] . هذا، وبعض الذين ينحون في تأويل الآيات القرآنية تأويلا باطنيا أو صوفيا يذهبون إلى تأويل الحياة الأخروية وآياتها إلى مذهب يتناسب مع نحوهم حتى

تعليق على جملة المغضوب عليهم ولا الضالين

يصل أمرهم إلى إنكارها كما جاء خبرها وتفصيلاتها بالعبارات الصريحة القرآنية. وهذا لا يستقيم لا من حيث اللغة ولا من حيث مقاصد الله عز وجل المبينة في كثير من الآيات بصراحة قطعية لا تتحمل أي تأويل غير تأويل الحياة الأخروية الفعلية بعد الموت. فضلا عن هذه الحياة بهذا الوصف من عقائد البشر التي كانت عامة شاملة وقت نزول القرآن. وحمل الآيات القرآنية على غير ذلك شطح بل هذيان، والله تعالى أعلم. ومن الذين يؤمنون بالحياة الأخروية من يرى أنها ستكون حياة روحية أو عالما روحيا لا جسديا. وآيات القرآن صريحة صراحة قطعية بأن البعث سيكون بالجسد أيضا. وإنكار ذلك أو التمحّل فيه مراء إزاء هذه الصراحة. ولقد أنكر ذلك الكفار فردّ عليهم ردا قويا في آيات كثيرة وبأساليب متنوعة، وواجب المؤمن أن يؤمن بما جاء بالقرآن بدون تمحل ولا مراء وأن يؤمن بأن ما ورد فيه هو في نطاق قدرة الله وأن لا يقيس الأشياء بعقله وأن يكل ما يعجز عن إدراكه إلى الله عز وجل. وسنزيد هذا الموضوع شرحا في مناسبات آتية، والله تعالى أعلم. تعليق على جملة الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ وكثير من المفسرين فسروا المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى والصراط المستقيم بالدين الإسلامي. ورووا حديثا مرفوعا بأن اليهود هم المغضوب عليهم والنصارى هم الضالون «1» . وهناك حديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم رواه الإمام أحمد وابن حبان والترمذي عن عدي بن حاتم جاء فيه: «اليهود مغضوب عليهم والنّصارى ضالّون» «2» . والذي نلاحظه أن السورة أولى سور القرآن نزولا

_ (1) انظر مثلا تفسير السورة في تفسير المنار والطبرسي والزمخشري والطبري وابن كثير. (2) انظر «التاج الجامع» ، ج 4 ص 33.

وعلى الأقلّ من أبكر ما نزل من القرآن. والقرآن المكي قد جرى على ذكر أهل الكتاب اليهود والنصارى إجمالا بأسلوب محبب وعلى سبيل الاستشهاد بهم على صحة رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم وصدق الوحي القرآني. وذكرت آيات عديدة فيه خبر إيمانهم وإظهار الخشوع والخضوع حينما كان يتلى عليهم كما ترى في الأمثلة التالية: 1- أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [الأنعام/ 114] . 2- فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ [يونس/ 94] . 3- وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الرعد/ 36] . 4- قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) [الإسراء/ 107- 109] . 5- الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) [القصص/ 52- 53] . 6- وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [العنكبوت/ 47] . 7- وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) [السجدة/ 23- 24] . 8- قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأحقاف/ 10] . الجزء الأول من التفسير الحديث 20

حيث يلهم كل ذلك أن المسلمين كانوا يعتبرون أنفسهم والكتابيين حزبا واحدا. والمستفاد من نصوص الآيات القرآنية المدنية أن مواقف الصدّ والجحود والمناوأة والعداء من جمهرة اليهود، ومن بعض فئات النصارى إنما كانت بعد الهجرة. ولهذا كله نقول إن الحديث مدني وإذا صحّ فإنه يكون من قبيل تطبيق مدى الآية على اليهود والنصارى الذين كابروا وعاندوا تطبيقا مؤخرا من حيث إن اليهود فعلوا ذلك عن بينة وعلم فاستحقوا غضب الله الذي سجلته عليهم آيات مدنية عديدة مثل آيات سورة البقرة هذه: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) ومن حيث إن النصارى فعلوا ذلك عن ضلال مما انطوى في آيات عديدة منها آيات المائدة هذه: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) . ولقد كان استدلال المفسرين على أن المقصود من الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ هم اليهود من الآيات التي سجل فيها غضب الله عليهم والتي أوردناها آنفا. وعلى أن المقصود من الضَّالِّينَ هم النصارى من آية في سورة المائدة جاءت بعد آيات كان موضوع الكلام والخطاب فيها النصارى وعقيدتهم في المسيح وأمّه وهي هذه:

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77) [المائدة/ 77] وهذه الآيات مدنية حيث ينطوي في هذا تدعيم لما قلناه من أن القول هو من قبيل التطبيق في العهد المدني نتيجة لمواقف النصارى واليهود في هذا العهد، والله أعلم. وبناء على ذلك يتبادر لنا والله أعلم أن جملة الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ في أولى سور القرآن قد تضمنت التنبيه على أن صنوف الناس عند الله ثلاثة، صنف أنعم الله عليه فاهتدى وسار على طريقه المستقيم. وصنف انحرف عن هذا الطريق عن علم ومكر واستكبار فاستحق غضب الله. وصنف انحرف عن هذا الطريق ضلالا بغير علم وبينة ثم ظل منحرفا دون أن يهتدي بما أنزل الله على رسله فلزمته صفة الضلالة. والتصنيف رائع جليل شامل. وفي القرآن الذي جاءت سورة الفاتحة براعة استهلال له صور متنوعة منه في صدد أهل الكتاب وغيرهم. وقد أوردنا آنفا بعض الآيات بالنسبة لأهل الكتاب. وهذه بعض آيات بالنسبة لغيرهم: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر/ 42- 43] ، وفي هذه الآيات نموذج لمن ينحرف مكرا واستكبارا. وهذه آيات فيها نماذج عن الضلال بغير علم والاستمرار فيه: فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) [الأعراف/ 30] ، ويَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) [الحج/ 12- 13] . والأمثلة كثيرة سوف تأتي في السور الآتية فنكتفي بما تقدم.

بعض أحاديث واردة في واجب حمد الله تعالى في مناسبة جملة الحمد لله رب العالمين

بعض أحاديث واردة في واجب حمد الله تعالى في مناسبة جملة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ومع أن جملة الْحَمْدُ لِلَّهِ هي تقرير رباني مباشر بما الله تعالى أهل له وحده من الحمد فقد أورد المفسرون في سياق الجملة أحاديث عديدة فيما يجب على المسلم من حمد الله تعالى. منها حديث رواه الإمام أحمد عن الأسود بن سريع قال: «قلت يا رسول الله ألا أنشدك محامد حمدت بها ربي تبارك وتعالى؟ فقال: أما أن ربّك يحب الحمد» . وحديث رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن جابر بن عبد الله قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله» . وحديث رواه ابن ماجه عن أنس بن مالك قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد لله إلّا كان الذي أعطي أفضل مما أخذ» والأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. ولكن هذا لا يمنع صحتها، والتعليم والتنويه اللذان ينطويان فيها حقّ واجب على كل مسلم في كل ظرف ومناسبة. التأمين بعد الآية الأخيرة من السورة ولقد جرى المسلمون جيلا بعد جيل على أن يقولوا (آمين) بعد سماع الآية الأخيرة من السورة وتلاوتها وليست هذه الكلمة من السورة. وإنما كان ذلك سنّة نبوية قولية وفعلية. حيث روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن وائل بن حجر قال: «سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ فقال آمين مدّ بها صوته» . وحيث روى أبو داود عن أبي هريرة قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا تلا غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ قال آمين حتى يسمع من يليه من الصفّ الأول» «1» . وحيث روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أمّن الإمام فأمّنوا فإنّه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر الله ما تقدّم من ذنبه» «2» .

_ (1) «التاج» ، ج 1، ص 164. (2) انظر المصدر نفسه.

تعليق على تفسير شيعي باطني لكلمة الصراط

ومع أن المتبادر أن معنى آمين هو دعاء بالاستجابة فقد روى الزمخشري حديثا عن ابن عباس أنه سأل النبي عن معناها فقال له: (افعل) . وقد روى كذلك في خطورة آمين وفي تعليم قولها للنبي من قبل جبريل حديثين آخرين واحد منهما عن أبي هريرة جاء فيه: «قال النبيّ آمين خاتم ربّ العباد على عباده المؤمنين» . وثانيهما عن أبي ميسرة التابعي جاء فيه: «أقرأ جبريل النبيّ فاتحة الكتاب فلما قال وَلَا الضَّالِّينَ قال له قل آمين فقال آمين» «1» . وبعض هذه الأحاديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة ولكنه ورد في كتب حديث أخرى مثل الطبراني وابن مردويه والإمام أحمد «2» . ولا تبعد في مآلها عن الحديث الوارد في هذه الكتب والله تعالى أعلم. تعليق على تفسير شيعي باطني لكلمة الصراط واستطراد إلى روايات ومذاهب مفسري الشيعة وأثرها هذا، وبمناسبة ورود كلمة الصراط في السورة نقول إن بعض مفسري غلاة الشيعة الباطنية يروون عن أبي جعفر الطوسي أنه قال لأبي عبد الله أحد الأئمة الإثني عشر الذين يدين لهم الشيعة بالولاية دون غيرهم: أنتم الصراط في كتاب الله وأنتم الزكاة وأنتم الحج؟ فقال يا فلان: نحن الصراط في كتاب الله عز وجل، ونحن الزكاة، ونحن الصيام ونحن الحج، ونحن الشهر الحرام ونحن البلد الحرام ونحن كعبة الله ونحن قبلة الله ونحن وجه الله» «3» . وفي هذا ما هو ظاهر من الغلوّ الحزبي الذي ننزّه أبا عبد الله عنه ونرجّح أنه منحول له نحلا. ومثل هذا كثير مما سوف نعرض أمثلة منه في مناسبات آتية. بل هذا ديدن الشيعة غلاتهم ومعتدليهم وباطنييهم حيث يصرفون العبارات القرآنية إلى

_ (1) انظر فصل تخريج أحاديث تفسير الزمخشري لابن حجر في الجزء الرابع من «الكشاف» . (2) انظر المصدر نفسه. (3) «التفسير والمفسرون» لمحمد حسين الذهبي ج 2، ص 267.

ما يوافق هواهم ومقالاتهم مهما كان في ذلك من تعسف وغرابة وسخف وشطط وبعد عن الفحوى والمناسبة والسياق، حتى ولو كان في سياق قصص الأمم السابقة وأنبائهم أو مشاهد الآخرة أو في مشاهد الكون أو في حق الكفار بالله ورسالات رسله والمشركين به قبل النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي حياته. وحيث يزعمون أن لكل آية وجملة بل وكلمة في القرآن باطنا وظاهرا وأن الباطن متعدد الوجوه والمدى حتى يبلغ سبعين وجها لكل آية أو كلمة أو جملة، وأن من السائغ أن يكون أول الآية في أمر وآخرها في أمر وظاهرها في أمر وباطنها في أمر. وظاهرها في ماض أو حاضر وباطنها في مستقبل وظاهرها في أناس بأعيانهم وباطنها في أناس آخرين بأعيانهم. حتى لقد بلغ بهم الأمر إلى حد الزعم أن جلّ القرآن بل كله في الأئمة وحقوقهم وشيعتهم وأعدائهم، وإن لم يكن ذلك ظاهرا فهو منطو في الباطن. وإلى حد صرف كلمات الصلاة والصيام والزكاة والحج والجنة والنار والقيامة والحشر إلى معان متصلة بعقائدهم، مما مرّت أمثلة منه في أول هذا التعليق، ومن ذلك أن الوضوء هو موالاة الإمام، والتيمم هو الأخذ من المأذون في غيبة الإمام والصلاة هي اتباع الإمام الناطق بالحق والغسل هو تجديد العهد للإمام، والجنة هي سقوط التكاليف، والنار هي مشقة حمل التكاليف. ومنهم من زعم أن صفات علي وأحفاده الأئمة وحقوقهم وفضلهم كانت في القرآن صراحة وأن الذين جمعوا القرآن من كبار أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أسقطوا كل ما فيه من ذلك وحرفوا كل ما فيه إشارة ضمنية إلى ذلك. ومنهم من بلغ به الزعم إلى القول أن ما أسقط من القرآن أكثر من نصفه حيث كان نحو سبعة عشر ألف آية فلم يبق منه إلا نحو سبعة آلاف، وأن الإمام علي دوّنه جميعه وأودعه أولاده. وأن هناك مصحفا عندهم باسم مصحف فاطمة يبلغ ثلاثة أضعاف المصحف الحالي وفيه ما أسقطه الصحابة من القرآن، وإلى حد

الزعم أن إنكار الباطن في القرآن كفر «1» . ووصل بهم الشطط إلى صرف كل ما ورد في القرآن من أسماء الله الحسنى وصفاته وغضبه وأسفه إلى الأئمة. وكل ما ورد فيه من وصف للكافرين والمنافقين والمشركين ومن لعنة وتنديد بالكفار والمنافقين والمشركين وإنذار لهم بعقوبة الدنيا والآخرة إلى كبار أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، باستثناء بضعة منهم كانوا بزعمهم موالين لعلي رضي الله عنه فقط، ثم إلى سائر من كان مواليا للخلفاء الراشدين الثلاثة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم إلى كل من والاهم من المسلمين من لدن عهد الخلفاء إلى اليوم. وإلى زعم كون أسماء علي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة مكتوبة على عرش الله قبل خلق الناس وأن الله إنما أمر الملائكة بالسجود لآدم لأن أنوارهم كانت متلألئة على جبينه، وأن أنبياء الله الأولين كانوا يتوسلون بهم في الملمات وأنهم معصومون وأنهم يتلقون الوحي عن الله مباشرة خلافا للأنبياء الذين كانوا يتلقونه بالواسطة مما فيه معنى تفضيلهم عليهم، وأن الله يحل فيهم دورا بعد دور وأن عليا هو النبي بل هو الإله والعياذ بالله. وقد تجرأوا على رسول الله وعلى علي وأولاده. فوضعوا على ألسنتهم الأحاديث الكثيرة جدا بسبيل تأييد أقوالهم ومذاهبهم، يبرز عليها التزوير والكذب فحوى وأسلوبا ومناسبة، وأنكروا كل حديث يروي خلاف ما يقولون ولو كان واردا في كتب الصحاح. وقرروا أنه لا يجوز ولا يصح حديث لم يروه أئمتهم وأنهم هم تراجمة القرآن الذين هم أدرى بما فيه لأنهم أهل البيت الذي نزل فيه وأنه لا يجوز لأحد أن يتلقى التفسير أو يفسر القرآن بدون أحاديثهم المذكورة. فجعلوا

_ (1) يستند القائلون بذلك والذين يفسرون القرآن تفسيرا باطنيا إلى حديثين معزوين إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منهما واحد مرسل أخرجه الغرياني عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لكل آية ظهر وبطن ولكل حرف حد ولكل حد مطلع» . وثان أخرجه الديلمي مرفوعا إلى رسول الله جاء فيه: «القرآن تحت العرش له ظهر وبطن يحاج العباد» . ( «التفسير والمفسرون» لمحمد حسين الذهبي، ج 2، ص 19) ولم يرد أي من الحديثين في كتب الحديث المعتبرة. وعبارتهما لا يمكن أن تبعث أي طمأنينة بصدورهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

بذلك عامتهم وراء سور مغلق يجترون ما يقرؤونه في كتب تفسيرهم منها وتترسب بذلك فيهم العقد والأحقاد ضد الجمهور الأكبر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والجمهور الأكبر من المسلمين من بعدهم الذين يحترمونهم ويوالونهم حتى ولو كانوا يوالون عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وأولاده ويحترمونهم. وهو ما هو عليه فعلا جمهور أصحاب رسول الله وجمهور المسلمين من بعدهم، لأنهم أهل لذلك لإسلامهم وجهادهم وصلتهم برسول الله وهذا سرّ المأساة المروعة الأليمة التي يعيشها عامة الشيعة منذ أكثر من اثني عشر قرنا وسرّ الانقسام الذي انقسم إليه المسلمون وافترقوا به عن بعضهم «1» . ومن العجيب أن يؤلف بعضهم كتبا في الطعن بأبي هريرة رضي الله عنه لأنه يروي كثيرا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويرى تعسفا في بعض من يرى ما لا يصح من أخبار

_ (1) في الجزء الثاني من كتاب «التفسير والمفسرون» تأليف محمد حسين الذهبي حيث يجد القارئ الغريب العجيب المذهل الذي لا يكاد يصدق أنه يصدر من مؤمن عاقل من كل ذلك مرويا عن كتب تفسير الشيعة مثل كتب الكارزاني والعسكري، والكاشي والعلوي والخراساني والطوسي والطبرسي. والذهبي إنما يورد أمثلة فقط أو غيضا من فيض مما في تلك الكتب ويستوي في ذلك معتدلوهم وغلاتهم. فالطبرسي مثلا من أشدهم اعتدالا وتحرزا ومع ذلك فهو يروي الكثير مما يرويه الغلاة. ونحن نعتقد أن هؤلاء المفسرين ليسوا أغبياء وبلهاء وأنهم أوردوا ما أوردوه وهم يعلمون ما فيه من سخف ومفارقة وصنع وكذب على الله ورسوله وآله الطيبين لمآرب وضغائن ترسبت فيهم مستغلين طيبة وغفلة عوام الشيعة وعزلتهم عن أهل السنة والجماعة ليستمر لهم شفاء هذه المآرب والضغائن لأنه كما قلنا لا يمكن أن يصدق أحد أنه يصدر عن مؤمن عاقل. وقد يستثنى من ذلك الطبرسي لما نراه من اعتداله وتحفظه في ما يورده وعدم إيراده لكثير مما يورده غيره وإيراده مع ما يورده ما يورده أهل السنة والجماعة من روايات وأحاديث حيث يدل هذا على أمانته العلمية. وننبه على أن أقوال وروايات وأحاديث وأفكار وعقائد الشيعة على اختلاف فرقهم لا تنحصر في كتب تفسيرهم. فلهم كتب كثيرة في الحديث والفقه والتاريخ والعقائد والجدل فيها الغريب العجيب المذهل، ولكننا سنقتصر من الأمثلة على ما رووه وساقوه في سياق التفسير.

وأحداث دنيوية وأخروية وينسون ما يروونه من آلاف الأحاديث الكاذبة الموضوعة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وآل بيته والتي لا يمكن بشيء منها أن يصح والتي يبرز عليها طابع الوضع والصنع المتعمدين لتحريف كلام الله عن مواضعه في حين أنه ليس فيما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة من رواية أبي هريرة ما لا ينطبق على القرآن أو يغاير أحاديث رسول الله التي يرويها غيره من أصحاب رسول الله. ونريد أن ننبه على أمر وهو أننا نجلّ عليّ بن أبي طالب وأولاده الطيبين رضي الله عنهم ثم الصالحين من ذريتهم كل الإجلال لصلتهم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأن هذا واجب كل مؤمن مخلص. وهو ما نعتقد أن جل أهل السنة بل كلهم عليه. وإننا إذ نكتب هذا التعليق وإذ نورد الأمثلة من تفسيرات مفسري الشيعة وغلاتهم وباطنييهم لا نقصد تشهيرا وتقبيحا لذاتهما وإنما نقصد تحذير المسلمين جميعهم سنيين وشيعيين على السواء. ولا نحمل مسؤولية ذلك على عامة الشيعة فهم منها براء ولا يحمل مسؤوليته وإثمه إلا الذين صنعوه ورووه وتمسكوا وما يزالون يتمسكون به ويحثون العامة من الشيعة على التمسك به ويلقنونهم أنهم هم وحدهم على الحق وأنهم هم وحدهم أصحاب الحظوة عند الله حتى يظلوا متمسكين به تحقيقا لما توخوه ويتوخونه من مآرب ومنافع ونشهد الله على صدق ما نفعله. ومن الجدير بالذكر أن كتب الشيعة المتنوعة على اختلاف فرقهم لم تنحصر وتقف عند القرون الإسلامية الأولى، فقد استمر كتابهم يكتبون مختلف الكتب في التفسير والحديث والفقه والجدل والتاريخ والعقائد في كل دور من أدوار التاريخ الإسلامي إلى اليوم يكررون فيها ما قاله ورواه أسلافهم من العجيب الغريب المذهل «1» فكان هذا مما ساقنا إلى هذا التحذير. وإلى إيراد تأويلاتهم الشاذة

_ (1) من هذه الكتب «الإيقاظ» للحرّ العاملي و «الآيات البينات» لكاشف الغطاء و «أعيان الشيعة» لمحسن الأمين وهذا موسوعة كبرى فيها تراجم كل نابه من الشيعة وأقواله وأفعاله. وفي هذه الكتب وغيرها تكرار لما قاله ورواه قدماء الشيعة من أفكار وعقائد ومجادلات ومدائح وقبائح وعادات وأفكار وتأييد لها وفيها العجيب المذهل من كل ذلك وبخاصة في صفات الأئمة وعصمتهم وصلتهم المباشرة بالله وفي حصر صفة الإسلام والنجاة في الشيعة ونفيهما عن سائر المسلمين. وفي تكفير وذم كبار أصحاب رسول الله ومن والاهم من المسلمين إلى الآن.

للقرآن التي لم يمنعهم منها عقل ولا دين على ما مرّت أمثلته وعلى ما سوف يمر منه أمثلة كثيرة أخرى ليرى القارئ ما فيها من شطط وزور وشذوذ. ومهما يمكن أن يقال أن التشيع قد غدا مع الزمن الطويل عقدة معقدة يجعل أصحابها متعصبين لها متمسكين بالروايات والأقوال التي يسوقها لهم علماؤهم ومفسروهم ورواتهم مهما كان فيها من التعسف والشطط والمفارقة والبعد عن العقل والمنطق والحق والدين والإيمان فإنه قد آن لنبهاء الشيعة وعقلائها والصادقين منهم في إيمانهم والمخلصين للإسلام وهم كثيرون فيما نعتقد أن يتنبهوا إلى أن أسبابه سياسية لا صلة صحيحة لها بالدين والقرآن وأن هذه الأسباب قد عفّى عليها الزمن ولم يعد لها مكان ولا معنى ولا مبرر ولا فائدة إلا لفئة قليلة من الناس الذين يرون في التمسك به مأربا خاصا لأنفسهم وأن يبذلوا جهودهم للتخفيف من غلواء التمسك بتلك الروايات والأقوال والتعصب للفكرة التي وراءها والتي هي سياسية قديمة وللتقارب مع السنيين إلى أن تسود الأخوة والمحبة وتزول الفرقة والضغينة. وعلى نبهاء السنيين وعقلائهم والصادقين في إيمانهم والمخلصين بإسلامهم بدورهم أن يبذلوا جهودهم بسبيل ذلك أيضا بمختلف الوسائل والمواقف وعلى مختلف المستويات، والله الهادي إلى سواء السبيل.

سورة العلق

سورة العلق تضع جميع تراتيب السور المروية هذه السورة أولى السور ترتيبا. والمتبادر أن ذلك بسبب كون الآيات الخمس الأولى منها هي أولى آيات القرآن نزولا على ما عليه الجمهور. لأن مضمون باقي الآيات وأسلوبها يدلان على أنه نزل بعد مدة ما من نزول آياتها الخمس الأولى، على أن هذه المدة ليست طويلة على ما تلهم آيات السورة. وفي الآيات الخمس الأولى أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقراءة وتنويه بما ألهم الله الإنسان من العلم. وفي بقية الآيات حملة على باغ مغتر بماله وجاهه تصدى للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتثبيت للنبي في دعوته وموقفه وعدم المبالاة به. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) (1) العلق: الدم المتجمد. هذه الآيات هي على ما جاء في حديث رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها، سنورده بعد قليل، أولى الآيات القرآنية نزولا. ومع أن هناك روايات تذكر أن الآيات الأولى من سور أخرى مثل سور القلم والمدثر والمزمل وأن سورا أخرى

أول قرآن نزل على النبي صلى الله عليه وسلم

مثل سورتي الفاتحة والضحى هي أول القرآن نزولا فإن أحاديث أولية هذه الآيات أقوى سندا كما أن مضمونها يلهم ترجيح هذه الأولية «1» . وليس في هذه الآيات الواضحة العبارة أمر بالدعوة. وإنما هي تنبيه وإعداد. ولما كانت الآيات التالية لها تتضمن مشهدا من مشاهد تصدي بعض الطغاة للنبي عليه السلام حينما بدأ بدعوته وصلاته، فإن المعقول أن تكون هذه الآيات قد نزلت وحدها ثم نزلت آيات أو سور قرآنية أخرى فيها أمر بالدعوة ومبادئها، وأن تكون أولية السورة في ترتيب النزول هي بسبب أولية نزول هذه الآيات. أول قرآن نزل على النبي صلى الله عليه وسلّم وقد نزلت هذه الآيات على النبي صلى الله عليه وسلّم ليلا في غار حراء أحد جبال مكة أثناء اعتكافه في هذا الغار في رمضان على ما ورد في حديث رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها جاء فيه: «أوّل ما بدىء به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصّبح. ثم حبّب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنّث- أي يتعبّد- فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزوّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها حتّى جاءه الحقّ وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: «اقرأ» فقال: «ما أنا بقارئ» قال: «فأخذني فغطّني حتّى بلغ منّي الجهد ثم أرسلني» . فقال: «اقرأ» ، فقلت: «ما أنا بقارئ» قال: «فأخذني فغطّني الثانية حتّى بلغ مني الجهد ثم أرسلني» فقال: «اقرأ» فقلت: «ما أنا بقارئ» فأخذني فغطّني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني» فقال:

_ (1) انظر سياق تفسيرها في الطبري وابن كثير والطبرسي وغيرهم وانظر كذلك كتاب «الإتقان في علوم القرآن» للسيوطي ج 1 ص 24 وما بعدها، الطبعة المذكورة سابقا. وننبه إلى أننا سرنا على الاكتفاء بذكر اسم كتاب التفسير أو مؤلفه دون ذكر رقم المجلد أو الجزء أو الصفحة لأن هناك أكثر من طبعة لأكثر من كتاب من كتب التفسير، وقد لا تكون الطبعة التي ننقل عنها هي المتيسرة في يد القارئ، وطريقتنا تيسر للقارىء أن يراجع المادة في أي طبعة كما هو واضح. [.....]

مغزى التنويه بالقراءة والكتابة والعلم في أول ما نزل من القرآن

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ حتى بلغ: ما لَمْ يَعْلَمْ» «1» . ونزول هذه الآيات ليلا وفي رمضان مؤيد بآيات قرآنية منها آية سورة البقرة هذه: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [185] ، وآية سورة الدخان هذه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) ، وآية سورة القدر هذه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) . والأمر بالقراءة قصد به تلاوة ما يلقى إليه كما قصد به تنبيهه صلّى الله عليه وسلّم إلى المهمة العظمى التي انتدب إليها، وتعليمه أن يجعل الله هو الفكرة الرئيسية التي تشغل ذهنه، وأن يذكره في كل أمر من أموره دون سواه كما هو المتبادر. وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى وشامل للناس جميعا بالانصراف عما سوى الله، وبالارتفاع بالنفس الإنسانية إلى أفق لا تتأثر فيه بقوى الدنيا ومخاوفها، ولا ترتبط في حياتها ومعايشها ومطالبها وآمالها بغير الله الربّ الأكرم. مغزى التنويه بالقراءة والكتابة والعلم في أول ما نزل من القرآن والآيات إلى هذا تنطوي على تنويه بالقراءة والكتابة والعلم، وبالإنسان الذي اختص وحده بالقابلية لهذه النعم، وبدء القرآن بذلك يزيد في قوة هذا التنويه، فكأنما أريد جعل هذه النعم في مقدمة نعم الله التي أنعمها على الإنسان، وفي مقدمة ما يجب على الإنسان أن يشكر الله عليه ويسعى في اكتسابه. والقرآن على هذا الاعتبار أعظم وأقوى، وأول داع ديني إلى العلم والقراءة والكتابة. وتعبير الإنسان شامل للذكر والأنثى على السواء، وهكذا تكون الدعوة القرآنية شاملة جنسي الإنسان.

_ (1) «التاج» ، ج 3 ص 226.

[سورة العلق (96) : الآيات 6 إلى 19]

وفي هذا من الجلال والروعة ما يعلو فوق كل مستوى، وما يدل على عظمة براعة استهلال القرآن الكريم والدعوة الإسلامية وبعد مداها، وقوة عناصر خلودها. ولقد احتوت سور القرآن المكية والمدنية بعد هذه السورة آيات كثيرة جدا في التنويه بالكتاب والقرآن والعلم والعلماء والحثّ على العلم والتعلّم وبيان مسؤولية أهل العلم والذكر. وهو ما يزيد من جلال هذه البراعة وعظم مداها. والمتبادر أنه لا يقصد بالإشارة إلى خلق الإنسان من علق تقرير حقيقة تشريحية، ولا تخصيص الإنسان وحده بالخلق من علق دون غيره من الحيوان، وإنما قصد التنبيه على مظهر من مظاهر قدرة الله في نواميسه على إخراج إنسان كامل في صورته وأعضائه وحواسه من شيء تافه في مظهره المادي، وقد اختص الإنسان بالذكر لأنه موضوع الخطاب في الآيات، وهذا أسلوب قرآني عام. وهو الأسلوب التنبيهي الموجه إلى مختلف الطبقات في المناسبات الملائمة بما تتناوله عقولهم وحواسهم، وبقصد الموعظة والهداية. وبناء على هذا فلا نرى محلا ولا ضرورة إلى الاستطراد إلى حقائق تشريحية عن خلق الإنسان وتكوينه لأن ذلك ليس من أهداف الجملة القرآنية، ونرى وجوب الوقوف عند ما ذكرناه من هدفها على ما نبهنا عليه في المقدمة. هذا، ولقد تعددت السور التي تبدأ بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم ببعض الأفعال والأقوال مما يمكن أن يعد أسلوبا من أساليب النظم القرآني في مطالع السور. [سورة العلق (96) : الآيات 6 الى 19] كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) (1) كلّا: حرف ردع وزجر. وقال المفسرون إنها في المقام الذي تأتي فيه بمعنى أيها الناس ارتدعوا وازدجروا فالأمر أعظم مما ظننتم. وقد وردت كثيرا ولا سيما في السور المبكرة في النزول الذي يشتد فيها الإنذار والتنبيه والتنديد ووردت كذلك في معرض التنديد والاستدراك والتثبيت وكثرة ورودها في القرآن تدل على أنها مما كان مستفيضا في أساليب الخطاب العربي. (2) يطغى: يتجاوز الحد في العدوان والبغي. (3) استغنى: ظن نفسه مستغنيا، أو رأى نفسه غنيا. والكلمة هنا بمعنى (رأى نفسه غنيا بماله) على ما عليه الجمهور. واستعملت الكلمة بمعنى (رأى نفسه غنيا عن مساعدة الغير فتمنع وتكبر) كما في آيات سورة عبس هذه: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) . وأصل معنى كلمة (غني) غير المحتاج سواء أكانت الحاجة مالا أو غيره. وقد وصف الله جلّ جلاله نفسه بها في آيات كثيرة. (4) التقوى: الاتقاء من عذاب الله بصالح العمل. (5) تولّى: ذهب دون أن يصغي للدعوة ويهتم لها. (6) السفع: الأخذ أو الجذب بقوة، واللطم بشدة. (7) الناصية: مقدم الوجه أو شعر الجبهة. (8) ناديه: النادي: مجلس القوم، والمقصود أهل المجلس. (9) الزبانية: الموكلون بالعذاب. (10) اسجد: أمر بالسجود لله. والسجود هو وضع الجبهة على الأرض في معرض عبادة الله وتعظيمه والخضوع له. (11) اقترب: تقرب إلى الله بالسجود.

في هذه الآيات:

في هذه الآيات: 1- تقرير حقيقة في أخلاق البشر بوجه عام. وهي أن كثيرا منهم يتجاوزون الحدّ كبرا وبغيا حينما يشعرون في أنفسهم بالقوة ويخيل إليهم أنهم في غنى عن غيرهم بكثرة مالهم وقوة أنصارهم وعصبيتهم وشخصيتهم وأسلوب الآية التي وردت فيها أسلوب تنديدي بهذا الخلق. 2- تذكير وإنذار بأن الناس راجعون إلى الله ومعروضون عليه. 3- تنديد بالذي يتعرض لعبد من عباد الله فينهاه عن الصلاة له مع أنه يسير على طريق الحق والهدى. ويدعو إلى تقوى الله ويذكّر به. وتنديد كذلك بالذي يكذّب دعوة الله ويعرض عنها، وتذكير له في معرض الإنذار وبأسلوب الاستفهام الإنكاري عما إذا لم يكن يعلم أن الله يراقبه ويحصي عليه آثامه ومواقفه. 4- تهديد وتحدّ وإنذار لهذا المكذّب المتعرض المعرض بأسلوب قارع قاصم. فإذا لم ينته عن موقفه الباغي فلسوف يسفعه الله بناصيته الكاذبة الخاطئة. وإذا دعا ناديه لنصرته فسوف يدعو الله الزبانية الموكلين بالعذاب ليتولوا أمرهم. 5- تثبيت للنبي عليه السلام في دعوته. فلا محلّ للخوف من هذا المتعرض والاستجابة لما يقول والاهتمام به. وعليه أن يسجد لله ويتقرب إليه. والآيات الثلاث الأولى تمهيد لما بعدها على ما هو المتبادر مما هو مستفيض في الأسلوب القرآني. والآيات التالية لها تتضمن مشهدا من مشاهد الدعوة النبوية في الخطوات الأولى حيث تفيد أن زعيما طاغية تعرّض للنبي عليه السلام حينما رآه يصلي صلاة جديدة، ويدعو إلى الله وتقواه، فضلا عن تكذيبه للدعوة وإعراضه عنها. ولقد رويت بعض الأحاديث الصحيحة في مناسبة نزول هذه الآيات. منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن ابن عباس قال: «قال أبو جهل لئن رأيت محمدا يصلّي عند الكعبة لأطأنّ على عنقه فبلغ ذلك النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: لو فعل

لأخذته الملائكة عيانا» «1» . ومنها حديث رواه مسلم عن ابن عباس أيضا قال: «قال أبو جهل: هل يعفّر محمّد وجهه بين أظهركم- يريد على ما يظهر هل يصلّي ويسجد- قيل: نعم، فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته. فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلّي فما فجئهم منه إلّا وهو ينكص على عقبيه ويتّقي بيديه فقيل له: ما لك، فقال: إنّ بيني وبينه لخندقا من نار وهولا وأجنحة. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لو دنا منّي لاختطفته الملائكة عضوا عضوا فأنزل الله: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) إلى آخر السورة» «2» . ومنها حديث رواه الترمذي عن ابن عباس قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلّي فجاء أبو جهل فقال: ألم أنهك عن هذا ألم أنهك عن هذا؟ فزبره النبي، فقال أبو جهل: إنّك لتعلم ما بها ناد أكثر منّي فأنزل الله: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) . قال ابن عباس: (فو الله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله) «3» . والحديث الأخير قد يفيد أن الآيات نزلت على دفعات. غير أن الذي نرجّحه على ضوء الحديث الثاني أنها نزلت دفعة واحدة. ولا يمنع هذا أن يكون ما روي عن لسان أبي جهل مما ذكره الحديث الأخير صحيحا من جملة ما قاله وفعله وحاول أن يفعله فكان كل هذا مناسبة لنزول الآيات جميعها. وتسمية (أبي جهل) تسمية إسلامية، واسم هذا الرجل هو عمرو بن هشام المخزومي وكنيته أبو الحكم. ولقد روى ابن هشام أن أبا سفيان وأبا جهل والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليستمعوا لرسول الله وهو يصلي في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقالوا لبعضهم: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا. ثم انصرفوا غير أنهم عادوا ليلة ثانية

_ (1) «التاج» ، ج 4 ص 262. (2) انظر المصدر نفسه. (3) انظر المصدر نفسه. الجزء الأول من التفسير الحديث 21

علنية الدعوة في بدئها

ثم ليلة ثالثة. وذهب الأخنس إلى أبي سفيان فقال له: ما رأيك يا أبا حنظلة فيما سمعت من محمد؟ قال: والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها وسمعت أشياء ما عرفت معناها وما يراد بها، فقال له: وأنا والذي حلفت به كذلك. ثم خرج حتى أتى أبا جهل فقال: ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: ما سمعت: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف. أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك مثل هذه، والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه «1» . حيث يفيد هذا أن موقف أبي جهل كان متأثرا بالاعتبارات الشخصية والأسرية. علنية الدعوة في بدئها والمشهد الذي احتوته الآيات والأحاديث المروية في صدده يدلّ بقوة على أن الدعوة بدأت علنية خلافا لما روي «2» أو لما هو مستقر في الذهن. وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذ يمارس صلاته الجديدة جهرة ويدعو الناس إلى الله وتقواه. وفي المشاهد المماثلة التي ظلت تذكر في السور العديدة المبكرة في النزول، مثل القلم والمزمل والمدثر والتكاثر والماعون والكافرون تأييد لذلك. وكل ما يمكن أن يقال إزاء ما ورد في الأحاديث التي تروي أقوال بعض أصحاب رسول الله مثل ما روي عن عمر في قصة إسلامه حيث سأل بعد إسلامه: «أنحن على حقّ أم باطل؟ فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بل على حقّ، فقال عمر: ففيم التخفي إذن؟» . ومثل ما روي عن ابن مسعود أنه قال: «ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر. ولقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي بالكعبة ظاهرين آمنين حتى أسلم عمر» «3» . إن النبي صلّى الله عليه وسلّم- حماية لأصحابه- كان يلزم الحذر والتحفظ في الصلاة والاجتماع بهم. غير أن دعوته للناس كانت

_ (1) انظر «السيرة الحلبية» ، ج 1، ص 330 وما بعدها. وانظر تفسير آية سورة الحجر فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [94] في كتاب تفسير ابن كثير والبغوي بل وغيرهما من المفسرين. (2) المصدر نفسه. (3) انظر «سيرة ابن هشام» ج 1 ص 342 وما بعدها.

موقف الزعامة من النبي وموقف النبي منها منذ البدء

وظلت جهرة. وهذا هو المعقول المتسق مع هدف الدعوة وإيمان النبي بالله ورسالته. والمتبادر أن هذه الآيات قد نزلت بعد نزول الآيات الخمس الأولى بمدة ما، وبعد نزول جملة من القرآن تتضمن أمرا بالدعوة وشيئا من مبادئها وأهدافها. وبعد أن سار النبي صلّى الله عليه وسلّم في دعوته شوطا ما، حيث أخذ يتصل بالناس ويدعوهم ويبشرهم وينذرهم ويتلو عليهم ما أوحي إليه من آيات القرآن وسوره ويصلي جهرة، فتصدى له الطاغية فنزلت منذرة منددة، مذكرة قارعة. وإلحاق هذه الآيات بالآيات الخمس الأولى حيث تكونت شخصية السورة يدل على أن سور القرآن كانت تؤلف أولا فأولا، وعلى أن المشهد الذي احتوته لم يتأخر كثيرا. ولعله من أوائل مشاهد المناوأة للدعوة والتعرّض لصاحبها مما يدل عليه إلحاق آياته بأولى آيات القرآن نزولا. موقف الزعامة من النبي وموقف النبي منها منذ البدء وفي الآيات وبخاصة في الآيات [15- 19] تطمين وتثبيت للنبي صلّى الله عليه وسلّم إزاء تعرض الزعيم الطاغية كما هو واضح، وقد ثبت فيه بدون ريب الطمأنينة والقوة والعزم على متابعة مهمته العظمى. ومما لا ريب فيه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد تلا الآيات حتى وصلت إلى مسامع الطاغية، بل من المحتمل القوي أن يكون قذف بها في وجهه مباشرة. وإذ يتصور المرء النبي صلّى الله عليه وسلّم يصرخ في وجه هذا الطاغية المعتدّ بماله وقوته وناديه صرخته المدوية تردادا لوحي الله: كلا كلا، ثم يقذف بكلمات التنديد والتهديد والتحدي والإنذار القرآنية غير مبال بالزعامة وقوتها وهو من دون نصير من الناس ولم يكن قد آمن به من يستطيع له نصرا ويقف في جانبه يدرك من دون ريب تلك الشجاعة التي كان يتحلى بها والتي استمدها من إيمان عميق مستول على

مشاعره جعله لا يرى عظمة إلا لله ولا قوة إلا لله ولا سلطانا إلا لله، وجعله يرى كل ما عداه أضعف من أن يخشى، وأعجز من أن يستطيع له نفعا أو ضرا، أو يقف أمام دين الله ويحول دون الدعوة إليه. ويدرك بهذا ما تحلى به من عظمة الخلق وقوة الجنان وعمق اليقين، مما كان موضوع ثناء الله في آية القلم: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) . وفي كل هذا أسوة يجب على المسلمين أن يتأسوا بها وبخاصة الدعاة إلى الإصلاح والمتعرضين للظلم والطغيان. لأن الله سبحانه أمرهم بأن يكون لهم في رسوله الأسوة الحسنة كما جاء في آية سورة الأحزاب هذه: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) . ويتبادر من عنف الآيات وقوتها القارعة أن الحكمة الربانية اقتضت أن يكون الرد على أول متصدّ للنبي صلّى الله عليه وسلّم من الزعماء الأقوياء بهذا الأسلوب لتثبيت النبي وأصحابه القلائل الذين آمنوا به، ومواجهة الزعيم القوي بقوة وعنف يصدمانه على غير توقع. ولا شك في أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد تلا الآيات على أصحابه، فقوّت من روحهم وزادتهم إيمانا، ووصلت إلى صاحبها وناديه فصعقتهم بعنفها وجعلتهم يشعرون بالقوة الروحية التي يستمد منها النبي، وازداد النبي بهذا وذاك قوة وعزما على الاستمرار في مهمته، غير مبال بالزعيم القوي وناديه. على أن جملة: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ تسوغ القول أن أبا جهل لم يكن وحيدا في موقفه من النبي صلّى الله عليه وسلّم. وهو ما تدل عليه الآيات التي نزلت بعد هذه الآيات في مناسبات عديدة مبكرة. وليس بعيدا أن يكون تعبير «ناديه» قد عنى دار الندوة التي كان يجتمع فيها أهل الحلّ والعقد في مكة الذين هم رؤساء الأسر القرشية البارزة، وقد كانت هذه الدار قرب الكعبة، فإذا صحّ هذا فإن من السائغ أن يقال إن السلطات الرسمية قد رأت في صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم علنا بصلاة جديدة لا عهد للناس بها، وفي دعوته الناس جهارا إلى دين يخالف ما عليه الناس بدعة، ورأت وجوب الوقوف في وجهها،

وأنها عمدت إلى أحد أعضائها بتنفيذ ذلك، أو أن هذا العضو كان أشدّ حماسا ضدها من غيره فكان هو المتصدي. وهكذا ينطوي في الآيات المبكرة جدا في النزول أولى صورة من صور مواقف زعماء مكة الشديدة المناوأة التي تكررت واستمرت إلى أن تمّ الفتح المكي. وأولى صورة من صور الردّ القرآني المبلغ للرسول والمعلن للناس من قبله على هذه المواقف التي تكررت وحكاها القرآن المكي في مختلف أدوار التنزيل. وفي الرد القرآني المنطوي في آيات السورة تعليل لهذا الموقف وقد انطوى في الردود القرآنية مثل هذا التعليل أو ما يقاربه. وهو على الأكثر الاستكبار ومكر السيء والاستهتار والاعتداد بالمال والولد والحرص على التقاليد التي كانوا يستمدون منها قوة وجاها والحسد والاعتبارات الشخصية والأسرية. ومن ذلك آيات سورة فاطر هذه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ، وآيات سورة الزخرف هذه: وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) ، وآيات سورة ص هذه: وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) . وقد يعني هذا أن الزعماء الذين كان أكثرهم أغنياء وأولو عصبية في الوقت نفسه قد رأوا في الدعوة النبوية تحدّيا لهم وتهديدا لمركزهم وثرواتهم فانبروا إلى مناوأتها من أول أيامها، وأدى ذلك إلى نضال طويل مرير مختلف الصور والأشكال بينهم وبين النبي صلّى الله عليه وسلّم مما شغلت حكايته وصوره حيزا كبيرا من القرآن وبخاصة المكي منه على ما سوف يأتي متواليا.

تعليق على ما في الآيات كلا إن الإنسان ليطغى (6) أن رآه استغنى

تعليق على ما في الآيات كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) من تلقين ثم من مدى ومغزى في صدد أهداف الرسالة الإسلامية وهذه الآيات بخاصة محل لتعليق آخر من حيث إنها تجعل الطغيان نتيجة لكثرة المال والغنى. ولقد احتوت سور كثيرة مبكرة في النزول حملة على شدة حبّ المال والحرص عليه والتباهي به واعتباره عنوانا للكرامة وتنديدا بذلك مثل سور القلم والمزمل والمدثر والمسد والفجر والعاديات والتكاثر والهمزة والبلد ممّا لم نر إيراده لأنه سوف يأتي بعد قليل. ولقد احتوت هذه السور وسور أخرى مبكرة في النزول أيضا مثل الليل والأعلى والنجم فضلا عن سور كثيرة أخرى نزلت في مختلف أدوار التنزيل حضا على إطعام المساكين والتصدّق على الفقراء وتزكية المال والإنفاق في سبيل الله. واحتوت في الوقت نفسه صورا عديدة من مواقف الأغنياء المناوئة لنبوة النبي ودعوته إلى جانب الزعماء حيث يبدو أن الأغنياء بدورهم رأوا في هذه النبوة والدعوة تهديدا لثرواتهم فتضامنوا مع الزعماء في المناوأة منذ عهد مبكر جدا واستحقوا وصف الطغيان الذي احتوته الآيات. وبالإضافة إلى ما في هذا من تلقين جليل سلبي وإيجابي للمسلم فإنه ينطوي على مدى ومغزى عظيمين في صدد الرسالة الإسلامية التي يمثلها القرآن في الدرجة الأولى. وهما كون هذه الرسالة قد جاءت في جملة ما جاءت به للحدّ من جشع الإنسان للمال وتكالبه عليه والدعوة إلى مساعدة المحتاجين خطورة إليه. وورود هذا في السور المبكرة في النزول يسبغ على ذلك المدى والمغزى خطورة خاصة، وقد استمر ذلك بأساليب متنوعة في سور كثيرة أخرى مما يزيد في قوة هذه الخطورة.

تعليق على كلمة الصلاة

وهناك أحاديث كثيرة مأثورة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم متساوقة مع كل ذلك أيضا شأنها مع كل المبادئ والتلقينات القرآنية سنوردها في مناسبات آتية أكثر ملاءمة. تعليق على كلمة الصلاة وبمناسبة ورود كلمة «صلى» لأول مرة نقول: إن الصلاة تعني في اللغة الدعاء والبركة وقد جاءت بهذين المعنيين في القرآن كما يفهم من آيات سورة الأحزاب هذه: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، وإِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) ، ومن آية سورة التوبة هذه: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ، وتعني كذلك الشكل الخاص الذي يتعبد المتعبد به لمعبود، كما هي في هذه السورة وغيرها، والمعنيان متقاربان ولعلّ الأصل هو الأول، ولا سيما والعبادة هي الاتجاه للمعبود ودعاؤه. وإطلاق كلمة الصلاة على الشكل الخاص من العبادة مطلقا ليس إسلاميا، بل كان كذلك قبل البعثة كما تدل عليه آية الأنفال هذه: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً «1» [35] ، حيث عبرت عما كان يؤديه المشركون من الطقوس الدينية عند الكعبة بكلمة الصلاة. ومع أن الروايات تذكر «2» أن شكل الصلاة الإسلامية المعروف هو الشكل الذي أدّى به النبي صلّى الله عليه وسلّم صلاته الأولى بتعليم الملك، فإن ورود تعابير الركوع والسجود والقيام في القرآن وتكليف المشركين بالسجود تارة، والركوع أخرى كما جاء في آية سورة البقرة هذه: وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ

_ (1) المكاء هو التصفير، والتصدية هي التصفيق على ما جاء في تفسير الزمخشري «الكشاف» . (2) ابن هشام ج 1 ص 229 وما بعدها، و «السيرة الحلبية» ج 1 ص 263 وما بعدها.

وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) ، وفي آية سورة الحج هذه: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) ، وفي آية سورة الفرقان هذه: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60) ، وفي آية سورة المرسلات هذه: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) ، يلهم أن هذه الأشكال كانت معروفة قبل البعثة وممارسة، كأشكال عبادة وصلاة، وكمظهر خضوع لله أو للمعبودات. ولقد روى ابن هشام خبر أولى صلاة صلاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال عزوا إلى ابن اسحق: «حدثني بعض أهل العلم أن الصلاة حين افترضت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاه جبريل وهو بأعلى مكة، فهمز له بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت منه عين فتوضأ جبريل عليه السلام ورسول الله ينظر إليه ليريه كيف الطهور إلى الصلاة ثم توضأ رسول الله كما رأى جبريل توضأ. ثم قام به جبريل فصلى به، فصلى رسول الله بصلاته ثم انصرف جبريل. فجاء رسول الله خديجة فتوضأ لها ليريها كيف الطهور للصلاة كما أراه جبريل، فتوضأت كما توضأ لها رسول الله ثم صلّى بها كما صلى به جبريل» . وقال كذلك عزوا إلى ابن اسحق: «وحدثني عتبة بن مسلم عن نافع بن جبير وكان كثير الرواية عن ابن عباس قال: لما افترضت الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاه جبريل عليه السلام فصلى به الظهر حين مالت الشمس، ثم صلى به العصر حين كان ظله مثله، ثم صلّى به المغرب حين غابت الشمس، ثم صلّى به العشاء الأخيرة حين ذهب الشفق. ثم صلّى به الصبح حين طلع الفجر. ثم جاءه فصلى به الظهر من غد حين كان ظله مثله. ثم صلى به العصر حين كان ظله مثليه، ثم صلّى به المغرب حين غابت الشمس لوقتها بالأمس، ثم صلّى به العشاء الأخيرة حين ذهب ثلث الليل الأول، ثم صلّى به الصبح مسفرا غير مشرق. ثم قال: يا محمد الصلاة فيما بين صلاتك اليوم وصلاتك بالأمس» «1» .

_ (1) ابن هشام ج 1 ص 244- 245.

ولقد روى الترمذي وصاحباه حديثا عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه معظم ما جاء في هذا الحديث وهذا نصّه: «أمّني جبريل عليه السلام عند البيت مرّتين، فصلّى الظهر في الأولى منهما حينما كان الفيء مثل الشّراك، ثم صلّى العصر حين كان ظلّ كلّ شيء مثله ثم صلّى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم، ثم صلّى العشاء حين غاب الشّفق، ثم صلّى الفجر حين برق الفجر وحرم الطعام على الصائم. وصلّى المرّة الثانية الظهر حين كان ظلّ كلّ شيء مثله لوقت العصر بالأمس، ثم صلّى العصر حين كان ظلّ كلّ شيء مثليه. ثم صلّى المغرب لوقته الأول، ثم صلّى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلّى الصبح حين أسفرت الأرض، ثمّ التفت إليّ جبريل فقال: يا محمّد هذا وقت الأنبياء من قبلك والوقت فيما بين هذين الوقتين» «1» . ولقد روى الخمسة إلّا الترمذي عن أبي مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «نزل جبريل فأمّني فصلّيت معه ثم صلّيت معه ثمّ صلّيت معه ثمّ صلّيت معه ثمّ صليت معه يحسب بأصابعه خمس صلوات. زاد في رواية ثمّ قال بهذا أمرت» «2» . وليس في هذه الأحاديث تعيين لوقت هذا التعليم والإمامة. ولكن ورود الإشارة إلى صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذه السورة التي هي من أبكر ما نزل من القرآن قد يدل على أن ذلك كان عقب نزول أول وحي على النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقد يؤيد هذا ما جاء في حديث ابن اسحق الأول من مجيء النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك إلى بيته وتعليمه ما علمه إياه الملك لخديجة رضي الله عنها التي كانت أول من آمن به، والتي لم يكن بعد على ما هو محتمل مؤمنا به غيرها. وقد يؤيد ذلك أيضا أن الإشارة إلى الصلاة والدعوة إليها وخبر ممارستها قد ذكرت في سور أخرى مبكرة جدا في النزول مثل سور المزمل والمدثر والأعلى والشرح والكوثر. هذا في حين أن البخاري ومسلم والنسائي والترمذي يروون حديثا عن أنس جاء فيه: «فرضت على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليلة

_ (1) «التاج الجامع» ، ج 1، ص 125 و 126. (2) المصدر نفسه.

أسري به الصلوات خمسين ثم نقصت حتّى جعلت خمسا ثم نودي يا محمد إنه لا يبدّل القول لديّ، وإنّ لك بهذه الخمس خمسين» «1» . والإسراء ذكر في سورة الإسراء بأسلوب قد يلهم أنه ذكر عقب وقوعه، وسورة الإسراء ليست من السور المبكرة في النزول بل يخمن أنها نزلت في أواخر الثلث الأول من العهد المكي. وهناك روايات تذكر أن الإسراء وقع في مثل هذا الظرف. ولقد روى الترمذي ومسلم حديثا عن عبد الله في سياق تفسير بعض الآيات الأولى من سورة النجم التي تروي بعض الأحاديث أنها في صدد مشاهد الإسراء والمعراج جاء فيه: «إنه لما بلغ رسول الله سدرة المنتهى قال: انتهى إليها ما يعرج من الأرض وما ينزل من فوق، فأعطاه الله عندها ثلاثا لم يعطهنّ نبيا قبله. فرضت عليه الصلاة خمسا وأعطي خواتيم سورة البقرة وغفر لأمته المقحمات ما لم يشركوا بالله شيئا» «2» . وسورة النجم نزلت كذلك بعد عدة سور ذكرت فيها الصلاة مثل المزمل والمدثر والأعلى والشرح والكوثر والماعون. وعلى هذا فإن الصلاة إما أن تكون غير مفروضة فرضا مستقرا وكانت تؤدى كمظهر من مظاهر العبادة لله تعالى وحسب قبل نزول سورتي النجم والإسراء أو قبل سورة النجم- لأن هناك احتمالا أن يكون الإسراء وقع قبل نزول سورة الإسراء بمدة ما وأن يكون ذكره في سورة الإسراء من قبيل التذكير به- إذا صح حديثا أنس وعبد الله رضي الله عنهما. وإما أن يتوقف في هذين الحديثين استئناسا بالآيات وبحديث ابن اسحق الأول. ويقال إنها كانت تمارس كفرض محدود الأوقات في عهد مبكر من البعثة النبوية وقبل الإسراء النبوي، والله تعالى أعلم.

_ (1) «التاج» ج 1 ص 117. (2) «التاج» ، ج 4 ص 221، المقحمات: الذنوب العظيمة. [.....]

وليس في القرآن مما يتصل بشؤون الصلاة والاستعداد لها إلّا إشارات في صدد الوضوء والاغتسال من الجنابة والتيمم بدلا منهما، واستقبال القبلة والأذان وتطهير الثياب والبدن وقصر الصلاة وصلاة الخوف وصلاة الجمعة شاءت حكمة التنزيل أن تشير إليها في مناسبات حادثة في بعض السور. أما كيفيات الصلاة وأوقاتها وأركانها وركعاتها والدخول فيها والخروج منها وما يقرأ ويدعى ويسبح فيها والنوافل المؤكدة وما يفعل في السهو فيها والعجز عن بعض كيفياتها وأركانها وما يكره فيها ... إلخ. فقد تكفلت ببيانها السنة النبوية القولية والفعلية على اختلاف في أسانيدها ورتبها حفلت بها وبشرحها كتب الحديث والفقه وتعددت المذاهب بسبب ما بها من اختلاف في النصوص مما لا يدخل تفصيله في منهاج التفسير وما صار متمما لتشريعها القرآني وجزءا منه وصار العمل بالثابت منه واجبا كما هو الشأن في كل ما سكت عنه القرآن أو جاء فيه غامضا أو مطلقا أو غير مستوف لكل جانب في مسألة من المسائل عملا بالمبدأ القرآني المنطوي في آية سورة النساء هذه: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ، وآية سورة الحشر هذه: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا. وقد أوردنا من قبل بعض هذه الأحاديث ونورد فيما يلي طائفة منها مما ورد في الكتب الخمسة تحتوي صورا وسننا رئيسية مع التنبيه على أنها ليست كل ما ورد في هذه الكتب، فضلا عن أن هناك أحاديث كثيرة من بابها وردت في كتب الأحاديث الأخرى. من ذلك ما رواه الخمسة عن أبي هريرة: «أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دخل المسجد فدخل رجل فصلّى ثم جاء فسلّم على النبي فردّ النبيّ عليه السلام فقال: ارجع فصلّ، فإنّك لم تصلّ. فصلّى، ثم جاء فسلّم على النبيّ فقال: ارجع فصلّ فإنك لم تصلّ ثلاثا. فقال: والذي بعثك بالحقّ ما أحسن غيره فعلّمني، فقال: إذا قمت إلى الصلاة فكبّر ثمّ اقرأ ما تيسّر معك من القرآن ثمّ اركع حتى تطمئنّ راكعا ثمّ ارفع حتّى تعتدل قائما ثمّ اسجد حتى تطمئنّ ساجدا ثمّ ارفع حتى تطمئنّ جالسا ثم اسجد حتى تطمئنّ ساجدا ثمّ افعل ذلك في صلاتك كلّها» . وزاد أبو داود: «فإذا فعلت هذا فقد تمّت صلاتك

وما انتقصت من هذا شيئا فإنّما انتقصته من صلاتك» «1» . وروى الخمسة أيضا عن عبادة بن الصامت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» «2» . وروى الخمسة إلّا البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ الكتاب فهي خداج ثلاثا غير تمام. فقيل لأبي هريرة: إنما نكون وراء الإمام، فقال: اقرأ بها في نفسك» . وروى الخمسة عن عبد الله قال: «كنّا نقول في الصلاة خلف رسول الله: السلام على الله السلام على فلان، فقال لنا رسول الله ذات يوم: إن الله هو السلام فإذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل التحيات لله والصلوات والطيبات. السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإذا قالها أصابت كلّ عبد لله صالح في السماء والأرض. أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أن محمّدا عبده ورسوله ثمّ يتخيّر من المسألة ما يشاء» . وروى الخمسة عن كعب بن عجرة قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول في الصلاة: اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم وبارك على محمّد وآل محمّد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد» . وروى الخمسة عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اعتدلوا في السّجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب» وروى أبو داود والترمذي عن حذيفة: «أنه صلّى مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فكان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم وفي سجوده سبحان ربي الأعلى» . وحديث رواه أصحاب السنن عن أبي مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تجزىء صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود» . وروى أصحاب السنن

_ (1) هذا الحديث وما نورده بعده من أحاديث منقولة من الجزء الأول من كتاب «التاج الجامع» ، انظر الصفحة 117 وما بعدها. (2) هناك أحاديث صحيحة عديدة تذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ بعد الفاتحة في الركعتين الأوليين من صلوات الظهر والعصر والمغرب والعشاء قرآنا غير الفاتحة.

عن الحسن بن علي قال: «علّمني رسول الله كلمات أقولهنّ في قنوت الوتر: اللهمّ اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولّني فيمن تولّيت وبارك لي فيما أعطيت وقني شرّ ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك وإنه لا يذلّ من واليت ولا يعزّ من عاديت تباركت ربّنا وتعاليت» . وروى الخمسة إلّا مسلما عن عمران بن حصين قال: «كانت بي بواسير فسألت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن الصلاة فقال صلّ قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب» . وروى الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر» . وروى الشيخان والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» . وروى أبو داود والنسائي والحاكم وأحمد والترمذي عن سبرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مروا الصبيّ بالصلاة إذا بلغ سبع سنين وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها» . وروى الخمسة عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من نسي صلاة فليصلّ إذا ذكرها لا كفّارة لها إلّا ذلك. أقم الصلاة لذكري» . وروى مسلم حديثا جاء فيه: «إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلّها إذا ذكرها» . وروى الترمذي والبيهقي والحاكم عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى بابا من أبواب الكبائر» . وروى الخمسة عن عبد الله قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكبّر في كلّ خفض ورفع وقيام وقعود» . وروى الخمسة عن ابن عمر قال: «رأيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم افتتح التكبير للصلاة فرفع يديه حين يكبّر حتى يجعلهما حذو منكبيه وإذا كبّر للركوع فعل مثله وإذا قال سمع الله لمن حمده فعل مثله وقال ربّنا ولك الحمد» . وفي رواية: «إذا قام من الركعتين رفع يديه ولا يفعل ذلك حين يسجد ولا حين يرفع رأسه من السجود» . وروى مسلم وأبو داود حديثا جاء فيه: «كان النبيّ إذا كبر رفع يديه ثم التحف بثوبه ثم أخذ شماله بيمينه» . وروى الخمسة إلّا البخاري عن علي قال: «كان رسول الله إذا قام إلى الصلاة كبّر ثم قال وجّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ

العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين. اللهمّ أنت الملك لا إله إلّا أنت، أنت ربّي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا لا يغفر الذنوب إلّا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلّا أنت، واصرف عني سيّئها لا يصرف سيّئها إلّا أنت، لبّيك وسعديك، والخير كلّه في يديك، والشرّ ليس إليك، وأنا بك وإليك تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك» . وروى أصحاب السنن عن أبي سعيد قال: «كان رسول الله إذا قام إلى الصلاة كبّر ثمّ يقول: سبحانك اللهمّ وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك ولا إله غيرك، ثم يقول الله أكبر كبيرا، ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفثه ونفخه» . وروى الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أمّن الإمام فأمّنوا فإنّه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدّم من ذنبه» . وروى الترمذي وأبو داود عن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا ركع أحدكم فقال في ركوعه سبحان ربّي العظيم ثلاث مرات فقد تمّ ركوعه وذلك أدناه. وإذا سجد فقال في سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات فقد تمّ سجوده وذلك أدناه» . وروى أصحاب السنن عن الفضل بن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الصلاة مثنى مثنى تشهّد في كلّ ركعتين وتخشّع وتضرّع وتمسكن وتقنع يديك يقول ترفعهما إلى ربك مستقبلا ببطونهما وجهك وتقول يا ربّ يا ربّ ومن لم يفعل فهي خداج» . وروى أبو داود والنسائي عن ابن أبي أوفى قال: «جاء رجل إلى النبي فقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا فعلّمني ما يجزئني منه، فقال: قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلّا بالله العظيم. قال: يا رسول الله هذا لله فما لي؟ قال: قل اللهمّ ارحمني وارزقني وعافني واهدني. فلمّا قام قال هكذا بيديه. فقال رسول الله: أما هذا فقد ملأ يديه من الخير» . وروى البخاري والنسائي وأبو داود عن عائشة قالت: «سألت رسول الله عن الالتفات في

الصلاة فقال هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد» . وروى الخمسة إلّا البخاري عن أم حبيبة قالت: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ما من عبد مسلم يصلّي لله كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوّعا غير فريضة إلّا بنى الله له بيتا في الجنة» . وزاد الترمذي: «أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل صلاة الفجر» . وروى الخمسة عن ابن عمر قال: «حفظت من رسول الله عشر ركعات ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب في بيته وركعتين بعد العشاء في بيته وركعتين قبل صلاة الصبح» . وروى أبو داود والترمذي والحاكم وصححه عن خارجة بن حذافة قال: «خرج علينا رسول الله فقال: إن الله قد أيّدكم بصلاة وهي خير لكم من حمر النّعم وهي الوتر فجعلها لكم فيما بين العشاء إلى طلوع الفجر» . وروى الأربعة عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا» . وروى الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ أحدكم إذا قام يصلي جاءه الشيطان فلبس عليه حتّى لا يدري كم صلّى فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس» . وروى مسلم وأبو داود وأحمد عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا شكّ أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلّى ثلاثا أو أربعا فليطرح الشّكّ وليبن على ما استيقن ثمّ يسجد سجدتين قبل أن يسلّم فإن كان صلّى خمسا شفعن له صلاته وإن كان صلّى إتماما لأربع كانتا ترغيما للشيطان» . وروى الخمسة عن أبي هريرة قال: «صلّى لنا رسول الله صلاة العصر فسلّم في ركعتين فقام ذو اليدين فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت؟ فقال رسول الله: كلّ ذلك لم يكن، فقال: كان بعض ذلك يا رسول الله فأقبل رسول الله على الناس فقال: أصدق ذو اليدين؟ فقالوا: نعم يا رسول الله، فأتمّ رسول الله ما بقي من الصلاة ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم» . وروى الخمسة عن عبد الله: «أنّ رسول الله صلّى الظهر خمسا فقيل له أزيد في الصلاة؟ فقال: وما ذاك؟ قال: صلّيت خمسا، فسجد سجدتين بعد ما سلّم. وفي رواية قال: أنا بشر

مثلكم أذكر كما تذكرون وأنسى كما تنسون. ثم سجد سجدتي السّهو» . وروى الخمسة إلّا الترمذي عن أبي قتادة قال: «رأيت رسول الله يؤمّ الناس وأمامة بنت أبي العاص وهي ابنة زينب بنت رسول الله على عاتقه فإذا ركع وضعها وإذا رفع من السجود أعادها» وروى أصحاب السنن عن عائشة قالت: «جئت ورسول الله يصلي في البيت والباب مغلق فمشى حتى فتح لي ثمّ رجع إلى مكانه ووصفت الباب في القبلة» . وروى الخمسة إلّا الترمذي عن عائشة قالت: «لقد رأيتني ورسول الله يصلّي وأنا مضطجعة بينه وبين القبلة فإذا أراد أن يسجد غمز رجليّ فقبضتهما» . وروى البخاري ومسلم وأبو داود عن سهل بن سعد عن النبي قال: «من نابه شيء في صلاته فليسبّح فإنّه إذا سبّح التفت إليه» . وروى البخاري ومسلم عن عائشة: «أنّ رسول الله كان يصلّي الصبح بغلس فينصرف نساء المؤمنين لا يعرفن من الغلس» . وروى البخاري ومسلم وأبو داود عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» . وروى الخمسة إلّا أبا داود عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذّ بسبع وعشرين درجة» . وروى أصحاب السنن وأحمد عن أبيّ بن كعب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كثر فهو أحبّ إلى الله عزّ وجلّ» . وروى البخاري ومسلم وأبو داود عن نافع عن ابن عمر «أن رسول الله كان يأمر المؤذّن إذا كانت ليلة ذات برد ومطر يقول ألا صلّوا في الرّحال» . وروى أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من سمع المنادي فلم يمنعه من اتّباعه عذر لم تقبل منه الصلاة التي صلّى. قالوا وما العذر؟ قال: خوف أو مرض» . وروى البخاري ومسلم وأبو داود عن مالك بن الحويرث قال: «قال لنا رسول الله إذا حضرت الصلاة فأذّنا ثمّ أقيما وليؤمّكما أكبركما، ولأبي داود، ليؤذّن لكم خياركم وليؤمّكم قرّاؤكم» . وروى الخمسة إلّا البخاري عن أبي مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يؤمّ القوم أقرأهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم

بالسّنة فإن كانوا في السّنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا ولا يؤمّنّ الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلّا بإذنه» . وروى أصحاب السنن عن مالك في الحديث قال: «سمعت رسول الله يقول من زار قوما فلا يؤمّهم وليؤمّهم رجل منهم» . وروى الخمسة عن أبي مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ منكم منفّرين فأيّكم صلّى بالناس فليتجوّز فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة وإذا صلّى لنفسه فليطول ما شاء» . وروى أبو داود والحاكم وابن خزيمة وصححه عن عبد الرحمن بن خلّاد: «أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يزور أمّ ورقة في بيتها فاستأذنته في مؤذّن فجعل لها مؤذّنا وأمرها أن تؤمّ أهل دارها» . وروى البخاري وأبو داود عن ابن عمر قال: «لما قدم المهاجرون الأولون العصبة موضعا بقباء قبل قدوم النبيّ كان يؤمّهم سالم مولى أبي حذيفة وكان أكثرهم قرآنا» . وروى أبو داود وأحمد عن أنس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم استخلف ابن أمّ مكتوم يؤمّ الناس وهو أعمى» . وروى أبو داود والدارقطني حديثا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «الصلاة المكتوبة واجبة خلف كلّ مسلم برّا كان أو فاجرا وإن عمل الكبائر» . وروى الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنما جعل الإمام ليؤتمّ به فإذا كبّر فكبّروا وإذا ركع فاركعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا اللهمّ ربّنا لك الحمد. وإذا صلّى قائما فصلّوا قياما وإذا صلّى قاعدا فصلّوا قعودا أجمعين» . وروى الطبراني عن أبي بكرة أنه ركع دون الصف فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «زادك الله حرصا ولا تعد صلّ ما أدركت واقض ما سبقك» «1» . وروى الطبراني عن ابن مسعود في الذي يفوته بعض الصلاة مع الإمام قال: «يجعل ما لا يدرك مع الإمام آخر صلاته» «2» . وروى أبو داود والترمذي والحاكم وصححه عن أبي سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الأرض كلّها مسجد إلّا الحمّام

_ (1) عن «مجمع الزوائد» ج 1 ص 76. ويفيد الحديثان أن على من يدرك الإمام وقد صلى بعض الركعات أن يتمم ما فاته منها بعد انتهاء الإمام من صلاته. (2) المصدر نفسه. الجزء الأول من التفسير الحديث 22

والمقبرة» . وروى الترمذي عن ابن عمر: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى أن يصلّى في سبع مواطن: في المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، والحمّام، ومعاطن الإبل، وفوق ظهر بيت الله الحرام» . وروى النسائي وأحمد وابن ماجه عن عمر قال: «صلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة السفر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان تماما ليس بقصر على لسان النبي صلّى الله عليه وسلّم» . وروى أبو داود وأحمد والترمذي عن عائشة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يكبّر في الفطر والأضحى. في الأولى سبع تكبيرات وفي الثانية خمسا» . ولفظ الترمذي: «كان النبي يكبّر في العيدين في الأولى سبعا قبل القراءة وفي الآخرة خمسا قبل القراءة» . وروى الخمسة إلّا الترمذي عن جابر قال: «شهدت العيد مع رسول الله فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة ثمّ قام متوكّئا على بلال فأمر بتقوى الله وحثّ على طاعته ووعظ الناس وذكّرهم» . وروى النسائي عن أبي رمثه قال: «رأيت النبي يخطب وعليه بردان أخضران» وروى أصحاب السنن عن ابن عباس: «أن رسول الله خرج في الاستسقاء متبذّلا متواضعا متضرّعا حتى أتى المصلّى فرقى المنبر فلم يخطب خطبكم هذه ولكن لم يزل في الدّعاء والتضرّع ثم صلّى ركعتين كما يصلّي في العيد» . وروى الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أوصاني خليلي بثلاث بصيام ثلاثة أيام من كلّ شهر وركعتي الضّحى وأن أو تر قبل أن أنام» . وروى الخمسة إلّا البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أفضل الصّيام بعد رمضان شهر الله الحرام وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل» . وروى الترمذي وأحمد والحاكم عن أبي أمامة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «عليكم بقيام الليل فإنّه دأب الصالحين قبلكم وهو قربة إلى ربّكم ومكفرة للسّيئات ومنهاة للإثم. وفي رواية ومطردة للدّاء عن الجسد» . وروى الخمسة عن ابن عمر: «أنّ رجلا قال: يا رسول الله كيف صلاة الليل؟ قال: مثنى مثنى، فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة» . وروى مسلم عن عائشة قالت: «لما بدّن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وثقل كان أكثر صلاته جالسا» . وروى الخمسة عن جابر قال: «كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلّها، كما يعلّمنا السورة من

القرآن يقول إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثمّ ليقل اللهمّ إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علّام الغيوب. اللهمّ إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال وعاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسّره لي ثمّ بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال في عاجل أمري وآجله فاصرفه عنّي واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به قال ويسمّي حاجته» . وروى الخمسة عن زيد بن أرقم قال: «كنّا نتكلّم في الصلاة يكلّم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصّلاة حتى نزلت: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ [البقرة/ 238] فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام» . وروى مسلم وأبو داود وأحمد عن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس. إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» . وروى الخمسة إلّا الترمذي عن ابن عمر: «أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يركز له الحربة فيصلّي إليها» . وروى أبو داود وأحمد عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا صلّى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا فإن لم يجد فلينصب عصا فإن لم يكن معه عصا فليخطط خطا ثمّ لا يضرّه من مرّ أمامه» . وروى الخمسة عن أبي جهم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو يعلم المارّ بين يدي المصلّي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمرّ بين يديه- قال أبو النضر أحد رواة الحديث- لا أدري قال أربعين يوما أو شهرا أو سنة» . وهناك أحاديث كثيرة أخرى في طهارة الثياب والوضوء والغسل من الجنابة ونظافة البدن والمياه وستر العورة والقبلة وصلاة الخوف والسفر والجمعة والميت والأذان والإقامة والمساجد مما له صلة بالصلاة سنورد الرئيسي منها في سياق إشارات وردت إليها في سور أخرى. هذا، والصلاة في أصلها تمجيد وتسبيح وابتهال لله تعالى وأداء حقه من العبادة وطلب الرحمة والهدى منه. والصلاة الإسلامية من أكمل أشكال ذلك،

حيث توجب على المسلم أن يستعد لها بطهارة البدن والثوب ثم يدخل فيها متفرغا لله وحده بعبارة الله أكبر التي تعني التحرر من الغير وتقرير الكبرياء والعزّة والقوة لله وحده. ويكرر هذه العبارة عند كل حركة من حركات القيام والركوع والسجود والجلوس، ويتلو في مفتتح كل ركعة سورة الفاتحة التي تقرر الحمد لله رب العالمين، وتعلم إعلان الخضوع والعبادة له وحده وطلب الرحمة والهداية والعون منه وحده، ويركع ويسجد في كل ركعة مسبحا في ركوعه وسجوده باسم الله العظيم الأعلى. ولقد أسبغ القرآن على الصلاة خطورة عظمى فجعلها من عناوين الإيمان والتقوى المتلازمة معهما كما جاء في آيات سورة البقرة هذه: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) ، ونوّه بالمؤمنين الذين يقيمونها باستمرار وخشوع كما جاء في آيات سورة المؤمنون هذه: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) ، ووَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9) ، ووصفها بأنها كتاب، أو فرض معين الأوقات يجب أداؤها فيها على أي حال وفي أي ظرف ولو في ظرف القتال والحرب، كما جاء في آيات سورة النساء هذه: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103) .

وجريا على العادة القرآنية في بيان فوائد أوامر الله ونواهيه في الدنيا والآخرة معا نبه في أكثر من آية إلى ما تؤدي إليه الصلاة من نتائج عظيمة خلقية وروحية واجتماعية مثل ما جاء في آية سورة البقرة هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) ، وفي آية سورة العنكبوت هذه: اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45) ، وفي آيات سورة المعارج هذه: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) . ولقد أمر الله النبي صلّى الله عليه وسلّم بمعالجة ما كان يلم به من أزمات بالصلاة، ومن ذلك ما جاء في الآية الأخيرة من سورة العلق التي نحن في صددها، حيث أمرته بأن لا يأبه للطاغية المتصدي له، وبأن يسجد لله ويتقرب إليه حيث يجد في ذلك أمنه وطمأنينته. ومن ذلك ما جاء في سورة الشرح: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) ، ومن ذلك آيات سورة الحجر هذه: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) ، ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن هذا موجه للمسلمين، وقد خوطبوا بذلك فعلا في آية سورة البقرة [153] التي أوردناها آنفا. ولقد أثرت أحاديث نبوية كثيرة في فضل الصلاة وثوابها ورد كثير منها في

كتب الأحاديث الصحيحة. ولقد روى أبو داود والنسائي عن عبد الله بن الصنابحيّ حديثا جاء فيه: «أشهد أنّي سمعت رسول الله يقول: خمس صلوات افترضهنّ الله عزّ وجلّ، من أحسن وضوء هنّ وصلّاهنّ لوقتهنّ وأتمّ ركوعهنّ وخشوعهنّ كان له على الله عهد أن يغفر له» «1» . وحديث رواه أبو داود عن أبي قتادة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله عزّ وجلّ إني افترضت على أمتك خمس صلوات وعهدت عندي عهدا أنّه من جاء يحافظ عليهنّ لوقتهنّ أدخلته الجنة ومن لم يحافظ عليهنّ فلا عهد له عندي» «2» وروى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي حديثا عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أرأيتم لو أنّ نهرا بباب أحدكم يغتسل منه كلّ يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء. قالوا: لا، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهنّ الخطايا» «3» وروى البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربّهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلّون وأتيناهم وهم يصلّون» «4» . وروى مسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفّارات لما بينهنّ ما لم تغش الكبائر» «5» . وروى مسلم حديثا عن عمرو بن سعيد جاء فيه: «كنت عند عثمان فدعا بطهور فقال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلّا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يأت كبيرة وذلك الدهر كلّه» «6» .

_ (1) «التاج» ، ج 1 ص 118. (2) المصدر نفسه، ج 1، ص 118- 119. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه. (6) المصدر نفسه.

وبهذا يتسق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الأمر الخطير كما هو الشأن في كل أمر على ما سوف يأتي إيراده في مناسباته. ومما لا ريب فيه أن الصلاة بإيمان وقلب وذكر وخشوع تجعل المصلي لا يفكر إلا في الله وعظمته، فتتحرر نفسه من كل خوف وقلق، ويشعر بالطمأنينة والقوة المعنوية، فتهون لديه كل خطوب الدنيا، ولا يعود يرى كبيرا إلا الله ولا قويّا إلّا الله ولا ضارّا ولا نافعا إلّا الله. ثم تجعله يستحيي من التلبس بالنفاق والكذب إذا ما خالف بين باطنه وظاهره وقوله وعمله، بينما هو يتهيأ من آن لآخر للوقوف بين يدي الله تعالى، فينتهي كما ذكرت آية سورة العنكبوت عن الفحشاء والمنكر، ويتطهر من الهلع والجزع ويتحلى بالصفات الكريمة الفاضلة كما ذكرت آيات سورة المعارج حقا وصدقا. وعلى هذا فيسوغ القول إن الصلاة التي لا تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر، ولا تجعله يتحلى بفاضل الأخلاق ويعمل صالح الأعمال لا تكون صحيحة. وهذا ما عبرت عنه أحاديث عديدة مروية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «1» منها: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له» . ومنها: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلّا بعدا» ومنها: «لا صلاة لمن لم يطع الصلاة. وطاعة الصلاة أن تنهاه عن الفحشاء والمنكر» . هذا، وهناك أحاديث نبوية تسجل عظيم إثم تارك الصلاة حتى لتعتبره مرتدا وكافرا منها حديث رواه مسلم والنسائي والترمذي وأبو داود عن جابر قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم إنّ بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» «2» . وحديث رواه الترمذي عن بريدة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر» . وحديث رواه الترمذي عن عبد الله بن شقيق قال: «كان أصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلّم

_ (1) انظر تفسير الآية [45] من سورة العنكبوت في تفسير ابن كثير. (2) «التاج» ، ج 1 ص 124- 125.

لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة» «1» . وننبه على أن مسألة كفر تارك الصلاة من المسائل الخلافية فهناك من الأئمة من أخذ بظاهر الأحاديث فاعتبر تارك الصلاة كافرا مرتدا يستتاب فإن لم يتب يقتل وفقا للتشريع النبوي الذي شرع قتله في حديث رواه الخمسة جاء فيه «لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلّا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس والثيّب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة» «2» . وهناك من تأول الأحاديث فذهب إلى أن الكفر والارتداد إنما يكونان بسبب جحود واجب الصلاة فقط. ويكون تاركها كسلا فاسقا مرتكبا إحدى الكبائر. ومهما يكن من أمر فالأحاديث تنطوي على تعظيم الصلاة وتفظيع إثم تاركها. ولقد سألني سائل عن كيفية تعبّد النبي صلّى الله عليه وسلّم في غار حراء في اعتكافاته، قبل بعثته التي جاء ذكرها في الحديث الذي أوردناه قبل. وجوابا على السؤال قلنا إن القيام والركوع والسجود كأشكال للعبادة كانت معروفة وممارسة على ما تلهمه بعض آيات القرآن وهو ما ذكرناه قبل. وفي آيات سورة الحج [25/ 26] وسورة البقرة [124/ 125] التي أوردناها قبل أمر إبراهيم بتطهير بيت الله للقائمين الركع السجود. ولقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم في جماعة أنفوا أن يسيروا في طريق الشرك ودين الجاهلية وكانوا ينشدون ملة إبراهيم. ولقد روي عن زيد بن عمرو أحد هؤلاء أنه كان يسجد في فناء الكعبة ويهتف قائلا: «لبيك حقا حقا، تعبدا ورقا، عذت بما عاذ به إبراهيم، إنني لك عان راغم. مهما تجشمني فإني جاشم» «3» . ولقد أمر الله نبيه بعد أن بعثه أن يقول: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) [الأنعام/ 161- 163] ، حيث يمكن

_ (1) المصدر السابق نفسه. (2) «التاج» ج. 3 ص 17. [.....] (3) انظر «أسد الغابة» ج 2 ص 178.

تعليق على آية ألم يعلم بأن الله يرى

القول على ضوء ذلك أن من الجائز أن يكون تعبّد النبي صلّى الله عليه وسلّم في غار حراء قائما راكعا ساجدا داعيا لله مسبحا مقدسا ذلك غير أنه لا يمكن القول بجزم أنه كان يصلي بالصلاة الإسلامية المعروفة بحذافيرها لأن الآثار التي أوردناها تفيد أن هذه الصلاة كانت من تعليم جبريل بعد الوحي والله تعالى أعلم. ومن الجدير بالذكر أن الصلاة الإسلامية المفروضة والنافلة على السواء، غير مقيدة بمكان وإمامتها غير منوطة بما يعرف في الملل الأخرى بطبقة الكهنوت ورجال الدين. فكل مكان طاهر ليس محلا للمناظر الكريهة يصح أن يكون مكانا لصلاة المسلم. وكل مسلم مهما كانت مهنته وصفته ولونه وجنسه يصح أن يؤمّ غيره إذا كان يحسن قراءة القرآن ويعرف سنن الصلاة، ولقد روي في صدد هاتين المسألتين أحاديث في الكتب المعتبرة. ففي صدد المسألة الأولى روى أبو داود والترمذي والحاكم عن أبي سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الأرض كلّها مسجد إلّا الحمام والمقبرة» «1» وروى الترمذي عن ابن عمر «أنّ رسول الله نهى أن يصلّى في سبعة مواطن في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمّام ومعاطن الإبل وفوق ظهر البيت الحرام» «2» . وروى الخمسة إلّا أبا داود عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «فضّلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرّعب وأحلّت إليّ الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون» «3» . تعليق على آية أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى وبمناسبة ورود هذه الآية لأول مرة نقول: إن القرآن احتوى آيات كثيرة، نسبت فيها الرؤية والسمع إلى الله تعالى، وإنه دار جدل وتشاد بين علماء الكلام

_ (1) «التاج» ج 1 ص 219- 220. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه ص 205.

تعليق على كلمة (التقوى) وما ينطوي فيها من تلقين وأهداف جليلة

حول ذلك من حيث إنه إنما يحدث من أعضاء السمع والبصر، وما إذا كان لله سبحانه مثل هذه الأعضاء أم لا. وخير المذاهب في هذا الموضوع وأمثاله هو مذهب الصدر الإسلامي الأول، وهو عدم الخوض في الكيفيات وعدم التشاد والجدل حولها، مع تنزيه الله سبحانه عن كل مماثلة لخلقه وملاحظة الضابط القرآني المحكم المنطوي في آية سورة الشورى وهو: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [11] ، واعتبار أن المقصود بذلك وصف الله عز وجل بشمول العلم والإحاطة بكل شيء والقدرة على كل شيء والهيمنة الكاملة على الكون وما فيه من كائنات والتصرف المطلق فيه واتصافه بكل صفات الكمال. والمتدبر في نصف آية الشورى المذكورة والآية التالية لها يرى تأييد هذا قويا، وهذا نص الآيتين: فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) . تعليق على كلمة (التقوى) وما ينطوي فيها من تلقين وأهداف جليلة وبمناسبة ورود كلمة (التقوى) لأول مرة في السورة نقول إن الأمر بالتقوى والحثّ عليها والتنويه بالمتقين ووعد الله لهم بالغفران وتوسيع الرزق والهداية إلخ قد تكرر في القرآن كثيرا حتى لقد بلغ عدد الآيات التي وردت فيها الكلمة ومشتقاتها نحو مئتين وخمسين مرة مما يدل على مبلغ العناية القرآنية بذلك. والكلمة في أصل معناها وقصدها التوقّي من غضب الله وسخطه باجتناب نواهيه واتباع أوامره. وهو لا يأمر إلّا بما فيه خير للإنسان والإنسانية. ولا ينهى إلّا عما فيه ضرر لهما. وبعبارة أخرى أن المقصد أو الهدف المتوخى من الأمر بالتقوى والحثّ عليها هو إصلاح الإنسان وتوجيه المسلم إلى كل ما فيه الخير

وإشعاره بالخوف من الله عز وجل وجعله يتجنب كل ما فيه شرّ وضرر. وفي القرآن آيات عديدة تضمنت تقرير وجوب تلازم التقوى مع الإيمان مثل آيات سورة يونس هذه: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) . وآية سورة الأعراف هذه: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) ، وآية سورة البقرة هذه: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103) ، وآية سورة المائدة هذه: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) . حيث يتضمن هذا تقرير كون الإيمان وحده لا يكفي لنجاة الإنسان إذا لم يرافقه عزم على اتباع أوامر الله واجتناب نواهيه وممارسته لذلك أو بعبارة أخرى تقرير كون الإيمان هو أمر في سريرة الإنسان لا دليل عليه إلّا التقوى التي تحمل المؤمن على اتباع أوامر الله واجتناب نواهيه. وفي القرآن آيات عديدة تضمنت تقرير الفوائد المتنوعة التي ييسرها الله للمتقين مثل آيات سورة الطلاق هذه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) ، وهذه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ، وهذه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) ، وآية سورة هود هذه: إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) ، وآية سورة الأنفال هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) ، وآية سورة الزمر هذه: قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) ، وآية سورة الحديد هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) . ويبدو هذا ظاهر الحكمة لأن المتقي يكون قد تجنب العثرات والمواقف الضارة المؤذية فأمن شرها وحظي بما يكون فيه الأمن والسلامة والنفع والخير والسداد والتوفيق والنجاح والنجاة في دنياه وأخراه. ولهذا كله حثّ القرآن على التقوى واعتبرها خير زاد يتزود بها المؤمن- والزاد لا بد منه لدوام الحياة مما يفهم ضرورته ذوو العقول النيرة- كما جاء في آية سورة البقرة هذه: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197) ، ونبّه على أن أولياء الله هم المتقون كما جاء في آيات سورة يونس [62/ 63] التي أوردناها قبل قليل. وقرر أن الله هو ولي المتقين كما جاء في آية سورة الجاثية هذه: وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) ، وأن أكرم الناس عند الله أتقاهم كما جاء في آية سورة الحجرات/ 13 وجعل قبول دعاء الداعين وعبادة العابدين منوطا بالتقوى كما جاء في آية سورة المائدة هذه: قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) ، وكرر تقرير محبة الله للمتقين في آيات عديدة منها آية آل عمران هذه: بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) «1» ، وأنه مع الذين اتقوا كما جاء في سورة النحل: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) ، وأنه ينجي الذين اتقوا كما جاء في آية سورة الزمر هذه: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) «2» ، وفي سورة البقرة آية فيها جماع الفضائل الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية والإنسانية وصف المتصفون بها بالمتقين وهي: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ

_ (1) لهذه الآيات أمثال أخرى فاكتفينا بمثل واحد. (2) المصدر نفسه.

تعليق على مدى جملة: كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية وما بعدها

وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) . حيث يبدو من كل ذلك كما قلنا عناية الله الجليلة وحكمة التنزيل السامية بإصلاح المسلم وتوجيه إلى أحسن الوجهات التي فيها خيره وخير الإنسانية وسعادته في الدنيا والآخرة. تعليق على مدى جملة: كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ وما بعدها وجملة: كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ وما بعدها، تفتح الباب للكافر والمجرم والمنحرف للتراجع والأمل بعفو الله ومغفرته على سابق أفعاله. وتجعل العقوبة المنذر بها مستحقة عليه إذا أصرّ على كفره وإجرامه وانحرافه ولم ينته ولم يتراجع عنه. ولقد انطوى هذا المعنى في آيات كثيرة جدا مكية ومدنية كثرة تغني عن التمثيل. بحيث يقال إن الإنذارات القرآنية إنما استهدفت في الدرجة الأولى تنبيه الكفار والمنحرفين والمجرمين وردعهم وصلاحهم وحملهم على التراجع والانتهاء من كفرهم وانحرافهم وإجرامهم. وفي هذا ما فيه من روعة وحكمة سامية وتلقين مستمر المدى. تعليق على سنّة سجود التلاوة في مناسبة الآية الأخيرة من السورة هذا وهناك أحاديث عديدة تقرر سنة نبوية بالسجود عند تلاوة عدد من الآيات فيها أمر بالسجود لله أو خبر باستكبار الكفار عنه. من جملة ذلك سنة:

السجود عند تلاوة آخر سورة العلق حيث روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة حديثا جاء فيه: «سجدنا مع رسول الله في إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق/ 1] ، واقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق/ 1] » . ومن الأحاديث المروية في الموضوع عامة حديث رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر جاء فيه: «كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقرأ السورة التي فيها السجدة فيسجد ونسجد معه حتى ما يجد أحدنا مكانا لموضع جبهته» . وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة جاء فيه: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله، وفي رواية يا ويلي أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار» . وحديث رواه أبو داود والحاكم عن ابن عمر جاء فيه: «كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقرأ علينا القرآن فإذا مرّ بالسجدة كبّر وسجد وسجدنا معه» «1» . وفي المصحف الذي اعتمدنا عليه إشارة إلى أربع عشرة سجدة هي آيات الرعد [15] والنحل [49] والإسراء [107] ومريم [58] والحج [18 و 77] والفرقان [60] والنمل [25] والسجدة [15] وص [24] وفصلت [37] والنجم [62] والانشقاق [21] والعلق [18] . وفي بعض هذه السجدات أحاديث دون بعض. ولقد روى أبو داود وابن ماجه عن عمرو بن العاص حديثا قال فيه: «إن النبي صلّى الله عليه وسلّم أقرأني خمس عشرة سجدة منها ثلاث في المفصّل وفي سورة الحجّ سجدتان» «2» . وروى الترمذي وأبو داود عن أبي الدرداء حديثا جاء فيه: «سجدت مع رسول الله إحدى عشرة سجدة منها التي في النجم» «3» . وروى أبو داود حديثا مرفوعا جاء فيه: «قرأ رسول الله وهو على المنبر (ص) ، فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه. فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشزّن الناس للسجود فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّما هي توبة نبيّ ولكنّي رأيتكم تشزّنتم للسجود فنزل

_ (1) «التاج» ج 1 ص 198 وما بعدها. (2) التاج ج 1 ص 198 وما بعدها. (3) المصدر نفسه.

تعليق على الأحاديث الواردة في صدد فضل قراءة السور القرآنية

فسجد وسجدوا» «1» . وهذا بالإضافة إلى حديث أبي هريرة الذي ذكر في سجدتي الانشقاق والعلق. وما بقية السجدات فهي على ما يبدو من تنبيهات المفسرين اجتهادية جريا على قاعدة ذكرها الزمخشري في سياق آية سورة النمل [25] حيث قال إن مواضع السجدة إما أمر بها أو مدح لمن أتى بها أو ذم لمن تركها. ثم قال: إن أبا حنيفة والشافعي رحمهما الله اتفقا على أن سجدات القرآن أربع عشرة وإنما اختلفا في سجدة (ص) وسجدتي (النحل) . ولقد روى الخمسة عن زيد بن ثابت قال: «قرأت على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والنجم فلم يسجد فيها» وروى البخاري عن ربيعة بن عبد الله قال: «قرأ عمر بن الخطاب على المنبر يوم الجمعة بسورة النحل فلما جاء السّجدة نزل فسجد وسجد الناس حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها فلما جاء السّجدة قال يا أيّها النّاس إنما نمرّ بالسجود فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه ولم يسجد عمر» وروى البخاري حديثا عن ابن عمر جاء فيه: «إن الله لم يفرض علينا السجود إلّا أن نشاء» . ويلحظ أن السجدات جميعها في سور مكية وقد كان العهد المكي بنوع خاص عهد نضال وتشاد مريرين بين التوحيد والشرك والإيمان والكفر وبين النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وكفار العرب وفي مقدمتهم زعماء مكة. حيث يلمح من ذلك حكمة السنة النبوية التي فيها علامة الاستجابة السريعة من أهل الإيمان إلى السجود إلى الله عز وجل عند كل مناسبة ورد وتحد عمليان على الكفار بسبب استكبارهم وعنادهم. تعليق على الأحاديث الواردة في صدد فضل قراءة السور القرآنية هذا، ولقد أورد الزمخشري في آخر تفسير هذه السورة حديثا معزوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «من قرأ سورة العلق أعطي من الأجر كأنما قرأ المفصل كله» .

_ (1) المصدر السابق نفسه.

وننبّه بهذه المناسبة على أن الزمخشري يورد في آخر كل سورة بدون استثناء حديثا من هذا الباب «1» . وقد نبّه ابن حجر الذي اضطلع بتخريج أحاديث هذا المفسر على ضعف رواة هذه الأحاديث وانقطاعها عن رسول الله، والمتبادر أن في هذا الحق والصواب. وقد جعلنا هذا نكتفي بإيراد حديث هذه السورة كمثال والتنبيه على ما نبه عليه ابن حجر. على أننا ننبه على أن هناك أحاديث وردت في كتب الأحاديث الصحيحة بالتنويه ببعض السور. ومن ذلك الأحاديث التي أوردناها في سورة الفاتحة. وسنورد ما كان من هذا الباب في سياق السور التي جاءت في صددها.

_ (1) هذه بعض نماذج أخرى من هذه الأحاديث: 1- من قرأ لَمْ يَكُنِ كان يوم القيامة مع خير البرية. 2- من قرأ سورة الشمس فكأنما تصدق بكل شيء طلعت عليه الشمس والقمر. 3- من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح عليه السلام. 4- من قرأ سورة الممتحنة كان له المؤمنون والمؤمنات شفعاء له يوم القيامة. 5- من قرأ سورة الحجرات أعطي من الأجر بعدد من أطاع الله وعصاه. 6- من قرأ سورة الأنفال وبراءة فأنا شفيع له يوم القيامة وشاهد أنه بريء من النفاق وأعطي عشر حسنات بعدد كل منافق ومنافقة وكان العرش وحملته يستغفرون له أيام حياته في الدنيا والنصوص بينة لا تكاد تبقي شبهة في النفس بأنها موضوعة مكذوبة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

سورة القلم

سورة القلم في السورة تثبيت وتطمين للنبي صلّى الله عليه وسلّم وثناء عليه وحملة على المكذبين وإنذار لهم، وصور لمواقفهم من الدعوة. وفيها قصة جاءت في معرض التذكير والإنذار كما فيها إشارة إلى قصة يونس في معرض تثبيت النبي صلّى الله عليه وسلّم. ومضمون الآيات الأربع الأولى منها والتالية لها يحتمل أن تكون الآيات الأربع نزلت لحدة، وأن تكون بقية الآيات نزلت بعد مدة ما، كما يحتمل أن تكون جميعها نزلت دفعة واحدة. وترتيبها كثانية السور نزولا هو بناء على احتمال نزول الآيات الأربع لحدتها. وعقب آيات سورة العلق الخمس الأولى. فإذا لم يكن هذا الاحتمال صحيحا وكانت الآيات الأربع وما بعدها قد نزلت معا، فلا يكون ترتيبها هذا صحيحا والحالة هذه، ويقتضي أن تكون نزلت متأخرة بعض الشيء. وقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات [17- 33] و [48- 50] مدنيات. وأسلوبها ومضمونها يلهمان عدم صحة ذلك. وآيات السور منسجمة في موضوعها وتسلسلها وسبكها. وهذا يسوغ القول إنها من السور التي نزلت دفعة واحدة أو فصولا متلاحقة، مع ملاحظة ما ذكرناه في صدد آياتها الأربع الأولى. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة القلم (68) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) الجزء الأول من التفسير الحديث 23

(1) يسطرون: من سطر بمعنى كتب. (2) المنّ: يأتي في القرآن واللغة في معان عديدة. منها القطع، ومنها الإنعام والتفضل. ومنها تعداد النعم في مقام التذكير بالجميل. وجملة غير ممنون هنا بمعنى غير مقطوع على ما عليه الجمهور. الخطاب في الآيات موجه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفيها: قسم بالقلم وما يكتب الناس به على سبيل التوكيد بأن عناية الله ونعمته شاملتان له، وأنه ليس مجنونا، وأن له أجرا دائما من الله على قيامه بمهمته العظمى وما يتحمله في سبيلها، وأنه على خلق عظيم أهّله لاصطفاء الله وعنايته. وفي كتب التفسير أقوال عديدة في مدلول حرف (ن) . في بعضها إغراب وخيال. فمن ذلك ما ورد في تفسير ابن عباس الذي يرويه الكلبي عن أبي صالح أنه السمكة التي تحمل الأرضين على ظهرها وهي في الماء وتحتها الثور وتحت الثور الصخرة وتحت الصخرة الثرى ولا يعلم ما تحت الثرى إلّا الله وأن اسم السمكة ليواشي أو ليوتي واسم الثور يهبموت أو يلهوي. وقد ورد في التفسير نفسه إلى هذا إنه اسم من أسماء الله أو إنه الدواة. وهذه الأقوال الثلاثة مروية في كتب تفسير أخرى مثل كتب الطبري والبغوي وابن كثير والخازن وغيرهم عن ابن عباس أو (الرواة) أو كعب الأحبار. وفي الرواية الأولى في تفسير البغوي زيادات أكثر غرابة وخيالا معزوة إلى (الرواة) نرويها كنموذج مستغرب أكثر المفسرون السابقون من إيراد أمثاله على هوامش الألفاظ والأعلام والقصص والمشاهد القرآنية عزوا إلى الأخباريين من أصحاب وتابعين الذين تذكر أسماؤهم أحيانا وتغفل أحيانا حيث جاء فيها: «لما خلق الله الأرض وفتقها بعث من تحت العرش ملكا فهبط إلى الأرض حتى دخل تحت الأرضين السبع فوضعها على عاتق إحدى يديه بالمشرق والأخرى بالمغرب باسطتين قابضتين على الأرضين السبع حتى خبطها فلم يكن

لقدميه موضع قرار فأهبط الله عليه من الفردوس ثورا له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة وجعل قرار قدمي الملك على سنامه فلم تستقر قدماه فأخذ الله ياقوتة خضراء من أعلى درجة من الفردوس غلظها مسيرة خمسمائة ألف عام فوضعها بين سنام الثور إلى أذنه فاستقرت عليها قدماه. وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض ومنخراه في البحر فهو يتنفس كل يوم نفسا فإذا تنفس مدّ البحر وأزبد. وإذا ردّ نفسه جزر فلم يكن لقوائم الثور موضع قرار فخلق الله تعالى صخرة كغلظ سبع سموات وسبع أرضين فاستقرت قوائم الثور عليها وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ [لقمان/ 16] ولم يكن للصخرة مستقر فخلق الله نونا وهو الحوت العظيم فوضع الصخرة على ظهره وسائر جسمه خال والحوت على البحر والبحر على متن الريح والريح على القدرة يقل الدنيا كلها بما عليها حرفان من كتاب قال لها الجبار كوني فكانت. ويستمر البغوي في سياقه فيقول: وقال كعب الأحبار إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض فوسوس له فقال له أتدري ما على ظهرك يا لوثيا من الأمم والدواب والشجر والجبال لو تنفثهم ألقيتهم عن ظهرك. فهم لوثيا أن يفعل ذلك فبعث الله دابة فدخلت منخره فوصلت إلى دماغه فعج الحوت إلى الله منها فأذن لها فخرجت. قال كعب: فو الذي نفسي بيده إنه لينظر إليها وتنظر إليه، إن هم بشيء من ذلك عادت إلى ذلك كما كانت ... وفي كتب التفسير بالإضافة إلى هذه الروايات والأقوال أحاديث معزوة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. سنورد نصوصها بعد قليل في واحد منها أن النون هو الحوت. وفي واحد منها أنه الدواة. وفي واحد منها أنه لوح من نور. وفي الآيات الأخيرة من السورة إشارة إلى يونس عليه السلام بوصفه صاحب الحوت على ما سوف نشرحه بعد. وفي سورة الأنبياء آية فيها إشارة أخرى إلى يونس عليه السلام بوصفه ذي النون: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [87] ، حيث يمكن أن يكون كون (النون) اسما للحوت الذي ذكر صاحبه

استطراد إلى ما عرف في كتب التفسير بالإسرائيليات وتعليق عليها

في آخر السورة واردا وربط ذلك أول السورة بآخرها. وفي هذا إن صح صورة من صور النظم القرآني. وجملة وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ قد تجعل كون (النون) اسما للدواة واردا أيضا للتناسب الظاهر. وتعدد السور التي تبتدئ بحرف أو حروف هجائية يتبعها قسم قد يجعل القول إن حرف النون مثلها واردا أيضا، وقد يكون ما احتوته الآيات الخمس الأولى من سورة العلق أول القرآن نزولا وما احتواه مطلع السورة من مماثلة موضوعية، حيث أمر في الأولى بالقراءة ونوه بالقلم وما علمه الله للإنسان وحيث أقسم في الثانية بالدواة والقلم والكتابة. وهي يَسْطُرُونَ مع حديث أبي هريرة الذي فيه تفسير نبوي للنون بالدواة والذي لا مانع من صحته كل هذا يجعل الرجحان لهذا أكثر. وإذا صح هذا الترجيح فيكون مطلع السورة الذي من المحتمل أن يكون نزل بعد الآيات الخمس الأولى من سورة العلق توكيدا لما احتوته هذه الآيات الخمس في صدر تلقين القرآن منذ بدء تنزيله بخطورة القراءة والكتابة والعلم والتعليم في حياة الإنسان وكرامته. استطراد إلى ما عرف في كتب التفسير بالإسرائيليات وتعليق عليها وسياق الرواية الطويلة التي نقلناها عن البغوي معزوة إلى (الرواة) يفيد أن كعب الأحبار هو المعني بالرواة أو هو منهم. وهذا الرجل من اليهود الذين أسلموا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم وخلفائه الراشدين واندمجوا في المجتمع الإسلامي، وقد روى عنه وعن رفاقه مثل عبد الله بن سلام ومحمد القرظي وثعلبة ونوف البكالي وأبناء منبه روايات كثيرة على هامش الألفاظ والأعلام والقصص والمشاهد القرآنية فيها مثل ما في هذه الرواية من إغراب وخيال. وقد وصفها علماء المسلمين بالإسرائيليات التي تتضمن معنى التشكيك وعدم الثقة فيها. ولقد كان عند اليهود أسفار وقراطيس فيها شرائعهم وأخبار أجدادهم

وأنبيائهم وأخبار ما قبلهم من خلق وتكوين وأنبياء وأحداث. وقد استطاعوا قبل البعثة أن يوجدوا في نفوس العرب فكرة كونهم أصحاب علم في شؤون الدين والدنيا المتنوعة. وكانوا هم يتبجحون بذلك وينسبون كثيرا مما يحدثون به العرب إلى كتب الله على ما أشارت إليه آيات قرآنية كثيرة في سورتي البقرة وآل عمران «1» . فلما أسلم من أسلم منهم بعد البعثة صار المسلمون في الصدر الإسلامي يسألونهم عن تفصيل ما ورد مجملا في القرآن من قصص وأعلام ومشاهد وأحداث واصطلاحات فيفيضون لهم عنه. وكانوا يفيضون بذلك بدون سؤال أيضا إذا ما وقعت المناسبة. ولقد روى البخاري عن أبي هريرة حديثا جاء فيه: «كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا [136] ، إلى آخر الآية من سورة البقرة» «2» . فكان الرواة يتلقون ما يذكره هؤلاء ويروونه إلى غيرهم. إلى أن بدأ التدوين فصارت بياناتهم تدون في الكتب الأولى ثم تنقل منها إلى كتب أخرى. ولم يكن للمفسرين اطلاع على الأسفار بلغاتها ولم يتيسر لهم ترجمات لها فصاروا يدونون ما يروى لهم على علاته التي منها الكثير من الإغراب والخيال والمفارقة. ولقد شغلت الإسرائيليات حيزا كبيرا جدا من كتب التفسير وكان كثير منها مملوءا مثل الرواية التي أوردناها بالإغراب والخيال برغم احتمال كون شيء قليل أو كثير مما كانوا يدلون به واردا في أسفار وقراطيس لم تصل إلينا. وليس كل ما كان في أيديهم من أسفار وقراطيس صحيحا في مجمله أو تفصيله. ولقد كان لتداول الرواة لهذه البيانات وتدوينها في كتب التفسير وشغلها منها حيزا كبيرا بل الحيز الأكبر أثر قوي في التغطية على ما في القرآن من مبادئ وأحكام وتلقينات ووصايا هي جوهر القرآن ومحكمه الذي فيه الهدى والنور

_ (1) «التاج» ، ج 4 ص 43. (2) المصدر نفسه.

تنبيه في صدد الأحاديث والأقوال التي تروى بدون سند صحيح

والموعظة والفرقان حينما يريد المسلم أن يقرأ القرآن مفسرا في أحد هذه الكتب ثم في استغراق المسلمين في هذه البيانات بقصد استقصاء جزئيات القصص والأعلام والمشاهد والاصطلاحات القرآنية حتى صارت وما تزال أسئلتهم لمن يشتغل بالقرآن من العلماء عنها في الدرجة الأولى دون الأهداف والمحكمات القرآنية بحيث يقال بحق إنها شوشت على القرآن وأذهان المسلمين. ويحمل الباحثون اليهود الرواة مسؤولية ذلك. ومنهم من يرى أنهم قصدوا إليه قصدا كيدا للإسلام واستغفالا للمسلمين. وقد يكون في هذا القول شيء من الحق. غير أننا نرى أن الرواة الأولين من المسلمين ثم المدونين الذين دونوا رواياتهم لأول مرة ثم الذين نقلوا عن هؤلاء يتحملون كذلك مسؤولية مثلهم إن لم نقل أكثر منهم لأنهم مفروض فيهم القدرة على تمييز الغثّ من السمين والباطل من الحق والكذب من الصدق وعلى لمح ما في الروايات من غلوّ ومبالغات لا يصح كثير منها في عقل ومنطق وواقع ولا يؤيدها أثر صحيح. ثم القدرة على إدراك ما في رواية هذه الروايات وتدوينها وإشغالها الحيز الكبير أو الأكبر من كتب التفسير من تشويش على أذهان قارئي هذه الكتب وعلى أهداف القرآن ومحكماته. وقد يكون من الحق أن بعض المفسرين وقفوا من الاسرائيليات موقف المنكر المنبه الناقد غير أن هذا ليس شاملا ولا عاما، ومن الناقدين والمنكرين والمنبهين أنفسهم من روى كثيرا منها في مناسبات كثيرة بدون نقد ولا إنكار ولا تنبيه. تنبيه في صدد الأحاديث والأقوال التي تروى بدون سند صحيح ويكون فيها تعدد وتباين وتباعد وغرابة في الأحاديث المعزوة إلى النبي صلّى الله عليه وسلم عن مدلول النون واحد يذكر أنه الدواة وواحد يذكر أنه الحوت وواحد يذكر أنه لوح من نور. وليس شيء من هذه الأحاديث واردا في الكتب المعتبرة. وفي الأقوال المعزوة إلى ابن عباس رواية مختصرة مماثلة في مداها لما رواه البغوي عن كعب الأحبار ورفاقه الرواة. ورواية

تعليق على الحروف المتقطعة في أوائل السور

تذكر أنه اسم الله بالإضافة إلى قولين مما ورد في الأحاديث وهما أنه لوح من نور أو أنه الدواة. ومع ما قلناه من أن هذه الأحاديث والأقوال لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة فإن المتبادر أنه لا يعقل أن يصدر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أو ابن عباس أقوال متعددة فيها تباين وتضارب وغرابة. وكل ما يعقل أن يكون صدر قول واحد في تفسير الكلمة. وأن تكون الأقوال الأخرى على الأقل منحولة نحلا. ومثل هذا كثير على ما سوف ننبه عليه في مناسباته. وليس هذا خاصا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وابن عباس فإن المفسرين يروون أقوالا عديدة فيها تضارب وتباين وتباعد وغرابة عن شخص واحد من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتابعيهم. وقد أردنا بهذا تنبيه القارئ إلى ضرورة التدبر في هذا الأمر والتوقف فيما لا يكون وثيق السند ويكون فيه في الوقت نفسه تعدد وتضارب وتباين وغرابة سواء أنسب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم أو إلى أصحابه أو تابعيهم، والله تعالى أعلم. تعليق على الحروف المتقطعة في أوائل السور وعلى تقدير أن حرف (ن) من الحروف المتقطعة المماثلة للحروف التي بدئت بها سور عديدة أخرى نقول إن هذه السور [29] وهي سورة البقرة وآل عمران والأعراف ويونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر ومريم وطه والشعراء والنمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان والسجدة ويس وص وغافر وفصلت والشورى والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف وق ون. وهناك من يخرج (طه) و (يس) ويقول إنهما اسمان للنبي صلّى الله عليه وسلّم و (ق) ويقول إنه اسم جبل بالإضافة إلى (ن) التي قال بعضهم إنه الحوت أو الدواة كما ذكرنا آنفا. وهناك من يجعل هذه الأربعة كسائر الحروف. وليس هناك أثر نبوي وثيق في مدى ومغزى هذه الحروف التي جرى التواتر غير المنقطع على قراءتها بأسمائها (الف. لام. ميم إلخ) وقد تعددت روايات

وأقوال المفسرين في هذا المدى والمغزى «1» . منها أنها رموز إلى أسماء الله تعالى أو صفاته. أو أقسام أقسم الله تعالى بها، أو أسماء للسور، أو أريد بها تحدي الكفار بالقول إن القرآن إنما هو حروف وكلمات من جنس ما يعرفونه فليأتوا بمثله أو بشيء منه. وهناك من فضل عدم التخمين ووكل علمها وحكمتها إلى الله تعالى. وهناك من خمن أنها أو أن بعضها احتوى أسرارا أو ألغازا دنيوية مغيبة. وهناك من روى أنها لحساب المدة الباقية من الدنيا بحساب الأرقام التي ترمز إليها الحروف في حساب الأبجدية التي ترتيبها (أب ج د هـ وز ح ط) (ي ك ل م ن س ع ف ص) (ق ر ش ت ث خ ذ ض ظ غ) حيث تحسب الحروف التسعة الأولى أرقام آحاد من الواحد إلى التسعة والحروف التسعة التالية أرقام عشرات إلى التسعين والحروف العشرة التالية أرقام المئات إلى الألف ويبلغ مجموع أرقام جميع الحروف على هذا الحساب (3295) وهذا الترتيب والحساب هو ترتيب الأبجدية العبرانية وحساب اليهود لها باستثناء الحروف الستة الأخيرة التي ليس لها نظير في هذه الأبجدية. وقد طلع باحث عربي مؤخرا برأي يقول فيه إنها ترمز إلى عدد آيات السور التي جاءت في مطلعها على أساس ذلك الحساب «2» .

_ (1) انظر تفسير أول سورة البقرة خاصة وتفسير أوائل السور التي تبتدئ بهذه الحروف بصورة عامة في مختلف كتب التفسير القديمة كالطبري والبغوي والقرطبي والنيسابوري والنسفي والخازن والزمخشري والطبرسي وابن كثير ... إلخ إلخ. [.....] (2) نشر السيد نصوح الطاهر في رمضان 1373 هـ- 1954 م رسالة عنوانها «أوائل السور في القرآن» ذهب فيها هذا المذهب. ومن ينعم النظر فيها ير تجوزا بارزا في الحساب وتسليما بروايات مدنية الآيات في السور المكية ومكية الآيات في السور المدنية بدون سند وثيق وعدم تسليم ببعضها بدون سند وثيق للحساب والتطبيق. مع أن هناك روايات مضادة ومع أن روح الآيات وسياقها يلهمان بقوة عدم صحة معظم روايات مدنية ومكية الآيات في السور المكية والمدنية. ومما يقوله السيد الطاهر أن الحروف في بعض السور بل في معظمها كانت ترمز إلى عدد آيات السور في مرحلة من المراحل وقبل ترتيب آياتها نهائيا. ثم أضيف بعد هذه المرحلة إليها آيات وفصول أو أنقص منها آيات وفصول. ومن السور المكية ما أضيف إليه آيات مدنية ومن السور المدنية ما أضيف إليه آيات مكية. وإن من السور ما كان متداخلا بعضه في بعض فلما رتبت آيات السور وفصل بعض ما كان داخلا في سور أخرى عن بعضها ووضع في سور أخرى أو جعل بعضها سورا مستقلة اختل العدد الذي ترمز إليه الحروف في الحساب الأبجدي. وهنا سلاسل من هذه السور متشابهة في حروفها المتقطعة. فذهب في بعضها إلى أن أحدها كان يرمز إلى عدد جميع آيات السور وذهب في بعضها إلى أن حروف إحداها هي التي كانت ترمز إلى عدد آياتها جميعا دون تعليل مقنع لتكرر الحروف المتشابهة في هذه السلاسل. وهذا الرأي يعني أن إضافة آيات أو فصول في سورة ما مرموز فيها إلى عدد آياتها في مرحلة من المراحل أو إنقاص آيات وفصول قد أخل في هذه الرمزية إذا كانت الحروف وحيا قرآنيا كما نعتقد ونزلت لترمز لذلك حسب رأي السيد الطاهر الذي نعتقد أنه هو الآخر لا ينكر كونها وحيا. وبالتالي قد أفقدتها حكمتها التي علمها الله. فإذا فرضنا أن ترتيب السور في صورتها النهائية قد تم في حياة النبي صلّى الله عليه وسلم وأمره وهو ما نعتقده استنادا إلى دلائل وقرائن كثيرة قرآنية وغير قرآنية فيكون النبي قد أخل بحكمة الرمزية الربانية وحاشاه أن يفعل. وإذا كان الترتيب قد تم بعد وفاته على ما يقول به بعض العلماء فيرد حينئذ سؤال عما إذا كان النبي قد أخبر أصحابه بمفهوم الرمز. فإذا لم يكن قد أخبر به فيكون قد خالف أمر الله فلم يبين بعض ما أنزله الله عليه وحاشاه أن يفعل. وإذا كان قد أخبرهم به فيكونون قد خالفوه وأخلّوا بحكمة الرمزية الربانية معا وحاشاهم أن يفعلوا. ويبقى هناك فرض وهو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يعرف مفهوم ورمزية الحروف. وظل هذا خفيا عليه وعلى جميع الناس من بعده إلى أن كشف عنه للسيد الطاهر ولا نظن هذا السيد يدعي ذلك.

وهناك قول معزو إلى ابن عباس رضي الله عنه بأنها للتنبيه واسترعاء الأسماع أي من نوع هلا، ألا. ولقد روى الترمذي حديثا في سياق أوائل سورة الروم جاء فيه «إنّها لمّا نزلت خرج أبو بكر يصيح في نواحي مكة: «الم، غلبت الروم» «1» الآيات ونحن نرجح هذا القول. واتباع الحروف في معظم السور بالتنويه بالقرآن وبجمل قسمية به مما يقوي في نظرنا هذا الترجيح. وهو ما أخذنا به مع القول إن تنوع الحروف التي أريد بها الاسترعاء والتنبيه متصل بحكمة التنزيل. ولا بأس بالقول إنها أقسام ربانية وردّ حكمة ذلك وعلمه إلى الله عز وجل أيضا قول عليم

_ (1) انظر «التاج الجامع» ج 4 ص 178- 179.

تعليق على ما ورد من أحاديث وأقوال عن مدى (القلم) في الآية

حكيم متسق مع مذهب السلف الإسلامي الأول في تجنب الخوض والتخمين والمراء في العبارات القرآنية التي يصعب على الأفهام اكتناه كنهها. وحساب الحروف لاستخراج عدد السنين الباقية للدنيا أو محاولة الاستدلال بها على عدد آيات السور في مرحلة من المراحل أو القول بأنها تنطوي على أسرار وألغاز ورموز لأحداث مغيبة مستقبلة يؤدي إلى القول إن في القرآن أسرارا خفيت عن النبي صلّى الله عليه وسلم أو كتمها عن أصحابه، وليس من أثر نبوي وثيق في ذلك. ولا يجوز أن يظن أن الله تعالى أخفاها عن النبي أو أن النبي أخفاها عن أصحابه، والقرآن يقرر أن الله أنزله ليتدبر الناس آياته ويعقلوها وأن الله أمر نبيه أن يبين للناس ما نزل إليه من ربه. تعليق على ما ورد من أحاديث وأقوال عن مدى (القلم) في الآية لقد أورد المفسرون في سياق الآية الأولى أحاديث عديدة عن معنى القلم مفردا ومعناه ومعنى النون معا. منها حديث ورد في كتب الأحاديث المعتبرة أو الصحيحة حيث روى الترمذي وأبو داود حديثا جاء فيه: «قال عبادة بن الصامت لابنه يا بنيّ إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتّى تعلم أنّ ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب قال يا ربّ وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كلّ شيء حتى تقوم الساعة» «1» . ومنها ما رواه المفسرون بطرق أخرى، من ذلك حديث أخرجه ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم إن أول ما خلق الله القلم والحوت. فقال للقلم اكتب. قال: ما أكتب. قال: كلّ شيء كائن إلى يوم القيامة. ثم قرأ ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ [القلم/ 1] . فالنون الحوت والقلم القلم» . وحديث أورده ابن كثير رواه ابن عساكر عن أبي هريرة قال: سمعت رسول

_ (1) انظر «التاج» ، ج 1 ص 33.

تعليق على الأقسام القرآنية

الله صلّى الله عليه وسلّم يقول إن أول شيء خلقه الله القلم ثمّ خلق النون وهي الدواة ثم قال له اكتب قال وما أكتب قال اكتب ما يكون أو ما هو كائن من عمل أو رزق أو أجل فكتب ذلك إلى يوم القيامة. فذلك قوله ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ. ثم ختم على القلم فلم يتكلم إلى يوم القيامة. ثم خلق العقل وقال وعزّتي لأكملنّك فيمن أحببت ولأنقصنّك ممن أبغضت» . وحديث رواه ابن جرير الطبري مرويا عن معاوية بن قرة عن أبيه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ. لوح من نور. وقلم من نور يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة» . وأورد المفسرون أقوالا عن بعض التابعين تفيد أن القلم المقسم به في الآية هو هذا القلم الذي أمره الله أن يكتب ما هو كائن. ومع ذلك فقد قالوا أيضا إنه أريد بالقلم المقسم به جنس القلم مطلقا وأريد بالقسم به تعظيم الكتابة وأدواتها حيث يفيد هذا أن الذين قالوا هذا لم يأخذوا الأحاديث النبوية كتفسير قاطع للمراد بالقلم المقسم به في الآية. ونحن نرى هذا هو الأوجه. ولعل اتباع القلم بجملة وما يسطرون وسبقه بكلمة نون المفسرة بالدواة من مقويات هذا الترجيح. لأن صيغة المضارع تفيد الحاضر والمستقبل في حين أن أمر الله للقلم المذكور في الأحاديث هو في صدد أمر مضى. كما أن الاتساق في المعنى والموضوع بين معنى وعمل القلم هنا وفي آيات سورة العلق من مقوياته أيضا، والله أعلم. وما احتوته الأحاديث من كتابة المقادير بالقلم على اللوح متصل ببحثي القدر واللوح مما سوف يكون موضوع تعليق في مناسبات آتية. تعليق على الأقسام القرآنية والآية الأولى تضمنت قسما ربانيا، والآيات الثلاث هي جوابه. والأيمان الربانية أسلوب قرآني مألوف كثير الورود والصور، بسبب كون الأيمان أسلوبا تخاطبيا مألوفا كما هو المتبادر. وهناك سور عديدة تبدأ بالأيمان مما يمكن أن يعتبر كأسلوب من أساليب النظم القرآني في مطالع السور.

وقت نزول الآيات الأولى من هذه السورة

ولقد تنوع المقسم به تنوعا كبيرا فشمل مشاهد الكون السماوية والأرضية وموجوداته الحية والجامدة. غير أن الذي يتبادر من المقسم به وأسلوب القسم أن ذلك مما له خطورة في أذهان الناس أو واقع حياتهم. سواء أكان ذلك بسبب ما فيه من عظمة مشهد وروعة مظهر وقوة صورة، أم بسبب ما يثيره من معان وآثار نفسية، أم بسبب ما له من نفع عظيم، أم بسبب ما يتصل به من عادات وتقاليد ومفهومات. وإن مما هدفت إليه الأقسام التوكيد واسترعاء الأذهان والأسماع لما يأتي بعد القسم من تقريرات متنوعة الأهداف والمعاني. وقت نزول الآيات الأولى من هذه السورة وقد روي «1» أن هذه الآيات هي التي أعقبت آيات سورة العلق الأولى. ووضع سورة القلم في ترتيب ثانية سورة قرآنية نزولا إنما هو بسبب ذلك. فإذا صحت الرواية فتكون الآيات قد نزلت وحدها وبقية آيات السورة نزلت بعدها بمدة ما. ثم ألحقت بها وتم بذلك تأليف السورة وشخصيتها. وتكون كذلك قد نزلت لتطمين النبي عليه السلام وتثبيته، ونفي ما ظنه وخشي منه، وهو أن يكون ما رآه وسمعه حينما أوحي إليه لأول مرة مسّا من الجن حتى إنه أراد أن يلقي نفسه من شاهق الجبل على ما رواه الطبري «2» في حديث معزو إلى عبد الله بن الزبير عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وإن لم تصح الرواية فيكون في الآيات تطمين وتثبيت من جهة، ورد

_ (1) «السيرة الحلبية» ، ج 1 ص 244. (2) «تاريخ الطبري» ، ج 2 ص 48- 49 مطبعة الاستقامة. ومما جاء في هذا الحديث عن لسان النبي صلّى الله عليه وسلم: «لما انصرف عني الملك وهببت من نومي وكأنما كتب في قلبي كتابا قال ولم يكن من خلق الله أحد أبغض إليّ من شاعر أو مجنون. كنت لا أطيق أن أنظر إليهما. قلت الأبعد يعني نفسه شاعر أو مجنون، لا تحدث بها عني قريش أبدا. لأعمدن إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي منه فلأقتلنها فلأستريحن..» .

أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم

على نعت الكفار للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالجنون من جهة. وقد حكى ذلك القرآن عنهم في آيات عديدة مثل آية سورة الحجر هذه: وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) ، ومثل آية سورة المؤمنون هذه: أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) ، ومثل الآية الأخيرة من سورة القلم نفسها: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52) . ويلحظ الانسجام والتلاحق بين هذه الآيات وما بعدها، وهذا قد يضعف الرواية الأولى ويسوغ القول إنها نزلت هي وما بعدها سلسلة واحدة أو متلاحقة، وإن ترتيبها كثاني سورة غير صحيح، لأن الآيات التالية لها تضمنت مشاهد تكذيبية وجدلية، وحملة تنديدية وحكاية لقول المكذبين إن القرآن أساطير الأولين، مما لا يمكن أن يكون وقع إلّا بعد نزول جملة غير يسيرة من القرآن واتصال النبي عليه السلام بالناس وتلاوته عليهم واشتباكه معهم بالجدل والحجاج. أخلاق النبي صلّى الله عليه وسلم والثناء من الله على خلق النبي صلّى الله عليه وسلّم بهذا الأسلوب البليغ التوكيدي، ووصفه بالعظمة رائع كل الروعة، يتضاءل أمامه كل ثناء ووصف وتكريم بشري، ثم كل ما حاوله بعض المسلمين في وصف شخصيته بأوصاف تكاد تخرجه عن نطاق البشرية، مما جاء في بعض كتب السيرة والشمائل «1» على غير طائل وضرورة، وعلى غير ما صرح به القرآن من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بشر كسائر البشر في جميع الأعراض والمظاهر، ورسول قد خلت من قبله الرسل، وليس بدعا فيهم كما جاء في آية سورة الأحقاف هذه: قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) ، وفي آية سورة آل عمران

_ (1) انظر كتابنا «سيرة الرسول عليه السلام» ، ج 1 ص 24 وما بعدها.

هذه: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ [144] ، وفي آية سورة الأعراف هذه: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ [188] ، وفي آية سورة الكهف هذه: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110) ، والمتبادر أن ذلك متأتّ من قصور الأفهام عن إدراك ما في أخلاق النبي صلّى الله عليه وسلّم من عظمة وما في نفسه من صفاء، وما في قلبه من إيمان وإخلاص جعله أهلا لاصطفاء الله، فحفزهم إلى البحث عن أسباب أخرى، فيها ما فيها من الغلو الذي لا ينسجم مع طبائع الأشياء، ولا يتسق مع نصوص القرآن. والآيات من أوائل القرآن نزولا على كل حال، وهذا يعني أن الخلق العظيم الذي كان عليه النبي صلّى الله عليه وسلم، واستحق به هذا الثناء البليغ الرباني، قد كان مما تحلى به قبل البعثة، وهو الذي أهّله للاصطفاء والمهمة العظمى، والله أعلم حيث يجعل رسالته. ولقد جاء في حديث للبخاري عن عائشة أن السيدة خديجة رضي الله عنها حينما عاد إليها بعد نزول الوحي عليه لأول مرة، وقصّ عليها ما رآه وسمعه وقال لها: «إني خشيت على نفسي قالت له كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكلّ وتكسب المعدوم، وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق» «1» ، وجاء في الحديث الذي رواه الطبري عن عبد الله «2» بن الزبير أنها قالت له حينما قال لها إني خشيت أن أكون شاعرا أو مجنونا: «أعيذك بالله من ذلك يا أبا القاسم، ما كان الله ليصنع ذلك بك مع ما أعلم منك من صدق حديثك وعظم أمانتك وحسن خلقك وصلة رحمك» وهذا مما يؤيد قولنا، لأن هذه الأخلاق الكريمة مما كان يتحلى به النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل بعثته.

_ (1) انظر كتاب «التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول» للشيخ منصور علي ناصف ج 3 ص 226 طبعة ثانية نشر دار إحياء الكتب العربية. (2) «تاريخ الطبري» ج 2 ص 47- 48.

[سورة القلم (68) : الآيات 5 إلى 16]

[سورة القلم (68) : الآيات 5 الى 16] فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) (1) المفتون: الضال أو المنحرف. (2) تدهن: تلاين أو تصانع. (3) همّاز: عيّاب أو شتّام. (4) مشاء بنميم: يسعى بالنميمة. (5) عتلّ: جاف غليظ. (6) زنيم: دعيّ. ويقال للئيم زنيم أيضا. (7) الخرطوم: هذا التعبير خاص بالفيل والكلمة هنا على الاستعارة لفم القائل، فيكون في النار عقابا على قوله. (8) أساطير الأولين: الأساطير جمع أسطورة وهي مشتقة من سطر بمعنى كتب، والجملة تعني قصص الأولين وكتاباتهم. (9) سنسمه: مشتقة من وسم أي جعل علامة للشيء. وخاصة العلامة التي تعلم بالكيّ على جلود الأنعام وهي عادة عربية بدوية لتمييز الأنعام عن بعضها وخاصة الإبل. شرح الآيات [5- 16] من سورة القلم وما انطوى فيها من صور وتنبيهات عبارة الآيات واضحة. وفيها حكاية لبعض ما وقع بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وبين الكفار ورد عليهم وتنديد بهم وتثبيت للنبي صلّى الله عليه وسلم:

1- فقد أخذ بعضهم يعيره بأنه مفتون ضال خارج عن دين آبائه وتقاليدهم. فردت الآية الأولى عليهم بأن الحق لن يلبث أن يظهر ويعرف من هو المفتون، ثم وجه الخطاب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم منطويا على التثبيت بأن ربه هو الأعلم بمن هو ضالّ حقّا ومهتد حقّا. 2- وقد أخذ بعضهم يقترح على النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يلاين فيلاينوا بالمقابلة. والملاينة التي طلبوها على ما ذكرته الروايات «1» عدم تسفيه أحلامهم وسبّ آلهتهم، ومشاركتهم في تقاليدهم وعبادتهم، والملاينة التي وعده بها هي تركه وشأنه أو مجاراته في بعض ما يدعو إليه. وكان بعضهم يحلف له الأيمان على ذلك، فأمرته الآيات بعدم تصديقهم وعدم إطاعتهم لأنهم كاذبون. 3- وقد أخذ بعضهم إذا ما تلا النبي القرآن يقولون إنه مقتبس من صحف الأول وقصصهم، منكرين أنه من وحي الله، معتزين بمالهم وأولادهم وقوتهم، وقد حملت الآيات حملة عنيفة على هؤلاء، فهم كاذبون مهينون، عيابون شتامون، مشاؤون بين الناس بالفساد والنميمة، مناعون للخير، غلاظ القلوب لؤماء أو مدخولو الأنساب، وقد توعدتهم الآية الأخيرة بكيّ أفواههم بالنار، جزاء ما يصدر منها من الكذب والتكذيب والافتراء والأيمان الكاذبة الخداعة. وهو وعيد مستمد من عاداتهم ليكون تأثيره أشد في نفوسهم. والضمير في الآيات [10- 16] مفرد، وقد ذكر المفسرون «2» اسم الأخنس ابن شريق واسم الأسود بن عبد يغوث وقالوا إنها عنت أحدهما. والآيات تبدأ بكلمة (كل) . والآيات السابقة لها جاءت بصيغة الجمع ضمائر وأفعالا حيث يسوغ ذلك القول أن أسلوبها أسلوب خطابي وأنها بسبيل التعبير عن طبقة وليس عن فرد، ولو صح ما ذكره المفسرون. وفي الوقت نفسه انطوى فيها تنبيهات عامة للنبي صلّى الله عليه وسلم، منها أن الذين هم على

_ (1) انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري وابن كثير والطبرسي والنيسابوري. (2) المصدر نفسه.

تعليق على ما في التنديد بأخلاق المتصدين لمناوأة الدعوة النبوية من تلقين مستمر المدى

مثل تلك الأخلاق الذميمة لا يمكن أن يصدروا عن رغبة صادقة في الاهتداء، ومنها أن الملاينة في الحق والمبادئ والتساهل فيها لا يجوز أن يكون موضع بحث وجدل، وفي هذا ما فيه كذلك من التلقين القرآني الجليل المستمر المدى في كل زمن ومكان. وعلى اعتبار أن هذه الآيات مما نزل مبكرا فإن فيها تأييدا لما استدللنا عليه من آيات سورة العلق من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد سار في الدعوة علنا منذ بدئها كما هو المتبادر. تعليق على ما في التنديد بأخلاق المتصدين لمناوأة الدعوة النبوية من تلقين مستمر المدى ومع أن الآيات كما قلنا قبل هي بسبيل وصف أخلاق الطبقة الغنية المترفة التي تصدت لمناوأة الدعوة النبوية وأهدافها فإن فيما احتوته من تنديد بالكذب والأيمان الكاذبة والنميمة والعيب في الناس وشتمهم ومنع الخير عنهم والبغي عليهم وغلظ القلب وقسوة العاطفة تنطوي على تلقينات قرآنية جليلة مستمرة المدى بوجوب احتقار ونبذ المتصفين بهذه الصفات واجتناب هذه الصفات والأفعال الذميمة المكروهة وتنقية النفس من الأوضار. ولقد تكرر ذمّ هذه الأخلاق والصفات ومدح أضدادها في مختلف السور المكية والمدنية معا وبكثرة تغني عن التمثيل مما فيه دلالة على شدة اهتمام القرآن بالأخلاق وتقويمها على اعتبار كون أفعال الناس إنما تصدر عنها وتتأثر بها. ونكتفي هنا بهذه الكلمة لأن التنديد بالأخلاق السيئة والتنويه بالأخلاق الحسنة سوف يتكرر في تجدد المناسبات الكثيرة الآتية. ولقد أثر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أحاديث عديدة ورد بعضها في كتب الأحاديث الخمسة في الأخلاق السيئة المندد بها في الآيات. من ذلك حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن حذيفة قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لا يدخل الجزء الأول من التفسير الحديث 24

الجنة قتّات وفي رواية نمّام» «1» . وحديث رواه الأربعة عن أبي هريرة قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول إنّ شرّ الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه» «2» . وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: «قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إيّاكم وسوء ذات البين فإنها الحالقة» «3» . وحديث رواه مسلم عن عبد الله قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ألا أنبّئكم ما العضه هي النميمة القالة بين الناس» «4» . وحديث رواه أبو داود عن عمّار قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار» «5» . وحديث رواه أبو داود عن أبي هريرة قال: «قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إنّ من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حقّ ومن الكبائر السبّتان بالسّبة» «6» . وحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي برزة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم فإنه من اتّبع عوراتهم يتّبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته» «7» . وحديث رواه الترمذي عن عبد الله قال: «قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: ليس المؤمن بالطّعّان ولا اللّعّان ولا الفاحش ولا البذيء» «8» . وحديث رواه أبو داود عن سفيان بن أسيد قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كبرت خيانة أن تحدّث أخاك حديثا هو لك به مصدّق وأنت له به كاذب» «9» . وحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خلّة منهنّ كانت فيه خلّة من نفاق حتى يدعها إذا

_ (1) «التاج» ، ج 5 ص 23. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. [.....] (5) المصدر نفسه ص 23- 39. (6) المصدر نفسه. (7) المصدر نفسه. (8) المصدر نفسه. (9) المصدر نفسه.

تعليق ثان على موقف المناوأة الذي وقفه الزعماء والأغنياء

حدّث كذب وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر» «1» . وحديث رواه أبو داود عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لمّا عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» «2» . وحديث رواه الشيخان والترمذي عن حارثة بن وهب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا أخبركم بأهل الجنة، كلّ ضعيف متضاعف لو أقسم على الله لأبرّه. ألا أخبركم بأهل النار كلّ عتلّ جوّاظ مستكبر» «3» . وحديث رواه الترمذي عن الزبير بن العوام أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «دبّ إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدّين. والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابّوا. ألا أنبّئكم بما يثبت ذاكم لكم أفشوا السلام بينكم» «4» . وهكذا يتساوق التلقين القرآني مع التلقين القرآني في التنديد بالأخلاق السيئة. وهذا ليس كل ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فهناك أحاديث كثيرة من بابها وردت في كتب ومساند أئمة آخرين فاكتفينا بما أوردناه نقلا من الكتب الخمسة. وهناك أحاديث أخرى في هذه الكتب سنوردها في مناسبات أكثر ملاءمة. تعليق ثان على موقف المناوأة الذي وقفه الزعماء والأغنياء ووصف الكذاب الحلاف بذي مال وبنين يدل على أن الذين وقفوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم هذه المواقف وطلبوا منه المداهنة ونعتوه بالضلال هم بصراحة من ذوي اليسار. وفي الآيات صورة ثانية من صور مواقف زعماء الكفار من الدعوة النبوية منذ بدئها كرد فعل لما كان يتلوه النبي صلّى الله عليه وسلّم من آيات وسور قرآنية فيها دعوة ملحة

_ (1) «التاج» ج 5 ص 23- 39. (2) المصدر نفسه، ص 25- 27. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه.

تعليق على مفاوضات وعروض زعماء قريش على النبي صلى الله عليه وسلم

إلى التصدق على الفقراء وإطعام المساكين ونعي على شدة حب المال والتكالب عليه على ما شرحناه في سورة العلق. تعليق على مفاوضات وعروض زعماء قريش على النبي صلّى الله عليه وسلم وآية وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم/ 9] «1» صريحة بأنها تحكي رغبة بعض الزعماء في ملاينة النبي صلّى الله عليه وسلّم معهم ومجاراته لهم حتى يقابلوه بالمثل. وقد ذكر بعض المفسرين أنهم طلبوا منه ذكر آلهتهم بالخير أو السكوت عنها، حتى يستمعوا إليه ويجاروه في بعض ما يطلب. ومن الجدير بالذكر في هذه المناسبة أن هذا لم يبق وحيدا. بل تكرر في ظروف عديدة في العهد المكي، على ما أشارت إليه بعض الآيات وروته بعض الروايات مما فيه صورة خطيرة من صور السيرة النبوية في هذا العهد. ولقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم منذ البدء- وظل- شديد الحرص على هداية قومه شديد الحزن من انقباضهم عن دعوته وبخاصة الزعماء، لأنهم يسدون الطريق أمام السواد الأعظم من العرب على ما ذكرناه قبل قليل. فكان بعض الزعماء يستغلون هذه العاطفة ويعرضون عليه مباشرة أو بواسطة عمه أبي طالب بعض العروض والاقتراحات بسبيل تبادل الملاينة والمسايرة. من ذلك ما تضمنت الإشارة إليه آيات سورة الإسراء هذه: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا (74) ، وقد روى المفسرون «2» في صددها روايات عديدة، منها أن فريقا من زعماء قريش اقترحوا عليه السكوت عن شتم آلهتهم وتسفيه أحلامهم ليحاسنوه ويسايروه. ومنها أنهم طلبوا منه الإبقاء على

_ (1) انظر تفسيرها في كتب تفسير البغوي وابن كثير والطبري والخازن والطبرسي. (2) المصدر نفسه.

بعض تقاليدهم وطقوسهم مدة من الزمن، ومنها أنهم طلبوا منه الإلمام بأصنامهم كما يفعل بالحجر الأسود، ومنها السماح لهم بذلك. ويظهر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خطر لباله أن يسايرهم بعض المسايرة، فثبته الله تثبيتا ينطوي فيه التنبيه المنطوي في آيات سورة القلم والذي نوهنا به آنفا. وفي سورة يونس هذه الآية: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) ، وقد روى المفسرون «1» أنهم طلبوا منه قرآنا خاليا من الحملة عليهم وعلى شركائهم. ولقد روى ابن هشام «2» أن زعماء قريش جاءوا إلى أبي طالب متذمرين أكثر من مرة، طالبين منه ردع ابن أخيه عن شتم آلهتهم وتسفيه عقولهم. ومما قالوه له في إحدى المرات وكان حاضرا في مجلسهم: إننا نحب أن يسمع العرب أنك أعطيتنا ما لم تعط غيرنا. وفي إحدى المرات قال لعمه: أريد منهم أن يعطوني كلمة يملكون بها العرب ويدين لهم بها العجم فقالوا له: نعم وأبيك وعشر كلمات، قال تقولون: لا إله إلا الله وتخلعون ما تعبدون من دونه. فصفقوا وقال بعضهم لبعض: ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا. وفي سورتي الأنعام والكهف آيات تلهم نصوصها وما رواه المفسرون في صددها «3» أن الزعماء كانوا يقترحون عليه طرد الفقراء والمساكين من حوله إذا كان يريد منهم أن يجلسوا إليه ويستمعوا منه ويستجيبوا له، ويتمجحون بهم لعدم استجابتهم لدعوته وهي هذه: 1- وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ

_ (1) انظر تفسيرها في كتب تفسير البغوي وابن كثير والطبري والخازن والطبرسي.. (2) ابن هشام ج 1 ص 282- 285 وج 2 ص 26- 28. (3) المصدر السابق نفسه. [.....]

حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) [الأنعام: 52- 53] . 2- وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) [الكهف: 28] . وقد تضمنت الآيات تحذير النبي صلى الله عليه وسلّم من الاستجابة لاقتراحات زعماء الكفار، وبإغداق عطفه واهتمامه على أصحابه الذين آمنوا به والتفوا حوله مهما كانت طبقتهم الاجتماعية لأنهم أظهروا من صدق الرغبة في الإيمان والاتجاه إلى الله وحده ما رفع شأنهم وقدرهم عند الله. وفي الآيات من التلقين الجليل ما هو ظاهر. هذا، وجنوح الزعماء إلى طلب المداهنة والملاينة من النبي صلّى الله عليه وسلم، ووعدهم بالمقابلة بالمثل منذ عهد مبكر، واستمرارهم على ذلك يدل على أنهم لم يكونوا يجدون في أنفسهم من القوة ما يستطيعون به إرغامه على الكف عن دعوته والاعتدال في تنديداته وحملاته، كما يدل على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان لديه من الجرأة والقوة الروحية والاستغراق في الله ما يجعله غير مبال بما كان عليه الزعماء من قوة ومال وكثرة، وما يجعله يظل يقذف بنذر القرآن وحملاته في وجوههم ويقرع بها آذانهم منذ بدء الدعوة، ويدل في الوقت نفسه على أن الزعماء يعرفون ذلك، وفي هذا ما فيه من العظمة وبليغ الأسوة. ولقد قلنا قبل إن هذه الآيات لا بد من أن تكون نزلت بعد طائفة من السور التي فيها مبادئ الدعوة من وحدانية الله تعالى وإيجاب اختصاصه وحده بالعبادة والدعاء وترك كل ما عداه والإيمان باليوم الآخر وإيجاب الأعمال والأخلاق الحسنة وتجنب الأعمال والأخلاق السيئة وعدم الاستغراق في حب المال واكتنازه وإيجاب البر بالمساكين والفقراء والإنفاق على سبل الخير المختلفة إلخ.. ومعنى

تعليق على جملة أساطير الأولين

أمر الله تعالى لرسوله بعدم إطاعتهم في ما يطلبونه من مسايرة مقابل وعدهم له بالمسايرة في بعض ما يدعو إليه أن المبادئ الأساسية للدعوة لا يصح في أي حال وظرف أن تكون محل مساومة وتمييع. وهذا الأمر قد تكرر على ما تفيده آيات سورة الإسراء [73- 74] التي أوردناها آنفا. وفي هذا ما فيه روعة وتلقين جليل مستمر المدى. تعليق على جملة أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وجملة أساطير الأولين قد تكررت كثيرا في القرآن حكاية لزعم الكفار عن القرآن، وهذه الجملة أو بتعبير أدق كلمة أساطير تعني الآن القصص التي لا تستند إلى أصل أو يشوبها الغلو أو الخرافة. غير أن الذي يتبادر لنا أن استعمالها في القرآن لم يكن لهذا المعنى فقط، وإنما كان أيضا لمقصد الإشارة إلى كتب الأولين وصحفهم، بما في ذلك كتب النصارى واليهود التي كانت متداولة. وفي سورة الفرقان آية قد تؤيد ذلك حيث جاء فيها: وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) ، وحيث أراد الكفار أن يقولوا إن ما يتلوه النبي صلّى الله عليه وسلّم قد اقتبسه واستكتبه وحفظه من الكتب الأولى المتداولة وليس وحيا. والجملة في السورة تدل في حد ذاتها على أن ما نزل من القرآن قبل هذه الآيات كان شيئا غير يسير حيث رأى الكفار فيه من التطابق والمواضيع، ما سوغ لهم هذا القول وتؤيد ما قلناه في صدد ترتيب هذه السورة. [سورة القلم (68) : الآيات 17 الى 33] إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33)

(1) بلوناهم: امتحنّاهم واختبرناهم. (2) الصرم: القطف أو القطع. (3) مصبحين: في الصباح الباكر. (4) لا يستثنون: لا يقولون إن شاء الله بعد القسم. (5) فطاف عليها طائف من ربك: كناية عن بلاء رباني أصاب ثمر الجنة فأيبسه وجعله كالصريم أي كالمقطوف. (6) حرثكم: هنا بمعنى بستانكم. (7) يتخافتون: يتهامسون. (8) حرد: شدة التصميم أو سوء النية والقصد. (9) ضالون: هنا بمعنى حائرون أو تائهون. (10) أوسطهم: أعقلهم وأرشدهم. (11) ظالمين: وردت كلمة الظلم في القرآن كثيرا وفي معان عديدة، منها الجور ضد العدل. ومنها الانحراف عن طريق الحق. ومنها الجناية على النفس والإضرار بالنفس والغير. ومنها العدوان والبغي على الغير. ومنها الإجرام. ومنها النقص والبخس. وهي هنا بمعنى الجناية على النفس. (12) يتلاومون: يلوم بعضهم بعضا. (13) طاغين: متجاوزين الحد في البغي والتمرد. هذه الآيات تحكي قصة جماعة كان لهم بستان، أقسموا على قطف ثمره دون أن يقولوا إن شاء الله، وصمموا على حرمان الفقراء منه وغدوا مصبحين إلى تنفيذ عزيمتهم معتمدين على قدرتهم، فسلط الله على الثمر بلاء جعله كالمقطوف عقابا لهم

تعليق على قصة البستان وهدفها

على سوء نيتهم، ولما رأوا بستانهم على هذه الحالة ذهلوا حتى لقد ظنوا أنهم ضلوا عنه، ثم عرفوا الحقيقة فأدركوا أنهم قد خسروا ثمرهم وحرموا منه، وكان فيهم رجل صالح عاقل كان ينصحهم بالاعتدال وعدم البغي فقال لهم: ألم أخبركم بما سوف ينتج عن سلوككم؟ وطلب منهم أن يستغفروا الله ويسبّحوه ويعترفوا بذنبهم، فأخذ بعضهم يلوم بعضا وسبّحوا الله واستغفروه واعترفوا بظلمهم وطغيانهم، وأعلنوا توبتهم وإنابتهم إلى الله على أمل أن يعوضهم بما هو خير مما خسروه وحرموا منه. وقد ابتدأت الآيات بما يفهم منه أن الله قد امتحن المكذبين بما امتحن به أصحاب البستان، وانتهت بالتنويه بعذاب الله الشديد الذي يحل بالظالمين الجاحدين لنعمة الله في الدنيا وبالوعيد بعذاب الآخرة الذي ينتظرهم والذي هو أشد وأكبر. تعليق على قصة البستان وهدفها وقد روى المفسرون «1» أن البستان المذكور في القصة كان في اليمن والحبشة، وذكر بعضهم أنه كان لرجل من ثقيف، وأنه كان يترك ما يسقط من الثمر للفقراء، فلما مات وورثه أبناؤه قالوا إن أبانا لأحمق، وصمموا على حرمان الفقراء من ذلك. وبعبارة أخرى إن الحكاية لحادث واقعي. وروح الآيات ومضمونها يلهمان ذلك ويلهمان أيضا أن الحادث مما كان معروفا عند السامعين. وضمير بَلَوْناهُمْ راجع مباشرة إلى المكذبين الذين حكت الآيات السابقة موقفهم وهم زعماء قريش كما هو المتبادر، وفي ذلك قرينة على أنهم كانوا يعرفون قصة البستان. وواضح أن القصة أوردت في معرض التذكير والمثل. وهذا شأن جميع القصص والأمثال القرآنية والأسلوب القرآني في ذلك من خصوصيات القرآن،

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والنيسابوري مثلا.

لأن ما احتوته الكتب الدينية اليهودية والنصرانية من القصص هي في صدد التاريخ والإخبار. والعظة والتذكرة اللتان تنطويان في هذه القصة هما أن الله قد امتحن المكذبين بالرسالة النبوية، كما امتحن أصحاب البستان بالنعمة التي أنعمها عليهم بثمرهم، وكما أن هؤلاء قد تعرضوا لعذاب الله وبلائه لعدم استماعهم لنصيحة عاقلهم ومرشدهم وعدم شكر نعمة الله، ولسوء النية التي بيتوها بحرمان الفقراء فإن أولئك- أي كفار قريش المكذبين- أمام امتحان رباني، فإذا لم يستمعوا لنصيحة ناصحهم ومرشدهم ولم يستجيبوا إليها ولم يشكروا نعمة الله التي أنعمها عليهم فإنهم سيتعرضون لبلاء الله وعذابه في الدنيا فضلا عما سيتعرضون لعذابه الأكبر في الآخرة. ولهم الأسوة بأصحاب البستان الذين أدركوا مدى ظلمهم وانحرافهم وسوء نيتهم فاستجابوا لمرشدهم وتابوا إلى الله واستغفروه. والمصحف الذي اعتمدنا عليه يذكر أن هذه الآيات مدنية، غير أننا نلاحظ أولا: أنها منسجمة مع ما قبلها وما بعدها كأنما جميعها في سياق واحد وموضوع واحد. وثانيا: أن مضمونها يلهم كون المثل موجها إلى الناس في مبادئ الدعوة وعهد النبوة. وثالثا أن الضمير في بَلَوْناهُمْ راجع إلى الذين كانوا موضوع الآيات السابقة مما ينطوي فيه الاتصال بين هذه الآيات وسابقاتها. ورابعا أن أسلوبها وطابعها أكثر شبها لأسلوب وطابع الآيات المكية ولذلك فإننا نتوقف في صحة الرواية، وإذا صحت ملاحظاتنا فتكون هذه القصة أولى القصص القرآنية نزولا والله أعلم. ونقول في هذه المناسبة إن القرآن قد احتوى كثيرا من القصص بأساليب متنوعة، مسهبة حينا ومقتضبة حينا وبإشارات خاطفة حينا، منها قصص خاصة بحياة وسيرة أنبياء الله ورسله، ومنها مزيجة بين حياة وسيرة أنبياء الله ورسله وما جرى بينهم وبين أقوامهم أو الذين أرسلوا إليهم ونتائجه. ومنها قصص أشخاص أو جماعات غير أنبياء. ومن هذه القصص ما ورد جزئيا أو كليا أو مباينا بعض الشيء مع التوافق في أمور. وفي الأسماء في الأسفار التي يتداولها اليهود

تعليق على روايات الآيات المدنية في السور المكية

والنصارى التي يجمعها ما يسمى بالكتاب المقدس أو ما يسمى أسفار العهد القديم وأسفار العهد الجديد. ومنها ما هو عائد إلى أسماء وردت في هذه الأسفار دون القصص. ومنها قصص عربية لجماعات وأنبياء وأقوام عاشوا في جزيرة العرب قبل الإسلام. ويصدق على جميعها ما قلناه من أنها جاءت في القرآن في معرض التذكير والمثل، ولسوف نزيد كل هذا شرحا في مناسبات آتية. تعليق على روايات الآيات المدنية في السور المكية وبمناسبة ذكر رواية مدنية الآيات المذكورة لأول مرة نقول: إن هناك روايات عديدة عن وجود آيات مدنية في السور المكية. والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي مدنية [147] آية في [34] سورة مكية، وهناك روايات تزيد في عدد الآيات وأخرى تنقص منها. والمتدبر في الآيات يرى طابع العهد المكي وصوره وأحداثه بارزا على معظمها، كما يرى انسجام معظمها انسجاما تاما في السياق والمضمون بل والنظم مع ما قبلها وما بعدها، ولا يستبين الحكمة في وضعها لو كانت مدنية حقا بحيث يسوغ الشك والتوقف في صحة الروايات التي تروي مدنيتها وتروي أسباب نزولها في المدينة، إلا إذا فرض أن تكون حكمة التنزيل اقتضت تدعيم السياق المكي بها وهو فرض لا يمكن أن تطمئن النفس به. ومن الجدير بالذكر أن معظم الروايات ليست أحاديث نبوية أو صحابية موثقة ومسندة على أسلوب توثيق الأحاديث وإسنادها. ومما يرد على البال تعليلا لها أن الآيات المكية ذكرت أو استشهد بها بمناسبة بعض أحداث جرت في المدينة وكان بعضهم قد نسيها فالتبس عليهم الأمر وظنوها آيات مدنية. والكلام ينطبق كما قلنا على معظم الآيات، وهناك بضع آيات في بعض السور المكية تستثنى من ذلك يسوغ طابعها ومضمونها الجزم بصحة رواية مدنيتها. وقد وضعت في السياق المناسب لمضمونها على ما سوف نشرحه في مناسباتها.

[سورة القلم (68) : الآيات 34 إلى 43]

[سورة القلم (68) : الآيات 34 الى 43] إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43) . (1) تدرسون: تقرءون أو تتعلمون أو تعلمون منه. (2) تخيرون: تتخيرون وتختارون. (3) أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة: بمعنى هل لكم عهد من الله بالنجاة مستمر وشامل ليوم القيامة. (4) زعيم: كفيل أو ضامن أو مؤيد. (5) يوم يكشف عن ساق: كناية عن وقت اشتداد الخطب، حيث كان من عادة العرب إذا اشتدت معركة الحرب أن يكشفوا عن سيقانهم، وهنا يعني يوم القيامة واشتداد الخطب فيه. (6) ترهقهم: تلحقهم أو تزعجهم أو تحيق بهم. في هذه الآيات: 1- تقرير تبشيري بما للمتقين المصدقين عند ربهم من النعيم في جناته. 2- تساؤل على سبيل الإنكار عما إذا كان يصح أن يجعل الله المسلمين كالمجرمين في اليوم الآخر. 3- أسئلة فيها تحد وتهكم موجهة للمكذبين: فهل يظنون أن الله حقا يمكن أن يجعل المسلمين كالمجرمين؟ وبأي وجه يحكمون بصحة هذا الظن وهل عندهم كتاب من الله يستندون إليه ويعلمون أن لهم في ذلك اليوم ما يشتهون ويختارون؟ وهل عندهم عهد من الله مستمر وشامل ليوم القيامة بأن لهم فيه ما يبتغون ويحكمون؟.

4- وأمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بسؤالهم عمن يضمن لهم ذلك وعما إذا كانوا يظنون أن شركاءهم يفعلون ذلك حقا، وتحدّ لهم بدعوة هؤلاء الشركاء وطلب نصرتهم إن كانوا صادقين. 5- وحكاية لما سوف يكون من أمرهم يوم القيامة على سبيل الإنذار والتحدي والتبكيت: فحينما يشتد خطب ذلك اليوم عليهم، وتستدعي حالة الخطر المحيق بهم أن يسارعوا إلى السجود طلبا لغفران الله فلسوف يعجزون. لأنهم أضاعوا الفرصة التي سنحت لهم حينما كانوا يؤمرون بالسجود وهم في متسع من الوقت والسلامة فلا يسجدون ولسوف تكون أبصارهم حينئذ خاشعة من الرعب والخوف وقد حاقت بهم الذلة والهوان. والآيات متصلة بالسياق السابق، وهي استمرار له، وتعقيب على المثل المضروب في القصة كما هو المتبادر. وروح الآيات تلهم أن القصد من المتقين هم الذين آمنوا واستجابوا للدعوة، فوقوا أنفسهم من غضب الله وأن القصد من المجرمين هم الذين جحدوا وتمردوا وناوأوا. وتلهم كذلك أن الكفار كانوا يزعمون أنهم في عقائدهم وتقاليدهم على حق. ولعل هذا الزعم متصل بما كان العرب يعرفونه ويقولون به من صلة تقاليدهم الدينية بإبراهيم عليه السلام وملته وصحفه. وورود ضمير الجمع للمخاطب، وأمر النبي عليه السلام بتوجيه الأسئلة والتحدي يمكن أن يلهما أن الموقف كان موقف مواجهة ومناظرة، أو نتج عنه مواجهة ومناظرة وأن الكفار كانوا يصرون على صحة عقائدهم واتصالهم بتعاليم ربانية. وحكاية مثل هذا الموقف تكررت كثيرا في القرآن مما يؤيد تكرر مواقف المناظرة والجدل والنقاش والحجاج الوجاهي بين النبي صلّى الله عليه وسلّم والكفار من حين لآخر، مما هو طبيعي في نشر الدعوة.

تعليق على الجنات الأخروية

تعليق على الجنات الأخروية والإشارة الخاطفة إلى الجنات الأخروية يمكن أن تدل على أن ذكرها هنا يأتي لأول مرة. وبهذه المناسبة نقول: إن الجنات في القرآن جعلت عنوانا لما سيناله المؤمنون الصالحون من النعيم في الآخرة. فالناس في الدنيا وخاصة سامعي القرآن الأولين قد اعتادوا أن يجدوا اللذة والمتعة في الجنات والبساتين، وما فيها من أشجار وأزهار ومياه وظلال وثمار. وفي إقامة مجالس الأكل والشرب واللهو فيها، فاقتضت حكمة الله أن يوعد المؤمنون الصالحون منهم بأحسن ما اعتاد الناس أن يتمتعوا به في الدنيا وتصبو إليه نفوسهم. وقد وصفت في آيات كثيرة من القرآن بأوصاف وتشبيهات مألوفة في الدنيا تتناولها مفهوماتهم، وتشعر بها حواسهم. ونقول هنا ما قلناه في سياق الحياة الأخروية من أن الإيمان بما جاء في القرآن من مشاهد الجنة والنعيم وكون ذلك في نطاق قدرة الله تعالى واجب مع واجب الإيمان بأنه لا بد من ذكره بالأسلوب الذي ذكر به حكمة ولعل قصد التقريب للأذهان والتأثير في النفوس والتطمين والبشرى من هذه الحكمة. ولقد أثر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في وصف الجنة ونعيمها وأهلها ومشاهدها أحاديث كثيرة جدا. منها ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة، ومنها ما رواه أئمة معروفون من علماء الحديث. وقد رأينا أن نورد بعض ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة هنا على سبيل التمثيل ونرجىء بعضا آخر إلى مناسبات آتية أكثر ملاءمة. فمن ذلك حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: «قلت يا رسول الله ممّا خلق الخلق؟ قال: من الماء. قلنا الجنة ما بناؤها؟ قال: لبنة من فضة ولبنة من ذهب وملاطها المسك الأذفر وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت. وتربتها الزعفران من دخلها ينعم ولا يبؤس. ويخلّد ولا يموت، لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم. ثم قال ثلاثة لا تردّ دعوتهم، الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم. يرفعها فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء ويقول الربّ عزّ وجل: وعزّتي لأنصرنّك ولو بعد حين» «1» . وحديث

_ (1) «التاج» ج 5 ص 365.

رواه الشيخان والترمذي عن أبي سعيد قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدّرّيّ الغابر في الأفق. من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم. قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدّقوا المرسلين» «1» . وحديث رواه الترمذي عن علي قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إنّ في الجنة لغرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها فقام إليه أعرابي فقال: لمن هي يا رسول الله؟ قال: هي لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وأدام الصّيام وصلّى لله بالليل والناس نيام» «2» ، وحديث رواه مسلم عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إنّ في الجنة لسوقا يأتونها كلّ جمعة فتهبّ ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسنا وجمالا فيرجعون إلى أهلهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا فيقول لهم أهلوهم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا فيقولون وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا» «3» . وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إن في الجنة سوقا إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم ثمّ يؤذن في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون ربّهم ويبرز لهم عرشه ويتبدّى لهم في روضة من رياض الجنة فيوضع لهم منابر من نور ومنابر من لؤلؤ ومنابر من ياقوت ومنابر من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر من فضة ويجلس أدناهم وما فيهم من دنيء على كثبان المسك والكافور وما يرون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسا» «4» . وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهل الجنة جرد مرد كحل لا يفنى شبابهم ولا تبلى ثيابهم» «5» . وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين

_ (1) المصدر السابق ص 370- 371. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر ص 371- 375. (5) المصدر نفسه.

يلونهم على أشدّ كوكب درّيّ في السماء إضاءة. لا يبولون ولا يتغوّطون ولا يمتخطون ولا يتفلون. أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الألوّة. وأزواجهم الحور العين. أخلاقهم على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السّماء. وفي رواية ولكلّ واحد منهم زوجتان يرى مخّ ساقهما من وراء اللحم من الحسن. لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم واحدة يسبّحون الله بكرة وعشيا» «1» . وواضح من هذه الأمثلة أن الأحاديث النبوية في الجنة متساوقة مع الآيات القرآنية الكثيرة في وصف مشاهد الجنة بأحسن المشاهد الدنيوية. والإيمان بما يثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ذلك وكونه في نطاق قدرة الله تعالى واجب مثل ما هو واجب بالنسبة للقرآن. مع الإيمان بأنه لا بدّ لذكر ذلك بالأسلوب الذي ذكر به من حكمة. ويلمح في الأحاديث كما يلمح في الآيات أن من تلك الحكمة التبشير والتطمين وإثارة الرغبة في التقرب إلى الله تعالى بصالح الأعمال. ولقد حاول الأغيار أن يجدوا في جنات القرآن مغمزا بالدين الإسلامي، بزعم أن ذلك يثير الأنانية والطمع في المسلمين، ويجعلهم لا يفعلون الصالحات إلّا رغبة في الأجر الشخصي، ويخرج صفة الحياة الأخروية من نطاقها الروحاني التجريدي. أما إثارة الطمع والأنانية فالبداهة تقضي بأن تكون الحياة الأخروية وجناتها قاضية عليها. لأن الإنسان الذي يؤمن بأنه إذا آمن واتقى وعمل الصالحات واصل إلى أعلى ما تصبو إليه نفسه من لذة ونعيم في الحياة الأخرى يستطيع أن يوطن النفس على التضحيات المتنوعة في المال والنفس، وعلى القناعة والغيرية وأعمال البرّ، دون أن ينتظر جزاء ماديا معجلا في الحياة الدنيا. وأما النطاق الروحاني التجريدي فإن القرآن قد جرى فيما قرره في كل شأن مع طبائع الأمور وحقائقها. والدين الإسلامي من أجل هذا صح أن يكون دين الخلود والإنسانية العام. وما جاء في القرآن من صفات الجنات ونعيمها قد جرى في هذا النطاق. على أنه لم يقصر ما سوف يتمتع به المؤمن الصالح في الحياة الأخروية على الجنات بل

_ (1) المصدر السابق ص 371- 375.

تعليق على كلمة المسلمين

ذكر أيضا ما سوف يناله من رضوان الله الأكبر وقرة العين ومشتهيات النفس وطمأنينتها، بأساليب متنوعة ومواضع عديدة مما هو متسق كذلك مع طبائع الأمور من حيث إن الله يعلم أن هناك من يجد في هذا طمأنينة نفسه وقرة عينه أيضا، فاحتوى القرآن ما يرضي الماديين والمثاليين معا، كما ترى في آية آل عمران هذه: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) ، وفي آية التوبة هذه: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) . وفي آيات السجدة هذه: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) . وفي آيات سورة الفجر هذه: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) . تعليق على كلمة المسلمين وبمناسبة ورود كلمة المسلمين في الآية [35] التي صارت علما على المؤمنين برسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم لأول مرة نقول: إن الكلمة ومشتقاتها ومصدرها قد تكرر كثيرا في القرآن. وقد عنت إسلام النفس لله تعالى كما جاءت علما على الدين الصحيح إطلاقا، ووصف بها الذين يؤمنون بالله وحده وكتبه ورسله إطلاقا كما جاء في آيات سورة البقرة هذه: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [128] وإِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) ، وقُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما الجزء الأول من التفسير الحديث 25

أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) ، وآيات سورة آل عمران هذه: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20) ، ووَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) . فكل من تجرد عما سوى الله وحده وتحرر من الخضوع لغيره وأسلم وجهه ونفسه وانقاد له ولزم حدوده فهو مسلم. وفي هذا المعنى من الروعة والنفوذ والعمق في مجال توحيد الله والإخلاص له والتفاني فيه، وتحرر النفس من غيره ما هو واضح، وما يثير في أتباع محمد صلى الله عليه وسلّم الاعتزاز بهذا المعنى للإسلام الذي أصبح علما عليهم منذ العهد النبوي إلى أبد الآبدين. أما علمية كلمة (المسلمين) عليهم فقد تقررت فيما نعتقد بعد نزول آية الحج هذه: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) . وهذه السورة مختلف في مكيتها ومدنيتها ولكن مضامينها تلهم بقوة أنها مكية أضيف إليها آيات مدنية، اقتضت إضافتها المناسبات على ما سوف نشرحه عند تفسيرها، وهذه الآية هي من الآيات المكية على ما يلهم سياقها، وهذا يعني- إذا صح- أن العلمية تقررت في العهد المكي، ثم جاءت آية سورة المائدة المدنية الثالثة التي جاء فيها: ... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ... لتكون علما على دين المسلمين.

[سورة القلم (68) : الآيات 44 إلى 45]

[سورة القلم (68) : الآيات 44 الى 45] فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) (1) الاستدراج: التوريط في الأمر درجة بعد درجة. (2) الإملاء: الإمداد والإمهال. (3) الكيد: التدبير ضد العدو ونكايته. (4) متين: قوي أو شديد. الآيتان استمرار في حملة التقريع كسابقاتهما مع تطمين للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتقوية له وإنذار للمكذبين. والخطاب موجه إليه: فليترك لله الذين يكذبون بالقرآن ولا يغتر بما يتمتعون به من قوة ومال، فإن الله إنما يفعل ذلك استدراجا لهم من حيث لا يعلمون وإملاء، وإن كيده لقوي شديد، ولسوف يحيط بهم. تعليق على آيتي سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ووَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ وصيغة هاتين الآيتين قد تكررت في مواضع أخرى في مقامات مماثلة للمقام الذي جاءتا فيه. والمتبادر من روحهما أن تعابير سَنَسْتَدْرِجُهُمْ ووَ أُمْلِي لَهُمْ وكَيْدِي هي تعابير أسلوبية مألوفة في الخطاب البشري ثم في الكلام العربي. ولا محل للتوهم بأنها تعني أن الله يصبر على الكفار المكذبين بقصد توريطهم ويمد لهم بقصد بث الاغترار فيهم، أو أنه يكيد لخلقه كيدا. فإنه سبحانه منزّه عن ذلك كله. وقد وقع من الكفار التكذيب ووقفوا موقف الجحود والتمرد والمناوأة والصد عن سبيل الله فاستحقوا النكال والعذاب. والتعابير إلى هذا تنطوي على تطمين النبي صلّى الله عليه وسلّم وتثبيته وتقويته وإنذار للكفار المكذبين كما قلنا. وهناك آيات فيها تعليل لعدم التعجيل بعذاب أمثال هؤلاء والاكتفاء بمثل هذه

[سورة القلم (68) : الآيات 46 إلى 47]

الانذارات التي احتوتها الآيتان. من ذلك آية سورة الكهف هذه: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) ، وآية سورة فاطر هذه: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45) . وهناك حديث يرويه الشيخان والترمذي وأبو داود يصح أن يساق في هذا المقام عن أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» «1» . ويتبادر من ذلك كله أن حكمة الله تعالى اقتضت أن يمنح الكفار والمكذبون والبغاة الفرصة لعلهم يرتدعون ويرعوون فإذا أضاعوها واستمروا في غيهم وبغيهم استحقوا النكال في الدنيا أو في الآخرة أو في الدنيا والآخرة معا حسب مشيئة الله تعالى. وجملة: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ [58] في آية الكهف ذات دلالة جليلة في المدى المتبادر. والآيات في ذات الوقت تسجيل للحالة التي كان عليها الكفار المكذبون حين نزولها، ومن المعلوم اليقيني أن كثيرا منهم قد آمن بعد نزولها قبل الفتح المكي أو بعده فظهر مصداق حكمة الله المتبادرة، والله تعالى أعلم. [سورة القلم (68) : الآيات 46 الى 47] أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) . (1) المغرم: التكليف المالي أو الدين أو المخسر. (2) يكتبون: هنا بمعنى يقضون أو يقررون ما يريدون. والآيتان أيضا استمرار في السياق، والخطاب فيهما موجه إلى النبي صلّى الله عليه وسلم

_ (1) التاج، ج 5 ص 64.

نفي طمع النبي صلى الله عليه وسلم في أجر على رسالته:

كذلك. وقد جاءتا بأسلوب التساؤل عما إذا كان يطلب من الكفار أجرا على دعوته لهم وإرشادهم حتى يستثقلوا الطلب ويتهربوا من الدعوة تفاديا من المغرم والخسارة أو عما إذا كانوا مطلعين على غيب الله أم بيدهم أمر المستقبل، فيقررون لأنفسهم ما يشاؤون حتى يبدو منهم هذا الاطمئنان إلى العاقبة. نفي طمع النبي صلّى الله عليه وسلّم في أجر على رسالته: وأسلوب الآيتين منطو على التنديد بالمكذبين على تصاممهم عن الدعوة وعدم مبالاتهم، كما هو منطو على الإنذار كما هو المتبادر. كذلك فإنه منطو على نفي طلب النبي صلّى الله عليه وسلّم أو طمعه في أجر أو مكافأة على مهمته العظمى، وقد تكرر في القرآن أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بإعلانه ذلك في معرض الدعوة والتنديد، ثم في معرض التدليل على صدق الدعوة والإخلاص لها إخلاصا مجردا من أي غاية خاصة إلّا واجب القيام بأمر الله ورغبة هدايتهم إلى الله ومكارم الأخلاق، وتأمين أسباب السعادة لهم في الدنيا والآخرة وإنذارهم بالعواقب الوخيمة لعدم استجابتهم مثل آيات سورة سبأ هذه: قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) . وآية سورة الفرقان هذه: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) . [سورة القلم (68) : الآيات 48 الى 50] فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) [50- 48] . (1) صاحب الحوت هو النبي يونس كما ذكرت ذلك آيات أخرى بصراحة.

(2) مكظوم: ممتلىء غيظا وغمّا. (3) نبذ: ألقي مهملا. (4) العراء: الأرض العارية من الشجر. (5) مذموم: سيء الذكر والعاقبة. (6) اجتباه: اختاره وقرّبه وتاب عليه. الآيات موجهة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وفيها: 1- أمر بالصبر إلى أن يتم أمر الله وحكمه. 2- ونهي عن أن يكون كصاحب الحوت الذي ضاق ذرعه ولم يطق صبرا على تكذيب أمته له. 3- وإشارة خاطفة إلى ما كان من عاقبته حيث استغاث الله وناداه فعطف عليه وتداركته نعمته واجتباه وجعله من الصالحين. ولولا ذلك لألقاه الحوت إلى الأرض العارية منبوذا مذموما. والآيات استمرار للسياق كما هو واضح. وفيها صورة مما كان يطرأ على النبي صلّى الله عليه وسلّم من أزمات وضيق صدر من موقف الصدّ والتكذيب والمناوأة الذي أخذ يواجهه منذ أوائل الدعوة. وقد تكررت الإشارات القرآنية إلى مثل هذه الصورة كما تكررت الأوامر القرآنية للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالصبر والثبات «1» . والإشارة إلى صاحب الحوت هي أولى الإشارات القرآنية إلى الأنبياء وقصصهم لأن صاحب الحوت هو النبي يونس على ما ذكر ذلك بصراحة في سورة الصافات. ثم توالت الفصول القرآنية في قصص الأنبياء وأقوامهم. ومعظمها تكرر وروده أكثر من مرة مقتضبا في مكان مسهبا في مكان آخر حتى شغلت حيزا غير قليل من القرآن وخاصة المكي منه. واقتضاب الإشارة وخاصة الاكتفاء بالإشارة الضمنية إلى النبي يونس بتعبير صاحب الحوت يدلان على أن قصة يونس لم تكن

_ (1) انظر كتابنا «سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم» ج 1 ص 275 وما بعدها.

أهداف القصص القرآنية

غريبة عن سامعي القرآن. ولقد ذكرت بتفصيل واف في سفر يونان أحد أسفار العهد القديم المتداولة اليوم. وهذه الأسفار كانت متداولة بين اليهود والنصارى في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم والمتبادر أن أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلّم وسامعي القرآن منهم قد سمعوها أو أن بعضهم قد سمعها منهم. وملخص ما ورد في السفر المذكور وهو متطابق إجمالا مع ما ورد في القرآن أن الله تعالى أمر يونان بن امتاي «1» بإنذار أهل نينوى بعذاب الله ولكنه هرب من وجه الرب إلى يافا ليبحر إلى ترشيش فركب سفينة فثارت زوبعة عظيمة فخاف الملاحون وألقوا أثقالهم ثم اقترعوا على إلقاء بعضهم على أمل أن يلقوا من كان الشر بسببه فوقعت القرعة عليه وحثهم على إلقائه قائلا إن الزوبعة ثارت من أجلي فألقوه فوقفت الزوبعة. وابتلع يونان حوت عظيم وبقي في بطنه ثلاثة أيام وكان يصلي لله ويستغيث به فاستجاب الله له وأمر الحوت بقذفه من جوفه ثم أمره بالذهاب إلى نينوى ثانية فلما جاءهم وأنذرهم آمنوا فكشف الله عنهم الشر الذي كان يوشك أن ينزل بهم. أهداف القصص القرآنية والإشارة إلى صاحب الحوت هنا وردت في معرض التمثيل والتحذير والتثبيت حتى لا يضيق صدر النبي صلّى الله عليه وسلّم بموقف التكذيب واللجاج الذي وقفه قومه منه. وهذا ما استهدفته قصص الأنبياء في القرآن التي يلحظ أنها استهدفت ثلاثة أهداف: الأول: تثبيت النبي عليه السلام ودعوته إلى التأسي كما هو في الآيات التي نحن في صددها وكما ذكر في آيات كثيرة منها آيات سورة الأنعام هذه: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ

_ (1) عرّب هذا الاسم فصار يونس بن متى. وقد ذكر في بعض الأحاديث النبوية بصيغته المعربة من ذلك حديث رواه مسلم وأبو داود جاء فيه: «ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى» ، انظر «التاج» ، ج 3 ص 368.

كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) . والثاني: إنذار الكفار وتذكيرهم بما حل بمن سبقهم من الجاحدين المكذبين الصادين كما ذكر في آيات كثيرة منها آيات سورة العنكبوت هذه: وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) . والثالث: تطمين وتبشير المسلمين بما كان من عاقبة كل من المؤمنين والكفار من الأمم السابقة حيث أهلك الله الكفار ونصر ونجى المسلمين ودعوتهم إلى التأسي بما كان من صبر الأنبياء والمؤمنين السابقين وثباتهم على دين الله كما ذكر في آيات كثيرة منها آيات سورة هود هذه: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68) . ومجمل الأهداف الثلاثة هو العبرة والموعظة والتطمين والتسلية والتنديد والإنذار، وفي القرآن آيات كثيرة أخرى تتضمن تقرير هدف القصص القرآنية في نطاق ذلك منها آية سورة الأعراف هذه: تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) . وآية سورة هود هذه: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) ، وآية سورة

يوسف هذه: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [111] . ولقد قلنا إن قصة يونس لم تكن غريبة عن سامعي القرآن، وهذا يطّرد في القصص القرآنية عامة على ما سوف نبينه في مناسباته. وآيات العنكبوت تنطوي على دليل قوي على ذلك إذا ما أنعم القارئ النظر فيها. وهناك آيات عديدة أخرى تفيد ذلك منها آية سورة الأنبياء هذه: بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) ، وآية سورة القصص هذه: فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى [48] . حيث يمكن أن يقال إن حكمة الله اقتضت أن تكون القصص معروفة من قبل السامعين جزئيا أو كليا لتكون العبرة والعظة والإلزام والإفحام أشد، لأن الناس يتأثرون بالأمثال التي يعرفونها، والأحداث التي يعلمون نبأها. ولقد سبق الآيات التي نحن في صددها آيات تنديدية وإنذارية، كما لحقتها آيتان فيهما تنديد وتثبيت أيضا. وهذا مؤيد لكون الهدف هو التثبيت والتحذير. وقد جرى القرآن على هذا الأسلوب في معظم الفصول التي وردت فيها قصص الأنبياء، بل إن هذا في هذه الفصول أوفى وأظهر، مما هو مؤيد لفكرة الهدف من جهة ومظهر من مظاهر الانسجام في النظم القرآني من جهة ثانية، ودليل على أن القصص القرآنية لم ترد لماهيتها التاريخية من جهة ثالثة. ولقد قلنا إن معظم قصص الأنبياء وأقوامهم قد تكررت في القرآن وتنوعت أساليبها ومنها ما تكرر مرارا عديدة، وقد غمز المغرضون من المبشرين والمستشرقين القرآن بسبب ذلك وبسبب تكراره الفصول التدعيمية الأخرى كمشاهد الكون ومشاهد الآخرة والحجج والبراهين. وردا على ذلك نقول إن الفصول القصصية لم تكن للسرد التاريخي وإنما هي للوعظ والعبرة ولقد كانت اتصالات النبي صلّى الله عليه وسلّم بمختلف طبقات الناس والمناسبات والأوقات مستمرة متجددة. وكانت متنوعة في ظروفها وأشخاصها. فمن الطبيعي أن تتماثل الفصول القرآنية التي كانت تتلى بوحي الله على مختلف الطبقات وفي مختلف المناسبات والأوقات بسبيل

تدعيم الدعوة وتحقيق الهدف من القصص القرآنية. ومع جلالة قدر النبوة وصاحبها صلى الله عليه وسلّم يمكن أن يقال إن مثل النبي في ذلك مثل الواعظ أو المدرس أو المعلم الذي يلقي دروسه على طلابه ومستمعيه. فهؤلاء يتجددون من آن لآخر، فمن الطبيعي أن يكرر المعلم والواعظ والمدرس دروسه ومواعظه بناء على ذلك. وقصارى ما يمكن أن يحدث هو شيء من التبدل والتنوع في طريقة العرض والأسلوب والألفاظ. وهو نفس الشيء الذي كان بالنسبة للفصول القصصية والتدعيمية الأخرى المتكررة «1» ، حيث كانت حكمة التنزيل توحي إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بما يقتضي الموقف ذكره من القصص بالأسلوب الذي يقتضيه. ولا يتناقض هذا مع كون النبي صلى الله عليه وسلّم كان قد عرف أو سمع هذه القصص قبل الوحي لأن الوحي ينزل بالأسلوب المؤدّي إلى الهدف من القصص. ويلحظ أنه كل مرة تكررت فيها هذه الفصول جاء فيها شيء جديد استكمالا للعبرة والموعظة على ما سوف ننبه إليه في مناسباته. وهذا من مظاهر تلك الحكمة كما هو المتبادر. وهناك نقطة أخرى يحسن أن نشير إليها، وهي أن المفسرين يجنحون إلى القول أو الظن أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يعلم شيئا من القصص التي كان يوحى إليه بها قبل نزولها. ولسنا نرى هذا وجيها لا من وجهة نظر الوحي القرآني ولا من وجهة نظر النبوة. فالنبي صلّى الله عليه وسلّم كان يعيش قبل نزول الوحي عليه في بيئة فيها كتابيون يروون ما في كتبهم من قصص ويتداولونها والروايات العديدة تذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يتصل بهم ويسمع منهم ما في كتبهم. وتجار وغير تجار كانوا يرحلون إلى البلاد المجاورة للجزيرة يسمعون من أهلها مختلف الأنباء والأخبار والقصص. والنبي صلّى الله عليه وسلّم نفسه قام ببعض الأسفار إلى بعض هذه البلاد كما هو ثابت ثبوتا في درجة اليقين. ورواة العرب يروون ما يتناقله الأجيال من أخبار وأحداث وقصص عربية. فليس من المعقول ولا من الطبيعي أن يقال إن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يجهل هذه القصص كليا أو جزئيا. ونقول هنا ما قلناه قبل قليل إن ذلك آت من سوء فهم كنه

_ (1) انظر كتابنا «القرآن المجيد» ، في مقدمة هذا التفسير.

وهدف الوحي بهذه القصص عن حسن نية. وليس من تعارض قط بين وحي ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه منها بالأسلوب الذي أوحيت به وبين ما يمكن ويصح أن يكون النبي قد عرفه منها قبل نزولها. ولقد كان في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم تقاليد دينية واجتماعية متنوعة وكان يجري فيها أحداث متنوعة شاهد بعضها وسمع بعضها وعاش بعضها. ولقد ذكر في القرآن كثير من ذلك وليس أحد يدعي أو يمكن أن يدعي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يعرف ذلك قبل بعثته. وهذا وذاك من باب واحد. ويورد الذين يقولون ذلك القول بعض آيات وردت في سياق بعض القصص منها آية سورة هود هذه في سياق قصة نوح: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا [49] ، وآية سورة آل عمران هذه في سياق قصة مريم: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) ، وآية سورة يوسف في سياق قصة يوسف وإخوته: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) . وقصتا نوح ويوسف وردتا متصلتين في سفر التكوين وبين ما ورد في هذا السفر وما ورد في القرآن تطابق كثير. وهذا السفر كان مما يتداوله الكتابيون. وكان العرب يعرفون قصة نوح واتخذوا أصنام قومه التي ذكرها الله في سورة نوح أصناما لهم على ما سوف نشرحه في سياقها. فلا يصح أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم وقومه لم يعرفوا شيئا من هذه القصص الثلاث، وليس من مناص إزاء الواقع من تخريج الآيات بما يزيل الإشكال ويتفق معه. وقد رأينا الخازن يعلق على آية هود فيقول: إن هذه القصة مشهورة وإنه ليس مما يحتمل أن لا تكون معروفة. وإنه يجب صرف الآية على محمل قصد عدم معرفة النبي وقومه بجميع تفصيلاتها، وفي هذا التعليق وجاهة ظاهرة كما أنه لا معدى عنه أو عن ما يقاربه كصرف كلمة (الغيب) إلى معنى الزمن البعيد غير المشاهد أو الذي صار في طيات الدهر.

وننبه على أن بقية الفصول القصصية في سورتي هود وآل عمران وكذلك الفصول المتنوعة الواردة في مختلف السور بما في ذلك قصص نوح ويوسف ومريم لم يرد فيها مثل هذا التعليق والتقييد. وأن قصة نوح ذكرت بتفصيل أو اقتضاب مرات كثيرة في السور التي نزلت قبل سورة هود مثل سور ص والأعراف والقمر والشعراء وأن قصة مريم وولادة عيسى ذكرت بتفصيل أيضا في سورة مريم التي نزلت هي الأخرى قبل سورة آل عمران وأشير إليها باقتضاب في سور متعددة أخرى ولم يرد في هذه القصص في هذه السور مثل هذا التعليق والتقييد مما يجعل التأويل والتخريج سائغا وصوابا. ومما يصح إضافته إلى الآيات العديدة التي احتوت دلائل وقرائن على أن السامعين كانوا يعرفون أخبار الأمم والأنبياء التي تتلى عليهم في القرآن على سبيل العظة والتذكر أن المفسرين قد أوردوا بيانات كثيرة في سياق كل قصة من القصص مسهبة حينا ومقتضبة حينا معزوة إلى علماء الأخبار إطلاقا حينا وبأسماء حينا مثل ابن عباس ومقاتل ومجاهد والضحاك والكلبي وابن اسحق ووهب بن منبه وكعب الأحبار وغيرهم. واحتوت تفاصيل وجزئيات حول هذه القصص أو قصصا لسبيلها مهما كان فيها من إغراب ومفارقات فإننا نستبعد أن تكون كلها موضوعة بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم ونميل إلى القول بل نرجح أنها احتوت أشياء كثيرة مما كان يدور في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل البعثة وبعدها وحولها. وأنها مما يمكن الاستئناس به في تأييد ما قلنا. وكذلك مما يصح إضافته أيضا صيغة أعلام القصص مثل طالوت وجالوت ويونس وأيوب وفرعون وهامان وقارون وهرون وإبراهيم وسليمان وداود وإدريس ونوح والمسيح عيسى وموسى وهاروت وماروت ... إلخ. فإن هذه الأعلام قد جاءت في القرآن معرّبة وعلى أوزان عربية من لغات غير عربية ولم تكن فيها بالصيغة العربية الواردة حتما ومن المستبعد أن تكون قد عربت لأول مرة في القرآن ومن المرجح أن تكون عربت وتداولت بأوزانها العربية قبل نزولها. وبهذا وحده يصح أن يشملها (بلسان عربي مبين) الذي جاء في معرض نزول القرآن لأنها جزء منه. وتداولها معربة قبل نزول القرآن يعني كما هو بديهي معرفة العرب شيئا من

أخبار أصحابها. وفي ما تكررت حكاية في القرآن عن الكفار من قولهم عن القرآن إنه أساطير الأولين وإن النبي صلى الله عليه وسلم استكتبها وهي تملى عليه وإنه كان أناس يعينونه عليها وإنهم لو شاؤوا لقالوا مثلها كما جاء في آيات سور [الأنعام/ 25] و [الأنفال/ 30] و [الفرقان/ 5] و [القلم/ 8 و 15] قرينة قوية كذلك إن لم نقل حاسمة على أن العرب كانوا يسمعون من مقصد القرآن ونذره وبشائره وتذكراته ما كان اتصل علمه بهم وكان متداولا بينهم. وننبه على ظاهرة هامة في صدد القصص القرآنية، وهي أن السور المكية هي التي ورد فيها على الأعم الأغلب ما اقتضت إيراده حكمة التنزيل من القصص بأحداثها وأخبارها وأشخاصها وتكراراتها بالصيغ والأساليب المتنوعة. وأن السور المدنية لم تحتو إلا إشارات تذكيرية خاطفة إليها، والحكمة التي نلمحها في هذه الظاهرة هي أن القصص كانت تورد كما قلنا قبل في مجال الجدل والحجاج للإلزام والإفحام والموعظة والتذكير والإنذار وتدعيم الدعوة ومبادئها الرئيسية. ومسرح ذلك في الأعم الأغلب كان العهد المكي. في حين صار العهد المدني عهد قوة وعزة وطمأنينة وتشريع وجهاد أكثر منه عهد حجاج ولجاج. والله تعالى أعلم. ويذهب بعض الذين يفسرون القرآن تفسيرا باطنيا أو صوفيا إلى زعم كون القصص القرآنية رموزا لشؤون أخرى ويؤولونها على هذا الاعتبار تأويلا تعسفيا فيه العجيب الغريب. وفي هذا ما فيه من شطح بل وهذيان. لأن جل القصص الواردة في القرآن إن لم نقل كلها مما كان واردا في أسفار وقراطيس ومما كان متداولا بين الناس جيلا بعد جيل ومعروفا بأشخاصه وأحداثه. ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات التي نحن في صددها من سورة القلم مدنية، غير أن انسجامها مع السياق والموضوع انسجاما تاما وقويا ومماثلة الصورة التي احتوتها لصور العهد المكي تجعلنا نتوقف في صحة رواية مدنيتها، والله تعالى أعلم.

[سورة القلم (68) : الآيات 51 إلى 52]

[سورة القلم (68) : الآيات 51 الى 52] وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52) (1) الإزلاق: الإهلاك. وبعض المفسرين قالوا إنها الإصابة بالعين «1» ومعنى الجملة هنا: أنهم يكادون يلتهمونك ويهلكونك بأعينهم الناظرة إليك شزرا. (2) الذكر: في الآية الأولى كناية عن القرآن وقد تكرر ذلك في آيات عديدة، وفي الآية الثانية بمعنى التذكير، وقد تكرر ذلك كذلك. وفي هاتين الآيتين صورة أخرى من مواقف الكفار تجاه النبي صلّى الله عليه وسلم، إذ كانوا حينما يسمعونه يتلو القرآن ينظرون إليه شزرا حتى يكادوا يلتهمونه ويهلكونه بأبصارهم ويأخذون في نعته بالمجنون. وقد احتوت الآية الثانية ردا عليهم وتوكيدا بأن القرآن هو هدى للعالمين ومنبه ومذكر لهم. والآيتان متصلتان بالسياق والموقف الذي هو موضوع الآيات السابقة كما هو المتبادر وأسلوب الآية الأولى تنديدي في معرض حكاية موقفهم. تعليق على نعت الكفار النبي صلّى الله عليه وسلّم بالجنون ولقد تكررت هذه الصورة في القرآن، مما يدل على أن مثل هذا الموقف والقول كان يتكرر من الكفار. وأسلوب الآية الثانية يلهم بقوة أن الكفار لم يعنوا بنعت النبي صلّى الله عليه وسلّم بالجنون أنه كان مختل العقل أو به خبل وصرع، مما هو من أعراض الأمراض العقلية فقد كانوا من النباهة في درجة لا يعقل معها ذلك وهم يسمعون ما يتلوه عليهم من الفصول القرآنية الرائعة في بلاغتها وقوتها وحكمتها

_ (1) انظر تفسيرها في تفسير الطبري.

وأمثالها وانسجامها وما بدا منهم من جنوح إلى التفاهم معه ومصانعته، وحلفهم له الأيمان على ذلك دليل قوي آخر. وفي القرآن آيات تفيد أنهم كانوا يعرفون فيه رجاحة العقل وسلامة الذهن والبعد عن الفضول والتكلف مثل ما تلهمه آية سورة يونس هذه: قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) . وما تلهمه آيات سورة المؤمنون هذه: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) . فالذي يتسق مع هذا أن نعتهم كان على سبيل الاستنكار ومن قبيل ما اعتاد الناس أن يفعلوه إزاء من يدعو إلى شيء جديد مثير في العقائد والآراء ويرون منه جرأة لا تتسع لها حوصلتهم. ومن الممكن أن يكونوا قد أرادوا بذلك أيضا نسبة اتصال الجن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وتلقيه عنهم، على ما كانوا يعتقدونه بالنسبة إلى الشعراء والكهان والعرافين والسحرة «1» حيث كانوا يعتقدون أن شياطين الجن هم الذين يوحون للشعراء النوابغ بشعرهم وإلى الكهان والعرافين والسحرة بما يقولونه للناس الذين يراجعونهم لحل ما يلمّ بهم من مشاكل. والراجح أن نسبتهم الشعر والكهانة والسحر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم على ما جاء في آيات كثيرة مثل آية الذاريات هذه: كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) ، ومثل آيات سورة الطور هذه: فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) متصل بذلك. ومن المحتمل أن يكون نعتهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالجنون يرمي إلى القصدين معا، بحيث كانوا أو كان بعضهم يقصد هذا حينا، وكانوا أو كان بعضهم يقصد ذاك حينا. وفي سورة الشعراء آيات تنفي تنزّل الشياطين بالقرآن وهي: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) . وفي

_ (1) انظر كتابنا: «عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيئته قبل البعثة» ، الفصل الرابع من الباب الثالث «حياة العرب العقلية» ص 293- 298، والفصل الرابع من الباب الرابع «حياة العرب الدينية» ص 371- 378. [.....]

سورة الحجر آيات تحكي قولهم إنه مجنون وتتحداه أن يأتي بالملائكة إن كان من الصادقين وهي: وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) [6- 7] ، كأنما تقول إن اتصالك إنما هو بالجن وإلّا فائتنا بالملائكة إن كنت صادقا أن اتصالك بالله، حيث كانوا يعترفون أن الملائكة هم المختصون بخدمة الله. ويعتقدون أنهم بنات الله على ما حكته عنهم آيات كثيرة، منها آيات الصافات هذه: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) «1» . وفي جملة وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ينطوي ردّ قوي على الكفار الذين نعتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم بالجنون. ففي هذا القرآن الذي يتلوه عليهم هدى وموعظة وذكر للعالمين جميعهم ولا يمكن أن يصدر هذا من مجنون. وفي سورة الشعراء آيات أخرى جاءت بعد تلك الآيات السابقة الذكر ذات مدى عظيم في هذا الباب وهي: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) ، حيث ينطوي فيها تقرير كون الوحي الذي يأتي النبي لا يمكن أن يكون شيطانا وكون النبي لا يمكن أن يكون شاعرا، لأن الشياطين كاذبون وإنما يتنزلون على الأفاكين الآثمين ولأن الشعراء يتصفون بأوصاف لا تمت إلى الأخلاق الفاضلة بسبب ولا يتبعهم إلّا الغاوون أمثالهم في حين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صادق يدعو إلى توحيد الله وتمجيده وعبادته وحده ثم إلى الخير والحق والعدل والإحسان ومكارم الأخلاق وينهى عن الإثم والفواحش والمنكرات وأن الذين يتبعونه هم من ذوي الأخلاق الفاضلة والنفوس الكريمة والنوايا الطيبة الطاهرة.

_ (1) انظر كتابنا «عصر النبي عليه السلام وبيئته» ، الفصل الرابع، الحياة الدينية.

تعليق على نعت المستشرقين والمبشرين النبي صلى الله عليه وسلم بالجنون

تعليق على نعت المستشرقين والمبشرين النبي صلّى الله عليه وسلّم بالجنون ونقول بهذه المناسبة إنه لمما يدعو إلى الاشمئزاز ألّا يتورع المبشرون والمغرضون من المستشرقين عن تكرار نعت النبي صلّى الله عليه وسلّم بالجنون وأن يصل بهم الزعم إلى القول إنه كان مصابا بالصرع، وإنه كان يفقد صوابه حينما تأتيه النوبة وتعتريه التشنجات ويسيل العرق منه حتى إذا أفاق منها تلا على المؤمنين ما يقول إنه من وحي الله إليه، في حين أن هذا الوحي لم يكن إلّا أثرا من نوبات الصرع «1» . وقد أساءوا تأويل بعض الأحاديث والروايات التي ذكرت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يأخذه الوجد والعرق ويحمرّ وجهه حينما كان يوحى إليه وحرفوها عن حقيقة مداها. ولقد كشفهم حقدهم وخبث سرائرهم فأنساهم أن المصابين بالصرع تتعطل فيهم أثناء النوبة حركة الشعور والتفكير والذاكرة «2» وجعلهم يناقضون أنفسهم حين يعترفون أنه كان عقب ذلك يتلو آيات القرآن التي أوحي إليه بها، متجاهلين إلى ذلك ما فيها من الروعة والبلاغة والحكمة والمبادئ الإنسانية والاجتماعية والأخلاقية السامية والدعوة إلى الله وحده والخير والمعروف ومحاربة الشرك والوثنية والنهي عن الإثم والفواحش والمنكرات مما لا يعقل أن يصدر عن مريض في عقله وجسمه وخلقه. ولقد تجاهلوا إلى هذا أيضا أن القرآن قد حكى مرارا نسبة الجنون إليه على لسان خصومه الأشداء ومكذبيه العنيدين، وهو أمر بالغ الخطورة والقوة في هذا المقام ويردها عليهم ردّا شديدا مرفقا كما هو في الآية التي نحن في صددها بإعلان أن ما جاء به هو ذكر للعالمين ودعوة لهم. ومن ذلك آية سورة الأعراف هذه: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) ، وآيات سورة المؤمنون هذه: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)

_ (1) انظر كتاب «حياة محمد» ، حسين هيكل طبعة ثانية ص 39- 40. (2) المصدر نفسه. الجزء الأول من التفسير الحديث 26

أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) ، وآيات سورة الطور هذه: فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) ، وآية سورة سبأ هذه: قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) «1» . وهذا بالإضافة إلى آيات سورة الشعراء التي أوردناها الرائعة القوية في عبارتها وما ينطوي فيها وأن حكاية أقوال الكفار والرد عليها بمثل هذه الردود النافذة إلى أعماق القلوب والعقول كافيان وحدهما للجم ألسنة الأفاكين الآثمين عند كل منصف مهما كانت نحلته. ويقف بعض مفسري الشيعة عند الآية [47] فيقولون إنها عنت أبا بكر وعمر حين قالا يوم الغدير الذي أعلن فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم وصاية علي وإمامته من بعده: «انظروا إلى عينيه تدوران كأنهما عينا مجنون» «2» . وفي هذا ما هو ظاهر من زور واجتراء على الله ورسوله وأصحابه لا يكونان من عاقل مؤمن والعياذ بالله.

_ (1) تتضمن الآية معنى عظيما، فقد كان الكفار وبخاصة زعماءهم يتضامنون في موقف العداء ويشجع بعضهم بعضا ويستحي بعضهم من بعض، بل ويخاف بعضهم من بعض لأسباب تتعلق بمراكزهم ومصالحهم وما ثار فيهم من حسد واستكبار لاختصاص محمد صلّى الله عليه وسلّم دونهم بالوحي والقرآن على ما حكته آيات عديدة. منها آيات سورة فاطر هذه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [42، 43] ، ومنها آية سورة ص هذه: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا [8] فدعتهم آية سبأ/ 46 المذكورة إلى التفكر الهادئ على انفراد في أمر النبي ورسالته وحينئذ يتيقنون من الحق والحقيقة فيها ويتجلى لهم باطل ما ينسبون إليه من جنون. (2) انظر كتاب «الصراع بين الإسلام والوثنية» للقصيمي، ج 1 ص 435 نقلا عن كتاب الوافي وعزوا إلى أحد الأئمة الإثني عشر الصادق الذي نحب أن ننزهه عن هذا القول الأثيم.

تعليق على جملة وما هو إلا ذكر للعالمين

تعليق على جملة وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ وجملة وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ التي اختتمت بها السورة عظيمة المدى في إطلاقها حيث ينطوي فيها إعلان كون الرسالة المحمدية دعوة شاملة لجميع الأجناس والألوان والأديان والبلدان في جميع الأزمان. وتبكير ورودها يعني أن ذلك كان هدفا محكما من أهداف هذه الرسالة منذ بدئها خلافا لما يحلو لبعض المستشرقين أن يزعموه من أن هذه الرسالة للعرب فقط أو بأن عمومها قد كان تطورا متأخرا. ولقد تكرر هذا المعنى في آيات كثيرة مكية ومدنية متنوعة الأساليب قوية المدى. منها آيات سورة ص هذه: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ «1» (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) ، وآية سورة الأنعام هذه: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90) ، وفي سورة الأنبياء آية تضمنت المعنى مع زيادة تقرير كون رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم هي رحمة للعالمين وهي: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) ، وفي سورة الأعراف آية تأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بإعلان كون رسالته للناس جميعا وهي: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) . وهذا بالإضافة إلى آيات عديدة وجهت فيها الدعوة إلى أهل الكتاب مثل آيات سورة المائدة هذه: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) ، وهذه: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) . وهناك آيات ذات مدى عظيم حيث تضمنت تقريرا ربانيا بأن الله

_ (1) في سورتي يوسف والتكوير فصل مماثل أيضا.

قد أرسل رسوله بالهدى ودين الحق وبأنه سيظهره على الدين كله على ما جاء في آية سورة الفتح هذه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) ، وآية سورة الصف هذه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) «1» حيث ينطوي في هذا تأييد لعموم رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم ووعد رباني بأنها ستعم البشرية وتظهر على سائر الأديان لأنها رسالة الحق والهدى. ولن يخلف الله وعده. هذا، ويلحظ أن فصول السورة قد نزلت بمناسبة مواقف الكفار وأقوالهم واحتوت ردا عليهم وإنذارا وتثبيتا وتأييدا للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين. فهي من قسم الوسائل ويصح أن تكون نموذجا كاملا من نماذجه المبكرة في النزول. ومع ذلك فقد تخللها مبادئ اجتماعية وإيمانية محكمة أيضا، مما فيه صورة من صور التنزيل القرآني التي تكررت في كثير من فصول القرآن وسوره.

_ (1) في سورة التوبة آية مماثلة.

سورة المزمل

سورة المزّمّل في السورة نداء للنبي صلّى الله عليه وسلّم للقيام بالليل وتلاوة القرآن والاستعداد لما يوحى إليه، وتثبيت له إزاء مواقف الزعماء والأغنياء المكذبين، وحمله عليهم. وإشارة إلى موقف فرعون من رسالة موسى عليه السلام ونكال الله به على سبيل الإنذار والتذكير، وتخفيف من شدة قيام الليل وتهجده. والآية الأخيرة التي فيها هذا التخفيف مدنية وقد ألحقت بالسورة لمناسبة ما جاء في أولها. وترتيبها كثالث سورة نزولا بسبب رواية نزول آياتها التسع الأولى لحدتها كثالث مجموعة نزولا، غير أن هذه الرواية وترتيب السور بسببها موضع نظر على ما يرد شرحه بعد. ولقد تكرر بدء مطالع السور بنداء النبي صلّى الله عليه وسلّم مما يصح أن يقال إنه أسلوب من أساليب النظم القرآني في مطالع السور وشخصياتها. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9) . (1) المزمّل: المتزمل. والتزمل هو الالتفاف بالثوب.

(2) الترتيل: هنا بمعنى التجويد والتمهل في القراءة. وجاءت الكلمة في سورة الفرقان بمعنى تنزيل القرآن مفرقا قسما بعد قسم. (3) ناشئة الليل: النهوض من النوم في الليل. (4) أشد وطئا: قيل إن معناها أشد وقعا، وقيل أكثر موافقة وملاءمة وأدعى إلى التنبيه والإخلاص. (5) أقوم قيلا: القيل هو القول، ومعنى الجملة هو أسد وأقوم للمقال والتلاوة. (6) سبحا طويلا: مجالا طويلا للعمل والمشاغل. (7) التبتل: الخشوع. في هذه الآيات أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بتخصيص قسم كبير من الليل للتهجد والخشوع والعبادة وتلاوة القرآن، لأنه يتمكن فيه من تفريغ القلب وتصفية النفس والذهن والسداد في القول أكثر من النهار، بسبب ما في النهار من شواغل كثيرة. وأمر له كذلك بالاستعداد لما سوف يلقى عليه من المهام العظمى والأعباء الثقيلة. وباتخاذ الله وحده وكيلا ومعتمدا له وهو الذي لا إله إلّا هو ربّ المشرق والمغرب. وقد جاء في بعض الروايات «1» أن هذه الآيات أول ما نزل من القرآن، كما جاء في بعضها «2» أنها نزلت حينما رجع النبي صلّى الله عليه وسلّم من غار حراء بعد نزول الوحي عليه لأول مرة وقلبه يرجف فقال لأهله: «زملوني» . ومضمون الآيات يجعل الرواية الثانية أقوى وهو ما عليه جمهور المفسرين. وهذه الروايات تعني والحالة هذه أن هذه الآيات نزلت وحدها. لأن الآيات التالية لها احتوت مشاهد ومواقف لا يمكن أن تقع إلّا بعد أن يكون قد نزل جملة من القرآن وسار النبي صلى الله عليه وسلّم في الدعوة شوطا غير يسير. وفي هذه الحالة يكون ترتيب السورة كثالثة السور نزولا بسبب ذلك.

_ (1) انظر تفسير الآلوسي لهذه السورة. (2) المصدر أيضا.

على أن ما بين هذه الآيات والآيات التالية لها من انسجام وتوازن قافية وعطف ما بعدها عليها وما فيها من حكاية لموقف المكذبين وتثبيت للنبي صلّى الله عليه وسلم يمكن أن يدل على أنها ليست منفصلة عما بعدها وأنها جاءت كمطلع تمهيدي له فيه تثبيت وإعداد. وإذا صح هذا فإن أولية الآيات وبالتالي فإن ترتيب السورة لا يكون صحيحا. والآيات على كل حال مما نزل مبكرا جدا، ويصح أن يقال والحالة هذه إن ما احتوته من أوامر بشأن قيام الليل وترتيل القرآن والتبتل إلى الله فيه كان خاصا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم بالدرجة الأولى بحسب إعداده للمهمة العظمى التي اصطفاه الله لها. ولعل الضمير المفرد المخاطب يقوم قرينة على ذلك. ولا بد من أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم قد قام بما أمر به أحسن قيام وهو ما تواترت فيه الآثار «1» . والناقد البصير يقرأ والحالة هذه في هذه الآيات صفحة من حياة الرسول صلّى الله عليه وسلم الروحية وسيرته التعبدية واستغراقه في الله في الخلوات وهدأة الليل في معظمه، ويلمس ما كان لهذا من أثر في صفاء نفسه وقوة روحه. ولا سيما إذا تذكر ما كان من مثل هذه الخلوات والاعتكافات الروحية قبل بعثته صلّى الله عليه وسلّم على ما جاء في حديث البخاري عن عائشة رضي الله عنها الذي أوردناه في تفسير العلق، حيث جاء فيه فيما جاء: «ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد» ، وكان لذلك من دون ريب أثر في استعداده لتلقي وحي ربه. وكان من أسباب اصطفاء الله له لتلك المهمة. وقد روي «2» أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأولين السابقين ما لبثوا أن اقتدوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك حتى صارت تنتفخ أقدامهم من قيام الليل والوقوف في الصلاة، وكان ذلك مما يزيدهم قوة وإيمانا وصفاء نفس وصلابة أمام المناوئين. ولقد روي هذا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم نفسه في حديث رواه البخاري والترمذي

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير. (2) المصدر نفسه.

والنسائي عن المغيرة قال: «إن كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقوم ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه فيقال له فيقول أفلا أكون عبدا شكورا» وفي رواية الترمذي: «حتى انتفخت قدماه فقيل له تتكلف هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: أفلا أكون عبدا شكورا» . وفي سورة الذاريات المكية آيات تصدق ما كان عليه المؤمنون الأولون من ذلك وهي: إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) . ولقد أكد على ذلك في آية مكية أخرى في سورة الإسراء جاء فيها: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) . ولقد استمر النبي صلّى الله عليه وسلّم على هذا في العهد المدني أيضا على ما تفنده الآية الأخيرة من السورة التي هي آية مدنية بإجماع الروايات وبما يدل عليه نصها حيث شاءت حكمة الله التخفيف عن المسلمين فيها على ما سوف نشرحه بعد مما هو أثر من آثار الأمر القرآني الوارد في الآيات. ولقد رويت أحاديث نبوية عديدة في فضل قيام الليل والصلاة والقراءة فيه أوردنا طائفة منها في سياق تفسير سورة العلق. وهي على ما هو المتبادر تعكس ما كان من الأثر القرآني للنبي صلّى الله عليه وسلّم في نفسه ثم ما كان من قصده في حث المسلمين على قيام الليل في مختلف الأزمنة والأمكنة لما في ذلك من تربية روحية وخلقية جليلة. والآية المدنية التي ألحقت بآخر هذه السورة لا تنسخ قيام الليل وإنما تخفف وبخاصة على أصحاب الأعذار على ما هو المتبادر منها والله تعالى أعلم. والآية الأخيرة تنطوي على دعم للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتقوية إعداده واستعداده. فالله هو رب كل الكون مشرقه ومغربه، وليس من إله غيره، وعلى النبي أن يجعل اعتماده عليه وحده. فهو الكفيل بإنجاحه في مهمته، وفي كل هذا تثبت وتطمين وبث قوة وروح. وإلى هذا فإن فيها لأول مرة إعلانا لوحدة الله وشمول ربوبيته، ودعوة إلى

تعليق على كلمة القرآن

جعله وحده وكيلا ومعتمدا في محيط اتخذ أهله مع الله شركاء وأندادا، وجعلوا لهم من دونه أولياء وشفعاء ونصراء، واستكبر زعماؤه حتى كاد الناس يتخذون منهم أربابا من دون الله. وهكذا تسجل هذه الآية أول جملة قرآنية على الشرك وعبادة غير الله والدعاء لغير الله والاتجاه لغير الله، وأول دعوة قرآنية إلى جعل الله وحده المتجه والوكيل والمعتمد، وتخليص النفس من أي سيطرة وخضوع لغيره، وهذا هو أساس الإسلام وجوهر دعوته. تعليق على كلمة القرآن وكلمة «القرآن» ترد هنا لأول مرة، وهي مصدر القراءة. وتعني المقروء أيضا، ومع أنها صارت علما على جميع محتويات المصحف منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين فإنها كانت تطلق على ما نزل من القرآن قبل أن يتم تمامه أيضا على ما تدل عليه آية سورة النمل هذه: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) ، وآية سورة الأنعام هذه: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [19] . ومثل آية سورة طه هذه: طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) وآية سورة البقرة هذه: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [185] . وإلى هذا فإنها كانت تعني القسم الذي يحتوي مبادئ الدعوة ومؤيداتها دون حكاية مواقف تكذيب الكفار وحجاجهم والرد عليهم على ما تدل عليه آية سورة الإسراء هذه: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً (82) ، ومثل آيات سورة يونس هذه: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) ، ومثل آية سورة الفرقان هذه: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ

تعليق على مدى تعبير ورتل القرآن ترتيلا

عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا (32) ، ومثل آية سورة فصلت هذه: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) ، ومثل آية سورة الحشر هذه: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) ، وآية سورة إبراهيم هذه: الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) . وواضح من آيات يونس/ 15- 16، والفرقان/ 32 وفصلت/ 26 وأمثالها الكثيرة التي حكت أقوال الكفار عن القرآن أنهم كانوا يعنون بالقرآن ما فيه دعوة إلى الله وحده وحملة على شركهم وتسفيه لعقولهم ومخالفة لتقاليدهم وعقائدهم، وما فيه من المبادئ الإيمانية والاجتماعية والإنسانية والاقتصادية والأخلاقية التي رأوا فيها بدعة ورأوها تهدد مراكزهم ومصالحهم. وعلى أي حال لا يدخل فيما كانوا يعنونه من الكلمة حكاية أقوالهم والرد عليها، وهذا شغل جزءا كبيرا من القرآن المكي. كذلك فإن ذلك هو الذي عنته على ما هو المتبادر آيات الأنعام/ 19 والبقرة/ 185 والإسراء/ 82 والحشر/ 21 وإبراهيم/ 1 وأمثالها الكثيرة جدا. تعليق على مدى تعبير وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا وما روي في صدد أدب تلاوة القرآن لقد رويت أحاديث وقيلت أقوال عديدة في صدد أدب تلاوة القرآن في سياق تفسير جملة وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا من ذلك حديث رواه البخاري وأبو داود جاء فيه: «أن أنس سئل كيف كانت قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فقال: إنها كانت مدا ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمدّ ببسم الله ويمدّ بالرحمن ويمدّ بالرحيم» «1» . وحديث

_ (1) التاج، ج 4 ص 8- 9.

رواه الترمذي عن أم سلمة قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقطّع قراءته يقول الحمد لله ربّ العالمين ثم يقف، الرحمن الرحيم ثم يقف، وكان يقرأ ملك يوم الدين» «1» . وحديث رواه البخاري والترمذي عن أبي موسى: «أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال له لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود» «2» . وحديث رواه البخاري وأبو داود عن عبد الله بن مغفّل قال: «قرأ النبي صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح في مسير له على راحلته سورة الفتح فرجّع في قراءته. قال معاوية لولا خوفي من اجتماع الناس عليّ لحكيت لكم قراءته» . وحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما أذن الله لشيء ما أذن لنبيّ حسن الصوت يتغنّى بالقرآن يجهر به» «3» . وحديث رواه البخاري وأبو داود عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «زيّنوا القرآن بأصواتكم. ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن» «4» وقد علق مؤلف التاج على الحديث الأخير بقوله شارحا إن تحسين الصوت بالقرآن يزيد في بهائه وجلاله ويصل بمواعظه إلى أعماق القلوب مع مراعاة علم التجويد فإن زاد القارئ في المد والغن أو تركهما كان مكروها في قول وحراما في قول وأثم القارئ ووجب على السامع الإنكار. ولقد روى الطبري في سياق شرح العبارة عن مجاهد أن معناها (ترسل فيه ترسلا) وعن قتادة (بينه بيانا) وقال النسفي: إن معناها وجوب القراءة بتأنّ وتثبت وإشباع الحركات. وروى البغوي عن ابن عباس أنها بمعنى: «اقرأه على هينتك ثلاث آيات أو أربعا أو خمسا» . وروي عن ابن مسعود أنه قال في شرحها: «لا تنثروه نثر الدقل- الرمل- ولا تهذوه هذّ الشعر. قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة» . ويعني بالجملة الأخيرة عدم السرد السريع.

_ (1) المصدر السابق، ص 8- 9. (2) المصدر نفسه. [.....] (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه.

[سورة المزمل (73) : الآيات 10 إلى 14]

وعلى ذلك يمكن أن يقال إن من أدب تلاوة القرآن وترتيله تلاوته بتأنّ وتثبت وتبيين وأداء وعظي وخاشع نافذ إلى العقول والقلوب وحسن إخراج الحروف ومراعاة علم التجويد. وإنه لا بأس في ترجيعه بصوت حسن إذا لم يزد عن الحد الذي يخرجه إلى ما لا يستحب ولا ينسجم مع قدسيته من أساليب الغناء. [سورة المزمل (73) : الآيات 10 الى 14] وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14) . (1) اهجرهم: اعتزلهم أو تجنبهم. (2) أولي النعمة: المتنعمين، وتعني الأغنياء والزعماء والمترفين. (3) الأنكال: الأغلال والقيود. (4) الجحيم: النار الشديدة. (5) ذا غصة: الذي يسبب الغصة. (6) الكثيب: تل الرمل. (7) المهيل: الرخو المتداعي للتبعثر والانسياح. وفي هذه الآيات: 1- تثبيت للنبي صلّى الله عليه وسلّم إزاء تكذيب الأغنياء المترفين الذين لا يخجلون من ذلك وهم يتمتعون بنعم الله، وأمره بتركهم لهم فهو قادر عليهم. 2- وأمر آخر له بهجرهم هجرا لينا. 3- ووعيد لهم بما سوف يلقونه يوم القيامة من أغلال وعذاب وجحيم وطعام يغصون به لمرارته وسوئه. 4- ووصف لهول هذا اليوم حيث ترجف الأرض والجبال وتصبح الجبال فيه ككثبان الرمل المهيلة.

تعليق على مدى الأمر بهجر الزعماء والأغنياء وسرية الدعوة

ولم نطلع على رواية تذكر أسباب نزول الآيات. ومطلعها يفيد أن الزعماء والمترفين كانوا يتقولون على النبي صلّى الله عليه وسلّم الأقاويل فاحتوت ما احتوته من تثبيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وإنذار ووعيد قاصمين لهم. وحرف العطف الذي بدأت به الآيات بعد أن طلبت الآية الأخيرة السابقة لها من النبي صلّى الله عليه وسلّم اتخاذ الله وكيلا قد يكون قرينة على اتصال الكلام بين هذه الآيات وسابقاتها، وتوازن القافية قد يكون قرينة على ذلك أيضا. وذكر الأغنياء والزعماء والمترفين كأصحاب القول تكرار لما احتوته آيات سورتي العلق والقلم، وتوكيد لما قلناه قبل من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد قوبل بموقف الصدّ والتكذيب من هذه الطبقة منذ خطواته الأولى لأن رجالها رأوا في دعوته وحركته خطرا على مراكزهم ومصالحهم وأدى ذلك إلى نشوب المعركة بينهم وبينه منذ عهد مبكر، ثم استمرت إلى أن أظفره الله بهم في بدر وما بعدها. وليس في الآيات ما يشير إلى موقف شخص بعينه كما هو الحال في آيات السورتين السابقتين. وبمعنى آخر إن الحملة قد جاءت عامة على المكذبين من الأغنياء والمترفين بسبب موقف الصد والتكذيب الذي أخذوا يقفونه. وهذا لا يمنع أن يكون قد وقع منهم شيء جديد من ذلك فاقتضت حكمة التنزيل إنزال هذه الآيات. تعليق على مدى الأمر بهجر الزعماء والأغنياء وسرّية الدعوة والأمر بهجر المكذبين لا يمكن أن يكون بتركهم وشأنهم بالمرة، لأن هذا لا يتسق مع طبيعة رسالة الرسول صلّى الله عليه وسلّم التي تقضي بالاستمرار في الدعوة. ويبدو لنا أن فيه تفريجا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إزاء شدة الموقف الذي واجهه منذ البدء، وتلقينا بأن لا يهتم له، وتوجيها له إلى الفريق الصالح الطيب الذي استجاب أو الذي يمكن أن يستجيب إلى الدعوة، مع عدم قطع الحبل مع الزعماء والأغنياء بالمرة، وعدم الغلظة والشدة في الهجر، وهذا مستلهم من الآية الأولى أيضا. كما أنه قد تكرر

في القرآن المكي كلما حزب النبي صلّى الله عليه وسلّم موقف الكفار المعاندين وأحزنه مثل ما جاء في آية سورة فاطر هذه: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) ، ومثل ما جاء في آية سورة النحل هذه: وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) ، ومثل ما جاء في سورة يونس: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) ، وقُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109) ، ومثل ما جاء في آية ق: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45) . ولقد ذكرت الروايات «1» أن النبي صلّى الله عليه وسلّم اتخذ له مركزا سرّيا عرف بدار الأرقم يجتمع فيه مع المؤمنين، فيقيمون فيه صلواتهم معه، ويتلقون تعاليم دينهم عنه، كما أثر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يدعو الله بأن يعزّ دينه ببعض الأقوياء «2» وأن هذه الحالة دامت نحو ثلاث سنين «3» ، إلى أن أسلم عمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما وغيرهما من الأقوياء المعروفين. فإذا صحت هذه

_ (1) السيرة الحلبية ج 1 ص 283. (2) انظر المقاصد الحسنة للسخاوي ص 87 وما بعدها. (3) السيرة الحلبية نفس الجزء والصفحة. وننبه على أن ابن هشام لم يذكر مدة السنين الثلاث وإنما ذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد أن أسلم جماعة فيهم ضعفاء صار يجتمع ويصلي بهم مستخفيا في دار الأرقم في الصفا وفي شعاب مكة إلى أن صار عدد المسلمين أربعين وأسلم حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب فخرجوا (انظر ج 1 ص 253- 264) واحتمال أن تكون مدة اجتماع النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمؤمنين الأولين في دار الأرقم وصلاته بهم مستخفيا امتدت ثلاث سنين وارد لأن عمر وحمزة رضي الله عنهما لم يسلما إلّا في السنة الثالثة أو الرابعة. غير أن سياق ابن هشام يدعم ما قلناه من أن الاستخفاء إنما كان رفقا بالمسلمين الأولين ولم يكن انقطاعا عن الدعوة.

تعليق على رواية نسخ حكم الآية: واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا

الروايات فإن من الممكن أن يقال إن هذا كان بتلقين الآية الأولى، ولا سيما أنها من الآيات المبكرة المتسقة مع ما ورد من الروايات، ومن الممكن أن تلهم بسبب ذلك معنى عمليا أكثر مما تلهمه مثيلاتها التي نزلت فيما بعد. ومع كل هذا فإننا نعتقد أن هذا قد كان لحماية أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأولين الذين كان فيهم الضعفاء والفقراء والذين كانوا يتعرضون للعدوان والبغي والأذى وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يتوقف عن دعوته. وكل ما يحتمل أنه صار يتجنب الأعداء الألداء لدعوته وحركته من الزعماء أو يتحاشى مخاشنتهم وهذا ما تلهمه جملة وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا أيضا. ولقد استمرت الآيات متواصلة في الأمر بالدعوة والإنذار. وفي حكاية ما كان يقع بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وزعماء الكفار من محاورات ومشادات مما فيه تأييد لذلك على ما سوف يأتي بعد. تعليق على رواية نسخ حكم الآية: وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا ولقد روى الطبري وتابعه المفسرون عن قتادة وغيره من علماء التابعين أن هذه الآية نسخت بآية القتال أو آية السيف في سورة التوبة التي تأمر بقتال المشركين بدون هوادة إلى أن يسلموا وهي: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) . ويورد المفسرون هذا القول في مناسبة كل آية مكية فيها أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالصبر والصفح والإعراض عن المشركين والكافرين أو التحريض والترقب وانتظار أمر الله أو فيها تنبيه إلى أنه ليس عليهم مسيطرا ولا جبارا وإنما هو منذر ومذكر. والأمر يتحمل شيئا من البيان، فمن جهة أولى إن هذه الآيات في ظرف نزولها ومقامها استهدفت تسلية النبي وتثبيته وتهوين موقف الصد والمناوأة الذي

تعليق على تبدل نواميس الكون عند قيام الساعة

يقفه الكفار والمشركون منه في الدرجة الأولى والمباشرة وتظل تعبر عن هذا الهدف. ومن جهة ثانية إن القول وجيه بالنسبة لكل كافر ومشرك كان وظل في موقف العدوان على الإسلام والمسلمين الذي كان يتمثل في العهد المكي بالطعن بالإسلام وتكذيب النبي صلّى الله عليه وسلّم وقذفه ومناوأته وصد الناس عن دعوته وتأليبهم عليه وأذيته وأذية الذين اتبعوه وفتنتهم عن الإسلام بالإكراه والإغراء وهو موقف زعماء المشركين أو معظمهم في العهد المكي. أما الذين لم يكن منهم مثل هذا الموقف العدواني والذين يقفون من الإسلام والمسلمين موقف الموادة والمسالمة والحياد فلا يصح ذلك القول بالنسبة إليهم على ما سوف نشرحه في مناسبات آتية أكثر ملاءمة والله أعلم. تعليق على تبدل نواميس الكون عند قيام الساعة وبمناسبة ما ورد في الآية الأخيرة من رجفان الأرض والجبال يوم القيامة وصيرورتها كثيبا مهيلا نقول: إن الإشارة إلى تبدل مشاهد الكون ونواميسه يوم القيامة قد تكررت في القرآن كثيرا. وأكثر هذا التبدل في المشاهد التي تملأ عظمتها وروعتها نفوس الناس، على مختلف طبقاتهم، هيبة ورهبة، كالأرض والجبال والسماء والشمس والقمر والنجوم والبحار كما في مطالع سور التكوير والانفطار والانشقاق. وقد تنوعت أساليب وصف هذا التبدل وعباراته. فالأرض والجبال هنا ترجف، والجبال تصبح كثيبا ومهيلا. والأرض والجبال في سورة الحاقة تحمل وتدك دكة واحدة، والجبال في سورة طه تنسف ويصبح مكانها مستويا، وفي سورة النمل تسير سير السحاب وفي سورة النبأ تكون سرابا وفي سورة القارعة تكون كالعهن المنفوش. ومثل هذا التنوع وارد بالنسبة للبحار والنجوم والسماء والشمس والقمر أيضا. والمتبادر أنه بالإضافة إلى ما في هذه الإشارات القرآنية من حقائق إيمانية غيبية عن تبدل نواميس الكون ومشاهده عند انتهاء الحياة الدنيا وبدء الحياة

تعليق على النار الأخروية

الأخرى، ثم إلى كونها في نطاق قدرة الله الذي خلقها وسوّاها أول مرة، فإنها قد جاءت بسبيل وصف يوم القيامة وإثارة الرعب في قلوب السامعين الذين تدهش نفوسهم من عظمة هذه المشاهد والنواميس وروعتها، وعلى وجه التقريب والتمثيل لإنذار المكابرين المعاندين وحملهم على الارعواء والشعور بسوء العاقبة إن هم ظلوا في موقفهم الجحودي العنيد. ولعل تنوع الصيغ الواردة مما يقوم قرينة على ذلك، بالإضافة إلى ما في آيات الوصف وسياقها من القرائن والدلالات التي يلمسها من أنعم النظر فيها. والقرينة قائمة في الآيات التي نحن في صددها والتي ترد لأول مرة، حيث احتوت إنذارا وإعلانا بما لدى الله من الأنكال والجحيم في ذلك اليوم الذي ترجف فيه الأرض والجبال وتكون الجبال كثيبا مهيلا. ولقد توسع كثير من المفسرين المطولين في وصف مشاهد التبدل وحاول بعضهم أن يوفقوا بين ما ظنوه موهما للتناقض بسبب تنوع الوصف. وليس من طائل وراء ذلك كله. وفيه تكلف لا ضرورة له فيما هو المتبادر عدا أنه لا يستند إلى روايات وثيقة متصلة بالنبي صلّى الله عليه وسلم. فالحياة الأخروية حقيقة إيمانية مغيبة في جميع مشاهدها. والزيادة على ما جاء في القرآن أو تفسيره وتفصيله لا يمكن أن يكون صحيحا إذا لم يكن متصلا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم لأن ذلك من الأمور التي لا يجوز الكلام فيها بالتخمين. ويجب- والحال هذه- أن يوقف منها عند ما وقف القرآن أو الآثار النبوية الثابتة دون تزيد وتوسع وتخمين وتكلف مع ملاحظة استهدافها التدعيم والانذار والترغيب والترهيب الذي تكرر في القرآن كثيرا تلميحا حينا وتصريحا حينا آخر، والذي يلمح في الآيات التي نحن في صددها. تعليق على النار الأخروية وبمناسبة ورود ذكر الجحيم التي توعد الله بها الكفار لأول مرة نقول: إن الجحيم أو النار أو جهنم أو السعير- وكلها مترادفة- قد جعلت في القرآن عنوانا الجزء الأول من التفسير الحديث 27

لما سينال الكافرين الآثمين من حياة العذاب والآلام في الاخرة. لأن الناس في الدنيا وبخاصة الذين وجه إليهم الخطاب لأول مرة قد اعتادوا أن يجدوا في شدة الحرارة والنار أشد الآلام الجسمانية فاقتضت حكمة الله أن يوعد الكافرون الآثمون بأشد ما اعتاده الناس من أسباب العذاب والألم. وفي بعض الآيات في سور أخرى ذكرت وسائل ومشاهد عذاب أخرى غير النار. وقد وصفت هي الأخرى بأوصاف وتشبيهات متساوقة مع المألوفات الدنيوية ومن ذلك ما جاء في الآية التي ورد فيها ذكر الجحيم. أي الطعام ذي الغصة والأنكال أي القيود والأغلال. ومن ذلك آيات سورة الغاشية هذه تَصْلى ناراً حامِيَةً (4) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وآيات سورة النبأ هذه: لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) وآيات سورة الدخان هذه: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) . ويلحظ أن هذه الوسائل والمشاهد من أشد ما يؤلم الناس في الحياة الدنيا أيضا. ومع واجب الإيمان بما جاء في القرآن من المشاهد الأخروية وكونها في نطاق قدرة الله تعالى فإنه يجب الإيمان بأنه لا بد لذكر ذلك بالأسلوب الذي ذكر به من حكمة. ولعل قصد التقريب للأذهان والتأثير في النفوس وإثارة الفزع والخوف، والحمل على الارعواء من تلك الحكمة، والنفوس تتأثر بما تعرف وتمارس من آلام وعذاب. والآيات القرآنية في النار ووسائل العذاب الأخروية كثيرة جدا كالجنة ووسائل النعيم الأخرى. وهي كذلك من خصوصيات القرآن تبعا لخصوصيته في وصف الحياة الأخروية بوجه عام. وننبه كذلك إلى أن القرآن لم يقصر ما سوف ينال الكافر الآثم من آلام الحياة الأخروية وعذابها على النار والوسائل المادية

الأخرى، بل ذكر كذلك ما سوف يناله من سخط الله وغضبه وبعد عن رضائه ومن ذلّ وهوان، بأساليب متنوعة وفي مواضع عديدة، مما هو متسق مع طبائع الأمور من حيث إن الله يعلم أن هناك من يرى في هذه آلاما شديدة وأن هناك من يرى في تلك الآلام الشديدة. وكما أثرت أحاديث نبوية عديدة في الجنة وأوصاف النعيم الأخروي أثرت أحاديث نبوية عديدة في النار والعذاب الأخروي. منها ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة ومنها ما رواه أئمة الحديث الآخرون. وقد رأينا أن نورد بعضها هنا، ونرجىء بعضها إلى مناسبات أكثر ملاءمة كما فعلنا في أحاديث الجنة والنعيم الأخروي. فمن ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءا من حرّ جهنم. قالوا والله إن كانت لكافية يا رسول الله قال فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلها مثل حرها» . وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلم: تخرج عنق من النار يوم القيامة لها عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق يقول إني وكلت بثلاثة بكل جبار عنيد وبكل من دعا مع الله إلها آخر وبالمصورين» . وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة» . وحديث رواه الترمذي عن أبي سعيد قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: لسرادق النار أربعة جدر كثف كل جدار مثل مسيرة أربعين سنة» . وحديث رواه الترمذي عن أبي سعيد أيضا قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: الصعود جبل من نار يتصعد فيه الكافر سبعين خريفا ثم يهوي كذلك فيه أبدا» . وحديث رواه الترمذي عن عتبة بن غزوان قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم إن الصخرة العظيمة لتلقى من شفير جهنم فتهوي فيها سبعين عاما وما تفضي إلى قرار معا» قال عتبة وكان عمر يقول: «أكثروا ذكر النار فإن حرها شديد وإن قعرها بعيد وإن مقامعها حديد» . وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة، قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إن الحميم

ليصب على رؤوسهم فينفذ حتى يخلص إلى جوفه فيسلق ما في جوفه حتى يحرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان» . وحديث رواه الترمذي عن ابن عباس قال: «قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102] ، ثم قال لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن يكون طعامه» وحديث رواه الترمذي عن أبي الدرداء قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يلقى على أهل النار الجوع فيعدل ما هم فيه من العذاب فيستغيثون فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذي غصة فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب فيستغيثون بالشراب فيرفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم فإذا وصلت بطونهم قطعت ما في بطونهم فيقولون ادعوا خزنة جهنم فيقولون ألم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى، قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلّا في ضلال. قال: فيقولون: ادعوا مالكا فيقولون له يا مالك ليقض علينا ربك فيجيبهم إنكم ماكثون. قال فيقولون ادعوا ربكم فلا أحد خير من ربكم فيقولون ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين. ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون. قال فيجيبهم اخسئوا فيها ولا تكلمون. قال فعند ذلك يئسوا من كل خير وعند ذلك يأخذون في الزفرة والحسرة والويل» . وحديث رواه الشيخان والترمذي عن النعمان بن بشير قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة لرجل توضع في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه» . وواضح من هذه الأمثلة كذلك أن الأحاديث النبوية في النار والعذاب الأخروي متساوقة هي الأخرى مع الآيات القرآنية في وصف النار ووسائل العذاب الأخروية بأشد ما يكون إيلاما للنفوس والأجسام. والإيمان بالمشاهد الأخروية التي يثبت خبرها عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكونها في نطاق قدرة الله تعالى واجب كالإيمان بما جاء في ذلك في القرآن مع الإيمان بأن ذكر ذلك لا بد من أن يكون له حكمة وهدف. وإثارة الفزع والخوف والارعواء عن الكفر والغي

[سورة المزمل (73) : الآيات 15 إلى 19]

وسيء الأعمال من الملموح في الأحاديث من تلك الحكمة كما هو الشأن في الآيات القرآنية. [سورة المزمل (73) : الآيات 15 الى 19] إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19) . (1) وبيلا: شديدا أو ثقيلا. (2) منفطر: متشقق ومتصدع. الخطاب في الآيات موجه إلى سامعي القرآن أو المكذبين منهم وينطوي على الإنذار والزجر حيث: 1- يقرر لهم أن الله قد أرسل إليهم رسولا شاهدا عليهم كما سبق وأرسل إلى فرعون رسولا. 2- ويذكرهم بمصير فرعون الذي عصى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخذه الله أخذا شديدا. 3- وينذرهم بيوم القيامة بأسلوب السؤال الإنكاري عن الوسيلة التي يتقون بها- إذا كفروا بالله وجحدوا رسالة رسوله- هول ذلك اليوم الذي يجعل الأطفال شيبا وتكون السماء فيه متصدعة. 4- ويؤكد لهم أن هذا الوعد الرباني آت لا ريب فيه، لأن وعد الله صادق. 5- ويقرر بأسلوب عام أن ما يسمعونه من إنذار ودعوة، هو تذكير وتنبيه وبلاغ. وأن الناس بعد ذلك موكولون إلى اختيارهم ومشيئتهم، فمن شاء اتعظ واتخذ إلى ربه سبيلا بالإيمان به وتصديق رسالة رسوله.

تعليق على قصة موسى وفرعون

والآيات غير منفصلة عن السياق السابق موضوعا ولا نظما. وقد جاءت بأسلوب انتقال والتفات، وهو ما جرى عليه النظم القرآني. والآية الأولى منها تحتوي أول تنزيل قرآني صريح في مهمة رسالة النبي صلّى الله عليه وسلم ونعته بنعت الرسول ثم توالى ذلك وتنوع حيث نعت بالنبي وبالنذير وبالبشير، وهي نعوت توضيحية لمهمة الرسالة. تعليق على قصة موسى وفرعون والإشارة إلى فرعون وموقفه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه أولى إشارة قرآنية إلى أخبار ومواقف المكذبين الأولين عامة وفرعون خاصة. واقتضاب الإشارة من جهة وأسلوب الآيتين الأوليين من جهة أخرى يدلان أولا على تلك الأولية، وثانيا على أن قصة موسى وفرعون ليست غريبة عن سامعي القرآن. ولقد ذكرت قصة موسى وفرعون بتفصيل كثير في سفر الخروج. وهو من أسفار العهد القديم. وكانت هذه الأسفار متداولة بين أيدي اليهود والنصارى في بيئة النبي. صلّى الله عليه وسلم. ولا بد من أن العرب غير الكتابيين قد سمعوا القصة منهم. ويبدو هدف الإنذار والتذكير للكفار في مضمون الآيات وأسلوبها واضحا وهو الهدف الرئيسي من الإشارة والقصة في القرآن. وقد سبقت بآيات تنديدية وإنذارية وألحق بها مثل ذلك جريا على أسلوب النظم القرآني الذي نوهنا به سابقا وفيه توكيد لذلك الهدف أيضا. ولقد تكرر ورود قصة موسى وفرعون وأخبار بني إسرائيل وأنبيائهم أكثر من غيرهم من الأنبياء والأمم الأولين، كما أن هذه القصة والأخبار جاءت مسهبة أكثر من غيرها أيضا. ولقد كانت كتلة كبيرة من بني إسرائيل مستوطنة في بيئة النبي عليه السلام منذ بضعة قرون قبل البعثة، وشغلوا حيزا كبيرا في هذه البيئة اجتماعيا ودينيا وثقافيا

بيان مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم

واقتصاديا «1» وكان ذلك مما جعل أهل هذه البيئة يعرفون الشيء الكثير من قصة موسى وفرعون ومن أخبار بني إسرائيل وأنبيائهم، فاقتضت حكمة التنزيل أن يكثر الاستشهاد بذلك في معرض العظة والإنذار والتذكير والتأييد. بيان مهمة الرسول صلّى الله عليه وسلم وفي الآية الأخيرة شرح موجز وضمني لمهمة الرسول ومداها. فالرسول مذكر وداع إلى الله. والناس بعد ذلك موكولون إلى قابلية الاختيار وقوة التمييز اللتين أو دعهما الله فيهم فمن شاء اختار طريق الهدى واتخذ إلى ربه سبيلا فكان سعيدا ناجيا. وهكذا تكون الآية في نفس الوقت قد تضمنت تقرير قابلية الإنسان وقدرته على التمييز والاختيار. وهذا وذاك من المبادئ القرآنية المحكمة التي تكرر تقريرها بأساليب متنوعة على ما سنشير إليه في مناسباته. وهو المتسق مع حكمة الله في إرسال الرسل وتبشير المؤمنين وإنذار الكافرين كما هو واضح. ولقد رأينا المستشرق الطلياني كايتاني في كتابه «تاريخ الإسلام» يزعم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يقدم نفسه كرسول من الله في أوائل دعوته، تهيبا وتحفظا، وأنه اكتفى بقوله إنه نذير لهم مع صراحة ذكر نعته بالرسول في هذه الآيات التي وردت في سورة من أبكر السور نزولا. هذا بالإضافة إلى أن القرآن استعمل كلمات نذير وبشير ونبي ورسول في مقامات متجانسة وفي آيات مبكرة ومتأخرة ومكية ومدنية ووصف النبي في آية مبكرة مكية بوصف الرسول النبي الأمي كما جاء في آية سورة الأعراف [157] كما وصف بهما في آيات عديدة أخرى ضمنا وصراحة ومقارنة على ما سوف يأتي التنبيه إليه بعد مما يدل على أن الاستعمال كان متسقا مع ما تقتضيه حكمة الخطاب والأسلوب. ولقد جمعت هذه الصفات جميعها للنبي صلّى الله عليه وسلم

_ (1) انظر الفصل الثالث من الباب الأول من كتابنا «عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيئته قبل البعثة» ص 95 وما بعدها.

تعليق على السماء وانفطارها يوم القيامة

في آية واحدة هي آية سورة المائدة هذه: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) وهذا من غرائب مفارقات المستشرقين ومثل على إرسالهم الكلام جزافا. تعليق على السماء وانفطارها يوم القيامة والسماء تذكر هنا لأول مرة، ولقد ذكرت في القرآن مرارا كثيرة جدا. مفردة حينا وجمعا مطلقا بصيغة (السموات) حينا وبصيغة (سبع سموات) و (السموات السبع) حينا، وأحيط ذكرها بحفاوة عظيمة وأقسم بها مرات عديدة. ومعنى السماء اللغوي هو العالي، وقد وصفت بالعلو في بعض الآيات كما جاء في آية سورة طه هذه: تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) ووصفت بالفوقية التي هي في نفس المعنى كما جاء في آية سورة الشورى هذه: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ. وليس في القرآن شيء صريح عن ماهية القرآن، ولم نطلع على حديث صحيح صريح في ذلك أيضا. وقد يقال إن ذكر انفطار السماء قد يفيد قرآنيا أنها جسم صلب قابل للتشقق، غير أن الأسلوب الذي جاء به ذلك هو أسلوب إنذار وترهيب ووصف لهول يوم القيامة مثل ما جاء قبل قليل عن مصير الجبال. ومثل ما جاء في الجملة نفسها من صيرورة الولدان شيبا في ذلك اليوم استهدافا لإثارة الرهبة في نفوس المكذبين وحملهم على الارعواء واتقاء غضب الله تعالى. وهو ما تستهدفه الآيات المماثلة بصورة عامة على ما نبهنا إليه قبل، وما دامت حكمة الله ورسوله لم تشأ ذكر ماهية السماء بصراحة وقطعية فالأولى من ناحية التفسير القرآني الوقوف من ذلك عند الحد الذي وقف عنده القرآن والذي فيه تحقيق للهدف الذي استهدفه منه.

تعليق على مدى كلمة الكفر في القرآن

تعليق على مدى كلمة الكفر في القرآن وبمناسبة ورود أحد اشتقاقات كلمة الكفر في القرآن لأول مرة في الآيات وهو (كفرتم) نقول: إن هذه الكلمة اشتقاقاتها قد وردت كثيرا في القرآن. وجاءت في معظم آياته التي وردت فيها بمعنى جحود رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم أو الأنبياء من قبله وإنكار الله وآياته ونعمه. ولا تدل على عقيدة دينية خاصة. وهي في أصلها وصف أسلوبي يصح أن يوجه إلى كل إنسان جاحد بشيء ما. غير أنها صارت في القرآن ومنذ عهد النبي وما بعده وصف تشنيع أيضا. وقد استعملت من أجل معناها المذكور في معرض الإشارة إلى إنكار المشركين والوثنيين والكتابيين وجحودهم جميعا على أنها استعملت في بعض الآيات في وصف الذين أنكروا وحدة الله مطلقا أو اعتقدوا بألوهية السيد المسيح لما جاء في آيات المائدة هذه: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) ، ولَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ [73] . [سورة المزمل (73) : آية 20] إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20) . (1) يقدّر: يحسب. (2) لن تحصوه: هنا بمعنى لن تصلوا إلى الغاية من عبادته أو لن تطيقوه.

تعليق على الآية: إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه إلخ

(3) فتاب عليكم: هنا بمعنى خفف عنكم وتسامح معكم. (4) الضرب في الأرض: كناية عن السعي في سبيل الرزق. تعليق على الآية: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ إلخ وما روي في سياقها من روايات وما انطوى فيها من صور وتلقين معنى الآية واضح، والجمهور على أنها مدنية «1» . والمصحف الذي اعتمدناه ذكرها كذلك. وطابع المدنية عليها واضح مثل ذكر القتال في سبيل الله الذي إنما كان بعد الهجرة ومثل تعبير إقراض الله الذي لم يرد إلّا في الآيات المدنية حثا على الإنفاق في سبيل الله. ويلحظ أن هناك مناسبة بين موضوع الآية وموضوع الآيات الأولى من السورة، فقيام الليل موضوع مشترك بينهما. وفي الآيات الأولى معنى الإلزام به وفي هذه الآية تخفيف. وفي هذا صورة من صور التأليف القرآني وخاصة في وضع الآيات المدنية في السور المكية. ونعتقد أن ذلك كان يتم بأمر النبي صلّى الله عليه وسلم وفي حياته. ومن البراهين القرآنية على ذلك الآية الأخيرة من سورة النساء. فقد نزلت بعد أن تم تأليف السورة وفيها تتمة لتشريع الإرث الذي احتوته آيات السورة الأولى فأمر النبي بإلحاقها بالسورة ولو في آخرها للتناسب الموضوعي. ولقد روى الطبري عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كنت أجعل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حصيرا يصلي عليه من الليل فتسامع به الناس فاجتمعوا فخرج كالمغضب وكان بهم رحيما، فخشي أن يكتب عليهم قيام الليل فقال يا أيها الناس أكلفوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل وخير الأعمال ما دمتم عليه. ورأى الله ما يبتغون من رضوانه فرحمهم وأنزل الآية» . ومهما يكن من أمر ففي الآية تنطوي صورة من صور حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه

_ (1) انظر كتب تفسير الطبري والنسفي والطبرسي والخازن وابن كثير والبغوي.

تعليق على الزكاة

الأولين التعبدية، فالنبي صلّى الله عليه وسلّم ظل ملازما لما أمره الله به من قيام الليل والتهجد فيه وتلاوة القرآن. وأصحابه الأولون حذوا حذوه في ذلك كما هو صريح في الآية وكما ذكرته آيات سورة الذاريات التي أوردناها قبل قليل. واستمر ذلك ردحا في العهد المدني على ما تدل عليه الآية. فلما نما عدد المسلمين وكثرت مشاغلهم وواجباتهم اقتضت الحكمة التخفيف تمشيا مع الظروف والمصلحة وطبائع الأمور. فنزلت الآية وألحقت بالسورة التي أمرت آياتها الأولى النبي صلّى الله عليه وسلّم بقيام قسم كبير من الليل وحفزت أصحابه الأولين على الاقتداء به. وواضح أنه ليس في الآية نسخ وإنما تخفيف وتعديل في أمر ليس أساسيا في العقيدة والتكليف. فالصلاة والزكاة فرضان أساسيان في التكليف فأمرت بالتزامهما. والتهجد الليلي الطويل هو أمر إضافي مستحب، فلم تر حكمة الله بأسا في تخفيفه وتعديله مراعاة لطاقة المسلمين وظروفهم. وفي هذا مشهد من مشاهد التطور في التكليف والتشريع والتنزيل. وفيه تلقين جليل يصح أن يقاس عليه. وفيه إيذان بأن الله لا يكلف في عبادته إلّا المستطاع الذي لا يكون فيه مشقة وضنى، ولا يسبب إهمالا وانصرافا وعجزا عن الواجبات المشروعة الأخرى شخصية كانت أم عمومية. فالله يعلم أن الناس مهما حرصوا واشتدوا في العبادة فلن يوفوا الله حقه ولن يبلغوا الغاية. وإن منهم المريض ومنهم الساعي في سبيل الرزق والمرابط والمقاتل في سبيل الله. وكل هذه واجبات وأعذار مشروعة للتخفيف، ومثل هذه التلقينات قد تكرر في القرآن بأساليب متنوعة على ما سوف نشير إليه في مناسباته. وننبه على أن هذا التلقين وأمثاله يجب أن يبقى في نطاق ما لم يرد فيه نصّ قرآني أو نبوي ثابت قاطع وصريح، وفي نطاق الرخص الصريحة ومدى التسهيلات القرآنية والنبوية الثابتة. تعليق على الزكاة وبمناسبة ورود كلمة «الزكاة» لأول مرة هنا ولو في آية مدنية نقول إن أصل

الكلمة زكا بمعنى نما وطلب. وقد وردت الكلمة في القرآن بمعنى التطهير أو مرادفة له مثل ما جاء في آية سورة البقرة هذه: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) ، وفي آية سورة التوبة هذه: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [103] ، وإطلاقها على الصدقات مجازي يراد به أنها مطهرة أو منمية للمال. ونرجح أنها كانت تستعمل في هذا المعنى قبل البعثة بدليل ورودها به في آيات مبكرة جدا مثل آيات سورة الأعلى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) ، وآيات سورة الليل هذه: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) على اعتبار أن القرآن نزل بلسان عربي مبين، وكل ما فيه بهذا اللسان الذي كان هو لسان العرب وأهل بيئة النبي قبل نزوله «1» . غير أنها صارت علما على الفريضة التي فرضت على أموال الأغنياء للفقراء والمحتاجين وسبل الخير ومصلحة المسلمين العامة. وقد ذكرت بلفظها في سورة مبكرة نوعا ما مثل آية سورة الأعراف هذه: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) ، وآية سورة مريم هذه: وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) . وفي سورتي النمل ولقمان المبكرتين نوعا ما في النزول أيضا وردت بلفظها في سياق وصف المسلمين الأولين كما ترى في هذه الآيات: 1- الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) [النمل/ 3] . 2- الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) [لقمان/ 4- 5] . حيث ينطوي في هذه الآيات دليل على أن الزكاة كانت ممارسة من قبل المسلمين الأولين قبل نزولها بمدة ما.

_ (1) انظر فصل الحياة العقلية في كتابنا «عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيئته قبل البعثة» .

وهذه الآيات وإن جاءت بأسلوب التنويه والحثّ فإن ذلك هو صفة جميع المأمورات والمنهيات القرآنية في السور المكية لأنه هو المتسق مع طبيعة العهد المكي على ما سوف ننبه عليه في مناسباته ولا يمنع القول إن النبي صلّى الله عليه وسلّم استلهاما من آيات سورتي الأعلى والليل اللتين يرجح أنهما نزلتا في السنة الأولى من البعثة قد يكون اعتبرها ركنا من أركان الإسلام منذ عهد مبكر وأمر المسلمين الأولين الميسورين بأدائها لأن الحاجة كانت ماسة إلى ذلك سواء أكانت من أجل أغراض الدعوة أم من أجل مساعدة الذين آمنوا من الفقراء والمساكين والأرقاء وكانوا يتعرضون للأذى والحرمان. ويلحظ أن أسلوب الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة جاء في آية سورة البقرة هذه: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) ، التي نرجح أنها من أبكر الآيات المدنية في بابها حيث يسوغ القول إن هذا الركن قد ثبت بأسلوب الأمر والتشريع حالما سنح الظرف المناسب وهو الهجرة التي قوي بها الإسلام وصار له بها سلطان ودولة يتمثلان في النبي صلّى الله عليه وسلّم والمجتمع الإسلامي الجديد في المدينة. وليس في القرآن المكي ولا المدني مقدار محدد للزكاة، وقد حدد ذلك في الأحاديث النبوية. وهذه الأحاديث على ما يلمح من أسماء رواتها هي أحاديث مدنية «1» غير أن آيات في سور المعارج والذاريات والأنعام يمكن أن تفيد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد حدد لها مقادير معينة في العهد المكي كما ترى فيما يلي: 1- كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ [الأنعام/ 141] . 2- وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) [المعارج/ 24- 25] . ومن المحتمل أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم في العهد المدني أدخل تعديلات على

_ (1) انظر نصوص الأحاديث وأسماء رواتها في كتاب «التاج الجامع» ، ج 2 ص 8- 21.

المقادير التي حددها في العهد المكي. ومع أن مصارف الزكاة قد ذكرت في آية من آيات سورة التوبة هذه: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) . التي نزلت في وقت متأخر من العهد المدني فإن أسلوبها والسياق الذي جاءت فيه يلهمان أن هذه المصارف كانت مما جرى عليه قبل نزولها، وبالتالي أنها تشريع نبوي ثبت في هذه الآية. وقد ذكرت بعض هذه المصارف بألفاظها في إحدى آيات سورة البقرة المبكرة في النزول في العهد المدني وهي: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ [177] . والزكاة في الآية التي نحن في صددها قرنت إلى الصلاة. وهذا تكرر في معظم الآيات التي ذكرت فيها الصلاة. وفي هذا القرآن من جهة وفي جعلها من صفات المؤمن الرئيسية كما جاء في آية النمل التي أوردناها قبل، وكما جاء في آيات سورة المؤمنون هذه: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4) وغيرهما. وبعبارة أخرى في جعلها عنوانا من عناوين الإيمان وركنا من أركان الإسلام من جهة ثانية توطيد لمبدأ المعونة المالية للمحتاجين إليها وللمصالح العامة بصورة إلزام وفرض، وعدم ترك ذلك للتطوع والاختيار. ولقد روي أن ابن عباس سئل عن حكمة قرن الصلاة إلى الزكاة في القرآن فقال لأن الصلاة والزكاة توأمان في الإسلام لا تقبل إحداهما بدون الأخرى. تلك حق الله وهذه حق الناس. ولعل فريضة الزكاة بهذه الصفة والمعنى من أعظم التشريعات الإسلامية سعة مدى وأثرا في صلاح المجتمع الإسلامي وأمنه وتضامنه، وتخفيف أزمات بنيه ومحتاجيه، وتقليل أسباب الأحقاد والضغائن والحسد بين المحتاجين، وغير المحتاجين، وتيسير تغذية المشاريع العامة التي لا تقوم إلّا بالمال. وهي من أعظم

مميزات الشريعة الإسلامية على غيرها، على هذا الاعتبار والمعنى ومن أعظم مرشحاتها للخلود. ولقد ذكرت الزكاة حضا عليها وإيجابا لها وتنويها بفاعليها وتنديدا بمانعيها ووعدا بمضاعفة ثوابها وبإخلاف الله على فاعليها في آيات كثيرة جدا مكية ومدنية تغني كثرتها عن التمثيل حيث ينطوي في ذلك مقدار العناية التي أعارتها حكمة التنزيل للزكاة ومدى ما كان وقدر لها من أثر وخطورة في حياة المجتمع الإسلامي. ولقد ورد مثل ذلك في أحاديث نبوية عديدة أيضا. من ذلك ما رواه الشيخان والنسائي عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهمّ أعط ممسكا تلفا» «1» . وما رواه كذلك عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ما تصدّق أحد بصدقة من طيّب ولا يقبل الله إلّا الطيّب إلّا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة فتربو في كفّ الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربّي أحدكم فلوّه أو فصيله» «2» . وروى الترمذي زيادة على ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «وتصديق ذلك في كتاب الله عزّ وجلّ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ» «3» . وما رواه النسائي عن أبي سعيد قال: «خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما فقال: والذي نفسي بيده ثلاث مرات ثم أكبّ فأكبّ كلّ رجل منّا يبكي لا ندري على ماذا حلف ثمّ رفع رأسه في وجهه البشرى فكانت أحبّ إلينا من حمر النّعم ثم قال ما من عبد يصلّي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويخرج الزكاة ويجتنب الكبائر إلّا فتحت له أبواب الجنة فقيل له (ادخل بسلام) » «4» . وما رواه الشيخان والنسائي والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من آتاه الله مالا فلم يؤدّ زكاته مثّل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوّقه يوم القيامة ثمّ يأخذ

_ (1) التاج الجامع، ج 2 ص 4- 5. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه، ص 5- 7.

بلهزميه ثم يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ [آل عمران/ 180] «1» . مما ينطوي فيه كذلك تساوق مع العناية والخطورة اللتين أعارتهما حكمة التنزيل للزكاة. وفي القرآن آيات عديدة تنبه المسلمين بل والناس جميعا إلى أمر هام وهو أن ما في أيديهم من مال هو مال الله الذي رزقهم إياه وجعلهم مستخلفين فيه ليكون في ذلك تلقين جليل هو أنهم وكلاء على هذا المال وأن صاحبه الأصلي هو الله وهو الذي يأمرهم بالإنفاق منه فليس لهم من جهة منة على أحد فيما ينفقون وليس لهم من جهة أخرى حق في الامتناع عن الإنفاق. من ذلك آية سورة الحديد هذه: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) ، وآية سورة النور هذه: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ [33] ، وآية سورة البقرة هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ [254] . والزكاة ضريبة سنوية على رأس المال وليست على الربح بالنسبة للنقود والعروض والمواشي والأنعام وعلى جميع الغلات الزراعية غير الصافية. وبكلمة أخرى إن المعوزين المفتقرين إلى المعونة حقا يستحقون في كل سنة جزءا معينا من كل ذلك واجب الأداء في كل سنة جزءا معينا من رؤوس الأموال التي في أيدي الناس يبلغ مقداره اثنين ونصفا من المائة بالنسبة للنقود والعروض وعشرة من المائة بالنسبة للغلات الزراعية ونحوا من ذلك بالنسبة للمواشي. وهو مقدار لم تصل الأمم الحديثة التي تقرر حصة من مواردها للإنفاق على المعوزين إلى مثله. وننبه على أنه ليس هناك ما يمنع أن ينفق هذا المورد الكبير أو قسم منه على

_ (1) المصدر السابق ج 2 ص 5- 7. [.....]

إنشاء المياتم ودور العجزة والصنائع ودور الضيافة والمشافي والعيادات والملاجئ والمعاهد المتنوعة لمصلحة الفئات المعوزة فيكون الانتفاع به أشمل وأدوم وأجدى. وإذا لوحظ أن التشريع الإسلامي لم يقتصر على هذه الضربية لمصلحة المعوزين بل أوجب لهم جزءا آخر من كل مورد مالي رسمي ذكر في القرآن وهو الفيء والغنائم على ما سوف نشرحه في مناسباته ومما يمكن أن يقاس عليه الموارد الرسمية المالية الأخرى. ثم إذا لوحظ أن القرآن احتوى إلى جانب ذلك آيات كثيرة تغني كثرتها عن التمثيل فيها حثّ على التصدق على الفقراء والمساكين والمحتاجين والإنفاق في سبيل الله بأسلوب يلهم أن المقصود منها صدقات تطوعية زيادة على الفريضة على ما سوف ننبه عليه في مناسباته بدت قوة وروعة حكمة الله بهذه الفئات وقصد ضمان صلاح المجتمع الإسلامي وأمنه وتضامنه وتخفيف أزمة بنيه والمحتاجين وتقليل أسباب الأحقاد والضغائن والحسد على ما ألمحنا إليه آنفا. وبدت قوة جريمة الذين لا يراعون قصد الله عز وجل فلا يؤدون الحق المفروض لهذه الفئات وشدة مسؤوليتهم عن ما يتعرض له المجتمع من هزات وأزمات بسبب ذلك. وآية التوبة التي أوردناها صريحة الدلالة على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الذي كان يجبي الزكاة بواسطة عمال يعينهم وينفقها على مصارفها في حدود ما يراه من مصلحة وحاجة وظرف. وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يمثل بذلك سلطان الدولة في الإسلام، وهذا يسوغ القول أن سلطان الدولة في الإسلام هو صاحب الحق في جباية الزكاة وإنفاقها في حدود ما رسمه القرآن والسنة النبوية الثابتة «1» . ونكتفي هنا بما تقدم، وهناك أحاديث نبوية وصحابية واجتهادات فقهية حول مقادير الزكاة والفئات والجهات التي تستحقها سنوردها ونتوسع في شرحها في سياق آية سورة التوبة التي هي أكثر ملاءمة.

_ (1) اقرأ بحث النظام المالي في كتابنا الدستور القرآني في شؤون الحياة. الجزء الأول من التفسير الحديث 28

تعليق على تعبير وأقرضوا الله قرضا حسنا

تعليق على تعبير وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وبمناسبة ورود هذا التعبير لأول مرة نقول إنه كما هو المتبادر تعبير استحثاثي على الإنفاق في سبيل الله والتصدق على المحتاجين وقد تكرر في آيات مدنية عديدة. وفيه معنى لطيف يزيد في قوة الحث وهو أن الذي ينفق أمواله في سبيل الله ويتصدق بها على المحتاجين كأنما يقرض الله وأن الذي يقرض الله يستحق الوفاء أضعافا مضاعفة. وهذا ما ورد في آيات عديدة مثل آية سورة البقرة هذه: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) وورود هذا التعبير بعد الأمر بإيتاء الزكاة في الآية التي نحن في صددها ذو مغزى عظيم حيث يفيد أن المطلوب من الميسورين ليس الزكاة فقط بل أكثر منها وأن الزكاة هي الحد الأدنى الواجب الذي يكون تركه معصية كبيرة. ويتبادر لنا أن هذا المعنى هو المقصود في كل موضع جاء فيه التعبير والله أعلم. تعليق على تعليم الاستغفار ولقد انتهت الآية بطلب استغفار الله، والغفران في الأصل بمعنى الستر والوقاية، ثم صار بمعنى التسامح والإغضاء عن الذنوب. والمرجح أنه كان بهذا المعنى قبل البعثة أيضا. وفي الأمر تلقين رباني بأن الله يعلم أن أكثر الناس لا يمكنهم أن يكونوا في نجوة من الهفوات والأخطاء، وأنه هو الغفور الرحيم الذي من شيمته التسامح والإغضاء وشمول عباده بالرحمة الواسعة إذا آمنوا به واعترفوا بذنوبهم وندموا عليها ولجأوا إليه يطلبون غفرانه ورحمته. وفي هذا ما فيه من حث المذنب على الندم والتوبة وتأميله بالغفران والرحمة وبعبارة أخرى فيه وسيلة من وسائل التربية الروحية وقصد إصلاح المسلم وصلاحه وهو مما تتوخاه الآيات القرآنية بصورة عامة. ولقد تعددت الآيات التي تأمر المؤمنين بالاستغفار في السور المكية والمدنية

مما فيه تدعيم لهذا التلقين. وفي إحدى آيات سورة النساء حض للمسيئين بالاستغفار وتأميل بغفران الله لمن يستغفره وهي: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) . وفي إحدى آيات سورة آل عمران تنويه بالمستغفرين وهي: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) . ولقد أثرت أحاديث نبوية عديدة في حض المؤمنين على الاستغفار وتعليم بعض صيغه وبيان فوائده. منها حديث رواه البخاري والترمذي وأبو داود عن شداد بن أوس قال: «قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سيد الاستغفار أن تقول اللهمّ أنت ربّي لا إله إلّا أنت. خلقتني وأنا عبدك. وأنا على عهدك ما استطعت. أعوذ بك من شرّ ما صنعت. أبوء لك بنعمتك عليّ. وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلّا أنت. قال ومن قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة» «1» . وحديث رواه أبو داود والترمذي عن زيد مولى النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول من قال أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلّا هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه غفر له وإن كان فرّ من الزحف» «2» . وحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي بكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرّة» «3» وحديث رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من لزم الاستغفار جعل الله له من كلّ ضيق مخرجا ومن كلّ همّ فرجا ورزقه من حيث لا يحتسب» «4» . وحديث رواه الترمذي عن أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:

_ (1) التاج، ج 5 ص 134- 135. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه ص 135- 137. (4) المصدر نفسه.

تعليق على تعبير سبيل الله

«أنزل الله عليّ أمانين لأمتي، وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال/ 33] فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة» «1» . وحديث أورده ابن كثير في سياق آية النساء المار ذكرها أخرجه ابن مردويه عن علي قال: «سمعت أبا بكر هو الصديق يقول سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول ما من عبد أذنب فقام فتوضّأ فأحسن الوضوء، ثم قام فصلّى واستغفر من ذنبه إلا كان حقا على الله أن يغفر له لأنّ الله يقول: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ [النساء/ 110] الآية» ، حيث ينطوي في كلّ هذا تلقين نبوي متسق مع التلقين القرآني. ويحسن بنا أن ننبه في هذا المقام على نقطة هامة، وهي أن الاستغفار يعني التوبة أو هو صيغة من صيغها. وللتوبة شروط وهي الندم على الذنب والعزم على الإصلاح وعدم الرجوع إليه في فسحة من العمر والعافية على ما تفيده الآيات الكثيرة التي سوف نوردها ونعلق عليها في سياق سورة البروج التي ذكرت فيها التوبة لأول مرة والتي يأتي تفسيرها في هذا الجزء. وفائدة الاستغفار إنما تتحقق بذلك ولا تكون بحركة اللسان والشفتين وحسب. ومن الأولى أن تحمل الأحاديث النبوية الخاصة على الاستغفار والمبشرة بفوائده على ذلك. تعليق على تعبير سبيل الله وتعبير «سبيل الله» يأتي لأول مرة في الآية التي نحن في صددها وإن كانت مدنية. ولقد التبس مفهومه بحيث صار كثير من الناس يظنون أنه الجهاد ووسائله لأنه جاء كثيرا في آيات الجهاد، غير أن إمعان النظر في هذه الآيات يكشف أنه غير الجهاد وأنه أعم منه وأن الجهاد بالمال والنفس إنما شرع لأجله، وأنه في الحقيقة مرادف لمعنى طريق الله ودعوته ودينه وتعاليمه الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية والإنسانية والسياسية والتهذيبية التي احتواها القرآن

_ (1) التاج، ج 4 ص 109.

وهدى إليها الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وبعبارة ثانية إنه الدعوة الإسلامية نفسها. وهذا ما يبدو واضحا بقوة في آية سورة النحل هذه: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) [125] . وإذا كان تعبير سبيل الله اقترن في القرآن كثيرا بالجهاد فلا يعني هذا أن الجهاد قد شرع لنشر الدعوة الإسلامية. فالقرآن قد قرر خطة حكيمة مثلى لنشر الدعوة منطوية في آية النحل وفي آيات كثيرة أخرى مكية ومدنية. وقد ظلت هذه الخطة خطة النبي صلّى الله عليه وسلّم في عهديه المكي والمدني ثم خطة خلفائه من بعده. أما الجهاد فقد شرع لمقابلة العدوان ودفع الأذى وحماية الدعوة من الصد والتعطيل والطعن مما احتوى القرآن كثيرا من الآيات في صدده سوف نشرحها في مناسباتها. ويروي الخمسة حديثا عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله فمن قالها عصم منّي ماله ونفسه إلّا بحقّه وحسابه على الله» «1» . ولما كانت جميع الغزوات التي قادها النبي صلّى الله عليه وسلّم وجميع السرايا التي سيرها كانت ضد أعداء بادئين بالعدوان ومقابلة لعدوان وتنكيلا بمعتدين ومتآمرين على العدوان وناقضين للعهد وصادين عن دين الله ولم يرو أية رواية أن النبي قاتل أناسا لأنهم كفار ودون أن يبدو منهم عمل عدواني ما. فنحن نحمل هذا الحديث على قصد أنه أمر بمقاتلة الأعداء حتى يقولوا لا إله إلّا الله كما جاء في آية سورة التوبة هذه: فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [5] ، وعبارة فَإِنْ تابُوا صريحة الدلالة على أن المقصودين هم أعداء معتدون. وبعد هذه الآية آيات أكثر صراحة في هذا الباب وهي: فَإِنْ تابُوا

_ (1) «التاج» ، ج 4 ص 326. وهناك حديث في بابه في صيغة أخرى رواه أصحاب السنن عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلّا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأن يستقبلوا قبلتنا وأن يأكلوا ذبيحتنا وأن يصلوا صلاتنا فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلّا بحقها لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين» ج 4 ص 326.

وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) ، وهذه الآيات من أواخر ما نزل من القرآن لأن سورة التوبة هي آخر ما نزل وقد نزلت بعد فتح مكة. وبالإضافة إلى هذا فإن هذا الحديث روي في مناسبتين أخريين، أولاهما رواها الترمذي في سياق آيتي سورة الغاشية: إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) ، فقال: «إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال نفس الحديث ثم تلا هاتين الآيتين» «1» حيث يفيد هذا أنه إنما قال الحديث ليكون مفسرا لخطته بالنسبة لمن يعصمون بقولهم لا إله إلّا الله دماءهم وأموالهم إلّا بحقها وليقول إنه يترك حساب ما لا يعرف من أعمال الناس الذين يقولون لا إله إلّا الله إلى الله وليس هو محاسبا على خفاياهم وأسرارهم. فإذا كان الحديث في أصله قد صدر من النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذا الموقف وحسب فيكون لذلك دلالته الخطيرة في صدد ما نحن بسبيل تقريره. أما المناسبة الثانية فهي عزيمة أبي بكر رضي الله عنه على حرب الممتنعين عن الزكاة بعد وفاة النبي حيث جاءه عمر رضي الله عنه فقال له: كيف تقاتلهم وهم يقولون لا إله إلّا الله وقد قال رسول الله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله فإن قالوها عصموا دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها وحسابهم على الله؟ فقال له أبو بكر: والله لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإنّ الزكاة حقّ المال، والله لو منعوني عناقا لقاتلتهم على منعها فلم يلبث أن شرح الله صدر عمر وجعله يرى موقف أبي بكر هو الحقّ «2» . وهذه الرواية يرويها أصحاب الكتب الخمسة. وخطورة دلالتها لا تقل عن خطورة دلالة رواية المناسبة الأولى إن لم تفقها. ويتبادر لنا أن رواية الترمذي هي أصل ظرف صدور الحديث وأن رواية

_ (1) «التاج» ، ج 4 ص 258. (2) المصدر نفسه، ج 2 ص 7- 8.

أصحاب الكتب الخمسة هي المتأخرة وهي في مثابة تطبيق للحديث في مقام مماثل للمقام الذي صدر فيه الأصل. وكان رد أبي بكر رضي الله عنه واضعا للأمر في نصابه من حيث إنه أصرّ على قتال الممتنعين عن الزكاة لأنهم امتنعوا عن أداء حق المال. ومع ذلك حتى لو أردنا أن نأخذ الحديث مجردا من زيادة الترمذي وملابسة حرب الممتنعين عن الزكاة فإن حمله على قصد مقاتلة الأعداء هو الأولى بل الأوجب كما قلنا ما دام أنه لم يرو قط أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قاتل حياديين ومسالمين وموادين أو أمر بقتال غير المقاتلين من ذوي الأعداء من شيوخ ونساء وأطفال. وفي سورة الممتحنة آية فيها فيما نعتقد القول المحكم الفيصل في هذا الباب وهي: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) ، ولقد قال المفسر الطبري في صدد هذه الآية إن أولى الأقوال بالصواب قول من قال إنها عنت جميع من لم يقاتل المسلمين في الدين من جميع أصناف الملل والأديان وأنه لا معنى لقول من قال إن ذلك منسوخ لأن برّ المؤمن لأهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب غير محرم ولا منهي عنه أصلا. إذا لم يكن في ذلك دلالة لهم على عورة لأهل الإسلام أو تقوية لهم بكراع أو سلاح. والله سبحانه وتعالى أعلم.

سورة المدثر

سورة المدّثّر في هذه السورة أول أمر صريح للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالقيام بمهمة الدعوة والإنذار، ورسم الخطة التي يجب عليه اتباعها في ذلك. وفيها إنذار للكفار بيوم القيامة وتنديد بمن وقف من النبي صلّى الله عليه وسلّم والقرآن موقف الهزء والإنكار والإعراض والتحدي. وتقرير لمسؤولية الإنسان عن عمله. وذكر للملائكة وأهل الكتاب لأول مرة أيضا. ومن المحتمل أن تكون آياتها الأولى نزلت لحدتها، وأن يكون ترتيب السورة بسبب نزول هذه الآيات مبكرة لأن الآيات الأخرى احتوت مشاهد ومواقف لا يمكن أن تقع إلّا بعد مضي النبي صلّى الله عليه وسلّم في دعوته شوطا ما. على أن أسلوب آيات السورة وانسجامها يسوغ القول أيضا أنها نزلت دفعة واحدة أو متلاحقة. وأن الآيات الأولى بسبيل التثبيت. وحينئذ يكون ترتيبها كرابع سورة غير صحيح. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) . (1) المدثر: المتدثر أي المتلفف بدثاره أو غطائه. (2) الرجز: الفحش قولا وعملا أو المعصية والأوثان والإثم «1» . (3) ولا تمنن تستكثر: لا تعط ما تعطيه بقصد نيل الأكثر مقابلة له، وقيل لا

_ (1) انظر تفسيرها في تفسير الطبري.

تستكثر ما تفعله من الخير وتمنن به أي تفخر به أو تحمل من تعطيه الجميل «1» ، ويمكن أن تكون بمعنى أنك إذا لم تمنن بما تعطيه ييسر الله لك الأكثر منه، من باب لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم/ 7] . ظاهر أن في ألفاظ بعض الآيات تأخيرا وتقديما لحفظ الوزن والقافية وأن تقديرها: وكبر ربك وطهر ثيابك واهجر الرجز ولا تستكثر ما تفعل ولا تمنن به أو لا تفعله للاستكثار من المقابلة عليه واصبر لحكم ربك، ومعانيها واضحة لا تحتاج إلى شرح آخر. وقد ذكرت الروايات أن هذه الآيات نزلت بعد فترة قصيرة من الوحي، بعد نزوله الأول على النبي صلّى الله عليه وسلّم في غار حراء. ومما جاء في حديث مروي عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يحدث عن فترة الوحي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: بينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجثوت منه خوفا وجئت أهلي فقلت زملوني زملوني، وفي رواية دثروني دثروني، فدثروني فأنزل الله: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ إلى قوله وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ. ثم تتابع الوحي «2» وهناك روايات تذكر أنها أول ما أنزل أو أنها ثاني أو ثالث أو رابع مجموعة نزلت «3» . ولما كانت الآيات التالية لها قد احتوت حكاية أقوال بعض المكذبين ومواقفهم، ولا يمكن أن يكون هذا إلّا بعد نزول جملة من القرآن وسير النبي صلّى الله عليه وسلّم في الدعوة شوطا، فيكون ترتيب السورة المتقدم بسبب رواية تبكير نزول آياتها الأولى هذه. والرواية التي تذكر أولية نزولها على غيرها وردت في حديث رواه البخاري

_ (1) انظر الطبري أيضا. (2) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وحديث جابر رواه الشيخان والترمذي أيضا بصيغة قريبة جدا. انظر التاج ج 3 ص 228. (3) انظر تفسير الآيات في تفسير الآلوسي وتاريخ الطبري ج 2 ص 50- 52 مطبعة الاستقامة.

ومسلم عن يحيى قال: «سألت أبا سلمة أيّ القرآن أنزل أول؟ فقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قلت: أنبئت أنه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ! فقال: لا أخبرك إلّا بما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال جاورت في حراء فلما قضيت جواري هبطت فاستبطنت الوادي فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض. فأتيت خديجة فقلت دثّروني وصبّوا عليّ ماء باردا ففعلوا وأنزل عليّ: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) » «1» [سورة المدثر: 1- 3] . ومع ذلك فليس في الكلام النبوي ما يساعد على الجزم بأولية الآيات. ويظل حديث أولية آيات سورة العلق الأولى أقوى. والآيات تحتوي أول أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بإنذار الناس ودعوتهم وبما يجب عليه من الظهور بالمظهر الطاهر النظيف واللسان العفيف والتواضع. وهذا مما يمكن أن يدعم رواية كونها ثانية مجموعة نزلت بعد آيات العلق الأولى. والمصحف الذي اعتمدناه هو الذي ذكر أنها نزلت بعد المزمل، وجعلها رابع السور نزولا فلم نشأ أن نخلّ في ترتيبه. على أن روح الآيات ونظمها وروح الآيات التالية لها ونظمها أيضا يمكن أن يلهم أنها غير منفصلة عن بعضها. وحينئذ فإن الآيات تكون قد نزلت بقصد تثبيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وتكون قد نزلت هي والآيات التالية لها معا أو متلاحقة بعد نزول سور وفصول قرآنية فيها مبادئ الدعوة وأهدافها. وفي هذه الحالة يكون ترتيبها كرابعة سورة قرآنية غير صحيح. وعلى كل حال فالآيات وآيات السورة معا مما نزل مبكرا على ما يلهم أسلوبها ومضمونها والخطة التي رسمها الله للنبي صلّى الله عليه وسلّم في الدعوة والاتصال بالناس

_ (1) التاج ج 4 ص 247. وهناك حديث آخر رواه الشيخان والترمذي عن جابر قريب من هذا مع زيادة ونصه: «بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه ورجعت وقلت زملوني زملوني فأنزل الله يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ» . التاج ج 3 ص 227- 228. [.....]

ودعوتهم وإنذارهم من الأدلة القوية على ذلك. وهي خطة رائعة جليلة الشأن، فالله أكبر من كل شيء، وكل ما عداه حقير صغير، فلا ينبغي أن يعتبر غيره كبيرا مرهوبا ويجب أن يكون التعظيم له وحده. والصبر والثبات في المهمة كافلان للنجاح فيها. والداعي إلى الله ومكارم الأخلاق يجب أن يكون القدوة الصالحة لمن يدعوهم في الاستغراق في الله ومكارم الأخلاق وفعل الخير، بدون منّ واستكثار وانتظار جزاء ومقابلة، والطهارة مع البعد عن كل فحش وإثم وبذاءة ومظهر مستنكر. والمدقق في السيرة النبوية وآيات القرآن التي احتوت أصدق الصور عنها يرى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم التزم هذه الخطة. وكانت من أقوى وسائل نجاح دعوته وتفاني أصحابه السابقين إلى الإيمان به في تأييده والالتفاف حوله وتهيب غير المؤمنين له وتقديرهم إياه وعدم إنكارهم مزاياه الخلقية. وهذه الخطة وإن كانت كما يتبادر قد رسمت للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فإن ما احتوته من تلقين موجه إلى كل مسلم وبخاصة إلى كل صاحب دعوة إصلاح ومعروف وإلى كل صاحب شأن ممن يتولون في الأمة الزعامة والتوجيه والإرشاد والإصلاح. بل إنه موجه إلى كل مسلم إطلاقا في كل زمن ومكان ليكون عنوانا للخلق الذي يجب أن يكون عليه المسلمون مظهرا وسيرة. وفي القرآن آيات عديدة تؤكد ذلك، من ذلك في صدد المنّ آيات سورة البقرة هذه: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [264] . وفي صدد الفواحش والآثام في الأقوال والأفعال آية سورة الأعراف هذه: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ

يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33) . وهناك أحاديث عديدة متساوقة مع الآيات، من ذلك حديث رواه الترمذي عن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليس المؤمن بالطعان ولا اللّعان ولا الفاحش ولا البذيء» «1» ، وحديث رواه الترمذي أيضا عن أبي بكر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يدخل الجنة خبّ ولا منّان ولا بخيل» «2» . وحديث رواه الترمذي كذلك عن أبي سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «خصلتان لا تجتمعان في مؤمن البخل وسوء الخلق» «3» . ولقد أثرت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أحاديث توجب غسل النجاسات عن الثياب مثل الدم والبول والغائط من ذلك حديث رواه البزار عن عمار بن ياسر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّما يغسل الثوب من الغائط والبول والقيء والدم» «4» . وقد رتّب الفقهاء على ذلك كون طهارة الثياب ركنا من أركان الصلاة، ولقد أوجب الله على المسلم أن يصلي خمس مرات كل يوم، ويستتبع هذا واجب عناية المسلم بطهارة ثيابه في كل وقت في الليل والنهار، وفي هذا ما فيه من روعة وجلال. ومن الجدير بالذكر أن حثّ الله ورسوله على الطهارة لا يقتصر على طهارة الثياب. ففي القرآن والأحاديث نصوص كثيرة توجب على المسلم طهارة البدن بالإضافة إلى طهارة ثيابه فيتوضأ إذا قام إلى الصلاة ويغتسل إذا كان جنبا ويغسل أطرافه ويغتسل حتى لغير الوضوء والجنابة مما سوف نورده وننبه عليه في مناسبات أخرى. هذا، والتساوق في مطلعي السورتين المزمل والمدثر لافت للنظر، ففي مطلع الأولى إعداد للنبي صلّى الله عليه وسلّم لمهمته العظمى وفي مطلع الثانية خطة له حينما أمر

_ (1) التاج ج 5 ص 34- 38. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه. (4) مجمع الزوائد ج 1 ص 283.

[سورة المدثر (74) : الآيات 8 إلى 10]

بدعوة الناس وإنذارهم. بل إن التساوق بين مطلعي السورتين الأوليين أيضا ملحوظ إذا ما أنعم القارئ النظر، وكل هذا يؤيد تبكير نزول هذه المطالع. [سورة المدثر (74) : الآيات 8 الى 10] فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) . (1) الناقور: الأداة التي يدق عليها أو ينفخ فيها لإحداث صوت خاص بدعوة الناس وتنبيههم أو هو الصور أو القرن «1» . في الآيات إشارة إلى الموقف العصيب العسير الذي سوف يواجهه الكافرون حينما يبعث الناس إلى يوم القيامة والحياة الأخرى. والمتبادر أنها بسبيل الإنذار والوعيد، والفاء التي بدئت بها الآيات تعقيبة، فكأنما جاءت الآيات معقبة على أمر الله للنبي صلى الله عليه وسلم بالصبر الذي كان في معرض التثبيت والتطمين، ومؤكدة له. فعليه الصبر لأمر ربه رغما عن موقف الجاحدين لرسالته الذين سوف يكون حسابهم عسيرا يوم الجزاء الأخروي. وقد يلهم هذا صحة التوجيه الذي وجهناه من أن آيات السورة متصلة ببعضها نظما وموضوعا ونزولا. تعليق على النقر في الناقور ومرادفه النفخ في الصور وما ورد في ذلك من أحاديث: والنقر في الناقور هو إيذان للبعث والقيامة الأخروية على ما تفيده العبارة والآيات. وقد فسره المفسرون وعلماء اللغة بالصور أو القرن الذي ينفخ فيه لتجميع الناس. وكلمة الناقور لم ترد إلّا هذه المرة. غير أن كلمة الصور التي ترادفها في المعنى وردت مرات عديدة منها ما ورد بدون آثار مثل آية سورة ق

_ (1) انظر تفسيرها في تفسير الطبري.

هذه: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) ، وآية سورة طه هذه: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) . ومنها ما ورد مع ذكر آثار النفخ في البشر مثل آية سورة النمل هذه: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ... [87] ، وآية سورة الزمر هذه: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) . وهناك أحاديث عديدة متنوعة الرتب في الصور، منها ما رواه أصحاب الكتب الخمسة، من ذلك حديث رواه الترمذي وأبو داود عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن وحنى جبهته وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر، أن ينفخ فينفخ، قال المسلمون فكيف نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل، وعلى الله توكّلنا» «1» . وحديث ثان روياه أيضا جاء فيه: «سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصّور فقال قرن ينفخ فيه» «2» . وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا جاء فيه: «ذكر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الدجّال إلى أن قال ثم ينفخ في الصّور فلا يسمعه أحد إلّا أصغى لتيا ورفع لتيا وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله فيصعق ويصعق الناس ثم يرسل أو قال ثم ينزل الله مطرا كأنه الطلّ أو الظلّ فتنبت منه أجساد الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون. ثم يقال يا أيها الناس هلمّ إلى ربّكم وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ثم يقال أخرجوا بعث النار فيقال من كم فيقال من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعين قال فذاك يوم يجعل الولدان شيبا وذلك يوم يكشف عن ساق» «3» . وروى الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما بين النفختين أربعون، قالوا يا أبا هريرة أربعون يوما قال أييت. قالوا أربعون شهرا قال أييت، قالوا أربعون سنة قال أييت ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل وليس من الإنسان شيء إلّا يبلى إلّا عظما واحدا وهو

_ (1) التاج ج 4 ص 201. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه ج 5 ص 328- 329 وفسّر الشارح كلمه لتيا بمعنى ناحية من عنقه وكلمة (أييت) بمعنى لا أدري.

عجب الذنب ومنه يركّب الخلق يوم القيامة» «1» . ومنها أحاديث أوردها المفسرون في سياق السور التي ذكر فيها الصور رواها أئمة حديث آخرون وهي إجمالا من باب الأحاديث السابقة وصحتها محتملة. منها حديث رواه الطبري في سياق تفسير جملة إن هي: إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ [ص/ 15] ، عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنّ الله لمّا فرغ من خلق السموات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر قال أبو هريرة يا رسول الله وما الصور؟ قال: قرن. قال: كيف هو؟ قال: قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات نفخة الفزع الأولى والثانية نفخة الصعق والثالثة نفخة القيام لربّ العالمين. يأمر الله اسرافيل بالنفخة الأولى فيقول انفخ نفخة الفزع فيفزع أهل السموات والأرض إلّا من شاء الله ويأمره الله فيديمها ويطوّلها فلا يفتر وهي التي يقول الله: وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ [ص/ 15] «2» . وما دام النفخ في الصور والنقر في الناقور قد ذكر في القرآن مع شيء من البيان في أحاديث نبوية صحيحة فمن واجب المسلم الإيمان بذلك مثل سائر المشاهد الأخروية التي ورد خبرها في القرآن والحديث الصحيح. وهذا لا يمنع القول إن حكمة التنزيل كما اقتضت أن تكون المشاهد الأخروية الأخرى من حساب ونعيم وعذاب مما هو مألوف في الدنيا من صور وبعبارات من بابها على ما ذكرناه في تعليقنا على الحياة الأخروية والجنة والنار في سور الفاتحة والقلم والمزمل اقتضت أن تكون دعوة الناس حين بعثهم من قبورهم وحشرهم يوم القيامة حينما تقترن مشيئة الله بذلك بأدوات وأساليب مألوفة في الدنيا من حيث أن الناس اعتادوا الضرب على الطبول والنفخ بالأبواق والقرون والنقر على الأدوات المصوتة

_ (1) المصدر السابق نفسه. (2) هناك أحاديث أخرى رواها المفسرون في صدد الاستثناء الوارد في آيتي سورتي النحل والزمر سنوردها في مناسباتهما.

[سورة المدثر (74) : الآيات 11 إلى 17]

والهتاف بالأصوات العالية والصيحات الداوية حينما يراد تجميع الجموع لأمر هام. ولقد ورد في سورة ق ثلاث صور من ذلك معا، ففي آية ذكر نفخ الصور [20] وفي آية ذكر المنادي [41] وفي آية ذكرت الصيحة [42] . وقد يصح أن يضاف إلى ما قلناه أن فحوى وأسلوب الآيات والأحاديث يسوغان القول إن قصد التأثير على السامعين وبعث الخوف والرهبة في قلوبهم من يوم الحشر والحساب الأخروي وحملهم على تقوى الله لينالوا رضاءه وأمانه فيه من الحكمة المنطوية فيها، والله تعالى أعلم. [سورة المدثر (74) : الآيات 11 الى 17] ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) . (1) خلقت وحيدا: يمكن أن تكون الجملة بمعنى خلقته مجردا من كل قوة ومال وبنين. والآيات التالية تدعم هذا التأويل. (2) بنين شهودا: يمكن أن تكون الجملة بمعنى بنين حاضرين لديه لنصرته وقضاء مصالحه. (3) مهدت له: مكنت له. (4) سأرهقه صعودا: بمعنى سأتعبه وأحمله المشقات لأن المشقة تحصل عادة من الصعود للمرتفعات. والآيات واضحة المعنى، وقد احتوت صورة لأحد الزعماء الأثرياء المغترين بوفرة المال وكثرة البنين والتمكن وهو طامع بأن يجد عند الله المزيد من ذلك. ورد عليه وإنذار له فلن يكون له ما يطمع لأنه كان لآيات الله عنيدا رغم ما أغدقه عليه من النعم ولن يجد عند الله إلّا الصعاب والمشاق. وكلمة «ذرني» التي بدئت بها الآيات تلهم أن الآيات نزلت بسبيل تثبيت النبي صلّى الله عليه وسلم، فليترك لله هذا الجاحد العنيد فهو الكفيل بالنكال به.

[سورة المدثر (74) : الآيات 18 إلى 25]

وقد روي «1» أن هذه الآيات نزلت في حق الوليد بن المغيرة. ومما روي «2» أن هذا قال: إذا كان محمد صادقا فيما يصف فإن الجنة لم تخلق إلّا لي ولأمثالي فنزلت الآيات مقرعة مكذبة لأمله في زيادة نعم الله عليه وإدامتها في الآخرة. وهذه الآيات تؤيد ما نبهنا عليه من الدلالات في سياق السور السابقة من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذ يلقى منذ بدء البعثة صدّا وعنادا من زعماء قريش وأثريائهم، وأن التشاد أخذ يستمر بينه وبينهم منذ عهد مبكر ثم استمر، مما فيه دلالة على استمرار النبي صلّى الله عليه وسلّم في اتصاله بمختلف طبقات قريش وزعمائهم بسبيل مهمته، وعلى عدم قطعه الصلة بالمرة بينه وبينهم على ما رجحناه في مناسبة سابقة أيضا. وفي الآيات تلقين مستمر المدى: فالإنسان الذي يسبغ الله عليه نعمه الكثيرة فيقويه ويغنيه ويعلي جاهه وشأنه حري بأن يكون أولى الناس بالاعتراف بفضله والقيام بما يأمره به من واجبات نحوه ونحو خلقه. [سورة المدثر (74) : الآيات 18 الى 25] إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) . (1) إنه فكر وقدر: بمعنى استنتج وحسب بعد التفكير. (2) قتل: دعاء بمعنى قاتله الله. (3) بسر: تجهم. (4) سحر: أصل معنى الكلمة إزالة الشيء أو صرفه عن موضعه. ومن

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والآلوسي. (2) انظر تفسير الآيات في تفسير الكشاف للزمخشري. الجزء الأول من التفسير الحديث 29

التعريفات التي عرف بها أنه كل ما دقّ مأخذه وخفي سببه من آثار نفسية وحسية. أو كل ما ظهر على غير حقيقته. أو كل ما يحدث في النفس والحث من آثار غير اعتيادية. (5) يؤثر: معروف مأثور. وهذه الآيات تصف موقف ذلك الكافر العنيد الذي أشير إليه في الآيات السابقة، فقد فكر في نفسه حينما سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يتلو القرآن واستنتج وحسب أنه عرف الحقيقة قاتله الله ثم قاتله، فلم يلبث أن عبس في وجه النبي صلّى الله عليه وسلّم وتجهم ثم أدبر عنه مستكبرا مستخفا قائلا إن هذا هو من أعمال السحرة وأقوالهم المعروفة، وإنه ليس إلّا من كلام البشر. والآيات متصلة بالسياق السابق واستمرار له كما هو واضح. وأسلوبها تنديدي وتقريعي ووصفي معا. والوصف قوي يكاد القارئ يرى منه موقف الكافر العنيد ماثلا بارزا. وقد روى المفسرون أن هذا الموقف الذي وصفته الآيات هو كذلك موقف الوليد بن المغيرة الذي روي عنه القول السابق في سياق الآيات السابقة. فقد روى الطبري في سياق هذه الآيات أن الوليد قال لزعماء قريش: سأختبر لكم الليلة هذا الرجل. فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فوجده قائما يصلي ويقرأ القرآن فعاد فسألوه فقال: سمعت قولا حلوا أخضر مثمرا يأخذ بالقلوب، فقالوا: هو شعر؟ فقال: لا والله ما هو بالشعر وليس أحد أعلم بالشعر مني. قالوا: فهو كاهن؟ فقال: لا والله ما هو بكاهن فقد عرضت الكهانة عليّ. قالوا: فهو سحر الأولين اكتتبه؟ فقال: لا أدري إن كان شيئا فهو إذا سحر يؤثر. وقد روى ابن كثير في سياق تفسير هذه الآيات رواية أخرى فيها بعض المباينة ولكنها متفقة في جوهرها مع الرواية السابقة. ومهما يكن من أمر ففي الآيات صورة أخرى تكررت كثيرا فيما بعد، مما وجه للنبي صلّى الله عليه وسلّم مباشرة من ردود على دعوى نبوته وصلته بوحي الله. ففي سورة

تعليق على موضوع السحر

القلم حكي أنه قيل له إنه مجنون وإن ما يتلوه هو من أساطير الأولين. وهنا قيل له إنه قول بشر وإنه مظهر من مظاهر السحرة والسحر. وكما ردّ القرآن على ذلك القول ردا قويا ردّ على هذا ردا قويا أيضا. ثم بين بعد قليل جانبا من أهداف الدعوة السامية وحمل حملة تنديدية على الذين يقفون منها موقف التكذيب والمناوأة. وهكذا يتسق الموقف في المنافحة والنضال ويصمد النبي صلّى الله عليه وسلّم بتأييد الله ووحيه. وهذا وذاك كلاهما ظل يتكرر في كل مناسبة وظل الموقف متسقا في كل مشهد إلى أن حق الحق وزهق الباطل. وحكاية قول الكافر: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) هي عن القرآن. وليس في السور الثلاث السابقة إلّا حكاية مواقف حجاج وجحود وحملات على أصحابها. والمعقول أن يكون هذا القول هو في صدد مجموعات قرآنية أخرى، فيها مبادئ الدعوة وأهدافها، وهي التي كان يعنيها لفظ القرآن، ولو أنه صار علما صادقا على جميع محتويات المصحف على ما شرحناه في تفسير سورة المزمل. ولذلك فإن هذه الآيات لا بد من أن تكون قد نزلت بعد نزول مجموعة من «هذا القرآن» وحينئذ يكون شكنا في صحة ترتيب هذه السورة والسور الثلاث السابقة لها في محله إلّا إذا صحت روايات تبكير نزول مطالعها منفصلة عن سائرها لتأييد النبي صلّى الله عليه وسلّم وتثبيته وإعداده وحسب. وباستثناء مطلع سورة العلق، فإن روايات المطالع الأخرى موضع نظر على ما نبهنا عليه. تعليق على موضوع السحر وبمناسبة ورود كلمة السحر ونسبة الكفار السحر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم لأول مرة نقول: إن كلمة السحر ومشتقاتها قد وردت في القرآن نحو خمسين مرة. ولقد تكرر فيه حكاية قول الكفار ما حكته الآية التي نحن في صددها. وقد جاء في آيات أخرى حكاية نعتهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالساحر والمسحور، مثل ما جاء في آية سورة يونس هذه: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ

لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2) ، ومثل ما جاء في آية سورة الفرقان هذه: أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً (8) ، كما أنه ورد في القرآن آيات عديدة ذكر فيها السحر في غير معرض الدعوة النبوية مثل ما جاء في سورة البقرة هذه: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [102] . وأكثر ما ورد في معرض الدعوة قد ورد في حكاية مواقف حجاج الكفار خاصة في موضوع البعث بعد الموت وجحوده، حيث يفيد هذا بطبيعة الحال أن السحر كان معروفا في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم وعصره، وأن من المحتمل- إن لم نقل من المحقق- أنه كان في بيئة النبي وعصره سحرة يرجع إليهم الناس في قضاء مطالبهم ورغباتهم «1» . والآيات القرآنية يمكن أن تفيد أن مفهوم السحر عند العرب هو أعمال خارقة تقع على أيدي أشخاص ذوي مواهب وبراعة وقوى فوق العادة فيرى الناس بتأثيرها ما لا يرى في العادة، ويسمعون ما لا يسمع في العادة، ويحسون ما لا يحس في العادة وتحدث أمور لا تحدث في العادة أيضا. ويمكن أن تفيد أيضا أن من العرب من كان يظن أن السحر وأعمال السحر تخييلات أكثر منها وقائع حقيقية مما انطوى في آية سورة الأنعام هذه: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) ، وفي آية سورة هود هذه: وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) ، وفي آيات سورة الحجر هذه: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) ، وفي آيات سورة ص هذه: وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) .

_ (1) اقرأ موضوع السحر والكهانة في الباب الثالث (الحياة العقلية) في كتابنا «عصر النبي صلّى الله عليه وسلم وبيئته قبل البعثة» ص 293 وما بعدها.

[سورة المدثر (74) : الآيات 26 إلى 31]

وفي القرآن آيات أخرى تفيد أيضا صحة ما كان يدور في أذهان العرب عن السحر حيث ورد في سورة الأعراف في سياق قصة موسى وفرعون آية فيها حكاية لقول موسى عليه السلام للسحرة وهي هذه: قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) ، وحيث ورد في سورة طه في سياق مماثل هذه الآية: قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) . والمتبادر أن العرب بناء على هذه المفهومات كانوا يظنون ويزعمون أحيانا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ساحر وأحيانا أنه مسحور وأن القرآن سحر لأنهم رأوا النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول ما لم يعتادوه ويخبر بما لم يكن لهم به عهد وبما لا يمكن مشاهدته وإدراكه في العادة وبما ظنوه مستحيلا. ولأنهم سمعوا من القرآن بلاغة مؤثرة تذهب بلبّ السامع وتؤثر على روحه. ولعل نعتهم إياه بالمسحور كان يعني زعمهم أنه تحت تأثير السحر فيما يقوله ويخبر به ويدعيه ويتلوه. والآيات التي أوردناها هي بسبيل حكاية الواقع سواء أفي ما ذكرته من أقوال العرب وأشارت إليه من مفهوماتهم أم فيما ذكرته في سياق قصة موسى عليه السلام وسحرة فرعون أكثر منها بسبيل تقرير حقيقة السحر. وفي سورة البقرة آية في السحر استطرد المفسرون في سياقها إلى موضوع حقيقة السحر وأثره وحكمه وأوردوا بعض الأحاديث والمذاهب في ذلك رأينا أن نؤجلها إلى مناسبتها التي هي أكثر ملاءمة مكتفين الآن بما تقدم. [سورة المدثر (74) : الآيات 26 الى 31] سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31)

(1) سقر: النار الشديدة الحرارة. (2) لا تبقي ولا تذر: تحرق كل أجسادهم ولا تبقي منها شيئا «1» . (3) لواحة: حارقة. (4) : البشر: في الآية [29] بمعنى بشرات الأجسام وجلودهم وفي الآية [31] بمعنى الناس. (5) فتنة: اختبار وابتلاء وامتحان. الآيات تتمة للآيات السابقة وقد تضمنت: 1- إنذارا ربانيا لذلك الكافر العنيد بأنه سيصليه النار الشديدة التي لا تبقي ولا تذر الحارقة للجلود. 2- وإخبارا بأن القائمين عليها تسعة عشر من ملائكة الله. 3- وتعليلا لحصر العدد حيث ذكر ليكون فتنة ومثار حيرة للكافرين ووسيلة لاستيقان الكتابيين من صحة الدعوة النبوية وصدقها، وسببا لازدياد إيمان المؤمنين. وفي أسلوب وصف النار من قوة ما يحدث الفزع في النفوس ويحفز إلى الارعواء. وهو مما قصد إليه هنا وفي الآيات الكثيرة الأخرى من جملة ما قصد بالإضافة إلى قصد الإنذار الشديد للكافر العنيد. ولقد روى الترمذي عن جابر «أن بعض اليهود قالوا لأناس من الصحابة هل يعلم نبيّكم عدد خزنة جهنّم قالوا لا ندري حتّى نسأل نبينا فجاء رجل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم فقال يا محمد غلب أصحابك اليوم قال وبم غلبوا؟ قال: سألهم اليهود فقالوا لا ندري حتّى نسأل نبيّنا قال أيغلب قوم سئلوا عمّا لا يعلمون فقالوا حتى نسأل نبيّنا لكنّهم قد سألوا نبيّهم فقالوا أرنا الله جهرة. عليّ بأعداء الله إنّي سائلهم عن تربة

_ (1) انظر تفسيرها في الطبري. [.....]

تعليق على موضوع زيادة الإيمان ونقصه

الجنة وهي الدّرمك فلمّا جاؤوا قالوا يا أبا القاسم كم عدد خزنة جهنّم قال هكذا وهكذا في مرّة عشرة وفي مرة تسعا قالوا نعم فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم ما تربة الجنة فسكتوا هنيهة ثم قالوا أخبرنا يا أبا القاسم فقال الخبز من الدّرمك» «1» . وراوي الحديث صحابي مدني، وفحواه يدل على أن السؤال أورد على المسلمين في المدينة. ولذلك نراه عجيبا لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه كانوا يعرفون العدد بصيغة صريحة منذ العهد المكي من الآية [30] . وروح الآيات تلهم أن الكفار ومرضى القلوب قابلوا ذكر عدد الذين يتولون النار من الملائكة بالاستخفاف والاستهزاء، فردت عليهم بأن ذلك إنما هو من قبيل الامتحان الرباني للفرق الأربعة التي كان يتألف منها أهل بيئة النبي صلّى الله عليه وسلم. وهي المؤمنون والكتابيون والكافرون ومرضى القلوب. فأما الكتابيون فإنهم مفروض فيهم أن يعرفوا أن لله ملائكة يقومون بالمهام التي يكلفهم بها، وأنه ليس مما هو خارج عن حدود قدرة الله أن يكون مثل هذا العدد منهم كافيا لتولي أمر النار فيستيقنوا من صحة الرسالة المحمدية التي تأتي بما يتسق مع ما عندهم. وأما المؤمنون فقد آمنوا في الأصل بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وصلته بالله فيتلقون الخبر بالتصديق والتسليم وبذلك يزدادون إيمانا ويقينا. ولا يقف موقف الشك والاستخفاف إلّا الكفار ومرضى القلوب الذين يكون موقفهم هذا هو الأضعف لأنه غير صادر عن علم ونية وعقيدة وإيمان بينما يكون موقف الفريقين الأولين هو الأقوى لأنه صادر عن مثل ذلك. تعليق على موضوع زيادة الإيمان ونقصه وجملة وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً في الآية [31] قد تكررت بأسلوب مقارب في سور عديدة مدنية منها آية سورة الأنفال هذه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ

_ (1) انظر التاج ج 4 ص 247- 248.

اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) ، وآية سورة آل عمران هذه: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) ، وآية سورة الأحزاب هذه: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) ، وآية سورة التوبة هذه: وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) . ولقد كان ما احتوته هذه الآيات من المسائل التي دار الكلام والبحث حولها بين علماء الكلام وأئمة التأويل من ناحية ما إذا كان الإيمان يزيد وينقص «1» . ومنهم من استدل بها على أنه يزيد وينقص أو على تفاضل الإيمان في القلوب وهناك أحاديث تساق في سبيل الاستدلال على ذلك أيضا منها حديث رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري جاء فيه: «من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» «2» . ومنها حديث رواه الخمسة جاء فيه: «الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» «3» . والذي يتبادر لنا أن الإيمان في حدّ ذاته لا يصح عليه زيادة ولا نقص مع احتفاظه بصفته. لأن الزيادة تعني نقصا سابقا والنقص يعني تراجعا وشكا. وكلاهما ينقض صفة الإيمان لذاته. وكل ما يمكن أن يصح فيما يتبادر لنا أن هناك يقينا أو إيمانا غيبيا يمكن أن يصير يقينا أو إيمانا عينيا من قبل طمأنينة القلب بالبرهان والمشاهدة مع الإيمان قبل ذلك إيمانا غيبيا ومن قبيل ما حكي في آية البقرة هذه عن إبراهيم وجواب الله على سؤاله: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ

_ (1) انظر تفسير هذه الآيات في كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والزمخشري والخازن والطبرسي والمنار والقاسمي. (2) التاج ج 1، ص 24. (3) المصدر نفسه، ص 23.

تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [260] . والجملة التي نحن في صددها تتسق مع هذا الشرح من حيث إنها تصف الذين آمنوا بالرسالة المحمدية بالذين آمنوا وتقرر أنهم بتلقيهم الخبر الذي يبلغهم إياه النبي صلى الله عليه وسلم عن الله بالتصديق والتسليم تبعا لإيمانهم بالله ورسوله فيكون ذلك مظهرا جديدا من مظاهر قوة يقينهم وإيمانهم عبر عنه بالزيادة. وهذا ملموح بقوة في آيات آل عمران والأنفال والتوبة والأحزاب التي أوردناها آنفا، ويزداد لمحها قوة من السياق الذي وردت فيه إذا ما أمعن النظر فيه أيضا. والذي يتمعن في الأحاديث النبوية لا يجد فيها على ما يتبادر لنا أية دلالة على ما أريد الاستدلال بها عليه من احتمال الزيادة والنقص في الإيمان لذاته. وفي سورة الحجرات آيات فيها تدعيم لما يتبادر لنا أنه الصواب إن شاء الله وهي: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) [14- 15] . فقد علم الله تعالى أن الأعراب كانوا مشككين مرتابين وهذا يتناقض مع الإيمان فأمر نبيه بإجابتهم بأنهم لم يؤمنوا وكل ما في الأمر أنهم يمكن أن يقولوا أسلمنا لأنهم أذعنوا وخضعوا فقبل منهم ذلك تسامحا دون أن يستحقوا صفة الإيمان. ثم وصف المؤمنين الصادقين بأنهم الذين لم يرتابوا بعد أن آمنوا ... والله تعالى أعلم. هذا من ناحية الموضوع في ذاته. وأما من ناحية الجملة في مقامها وفي المقامات الأخرى التي وردت فيها فالذي يتبادر من روح الآيات والسياق أنها تورد في صدد التنبيه والتنويه والعظة في الأمر الذي جاءت له الجملة. وليست لأجل تقرير الموضوع من الناحية الكلامية والعقائدية. وأن الأولى أخذ الأمر على هذا الوجه والوقوف عنده. وهذا يقال بالنسبة لكثير من الآيات والجمل القرآنية التي يتشاد علماء المذاهب الكلامية حولها ويحاولون استنباط مذاهبهم منها أو الاستناد إليها.

تعليق على جملة كذلك يضل الله من يشاء ويهدى من يشاء

تعليق على جملة كذلك يضلّ الله من يشاء ويهدى من يشاء وتنبيه إلى ما ينبغي ملاحظته والتعويل عليه في صدد ما قد يتوهمه بعضهم من إشكال في بعض العبارات القرآنية التعليق على هذه الجملة يتناول أمرين أو وجهين: الأول مداها في مقامها الذي جاءت فيه. والثاني مداها من وجهة عامة. ففي صدد الأول نقول إن أسلوب ومضمون الآية [31] جميعها يلهمان أن فيهما تثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم وتنويها بالمؤمنين، واستشهادا بالكتابيين مع الوثوق بشهادتهم الإيجابية وإنذارا للكفار ومرضى القلوب وتنديدا بهم وأنهما يعنيان الذين كانوا يسمعون القرآن في الدرجة الأولى من مؤمنين وكتابيين ومرضى قلوب وكفار. وفي صدد الأمر الثاني نقول إن الآية وبخاصة الجملة بسبب أسلوبها المطلق يكون مداها عاما شاملا لغير السامعين الأولين للقرآن. وينطوي في الجملة من هذه الناحية قصد تقرر كون امتحان الله تعالى الناس يؤدي إلى اهتداء من حسنت نيته وأنار الله قلبه وإلى ضلال من كان قاسي القلب سيء الطوية والقصد. وليس فيها قصد تقرير أزلية تقدير الهدى والضلال على الناس بأعيانهم أو تقرير كون هدى الناس وضلالهم هو تقدير رباني حتمي لا كسب لهم ولا خيرة لهم فيه. ولعل في الآية التالية مباشرة قرينة حاسمة حيث جاء فيها فيما جاء: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ [المدثر/ 37] وفي آية أخرى تأتي بعد قليل قرينة حاسمة أخرى تقرر كون الإنسان رهنا بما يكسب: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر/ 38] كما أن في الآيات بصورة عامة قرائن حاسمة أيضا على صحة هذا التوجيه. وفي سور البقرة والرعد آيات مقاربة لهذه الجملة وفيها زيادات توضيحية تصح أن تورد كدلالة حاسمة على هذا التوجيه أيضا. ونص آيات البقرة هو: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ

الْخاسِرُونَ (27) ونص آيات الرعد هو: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) ، حيث تنطوي الآيات على تقرير كون الذين يهديهم الله هم أصحاب السيرة الطيبة والرغبة الصالحة في الإنابة إلى الله، والمؤمنون الذين يعملون الصالحات، وكون الذين يضلهم الله هم الفاسقون المتمردون على الله المفسدون في الأرض الناقضون لعهد الله القاطعون ما أمر الله به أن يوصل. وفي سورة الرعد آيات فيها صورة أخرى وهي أن الذين يتذكرون ويتأثرون هم أولو الألباب الموفون بعهد الله والواصلون ما أمر الله به أن يوصل دون الذين يتعامون عن الحق المنطوي في ما أنزل الله على رسوله وبمعنى آخر أن الهدى إنما يكون لهؤلاء بسبب ما عندهم من رغبة في الحق والهدى وهي: فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) وجاء بعدها إشارة إلى صفات الذين لا يهديهم الله: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) . وفي سورة الأعراف آية مهمة في بابها تفيد أن الذين حقت عليهم الضلالة هم الذين اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله: فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) . وفي سورة إبراهيم آية مؤيدة لهذه المعاني وهي: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27) . كذلك في سورة غافر آيات مهمة فيها مماثلة لهذه الآية مع التوضيح وهي: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي

آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) . وفي سورة يونس آية مهمة أخرى في هذا الباب وهي: كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) . وفي سورة الزمر آيات هامة جدا في هذا الباب، وهي: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59) ، حيث تدعو الآيات عباد الله المسرفين على أنفسهم إلى الإنابة إلى الله واتباع أحسن ما نزل إليهم قبل مداهمة العذاب حتى لا يتحسروا على ما فاتهم من الفرص، ويقولوا فيما يقولونه أن لو هدانا الله لا هتدينا وكنا من المتقين فقد جاءتهم آيات الله ليهتدوا بها فكذبوا واستكبروا وكفروا فحق عليهم العذاب. وقد اهتممنا لتوضيح هذه الآية وبخاصة جملة: يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ [31] لأنها وأمثالها التي تكررت في القرآن كانت وما تزال موضوع جدل وتشاد بين علماء الكلام في صدد الاستدلال على قابلية الإنسان لاختيار الهدى والضلال ومسؤوليته عن اختياره، ولأنها وأمثالها كانت وما تزال تبدو لبعض الباحثين محل إشكال من حيث توهمهم أن الله يقدر الهدى والضلال على أناس بأعيانهم تقديرا حتميا لا دخل لإرادتهم واختيارهم وكسبهم وأفعالهم فيه.

ونحن نعرف أن هناك أحاديث نبوية صحيحة قد يتعارض ظاهرها مع هذا التخريج. من ذلك حديث رواه الشيخان عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن الله عزّ وجلّ قد وكّل بالرحم ملكا فيقول أي ربّ نطفة، أي ربّ علقة، أي ربّ مضغة. فإذا أراد الله أن يقضي خلقا قال الملك أي ربّ ذكر أو أنثى. شقيّ أو سعيد. فما الرزق. فما الأجل فيكتب كذلك في بطن أمه» «1» . وحديث رواه الشيخان والترمذي وأبو داود عن علي قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالسا ذات يوم وفي يده عود ينكت به فرفع رأسه فقال ما منكم من نفس إلّا وقد علم منزلها من الجنة والنار. قالوا: يا رسول الله فلم نعمل أفلا نتّكل قال اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له. ثم قال: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) والآية التالية لها» «2» . وحديث رواه مسلم والترمذي جاء فيه: «قيل يا رسول الله بيّن لنا ديننا كأنا خلقنا الآن ففي العمل أفيما جفّت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما نستقبل قال لا بل فيما جفّت به الأقلام وجرت به المقادير. قال: ففيم العمل؟ قال: كلّ عامل ميسّر لعمله» «3» . وفي رواية للترمذي: «قال عمر يا رسول الله أرأيت ما نعمل فيه أمر مبتدع أو فيما قد فرغ منه فقال فيما قد فرغ منه يا ابن الخطاب كل ميسر، أمّا من كان من أهل السعادة فإنه يعمل للسعادة، وأمّا من كان من أهل الشّقاء فإنّه يعمل للشقاء» «4» . وحديث رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إنّ الله عز وجل خلق خلقه في ظلمة فألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضلّ فلذلك أقول جفّ القلم على علم الله تعالى» «5» . غير أنه ما دام هناك آيات صريحة بأن الله إنما يضل الظالمين وإنه لا يضل

_ (1) التاج، ج 5 ص 173. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه ص 173- 174. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه.

إلّا الفاسقين وإنه يهدي إليه من أناب وما في باب ذلك فينبغي حمل هذه الأحاديث وأمثالها على سبق علم الله تعالى بما سوف يختار عباده من طرق الهداية والضلال. وهذا الموضوع متصل من ناحية ما بموضوع القدر وسيأتي تعليق مسهب عليه في مناسبة آتية أيضا، وما تقدم هو من ناحية العبارة بالذات. أما من ناحية جعلها موضوع تشاد كلامي فنقول أولا: إن الآية كما قلنا قبل قد عنت سامعي القرآن الأولين بقصد التنويه بالمؤمنين منهم وإنذارا للكفار ومرضى القلوب وتثبت النبي صلّى الله عليه وسلّم وإن الأولى أن تؤخذ على هذا الاعتبار ويوقف عنده. ومع ذلك فإن المدقق في الآيات وما يماثلها يجدها تهدف بصورة عامة إلى غير ذلك من حيث إنها تهدف إلى التدعيم والتثبيت والوصف والتقريب والتسلية على ما سوف ننبه إليه في المناسبات الآتية ويجد أن التشاد حولها لا محل له. ولا يتسق مع أهداف القرآن وحكمة إرسال الرسل وإنذار الناس وتبشيرهم، وإن الحق يوجب ألا يخرج القرآن عن نطاقه من التبشير والموعظة والدعوة إلى نطاق الجدل والنقاش ولا سيما فيما يتعارض مع تلك الأهداف والحكمة. هذا، ولقد رأينا عبد الحميد الخطيب المكي يؤول في تفسيره «تفسير الخطيب» الذي نشره حديثا جملة: يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ بنسبة المشيئة إلى الإنسان أي إن الله يضل من يشاء لنفسه الضلالة بالكفر والإثم ويهدي من يشاء الهدى لنفسه بالإيمان والعمل الصالح. وقد هدف بتأويله إلى تثبيت قابلية المشيئة والاختيار للإنسان وتنزيه الله عن إضلال الناس وهدايتهم بدون أن يكون في ذلك أثر لكسبهم واختيارهم وأخلاقهم. ومع أن وجهة نظره تلتقي مع وجهة نظرنا التي شرحناها فإننا نرى في تأويله تكلفا وغرابة على غير ضرورة. ولا سيما وهناك آيات تنسب الهدى والضلال إلى الله وليس فيها جملة «من يشاء» مثل آية البقرة [26] التي أوردناها آنفا ومثل آية سورة الأعراف هذه: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178) ، ومثل آية سورة الشورى هذه: وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) .

تعليق على عبارة في قلوبهم مرض

ومن الجدير بالذكر والتنبيه في هذه المناسبة أن كثيرا مما يأتي مطلقا في آيات من أمثال هذه الآية ومما له صلة بكسب الإنسان واختياره ومصيره وثوابه وعقابه يأتي في آيات أخرى مقيدا وموضحا، فيزول بذلك الوهم واللبس اللذان قد ينشآن عن الإطلاق، ويتجلى الانسجام التام بين التقريرات القرآنية. وهذا فضلا عن أن في القرآن تقريرات ومبادئ محكمة هي بمثابة القول الفصل الذي يجب أن يعول عليه في ما يبدو من إشكالات أو مباينات في عبارة بعض الآيات وسبكها وسياقها. وكثير من الذين يتشادون حول بعض الآيات القرآنية أو يتحيرون أمام ما يرونه في ظاهره إشكالات ومباينات يغفلون عن ذلك. فالحق الواجب هو اعتبار القرآن كلا، يفسر بعضه بعضا في كثير من الموضوعات والألفاظ والتراكيب والمعاني والسياق والمبادئ والاستعانة على تأويل ما يبدو فيه إشكال بسبب إطلاقه وأسلوبه وسياقه وعبارته بالآيات الأخرى التي فيها تقييد أو التي جاءت بأسلوب أو في سياق أوضح وأظهر أو بالمبادىء المحكمة التي هي القول الفصل. وحينئذ لا يبقى كثير مما كان من أسباب الخلاف والتشاد حول النصوص القرآنية، وسنزيد هذا توضيحا في المناسبات الآتية. تعليق على عبارة فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وجملة وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ في الآية [31] تفيد أن الذين كانوا يقفون من النبي صلّى الله عليه وسلّم موقف العناد والتكذيب والتشكيك فريقان: مرضى قلوب وكفار. ولا بد من أن يكون بينهما فرق. وقد قال بعض المفسرين «1» إن في هذا تلميحا للمنافقين الذين ظهروا فيما بعد في المدينة بعد هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إليها. وفي هذا القول تكلف ظاهر فيما يتبادر لنا. فالآيات مكية وتحكي مواقف وصورا مكية. ولقد حكت آيات قرآنية مكية مواقف لفريقين كانوا في مكة: فريق كان يكذب النبي في دعواه بكل شدة ويقف موقف العناد والمكابرة والصدّ والأذى

_ (1) انظر تفسير الآيات في كشاف الزمخشري.

تعليق على موضوع الملائكة

بدون هوادة، وفريق لم يكن في هذه الشدة، وإنما كان مترددا متشككا يقنع نفسه بالأعذار الواهية أو يخجل من الناس أو الزعماء أو يخشى شرهم، بينما كان في قرارة نفسه يعترف بصدق ما كان يخبر به النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم عليه من أخلاق عظيمة وعقل راجح، مما ينطوي في آية الأنعام هذه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) ، وفي آية القصص هذه: وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) وغيرهما مما سوف ننبه إليه في المناسبات الآتية «1» فالمتبادر أن الفريق الأول هو الذي نعتته الآية بالكافر وأن الفريق الثاني هو الذي نعتته بمريض القلب. وفي ذلك صورة من صور العهد المكي. تعليق على موضوع الملائكة وبمناسبة ورود ذكر الملائكة لأول مرة نقول: إن ذكرهم قد تكرر في القرآن كثيرا وفي مواضع ومناسبات متنوعة. وأكثر المفسرين على أن الاسم مشتق من الألوكة بمعنى الرسالة وأن الكلمة تعني الرسل «2» وفي سورة فاطر آية يمكن أن يستأنس بها على صحة هذا القول بقوة وهي: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [1] ، وهناك آيات أخرى مؤيدة لذلك مثل آية سورة النحل هذه: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ [2] . وبعض الباحثين يرجعون الكلمة إلى أصل عبراني ويقولون إنها دخيلة بلفظها ومعناها على اللغة العربية، ويمكن أن يورد على هذا أن العبرانية والعربية من أصل واحد والتشارك بين اللغتين في الأسماء والأفعال

_ (1) انظر كتابنا «سيرة الرسول عليه السلام» ج 1 ص 190 وما بعدها. (2) انظر تفسير آية وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ [30] من سورة البقرة في تفسير الطبري وابن كثير والطبرسي وغيرهم.

والمصادر واسع جدا، وليس من الضروري أن تكون الكلمة عبرانية ودخيلة إلّا إذا فقد من العربية ما يمكن أن يكون أصلا لها. والحال في هذه الكلمة ليست كذلك ما دام يوجد في العربية جذر «ألك» بمعنى أرسل «1» . ولا سيما أن من الممكن أن يكون هذا الجذر- أو أي جذر آخر يحتمل أن ترجع إليه الكلمة- مشتركا بين اللغتين. وهذا يقال بالنسبة لكلمات كثيرة يحلو لبعض الباحثين رجعها إلى العبرانية، والزعم بأنها دخيلة على العربية. وننبه إلى أننا لا نريد أن ننفي وجود كلمات كثيرة في اللغة العربية القرآنية معرّبة عن لغات أخرى. غير أن هذا قد كان قبل نزول القرآن وصار ما في اللغة العربية من ذلك جزءا من هذه اللغة بالصقل والاستعمال. وعلى كل حال فإن مما لا يحتمل شكا أن كلمة الملائكة ومفردها مما كان مستعملا في اللسان العربي قبل نزول القرآن ومما كان يعد من هذا اللسان، ومما كان مفهوم الدلالة عند العرب. ودليل هذا الحاسم هو في اتخاذ العرب الملائكة آلهة وشفعاء قبل الإسلام، واعتقادهم أنهم بنات الله على ما حكته عنهم آيات عديدة مثل آيات سورة الصافات هذه: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) ، وآيات سورة الزخرف هذه: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) وقد حكى القرآن في آيات كثيرة أقوال الكفار عن الملائكة أيضا منها هذه الآية في سورة الأنعام: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [8] ، ومنها هذه الآيات في سورة الحجر: وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) .

_ (1) انظر «أساس البلاغة» للزمخشري. الجزء الأول من التفسير الحديث 30

ولقد أيّد القرآن ذلك حيث يفيد ما ورد فيه عن الملائكة أنهم ذوو صلة بالله وأنهم يقومون بخدم متنوعة له من تبليغ الأنبياء والرسل أوامر الله ومن تولي أمر الجنة والنار واستقبال المؤمنين والكافرين حسب ما يستحق كل منهم فيهما، ومن إنزال العذاب الرباني بمستحقيه في الدنيا ومن تأييد الأنبياء والمؤمنين، ومن إحصاء أعمال الناس، ومن حمل عرش الله والتسبيح بحمده، ومن استعدادهم للقيام بكل مهمة يأمرهم بها الله دون أن يعصوا له أمرا، وليس في القرآن شيء عن ماهيتهم. وكل ما فيه في صفتهم أنهم أو أن منهم ذوي أجنحة مثنى وثلاث ورباع على ما جاء في آيات سورة فاطر التي أوردناها قبل. وهناك حديث رواه مسلم والإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها جاء فيه: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم في قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) [المؤمنون/ 12] » «1» . وقد يتبادر من الحديث أن الملائكة ليسوا من مادة جامدة. ومع ذلك ففي القرآن ما يفيد أنهم يتراءون للأنبياء وغيرهم بأشكال مادية كما ترى في آيات سورة هود هذه: وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) ، وفيه ما يفيد أنهم يمكن إذا شاء الله أن يتشكلوا على شكل الرجال وينزلوا راكبين الخيل المسومة لتأييد المؤمنين كما ترى في هذه الآيات: 1- وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9) الأنعام [8- 9] . 2- بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آل عمران/ 125] «2» .

_ (1) التاج الجامع ج 5، ص 269. [.....] (2) في القرآن آيات عديدة أخرى يمكن أن تورد في هذا الصدد فاكتفينا بما أوردناه للتمثيل.

وهناك أحاديث صحيحة تفيد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يرى ملك الله أو جبريل عليه السلام حينما ينزل عليه ويكلمه بين الناس وإن لم يكن يراه غيره. من ذلك الحديث الذي أوردناه في مطلع السورة والذي ذكر فيه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى الملك على عرش بين السماء والأرض، ومن ذلك حديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن عائشة رضي الله عنها جاء فيه: «إن الحارث بن هشام سأل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كيف يأتيك الوحي فقال أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدّه عليّ فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال وأحيانا يتمثّل لي الملك رجلا فيكلّمني فأعي ما يقول» «1» . وحديث عن عائشة أيضا رواه الشيخان والترمذي جاء فيه: «قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا عائشة هذا جبريل يقرئك السلام قلت وعليه السلام ورحمة الله. ترى يا رسول الله ما لا أرى» . وحديث طويل رواه الخمسة عن عمر بن الخطاب مفاده أن جبريل طلع على النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه في صورة رجل وقد جاء فيه: «بينما نحن عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منّا أحد حتى جلس إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفّيه على فخذيه وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحجّ البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال صدقت قال فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال فأخبرني عن الإيمان قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأن تؤمن بالقدر خيره وشرّه قال صدقت قال فأخبرني عن الإحسان قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك. قال فأخبرني عن الساعة قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل قال فأخبرني عن أماراتها قال أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان. قال ثم انطلق فلبثت مليا ثم قال لي يا عمر أتدري من السائل قلت الله ورسوله أعلم قال فإنه جبريل أتاكم يعلّمكم دينكم» «2» .

_ (1) التاج ج 1 ص 20- 21. (2) المصدر نفسه.

ومهما يكن من أمر فإن وجود الملائكة واختصاصهم بخدمة الله ثابت بصراحة القرآن والإيمان بذلك واجب بنص القرآن على ما جاء في آيات كثيرة، منها آية البقرة هذه: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ [177] وليس وجودهم مما هو خارج عن نطاق قدرة الله تعالى بطبيعة الحال ولو لم تدركه عقولنا التي يعييها إدراك كثير من قوى الكون ونواميسه. ومن الواجب أن يوقف في أمر ماهيتهم وخدماتهم لله عز وجل واتصالهم بالأنبياء وغيرهم عند ما وقف عنده القرآن أو السنة الثابتة بدون تزيد ولا تخمين وأن يسلم به تبعا لواجب التسليم والإيمان بما جاء في القرآن والسنة الثابتة. ولعل حكمة ما احتواه القرآن من صور عن الملائكة متصلة من ناحية ما بما كان في أذهان العرب عنهم وما كان لهم فيهم من عقائد تأليه واستشفاع وبنوة لله وحظوة لديه مما أشارت إليه آيات قرآنية عديدة أوردنا بعضها آنفا، بحيث أريد فيما أريد تقرير كونهم ليسوا إلّا عبيدا لله وخدما ينفذون أوامره ويسبحون بحمده، وأن الله هو وحده المستحق للعبادة والخضوع، وهو وحده النافع والضار، وأن من يحيد عن ذلك ويعبد عبيده وخدمه ويرجو منهم النفع والضرر يكون في أشد الضلال والانحراف عما يقضي به العقل والمنطق. وفي آيات سورة الأنبياء هذه: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) ، وآيات سورة سبأ هذه: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) وآيات سورة الفرقان هذه: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17)

قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ [18] ، وآية سورة النساء هذه: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [172] قرائن قوية على ذلك. وفي هذا كما هو المتبادر تدعيم للدعوة القرآنية والرسالة النبوية. وعلى كل حال إن القرآن وهو يخبر عن الملائكة ويتحدث عنهم في شتى المواضع والمناسبات يخبر ويتحدث عن قوى ومخلوقات يعترف السامعون بوجودها وصفاتها بما يقارب ما يقرره القرآن عنها بقطع النظر عن عقائدهم الدينية فيها. وهذه نقطة مهمة في أسلوب القرآن من حيث مخاطبته للناس بما يعرفونه ويسلمون به مستهدفا العظة والعبرة والتدعيم أيضا، إذ لا يكون الخطاب عن الأمور والوقائع ذا أثر إلّا حينما يكون مستمدا من معارف السامعين ومتسقا معها «1» . ولقد أورد المفسرون كثيرا من البيانات المعزوة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وتابعيهم عن مختلف أحوال الملائكة وخدماتهم وخلقتهم وحركاتهم في السموات والأرضين وحول العرش على هامش ما ورد عنهم من ذلك في القرآن جلها أو كلها غير موثق بأسناد صحيحة وفيها إغراب غير قليل وخوض في ماهيات وتفصيلات غيبية من الأحوط الوقوف منها موقف التحفظ. وفيها مع ذلك دلالة على أن الحديث عنهم من شتى النواحي كان مستفيضا في بنية النبي صلّى الله عليه وسلّم مما يتسق مع ما قلناه ويؤيده. هذا، وننبه على أن أسفار العهد القديم والأناجيل قد ذكرت الملائكة في مواضع عديدة بصفتهم رسل الله إلى أنبيائه ومنفذي أوامره. غير أن الأسلوب الذي ذكروا به في القرآن يختلف اختلافا كبيرا عنه في هذه الكتب، سواء أكان ذلك في التنويه بما لهم لدى الله من مكانة أم فيما يقومون به من مهام عظمى في الدنيا والآخرة. وهذا من خصوصيات القرآن ولعله متصل من ناحية ما بأحوال بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم وعصره.

_ (1) انظر كتابنا القرآن المجيد في مقدمة هذا التفسير.

تعليق على أهل الكتاب

تعليق على أَهْلِ الْكِتابِ وبمناسبة ورود تعبير أَهْلِ الْكِتابِ لأول مرة نقول إن التعبير يعني على ما يستفاد من الآيات القرآنية أهل الملل التي عندها كتب منسوبة إلى الله تعالى أنزلها على أنبيائه وفيها شرائعه ووصاياه. ولقد تكرر ذكر أهل الكتاب كثيرا في القرآن بأساليب متنوعة ومواضع عديدة في مناسبات شتى. ويلحظ أن الكلام عنهم في الآية التي نحن في صددها يفيد أنهم لم يكونوا مناوئين وجاحدين للرسالة النبوية. وفي القرآن آيات عديدة تفيد ذلك أيضا، وقد استشهد بهم في آيات كثيرة على صحة النبوة المحمدية والوحي القرآني ووحدة المصدر لكتبهم وللقرآن ولرسالة رسلهم وأنبيائهم ولرسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم ورسالته. وأسلوب الاستشهاد بهم يلهم أن شهادتهم في جانب النبي صلّى الله عليه وسلّم هي المنتظرة. وفي آيات مكية عديدة ما يفيد أنهم شهدوا وصدقوا وآمنوا مثل آيات سورة القصص هذه: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) وآيات سورة الإسراء هذه: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) وآية سورة الأنعام هذه: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) ، وآية سورة العنكبوت هذه: وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ (47) ، وآية سورة الرعد هذه: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) ، وهذه: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43) مع التنبيه على أن في السور المدنية ما يفيد أن من أهل الكتاب من

آمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم والقرآن في العهد المدني أيضا مثل آية سورة آل عمران هذه: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) ، وآية سورة النساء هذه: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [162] . وفي القرآن آيات عديدة تفيد أن المقصود بالتعبير بالدرجة الأولى هم اليهود والنصارى مثل آيات سورة البقرة هذه: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وفي آيات سورة آل عمران [63- 67] وسورة النساء [43- 55] وسورة المائدة [12- 16] وسورة التوبة [29- 34] نفس الدلالة. والآيات والروايات الموضحة تدل على أن أكثر الكتابيين في مكة كانوا من النصارى ولم يكونوا مع ذلك كتلة كبيرة. ومنهم من كان غير عربي جاء من البلاد المجاورة. وأنه كان في المدينة وحولها كتلة كبيرة من اليهود. وأن هؤلاء كانوا جاليات إسرائيلية جاءت قبل البعثة بقرون عديدة إلى هذه المنطقة. وأن بعض أفراد منهم كانوا يقيمون في مكة أو يترددون عليها. وأسلوب الآيات المكية إجمالا يتسم بالعطف والودّ نحو أهل الكتاب. وقد طرأ على هذا الأسلوب بعض التبدل

في القرآن المدني بالنسبة لليهود بخاصة تبدل موقفهم من الدعوة النبوية «1» ، بسبب أخلاقهم وجبلتهم ومصالحهم خاصة، وأدى ذلك إلى التصادم بينهم وبين النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين وإجلاء بعضهم والتنكيل ببعضهم. وفي القرآن آيات كثيرة في ما كانوا عليه من أخلاق ووجوه من مواقف الكيد والتآمر. ولقد ذكر القرآن كتب اليهود باسم الكتاب وباسم التوراة وكتب النصارى باسم الإنجيل وذكر أن الله قد أنزلهما وآتاهما موسى وعيسى عليهما السلام. والعبارة القرآنية بذلك صريحة الدلالة على أن المقصد هو الكتب والتبليغات الربانية بالأحكام والشرائع والمبادئ الإيمانية كما ترى في الآيات التالية: 1- نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ ... آل عمران [3- 4] . 2- إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47) المائدة [43- 47] . 3- وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ

_ (1) اقرأ مبحث الجاليات الأجنبية في الحجاز ومبحث النصارى واليهود في كتابنا عصر النبي وبيئته قبل البعثة ومبحث النصارى واليهود في كتابنا سيرة الرسول عليه السلام.

فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66) المائدة [65- 66] . 4- وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا الإسراء [2] . والمتبادر أن اليهود والنصارى قد سموا باسم أهل الكتاب والذين أوتوا الكتاب في القرآن بسبب ذلك. وهناك نقاط أخرى في صدد اليهود والنصارى وما في أيديهم من كتب وما طرأ عليها من تحريف ستكون موضوع تعليقات وبيانات أوفى في مناسبات آتية أكثر بلاغة إن شاء الله. وننبه على أمر هام وهو أن في القرآن ما يسوغ القول إن تعبير أهل الكتاب أشمل من اليهود والنصارى. فهناك آيات تذكر أن الله قد أرسل في كل أمة رسولا وأنه لم تخل أمة إلّا جاءها نذير وأن الله قد أرسل رسلا منهم من قصهم في القرآن ومنهم من لم يقصص. وآيات تذكر أهل الكتاب بأسلوب مطلق، وتأمر المسلمين بأن يعلنوا إيمانهم بكل أنبياء الله وكتبه، كما ترى في الآيات التالية: 1- لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ ... البقرة [177] . 2- آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ... البقرة [285] . 3- قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ آل عمران [84] . 4- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً النساء [136] .

5- وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ النحل [36] . 6- إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ فاطر [24] . 7- وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ غافر [78] . 8- فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ الشورى [15] . بحيث يسوغ القول بناء على ذلك أن التعبير يصح أن يشمل كل أمة تدعي أن عندها كتبا منسوبة إلى الله تعالى أوحيت إلى رجال قدماء منهم وفيها شرائعها وعليها سمة ما من سمات الكتب المنسوبة إلى الله دعوة أو مبادئ أو أحكاما أو وصايا أو شرائع مهما كان فيها تحريف وانحراف. لأن هذا كان وما يزال قائما بالنسبة لليهود والنصارى وما في أيديهم من كتب منسوبة إلى الله تعالى. ومعلوم اليوم أنه كان في فارس شخص اسمه زرداشت له كتاب ويوصف بأنه من الأنبياء وأن أشخاصا عديدين ظهروا في الأزمنة القديمة في الهند والصين وغيرهما وتركوا كتبا فيها شرائع وتعاليم ووصايا منسوبة إلى خالق الأكوان وربّ الأرباب. وهناك آية مهمة في بابها تؤيد النتيجة التي انتهينا إليها وهي آية سورة الحديد هذه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ. فذكر ذرية نوح مع ذرية إبراهيم يفيد كما هو المتبادر أن هناك أنبياء آخرين من ذرية نوح أنزل عليهم كتب الله من غير ذرية إبراهيم التي منها جل أبناء بني إسرائيل وبنوع خاص موسى وعيسى اللذين أنزل عليهما التوراة والإنجيل. وليس في القرآن والحديث شيء مهم في ذرية نوح إلّا ما جاء في القرآن بأن الله نجاها مع نوح من الطوفان الذي أغرق الله به الكافرين. ومن ذلك آية سورة الصافات هذه: وَجَعَلْنا

[سورة المدثر (74) : الآيات 32 إلى 37]

ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ [77] ، وفي الإصحاحات (7- 10) من سفر التكوين أول أسفار العهد القديم المتداولة اليوم ذكر أن الذين نجوا مع نوح هم أبناؤه سام وحام ويافث ونسوتهم وأمهم فصاروا أجداد أمم شتى نمت في آسيا وإفريقية. وإذا صح ما انتهينا إليه إن شاء الله فيكون من تعنيهم الآيات من كون المقصود بالتعبير بالدرجة الأولى على ما نبهنا عليه قبل هم اليهود والنصارى إنما هو على ما يتبادر بسبب كونهم هم الذين كان العرب الذين أنزل القرآن في بيئتهم يعرفونهم ويتصلون بهم كأهل كتاب، والله تعالى أعلم. [سورة المدثر (74) : الآيات 32 الى 37] كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) . (1) أدبر: ولّى. (2) الصبح: هنا بمعنى الفجر أو النهار. (3) أسفر: انجلى أو انكشف. (4) إحدى الكبر: إحدى آيات الله الكبرى، والمرجح أن المقصود بذلك سقر. والآيات استمرار للآيات السابقة. وقد تضمنت ردعا بمعنى الإيعاد والزجر، وقسما بالقمر والليل حين ينقضي ويولي والصبح حين يسفر بأن سقر التي ينذر الكفار بها حقيقة وليست وهما، وأنها إحدى آيات الله الكبرى، وأنها ذكرت لتكون نذيرا لجميع البشر حتى يكونوا على بينة من أمرهم فيتقدم من يشاء إلى الإيمان بالله واتباع الدعوة فينجو، ويتأخر من يشاء عن ذلك فيهلك. والآية الأخيرة احتوت- بعد أن أكدت الآيات السابقة لها حقيقة الحياة الأخروية وما سوف يلقاه الكافرون من العذاب والنار- تقريرا لقابلية التمييز عند الناس وقدرتهم على الاختيار، ولكون مهمة الرسول هي الإنذار والتبليغ. وفي ذلك توكيد لما قررناه في سياق الآيات السابقة ودليل حاسم عليه.

[سورة المدثر (74) : الآيات 38 إلى 47]

[سورة المدثر (74) : الآيات 38 الى 47] كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) . (1) كل نفس بما كسبت رهينة: كل نفس مسؤولة بما عملت ومرتهنة به. وتأويل الطبري يفيد أن ذلك بالنسبة لذوي المعاصي والكافرين. (2) أصحاب اليمين: تعبير قرآني عن الناجين يوم القيامة. (3) ما سلككم في سقر: ما الذي جعلكم في عداد أصحاب جهنم. (4) الخوض: التوغل في الشيء، والمقصود الخبط والتورط بدون علم وحق أو الاندماج في الباطل. (5) اليقين: الموت وانقضاء الحياة. والآيات استمرار للسياق السابق كذلك. والآية الأولى خاصة تتمة للآية السابقة لها وتعقيب عليها بسبيل تقرير كون مصير كل نفس رهنا بما كسبته وشاءته من تقدم نحو الهدى أو تأخر عنه. وقد قررت الآية الثانية بأسلوب استدراكي أن أصحاب اليمين لهم الجنات في الآخرة. وبسبب هذا الاستدراك أوّل الطبري وغيره بأن الآية الأولى تعني الذين يكسبون المعاصي ويكفرون، فهم مرتهنون بما كسبوه من ذلك. وقد حكت الآية الثالثة وما بعدها حوارا مقدرا بين أصحاب اليمين والمجرمين، فسأل الأولون الأخيرين سؤال تعجب وشماتة عما جعلهم في عداد أهل النار فأجابوا أن سبب ذلك هو أنهم لم يكونوا يعبدون الله ويصلون له ولا يطعمون المسكين، وكانوا إلى هذا يخوضون في الباطل مع الخائضين، ويكذبون بيوم الحساب والجزاء إلى أن انقضت حياتهم وصاروا إلى الحقيقة واليقين من أمرهم وحقّت عليهم كلمة العذاب الذي أوعدوا به ولم يصدقوه.

تعليق على مدى ما أولاه القرآن من العناية بالمسكين

تعليق على مدى ما أولاه القرآن من العناية بالمسكين وبمناسبة جملة وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ التي تأتي لأول مرة في الآية [44] نقول: إن الآيات القرآنية التي ذكرت المسكين والمساكين بسبيل الحثّ على البرّ بهم ومساعدتهم والعناية بهم والتنديد بمن لا يفعل ذلك قد بلغت اثنتين وعشرين منها المكي ومنها المدني حيث يبدو من ذلك مبلغ عناية الله سبحانه بهذه الطبقة منذ أوائل عهد التنزيل واستمرارها إلى نهاياته. ومما احتوى حثا على إطعامه وتنويها بمن يفعلون وتنديدا بمن لا يفعلون آيات سورة البلد هذه: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) ، وآيات سورة الفجر هذه: كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) ، وآيات سورة الماعون هذه التي تجعل عدم الحض على طعامهم دليلا على عدم الإيمان بالآخرة وعقاب الله: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) ، وآيات سورة الحاقة هذه: إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ (37) ، وآيات سورة الإنسان هذه: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) وفي سورتي الإسراء والروم آيتان تجعل للمسكين حقا وتوجب إعطاءه له وهذا نص آية الروم: فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) . وقد يتبادر إلى الذهن أن كلمة المسكين تعبر عن الطبقة الفقيرة المحتاجة،

غير أن هناك آيات تذكر المساكين مع الفقراء وآيات تذكر المساكين مع السائلين مثل آية سورة التوبة هذه: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها [60] . وآية سورة البقرة هذه: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ [177] . وهناك حديث فيه وصف للمسكين رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس تردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدّق عليه ولا يقوم فيسأل الناس» «1» حيث يظهر في هذا الوصف جانب من حكمة الله تعالى في ما ورد في القرآن من حضّ على البرّ بالمسكين وإطعامه والتنديد بمن لا يفعلون ذلك لأنه يصبر على العوز والحرمان ولا يسأل الناس وفي هذا ما فيه من مغزى جليل. ولقد خصت حكمة التنزيل المسكين دون الفقير بنصيب من خمس غنائم الحرب ومن الفيء وهما موردان جعل للدولة حق استيفائهما وتوزيعهما على ما جاء في آية سورة الأنفال هذه: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [41] ، وآية سورة الحشر هذه: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [41] ، وخصت المسكين بخاصة بطعام الكفارات كما جاء في آية سورة المائدة هذه: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ ... [89] ، وهذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ ... [95] ، وآيات سورة المجادلة هذه: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ

_ (1) التاج ج 2 ص 28.

تعليق على تعبير: (أصحاب اليمين وأصحاب الشمال)

مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً [3- 4] . حيث تزداد تلك الحكمة وهذا المغزى روعة وجلالا. وهذا بالإضافة إلى ذكر المسكين كصاحب نصيب مع الفقراء في مورد الزكاة الذي تستوفيه الدولة وتوزعه كذلك على ما جاء في آية سورة التوبة التي أوردناها آنفا. ولقد روى الشيخان والترمذي عن صفوان بن سليم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «السّاعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو كالذي يصوم النهار ويقوم الليل» «1» . والحديث من ناحية يدعم الوصف الذي ورد في الحديث السابق ويتساوق مع التلقين القرآني في هذا الأمر كما هو في كل أمر. وهناك مناسبات آتية أخرى سوف يكون لنا فيها تعليقات أخرى على هذا الأمر وأمثاله فنكتفي بما تقدم. تعليق على تعبير: (أصحاب اليمين وأصحاب الشمال) وتعبير أَصْحابَ الْيَمِينِ تعبير مجازي، فالعرب كانوا يتفاءلون بالجهة اليمنى ويعتبرونها مباركة، ويتشاءمون باليسرى ويعتبرونها منحوسة. ولقد ذكرت آيات أخرى أن الناس يوم القيامة يعطون كتب أعمالهم. وأن الناجين يعطونها بأيمانهم والخاسرين بشمالهم كما جاء في آيات سورة الحاقة هذه: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ

_ (1) التاج ج 5 ص 13.

هدف المحاورات الأخروية بين الناجين والخاسرين

الْقاضِيَةَ (27) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34) وقد يسوغ هذا القول أن تعبير أصحاب اليمين قد قصد به الناجون يوم القيامة بأيمانهم وأعمالهم الصالحة. والمتبادر على كل حال أن تعبير أصحاب اليمين وأصحاب الشمال بالمقابلة هو تعبير مقتبس مما في أذهان العرب الذين يسمعون القرآن، ومفهوماتهم وأساليب خطابهم، للتقريب والتشبيه والتمثيل والتأثير، مع واجب الإيمان بوقوع ما أخبرت به الآيات من ذلك كمشهد من المشاهد الأخروية. هدف المحاورات الأخروية بين الناجين والخاسرين ولقد تكررت حكاية المحاورات المفروض وقوعها بين الناجين المؤمنين والخاسرين الكفار في الآخرة، حينما يصير كل منهم إلى مصيره، كما تكررت حكاية اعتراف الكفار وندمهم وحسرتهم، مثل ما جاء في آيات سورة الأعراف هذه: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) [44- 45] ومع واجب الإيمان بوقوع ما احتوته الآيات من مشهد أخروي فإن من الحكمة الملموحة في ذلك قصد الإنذار والتنديد وإثارة الخوف في نفوس الكفار حتى يرعووا ويرتدعوا. تعليق على تعبير كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ وتعبير كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ تقرير قرآني حاسم بمسؤولية الناس عن أعمالهم، وقابليتهم للكسب والاختيار واستحقاقهم للجزاء وفاقا لذلك، وهذا

[سورة المدثر (74) : آية 48]

التقرير بهذا الأسلوب ذو خطورة تلقينية عظمى في صدد أعمال الناس وتصرفاتهم وتربية نفوسهم وأخلاقهم. والمؤمن إذا تيقن من هذا واجتهد ليكون من نفسه على نفسه رقيب، وحسب حساب عاقبة كل ما يقدم عليه نما فيه الوازع الذاتي الذي يزعه عن الإثم والشر، والحافز الذاتي الذي يحفزه إلى الخير والصلاح والهدى. وفي هذا التعبير على ضوء هذا الشرح الذي نرجو أن يكون فيه الصواب إن شاء الله تدعيم لشرحنا الذي شرحنا به مدى جملة كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ أيضا حين إمعان النظر. حيث يتضمن كون الإنسان مسؤولا عمّا يكتسب ويختار من هدى وضلال. [سورة المدثر (74) : آية 48] فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) . وهذه الآية تعقيب على الآيات السابقة، وقد تضمنت تقريرا بأن الكفار والمجرمين لن تنفعهم يوم القيامة شفاعة الشفعاء، فتحول دون صيرورتهم إلى المصير الرهيب الذي استحقوه بكسبهم. وقد استهدفت كما هو المتبادر فيما استهدفته تنبيه الكفار إلى أن المرء إنما ينفعه في الدرجة الأولى إيمانه وعمله الصالح، وحملهم على الارعواء من ضلالهم وعدم الإركان إلى شفاعة الشافعين. تعليق على عقيدة الشفاعة والشرك عند العرب وهدفها واستطراد إلى حقيقة فائدة الشفاعة للمؤمنين وما ورد في ذلك من آيات وأحاديث ولقد حكت آيات قرآنية عديدة عقائد العرب بالشفاعة بأسلوب يدل على أن ذلك كان يمثل عقيدة الشرك عندهم أو عند أكثريتهم الكبرى، فقد كانوا يعترفون بالله كالإله الأعظم الخالق المدبر الضار النافع، على ما حكته آيات كثيرة مثل آيات سورة المؤمنون هذه: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ الجزء الأول من التفسير الحديث 31

لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) ، وآية سورة الزخرف هذه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) ، وآية سورة العنكبوت هذه: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) ، وآية سورة الزمر هذه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) ، وآية سورة يونس هذه: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) . ثم يشركون به غيره في العبادة والاتجاه والدعاء، بقصد الاستشفاع لديه على ما جاء في آيات كثيرة، منها آية سورة يونس هذه: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [18] ، وآية سورة الزمر هذه: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) . والراجح أن معنى الآية التي نحن في صددها متصل بهذه العقيدة بقصد تزييفها، وإفهام أصحابها أنهم على ضلال وخسران. وقد تكرر ذلك في آيات عديدة مثل آيات سورة الزمر هذه: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وآية سورة الزخرف هذه: وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وآية سورة النجم هذه: وَكَمْ

مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26) . وأكثر الآيات القرآنية تلهم أن الشفعاء الذين كانوا يعتقدون بهم ويشركونهم مع الله هم الملائكة في الدرجة الأولى على اعتبار أنهم بزعمهم بنات الله وأصحاب الحظوة لديه، على ما شرحناه في سياق سابق من السورة وعلى ما جاء في آية سورة سبأ هذه: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) . ولعل ذلك آت من قياس الله تعالى في أذهانهم على ملوك الدنيا وأصحاب القوة والسلطان فيها، الذين تحول مشاغلهم ومراكزهم بينهم وبين أصحاب المصالح فيرى هؤلاء أنه لا بد لهم من وسطاء إليهم. وفي اعتبار ذلك شركا مع إيمان العرب بالله وعظمته ينطوي معنى التوحيد الرائع في الإسلام الذي لا يتحمل أي شائبة أو ملابسة بأي تأويل كان. وعلى كل حال ففي الآية وما جاء في بابها من آيات تلقين مستمر المدى بضلال الاعتماد على شفاعة الشافعين إذا لم يكن المرء من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وبأن الشافعين مهما علت مرتبتهم عند الله لا يمكن أن يشفعوا إلّا لمن حاز مبدئيا رضاء الله وآمن به واتقاه وفي هذا ما فيه الوازع والحافز. ولقد قلنا في سياق التعليق على الحياة الأخروية أن المشركين الذين تحكي الآية قولهم كانوا لا يؤمنون بهذه الحياة ولا يخافونها. وهذا ما حكته عنهم آية في هذه السورة تأتي بعد قليل. وقد يرد بناء على ذلك سؤال عن هدف الشفاعة التي كان المشركون يرجونها من الشفعاء المحظيين عند الله. والجواب المتبادر هو أنهم كانوا يفعلون ذلك لضمان قضاء مصالحهم ومآربهم في الدنيا من دفع الضرر وجلب النفع والخير على اختلاف المجالات والحالات والأنواع. وهذا هو ما كانوا يتوخونه بصورة عامة من عبادة الله وعبادة الشركاء على اختلاف مظاهرها وطقوسها. ولقد احتوت آيات عديدة أوردنا بعضها آنفا إيذانا بأن الذين يعبدونهم من دون الله ويشركونهم معه بقصد جلب النفع والخير ودفع الضر والشر في الدنيا لن ينفعوهم في ذلك فأرادت الآية التي نحن في صددها على ما هو المتبادر إيذانهم

أن شركاءهم المحظيين عند الله لن ينفعوهم في الآخرة أيضا لو قالوا في أنفسهم ذلك إذا كان ما ينذر النبي به حقا. ونستطرد إلى القول إن القرآن آيات عديدة تقرر نفع الشفاعة وانفساح المجال لها لمن يأذن الله ويرضى ويتخذ عنده عهدا منها آيات سورة النجم [26] وسورة الزخرف [86] التي أوردناها قبل قليل وآية سورة مريم هذه: لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87) ، وآية سورة طه هذه: يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) . كما أن هناك أحاديث صحيحة عديدة تذكر شفاعة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم والأنبياء عليهم السلام وبعض فئات المؤمنين للمؤمنين. منها حديث رواه الترمذي عن أنس قال: «سألت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يشفع لي يوم القيامة فقال أنا فاعل ... » «1» وحديث رواه الترمذي أيضا عن عوف بن مالك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أتاني آت من عند ربّي فخيّرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئا» «2» . وحديث عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الناس تبعا» «3» . وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن جابر قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي» «4» . وحديث رواه الاثنان أيضا عن أبي سعيد قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ من أمّتي من يشفع للفئام ومنهم من يشفع للقبيلة ومنهم من يشفع للعصبة ومنهم من يشفع للرجل حتى يدخلوا الجنة» «5» . وحديث رواه الاثنان كذلك عن أبي الدرداء

_ (1) التاج ج 5 ص 342. (2) المصدر نفسه ص 348- 360. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه.

قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم يشفّع الشهيد في سبعين من أهل بيته» «1» ، وحديث رواه ابن ماجه عن عثمان قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم يشفع يوم القيامة ثلاثة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء» «2» . وهناك بضعة أحاديث صحيحة طويلة في شفاعة النبي صلّى الله عليه وسلّم للناس جميعا للقضاء فيهم يوم القيامة حين يطول عليهم الأمر والجهد ويعتذر الأنبياء ويدلّون الناس على النبي فيسجد لله ويطلب منه الإذن في الشفاعة فيؤذن له «3» . ومما جاء في بعضها «أنّ الله لما يأذن للنبي بالشفاعة يقول يا ربّ أمّتي أمّتي فيقال له انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبّة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منه فأنطلق فأفعل ثم أرجع إلى ربّي فأحمده بتلك المحامد ثم أخرّ له ساجدا فيقال لي يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفّع، فأقول أمتي أمتي فيقال لي انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها فأنطلق فأفعل ثم أعود إلى ربّي فأحمده بتلك المحامد ثم أخرّ له ساجدا فيقال لي يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفّع فأقول يا ربّ أمتي أمتي فيقال لي انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار فأنطلق فأفعل» . والإيمان بما جاء في الآيات القرآنية وما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم واجب مع الإيمان بأنه لا بد لذلك من حكمة. والمتبادر من فحوى الآيات والأحاديث أن من تلك الحكمة تقرير كون السعادة والنجاة في الإيمان بالله وحده والعمل الصالح الذي يرضى عنه الله والترغيب في ذلك. وفي ذلك ما فيه الفوائد الجليلة في الدنيا بالإضافة إلى مثل ذلك في الآخرة.

_ (1) التاج ج 5 ص 348- 360. (2) المصدر نفسه. [.....] (3) المصدر نفسه.

[سورة المدثر (74) : الآيات 49 إلى 51]

[سورة المدثر (74) : الآيات 49 الى 51] فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) . (1) التذكرة: كناية عن الدعوة النبوية. (2) حمر: جمع حمار. وقيل إن هذا الجمع خاص بحمار الوحش وقد ورد في سورة لقمان لفظ (حمير) جمعا لحمار. (3) مستنفرة: شاردة. (4) قسورة: من أسماء السبع. والآيات استمرار للسياق وتعقيب عليه، حيث تندد بالكفار وتتساءل عن سبب إعراضهم عن الدعوة النبوية وفرارهم منها، كما تفرّ الحمر الوحشية من السبع حين يبدو لها. [سورة المدثر (74) : الآيات 52 الى 56] بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) والآيات استمرار للسياق وتعقيب استدراكي وتنديدي عليه. وقد تلهم الآية الأولى أن الكفار تحدوا النبي صلّى الله عليه وسلّم بإنزال صحف مكتوبة على كل منهم لتكون برهانا على صحة دعواه ودعوته، كما تحتمل أن تكون في معرض التنديد بشدة عنادهم، حتى لكأنهم يريدون ليؤمنوا ويصدقوا أن ينزل على كل منهم كتاب خاص من السماء «1» . وقد روى بعض المفسرين «2» أن المشركين قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن سرك أن نتبعك فأتنا بكتاب خاصة إلى فلان وفلان نؤمر فيه

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير ففيهما ما يدعم الوجهين. (2) انظر تفسير الآيات في الطبري.

تعليق على تعبير وما يذكرون إلا أن يشاء الله

باتباعك» كما روى بعضهم أنهم قالوا له: «ليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله أنك رسوله نؤمر فيه باتباعك» «1» . ولقد حكت إحدى آيات سورة الإسراء ذلك عنهم فعلا في مناسبة أخرى كما ترى فيها: أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا (93) . والآية الثانية احتوت تقريرا لواقع الحال من أمرهم وسبب عدم استجابتهم بأسلوب الزجر والاستدراك وهو عدم خوفهم من الآخرة وجحودهم بها. وتلهم أنها بسبيل تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم. والآيتان الثالثة والرابعة احتوتا ردا على تحدّيهم وشدة عنادهم في صورة تقرير لمهمة النبي صلّى الله عليه وسلّم التي هي تذكير وتبليغ للناس ثم تركهم لاختيارهم ومشيئتهم في الاستجابة إليها. أما الآية الخامسة فإنها احتوت تقريرا بأن مشيئة الناس في التذكر والاستجابة منوطة بمشيئة الله الذي هو الجدير بالاتقاء والخشية والذي هو القادر على العفو والمغفرة. ولقد روى الترمذي في سياق الآية الأخيرة حديثا عن أنس بن مالك قال: «قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في هذه الآية هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ قال: قال الله عزّ وجل أنا أهل أن أتّقى فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له» «2» . حيث ينطوي في الحديث توضيح فيه تبشير وترغيب للمتقين. تعليق على تعبير وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ولقد يبدو فيما جاء في الآية الخامسة من إناطة تذكر الناس بمشيئة الله نقض

_ (1) انظر تفسير الآيات في الخازن. (2) التاج ج 4 ص 248.

أو تحديد لما جاء في الآية [37] من تقرير المشيئة للناس إطلاقا. ولقد قال بعض العلماء والمفسرين إن هذه الآية وما في بابها مثل آية سورة الإنسان هذه: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ بسبيل تقرير أن الناس إنما يشاءون بقوة المشيئة التي خلقها الله فيهم. وقال آخرون إن إناطة مشيئة الناس بمشيئة الله تعالى السابقة على مشيئتهم تعني مفهومها الظاهر إطلاقا فلا يشاءون إلّا ما شاء الله «1» . وقد كانت هذه الآية وما يماثلها مدار جدل بين علماء المذاهب الكلامية بسبب ما يبدو من التعارض بينها وبين الآيات الأخرى التي تقرر قابلية الاختيار والمشيئة في الناس إطلاقا. ونقول أولا إن النظم القرآني جرى أحيانا على نسبة كل شيء من أفعال العباد الواقعة أو المتوقعة إلى الله تعالى وعلى جعل كل شيء منها منوطا بمشيئته مع قيام قرائن في الآيات نفسها أو في غيرها على أنها من كسب العباد ومشيئتهم المباشرة فيما يترافق معها أو يترتب عليها من تثريب وتنديد ووعيد لما يكون ضلالات وانحرافات وتنويه ووعد جميل لما يكون استقامة وحقا وهدى. غير أنه جرى أيضا وفي الأعم الأغلب على نسبة الأفعال والمشيئة إلى العباد مما هو مثبوت في مختلف السور بكثرة تغني عن التمثيل بحيث يسوغ القول إن الأسلوب الأول ينبغي أن يؤول على ضوء ما فيه وما في القرآن من قرائن ولا يصح أن يوقف عند كل عبارة لحدتها لأن في ذلك تعريضا للقرآن للتعارض والاختلاف مما يجب تنزيهه عن ذلك ولا سيما إن في القرآن حلا لما يبدو من توهم في ذلك على ما شرحناه في سياق جملة كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ [31] وإن القول إن الناس يشاؤون بقوة المشيئة التي أودعها الله فيهم هو المتسق مع تقرير المشيئة للعباد وتقرير قابلية الاختيار والكسب فيهم مما انطوى في الآيات السابقة وآيات كثيرة أخرى وهو المتسق مع روح الآية نفسها التي جاءت بعد الآية التي تقرر المشيئة للناس مباشرة. ثم هو المتسق مع حكمة إرسال الرسل ويوم الجزاء الذي يوفى فيه

_ (1) انظر تفسيرها في تفسير أبي السعود والنيسابوري.

تعليق على تحدي الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم بالآيات وأجوبة القرآن على ذلك ودلالتها

الناس جزاء أعمالهم التي اكتسبوها بقوة هذه المشيئة والقابلية للاختيار والكسب التي أودعها الله فيهم بمقتضى إرادته وحكمته ومشيئته الأزلية. وعبارة الآيات ومعظم آيات القرآن التي تنسب الأفعال والتفكير للإنسان من الأدلة التي تكاد تكون حاسمة على ذلك. ويتبادر لنا إلى هذا أنه أريد بالآية تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى لا يغتم بموقف الإعراض والعناد والمناوأة والتكذيب الذي وقفه الجاحدون. وقد تكرر مثل ذلك في مواضع كثيرة في القرآن مثل آية سورة فاطر هذه: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) ، وآية القصص هذه: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) ، وآية سورة الأنعام هذه: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) بحيث تبدو بذلك حكمة التنزيل في الأسلوب. ويلحظ أن الآيات نسبت اكتساب الهدى والاستجابة إلى أصحابها مما قد يكون فيه دليل على صحة تأويلنا، والله أعلم. تعليق على تحدي الكفار للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالآيات وأجوبة القرآن على ذلك ودلالتها ولقد تكررت حكاية القرآن لصور عديدة من تحدي الجاحدين ومعجزاتهم، والآية [52] من هذه الآيات احتوت أولى مرات التحدي- إذا صحت روايات المفسرين- وليس ما يمنع صحتها، لأن الصورة مؤيدة بنص قرآني آخر على ما أوردناه قبل، وذلك بطلب الكفار إنزال كتب إليهم فيها تأييد لصحة رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأمر باتباعه. وقد ردت الآيات التالية عليهم، فبينت أن موقفهم هو في حقيقته راجع إلى عدم خوفهم من الآخرة، وأن رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم والقرآن الذي يتلوه عليهم تذكرة فمن شاء تذكر واهتدى. ولم تجبهم إلى تحديهم. ولقد ظلت آيات القرآن

ترد عليهم في كل موقف تحدّ وقفوه، وكل ما طالبوا ببرهان خارق للعادة مما عبر عنه القرآن بتعبير آية أو آيات بمثل ما ردت عليهم في هذه الآيات من حيث الجوهر، مع تنوع الصيغ والأساليب دون الاستجابة إلى تحديهم، موجهة الخطاب إلى العقول لتتدبر وإلى القلوب لترعوي، ومقررة صراحة حينا وضمنا حينا أن الدعوة النبوية إنما هي دعوة إلى الله وحده والإقرار له بالعبودية ونبذ ما سواه والتزام الأعمال الصالحة، وتحذير من الكفر والشرك والإثم والفواحش، وأن مثل هذه الدعوة لا تحتاج إلى معجزات مؤيدة، وإنما تحتاج طلى تروّ وإذعان ونية حسنة وطوية نقية ورغبة في الحق والخير والهدى وبعد عن العناد واللجاج، ليرى المرء البرهان على صحتها وقوتها في الكون وما فيه من آيات باهرة وحكمة بالغة ونواميس دقيقة، وفيما تدعو إليه من مكارم الأخلاق والفضائل وتنهى عنه من الإثم والبغي والفواحش كما تلهم آيات سورة الأنعام هذه: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) ، ومثل آيات سورة الأنعام هذه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وآيات سورة الرعد هذه: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7) وآية سورة الرعد هذه: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) وآيات سورة الإسراء هذه: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا

كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا (93) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا (95) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) وآيات سورة العنكبوت هذه: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52) . وهذه الردود القوية على تحدي الكفار هي بسبيل تقرير أن الدعوة إلى الله ومكارم الأخلاق لا تحتاج إلى معجزات وأن الذين حسنت طواياهم ونواياهم وصدقت رغباتهم في الحق والحقيقة آمنوا، ففيها ما يكفي لحملهم على الارعواء والاستجابة. أما الذين خبثت نواياهم وانعدمت فيهم الرغبة في الحق والحقيقة فلن يؤمنوا مهما رأوا من الآيات والمعجزات. ولئن لم يكن بدّ من آية فهي القرآن الذي يتلى عليهم وفيه الكفاية كل الكفاية. وهكذا تنفرد الدعوة القرآنية والرسالة المحمدية عما سبقها، من حيث إنها لم تقم على الخوارق استجابة للتحدي وإنما قامت على خطاب العقل والقلب والبرهنة بما في الكون من إبداع ونظام وعظمة يدل على وجود الله عز وجل واستحقاقه وحده للخضوع والعبادة والاتجاه وبطلان الشرك والوثنية والعقائد المتناقضة مع ذلك هم بما انطوى في هذه الدعوة من مبادئ الحق والخير والبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحلال الطيبات وتحريم الخبائث والفواحش والآثام ما ظهر منها وما بطن والحث على التضامن والتعاون ومنع الاستعلاء والاستغلال وإقامة مجتمع إنساني عام يتساوى فيه الناس في الحقوق والواجبات، ويتكافلون فيها ويسود فيه الحق والعدل والحرية والمعروف والخير.

ولعل مما يحسن أن يضاف إلى هذا من حكمة الله في عدم الاستجابة إلى تحدي الكفار أن الأنبياء السابقين قد جاؤوا لقومهم وأن المعجزات التي أظهرها الله على أيديهم هي لإقناع جيل هذا القوم الذي كانت رسالة الأنبياء لهم في حين أن الله سبحانه قد شاء أن تكون رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم لجميع الأجيال ودين الإنسانية العام في جميع الأزمنة والأمكنة. وهو ما انطوى في آيات عديدة أوردنا بعضها في تعليقنا على جملة رَبِّ الْعالَمِينَ في سياق تفسير سورة الفاتحة، وفي هذا لا تغني المعجزة لأنها غير دائمة الأثر. وقد تنكر من الأجيال الآتية فكان الإقناع وقوة البرهان ومخاطبة العقل والقلب والقرآن المجيد الذي ينطوي فيه كل ذلك بأروع وأقوى ما يكون هي الحجج المؤيدة لصدق الرسالة المحمدية التي تظل واردة وقائمة راهنة بكل قوتها في كل ظرف ومكان. ولقد جاء في سورة الإسراء هذه الآية: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ [59] وهي عظيمة المدى والدلالة بسبيل ما نحن في صدده حيث تضمنت تقريرا ربانيا صريحا بأن الله عز وجل امتنع عن إظهار المعجزة على يد النبي صلّى الله عليه وسلّم إجابة على تحدي الكفار وتعليلا لذلك بأن الأمم السابقة قد كذبت بالمعجزات التي أظهرها الله على أيدي أنبيائه السابقين ولم يتحقق المقصود منها. ولقد روى البخاري ومسلم حديثا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «ما من نبي إلّا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» حيث يتساوق الحديث مع التلقين القرآني بأن معجزة النبوة المحمدية هي ما أوحاه الله تعالى إلى النبي من قرآن وحكمة فيهما الهدى والرحمة وأسباب الصلاح والنجاة للبشر في دنياهم وآخرتهم. ونريد أن ننبه إلى أمر وهو أن ما قررناه استلهاما من الآيات القرآنية هو بسبيل الردّ على تحدي الكفار للنبي صلّى الله عليه وسلّم وطلبهم منه الإتيان بالمعجزات والخوارق لتأييد صلته بالله وإننا لا ننكر أن الله عز وجل قد أظهر على يد النبي صلّى الله عليه وسلّم معجزات متنوعة الصور في ظروف كثيرة له خاصة وله وللمسلمين عامة على ما تدل عليه

تعليق على مدى الآية كلا بل لا يخافون الآخرة

آيات قرآنية عديدة مما سوف ننوه به في مناسباته وعلى ما ورد في أحاديث عديدة قوية الأسانيد سنوردها في مناسبات آتية. نقول هذا ونحن نعرف أن هناك أحاديث قوية الأسانيد بأن ما احتوته الآية الأولى من سورة القمر من انشقاق القمر بناء على تحدي الكفار قد وقع فعلا. غير أن هناك ما يمكن إيراده في هذا الصدد على ما سوف نذكره في سياق تفسير هذه الآية. تعليق على مدى الآية كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ وبمناسبة هذه الآية في هذه السورة نقول إن الآيات القرآنية المكية التي ينطوي فيها المعنى المقرر في الآية قد تكررت بسبيل تعليل موقف الكفار الجحودي والمناوىء والعدواني والمستكبر والمستهتر والساخر بالوعيد والإنذار الربانيين. من ذلك آية سورة النحل هذه: إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) وآية سورة المؤمنون هذه: وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74) وآية سورة الزمر هذه: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) وآية سورة النجم هذه: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) . والموضوع في أصله متصل بموضوع جحود الكفار للآخرة الذي نبهنا عليه في التعليق على الحياة الأخروية في تفسير سورة الفاتحة. غير أن النقطة الجديرة بالتنبيه في هذا المقام هي ما انطوى في الآية التي نحن في صددها وأمثالها من تلقين جليل وتعليل لموقف الكفار. فالذي لا يخاف الآخرة لا يأبه كثيرا للحق والخير في شتى ساحاتهما ولا يندفع فيهما اندفاعا ذاتيا وجدانيا إذا لم يأمل في مقابلة وجزاء في الدنيا. ولا يتورع عن الإثم والمنكر إذا ما تيقن الخلاص من

تعليق على مدى ما ينطوي في جملة بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة

العقوبة. وفي سورة الأنعام آية داعمة لذلك بأسلوب إيجابي وهي: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92) ومن هذا الباب آية سورة هود هذه: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وهكذا تكون الآيات قد انطوت على تقرير أثر الإيمان بالآخرة في سلوك الناس سلبا وإيجابا. وهو متسق مع ما جاء في تعليقنا السابق وداعم له. وإذا كان من المحتمل أن يكون بعض الناس يقدمون على عمل الخير والامتناع عن الإثم والشرّ بدون إيمان بالله واليوم الآخر فإن أغلب هؤلاء يستهدفون جزاء ما ولو معنويا في الدنيا. فضلا عن أن ذلك الاحتمال يظل بعيدا بالنسبة للكثرة الكاثرة في أغلب المواقف. وإذا كان من المحتمل أن يكون كثير من المؤمنين بالله واليوم الآخر لا يقدمون على الخير ولا يمتنعون عن الإثم إلّا بقوة ما يتحققون من نيله من ثواب وعقاب دنيويين في الدرجة الأولى فإن أمثال هؤلاء لا يمكن أن يوصفوا بصفة الإيمان الصحيح السليم أولا وإن إيمان هؤلاء يظل على كل حال ذا قوة وازعة ورادعة ثانيا. تعليق على مدى ما ينطوي في جملة بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً ويتبادر لنا من هذه الجملة أنها تنطوي على قرينة أو دليل على أن عدد الذين يقرأون ويكتبون من سامعي القرآن كبير. وعلى أن المعتاد عندهم أن يكتب على صحف تطوى وتنشر أي على ورق أو رقوق ناعمة رقيقة. وفي هذا نقض لما في الأذهان من ضعف الثقافة العربية وضيق نطاقها في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيئته «1» .

_ (1) انظر أيضا فصل الحياة العقلية في كتابنا عصر النبي عليه السلام وبيئته قبل البعثة.

سورة المسد

سورة المسد فيها دعاء على أبي لهب وإنذار له ولامرأته بالنار. ورواية سبب نزولها لا تتسق مع رواية تبكير نزولها. ورواية تبكير نزولها أكثر اتساقا مع مضمونها. ولعلها تلهم أن يكون موقف أبي لهب وامرأته من أبكر وأول مواقف الصدّ والمناوأة التي واجهها النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنه كان لهذا الموقف أشد الأثر في نفس النبي وسير الدعوة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المسد (111) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) . (1) تبت: خسرت أو هلكت، والمصدر تبّ وتباب، والكلمة دعاء بالخسران أو الهلاك. (2) الجيد: العنق. (3) مسد: ليف أو حديد أو نار على اختلاف الأقوال. ومما قيل إن المسد نبات ذو ألياف تجدل منه حبال متينة. في آيات السورة دعاء على أبي لهب بالهلاك والخسران، وتقرير بأنه لن يغني عنه ماله وما كسبه شيئا، وأنه سيصلى نارا عظيمة هو وامرأته حمالة الحطب التي سوف يكون في جيدها حبل من مسد، تقاد به.

والروايات مجمعة على أن أبا لهب هذا هو عم النبي صلّى الله عليه وسلّم وأن اسمه عبد العزى وأن امرأته هي أم جميل أخت أبي سفيان «1» والمرجح أن كنية «أبي لهب» هي كنية قرآنية على سبيل الهجو فصارت له علما. ولقد روى الشيخان والترمذي عن ابن عباس قال: «لمّا نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء/ 214] خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى صعد الصفا فهتف يا صباحاه فاجتمعوا إليه فقال أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقيّ؟ قالوا: ما جرّبنا عليك كذبا. قال: فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد. قال أبو لهب تبا لك ما جمعتنا إلّا لهذا، ثم قام فنزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد/ 1] » «2» . وإلى هذا الحديث الذي أورده أيضا الطبري والمفسرون الآخرون «3» رووا روايات أخرى كسبب نزول السورة منها «أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [214] جمع أقاربه فدعاهم إلى الإسلام فقال له أبو لهب تبا لك سائر اليوم ألهذا دعوتنا؟» ومنها: «أن أبا لهب قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ماذا أعطى يا محمد إن آمنت بك؟ قال: كما يعطى المسلمون. فقال: ما لي عليهم فضل. قال: وأيّ فضل تبتغي؟ قال: تبا لهذا من دين أن أكون أنا وهؤلاء سواء فأنزل الله سورة تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [1] » . ونلحظ في صدد الرواية الأولى والثانية أنهما تقتضيان أن تكون سورة المسد نزلت بعد سورة الشعراء التي منها آية: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ مع أن الروايات مجمعة تقريبا على وضع سورة المسد كسادس سورة أو خامس سورة في ترتيب النزول بينما تأتي سورة الشعراء كرابعة وأربعين أو خامسة وأربعين في هذا

_ (1) انظر تفسير السورة في تفسير ابن كثير والبغوي وغيرهما. (2) التاج ج 4 ص 268. (3) انظر تفسير النيسابوري والطبرسي وابن كثير والبغوي والخازن أيضا.

الترتيب «1» أي أنها نزلت بعد سورة المسد بثلاث سنين على الأقل. وروح آية وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ تلهم أنها لم تنزل مبكرة «2» . لذلك فنحن نتوقف في الروايات، وإشراك امرأة أبي لهب مما يقوي صواب توقفنا إن شاء الله. ولقد ذكرت الروايات «3» أن إحدى بنات النبي كانت مخطوبة أو زوجة لعتبة بن أبي لهب وأن بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم كان مجاورا لبيت أبي لهب. فمما يمكن أن يرد على البال بقوة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد اتصل بعمه عقب نزول الوحي عليه في أول من اتصل بهم ودعاه في أول من دعا. فالرجل عمه وجار بيته وصهره، ولعله كان يكثر التردد على بيته. ومن المعقول أن يفاتحه قبل الناس وأن يفضي إليه بأمره وأن يطلب منه التصديق والتعضيد ولعله كان واثقا كل الثقة بأنه سيقابل بالحسنى والإجابة، وبأنه واجد في عمه العضد القوي والسند الأمين. فلم يلبث أن خاب أمله فقوبل أسوأ مقابلة، وكان من عمه وزوجته أشد موقف في الأذى والعناد والتعطيل، والقطيعة حتى لقد روي «4» أن أبا لهب كان يسير وراء النبي صلّى الله عليه وسلّم فكلما رآه يكلم أحدا جاء إليه وقال له: أنا عمه فلا تصدقه فإنه ذاهب العقل، وأن زوجته كانت تضع الأقذار أمام بيته وتشيع عنه الإشاعات السيئة. وأن الزوجين حملا ابنهما على تطليق بنت النبي صلّى الله عليه وسلّم. وعمومة أبي لهب للنبي صلّى الله عليه وسلّم مما يزيد في شدة موقفه في نفس النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي الغرباء كما هو بدهي. ونعت امرأة أبي لهب بحمالة الحطب يلهم أنها كانت ذات تأثير قوي في الموقف فيزداد شدة ولعلها كانت تقوي زوجها وتنفخ في روحه كلما أنست فيه جنوحا إلى الفتور والتروي، بسبب ما كان

_ (1) انظر تراتيب النزول المروية في كتابنا سيرة الرسول ج 1 ص 134- 135 والإتقان في علوم القرآن ج 1، ص 26. (2) يذكر الطبري في تاريخه ج 2 ص 61. (3) انظر مجمع الزوائد، مكتبة القدسي ج 9 ص 213- 214. (4) انظر سيرة ابن هشام ج 2 ص 32 مطبعة حجازي وتفسير السورة في تفسير ابن كثير والبغوي والطبري والنيسابوري وابن عباس، والجزء والصحف المذكورة آنفا من مجمع الزوائد. [.....] الجزء الأول من التفسير الحديث 32

يربطه بالنبي صلّى الله عليه وسلّم من روابط العصبية التي كانت تقاليدها شديدة الرسوخ في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فكان تأثيرها عاملا قويا في شذوذ هذا العم عن سائر أعمامه وسائر أفراد عشيرته الذين كانوا يحمون النبي صلّى الله عليه وسلّم وينصرونه بقوة العصبية برغم أن أكثرهم ظلوا في العهد المكي نائين عن اعتناق الإسلام. وإذا صحت رواية كون أم جميل هي أخت أبي سفيان- وليس هناك ما ينفيها- فلا يبعد أن يكون موقفها متأثرا بموقف أخيها الذي كان من أبرز الزعماء وذوي الشأن في قريش والذي كانت لأسرته المكانة البارزة في مكة، والذي ظل هو وأسرته يناوئون النبي صلّى الله عليه وسلّم نحو عشرين سنة أي إلى فتح مكة في العام الثامن من الهجرة مناوأة عنيفة، وقد قاد زعيمهم أبو سفيان الجيوش التي غزت المدينة دار هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم مرتين. ولا يبعد أن تكون فكرة النضال الأسروي بين الأسرة الأموية صاحبة الشأن والبروز في مكة والأسرة الهاشمية التي ترشحت للبروز والخلود بدعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم وحركته حافزا أو مقويا لموقف أبي سفيان المناوىء من النبي صلّى الله عليه وسلّم وموقف أخته زوجة أبي لهب منه أيضا. وأبو لهب وامرأته هما الشخصان الوحيدان اللذان اختصهما القرآن بالذكر وسوء الدعاء وبصراحة، وسجل عليهما اللعنة الخالدة على مرّ الدهور. ولا شك في أن هذا يدل على أن موقفهما كان شديد الأثر في نفس النبي صلّى الله عليه وسلّم وسير دعوته وخاصة في أول أمرها فاستحقا من أجله هذا التخصيص. وإننا لنرجو أن تكون هذه البيانات والتوجيهات هي المتسقة مع حقيقة الموقف لأنها هي المتسقة مع روح الآيات ومضمونها وإشراك زوجة أبي لهب ثم مع رواية تبكير نزول السورة.

سورة التكوير

سورة التكوير السورة فصلان، الأول في صدد يوم القيامة وهول أعلامه وحساب الناس فيه ومصائرهم، والثاني في صدد توكيد صدق ما أخبر به النبي صلّى الله عليه وسلّم من صلته بوحي الله وملكه ونفي الجنون عنه وصلة الشيطان به. والفصلان على اختلاف موضوعيهما غير منفصلين عن بعضهما، والمرجح أنهما نزلا متتابعين فوضع الواحد بعد الآخر. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14) . (1) كورت: سترت أو لفّت. والمقصود إذا ذهب ضوءها وانمحق على الأرجح. (2) انكدرت: اغبرّت وانطفأت أو تساقطت على اختلاف الأقوال. (3) العشار عطلت: العشار هي النياق وقيل الغمام وتعطيلها بمعنى توقفها عن طبيعتها ومهمتها. (4) حشرت: جمعت من كل ناحية.

(5) سجرت: تفجرت أو أفرغت أو التهبت على اختلاف الأقوال. (6) النفوس زوجت: الناس صنفوا حسب أعمالهم. (7) الموءودة: الطفلة التي تدفن في التراب وهي في حالة الحياة بتعمد قتلها. (8) كشطت: تمزقت أو تشققت أو كشفت أو أزيلت على اختلاف الأقوال. (9) سعرت: أو قدت أو توقدت بشدة. (10) أزلفت: أدنيت أو هيئت لأصحابها «1» . تشير الآيات إلى قيام القيامة أو اليوم الآخر وما يكون حينذاك من انقلاب وتبدل في نواميس الكون كانمحاق ضوء الشمس وانطفاء النجوم وتسيير الجبال وجمع الوحوش وتعطيل العشار عن طبيعتها وتفجير البحار واشتداد حرارة المياه والتهابها، وتشقق السماء أو انكشافها، وتصنيف الناس حسب أعمالهم، ونشر كتب الأعمال وتأجيج النار وتهيئة الجنة، وحينئذ يرى كل امرئ نتيجة عمله وعاقبة ما قدم بين يديه، ومن جملة ما يسأل الناس عنه وأد بناتهم بدون ذنب. والآيات كما يبدو تتضمن توكيدا قويا بمجيء يوم القيامة وأهواله وأماراته التي تسبقه أو ترافقه ومحاسبة الناس على أعمالهم في الدنيا وتوفية كل منهم جزاءه بالجنة والنار. ولقد روى الترمذي في سياق هذه السورة حديثا عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير/ 1] وإِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار/ 1] وإِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ» [الانشقاق/ 1] » «2» ومطلع السورتين الثانية والثالثة المذكورتين في الحديث مشابه لمطلع هذه السورة في وصف مشاهد القيامة وأهوالها.

_ (1) انظر معاني الكلمات في تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والنيسابوري والزمخشري والطبرسي. (2) التاج ج 4 ص 252.

تعليق على جملة وإذا الصحف نشرت

وما ذكر من الانقلاب الذي يطرأ على نواميس الكون هو على ما يتبادر وبالإضافة إلى حقيقته الإيمانية ودخوله في نطاق قدرة الله بسبيل تصوير هول يوم القيامة وأثره في مشاهد الكون العظيمة التي تملأ الأذهان استهدافا لإثارة خوف السامعين وحملهم على الارعواء. وليس من طائل في التخمين والتزيّد في مظاهر هذا الانقلاب وماهياته المادية. وليس ذلك من أغراض القرآن على ما شرحناه في مناسبة سابقة «1» . وعادة دفن البنات أحياء وكراهة ولادتهن من صور حياة العرب قبل البعثة وعاداتهم. وقد ذكر هذا في أكثر من موضع في القرآن، ومن ذلك في آيات النحل هذه: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) [58- 59] . وأسلوب الآية هنا أسلوب تنديد بهذه العادة وإنذار بشدة عقوبتها عند الله لما فيها من قسوة بالغة وجرأة على إزهاق روح بريئة. وتخصيص وأد البنات بالذكر لا يعني بطبيعة الحال أن هذا هو وحده الذي يسأل الناس عنه. وإنما يمكن أن يلمح منه قصد تشديد النكير على هذه العادة القاسية البشعة التي كان الذين يمارسونها يظنون أنه ليس عليهم فيها حرج ولا إثم. تعليق على جملة وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ وبمناسبة آية وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ نقول إن هذا المعنى قد تكرر بأساليب متنوعة في القرآن. وقد ذكر في بعض الآيات أن لله على الناس مراقبين يكتبون ما يفعلونه. وأن ما يكتبونه هو صحف أعمال الناس التي تنشر يوم القيامة وتوزع على أصحابها، وتعطى للناجين بأيمانهم وللخاسرين بشمالهم. ومما جاء في القرآن في هذا آية سورة الزخرف هذه: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ

_ (1) انظر كتابنا القرآن المجيد في مقدمة هذا التفسير.

[سورة التكوير (81) : الآيات 15 إلى 29]

يَكْتُبُونَ (80) وآيات سورة ق هذه: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وآيات سورة الجاثية هذه: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) ومنها آيات سورة الحاقة التي أوردناها في سياق تفسير سورة المدثر. ولما كان الله عز وجل غنيا عن كل ذلك لا يعزب عنه شيء فالذي يتبادر من الحكمة الربانية لما ذكرته الآيات أنه بسبيل الإنذار والترهيب والوعيد بأسلوب من الأساليب التي اعتادها الناس في الدنيا من تسجيل الأحداث وإبراز التسجيلات في مقام الإثبات والإفحام. ولقد نبهنا قبل إلى ما اقتضته حكمة التنزيل من وصف المشاهد الأخروية بأوصاف مستمدة من مألوفات الحياة الدنيا في التعليق على الحياة الأخروية في سورة الفاتحة. وهذا من ذاك، هذا مع تقرير وجوب الإيمان بما ذكرته الآيات كحقيقة إيمانية غيبية، وبأنه في نطاق قدرة الله تعالى وحكمته. [سورة التكوير (81) : الآيات 15 الى 29] فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29) . (1) الخنس: جمع خانس من خنس الشيء إذا سكن واستخفى. والمراد هنا النجوم التي لا تظهر. وقيل النجوم الرواجع التي تسير في اتجاه فتختفي ثم تظهر. (2) الكنس: جمع كانس من كنس الشيء إذا توارى وانحجب. والمراد هنا النجوم التي تنحجب في النهار بضوء الشمس وتظهر في الليل. (3) عسعس: أدبر أو انقضى.

(4) تنفس الصبح: بمعنى طلوع الفجر. (5) الغيب: بمعنى وحي الله الذي يأتي من الغيب والخفاء. (6) ضنين: ممسك، وقرئت ظنين. ومعناها المتهم في أمانته والمراد هنا إخفاء شيء من الرسالة التي أوحيت للنبي صلّى الله عليه وسلّم أو خيانتها. (7) الشيطان: العاتي القوي من الإنس والجن. (8) رجيم: مرجوم ومطرود من رحمة الله «1» . وفي هذه الآيات قسم بالمشاهد الكونية المذكورة وحركاتها بأن الذي يبلغ وحي الله هو رسول كريم أمين على ما ينقل قوي على حمل الأمانة حظي عند الله، وبأن النبي صلّى الله عليه وسلّم ليس مجنونا وبأنه قد رأى ملك الله في أفق السماء، وبأنه صادق فيما يقول غير متهم في أمانته، وغير مخف شيئا مما رآه وسمعه وعرفه، وبأن ما يبلغه ليس من تخليط الشيطان الرجيم وأقواله. وسألت إحدى الآيات السامعين أين يذهبون في أمر النبي وماذا يظنون؟ والسؤال ينطوي على تنديد بالمكذبين والمترددين في تصديق ما أخبر به النبي صلّى الله عليه وسلّم وبأوهامهم وتفسيراتهم الخاطئة لما يخبر به من المشاهد الروحانية. ونبهت إحدى الآيات على أن ما يبلغه إنما هو تذكرة لهم وموعظة ليرى من شاء الحق فيتبعه ويستقيم عليه فيكون قد اهتدى بهدى الله ومشيئته التي تناط بها مشيئة الناس. والآيات فصل مستقل الموضوع عن سابقاتها، غير أن الارتباط بينها وبين هذه السابقات قائم. فالأولى تخبر بيوم القيامة وأهواله ونتائجه وتنذر الناس بعواقب أعمالهم، والثانية تؤكد صدق الأخبار والإنذار وترد على الكفار ما يقولونه في صددهما وما ينسبونه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم من تخليط الشياطين عليه، والمرجح أن الفصلين نزلا متتابعين إن لم يكونا قد نزلا معا. وقد ذكر المفسرون «2» عدة وجوه في صدد حرف «لا» الذي سبق فعل القسم

_ (1) انظر تفسير الكلمات في كتب التفسير المذكورة آنفا. (2) انظر تفسير الآيات في تفسير الآلوسي والنسفي وانظر تفسير سورة الواقعة في تفسير الطبري والزمخشري والبغوي.

فقالوا إنه قد يكون مختصرا من «ألا» التنبيهية أو قد يكون حرف ابتداء فقط أي لأقسم بمعنى إني لأقسم، أو قد يكون حرف نفي، ليفيد أن الأمر المذكور صحيح وواضح لا يحتاج إلى القسم، أو قد يكون زائدا وليس حرف نفي. وقد أسهبنا في ذكر الوجوه لأن هذا قد تكرر أكثر من مرة في معرض التوكيد والقسم. ومهما يكن من أمر فالجملة قسمية على ما تلهمه روح الآيات. ولا شك أن هذا من الأساليب التي كانت مستعملة في كلام العرب. وفي سورة الواقعة هاتان الآيتان: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) ، وفيهما صراحة بأن الجملة قسمية. ولم نطلع على رواية تذكر سبب نزول هذه الآيات. والمتبادر أنها نزلت ردّا على أقوال تقولها الكفار والجاحدون. وقد انطوت على ردّ قوي يوحي بصدق ما أخبر به النبي صلّى الله عليه وسلّم وعمق إيمانه به واستناده فيه على الحقيقة الواقعة التي أدركها بالقوة التي اختصه الله بها، ويقضي على أي شك في نفس كل امرئ حسنت نيته ورغب عن المماراة بالباطل. ونفي الآيات الجنون عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وصلة الشيطان بما يبلغه دليل على أن المكذبين كانوا يقولون إن ما يخبر به هو من تلقينات الشيطان. ويقصدون بذلك الجن على الأرجح لأن العرب كانوا يعتقدون أن شياطين الجن يوحون إلى الشعراء والكهان والسحرة. وقد يأتي على البال من هذا أن المكذبين كانوا حينما ينعتون النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمجنون، ويقولون إن به جنّة على ما حكته آيات عديدة منها آية سورة المؤمنون هذه: أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) ، كانوا أحيانا يعنون أن له شيطانا من الجن يتصل به ويلقنه ما يقول على نحوما كانوا يعتقدونه. والراجح أنهم نعتوه بالشاعر والكاهن والساحر بناء على هذا الاعتقاد. وأكثر المفسرين «1» يصرفون تعبير رَسُولٌ كَرِيمٌ إلى الملك الذي كان يبلغ

_ (1) انظر تفسير السورة في تفسير الطبري وابن كثير والنيسابوري والبغوي والزمخشري والطبرسي.

تعليق على العرش

النبي صلّى الله عليه وسلّم وحي الله وقرآنه. والضمير في الآية [23] يدعم هذا القول. ولقد ورد في الحديث المروي عن جابر بن عبد الله والذي ذكرناه في سياق تفسير سورة المدثر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد رأى الملك في أفق السماء. فالآية هنا على الأرجح في معرض التوكيد لهذه الرؤية الروحانية التي كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يذكرها فكان المؤمنون يصدقونه والجاحدون يكذبونه. وتبكير نزول السورة يؤيد هذا، حيث لم يكن قد مضى وقت طويل على هذه الرؤية. والتوكيد والنفي والتنديد في الآيات قوي يبعث اليقين في نفس من لا يتعمد العناد والمكابرة في صدق هذه المشاهدة، ويجلّي صورة رائعة لصميمية النبي صلّى الله عليه وسلّم ويقينه بصحة ما رأى، ويؤيد صحة الحديث. وعلى المسلم أن يؤمن بذلك ويقف عنده ولا يزيد في الظن والتخمين في صدد الماهية والكنه. فلا طائل من وراء ذلك وهما سرّ من واجب الوجوب وسرّ النبوة والوحي الذي تقصر عنه عقول الناس. تعليق على العرش وكلمة العرش تأتي هنا لأول مرة ثم تكررت كثيرا. وقد جاءت في سياق ذكر ملكة سبأ في آية سورة النمل هذه: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) ، وجاءت جمعا في سياق ذكر القرى التي دمرها الله في آية سورة الحج هذه: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) ، وأكثر ما جاءت منسوبة إلى الله بمعنى ربّ العرش وصاحبه كما جاءت في هذه السورة أو بصيغة استواء الله على العرش كما جاء في آية سورة الأعراف هذه: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54) ، وذكر في آية في سورة هود هكذا: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [7] ، وفي آية في سورة

الزمر هكذا: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [75] ، وفي آية في سورة غافر هكذا: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [7] . وفي كتب التفسير والحديث أحاديث وروايات عديدة ذكر فيها العرش، منها حديث رواه الترمذي عن أبي رزين جاء فيه: «قلت يا رسول الله أين كان ربّنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء وخلق عرشه على الماء» «1» . وروى الإمام أحمد هذا الحديث بمغايرة يسيرة حيث جاء فيه بعد: «وما فوقه هواء» ، ثمّ خلق العرش بعد ذلك» ، ومنها حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: «بينما نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب فقال هل تدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا العنان هذه روايا الأرض يسوق الله تعالى إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه. هل تدرون ما فوقكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإنّها سقف محفوظ وموج مكفوف. قال: هل تدرون كم بينكم وبينها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: بينكم وبينها مسيرة خمسمائة سنة. ثم قال: هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإنّ فوق ذلك سماءين ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عدّد سبع سموات ما بين كلّ سماءين كما بين السماء والأرض. ثم قال: هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء بعد ما به مثل ما بين السماءين. ثم قال: هل تدرون ما الذي تحتكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإنها الأرض. ثم قال: هل تدرون ما الذي تحت ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإن تحتها الأرض الأخرى مسيرة خمسمائة سنة حتى عدّد سبع أرضين بين كلّ أرضين مسيرة خمسمائة سنة ثم قال والذي نفس محمد بيده لو أنكم دلّيتم رجلا بحبل إلى الأرض السّفلى لهبط على الله ثم قرأ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ

_ (1) التاج ج 4 ص 131.

عَلِيمٌ» «1» [الحديد: 3] . ومنها حديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة جاء فيه: «ما السموات السبع وما فيهنّ في الكرسي إلّا كحلقة ملقاة بأرض فلاة. والكرسي في العرش المجيد كتلك الحلقة في تلك الفلاة، لا يقدر قدره إلّا الله عز وجل» «2» . ومنها رواية معزوة إلى (بعض السلف) جاء فيها: «إن بعد ما بين العرش إلى الأرض مسيرة خمسين ألف سنة. وبعد ما بين قطريه مسيرة خمسين ألف سنة وهو من ياقوتة حمراء» «3» . ومنها حديث رواه أبو داود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «شأن الله أعظم من ذلك وإنّ عرشه على سمواته هكذا وأشار بيده مثل القبة» «4» . ومنها رواية عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده جاء فيها: «إن ما بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية خفقان الطير المسرع ثلاثين ألف عام، والعرش يكسى كلّ يوم سبعين ألف لون من النور. لا يستطيع أن ينظر إليه خلق من خلق الله. والأشياء كلّها في العرش كحلقة ملقاة في فلاة» «5» . ورواية عن مجاهد جاء فيها: «إنّ بين السماء السابعة وبين العرش سبعين ألف حجاب. حجاب من نور وحجاب من ظلمة. وحجاب من نور وحجاب من ظلمة» «6» والروايات الثلاث الأخيرة لم ترد كذلك في كتب الأحاديث الصحيحة. وهناك قول معزو إلى بعض السلف بدون أسماء جاء فيه: «إنّ مسافة ما بين قطري العرش من جانب إلى جانب مسيرة خمسين ألف سنة وارتفاعه من الأرض

_ (1) التاج الجامع ج 4 ص 226- 227، وإذا صح الحديث الثاني فالواجب أن يحمل تعبير (هبط على الله) على غير المعنى الجسماني المادي المتبادر منها أو على معنى الوجود الشامل والإحاطة الكاملة لأن الله عز وجل منزّه عن ذلك. (2) تفسير ابن كثير للآية [7] من سورة هود. (3) تفسير المفسر نفسه للآية الثانية من سورة الرعد. (4) تفسير المفسر نفسه للآية [86] من سورة المؤمنون. (5) تفسير البغوي للآية السابقة من سورة غافر. (6) المصدر نفسه.

السابعة مسيرة خمسين ألف سنة» «1» . وقول معزو إلى كعب الأحبار جاء فيه: «إن السموات والأرض في العرش كالقنديل المعلّق بين السماء والأرض» «2» . وواضح أنه ليس في الآيات القرآنية ولا في الأحاديث النبوية الصحيحة وغيرها شيء صريح عن ماهية العرش بل باستثناء الرواية التي يرويها ابن كثير عن بعض السلف بأنه من ياقوتة حمراء والتي تتحمل التوقف ليس في الروايات الأخرى أيضا شيء صريح عن ماهيته. ومهما يكن من أمر فإن من واجب المسلم الإيمان بما جاء في القرآن والأحاديث الصحيحة عن العرش والوقوف عند حدّ ذلك بدون تزيد مع الإيمان بقدرة الله تعالى على كل شيء. وبأن ذكر العرش بالأسلوب الذي ذكر به لا بد من أن يكون له حكمة سامية. ولما كانت الآيات والأحاديث التي ورد فيها ذكر عرش الله قد وردت في صدد بيان عظمة الله عز وجل وعلو شأنه وشمول ربوبيته وسعة كونه وبديع خلقه ونفوذ أمره في جميع الكائنات خلقا وتدبيرا وتسخيرا فإن هذا قد يكون من الحكمة التي انطوت في الآيات والأحاديث. ولا سيما أن الله عز وجل ليس مادة يمكن أن تحدّ بمكان أو صورة أو تحتاج إلى عرش مادي يجلس عليه أو تكون فوقه. وفي القرآن آيات نسبت إلى الله عز وجل اليد واللسان والروح والنزول والمجيء والقبضة والوجه مما هو منزّه سبحانه عن مفهوماتها ومما هو بسبيل التقريب والتشبيه والمجاز. وقد يكون هذا من هذا الباب والله تعالى أعلم. هذا، وهناك أحاديث وأقوال في صدد استواء الله تعالى على العرش وحمل الملائكة للعرش نرجىء إيرادها والتعليق عليها إلى مناسباتها.

_ (1) تفسير ابن كثير للآية [86] من سورة المؤمنون وهناك روايات أخرى أوردها المفسران في سياق سور أخرى فاكتفينا بما أوردناه. [.....] (2) المصدر نفسه.

تعليق على كلمة الشيطان

تعليق على كلمة الشيطان وبمناسبة ورود كلمة الشيطان لأول مرة نقول إن المفسرين «1» قالوا إن اشتقاق الكلمة عربي من شطن بمعنى بعد أو شاط بمعنى بطل وفسد، وإنها نعت لكل داهية قوي الحيلة والبغي. وقد خطر لبالنا أن يكون بينها وبين شط بمعنى جار وبغى صلة، ومنه ما جاء في آية ص هذه: فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) ، وفعلان من الصيغ العربية التي تتضمن معنى الوصف والمبالغة. والمتبادر أن شيطان من هذا الباب اشتقت من جذر من الجذور الثلاثة. والكلمة أكثر ما وردت في القرآن مرادفة لإبليس ومفهومه من إغواء الناس، كما جاء في آية سورة النساء هذه: الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76) ، وفي آيات سورة البقرة هذه: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34) وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36) ، وقد وردت مرات عديدة للتعبير عن جبابرة الجن ومرة في شمولها لجبابرة الإنس كما جاء في آية سورة الأنعام هذه: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112) . وقد قال بعض الباحثين إنها دخيلة على العربية من كلمة سلطان أو جطان العبرية وإن مفهومها المرادف لإبليس دخيل أيضا. ومع أن هذا المفهوم لا يبعد أن يكون منقولا إلى العرب من الكتابيين الذين وردت كلمة الشيطان في معرض إغواء الناس والوسوسة لهم في ما كان وما يزال متداولا من أسفار وقراطيس مرات عديدة فإن

_ (1) اقرأ تفسير الفاتحة في تفسير الطبرسي «مجمع البيان» وانظر مادة شط في أساس البلاغة للزمخشري.

وجود جذر عربي فصيح للكلمة لا يبرر إبعادها عن الأصالة العربية الفصحى. على أن هذا لا يمنع القول باحتمال وحدة جذر الكلمة في العربية والعبرية أيضا لأنهما شقيقتان ترجعان إلى أصل واحد. ومهما يكن من أمر فإن من الحق أن يقال إن الكلمة بقالبها الذي وردت به في القرآن قد استعملها العرب قبل نزولها وكانوا يفهمون كل الدلالات التي تدل عليها الآيات المتنوعة التي وردت فيها، وإنها تعد من اللسان العربي المبين ما دام القرآن يقرر أنه نزل بهذا اللسان. وهي هنا على كل حال تعني جبابرة الجن الذين كانوا يتنزلون على الشعراء والكهان والسحرة على ما كان يعتقده العرب. ونعت الشيطان بالرجيم يدل على أنه كان للشيطان في أذهان سامعي القرآن صورة بغيضة. وفي سورة الصافات هذه الآية من آيات فيها وصف لشجرة الزقوم الأخروية: طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) حيث ينطوي في هذا أنه كان للشياطين في أذهانهم صورة مخيفة أيضا. وأسلوب مطلع السورة مما تكرر في مطالع عديدة أخرى بحيث يسوغ أن يقال إنه أسلوب من أساليب النظم القرآني في مطالع السور. ولقد علقنا على فقرة تشبه الآية الأخيرة في صدد إناطة مشيئة الناس بمشيئة الله في سياق تفسير سورة المدثر. وما قلناه هناك يصح هنا بتمامه فنكتفي بالإشارة دون الإعادة.

سورة الأعلى

سورة الأعلى تتضمن السورة أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بتقديس اسم الله، وإيذانا له بأن الله ميسره في طريق اليسر، وأمره بالتذكير وتبشير المستجيبين بالفلاح وإنذار المتمردين بالنار. وأسلوبها يلهم أنها بسبيل عرض عام للدعوة وأهدافها ومهمة النبي صلّى الله عليه وسلّم. وليس فيها مواقف ومشاهد جدلية، ولعلها نزلت بعد الفاتحة. أو نزلت قبل نزول ما تضمن حكاية مواقف الكفار وأقوالهم والرد عليهم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 13] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13) . (1) التسبيح: التنزيه والتقديس عن كل ما لا يليق. (2) سوّى: أتقن وجعل الشيء سويّا تاما. (3) قدّر: حسب ورتب. (4) غثاء: النبات اليابس المتكسر الذي تحركه الرياح وتجره المياه. (5) أحوى: أسود أو ضارب للسواد. (6) اليسرى: مؤنث الأيسر أي الأسهل، من اليسر.

تنبيه على ما أسبغه القرآن والسنة النبوية على التسبيح من حفاوة

الخطاب في الآيات موجه للنبي صلّى الله عليه وسلّم وقد تضمنت: 1- أمره بتقديس اسم ربّه الأعلى الذي يستحق كل تقديس وتنزيه. فهو الذي خلق كل شيء وسوّاه على أتم وجه. وهو الذي رتب وحسب في الخلق كل أمر. وأودع في خلقه قابلية الهدى. وهو الذي أنبت النبات ثم جعله جافا متكسرا أسود اللون بالناموس الذي أودعه في الكون بعد ما كان أخضر لينا. 2- وتنبيها له بأنه سيوحى إليه بالقرآن ويعلمه إياه، فلا ينسى منه شيئا إلّا ما شاء الله فهو العليم بكل شيء ظاهر وخفي وبمقتضيات كل حال، وبأنه سييسره في أسهل السبل وأيسرها، وبأن عليه أن يدعو الناس إليها ويذكرهم لعل الذكرى تنفعهم وهذه مهمته. 3- وتقريرا بأن الناس إزاء الذكرى فريقان: تقي صالح وشقي آثم. فالأول هو الذي يخشى العاقبة فيتقبل الدعوة وينتفع بالذكرى، والثاني هو الذي لا يخشى العاقبة فيعرض عن الدعوة والذكرى، فيكون جزاؤه النار الهائلة التي لا يموت فيها فيستريح، ولا يأمل الخلاص منها والحياة الآمنة المطمئنة. وليس في الآيات إشارة إلى موقف خاص لمكذبين ومناوئين، وإنما هي بسبيل عرض عام للدعوة ومهمة النبي صلّى الله عليه وسلّم بأسلوب رصين وهادىء معا. تنبيه على ما أسبغه القرآن والسنّة النبوية على التسبيح من حفاوة وبمناسبة الأمر بتسبيح الله تعالى في مفتتح السورة نقول إن الأوامر القرآنية للنبي صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين بتسبيح الله تعالى قد تكررت كثيرا. منها ما فيه أمر بالتسبيح في أوقات معينة، ومنها ما فيه أمر بالتسبيح مطلقا أو في كل وقت. ومنها ما فيه أمر بالتسبيح باسم الله أو التسبيح بحمد الله. ومن السنن النبوية الصحيحة المعمول بها بدون انقطاع صيغة (سبحان الله العظيم) في كل ركوع من كل صلاة وصيغة (سبحان ربي الأعلى) في كل سجود من كل صلاة. حيث تتساوق السنة النبوية مع الأوامر القرآنية.

والتسبيح هو تقديس وتنزيه وذكر لله عز وجل وثناء عليه بما هو أهله. بحيث يسوغ القول إن الأوامر القرآنية والنبوية بمواصلة تسبيح الله تعالى قد هدفت إلى جعل المسلم يديم ذكر الله في كل وقت مقدسا منزها مثنيا حامدا مستعيذا. ولا شك في أن المسلم الذي يداوم على ذلك بصدق وقلب وإيمان يظل مستشعرا بالله عز وجل مراقبا جانبه في كل ما يفعل أو يريد أن يفعل فيجعله ذلك حريصا على تنفيذ أوامره واجتناب نواهيه. ويكون له بذلك وسيلة عظمى من وسائل التربية الروحية والأخلاقية والاجتماعية. ولقد أثرت أحاديث نبوية عديدة فيها صيغ التسبيح بسبيل تعليم المسلمين وبيان لما في التسبيح من ثواب وقربى عند الله عز وجل. فمن ذلك ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهمّ ربّنا وبحمدك اللهمّ اغفر لي» «1» وما رواه مسلم وأبو داود والنسائي عنها أيضا: «أنه كان يقول في ركوعه وسجوده سبّوح قدّوس ربّ الملائكة والروح» «2» . وما رواه الترمذي وأبو داود عن عبد الله قال: «قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا ركع أحدكم فقال في ركوعه سبحان ربي العظيم ثلاث مرات فقد تمّ ركوعه وذلك أدناه وإذا سجد فقال في سجوده سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات فقد تمّ سجوده وذلك أدناه» «3» وما رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي عن جويرية: «أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خرج من عندها بكرة حين صلّى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال ما زلت على الحال التي فارقتك عليها قالت نعم قال لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهنّ: سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته» «4» . وما رواه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة قال: «قال

_ (1) انظر التاج الجامع، ج 1 ص 169. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه. (4) التاج ج 5 ص 92 و 96. الجزء الأول من التفسير الحديث 33

التلقين المنطوي في الآيتين سيذكر من يخشى (10) ويتجنبها الأشقى (11)

النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مئة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلّا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه» «1» . وما رواه أبو داود: «كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يعلّم بعض بناته فيقول قولي حين تصبحين سبحان الله وبحمده ولا قوة إلّا به، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن أعلم أن الله على كلّ شيء قدير وأنّ الله قد أحاط بكلّ شيء علما، فإنه من قالهنّ حين يصبح حفظ حتى يمسي ومن قالهنّ حين يمسي حفظ حتى يصبح» «2» . وما رواه أبو داود كذلك عن ابن عباس قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم من قال حين يصبح فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ إلى تُخْرَجُونَ «3» أدرك ما فاته في يومه ذلك ومن قالهنّ حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته» «4» . ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن الانتفاع بالتسبيح رهن بالإخلاص فيه وعدم اقتصاره على الحركة اللسانية التي لا يستشعر صاحبها بما فيه من تذكير وتنبيه وحافز على مراقبة الله عز وجل وتقواه. والله أعلم. التلقين المنطوي في الآيتين سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) ولقد احتوت الآيتان [10- 11] تلقينا جليلا مستمدا من الوصف الذي وصف به الفريقين اللذين أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بتذكيرهما ودعوتهما. فالذي يعرض عن دعوة الحق هو شقي بطبعه يصدر عن نية خبيثة وطوية فاسدة وخلق سيء بعكس الذي يتأثر بدعوة الحق ويستجيب إليها فإنه يصدر عن نية حسنة وطوية سليمة وخلق

_ (1) المصدر السابق. (2) التاج ج 5 ص 99. (3) المقصود هو آيات سورة الروم هذه: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19) . (4) التاج ج 5 ص 99.

تعليق على جملة سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله ومسألة جواز النسيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم

فاضل ويخشى العاقبة ويسارع إلى رضاء الله. وينطوي في هذا تقرير كون الاستجابة والإعراض عملين اختياريين يقدم من يقدم عليهما بدافع من عقله وطبعه وخلقه وطويته. وفي الآية [3] تأييد لهذا التقرير حيث تقرر أن الله قد أودع في الناس قابلية الهدى والسير في طريق الحق والخير والصواب. فمن لم ينتفع بها فيكون هو الشقي الذي اختار لنفسه طريق الضلال المؤدية إلى الهلاك والخسران والمتبادر أن هذا مبدأ من المبادئ المحكمة التي نوهنا بها في سياق تفسير سورة المدثر، والتي ينبغي النظر في إشكالات بعض الآيات والعبارات القرآنية في ضوئها. تعليق على جملة سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ ومسألة جواز النسيان على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتعليقا على هذه الجملة نقول إن في القرآن والحديث ما يسيغ القول بجواز النسيان على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. من ذلك آية سورة الكهف هذه: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24) وقد روي أن الآيات نزلت لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم وعد بالإجابة على أمر دون أن يقول إن شاء الله على ما سوف نشرحه في مناسبتها. ومن ذلك آية سورة الأنعام هذه: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) والنبي صلّى الله عليه وسلّم داخل في مدى التعليم القرآني المنطوي في آية البقرة هذه: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا [286] على ما يلهمه سياقها. ومن الحديث ما رواه الخمسة عن عبد الله قال: «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلّى الظهر خمسا فقيل له أزيد في الصلاة فقال وما ذاك قال صلّيت خمسا فسجد سجدتين بعد ما سلّم» . وفي رواية قال: «أنا بشر مثلكم أذكر كما تذكرون وأنسى

تعليق على وصف الأعلى

كما تنسون ثم سجد سجدتي السّهو» «1» . غير أن الجملة كما يتبادر لنا توجب على المسلم أن يعتقد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يمكن أن ينسى تبليغ شيء من القرآن الذي يوحي الله به إليه إلّا ما شاء الله أن ينساه. وتكون هذه في الحالة من نوع النسخ القرآني على ما سوف نشرحه في سياق تفسير إحدى آيات سورة النحل لأن ذلك أكثر ملاءمة والله تعالى أعلم. تعليق على وصف الْأَعْلَى ولقد استنبط بعض أصحاب المذاهب الكلامية من وصف (الأعلى) الذي وصف به الله عز وجل أنه سبحانه وتعالى في السماء. ونقول تعليقا على ذلك أن الله تعالى منزّه عن الجسمانية والجهة وإن في السماء. ونقول تعليقا على ذلك أن الله تعالى منزّه عن الجسمانية والجهة وإن في القرآن آيات عديدة تذكر أنه في السماء إله وفي الأرض إله وأنه ربّ السّموات وربّ الأرض مثل آيات سورة الزخرف هذه: سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) والمتبادر أن وصفه بالأعلى يهدف إلى تقرير وصفه بالعلوّ عن كل شيء الذي يدانيه في عظمته وقوته وتساميه شيء. ولقد روى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر الجهني قال: «لما نزلت سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اجعلوها في سجودكم» «2» فجرى المسلمون من لدن النبي صلّى الله عليه وسلّم بدون انقطاع على ذكر هذه الصيغة مرات في كل سجدة يسجدونها مما فيه معنى لطيف متصل بالهدف المذكور فيما يتبادر لنا من حيث تضمنه الاعتراف لله بصفة العلوّ عن

_ (1) التاج الجامع ج 1 ص 197، وهناك أحاديث صحيحة أخرى من هذا الباب فاكتفينا بهذا الحديث. (2) أورد الحديث المفسر ابن كثير في سياق هذه السورة وفي سياق سورة الواقعة.

[سورة الأعلى (87) : الآيات 14 إلى 19]

كل شيء في حالة السجود التي تمثل أروع حالات الخضوع لله عز وجل. [سورة الأعلى (87) : الآيات 14 الى 19] قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19) . (1) تزكى: تطهر أو أدى الزكاة. والمعنى الأخير هو المرجح هنا. (2) الصحف الأولى: الكتب المنزلة السابقة. وفي هذه الآيات: 1- تقرير توكيدي لفلاح ونجاة الذين يتزكون ويذكرون ربهم ويصلّون له. 2- وخطاب موجه إلى السامعين فيه تنبيه بأنهم يؤثرون الحياة الدنيا، في حين أن الآخرة هي خير وأبقى لهم، وبأن هذه الدعوة التي يدعوهم إليها النبي صلّى الله عليه وسلّم ليست بدعا وإنما هي حلقة من سلسلة دعوة أنبياء الله الأولين والكتب المنزلة عليهم وخاصة كتب موسى وإبراهيم. والآيات متصلة بسابقاتها اتصالا وثيقا، وفيها ذكر مصير الذي ينتفع بالذكرى ويخشى العاقبة وتتمة للكلام عنه بعد ذكر مصير الشقي الذي يعرض عنها. وكلمة «تزكى» تحتمل في الآية معنى التطهير أو أداء الزكاة غير أن تلازم ذكر الصلاة والزكاة في جلّ المواضع القرآنية قد يسوّغ الترجيح بأن المقصد هنا هو زكاة المال. وإذا صح هذا كانت الدعوة إلى الزكاة والحثّ عليها قد لازما الأمر بالصلاة والحث عليها منذ بدء الدعوة. وقد يفسّر هذا الموقف المتجهم الذي وقفه الأغنياء بالإجمال من الدعوة منذ بدئها. وأسلوب الدعوة إلى الزكاة إذا صح الترجيح هو أسلوب الحث والترغيب. وهذا هو المتسق مع ظروف العهد المكي وخاصة مع ظروف أوائله. وهذا

القرآن لا يحظر الاستمتاع بالطيبات

الأسلوب ملموح في الدعوة إلى الصلاة أيضا، وهو ملموح في المواضيع المماثلة في جميع السور المكية. وروح آيات السورة وأسلوبها يلهمان أن الخطاب في الآية [16] لم يوجه لفريق خاص بقصد التثريب والتنديد وإنما هو موجه إلى الناس جميعا بقصد تقرير الطبيعة الغالبة فيهم وهي إيثار النفع العاجل على الآجل، وبقصد تنبيههم إلى ما هو خير وأبقى استهدافا لإقبالهم على الاستجابة للدعوة. القرآن لا يحظر الاستمتاع بالطيبات وليس في الآية بطبيعة الحال حظر الاستمتاع بالحياة الدنيا إذا ما استجاب الناس للدعوة وقرنوا العمل للدنيا والآخرة معا. وفي آيات سورة الأعراف هذه: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33) تأييد صريح لما نقرره. وفي سورة المائدة آية نهت المسلمين عن تحريم طيبات ما أحله الله لهم على أنفسهم بدون تجاوز على الحدود المعقولة. وهي هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وكان هذا النهي في مناسبة جنوح بعض المسلمين إلى الرهبانية والتقشف والامتناع عن النساء ولذائذ العيش. وحلفهم على ذلك وقد فرض الله لهم تحلة لأيمانهم في آية أخرى بعد هذه الآية وهي: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ

تعليق على ذكر إبراهيم وموسى عليهما السلام وصحفهما

تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) وفي هذا تدعيم آخر كما هو واضح. تعليق على ذكر إبراهيم وموسى عليهما السلام وصحفهما وإبراهيم وموسى عليهما السلام يذكران في القرآن هنا لأول مرة. ثم تكرر ذكرهما كثيرا وبحفاوة عظيمة في سور عديدة مكية ومدنية. وقد ذكر إبراهيم عليه السلام وسيرته وأولاده وأحفاده في سفر التكوين أول أسفار العهد القديم المتداولة اليوم بشيء غير قليل من الإسهاب. ويستفاد من ذلك أنه هاجر من بلاد أور الكلدانيين أو حاران إلى أرض كنعان التي صارت تعرف بفلسطين بأمر الله عز وجل هو وزوجته ساره وابن أخيه لوط عليهم السلام. فاستقروا ونموا فيها وكانوا موحدين مخلصين لله ومحل تجلياته وعنايته وشاخ ومات ودفن في فلسطين. وفي السور الأخرى شيء من سيرتهم، منه ما يتطابق مع ما ورد في السفر المذكور ومنه ما لا يتطابق أو ما لم يذكر فيه على ما سوف ننبه عليه في مناسبات أخرى. وفي كتب التفسير روايات كثيرة ومسهبة عنهم مروية عن بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتابعيهم وعلماء الأخبار في الصدر الإسلامي الأول. منها المتطابق مع ما جاء في سفر التكوين ومنها غير المتطابق. وفيها على كل حال دلالة على أن ذكرهم كان متداولا بنطاق واسع في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل البعثة ومصدر ذلك على ما هو المتبادر الكتابيون الذين كانوا في هذه البيئة وبنوع خاص الاسرائيليون الذين ينتسبون إليهم بالأبوة. على أن لإبراهيم عليه السلام مقاما خاصا عند العرب يأتي مما كان متواترا حتى بلغ مبلغ اليقين من أن القرشيين والعدنانيين الذين يتفرع الأولون منهم كانوا يتداولون نسبتهم بالأبوة إليه من ناحية إسماعيل ابنه

البكر عليهما السلام. ونسبة الكعبة وتقاليد الحج المتنوعة إليه أيضا. وفي القرآن آيات فيها تأييد وترديد لذلك منها آيات سورة البقرة هذه: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وآية سورة الحج هذه: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) وهذه: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ... [78] . وقد ذكر موسى في سفر الخروج ثاني أسفار العهد القديم والأسفار التالية له المتداولة اليوم بإسهاب. وهو من نسل إبراهيم على ما يستفاد من أسفار العهد القديم ومن القرآن معا. وكثير مما ورد في القرآن عنه متطابق مع ما ورد في أسفار هذا العهد، ومنه غير المتطابق أيضا. وفي كتب التفسير روايات كثيرة عنه مروية عن بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتابعيهم وعلماء الأخبار في الصدر الإسلامي الأول منها ما هو المتطابق مع هذه الأسفار ومنها غير المتطابق. وفيها على كل حال دلالة على أن ذكره كان متداولا بنطاق واسع في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل البعثة. ومصدر ذلك على ما هو المتبادر الكتابيون الذين كانوا في هذه البيئة وبنوع خاص الإسرائيليون.

ونكتفي بهذه اللمحة عنه لأن ذكره هنا جاء خاطفا وسوف نعود إلى ذكره بتوسع أكثر في المناسبات التي ذكر فيها بتوسع أكثر. والإشارة الواردة في الآيتين الأخيرتين [18- 19] هي أولى الإشارات إلى كتب الله الأولى التي فسرت في الآية [19] بصحف إبراهيم وموسى. والإشارة خاطفة يمكن أن تؤيد أولية ذكر هذه الكتب وأسلوبها يمكن أن يدل على أن السامعين لا يجهلون أن هناك كتبا إلهية نزلت على أنبيائه ومنهم إبراهيم وموسى عليهما السلام. ولقد كان في الحجاز جاليات نصرانية ويهودية وكانوا يتداولون الأسفار المنسوبة إلى الله وإلى الأنبياء ولا بد من أن السامعين كانوا يعرفون ذلك من طريقهم. والمتبادر أن المقصود من تعبير (صحف موسى) هو ما أوحاه الله إليه من تعليقات وتشريعات. وقد ذكر ذلك بصراحة في آيات عديدة مكية ومدنية غير أنه عبر عنه بتعبير «الكتاب» الذي أنزله الله هدى للناس وآتاه الله موسى هدى لبني إسرائيل وبتعبير التوراة التي فيها نور وهدى يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار مما أوردنا أمثلة منه في تعليق آخر في سورة المدثر. ولقد كتب موسى عليه السلام ما بلغه الله إليه في سفر سمي التوراة وكتاب الشريعة وفي ألواح. ولكن ذلك لم يصل إلينا وكان يتداوله اليهود في الأزمنة القديمة على ما ذكر في بعض الأسفار المتداولة اليوم «1» . والمتبادر أن ذلك هو ما قصد بصحف موسى. أما ما في أيدي اليهود والنصارى اليوم مما يسمى بالعهد القديم والمؤلف من مجموعة كبيرة من الأسفار والتي في بعضها تشريعات وأحكام ربانية مبلغة من الله لموسى عليه السلام ومن موسى لبني إسرائيل والتي في بعضها تاريخ بني إسرائيل قبل موسى وبعده مع تاريخ أنبياء وأشخاص وأحداث شعوب أخرى قبله وبعده أيضا فإنها مكتوبة بأسلوب الحكاية وبأقلام كتاب عديدين في أزمنة مختلفة

_ (1) انظر سفر الخروج الإصحاح 24 وسفر التثنية الإصحاح 31 وسفر الملوك الثاني الإصحاح 22 وسفر نحميا الإصحاح 8.

بعد موسى. وفيها كثير من التناقض والمفارقات والغلوّ وفيها أشياء كثيرة منسوبة إلى الله عز وجل وأنبيائه لا يمكن أن تكون صحيحة. ولا يصح أن توصف بوصف صحف موسى كما هو ظاهر. وسيأتي بيان أوفى عنها في مناسبة أخرى. أما صحف إبراهيم فليس هناك شيء عنها إلّا هذه الإشارة التي تفيد أن فيها ما قررته آيات سورة الأعلى من مبادئ. وإشارة مثلها في سورة النجم مع زيادة توضيحية هذا نصها: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41) . وهناك حديث طويل أورده المفسر ابن كثير في سياق تفسير الآية [163] من سورة النساء مرويا عن أبي ذر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «إن عدد الصحف المنزّلة على إبراهيم عشر» ولكن الحديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة. وقد توقف بل طغى فيه بعض علماء الحديث على ما ذكره المفسر المذكور والله تعالى أعلم. وذكر صحف إبراهيم وموسى في مقام عرض الدعوة وأهدافها يلهم أنه بسبيل تقرير كون الدعوة المحمدية وما يبشر وينذر به النبي صلّى الله عليه وسلّم مما هو متطابق مع دعوة الأنبياء السابقين وما أنزل عليهم واستمرار له. وهذا مما تكرر تقريره في القرآن كثيرا، من ذلك آية سورة الشورى هذه: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وآيات سورة النساء هذه: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلًا

مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) . ونرجح، بل نعتقد أنه كان في أيدي اليهود في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم أسفار أو قراطيس فيها أخبار أخرى غير الواردة في سفر التكوين وهو أول أسفار العهد القديم المتداولة اليوم عن إبراهيم عليه السلام وملته كانوا يسمونها صحف إبراهيم لم تصل إلينا. ولقد ذكر في سور عديدة مثل مريم والشعراء والأنعام والأنبياء قصص رسالة إبراهيم لأبيه وقومه وما كان بينهم وبينه من جدل وحجاج حول عبادتهم للأصنام وما كان من تأجيجهم النار وإلقاء إبراهيم فيها. وهذه القصص لم ترد في سفر التكوين. ويتبادر لنا أن هذه القصص كانت في تلك الأسفار والقراطيس. ولعل اختصاص صحف إبراهيم وموسى بالذكر في هذه السورة المبكرة متصل خاصة بما كان للنبيين الكريمين من صورة خطيرة في أذهان السامعين أكثر من غير هما. فقد كان في الحجاز جاليات يهودية كبيرة ذات تأثير في أهلها، وكانت توراة موسى وشريعته وقصة رسالته إلى فرعون ومعجزاته مشهورة متداولة. ولقد كان إبراهيم عليه السلام وملته الحنيفية وصلته بالكعبة وتقاليد الحج وأبوته- من طريق ابنه إسماعيل- للعدنانيين سكان الحجاز مما يشغل في أذهان العرب حيزا كبيرا مما احتوى القرآن آيات عديدة في صدده مثل آيات سورة البقرة هذه: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ

دلائل أولية سورة الأعلى وصفتها

الْحَكِيمُ (129) وآيات سورة الحج هذه: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) وهذه: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) . وفحوى الآيات يلهم بقوة أن سامعيها من العرب كانوا يعرفون كثيرا مما احتوته ونوهت به ويعتقدون به، وهناك روايات كثيرة تؤيد ذلك «1» . دلائل أولية سورة الأعلى وصفتها وأسلوب آيات السورة ومضمونها ونظمها يسوّغ القول بأنها من السور التي نزلت جملة واحدة، وأنها من أوائل ما نزل وأنها سبقت سور القلم والمزمل والمدثر، أو على الأقل سبقت ما جاء بعد مطالع هذه السور إذا صحت روايات أولية نزول هذه المطالع، وسبقت كذلك آيات سورة العلق التي جاءت بعد مطلعها. ولعلها نزلت بعد سورة الفاتحة، أو بعد مطلع سورة العلق. ويلحظ أن إحدى آيات السورة احتوت تعبير (سنقرئك) وأن السورة بدئت بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بتسبيح اسم ربه الأعلى، مما فيه شيء من التجانس بينها وبين مطلع سورة العلق، وعلى كل حال فهي من القسم الذي كانت تعنيه تسمية القرآن في بدء الدعوة مثل سورة الفاتحة، والذي احتوى عرض أهداف الرسالة المحمدية والدعوة إليها على ما هو المتبادر، والله أعلم.

_ (1) انظر سيرة ابن هشام ج 1 ص 5- 13 و 237- 247 طبعة مصطفى البابي الحلبي سنة 1355 هـ 1936 م. [.....]

سورة الليل

سورة الليل في السورة تصنيف الناس حسب أعمالهم، وتنويه بصالح العمل وأصحابه، وتنديد بسيء العمل وأصحابه وإنذارهم. وفيها تنويه بمن يتزكّى بماله، وتنديد بالبخل والمنع. وأسلوبها كسابقتها من حيث دلالته على احتوائها عرضا عاما للدعوة وعلى تبكير نزولها قبل غيرها الذي احتوى مشاهد ومواقف حجاجية وتكذيبية. وبين السورتين من التوافق في المبنى والأسلوب والجرس ما يلهم أنهما نزلتا متتابعتين. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 13] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) . (1) يغشى: يغطي أو يخيم أو ينتشر. (2) تجلى: ظهر أو انكشف أو برز. (3) شتى: جمع شتيت بمعنى أنواع مختلفة. (4) الحسنى: مؤنث الأحسن. ومن المفسرين من أوّل جملة وَصَدَّقَ

بِالْحُسْنى بمعنى صدق بوعد الله بزيادة الإخلاف على المنفقين. ومنهم من أوّلها بمعنى صدق بالموعود الأحسن من الله، ومنهم من أوّلها بمعنى صدق بالجنة التي وعد الله المؤمنين المحسنين «1» . (5) اليسرى: مؤنث الأيسر أي الأسهل. (6) استغنى: شعر بالغنى عن غيره أو عن الله بما صار عنده من مال. (7) العسرى: مؤنث الأعسر أي الأشق الأصعب. (8) تردى: سقط أو هوى من عال. الخطاب في الآيات موجه إلى السامعين بأسلوب مطلق وتقريري. وقد تضمنت: 1- قسما ربانيا بالليل إذا خيم والنهار إذا انجلى، وما خلق الله من ذكر وأنثى إن الناس في سلوكهم وأعمالهم أنواع. منهم المؤمن بالله والمتصدق بماله والمصدق بوعود الله الحسنى في الدنيا والآخرة. وهذا ييسره الله في السبيل اليسرى التي فيها النجاة والسعادة. ومنهم البخيل الذي يستشعر الغنى عن غيره وربه، البخيل بماله الجاحد لوعود الله الحسنى في الدنيا والآخرة. وهذا ييسره الله في السبيل العسرى التي فيها الهلاك والخسران ولن يغني عنه ماله ويقيه السقوط والتردي في ذلك المصير الرهيب. 2- وتقريرا ربانيا بأن ما للناس على الله هو أن يبين لهم طريق الهدى والخير ويدلهم عليه ويحذرهم من طريق الضلال والشر، وبأن أمر الدنيا والآخرة في يده وهو المتصرف فيهما تصرفا مطلقا. والآيات كما هو ظاهر بسبيل الدعوة العامة للناس. وليس فيها مواقف ومشاهد حجاجية وتكذيبية. وفيها مبادئ هذه الدعوة بإيجاز بليغ وهي الإيمان بالله وتصديق وعود الله والعمل الصالح ونفع الغير ومساعدتهم وعدم البخل بالمال بسبيل ذلك مع التنبيه على أن هذا المال لن يغني عنه شيئا إذا لم يستجب للدعوة

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والزمخشري والطبرسي وابن كثير.

تعليق على جملة وما خلق الذكر والأنثى

ويلتزم بمبادئها. فمن فعل ذلك فهو ناج سعيد ومن فعل العكس فهو خاسر شقي. وقد انطوى فيها حكمة إرسال الله الرسل للناس ليبين لهم بلسانهم معالم الهدى. كما انطوى فيها تقرير كون الناس موكولين بعد ذلك إلى اختيارهم للطريق التي يسيرون فيها ومستحقين للنتائج التي تترتب على هذا الاختيار في الدنيا والآخرة معا. وكل هذا مما تكرر تقريره بحيث يعد من المبادئ القرآنية المحكمة. ولقد روى الشيخان والترمذي في سياق هذه الآيات حديثا عن علي بن أبي طالب قال: «كنّا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في بقيع الغرقد في جنازة فقال ما منكم من أحد إلّا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة. قالوا يا رسول الله أفلا نتّكل على كتابنا وندع العمل. قال اعملوا فكلّ ميسّرّ لما خلق له. أمّا من كان من أهل السعادة فييسّر لعمل أهل السعادة. وأمّا من كان من أهل الشقاء فييسّر لعمل أهل الشّقاء ثم قرأ فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) [الليل/ 5- 7] » «1» . والحديث ينطوي على إيذان بعلم الله عز وجل الأزلي بمصير كل إنسان في الآخرة وليس في كون الله عز وجل قد قدر على الناس مصائرهم الأخروية بقطع النظر عن أعمالهم التي يستحقون هذه المصائر بسببها كما هو المتبادر. وهذا ما ينطوي في الآيات أيضا حين إمعان النظر فيها. حيث يربط الآيات والحديث السعادة والشقاء بالعمل فمن عمل عمل أهل السعادة سعد ومن عمل عمل أهل الشقاء شقي. وهذا الموضوع متصل بناحية ما بموضوع القدر الذي سوف نبحثه بحثا وافيا في مناسبة أكثر ملاءمة. تعليق على جملة وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى وجملة وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى التي جمع فيها من الذكر والأنثى في القسم قرينة

_ (1) التاج ج 4 ص 259- 260

[سورة الليل (92) : الآيات 14 إلى 21]

على نظرة الله تعالى المتساوية لهما وتسوغ القول إن ما جاء بعدها من الإشارة إلى أعمال الناس من خير وشر وتيسير الله لهم وفقها يشمل الذكر والأنثى معا. وإن صح استنتاجنا ونرجو أن يكون صحيحا فيكون أول تقرير قرآني لمبدأ تكليف الذكر والأنثى على السواء تكليفا متساويا بكل ما يتصل بشؤون الدين والدنيا ولمبدأ ترتيب نتائج سعي كل منهما وفقا لما يكون من نوع هذا السعي من خير وشر ونفع وضرّ وهدى وضلال. وأول تقرير قرآني لتساوي الذكر والأنثى في القابليات التي يختار كل منهما عمله وطريقه بها. ولقد تكرر تقرير كل ذلك كثيرا وبأساليب متنوعة وفي القرآن المكي والمدني معا. ومن ذلك آيتان مهمتان في بابهما في سورة الأحزاب وهما: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73) . وجمهور المؤولين والمفسرين على أن كلمة «الأمانة» تعني هنا التكليف أي ما رسمه الله للإنسان من واجبات ونهاه عنه من محظورات. والإنسان في الآية الأولى مطلق أريد به الإنسان الذي يمثله الذكر والأنثى معا بدليل الآية الثانية التي احتوت إنذارا للمنافقات والمشركات اللاتي ينحرفن عن التكليف أسوة بالمنافقين والمشركين وبشرى للمؤمنات اللاتي يلتزمن حدود الله المرسومة أسوة بالمؤمنين على قدم المساواة، وفي ذلك ما فيه من روعة وجلال. [سورة الليل (92) : الآيات 14 الى 21] فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21) . (1) تلظى: تتوهج وتتقد.

وهذه الآيات معقبة على الآيات الأولى وفيها إنذار للسامعين الذين وجهت إليهم الدعوة بأسلوب تقريري بالنار المتوهجة المعدة للأشقياء الذين يكذبون الدعوة ويعرضون عنها. أما الذين يتقون الله بالإيمان والعمل الصالح ويعطون أموالهم زكاة ابتغاء وجه ربهم ورضائه، ودون أن يكون مقابلة لأحد له عليهم نعمة سابقة أو يد سالفة فيجنبونها، ويكون لهم من الله ما فيه رضاؤهم وطمأنينتهم. وآيات السورة كسابقتها تماما من حيث هي عرض عام للدعوة وتبشير وإنذار بأسلوب آخر هو أيضا هادىء ورصين ورائع. وقد احتوت مثلها تلقينات جليلة. ففيها حث على تقوى الله بالإيمان والعمل الصالح والإنفاق في وجوه البر دون غاية من غايات الدنيا المألوفة وتنويه بجلال هذا العمل. وتلقين بأن المال إنما يفيد صاحبه إذا هو اتجه في طريق الصلاح والخير وأنفقه بسخاء في وجوه البر ابتغاء وجه الله. وأنه شر على صاحبه إذا أثار فيه الغرور والاعتداء وبخل به ولم ينتفع به غيره. وقد جاءت الدعوة فيها إلى إعطاء المال زكاة بصراحة، وهذا يدعم ترجيحنا من أن تعبير «تزكى» في السورة السابقة قد قصد به زكاة المال. وهكذا يتوالى في المجموعات القرآنية الأولى الحث على الإنفاق والزكاة وفعل الخير ابتغاء وجه الله ورضائه فحسب، والتنديد بالبخل والغرور بالغنى والمال والتمسك بأعراض الدنيا وشهواتها والإعراض عن الخير والبر، مما ينطوي فيه أن ذلك من أهم أهداف ومبادئ الدعوة بعد الإيمان بالله واليوم الآخر وعبادة الله وحده. وفي هذا ما فيه من بالغ الروعة والجلال. فالمال من أعز الأشياء على أصحابه. والمعوزون أكثر من الميسورين دائما كما أن كل مشروع خيري وإصلاحي عام يحتاج إلى المال في أول ما يحتاج. وقد روى المفسرون «1» أن الآيات [17- 21] نزلت في حق أبي بكر رضي

_ (1) انظر تفسير السورة في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والزمخشري وغيرهم. الجزء الأول من التفسير الحديث 34

الله عنه لكثرة ما أنفقه وخاصة في شراء أرقاء المسلمين الذين كان مالكوهم الكفار يعذبونهم. غير أن وحدة وزن الآيات السابقة لها وأسلوب آيات السورة وتماسكها يجعلنا نرجح نزولها جملة واحدة وكونها بسبيل عرض عام للدعوة وأهدافها. وهذا لا ينفي رواية إنفاق أبي بكر رضي الله عنه وإنقاذه الأرقاء المعذبين من المؤمنين. وقد رأينا ابن كثير يقول بعد ذكر رواية نزولها في حق أبي بكر: إنه ولا شك داخل فيها بسبب كثرة ما أنفقه ولكن لفظها لفظ العموم. والسورة من أبكر ما نزل كما قلنا. وقد نزلت فيما نعتقد قبل أن ينشب حجاج ونضال بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وأتباعه الأولين وبين الكفار. ومن المحتمل أن يكون أبو بكر فعل ما فعل بتأثير ما احتوته من حث وتنويه وأن يكون أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد رأوا في فعله مطابقة تامة للآيات فنوهوا به في مناسبتها، فكان هذا أصل الرواية. ولقد استعظم مفسرو الشيعة ما روي من أن الآيات [17- 21] في حق أبي بكر رضي الله عنه فنفوا ذلك وقالوا إنها مع الآيات [5- 7] في حق علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والهوى الحزبي بارز على هذا القول وهذا مثال آخر من أمثلة كثيرة سوف نوردها في مناسباتها «1» . هذا، ويلحظ شيء من التوافق اللفظي بين آيات هذه السورة وآيات السورة السابقة كما يلحظ توافق أسلوبي وهدفي أيضا. وهذا وذلك يلهمان صحة ترتيب تتابعهما في النزول ووحدة ظروف نزولهما وكون هذه كتلك من أولى السور نزولا ومما كان يعنيه لفظ القرآن في بدء الأمر مثلها.

_ (1) التفسير والمفسرون للذهبي ج 2 ص 224.

سورة الفجر

سورة الفجر تحتوي السورة تذكيرا بعذاب الله الذي حل بالطغاة المتمردين من الأمم السابقة كعاد وثمود وفرعون وإنذارا لأمثالهم، وتنديدا بحب المال والاستغراق فيه، واستباحة البغي والظلم في سبيله، وعدم البر باليتيم والمسكين، ودحضا لظن أن اليسر والعسر في الرزق اختصاص من الله بقصد التكريم والإهانة. وفيها تصوير مشهد ما يكون من مصير البغاة يوم القيامة وحسرتهم، وتنويه بالمؤمنين ذوي النفوس المطمئنة وبشرى لهم برضاء الله وجنته. وأسلوب السورة عام العرض والتوجيه مما يدل على تبكيرها بالنزول. وفصولها وآياتها منسجمة مما يدل على نزولها جملة واحدة أو متتابعة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14) . (1) ليال عشر: قيل إنها العشر الأخيرة من رمضان وقيل إنها العشر الأولى من المحرم وقيل إنها العشر الأولى من ذي الحجة. وكل من هذه العشرات مبارك

في الآثار والتقاليد الإسلامية. ومما قيل إنها العشر الأولى من كل شهر حيث يبدو في أولها الهلال ثم يكبر ثم يكبر كما يبدو الفجر خيطا من نور ثم يتسع. وفي ذلك توافق بين الفجر والهلال. (2) الشفع: كل شيء مزدوج من اثنين ومضاعفاتهما. وقيل إن المقصود هو يوم النحر لأنه عاشر أيام ذي الحجة وهو شفع. (3) الوتر: كل شيء مفرد غير قابل للقسمة على اثنين، وقيل إن المقصود هو يوم عرفات لأنه التاسع من ذي الحجة وهو وتر. ومما قيل في المقصود من الشفع والوتر هو الله سبحانه الوتر وجميع الأحياء هم شفع لأنهم من زوجين ذكر وأنثى. ومما قيل كذلك أن المقصود هم جميع الخلق الذين منهم الشفع ومنهم الوتر وروى الترمذي إلى هذا حديثا عن عمران بن الحصين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الشفع والوتر فقال «هي الصلاة بعضها شفع وبعضها وتر» «1» . (4) يسري: يمضي أو يدبر أو يجري نحو الانتهاء. (5) ذي حجر: ذي عقل. وجملة هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ هي بمعنى أليس فيما تقدم من الأقسام كفاية ومقنع لمن لديه عقل على ما ذكره جمهور المفسرين. (6) عاد: قبائل عربية قديمة كانت تسكن في القسم الجنوبي من جزيرة العرب الذي كان يسمى بالأحقاف أيضا. وقد وردت هذه التسمية في سورة الأحقاف في صدد الإشارة إلى قوم عاد. والأحقاف هي أكثبة الرمل. (7) إرم: قيل إنها اسم جدّ عاد الأقدم. وقيل إنها اسم مدينة قوم عاد. (8) ذات العماد: ذات الأعمدة. قيل إنها وصف لمدينة إرم. وقيل إنها وصف لمساكن قبائل عاد بن إرم التي كانت خياما تقوم على أعمدة. (9) ثمود: قبائل عربية قديمة كانت تسكن في القسم الشمالي الغربي من جزيرة العرب في طريق المدينة والشام وفي المنطقة المعروفة اليوم بمدائن صالح.

_ (1) التاج ج 4 ص 258.

(10) جابوا: قطعوا. ولعلها بمعنى نحتوا الصخر واتخذوه منازل. وقد ذكر ذلك عن ثمود في مواضع قرآنية أخرى مثل آية سورة الشعراء وهي: وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) التي جاءت في سلسلة قصة ثمود ونبيهم صالح عليه السلام. (11) ذي الأوتاد: صاحب المنشآت العظيمة التي تشبه الجبال حيث وصفت الجبال في القرآن بالأوتاد كما جاء في آية سورة النبأ هذه: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) ولعلها تعني الأهرام أو أن الأهرام بعضها لأن الكلمة جاءت وصفا لفرعون. (12) سوط: أصل معناه العصا التي يضرب بها أو ما يقوم مقامها. واستعملت هنا مجازا. (13) بالمرصاد: محل الرصد والترصد. والمقصود من جملة إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ أن الله مترصد للطغاة لينكّل بهم «1» . في الآيات الأربع الأولى أقسام ربانية بالفجر والليل الذي يجري حتى ينتهي إلى الفجر والنهار وبالليال العشر المباركة وبالشفع والوتر. أما جواب القسم فقيل إنه في جملة إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ حيث يعني أن الله يقسم إنه بالمرصاد للطغاة الجاحدين كما فعل بأمثالهم السابقين المذكورين. وقيل إنه محذوف مقدر بأن ما يسمعه الناس من الإنذار حقّ لا ريب فيه أو بأن الله الذي هو بالمرصاد للطغاة الجاحدين ليعذبنهم أو ليقتصن منهم كما فعل بأمثالهم «2» . والآية الخامسة توكيد رباني بأن فيما فعله الله في الأولين وفي قسمه بأنه بالمرصاد للطغاة الجاحدين مقنعا لذوي العقول والبصائر.

_ (1) انظر معاني الكلمات في تفسير السورة في تفسير الطبري والزمخشري والطبرسي وابن كثير والبغوي والنيسابوري. (2) انظر تفسير السورة في تفسير مجمع البيان للطبرسي مثلا.

تعليق على قصص الأقوام المذكورة في السورة

تعليق على قصص الأقوام المذكورة في السورة والأسلوب الاستفهامي الذي جاءت فيه الآية السادسة وما بعدها يلهم أن أخبار عاد وثمود وفرعون وآثارهم والعذاب الرباني الذي حل فيهم غير مجهول عند سامعي القرآن كما يلهم أن ذكرهم هو في معرض التذكير والإنذار والموعظة. وبهذا يستحكم جواب القسم والإنذار الذي انطوى فيه، وهذا وذاك هو هدف القصص القرآنية. ولقد وردت إشارة خاطفة إلى فرعون في سورة المزمل. وأسلوبها يلهم ذينك الأمرين معا. وحكمة ذلك ظاهرة. فالسامع يتأثر بالقصص التي يعرفها أو يعرف عنها شيئا أكثر مما لا يعرفه. وقصة فرعون مع بني إسرائيل وموسى مفصلة في سفر الخروج من أسفار التوراة. ولا بد من أن العرب كانوا يعرفون كثيرا منها من طريق الكتابيين الذين كانوا بينهم، والذين كانت هذه الأسفار متداولة عندهم. ولقد رجحنا أن الأوتاد هي الأهرام المصرية لأنها جاءت مع ذكر فرعون. ولقد كان تجار الحجاز يصلون في رحلاتهم التجارية إلى مصر بطريق شرق الأردن وفلسطين على ما تلهم آيات في سورة الصافات التي تذكر الحجازيين بما رأوه من آثار تدمير الله سدوم وعمورة بلدي لوط في غور أريحا، وهي هذه: وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) ولقد ذكرت الروايات «1» اسم عمرو بن العاص من جملة من زاروا مصر قبل إسلامه. والمتبادر أن الأهرام وهولها ومماثلتها للجبال مما كان يتحدث به الزوار. أما قصص عاد وثمود فليست واردة في أسفار أهل الكتاب المتداولة. وهي في صدد قومين عربيين قديمين. وأسلوب الآيات يلهم أن السامعين لا يجهلونها

_ (1) انظر كتاب حياة عمرو بن العاص لإبراهيم حسن.

وأنها وصلت إليهم منقولة من جيل إلى جيل. وفي سورة العنكبوت آية قد يكون فيها دليل على أن من سامعي القرآن من زار مساكن عاد وثمود ورأى أطلالها وخرائبها وسمع أن الله تعالى قد دمرها بعذابه بسبب تكذيب أهليها لرسوليهم هود وصالح عليهما السلام وهي هذه: وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وبلاد عاد هي في جنوب اليمن مما يعرف اليوم ببلاد حضرموت وبلاد ثمود هي في شمال الجزيرة العربية وعلى طريق بلاد الشام مما يعرف اليوم ببلاد مداين صالح. وكانت القوافل الحجازية التجارية تمرّ بمداين صالح في طريقها إلى بلاد الشام ومصر كما كانت تصل إلى بلاد حضرموت في رحلتها الشتوية إلى اليمن. ولقد تكررت قصص فرعون وثمود وعاد في القرآن مرارا، مسهبة حينا ومقتضبة حينا حسب حكمة التنزيل بسبب تكرر المناسبات والمواقف على ما شرحناه في سورة القلم. وفي القصص الواردة في السور الأخرى بيانات كثيرة عنهم وعن أنبيائهم ومواقفهم منهم ونكال الله عليهم. وفي كتب التفسير بيانات كثيرة على هامشها أيضا معزوة إلى علماء الصدر الإسلامي الأول حيث يفيد هذا أن الحديث في هذه القصص مما كان يجري في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم وعصره متصلا بالأجيال السابقة. ومما يؤيد القول بمعرفة أهل هذه البيئة والعصر أشياء كثيرة منها. ونكتفي الآن بما قلناه على أن نعلق بما يقتضي في المناسبات الآتية إن شاء الله. والمتبادر أن ما احتوته الآيات هنا عنهم هو بسبيل التنويه بما كانوا عليه من قوة وبسطة، وبسبيل تقرير أنهم لم يعجزوا الله حينما طغوا وتجبروا فصبّ عليهم عذابه ونكّل بهم، وبسبيل البرهنة على قدرته على كل من يسير في طريقهم من التجبر والطغيان والتمرد على الله، وكل هذا متصل بأهداف القصص القرآنية كما هو واضح.

[سورة الفجر (89) : الآيات 15 إلى 20]

هذا، والآيات لا تحتوي إشارة إلى موقف معين للمكذبين والجاحدين. ولذلك يصح أن يقال إنها بسبيل الإنذار والتذكير والتحذير من الطغيان والفساد والتمرد على الله ودعوته بصورة عامة. وفي هذا ما هو واضح من التلقين الجليل المستمر المدى. [سورة الفجر (89) : الآيات 15 الى 20] فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) . (1) ابتلاه: اختبره وامتحنه. (2) أكرمني: هنا بمعنى رفع قدري وعني بي. (3) قدر عليه رزقه: بمعنى ضيقه عليه. (4) أهانني: هنا بمعنى وضع قدري وتقصد ضرري وإهانتي. (5) تحاضون: تتحاضون أي تحضون بعضكم بعضا. (6) التراث: الميراث. (7) لمّا: جمعا والقصد أكل الميراث جميعه بدون تفريق بين حق وباطل. (8) جمّا: كثيرا. في الآيتين الأوليين: 1- عرض لصورة من تفكير الإنسان وتلقّيه في حالتي الغنى والفقر والنعيم والبؤس. ففي الأولى يظن أن الله إنما يسّر له ذلك عناية به ورفعا لقدره واهتماما لشأنه. وفي الثانية يظن أن الله إنما اختصه بذلك حطّا من قدره وإهانة له في نظر الناس.

2- تقرير بأن ذلك ليس كما يظن الإنسان في حاليه. ونفي ردعي لهذا الظن. وإنما هو امتحان رباني، ليظهر موقفه من الله والناس في حالتي اليسر والعسر والنعيم والبؤس. وفي الآيات الأربع التالية تأنيب ردعي وتكذيبي: 1- للذين يحتقرون اليتيم ولا يرعون حقه. 2- وللذين يضنون على المساكين وخاصة بما هم في حاجة إليه من الطعام الذي فيه حفظ حياتهم، ولا يحض بعضهم بعضا على ذلك. 3- وللذين يشتد فيهم الشره إلى المال ويحبونه حبّا يملك عليهم مشاعرهم ويجعلهم يستبيحون أكل الميراث، دون تفريق بين حقّ وباطل وحلال وحرام. ولقد روى الطبري عن حرملة بن عمران أنه سمع عمر مولى غفرة يقول: إذا سمعت الله يقول (كلا) فإنما يقول للمخاطب (كذبت) وتطبيقا على هذا يكون ما ذكرناه مما انطوى في الآيات الأربع بمثابة تكذيب لقول القائلين. ويبدو لأول وهلة أن هذا الفصل منفصل عن الفصل السابق. غير أن الصلة تلمح بينهما حين التروي. فالفصل الأول بسبيل التذكير بما كان من بغي بعض الأمم والملوك السابقين وطغيانهم وفسادهم في الأرض ونكال الله فيهم، وقد احتوى قسما ربانيا بأن الله بالمرصاد لأمثالهم دائما. وهذا الفصل بسبيل بيان ما يدور في أذهان الناس- ومنهم السامعون- من ظنون خاطئة في حالتي يسرهم وعسرهم فيها غرور وسوء أدب نحو الله. وما يقدم عليه الناس- ومنهم السامعون- من بغي على الفئات الفقيرة والضعيفة وحرمان لهم من مقومات الحياة ونعم الله التي أنعم عليهم. وازدرائهم، وما ينبعث في نفوس الناس- ومنهم السامعون- من حب شديد للمال يجعلهم لا يفرقون في سبيله وخاصة في الميراث بين حلال وحرام. ويلمح في حرف الفاء التعقيبي أو التفسيري- الذي بدىء به الفصل الثاني والله أعلم- قصد تشميل قسم الله بأنه بالمرصاد للناس الذين حكى هذا الفصل

ظنونهم الخاطئة وغرورهم وسوء أدبهم نحو الله وعدم شكرهم له، وازدرائهم باليتيم وحرمانهم المساكين من مقومات الحياة، واستغراقهم في حب المال ذلك الاستغراق الذي يجعلهم لا يفرقون في سبيله بين حلال وحرام. ومع أن كلمة الإنسان مطلقة، والخطاب في صدد عدم إكرام اليتيم وعدم الحض على طعام المسكين وحب المال حبا شديدا وأكل الميراث أكلا ذريعا موجه إلى السامعين إطلاقا فالمتبادر أن المقصودين بالتنديد هم الذين يظنون تلك الظنون الخاطئة، ويفعلون هذه الأفعال الكريهة. ويلمح أن الآيات الأربع الأخيرة قد جاءت على أسلوب الحكيم، فالآيتان السابقتان لها تعرضان إلى الخطأ في تفكير الناس في حالتي السعة والضيق واليسر والعسر، مع تقريرهما أن ذلك امتحان رباني. فجاءت الآيات تلفت نظرهم إلى خطيئات أخرى هم واقعون فيها وتندد بهم من أجلها وتكذبهم في أقوالهم وتعليلاتهم. وقد روى بعض المفسرين «1» أن الآيات أو القسم الأول منها نزل في أمية بن خلف أحد زعماء قريش مع أن أسلوبها عام مطلق كسابقاتها وهي منسجمة مع بعضها انسجاما قويا. وكلام الطبري شيخ المفسرين يفيد أنها عرض عام لظنون المنحرفين من الناس وسلوكهم بصورة مطلقة. ولقد انطوى فيها تلقينات جليلة مستمرة المدى. فالمرء ينبغي ألّا تبطره النعمة واليسار فيخرج عن حده بالخيلاء والغرور وزعم اختصاص الله إياه بالحظوة، كما أنه لا ينبغي أن يداخله غم ويأس إذا ما حل فيه ضيق وعسر فيعتبر ذلك نقمة وإهانة اختصه الله بهما. فكثيرا ما يكون في الثروة والرخاء بلاء، وكثيرا ما يكون في الفقر والخصاصة راحة نفس وسلامة دين وعرض. ومن الواجب أن يرى كل من الفريقين كذلك أنهما إزاء اختبار رباني وأن على الميسور أن يشكر الله ويقوم بواجبه نحوه ونحو الناس وخاصة ضعفاءهم وذوي الحاجة منهم وأن

_ (1) انظر تفسير البغوي.

على المعسر أن يصبر ويصابر. ومن تلقيناتها تقرير كون الغنى والفقر عرضين تابعين لنواميس الكون ومن جملتها قابليات الناس وظروفهم التي لا تبقى على وتيرة واحدة. ولا يصح أن يظن ظانّ أنهما اختصاص رباني بقصد التكريم والإهانة ورفع القدر أو حطه. ومن تلقيناتها كذلك أن جعل المال أكبر الهمّ وقصارى المطلب واستباحة البغي والظلم في سبيل الحصول عليه وحرمان المحتاجين والضعفاء من المساعدة والعطف والبر بتأثير حب المال من الأخلاق الذميمة التي يجب على الإنسان وعلى المسلم من باب أولى اجتنابها والترفع عنها. ويلفت النظر بخاصة إلى الآيات وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) التي جاءت بعد الآيات: كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) [17- 18] التي تنطوي على تنديد لاذع لمن يفعل ما جاء فيها حيث يلمح فيها إيذان قرآني بكراهية الاستكثار من حيازة المال والحرص الشديد عليه وعدم إنفاقه على المحتاجين والفقراء. ولهذا دلالة خطيرة المدى ولا سيما أنه بدأ منذ أوائل التنزيل القرآني واستمر يتكرر إلى آخر حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي نزل فيه آيات سورة التوبة هذه التي كانت من أواخر ما نزل: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) . وهناك أحاديث كثيرة تتساوى في التلقين المنطوي في الآيات بالنسبة للأمر الأخير بخاصته. منها حديث رواه البخاري عن أبي ذرّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ المكثرين هم المقلّون يوم القيامة إلّا من أعطاه الله خيرا فنفخ فيه يمينه وشماله وبين يديه ووراءه وعمل فيه خيرا» «1» . وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة عن

_ (1) التاج ج 5 ص 145 وما بعدها. هناك أحاديث عديدة أخرى من هذا الباب فاكتفينا بما تقدم.

النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «تعس عبد الدينار والدّرهم والقطيفة والخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض» «1» . وحديث رواه الترمذي ومسلم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «قد أفلح من أسلم وكان رزقه كفافا وقنّعه الله. وفي رواية طوبى لمن هدي إلى الإسلام وكان عيشه كفافا وقنع» «2» . وحديث رواه الترمذي والإمام أحمد عن كعب بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشّرف لدينه» «3» وحديث رواه الشيخان والترمذي عن ابن عباس قال: «قدم أبو عبيدة بمال من البحرين وانتظر بعض الصحابة فقال رسول الله لهم والله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم» «4» . وحديث رواه الترمذي عن كعب بن عياض عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ لكلّ أمّة فتنة وفتنة أمتي المال» «5» . وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو كان لي مثل أحد ذهبا لسرّني ألا تمرّ بي ثلاث ليال وعندي منه شيء إلّا شيئا أرصده لدين» «6» . وحديث رواه الشيخان والترمذي عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب» «7» . وحديث رواه الشيخان عن أبي سعيد جاء فيه: «إنّ هذا المال حلوة من أخذه بحقّه ووضعه في حقّه فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع» «8» .

_ (1) التاج ج 5 ص 148- 149. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. [.....] (5) المصدر نفسه. (6) المصدر نفسه. (7) المصدر نفسه. (8) المصدر نفسه.

تعليق على ما أولاه القرآن من العناية باليتيم

تعليق على ما أولاه القرآن من العناية باليتيم وبمناسبة التنديد في الآية [17] بالذين لا يكرمون اليتيم نقول إن القرآن المكي والمدني معا قد احتوى آيات كثيرة بلغ عددها اثنتين وعشرين في صدد العناية باليتيم وتكريمه وحفظ ماله وإعطائه حقه وعدم معاملته بالعنف والقسوة والنهي عن أكل ماله وأذيته والتحايل عليه. والإنفاق والتصدق على فقراء اليتامى وتخصيص نصيب لهؤلاء في موارد الدولة الإسلامية الرسمية، وبعبارة أخرى جعل ذلك من واجبات هذه الدولة أسوة بالمسكين ولأنه على الأرجح من نوعه لا يسأل الناس ولا يفطن له فيتصدق عليه، حيث يدل هذا على عظم عناية حكمة التنزيل به طيلة زمن التنزيل في مكة والمدينة. نورد منها الأمثلة الآتية: 1- أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7) الماعون [1- 7] . 2- فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) الضحى [9] . 3- فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) البلد [11- 16] . 4- وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ الإسراء [34] . 5- فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) الروم [38] . 6- يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) البقرة [215] . 7- وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ الأنفال [41] .

8- وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) النساء [2] . 9- إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10) النساء [10] . 10- ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ الحشر [10] . ولما كان اليتيم على الأكثر ضعيفا فاقد المعين والكافل والمنفق فالعناية القرآنية به متسقة مع روح البرّ والحق والعدل التي انطوت في المبادئ القرآنية والدعوة الإسلامية منذ البدء كما هو شأن البر بالمساكين على ما مر شرحه في سياق سورة المدثر. ولعل في كثرة ما جاء في حق اليتيم صورة لما كان اليتيم معرضا له قبل البعثة من صنوف الهضم والأذى والإهمال والحرمان. وفي آيات الإسراء المكية والنساء المدنية ما يفيد أنه كان الذين يترك لهم آباؤهم مالا منهم معرضين لضياع إرثهم وأكله من قبل الأوصياء والأولياء فاقتضت حكمة التنزيل أن توالى الحث والنهي والإنذار في شأنه بأساليب متنوعة وأحيانا بأساليب قارعة. ولقد أثرت أحاديث نبوية عديدة في البر والعناية باليتيم. منها حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن سهل بن سعد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنا وكافل اليتيم في الجنّة هكذا وقال بإصبعيه السّبابة والوسطى» «1» . وحديث رواه الشيخان عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اجتنبوا السبع الموبقات. قيل يا رسول الله وما هنّ؟ قال الشرك بالله والسّحر وقتل النفس التي حرّم الله إلّا بالحقّ وأكل الرّبا وأكل مال اليتيم والتولّي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» «2» . وحديث رواه

_ (1) التاج ج 5 ص 13. (2) المصدر نفسه ج 3 ص 4- 5.

[سورة الفجر (89) : الآيات 21 إلى 30]

الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قبض يتيما من بين مسلمين إلى طعامه وشرابه أدخله الله الجنة البتة إلا أن يعمل ذنبا لا يغفر له» «1» . وهناك حديث أورده ابن كثير في سياق الآية [10] من سورة النساء أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال: «قلنا يا رسول الله ما رأيت ليلة أسري بك؟ قال: انطلق بي إلى خلق من خلق الله كثير، رجال كلّ رجل منهم له مشفران كمشفري البعير. وهو موكّل بهم رجال يفكون لحاء أحدهم ثم يجاء بصخرة من نار فتقذف في أحدهم حتى تخرج من أسفله. ولهم جؤار وصراخ. قلت يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنّما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا» . وحديث آخر أورده المفسر نفسه في صحيح ابن حبان عن أبي حرزة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبعث يوم القيامة قوم من قبورهم تأجّج أفواههم نارا. قيل يا رسول الله من هم قال ألم تر إلى أنّ الله قال: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً النساء [10] . حيث يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الأمر الخطير كما هو في كل أمر آخر. وفي الآيات تنديد بمن لا يحض على طعام المسكين. ولقد سبق مثل هذا في آية سورة المدثر وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار. [سورة الفجر (89) : الآيات 21 الى 30] كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) . (1) دكا دكا: القصد من ذلك وصف شدة الانهيار والتدمير الذي يحلّ في

_ (1) المصدر السابق نفسه.

الأرض يوم تقوم القيامة، أو وصف هول هذا اليوم وأثره في الأرض. (2) جهنّم: الوادي أو البئر العميق الموحش. ويقال بئر جهنام أيضا بنفس المعنى. ثم صارت علما قرآنيا على الحفرة الهائلة النارية التي يلقى فيها الكفار والمجرمون يوم القيامة. وتعبير وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ تعبير أسلوبي بمعنى هيئت. (3) لا يعذب عذابه أحد: يحتمل أن تكون الجملة بمعنى لا يعذب مكانه أحد غيره، كما يحتمل أن تكون بمعنى لا يعذب مثل عذابه أحد بسبيل وصف شدة عذابه «1» . والأول أوجه فيما نرى، لأن العذاب لكل إنسان استحقه. (4) لا يوثق وثاقه أحد: الوثاق هو الغل والحبل الذي يقيد به الشيء. والجملة تحتمل الاحتمالين المذكورين آنفا. والأول أوجه فيما نرى للسبب نفسه. وقد ذكرت آيات عديدة أن المستحقين للعذاب يوم القيامة يقيدون بالأغلال. في الآيات تنبيه زجري وردعي لما سوف يكون في يوم القيامة، حيث تندك الأرض اندكاكا شديدا، ويقف الله لمحاسبة الناس والملائكة من حوله صفوفا، وتهيأ جهنم لمستحقيها. وحينذاك يتذكر الإنسان الذي اقترف الأفعال السيئة الباغية ويتمنى أن لو قدم بين يديه الخير والعمل الصالح. ولكن الذكرى لن تنفعه لأنه أضاع وقتها والتمني لن يغني عنه شيئا. وحينذاك يصير إلى العذاب ولن يكون له مفلت منه، ولن يكون له فيه بديل، ويوثق بالأغلال ولن يوثق محله بديل عنه. أما المؤمنون الصالحون ذوو النفوس الطيبة المطمئنة بما قدمت فيهتف بهم بأن لهم من ربهم الرضاء التام، وبأن مكانهم هو بين عباده الصالحين الأبرار وبأن منزلهم هو الجنة. والصلة بين هذه الآيات وسابقاتها ملموحة حيث يتبادر أنها تعقيب عليها بقصد بيان ما يكون من مصير الذين يقترفون الأفعال السيئة التي ذكرت في الآيات السابقة بعض نماذجها، وأسلوب الآيات عام مطلق أيضا مثل سابقاتها.

_ (1) انظر تفسيرها في تفسير الطبري والنيسابوري والآلوسي.

ولقد تكررت في القرآن كثيرا حكاية ما سوف يصدر من الكفار ومقترفي الآثام من ندم وحسرة على ما فعلوه حينما يرون مصيرهم الرهيب يوم القيامة، وقد مرّ مثل هذا في سورة المدثر بأسلوب آخر، كما تكرر الإنذار بأنه لن يغني في الآخرة أحد عن أحد. والمتبادر أن هذا الأسلوب مع ما ينطوي عليه من حقيقة إيمانية مغيبة قد استهدف فيما استهدفه إثارة الندم والخوف في هذه الفئة وحملها على الارعواء قبل فوات الفرصة والندم حيث لا ينفع الندم. ولقد تكرر في القرآن ذكر وقوف الناس بين يدي الله يوم القيامة أو مجيئه لذلك واصطفاف الملائكة حوله في مشهد الحساب والجزاء يوم القيامة بأساليب متنوعة. والمتبادر أن هذا مع وجوب الإيمان به وكونه في النص من قدرة الله ومع وجوب تنزيه الله عز وجل من مفهوم المجيء والرواح والوقوف والجلوس وغير ذلك من أفعال الخلق وصفاتهم قد استهدف التأثير بالسامعين لأنهم بخطورة المشهد القضائي الأخروي العظيم، قد اعتادوا في الدنيا عقد مجالس قضائية لمحاكمة المجرمين وعقوباتهم. وقد يكون الشأن في هذا هو مثل وصف الجنة والنار بأوصاف اعتادها الناس في الدنيا للتقريب والتمثيل والتأثير في السامعين على ما شرحناه قبل. ولهذا لا نرى طائلا من التزيد الذي يتزيده بعض المفسرين في صدد هذه المشاهد، ونرى وجوب البقاء في حدود ما جاء عنها في القرآن والسنة الثابتة، مع ملاحظة ذلك الهدف الذي ذكرناه والذي جاء وصف المشاهد الأخروية بأوصاف الدنيا من أجله. ولقد أولنا جملة وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ بما أولناها به لأن هذا هو الأكثر ورودا من معناها. والمتبادر أن الآيات الثلاث الأخيرة قد رمت إلى ذكر مصير الصالحين في الآخرة للمقابلة بمصير الآثمين الباغين مما جرى عليه الأسلوب القرآني كثيرا. وهي قوية رائعة بهتافها وتلقينها وروحها، حيث تنطوي على الإشارة بطمأنينة الجزء الأول من التفسير الحديث 35

تفسير الشيخ محيي الدين بن عربي للآية الأخيرة من السورة

النفس وما سوف يلقاه صاحبها من التكريم والرضاء عند الله. ولعل مما تنطوي عليه ويتصل بموضوع الآيات السابقة وخاصة الآيتين [15 و 16] تلقين التخلق بخلق الاطمئنان والرضى وعدم الاضطراب بتبدل ظروف الحياة عسرا ويسرا، وكون هذا هو ما يجب أن يكون عليه الإنسان العاقل في حالتي العسر واليسر. وهذا الخلق من أقوى المشجعات على مواجهة أحداث الحياة بقلب قوي ونفس رضية والتغلب على صعابها. ومن أوتيه فقد أوتي خيرا كثيرا وصار جديرا بهذا النداء الرباني المحبب النافذ إلى الأعماق. وواضح أن الآيات تلهم أن مثل هذا الخلق وأثره لا يكون إلا فيمن شع في نفسه الإيمان واستشعر بعظمة الله وقدرته الشاملة، وأسلم النفس والأمر إليه، ولم يتوان مع ذلك في القيام بواجبه نحوه ونحو الناس على كل حال. وآيات السورة وأسلوبها كما قلنا لا تحتوي مواقف جدل مع أشخاص بأعيانهم، وهي بسبيل إنذار عام وتوجيه عام ونقد عام حيث يصح أن يقال عنها ما قلناه عن سورة الفاتحة والأعلى والليل. تفسير الشيخ محيي الدين بن عربي للآية الأخيرة من السورة واستطراد خاطف إلى تفسيرات الصوفية وتعليق عليها هذا وفي الجزء الثالث من كتاب التفسير والمفسرون لمحمد حسين الذهبي تفسير مروي عن الشيخ محيي الدين بن عربي الصوفي المشهور للآية وَادْخُلِي جَنَّتِي جاء فيه: «وادخلي جنتي التي هي ستري وليست جنتي سواك. فأنت تسترني بذاتك الإنسانية فلا أعرف إلّا بك كما أنك لا تكون إلّا بي فمن عرفك عرفني وأنا لا أعرف فأنت لا تعرف فإذا دخلت جنة دخلت نفسك فتعرف نفسك معرفة أخرى غير المعرفة التي عرفتها حين عرفت ربك بمعرفتك إياها فتكون صاحب معرفتين معرفة به من حيث أنت ومعرفة بك من حيث هو لا من حيث أنت. فأنت عبد رأيت ربا وأنت رب لمن له فيه أنت عبد وأنت رب وأنت عبد لمن

له في الخطاب عهد ... » «1» . والشطح في هذا التفسير ظاهر حيث تفسر كلمات القرآن الواضحة المعنى والمدى بتأويلات رمزية لا تتصل بهدف القرآن الذي هو دعوة الناس إلى الإيمان بالله وحده واليوم الآخر وبرسالة رسوله وبما جاء في كتابه وسنة رسوله والالتزام به والوقوف عنده لأنه في ذلك صلاح بني الإنسان ونجاتهم في الدنيا والآخرة. وفي حين أن العبارات القرآنية قطعية الدلالة على أن خلق الله هو غير الله تعالى فإن الشيخ في شطحه حين يفسر الآية التي نحن في صددها يجعل الله تعالى وتنزه وخلقه شيئا واحدا متعدد الصور فلا يتورع من القول إن العبد رب للرب والرب عبد للعبد مما يقال له وحدة الوجود التي يستغرق فيها الصوفيون فيعمدون إلى تفسير آيات القرآن وفاقا لها مهما كانت المناسبة مفقودة ومهما كانت العبارات واضحة صريحة. ومهما كان فيما يقولونه شطح وشطط ومفارقة لغوية أو سبكية أو نظمية. بل ومهما كان فيه كفر بواح. ولهم شعار خاص بهم أسوة بشعار غلاة الشيعة والباطنية فهؤلاء يعمدون إلى تغطية هذياناتهم وشطحاتهم بالقول إن لكل آية وجملة قرآنية ظاهرا وباطنا وإن الجوهري المهم هو الباطن الذي يمكن أن تتعدد وجوهه وأن لا يكون منطبقا على سياق أو مناسبة أو حاضر أو مستقبل أو لغة كما شرحنا ذلك قبل. والصوفيون يعمدون إلى تغطية هذياناتهم وشطحاتهم بالقول إن للجمل القرآنية معنى حقيقيا ومعنى ظاهرا تشريعيا ويقولون إن الجوهري هو الحقيقة وإن الشريعة فيه هي شؤون ظاهرة تناسب عقول البسطاء من المسلمين وإن من السائغ

_ (1) ص 8 والمؤلف يعزو تفسير الآية هذا إلى كتاب للشيخ محيي الدين اسمه فصوص الحكم. وقد اطلعنا على هذا الكتاب وفيه سبعة وعشرون فصلا عقد كل فصل على نبي أو شخص من أنبياء وأشخاص القرآن وفسر في كل فصل لبعض آيات الله وقصص الأنبياء والأشخاص تفسيرا من نوع هذا التفسير وفيه العجيب الغريب من الشطح إن لم نقل من الهذيان. ويعزى لهذا الشيخ تفسير اسمه الفتوحات المكية فيه مثل ذلك من الشطح على ما يستفاد من النبذ المنسوبة إليه.

أن لا يكون بين الحقيقة والشريعة توافق في المدى والمحتوى والمناسبات وسائر الوجوه والمجالات. وسنورد أمثلة أخرى من تفسيراتهم لتوكيد الصورة بقصد تنبيه المسلمين إلى نموذج آخر من النماذج الشاذة في تفسير كتاب الله تعالى وهو التفسير الصوفي، وتحذيرهم من هذا النحو الذي لا سند له من عقل ونقل والذي يعمد إليه أفراد شاذون في خيالهم وعقولهم يزعمون لأنفسهم الإلهام والوحي أو يزعم لهم ذلك في حين أن الله تعالى قد أنزل الكتاب على رسوله ليكون للعالمين نذيرا وليخرج الناس من الظلمات إلى النور وليكون فيه هدى ورحمة لقوم يؤمنون وليهديهم به إلى الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين كما علمنا الله أن ندعوه وله الحمد أولا وآخرا. ولقد تصدى لابن عربي وأمثاله المتصوفة القائلين بوحدة الوجود وكون كل ما في الكون من خلق وكل ما يفعله الخلق هي صور لله كثير من العلماء في مختلف الحقب والبلاد الإسلامية ويندّدون بأقوالهم ويبينون ما فيها من تخريف وانحراف بل ودسائس على الإسلام لما فيه من شطح وهذيان ثم لما تؤدي إليه من إسقاط تكاليف الإسلام وإباحة كل محرم والتسوية بين الله والأوثان وبين المتقين والمجرمين والزناة واللصوص وبين الخير والشر والهدى والضلال والانحراف والاستقامة وإنكار لليوم الآخر وحسابه وثوابه وعقابه «انظر كتاب مصرع التصوف أو تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي وتحذير العباد من أهل العناد، تأليف العلامة برهان الدين البقاعي، تحقيق وتعليق عبد الرحمن الوكيل، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة 1373 هـ- 1953 م» .

سورة الضحى

سورة الضحى في هذه السورة تطمين النبي صلّى الله عليه وسلّم بعدم ترك الله إياه. وتذكير له بما كان من أفضاله عليه، وحثه على البر باليتيم والسائل والتحدث بنعمة الله. وأسلوبها ومضمونها يلهمان أنها نزلت في ظروف أزمة نفسية ألمّت بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وأن نزولها كان في عهد مبكر من الدعوة. وفيها إشارة إلى نشأة النبي صلّى الله عليه وسلّم في طفولته وحاله الاقتصادية والروحية في شبابه. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) . (1) سجى: هدأ وسكن أو أطبق بالظلام. (2) ودعك: بمعنى تركك. (3) قلى: ترك وهجر. (4) ضالا: هنا بمعنى حائرا. (5) عائلا: فقيرا. (6) فلا تقهر: فلا تظلمه ولا تغلبه على حقه ولا تذله. (7) فلا تنهر: فلا تصرخ فيه ولا تؤذه بالقول.

تعليق على روايات فتور الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم

(8) التحدث بنعمة الله كناية عن ذكر نعمة الله وشكر الله عليها وأداء الواجب على صاحبها نحو الله والناس. جميع آيات السورة موجهة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومعانيها واضحة. وفي آياتها الخمس الأولى قسم رباني في معرض التوكيد والتطمين. وفي آياتها الثلاث الأخيرة تعليمه ما يجب عليه إزاء نعم الله من الشكر وإزاء اليتيم من الرعاية وإزاء السائل من كلمة الخير والمساعدة. ومع احتمال انصراف الآية الرابعة إلى الحياة الأخروية فإن من المحتمل أيضا أن يكون قصد بها تطمين النبي صلّى الله عليه وسلّم وتبشيره بنجاح الدعوة، وبأن مستقبلها سيكون خيرا من بدئها وقد تساعد الآية الخامسة على تدعيم هذا التوجيه حيث تلهم أن ما احتوته من الوعد والبشرى بإعطاء الله له حتى يرضى هما بالنسبة لظروف الحياة الدنيا أقوى منهما بالنسبة للحياة الأخروية. ومع أن الخطاب في الآيات موجه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فإن الأوامر الربانية الواردة في الآيات الثلاث الأخيرة متسقة مع المبادئ والأهداف التي احتواها القرآن منذ بدء تنزيله، وتلقينها شامل لجميع المؤمنين. ويلحظ أن الفصول القرآنية السابقة قد احتوت ما يماثل هذه الأوامر، وقد استمرت الفصول القرآنية على ذكرها مما له مغزى جليل ينطوي على عظمة أهداف الرسالة المحمدية في صدد البرّ بالفقراء والرأفة بالضعفاء والتحدث بنعمة الله قولا وفعلا. ويتبادر لنا أن هذا كان من الأسباب القوية التي جعلت أغنياء مكة وزعماءها يتحالفون ضدّ الدعوة ويشتدون في مناوأتها، ويستمرون في ذلك طيلة العهد المكي والشطر الأكبر من العهد المدني. تعليق على روايات فتور الوحي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولقد روى المفسرون أن هذه السورة نزلت بعد فترة من نزول الوحي على النبي صلّى الله عليه وسلّم والروايات متنوعة ومتعددة في ذلك. منها ما هو في مدة هذه الفترة حيث تتراوح حسب اختلاف الروايات بين يومين وبين ثلاث سنين. ومنها ما هو في أسبابها وأثرها حيث روي فيما روي أن السيدة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها

قالت له حينما فتر عنه الوحي: ما أرى إلّا أن ربك قلاك، وأن مثل هذا القول صدر عن امرأة أبي لهب في معرض السخرية والشماتة، وأن امرأة أتت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت له ما أرى شيطانك إلّا تركك فإني لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث، وأن المشركين أو بعضهم قالوا لما عرفوا خبر الفترة إن محمدا قد ودّع وأن السورة لم تلبث أن نزلت بعد هذه الأقوال، وحيث روي أن اليهود سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ذي القرنين وأهل الكهف والروح فقال لهم: سأخبركم غدا ولم يقل إن شاء الله ففتر الوحي عنه، فلما جاءه بعد الفتور بهذه السورة قال له يا جبريل ما جئت حتى اشتقت إليك، فقال: إني كنت أشد شوقا إليك ولكني عبد مأمور، وحيث روي أنه كان للحسن أو الحسين في بيته جرو فلما نزل الوحي بالسورة وسأله النبي عن فتوره قال له: إنا لا ندخل بيتا فيه كلب! ومن الروايات ما هو في وقت نزول السورة حيث روي أن الفترة كانت بعد نزول آيات سورة العلق الأولى، وأن سورة الضحى هي أول ما نزل بعد هذه الآيات. ومنها ما هو في عدد فترات الوحي حيث روي أنها لم تكن مرة واحدة وإنما تكررت قصيرة حينا وطويلة حينا. وقد روي فيما روي كذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حزن حزنا شديدا من الفترة حتى همّ بأن يلقي نفسه من شاهق الجبل «1» . ومعظم الروايات غير موثق ومنها ما لا يمكن التسليم به لتعارضه مع وقت نزول السورة خاصة مثل رواية الفترة بسبب عدم قول النبي صلّى الله عليه وسلّم إن شاء الله حينما سأله اليهود عن المسائل الثلاث وقال لهم سأخبركم غدا. لأن احتكاك النبي صلّى الله عليه وسلّم باليهود وأسئلتهم التعجيزية له كانت في العهد المدني ولم ترد رواية وثيقة عن مثل ذلك في العهد المكي فضلا عن أن نزول قصص أهل الكهف وذي القرنين والسؤال عن الروح إنما كان في أواسط العهد المكي، ومثل رواية الفترة بسبب جرو الحسن

_ (1) انظر هذه الروايات المتنوعة والمتعددة في سياق تفسير السورة في تفسير الطبري والنيسابوري وابن كثير والبغوي والطبرسي والزمخشري والخازن والآلوسي وشرح العيني على البخاري ج 19 ص 62 وكتاب التاج الجامع وكتاب التفسير في تفسير سورة الضحى وفترة الثلاث سنين ذكرت في شرح العيني على البخاري ورواية حزن النبي من الفترة حتى همّ بأن يلقي نفسه من شاهق في تاريخ الطبري ج 2 ص 52 مطبعة الاستقامة.

أو الحسين رضي الله عنهما في بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم لأن السبطين الشريفين من مواليد المدينة، ومثل رواية قول خديجة رضي الله عنها للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ما أرى ربك إلّا قلاك، لأن المأثور أنها كانت تشجعه وتثبته وتبثّ في نفسه الثقة والقوة والعزيمة على ما أوردنا بعض ذلك في مناسبة سابقة ومثل رواية استمرار الفترة ثلاث سنين لأن هذا لو وقع لكان غيّر مجرى تاريخ الدعوة لأن من شأنه أن يثير القلق بل والشكّ حتى في نفوس المؤمنين المخلصين الذين استجابوا للدعوة والتفوا حول النبي صلّى الله عليه وسلّم. والموثق من الروايات والتي يبدو عليها سمة الصحة وصدق الاحتمال هي رواية فتور الوحي ليلتين أو ثلاثا وقول امرأة للنبي صلّى الله عليه وسلّم إني أرى شيطانك قد تركك، فما لبثت السورة أن نزلت وقد جاءت هذه الرواية في حديث للبخاري ومسلم، ورواية إبطاء الوحي عن النبي أياما وقول المشركين أن محمدا قد ودّع فما لبثت السورة أن نزلت، وقد جاءت هذه الرواية في حديث لمسلم والترمذي «1» . وعلى كل فيمكن القول بشيء من القطعية والجزم استلهاما من سورة الضحى واستئناسا بالروايات الكثيرة المتواترة: 1- إن الوحي قد فتر أياما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في أوائل عهد الدعوة. 2- وإن الفترة قد أثارت في نفسه حزنا وأزمة وخوفا من أن يكون الله قد تخلّى عنه بعد أن سار في الدعوة شوطا ما. 3- وإن المشركين أو بالأحرى الذين قادوا حركة المعارضة لدعوته والذين أظهروا عداء شديدا له استغلوا ذلك وقالوا في سخرية وشماتة إن ربّه قد قلاه

_ (1) التاج الجامع ج 4 ص 260 ونص الحديث الأول: «اشتكى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يقم ليلتين أو ثلاثا فجاءت امرأة فقالت يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث فأنزل الله: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) » ، وعلق مؤلف التاج على هذا الحديث أن المرأة هي العوراء أخت أبي سفيان وزوجة أبي لهب. وقد روى المفسرون اسمها في جملة ما رووه. ونصّ الحديث الثاني قال الراوي: «كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في غار فدميت إصبعه فقال هل أنت إلّا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت. قال فأبطأ عليه جبريل فقال المشركون قد ودّع محمد فأنزل الله ما ودّعك ربّك وما قلى» .

صورة من صميمية النبي صلى الله عليه وسلم

وودعه، وإن منهم من عيّره بذلك مواجهة، وإن ذلك قد زاد من حزنه وأزمته حتى نزلت السورة التي احتوت تثبيتا وتطمينا وردا على الشامتين. ومن الجدير بالذكر أن في القرآن قرائن قد تدل على أن الوحي فتر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في أواسط العهد المكي على ما سوف ننبه عليه في مناسباته. غير أن ذلك لم يحدث في النبي صلّى الله عليه وسلّم أزمة، ولم يتعرض بمناسبة ذلك لحملة كما كان شأن هذه المرة مما هو طبيعي، لأن هذه المرة كانت في مبادئ الدعوة وخطواتها الأولى. صورة من صميمية النبي صلّى الله عليه وسلّم والمتمعن في آيات السورة الأولى وهي تؤكد للنبي صلّى الله عليه وسلّم عدم ترك ربّه إياه يلمس صميمية رائعة تملأ النفس إعجابا فيما أثارته الفترة من قلق في نفس النبي صلّى الله عليه وسلّم وتنمّ عن يقينه العميق بأنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبأن ما كان يبلغه من الآيات والفصول القرآنية هو وحي الله، فإذا أوحي إليه بشيء تلاه وإذا فتر عنه الوحي أعلن ذلك، وإذا لم يتل على الناس شيئا جديدا في ظرف ما فلأنه لم يوح إليه بشيء جديد. فقد علمه الله أن يعلن للناس أنه ليس عنده خزائن الله ولا يعلم الغيب ولا يزعم أنه ملك كما جاء في سورة الأنعام هذه: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ [50] وآية سورة الأعراف هذه: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) وقد أمره الله أن يعلن أنه لا يبلغ إلّا ما يوحى إليه ولا يستطيع أن يغير ويبدل فيه كما جاء في آية يونس هذه: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) .

نشأة النبي صلى الله عليه وسلم منذ طفولته إلى نبوته

نشأة النبي صلّى الله عليه وسلّم منذ طفولته إلى نبوته وفي الآيات [6 و 7 و 8] إشارة إلى ما كانت عليه ظروف النبي صلّى الله عليه وسلّم في نشأته الشخصية والروحية وحاله الاقتصادية منذ طفولته إلى أن أكرمه الله بالنبوة، فأشير فيها إلى يتمه في عهد طفولته، وفقره في عهد فتوته وشبابه، ثم حيرته الروحية في الاتجاه الذي يتجه إليه في دينه وعبادته ومبادئه. وقد قررت أن الله قد حماه في عهد يتمه حيث كان اليتيم معرضا للإرهاق والقهر والضياع فجعل له مأوى أمينا، ويسّر له في عهد شبابه من بسطة العيش واليسر ما جعله في غنى عن التكسب وفي راحة من عناء المعيشة وهمها، ونقّى نفسه ووجّهه إلى سبيل الهدى القويم فأنقذه من حيرته. والروايات تكاد تكون متواترة إلى حد اليقين «1» بأنه كان له من جده عبد المطلب أولا ومن عمه أبي طالب بعده من البرّ والرأفة والحماية والعناية في طفولته وشبابه ثم من عمّه بعد بعثته من النصر والعطف ما ضمن له النشأة الصالحة ثم الحرية والمنعة. كذلك فإن الروايات تكاد تكون متواترة إلى حدّ اليقين «2» بأن حاله الاقتصادية قد تحسنت وانتهى ما كان يعانيه من متاعب العيش بزواجه من السيدة خديجة رضي الله عنها الشريفة في قومها، الغنية في مالها القوية في خلقها وعقلها وروحها، المتنعمة في معيشتها، وكان من أثر ذلك أن اطمأنت نفسه وأخذ يفرغ قلبه وذهنه لما كانت نفسه مستعدة له من الاستغراق في آلاء الله ومظاهر الكون والتفكير فيما عليه قومه من ضلال في التقاليد والعقائد، وتمكن من القيام باعتكافات روحية كانت خديجة رضي الله عنها تشجعه عليها وتهيىء له ما يحتاج إليه فيها على ما جاء في الحديث الذي رواه الشيخان عن عائشة والذي أوردناه في سياق سورة العلق، حتى كان مظهر اختصاص الله إياه بالرسالة العظمى حينما بلغ أشده واستوى. ولقد كانت السيدة خديجة رضي الله عنها عطوفة عليه بارة به، ومن أقوى

_ (1) انظر طبقات ابن سعد ج 1 ص 99 وما بعدها مثلا. (2) انظر طبقات ابن سعد ج 1 ص 113 وما بعدها وانظر أيضا الأمرين في كتاب حياة محمد صلّى الله عليه وسلّم لهيكل طبعة ثانية ص 105- 132.

المشجعين المثبتين له الذابّين عنه المصدقين به، مما يمكن أن يدل على أنها قد أدركت بفراستها القابليات العظمى التي تميز بها والاستعداد الروحي الذي ظهرت آثاره عليه، والأخلاق الكريمة التي تحلى بها فلم يكد يخبرها بأمر الوحي حتى تيقنت صدقه ونفت ما طاف في ذهنه من خوف وهتفت بتلك الكلمات المأثورة الخالدة: «كلا إن الله لن يخزيك. فإنك تفعل المعروف. وتقري الضيف. وتحمل الكل. وتعين على نوائب الدهر» على ما أوردناه من حديث للبخاري في سياق سورة القلم. وأما عن حيرته فقد كان إزاء ما عليه قومه من تقاليد وطقوس وأخلاق وعادات وعقائد في موقف المنقبض المتشكك منذ عهد شبابه على ما ذكرته الروايات» كما كان في مثل هذا الموقف إزاء ما كان عليه أهل الكتاب من اختلاف ونزاع وشذوذ من دون شك ولا سيما حينما كان يسمع اليهود يقولون ليست النصارى على شيء، وحينما كان يسمع النصارى يقولون ليست اليهود على شيء، ويرى الخلاف والنزاع يشتدان بينهم إلى درجة الاقتتال مما أشارت إليه آية البقرة هذه: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وآية البقرة هذه أيضا: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ «2» [253] . فكانت تعتلج في نفسه الأفكار وتقوم في صدره الشكوك في صواب ما يرى، ويسلم نفسه إلى التفكير في آلاء الله وعظمة الكون والاعتكافات الروحية، فلم يلبث أن صفت نفسه وشعّ في قلبه نور الحقيقة الإلهية العظمى واهتدى إليها بإلهام الله فجعلها الهدف الذي يستهدفه والاتجاه الذي يتجه إليه.

_ (1) انظر طبقات ابن سعد ج 1 ص 112 و 126- 127 و 136 و 140. [.....] (2) الآيات تذكر أمرا واقعا قبل نزولها ممتدا إلى ما قبل البعثة ونعتقد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يسمعه ويعرفه.

ولقد روت الروايات «1» أنه أخذ ينشأ في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم طبقة من العقلاء داخلهم الشك مثله في صواب ما عليه العرب والكتابيون، وأخذوا يبحثون مثله عن الطريق الأقوم والسبيل الحق ويتجهون مثله إلى الحقيقة الإلهية العظمى وحدها، ومنهم من كان اعتزم الطواف للبحث عن ملّة إبراهيم ليسير عليها وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم التقى ببعض هؤلاء قبل البعثة. فمن الممكن أن يقال إن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان في عهد حيرته هذا من هذه الطبقة وإنه كان مثل أفرادها يود أن يتعرف على حدود ملة إبراهيم ويسير في سبيلها عن يقين، ثم كان له من صفاء النفس وذكاء العقل وقوة القلب وعظيم الخلق وعيمق الاستغراق ما جعله يمتاز عليهم فكان مصطفى الله من بينهم، فأتم الله إيمانه وأنار بصيرته وأنقذه من حيرته إلى اليقين واختصه بالنبوة وانتدبه للمهمة العظمى التي أوحي إليها فيما بعد بآيات الأحزاب هذه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48) . ولقد نصت الآيات القرآنية على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى عهد نبوته لم يكن يدري من أمر نبوته ومهمته شيئا، ولم يكن يرجو أن ينزل عليه كتاب كما جاء في آية سورة القصص هذه: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [86] وفي آية سورة الشورى هذه: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) وفي آية سورة يونس هذه: قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا

_ (1) انظر الفصلين الخامس والسادس من الباب الرابع في الحياة الدينية عند العرب في كتابنا عصر النبي عليه السلام وبيئته قبل البعثة ص 396- 434 وانظر سيرة ابن هشام ج 1 ص 215- 323 وج 2 ص 103، وص 177، 178 وطبقات ابن سعد ج 1 ص 202 وتفسير الرازي ج 1 ص 369، 370 وأسد الغابة ج 2 ص 327- 329.

أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) . وهذا يجعلنا نقول إن هذا الدور الذي قضاه منذ شبابه إلى اكتمال نضجه ونزول الوحي عليه كان دور استعداد وتأهل روحي، وهو الدور الذي يمكن أن يطلق عليه دور الحيرة والذي عنته الآية الكريمة: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى فيما يتبادر لنا مما يجعلنا نعتقد أن كلمة ضَالًّا لم تعن السير في سبيل الضلالة والشرك والتقاليد الجاهلية والوثنية التي كان عليها العرب، وأن كلمة فَهَدى لم تعن أن الله أخرجه من هذا النطاق بعد أن ارتكس فيه، وإنما عنت الأولى ما كان في نفسه من حيرة وتململ وتوقان إلى ساحل اليقين، كما عنت الأخرى ما كان من اليقين الذي وصل إليه فاطمأنت به نفسه. وفي سورة الأنعام آيات يمكن الاستئناس بها لما قررناه بوجه عام ولما أشرنا إليه في صدد ملة إبراهيم والرغبة في الاهتداء إليها واتباعها بوجه خاص وهي: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) وقوة التلقين والدلالة في هذه الآيات قوية أخّاذة. هذا ولقد روى بعض المفسرين «1» في سياق آية وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (7) أنها إشارة إلى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد تاه في طفولته في جبال مكة فقلق عليه جده وبحث عنه طويلا حتى وجده ولم يصب بسوء. ونحن نشك في الرواية كل الشك، لأنّ الحادث الذي ذكرته أتفه من أن يكون موضوع ذكر وتذكير، فضلا عن عدم وثوقها وعن التوجيه الصحيح الذي قررناه والذي تسنده آيات القرآن.

_ (1) انظر تفسير السورة في تفسير الكشاف للزمخشري وتفسير مجمع البيان للطبرسي والخازن. على أن هؤلاء المفسرين وجمهرة المفسرين الآخرين يؤولون الضلال بنحو ما أولناه أو في نطاقه. انظر كتب التفسير الثلاثة المذكورة وانظر أيضا تفسير الطبري والنيسابوري والبغوي وابن كثير والآلوسي إلخ.

سورة الشرح

سورة الشرح في السورة تطمين لنفس النبي صلّى الله عليه وسلّم وتذكيره بعناية الله به. وبينها وبين سابقتها تماثل حتى لكأنها امتداد لها وحتى لقد روي أن السورتين سورة واحدة غير أن المتواتر أنهما سورتان، تفصل بينهما بسملة مثل سائر السور. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) . (1) وضعنا: حططنا وخففنا. (2) وزرك: حملك. (3) أنقض ظهرك: أتعبك وأثقل عليك. (4) فرغت: خلوت أو انتهيت من شغلك. (5) فانصب: فقم واجهد. (6) وإلى ربك فارغب: أقبل بشوق على عبادة ربك. آيات هذه السورة موجهة كذلك إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم كسابقتها. وقد احتوت تذكيرا بما كان من عناية الله به وتطمينا وتثبيتا له أو حثا على عبادة الله والتقرب إليه.

وقد ذكرت بعض الروايات «1» أنها وسورة الضحى سورة واحدة وأن طاوسا وعمر بن عبد العزيز من التابعين كانا يتلوانهما معا بدون فصل بالبسملة. غير أن المتواتر المتصل بمصحف عثمان رضي الله عنه الذي هو على ترتيب المصحف الذي كتب في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، والذي نعتقد أنه الترتيب المأثور عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنهما سورتان تفصل بينهما بسملة. والمتبادر أن التماثل والتعاقب بين السورتين مما جعل بعض التابعين إذا صحت الرواية يقولان إنهما سورة واحدة. وهذا التماثل والتعاقب يلهمان أن هذه السورة بمثابة استمرار لسابقتها ظرفا وسياقا وموضوعا، أو أنها نزلت في ظرف أزمة نفسية ثانية، ألمت بالنبي صلّى الله عليه وسلّم بعد أزمة فترة الوحي مما كان يلاقيه من قومه من عناء وعسر. وأسلوبها أسلوب تطميني محبب. فالله الذي شرح صدره وخفف الوزر الذي كان شديدا عليه ورفع ذكره مما هو معترف به منه، لا يمكن أن يدعه وشأنه، ولا أن يجعل عسره مستمرّا، وعليه أن يتجلد ويصبر، فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا. والمتبادر أن شرح الصدر قد قصد به ما أنعم الله على النبي صلّى الله عليه وسلّم من الهدى واليقين. وأن وضع الوزر قد قصد به إنقاذه من دور حيرته النفسية، وأن رفع الذكر قد قصد به ما كان من اختصاصه بالنبوة العظمى. وفي التوكيد مرتين بأنه سيكون مع العسر يسرا ما يدل على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يلقى صدا وعسرا شديدين، وأنه كان يعتلج في نفسه بسبب ذلك همّ وغمّ وقلق. وفيه بشرى وتطمين بأن الأمر سينتهي إلى اليسر والنجاح. ومثل هذه البشرى قد جاءت في السورة السابقة بأسلوب الوعد بأن الله سوف يعطيه حتى يرضى، وأن النهاية ستكون خيرا من البداية. ومما لا شك فيه أنه كان لهذا التوكيد وكذلك للأمر بالاتجاه في الفراغ والخلوات حالما يفرغ من عمله اليومي أثر في استشعار النبي صلّى الله عليه وسلّم بالسكينة وقوة

_ (1) انظر تفسير السورة في تفسير النيسابوري «غرائب القرآن» .

النفس والروح، وأن ذلك قد ساعده أعظم مساعدة على مواجهة الصعاب، والاستخفاف بالعقبات والاستغراق في الدعوة والاندفاع فيها، والثبات والصبر حتى تمّ له النصر الموعود وتبدل العسر يسرا، وصارت كلمة الله هي العليا. وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى دون ريب، حيث يمد كل صاحب دعوة إلى سبيل الله والخير العام بقوة الروح، وسكينة النفس وطمأنينة القلب والاندفاع فيما هو بسبيله، واقتحام صعابه وعقباته وتحمل العناء، راضيا مطمئنا إلى أن يصل إلى هدفه، ويكون له بعد العسر يسر إذا ما تشبع قلبه بالإيمان، وامتلأ بعظمة الله واتجه إليه وحده واستصغر كل ما عداه.

سورة العصر

سورة العصر احتوت السورة توكيدا حاسما بأن لا فلاح للإنسان إلّا بالإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والصبر. وأسلوبها يدل على أنها من أوائل السور نزولا مثل الليل والأعلى وغيرهما، لأنها احتوت مبادئ عامة محكمة من مبادئ الدعوة. وقد ذكرت بعض الروايات «1» أنها مدنية، غير أن أسلوبها يدل على مكيتها وهو ما عليه الجمهور. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة العصر (103) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3) . (1) العصر: آخر النهار إلى احمرار الشمس، ويقال له الأصيل أيضا. وبعض المفسرين قالوا إن العصر هو الدهر «2» ولكن الجمهور على القول الأول. (2) تواصوا: أوصى بعضهم بعضا. السورة على قصرها جاءت بأسلوب حاسم قوي، لتهتف بالناس أن لا فلاح لهم ولا نجاح ولا صلاح إلّا في الإيمان بالله وحده والعمل الصالح والتواصي بالحق والصبر، وأن كل من ينحرف عن هذه السبيل فهو خاسر.

_ (1) انظر تفسير الآلوسي ج 30 ص 227. (2) انظر تفسير السورة في تفسير النيسابوري مثلا. الجزء الأول من التفسير الحديث 36

تعليق على تعبير الصالحات

وهي على إيجازها خلاصة هدف الدعوة الإسلامية الموجهة إلى الإنسانية جمعاء، وهي عرض عام مثل سورة الأعلى والليل. ولذلك نرجح أنها نزلت مثلهما قبل الفصول القرآنية التي فيها حكاية مواقف المكذبين في سورة العلق والقلم والمزمل والمدثر. ولقد كان المؤمنون الأولون رضي الله عنهم يعرفون عظم مدى السورة حتى لقد روي «1» أن الرجلين من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا التقيا لم يفترقا إلّا بعد أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر ثم يسلم أحدهما على الآخر. ولقد قال الشافعي رحمه الله «2» : لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم. ونقول بالمناسبة إن هناك آثارا في فضل صلاة العصر. وقد فسرت الصلاة الوسطى المأمور بالمحافظة عليها بنوع خاص في آية البقرة هذه: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [238] بصلاة العصر «3» . والتسمية تنويهية بفضل هذه الصلاة. ومما يروى «4» أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يجلس في مسجده في المدينة لأصحابه بعد هذه الصلاة فيلتفون حوله ويستمعون إلى تعاليمه وعظاته ويراجعه الناس في مشاكلهم، لأنهم يكونون في هذا الوقت قد فرغوا من مشاغلهم اليومية أو كادوا، وتكون شدة الحرارة في الصيف قد خفّت. ومن هنا كان الحث على المحافظة عليها كما هو المتبادر ومن هنا تبدو حكمة القسم الرباني بوقتها. تعليق على تعبير الصَّالِحاتِ وتعبير الصَّالِحاتِ عام مطلق يتضمن كل نوع من أنواع الخير والبر والمعروف تعبديا كان أم غير تعبدي، فعبادة الله وحده وإسلام النفس إليه ونبذ ما

_ (1) انظر تفسير السورة في تفسير ابن كثير. (2) المصدر نفسه. (3) انظر تفسير الآية في تفسير الزمخشري والطبرسي وابن كثير والطبري والمنار. (4) انظر تفسير آية المائدة التي فيها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ ... الآية [106] في تفسير الزمخشري والطبرسي والمنار أيضا.

تعليق على التواصي بالحق والتواصي بالصبر

سواه عمل صالح، والإحسان والبرّ بالمحتاجين والرحمة بالضعفاء عمل صالح، والجهاد في سبيل الله ومكافحة الظلم والظالمين وتضحية النفس والمال في هذا السبيل عمل صالح، والتزام الحق والعدل والإنصاف والصدق والأمانة عمل صالح، والتعاون على البرّ والتقوى والأعمال العامة عمل صالح، والكسب الحلال وقيام المرء بواجباته نحو أسرته وأولاده وأقاربه عمل صالح، ومعاملة الناس بالحسنى عمل صالح إلخ ... وهكذا يكون تلقين السورة وما انطوى فيها من هدف الدعوة هو التبشير بكل عمل فيه خير وبرّ ورحمة ومكرمة وفضيلة وإخلاص لله، وبكلمة ثانية بكل ما فيه جماع الخير وسعادة الدارين. وأعظم بهما من تلقين وهدف جليلين خالدين، ومن هنا تبدو قوة القول المأثور عن الشافعي رحمه الله. تعليق على التواصي بالحق والتواصي بالصبر وتعبير «التواصي» قوي لأنه للمشاركة. فلا يكفي أن يلتزم الإنسان الحق والصبر بنفسه، بل يجب أن يتضامن الناس فيهما ويوصي بعضهم بعضا بهما. والتواصي بالحق يستهدف تضامن أفراد المجتمع في الحق وإحقاقه، بحيث يكون الحق هو القائم الحاكم المؤيد من مجموعهم. والتواصي بالصبر يستهدف تضامن أفراد المجتمع في شد بعضهم أزر بعض في الأحداث الملمة والمصاعب المدلهمة وفي مواقف الحق والخير، دونما وهن ولا ضعف ولا جزع ولا تراخ. وإذا لوحظ أن تعبير الحق عام يشمل كل شيء من حقوق الله على عباده وحقوق المجتمع على أفراده، وحقوق المجتمعات على بعضها، وحقوق الأفراد على بعضهم ومجتمعاتهم، وحقوق الضعفاء والبؤساء والمحرومين على الأقوياء والقادرين والميسورين يبان مدى التلقين القرآني الجليل في التنويه بالتواصي بالحق وجعله لازما للذين آمنوا وعملوا الصالحات، واختصاصه بالذكر من الصالحات مع أنه داخل في معناها الشامل، وما استهدفه هذا التلقين من الارتفاع بالإنسان

مدى التنويه القرآني بالصبر

والمجتمع الإنساني إلى مرتبة الكمال من حيث الطمأنينة العامة والسلامة الاجتماعية، وانتفاء أسباب الضغينة والحقد والقطيعة والخصام والبغي والبؤس والقلق التي تجتاح المجتمع حينما تنتشر فيه الفردية وتقوى الأنانية، ويشتد عدم مبالاة الفرد بغير نفسه ومصلحته وكيانه الخاص لضمان النفع لنفسه من أي سبيل، أو حينما يتسع المجال فيه لبغي الناس وعدوانهم بعضهم على بعض بدون رادع، أو حينما تداس فيه حقوق الضعفاء وتفقد فيه رغبة مساعدة المحتاجين، وتضعف أو تزول فيه عاطفة البرّ والتعاطف الاجتماعية. وهذا المبدأ بهذه السعة من المبادئ الجليلة التي قررها القرآن مرة بعد مرة وبأساليب متنوعة، حتى كان من أهم أهداف الدعوة الإسلامية. ووروده في هذه السورة المبكرة وبهذا الأسلوب القوي يدل على أنه من أسس الدعوة الرئيسية، وإنه لكذلك. وإنه لمن أقوى مرشحات الإسلام للشمول والخلود. ومثل هذا يقال في صدد الصبر والتواصي به. لأن ذلك الخلق الشخصي الاجتماعي من لوازم الحياة الإنسانية الصالحة وعمدها. ويهدف القرآن إلى تقويته في الأفراد والمجتمع وبثّ روح القوة والطمأنينة فيهم. ووروده في هذه السورة المبكرة وبهذا الأسلوب القوي يدل على اعتباره من أهم الأخلاق التي يجب أن تقوم عليها الشخصية الإنسانية الإسلامية، وعلى ما له من خطورة وضرورة في حياة الأفراد والمجتمع. مدى التنويه القرآني بالصبر ونرى بهذه المناسبة أن نشير إلى ما تكرر كثيرا في القرآن من التنويه بالصبر حتى لقد بلغ عدد المرات التي وردت فيها كلمة الصبر ومشتقاتها في القرآن المكي والمدني ونوّه فيها بخلق الصبر وحثّ عليه وأثنى على من يتخلق به ويلتزمه ووعد بالنجاح والأجر وأمر بالاستعانة به على مواجهة الخطوب والشدائد نحو مائة مرة حيث يدل هذا على مبلغ العناية الربانية بترسيخ هذا الخلق أو هذه الفضيلة التي هي من أجل الفضائل الأخلاقية في المسلمين. من ذلك في القرآن المكي هذه الآيات:

1- إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ يوسف [90] . 2- وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) الرعد [22] . 3- وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) النحل [41- 42] . 4- ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96) النحل [96] . 5- الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) الحج [35] . 6- قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) الزمر [10] . 7- وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) فصلت [34- 35] . 8- وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) الشورى [43] . ومن ذلك في القرآن المدني هذه الآيات: 1- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ

مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) البقرة [153- 157] . 2- لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) البقرة [177] . 3- وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) آل عمران [146] . 4- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) آل عمران [200] . وواضح من هذه الآيات ومن الآيات الكثيرة الأخرى التي وردت في سور عديدة، أن هدفها هو بثّ روح الجلد ورباطة الجأش وضبط النفس والسكينة والتضحية في نفس المسلم مما يضمن له الكرامة والعزة والنجاح ويجنبه الطيش والهلع والجزع والاضطراب والقلق في الأزمات والأخطار. والصبر بعد يتجسد في أخلاق كثيرة، فالشجاعة هي الصبر على مكاره الجهاد ومواقف الحق. والعفاف هو الصبر على الشهوات. والحلم هو الصبر على المثيرات. والكمال هو الصبر على أمانة الأسرار. والزهد هو الصبر على الحرمان. فإذا ما رسخ هذا الخلق في امرئ صار له من القوة المعنوية والشجاعة والجلد ما يمكنه من مواجهة الخطوب دون فزع وجزع وتحمل المشاق والرضاء بالمكروه والحرمان في سبيل الحق والشرف والكرامة والعزوف عن الشهوات والمثابرة على المقاصد النبيلة مهما عسرت وطال أمدها وغدا محل رضاء الله عز وجل والناس واعتمادهم. ولقد روى الخمسة عن أبي سعيد الخدري حديثا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه:

«ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر» «1» . حيث ينطوي في الحديث التنويه العظيم بالصبر الذي ينطوي في الآيات القرآنية ويتساوق بذلك التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الأمر مثل سائر الأمور. ولقد يكون في القرآن المكي بل والمدني آيات تحثّ النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين على الصبر على ما كان يقع من أذى الكفار وما كان من هؤلاء من مكابرة وعناد ومناوأة. غير أن المتمعن فيها يجد أنه ليس من تناقض بينها وبين ما قررناه. كما أنه ليس فيها ما يمكن أن يكون حثا على احتمال الظلم والجور والضيم والذل. وكثير منها بل جميعها إنما توخت تثبيت النبي صلّى الله عليه وسلّم على ما هو عليه من الحق وتهدئتهم إلى الوقت المناسب وحث النبي صلّى الله عليه وسلّم على الاستمرار في الدعوة والمهمة التي انتدب لها كما ترى في الأمثلة التالية وهي مكية ومدنية: 1- وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109) يونس [109] . 2- وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) النحل [126- 128] . 3- فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) غافر [77] . 4- وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) الطور [48] . 5- وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) البقرة [109] .

_ (1) التاج ج 2 ص 32- 33.

مغزى تلازم الإيمان والعمل الصالح في القرآن

6- لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) آل عمران [186] . مغزى تلازم الإيمان والعمل الصالح في القرآن وفي تقديم الإيمان على العمل الصالح إشارة إلى انبثاق العمل الصالح من الإيمان. فالإيمان هو الذي يدفع صاحبه إلى الخير ويزعه عن الشر. وفي ربط الإيمان بالعمل الصالح إشارة إلى وجوب تلازمهما واعتبار العمل الصالح عنوانا أو مظهرا للإيمان. وهذا التلازم بين ذكر الإيمان والعمل الصالح يلحظ في جل الآيات القرآنية مما يمكن أن يدل على قصد الإشارة إلى شدة الارتباط واللحمة والتوافق بينهما وتوكيدها. وإذا لوحظ أن الإيمان شيء داخلي أو ذاتي في أعماق النفس لا يمكن أن يدل على نفسه بنفسه، ولا يمكن أن يدل عليه إلا العمل الصالح بأن لنا وجه الحق في ذلك. والحكمة في هذا ظاهرة قوية، فالإيمان يمنح صاحبه طمأنينة واستقرار نفس يجعلانه يصدر في أعماله وأهدافه عن يقين وقصد وتثبت واندفاع وصبر، ويتحمل في سبيل ذلك ما قد يلاقيه من مصاعب وما تمس الحاجة إليه من تضحيات. والإيمان بالله يجعل صاحبه يقبل على الخير والعمل الصالح وينقبض عن الشر والإثم والسيئات ابتغاء لوجه الله واتقاء لغضبه واكتسابا لرضائه ورضوانه، دون أن يكون هناك حافز من منفعة عاجلة أو دون أن يكون ذلك مما لا بد منه على الأقل. أما العمل الذي لا يصدر عن إيمان فإنه يكون معرضا في الأغلب للانقطاع والتردد والتأثر بالمؤثرات والاعتبارات الشخصية والنفعية والظرفية. وكثيرا ما ينصرف المرء عنه حينما يلقى المصاعب والمشاكل، أو حينما يتطلب منه التضحيات أو حينما لا يكون من ورائه جلب خير أو دفع شر عاجل. والعمل الصالح من الجهة

الأخرى لا يكون فيه حيوية ويقين وتثبت واستمرار إذا لم يكن منبثقا من إيمان يجعله لازما حيّا قويا بذاته وبصرف النظر عن أي اعتبار، ويجعل صاحبه لا ينصرف عنه مهما لاقى في سبيله من مصاعب واقتضى منه من تضحية وعناء واستنفد من قوة وجهد. وإذا أراد قائل أن يقول إن هناك من يفعل الخير لذاته نتيجة للتربية الخلقية الراسخة فليذكر هذا القائل أن هذا النوع من الندرة بحيث لا يمكن أن يورد على ما قررناه آنفا وأن المجتمع في حاجة دائمة إلى حافز مشترك يشمل بتأثيره أكبر عدد ممكن من البشر، وليس هذا الحافز إلّا الإيمان. وهذا فضلا عن أن التدين الراسخ في أعماق الطبيعة الإنسانية يمهد السبيل لقوة هذا الحافز وتأثيره وشموله. وإذا أراد قائل أن يقول إن كثيرا من المؤمنين بالله واليوم الآخر لا يفعلون الخير أو لا يفعلونه إلّا إذا رجوا مقابلة عاجلة عليه، فالجواب على هذا هو أن إيمان هؤلاء ليس هو الإيمان الصحيح. فهم مسلمون أكثر منهم مؤمنون. وقد فرق القرآن بين الفئتين ونبه لمدى وأثر الإيمان الصحيح في صاحبه في آيات سورة الحجرات هذه: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) . على أن الوازع للخير يظل دائما أقوى في المؤمنين على كل حال منه في غير المؤمنين على ما هو المشاهد المحسوس في كل وقت. هذا، وأسلوب السورة المطلق يسوغ وصفها بما وصفت به سورة الفاتحة والأعلى والليل والفجر، والله أعلم. [تم بتوفيق الله الجزء الأول ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثاني وأوله تفسير سورة العاديات]

فهرس المحتويات

فهرس المحتويات مقدمة الطبعة الأولى 5- 18 مقدمة الطبعة الثانية 19- 21 محتويات القرآن المجيد الفصل الأول: القرآن أسلوبه ووحيه وأثره 27- 66 القرآن والمسلمون- شخصية النبي- الدعوة القرآنية- أسلوب القرآن- القرآن والبيئة والسيرة النبوية- الوحي الرباني والوحي القرآني- شهود العيان لأعلام النبوة- أثر القرآن الروحي وبلاغته النظمية- أثر الدعوة القرآنية في نجاح الفتوحات الإسلامية- تطور سيرة النبي والتنزيل القرآني- القرآن والعرب في عهد النبي. الفصل الثاني: جمع القرآن وتدوينه وقراءاته ورسم المصحف وتنظيماته.. 67- 140 مجموعات من الروايات والأقوال في تدوين القرآن وجمعه- تعليقات على الروايات والأقوال وترجيح تدوين القرآن وترتيبه في عهد النبي ومرجحات ذلك-- أسماء السور- فصل السور بالبسملة- السجدات- كتابة ترتيب النزول وعدد الآيات- الشكل والنقط- علامات الوقف والوصل- رسم المصحف العثماني- القراءات.

الفصل الثالث: الخطة المثلى لفهم القرآن وتفسيره 141- 203 القرآن والسيرة النبوية- القرآن والبيئة النبوية- اللغة القرآنية- القرآن أسس ووسائل- القصص القرآنية- الملائكة والجنّ في القرآن- مشاهد الكون ونواميسه في القرآن- الحياة الأخروية في القرآن- ذات الله في القرآن- تسلسل الفصول القرآنية وسياقها- فهم القرآن من القرآن. الفصل الرابع: نظرات وتعليقات على كتب المفسرين ومناهجهم 205- 275 روايات أسباب النزول- روايات التفسير- تعليقات المفسرين على القصص- تعليقات المفسرين على مشاهد الكون والملائكة والجن- التشاد المذهبي في سياق التفسير- الولع بأسرار القرآن ورموزه ومنطوياته- الولع بالتفريع والاستطراد- روايات نزول القرآن جملة واحدة وأثرها- روايات نزول القرآن بالمعنى وأثرها- الخلاف على خلق القرآن وأثره- النهي عن التفسير بالرأي وأثره. خاتمة: أفضل المناهج لتفسير القرآن 276- 278

محتويات التفسير الحديث تفسير سورة الفاتحة 285 حكم البسملة 288 خطورة شأن الفاتحة 290 تعليق على موضوع الأحاديث القدسية 292 تعليق على كلمة الله جلّ جلاله 293 تعليق على مدى جملة رَبِّ الْعالَمِينَ 295 تعليق على الحياة الأخروية 296 تعليق على جملة الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ 304 بعض الأحاديث في جملة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ 308 التأمين بعد الآية الأخيرة من السورة 308 تعليق على تفسير شيعي باطني لكلمة الصراط 309 تفسير سورة العلق 315 أول قرآن نزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم 316 مغزى التنويه بالقراءة والكتابة والعلم 317 علنية الدعوة في بدئها 322 موقف الزعامة من النبي 323 تعليق على كلمة الصلاة 327 تعليق على آية أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى 2345 تعليق على كلمة التقوى 346 تعليق على مدى جملة كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ ... 349 تعليق على سنّة سجود التلاوة 349 تعليق على الأحاديث في فضل قراءة السور القرآنية 351 تفسير سورة القلم 353 استطراد إلى ما عرف في كتب التفسير بالإسرائيليات 356 تنبيه في صدد الأحاديث التي تروى 358 تعليق على الحروف المتقطعة في أوائل السور 359 تعليق على ما ورد عن مدى القلم 362 تعليق على الأقسام القرآنية 363 تعليق وقت نزول الآيات الأولى من هذه السورة 364 أخلاق النبي صلّى الله عليه وسلّم 365 تعليق على موقف المناوأة للدعوة النبوية 369 تعليق ثان على موقف المناوأة للدعوة النبوية 371

تعليق على عروض زعماء قريش للنبي 372 تعليق على جملة أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ 375 تعليق على قصة البستان وهدفها 377 تعليق على روايات الآيات المدنية في السور المكية 379 تعليق على الجنات الأخروية 382 تعليق على كلمة المسلمين 385 نفي طمع النبي في أجر على رسالته 389 أهداف القصص القرآنية 391 تعليق على نعت الكفار النبي بالجنون 398 تعليق على نعت المستشرقين والمبشرين النبي بالجنون 401 تعليق على جملة وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ 403 تفسير سورة المزمل 405 تعليق على كلمة القرآن 409 تعليق على تعبير وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا 410 تعليق على هجر الزعماء والأغنياء وسرّية الدعوة 413 تعليق على رواية نسخ حكم الآية وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ.. 415 تعليق على تبدل نواميس الكون عند قيام الساعة 416 تعليق على النار الأخروية 417 تعليق على قصة موسى وفرعون 422 بيان مهمة الرسول 423 تعليق على السماء وانفطارها يوم القيامة 2424 تعليق على مدى كلمة الكفر في القرآن 425 تعليق على الآية إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ.. 426 تعليق على الزكاة 427 تعليق على تعبير وَأَقْرِضُوا اللَّهَ.. 434 تعليق على تعليم الاستغفار 434 تعليق على تعبير سبيل الله 436 تفسير سورة المدثر 440 تعليق على النقر في الناقور 445 تعليق على موضوع السحر 451 تعليق على موضوع زيادة الإيمان ونقصه 455 تعليق على جملة كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ 458 تعليق على عبارة فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ 463 تعليق على موضوع الملائكة 464 تعليق على أَهْلِ الْكِتابِ 470 تعليق على عناية القرآن بالمسكين 477 تعليق على تعبير أَصْحابَ الْيَمِينِ.. 479 هدف المحاورات الأخروية بين الناجين والخاسرين 480 تعليق على تعبير كُلُّ نَفْسٍ.. 480 تعليق على عقيدة الشفاعة والشرك 481 تعليق على تعبير وما يدركون إلا.. 487 تعليق على تحدي الكفار للنبي 489 تعليق على مدى كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ.. 493 تعليق على مدى بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ.. 494 تفسير سورة المسد 495

تفسير سورة التكوير 499 تعليق على جملة وَإِذَا الصُّحُفُ.. 501 تعليق على العرش 505 تعليق على كلمة الشيطان 509 تفسير سورة الأعلى 511 تنبيه على ما أسبغه القرآن والسنّة على التسبيح 512 التلقين المنطوي في الآيتين سَيَذَّكَّرُ مَنْ.. 514 تعليق على جملة سَنُقْرِئُكَ فَلا.. 515 القرآن لا يحظر الاستمتاع بالطيبات 518 تعليق على وصف الْأَعْلَى 516 تعليق على ذكر إبراهيم وموسى عليهما السلام 519 دلائل أولية سورة الأعلى وصفتها 524 تفسير سورة الليل 525 تعليق على جملة وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى 2527 تفسير سورة الفجر 531 تعليق على قصص الأقوام المذكورة في السورة 534 تعليق على ما أولاه القرآن من العناية باليتيم 541 تفسير الشيخ محيي الدين بن عربي للآية الأخيرة 546 تفسير سورة الضحى 549 تعليق على روايات فتور الوحي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم 550 صورة من صميمية النبي صلّى الله عليه وسلّم 553 نشأة النبي صلّى الله عليه وسلّم منذ طفولته إلى نبوته 554 تفسير سورة الشرح 558 تفسير سورة العصر 561 تعليق على تعبير الصَّالِحاتِ 562 تعليق على التواصي بالحق والتواصي بالصبر 563 مدى التنويه القرآني بالصبر 564 مغزى تلازم الإيمان والعمل الصالح. 568

الجزء الثاني السور المفسّرة في هذا الجزء «1» 1- العاديات 2- الكوثر 3- التكاثر 4- الماعون 5- الكافرون 6- الفيل 7- الفلق 8- الناس 9- الإخلاص 10- النجم 11- عبس 12- القدر 13- الشمس 14- البروج 15- التين 16- قريش 17- القارعة 18- القيامة 19- الهمزة 20- المرسلات 21- ق 22- البلد 23- الطارق 24- القمر 25- ص 26- الأعراف

_ (1) انظر الفهرست المفصل في آخر الجزء.

سورة العاديات

سورة العاديات تتضمن السورة تنديدا بجحود الإنسان واستغراقه في حب المال وتذكيرا بالآخرة وإحاطة الله بأعمال الناس. وأسلوبها عرض عام للدعوة كسابقتها. وقد روي «1» أنها مدنية والجمهور على أنها مكية وأسلوبها وتبكير نزولها مما يؤيد مكيتها. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) (1) العاديات: من العدو وهو الجري السريع، والمقصود بالعاديات الخيل أو الإبل على اختلاف الأقوال والأول أوجه ومتسق مع الآيات الأخرى. (2) الضبح: هو صوت نفس الخيل حينما تركض وتتعب، وقيل إنه نوع من السير. (3) الموريات: من الوري، وهو إيقاد الشرارة والشعلة والنار. (4) قدحا: القدح هو الحك الشديد بالشيء الصلب لبعث الشرر.

_ (1) انظر تفسير السورة في الطبرسي والنيسابوري.

(5) المغيرات: من الإغارة وهي مباغتة العدو. (6) أثرن: من الإثارة وهي التحريك والتهييج. (7) النقع: الغبار. (8) كنود: جاحد للنعمة. (9) حب الخير: جمهور المؤولين يؤولون الجملة بحب المال. (10) بعثر ما في القبور: كناية عن بعث الناس وخروجهم من قبورهم يوم القيامة. (11) حصل ما في الصدور: كناية عن مواجهة الناس بما حفظ عنهم وسجل عليهم من أعمال. في آيات السورة تنديد ببعض أخلاق الإنسان وإنذار له، وقد تضمنت: 1- قسما ربانيا بالخيل وهي تعدو عدوا شديدا حين تعتزم الإغارة فيغدو نفسها ضبحا وينقدح من اصطدام حوافرها بالحجارة الشرر، ويثور الغبار، وتتوسط الجمع المغار عليه على أن الإنسان جاحد لنعمة الله مع ما يشهده من آثار أفضال الله عليه، مستغرق في حب المال. 2- وتساؤلا في معرض الاستنكار والإنذار والتذكير عما إذا كان الإنسان لا يعرف أن الله محاسبه على ما يقدم من عمل حين يبعث الناس من قبورهم ويواجهون بأعمالهم، ولسوف يظهر لهم جليا أن الله خبير بهم وبأعمالهم. والمتبادر أنه أريد بوصف الإنسان بما وصف تقرير كون ذلك هو الطبع الغالب على الجبلة الإنسانية وأن الآيات قد استهدفت تنبيه الإنسان إلى ما في هذه الأخلاق من شطط ومجانبة للحق والواجب نحو الله والناس وحمله على تجنبها وتذكيره بنعمة ربه عليه وكونه محيطا بأعماله مراقبا له فيها ومحاسبه عليها في الحياة الأخرى. وإطلاق الآيات وعدم احتوائها إشارة إلى موقف معين يسوغان القول بأنها بسبيل عرض أهداف الدعوة ومبادئها عرضا عاما كسابقتها، كما يسوغ وصفها بما

مغزى القسم القرآني بالخيل

وصفت به سور الفاتحة والأعلى والليل والفجر والعصر أيضا. والأهداف التي احتوتها جليلة في صدد الأخلاق الشخصية والاجتماعية، حيث إنها ترتفع بالإنسان إلى أن لا يكون المال هو كل شيء لديه فينسيه واجباته نحو ربه بالاعتراف بربوبيته والخضوع له وشكره على نعمه، ونحو الناس بالبر والرحمة. ويلفت النظر بنوع خاص إلى التنديد بحب المال. وما سبق من مثل ذلك في سورة الفجر حيث يتلاحق الإيذان الرباني بكراهية اكتناز المال واستقطاب الثروة على ما نبهنا عليه في سياق سورة الفجر. مغزى القسم القرآني بالخيل وقد يكون القسم القرآني بالخيل متصلا بما كان للخيل والفروسية في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيئته من أهمية بالغة. حيث ينطوي فيه صورة من صور ذلك العصر والبيئة. ولقد روى البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وأبو داود حديثا عن عروة الباقي قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم» «1» مما قد يكون فيه توكيد لتلك الأهمية البالغة. تعليق على رواية مدنية السورة ولقد روى الطبرسي المفسر الشيعي أن السورة مدنية. وروى مناسبتين لنزولها واحدة عن مقاتل جاء فيها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعث سرية إلى حي من حنانة عليهم المنذر بن عمرو الأنصاري فتأخر رجوعهم فقال المنافقون إنهم قتلوا جميعهم فأخبر الله تعالى بما كان من غارتهم ونصرهم. وثانية عن الإمام أبي عبد الله جاء فيها أنها نزلت في مناسبة بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم عليّ بن أبي طالب إلى ذات السلاسل ونصره بعد أن أرسل مرارا غيره فعادوا بدون نصر. وأنها لما نزلت خرج رسول

_ (1) التاج الجامع ج 4 ص 312. [.....]

الله صلّى الله عليه وسلّم الغداة فصلى بالناس وقرأ السورة وقال إن عليا ظفر بأعدائه وبشرني جبريل بذلك هذه الليلة في هذه السورة. وجمهور المفسرين على أنها مكية مبكرة في النزول، وأسلوبها وفحواها يؤيدان ذلك بكل قوة. ونخشى أن يكون للهوى الشيعي أثر في رواية مدنيتها فإن الرواة الشيعيين دأبوا يروون روايات كثيرة في مناسبات آيات كثيرة لتأييد هواهم بقطع النظر عن ما في الروايات من مآخذ على ما سوف ننبه عليه في مناسباته.

سورة الكوثر

سورة الكوثر في السورة بشرى وتطمئن للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتنديد بمبغضيه. وقد روي أنها مدنية ومضمونها وأسلوبها يلهمان مكيتها وهو ما عليه الجمهور. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) . (1) الكوثر: على وزن فوعل: الكثير جدا. وقيل إنه نهر في الجنة. وأوّل ابن عباس الكلمة بالخير الكثير «1» . (2) انحر: اذبح الضحية، وقيل: ارفع يدك إلى نحرك «2» . والمعنى الأول أوجه وعليه الجمهور. (3) الشانئ: المبغض أو العدو. (4) الأبتر: المقطوع وهنا بمعنى مقطوع النسل. الخطاب في الآيات موجه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بسبيل البشرى والتطمين. فقد أعطاه الله الكوثر، فعليه أن يصلي لربه ويقرب إليه القرابين شكرا. ويتأكد أن عدوه ومبغضه هو الأبتر.

_ (1) انظر تفسير السورة في الطبري. (2) المصدر نفسه.

وقد روى المفسرون «1» أن وائل بن العاص أو عقبة بن معيط قال على أثر وفاة عبد الله بن النبي صلّى الله عليه وسلّم: إن محمدا أبتر، فإذا مات انقطع ذكره واسترحنا منه، فأنزل الله السورة. ومضمون الآيات وروحها يلهمان صحة الرواية ويلهمان أن قول الكافر ونعته النبي صلّى الله عليه وسلّم بالنعت المؤذي قد أثارا في نفسه أزمة، فأنزل الله السورة ترد عليه وتحمل البشرى والتطمين للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالأسلوب القوي الذي جاءت به حيث تقول له إن الله قد أعطاه الكوثر ومن أعطي الكوثر فلن يكون أبتر وأن مبغضه المقطوع من رحمة الله لهو الحري بهذا النعت وعليه أن يشكر الله بالصلاة وذبح القرابين تقربا إليه. ومما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان مستغرقا في النوم فأفاق ضاحكا مستبشرا ثم قال نزلت عليّ هذه السورة «2» . وهذه الرواية لم ترد في كتب الصحاح. وإن صحت ففيها صورة من صور الوحي القرآني. وهناك رواية تذكر أن السورة نزلت يوم الحديبية بسبيل التنويه بما تم للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين في ذلك اليوم من الفتح وبشرى وأمر بالصلاة ونحر الهدي في الحديبية «3» . وكان إذ ذاك عيد الفطر، ولم ترد هذه الرواية في كتب الصحاح ولا في كتب السيرة القديمة التي روت تفاصيل يوم الحديبية. على أن جمهور الرواة والمفسرين على أن السورة مكية ومن السور المبكرة جدا في النزول. وقد تعددت الأقوال في معنى الكوثر وفي المقصود من الصلاة والنحر. ففي صدد الكوثر روى البخاري والترمذي عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لمّا عرج بي إلى السماء أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ مجوّفا فقلت ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر» . وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها سئلت عن قوله تعالى

_ (1) انظر تفسير السورة في تفسير الطبري والنيسابوري وابن كثير والبغوي والطبرسي والزمخشري فقد رووا ذلك جميعهم. (2) الإتقان للسيوطي ج 1 ص 24 وتفسير الآلوسي للسورة. (3) الإتقان ج 1 ص 15 وتفسير الآلوسي.

إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ الكوثر [1] فقالت: «نهرا أعطيه نبيّكم صلّى الله عليه وسلّم شاطئاه عليه درّ مجوّف آنيته كعدد النجوم» . وروى الترمذي وأبو داود عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «بينا أنا أسير في الجنة إذ عرض لي نهر حافتاه قباب اللؤلؤ قلت للملك ما هذا قال هذا الكوثر الذي أعطاكه الله ثم ضرب بيده إلى طينه فاستخرج مسكا ثمّ رفعت لي سدرة المنتهى فرأيت عندها نورا عظيما» . وروى الترمذي عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ومجراه على الدرر والياقوت تربته أطيب من المسك وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج» «1» . وإلى جانب هذه الأحاديث التي رواها الطبري بنصوصها أو نصوص مقاربة أورد هذا المفسر أقوالا رواها عن رواة عن ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير من علماء أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتابعيهم تذكر أن معنى الكلمة الخير الكثير الذي أعطاه الله لنبيه والنبوة والحكمة والقرآن. ومما أورده الطبري أن سائلا سأل سعيد بن جبير عن معناها فلما قال له الخير الكثير قال السائل كنا نسمع أنه نهر في الجنة؟ فقال: هو الخير الكثير الذي أعطاه الله لنبيه وفي رواية أخرى أنه نهر وغيره ... «2» . فيمكن والحالة هذه أن يقال إن ابن عباس وتلامذته لم يثبت عندهم تلك الأحاديث ففسروا الكلمة بهذه التفسيرات الوجيهة المتسقة مع ظروف الدعوة الأولى التي كان يلقى النبي فيها المواقف الشديدة فتقتضي حكمة التنزيل تثبيته وتطمينه وتذكيره بما أنعم الله عليه من نعم عظمى وحثه على التقرب إليه بالصلاة والشكر مما تكرر في السور السابقة. ومما يلحظ أن ترتيب هذه السورة سابق على سورة النجم التي تروي مشاهد الإسراء والمعراج في سياق آياتها الأولى. وقد يكون في هذا تدعيم لذلك التفسير والتوجيه.

_ (1) الأحاديث الأربعة في التاج الجامع ج 4 ص 266. (2) استوعب الطبري جميع الأقوال وليس في كتب التفسير الأخرى أقوال مغايرة لها.

ولقد جمع سعيد بن جبير مع ذلك في جوابه بين القولين. وقد يكون في هذا توفيق موفق والله تعالى أعلم. وأما الصلاة والنحر فليس فيهما حديث صحيح. وقد قيل إن الصلاة هي صلاة الفجر يوم عيد النحر كما قيل إنها صلاة ذلك العيد وإن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أمر في الآية بنحر القربان عقب الصلاة على اختلاف الوقتين المرويين. وهناك من قال إنهما أمران مطلقان للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالصلاة والتقرب إليه بالقرابين شكرا على نعمه الكثيرة التي والاها عليه. كما أن هناك من قال إنها تأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن تكون صلاته ونحره لله وحده إذا كان قومه يصلون وينحرون لغيره وقد أعطاه الخير الكثير «1» . ونحن نميل إلى ترجيح أحد القولين الأخيرين والله أعلم.

_ (1) استوعب الطبري جميع الأقوال وليس في كتب التفسير الأخرى أقوال مغايرة لها.

سورة التكاثر

سورة التكاثر في السورة تنديد بالمستغرقين في الدنيا ومالها ونعيمها. وإنذار لهم بالآخرة. وهي عامة العرض والتوجيه. وقد روي أنها مدنية. وأسلوبها ومضمونها يحمل على الشك في ذلك. وقد سلكتها التراتيب المروية في سلك السور المكية. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) (1) التكاثر: المباراة في الاستكثار من المال والبنين والتفاخر بذلك. (2) زرتم المقابر: كناية عن الموت حيث يؤتى بالأموات فيدفنون في المقابر. (3) الجحيم: النار المتقدة أو المتأججة. في آيات السورة: 1- تنديد موجه إلى السامعين بما هم فيه من المباراة في الاستكثار من الأموال والأولاد والتفاخر بذلك واستغراقهم بسبب ذلك استغراقا يمنعهم من التفكير في الموت وما بعده، بحيث لا ينتهون مما هم فيه إلّا حين يموتون.

2- وتنبيه وتبصير لهم. فإنهم سوف يعلمون علما يقينيا بأنهم مخطئون، وأنهم سوف يرون الجحيم الموعودة ويرون بعين اليقين ما أوعدوا به. وأنهم سوف يسألون عن أعمالهم وما قضوه في الدنيا من حياة النعيم التي ألهتهم عن الآخرة والتفكير فيها. ولقد روى بعض المفسرين روايات عديدة في نزول السورة. منها أنها نزلت في قبيلتين من الأنصار تفاخرتا فيما بينهما بما عندهما من مال وما هما فيه من نعيم. ومنها أنها نزلت في فريق من اليهود فخروا على المسلمين بما كان عندهم من مال. ومنها أنها نزلت في حيين من قريش هما بنو مناف وبنو سهم تفاخرا فيما بينهما بما عندهما من مال «1» . ولم ترد هذه الروايات في كتب الصحاح. والروايتان الأوليان تقتضيان أن تكون السورة مدنية مع أن رواة النزول وجمهور المفسرين يسلكونها في سلك السور المكية المبكرة في النزول. وأسلوبها ومضمونها يحملان على الشك في الروايتين وفي رواية تفاخر بني سهم ومناف القرشيين أيضا ويسوغان الترجيح بأنها مطلقة التوجيه عامة الإنذار والتنبيه مثل سور العاديات والعصر والأعلى والليل والفجر إلخ. ولقد احتوت تلقينا جليلا مستمر المدى. ومتسقا مع التلقينات التي احتوتها السور المماثلة السابقة وهو وجوب تنبيه الناس إلى واجباتهم نحو الله ونحو الناس في الحياة الدنيا وعدم الاندفاع في الاستكثار من المال والاستغراق في النعيم وجعل شهوات الحياة ونعيمها قصارى الهمّ والمطلب. ولقد رويت بضعة أحاديث نبوية على هامش هذه السورة. منها حديث رواه مسلم والترمذي عن عبد الله بن الشخير قال: «إنه انتهى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يقرأ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ [1] قال يقول ابن آدم مالي مالي. وهل لك من مالك إلّا ما تصدّقت فأمضيت أو أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت» «2» . وحديث رواه الترمذي

_ (1) انظر تفسير السورة في تفسير ابن كثير والبغوي والطبرسي والنيسابوري. (2) التاج ج 4 ص 365.

عن الزبير بن العوام قال: «لما نزلت ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [8] قلت يا رسول الله فأيّ النعيم نسأل عنه وإنما هما الأسودان التمر والماء. قال أما إنّه سيكون» «1» . حيث يتسق التلقين النبوي مع ما نوهنا به من التلقين القرآني في هذا الأمر كما هو الشأن في كل أمر آخر. وننبه مع ذلك على ضوء آيات سورة الأعراف [31- 33] التي أوردناها في مناسبة مماثلة في تفسير سورة الأعلى أن روح الآيات تلهم أن التنديد والتنبيه موجهان إلى من تلهيه أمواله وأولاده وشهواته ومتعه عن واجباته نحو ربه ونحو الناس ويستغرق في ذلك استغراقا يملك عليه تفكيره ويعمي بصيرته ويجعله لا يحسب للعواقب حسابا ويوهمه بأنه في أمن دائم. لا إلى أصحاب الأموال والأولاد والمتنعمين إطلاقا إذا ما أدوا حق الله بالإيمان به وعبادته وشكره وحق الناس بالبر والتزموا القصد والاعتدال. وليس في الأحاديث النبوية ما يتناقض مع ذلك. بل هناك أحاديث ينطوي فيها هذا بصراحة أوردناها في سياق تفسير سورة الفجر فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.

_ (1) التاج ج 4 ص 365. الجزء الثاني من التفسير الحديث 2.

سورة الماعون

سورة الماعون تضمنت السورة نعيا وتنديدا بالذين يكذبون بالآخرة ويقسون على اليتيم ويحرمون المسكين من الطعام ويراؤون في صلاتهم وأعمالهم ويمنعون ماعونهم عن ذوي الحاجة إليه، وقد روي أن السورة مدنية كما روي أن آياتها الثلاث الأخيرة فقط هي مدنية. ومع احتمال صحة الرواية الأخيرة استلهاما من مضمون الآيات، فإننا نميل إلى ترجيح كونها مكية جميعها وكونها عرضا عاما لأهداف الدعوة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7) . (1) الدين: كناية عن يوم الآخرة والحساب. (2) يدعّ: يدفع بشدة. (3) ساهون: هنا بمعنى لاهون وغافلون وقيل إنها بمعنى تفويت وقت الصلاة. والمعنى الأول أوجه على ضوء الآية السادسة فإن المرائي لا يلهم الجد في الصلاة فيؤديها وهو غافل لاهي القلب. (4) ويل: وردت هذه الكلمة مرارا في القرآن. وأكثر ورودها في معنى إنذار

رباني لمن يستحقها من الكفار والمشركين والظالمين والكذابين والمعتدين. ووردت على لسان الظالمين في معنى التندم والتحسر والهلع من عذاب الله مثل: يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا الفرقان [28] ، ومثل: يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ الأنبياء [14] . ووردت على لسان زوجة إبراهيم في معنى التعجب: يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً هود [72] وهي هنا من الباب الأول. ويروي الطبري في سياق الآية [79] من سورة البقرة حديثين أحدهما عن عثمان بن عفان عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «الويل جبل في النار» وثانيهما عن أبي سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيها: «ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره» . وهذان الحديثان لم يردا في كتب الأحاديث الصحيحة. وقد روى الطبري عن ابن عباس أن الويل هو العذاب مطلقا. حيث يبدوا أنه لم يثبت عنده الأحاديث. ويتبادر لنا أن هذا هو الأوجه والله أعلم. (5) يراؤون: يتظاهرون بغير حقيقتهم أو ينافقون. (6) الماعون: روى المفسرون أنها المعونة إطلاقا أو أنها الزكاة أو أنها أدوات البيت كالقدر والدلو والفأس ونحو ذلك وكل ذلك وارد. في الآيات الثلاث الأولى: 1- سؤال تنديدي موجه للسامع عن ذلك الذي يكذب بالحساب والجزاء الأخرويين. 2- وتقرير بمثابة الجواب بأنه هو الذي لا تأخذه الشفقة على اليتيم فينتهره ويدفعه بشدة والذي لا تأخذه الرأفة بالمسكين فلا يطعمه ولا يحض غيره على إطعامه. وفي الآيات الأربع التالية: إنذار وسوء دعاء على الذين يصلون وقلوبهم لاهية عما هم فيه. والذين يصدرون في عبادتهم وأعمالهم أمام الله والناس عن رياء وخداع. والذين يمنعون عونهم وبرّهم أو ماعونهم عن المحتاجين إليه.

وقد روي أن السورة جميعها مدنية «1» كما روي أن الآيات الثلاث الأخيرة فقط هي المدنية، وطابع الآيات الأربع الأولى مكي، وقد تكررت ألفاظها ومعانيها في السور المكية كثيرا وفيما سبق من السور وقد روي أنها نزلت في أبي جهل حيث كان وصيا على يتيم فسأله شيئا من ماله فدفعه ولم يعبأ به، كما روي أنها نزلت في أبي سفيان الذي كان ينحر في الأسبوع جزورين فأتاه يتيم فسأله لحما فقرعه بالعصا «2» . أما الآيات الثلاث الأخيرة فإن الصورة التي انطوت فيها قد تكون مدنية من الوجهة الزمنية، لأن صورة المسلم المتظاهر بالإسلام واللاهي عن الصلاة، هي صورة من صور المنافقين في المدينة الذين وصفوا في القرآن المدني بهذه الصفة كما جاء في آية سورة النساء هذه: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) . غير أن الآيات من جهة أخرى متسقة في الوزن ومنسجمة مع الآيات السابقة لها كما هو ظاهر. وحرف الفاء في بدء الآية الرابعة قد يسوغ القول إن الآيات الثلاث جاءت معقبة على الآيات الأربع السابقة لها. وعلى هذا فإما أن يكون التنديد في الآيات الثلاث الأخيرة تنديدا بالإنسان المرائي في صلاته وعمله ودينه، المانع معونته عن المحتاج إليها إطلاقا، ومثل هذا يكون في أي مجتمع وظرف. ويكون من هدف الآيات تحذير المؤمنين الأولين من هذا الخلق، وإما أن تكون رواية مدنية الآيات الثلاث صحيحة وقد أضيفت إلى الأربع حينما أوحي بها لحكمة متصلة بهذه الآيات بدت للنبي صلّى الله عليه وسلّم. ونحن نميل إلى ترجيح الاحتمال الأول بسبب التوازن والانسجام وعدم وضوح الحكمة في إضافة آيات قليلة مدنية إلى آيات قليلة مكية وتكوين سورة قصيرة من هذه وتلك.

_ (1) انظر الإتقان للسيوطي ج 1 ص 15- 18 الطبعة المذكورة سابقا وتفسير الآلوسي ج 3 ص 241. (2) انظر تفسير السورة في تفسير الخازن والطبرسي والنيسابوري.

مدى وتلقينات آيات السورة

وأسلوب الآيات قد جاء مطلقا فيكون ما احتوته مستمر المدى والتلقين. وهو ما جرى عليه النظم القرآني بسبيل ذلك مما مرت منه أمثلة عديدة. ولا يتعارض هذا مع ما يمكن أن يصح من نزولها أو نزول بعضها في مناسبة حادث وقع من بعض الأشخاص، فكثير من آيات القرآن وفصوله نزلت في مناسبات معينة بأسلوب مطلق ليكون مستمر المدى والتلقين. مدى وتلقينات آيات السورة ومن تلقينات السورة الرئيسية تقريرها لكون جحود الإنسان للآخرة هو الذي يشجعه على اقتراف الآثام في الدنيا وعلى قسوة القلب إزاء الضعفاء واليتامى والمساكين، إذا أمن الجزاء والمقابلة، وفي هذا توكيد لتقريرات قرآنية سابقة، ولحكمة الله التي جعلت للحياة الدنيا تتمة في حياة أخرى لجزاء كل امرئ بما عمل. كما أن فيه مظهرا من مظاهر حكمة التنزيل في تكرار الإنذار بالحياة الأخرى وجعل الإيمان بها ركنا من أركان الإسلام على ما شرحناه في سياق سورة الفاتحة. وتخصيص اليتيم والمسكين بالذكر لا يعني كما هو المتبادر أن قهر الأول وحرمان الثاني هما عنوان التكذيب بالآخرة وجزائها حصرا. فهذا أسلوب من أساليب القرآن وهناك آيات قرآنية كثيرة منها مما سبق تذكر آثاما أخرى عامة وخاصة يقترفها الإنسان نتيجة لجحوده ذلك. وقد يعني تخصيص ذلك بالذكر هنا قصد التنويه بخطورة أمر اليتيم والمسكين. وهو ما تكرر كثيرا في القرآن وقد سبق منه أمثلة عديدة وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار. وفي التنديد بالمصلين اللاهية قلوبهم عن صلاتهم تنبيه لوجوب تذكر المصلي الله، وإفراغ قلبه له حينما يقف أمامه متعبدا، وتقرير ضمني بأنه بذلك فقط يتأثر بصلاته تأثرا يبعث فيه السكينة والطمأنينة ويرتفع به إلى أفق الروحانية العلوية كما هو مجرب عند كل من يفعل ذلك حقا. ويوقظ فيه الضمير فيبتعد عن الفحشاء والمنكر ويندفع نحو الخير والصلاح. وكل هذا من مقاصد الصلاة بالإضافة إلى

كونها واجب العبادة ومظهر الخضوع لله على ما شرحناه في سياق سورة العلق. أما اللاهون فلا يتأثرون ذلك التأثير الباعث الموقظ الوازع الدافع فتكون صلاتهم عملا آليا لا روح فيها ولا حياة ويكون القصد منها الرياء والخداع ولا تكون بعد مقبولة عند الله. وجملة يُراؤُنَ [6] جاءت مطلقة لتنعى الرياء على الإنسان إطلاقا سواء أكان يرائي في صلاته أم في أي موقف وعمل آخر. وتتضمن بناء على ذلك تنديدا بخطورة خلق الرياء وبشاعته حيث يكون المتخلق به أمام الله مخادعا وأمام الناس كاذبا مضللا ساخرا، وتنبيها إلى ما في انتشار هذا الخلق في مجتمع من المجتمعات من الشر العام. ولقد تكرر النعي القرآني على هذا الخلق والنهي عنه كما جاء في سورة البقرة هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264) وآية سورة النساء هذه: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وآية سورة الأنفال هذه: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وآية سورة النساء هذه: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) . ولقد أثرت أحاديث نبوية عديدة في ذمّ الرياء والمرائين منها حديث أخرجه الترمذي عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تعوّذوا بالله من جبّ الحزن قالوا يا رسول الله وما جبّ الحزن؟ قال: واد في جهنّم تتعوّذ منه جهنّم كلّ يوم ألف مرة. قيل يا رسول الله من يدخله قال القرّاء المراءون بأعمالهم» «1» . وحديث رواه

_ (1) التاج ج 1 ص 50. [.....]

البغوي بطرقه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا يا رسول الله وما الشرك الأصغر قال الرياء» . وحديث رواه الترمذي ومسلم عن أبي سعيد بن أبي فضالة قال: «قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا جمع الله الناس يوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عمله الله أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله فإنّ الله أغنى الشركاء عن الشرك» «1» . ولمسلم عن أبي هريرة حديث آخر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «قال الله تبارك وتعالى أنا أغنى الشركاء عن الشّرك. من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» «2» . وحديث رواه مسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل، ثمّ أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النّار. ورجل تعلّم العلم وعلّمه وقرأ القرآن فأتى به فعرّفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها، قال تعلّمت العلم وعلّمته وقرأت فيك القرآن. قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كلّه فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها قال ما عملت فيها، قال ما تركت من سبيل تحبّ أن ينفق فيها المال إلا أنفقت فيها لك. قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار» «3» . وننبه على أن هناك حديثا فيه استدراك يحسن سوقه في هذا المساق رواه الترمذي جاء فيه: «قال رجل يا رسول الله الرجل يعمل العمل فيسره فإذا اطلع عليه أعجبه ذلك، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم له أجران أجر السرّ وأجر العلانية» «4» . حيث يفيد

_ (1) التاج ج 4 ص 154. (2) التاج ج 1 ص 49. (3) المصدر نفسه ص 50- 51. (4) المصدر نفسه.

هذا أن الرياء المعاقب عليه هو ما قصد صاحب العمل أن يقال عنه وليس خالصا لله. وأنه إذا كان عمل المرء عملا بنية خالصة وعرفه الناس وأعجبوا به لا يعد من هذا الباب. والتنديد بما نعى الماعون سواء أكان المعونة عامة أم الزكاة أم أدوات البيت جدير بالتنويه من حيث كون منع الماعون مظهرا من مظاهر عدم التعاون وعدم تبادل المعروف أو عدم بذل ما يكون الآخر في حاجة إليه من عون. ومن حيث تضمنه حقا لكل مسلم على تجنبه وعلى بذل كل عون يقدر عليه إلى من هو في حاجة إليه وهو ما تكرر تقريره في آيات عديدة مرت أمثلة منها. ولقد روى مسلم وأبو داود والترمذي حديثا عن أبي هريرة قال: «قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة. ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة. ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدّنيا والآخرة. والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» «1» . حيث يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الشأن كما هو في كل شأن.

_ (1) التاج ج 5 ص 68.

سورة الكافرون

سورة الكافرون في السورة أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بإعلان الكفار أنه لا يعبد ما يعبدون، ولهم إذا شاءوا أن يظلوا على ما هم عليه فلا يعبدون ما يعبد، ولكل من الفريقين دينه، وقد تضمنت مبدأ حرية التدين الذي ظلت الآيات القرآنية تقرره في المكي منها والمدني. ولقد روى الترمذي عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قرأ إذا زلزلت عدلت له بنصف القرآن ومن قرأ قل يا أيّها الكافرون عدلت له بربع القرآن ومن قرأ قل هو الله أحد عدلت له بثلث القرآن» «1» . وروى الترمذي عن أنس أيضا: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لرجل من أصحابه هل تزوّجت يا فلان قال لا والله يا رسول الله ولا عندي ما أتزوّج به، قال: أليس معك قل هو الله أحد، قال: بلى، قال: ثلث القرآن، قال: أليس معك إذا جاء نصر الله والفتح، قال: بلى، قال: ربع القرآن، قال: أليس معك قل يا أيّها الكافرون، قال: بلى، قال: ربع القرآن. قال: أليس معك إذا زلزلت، قال: بلى، قال: ربع القرآن، تزوّج تزوّج» «2» . ومن الحكمة الملموحة في الحديثين التنويه والترغيب والتيسير، والله تعالى أعلم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)

_ (1) التاج ج 4 ص 21. (2) المصدر نفسه.

في الآيات أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بأن يعلن جاحدي رسالته بخطته بالنسبة لدينهم وعبادتهم. وبأن لهم إذا شاءوا أن يسيروا على نفس الخطة فهو يعبد غير ما يعبدون. ويخضع لغير ما يخضعون، ويتجه إلى غير ما يتجهون. وهو مسؤول عن تبعة موقفه، وهم مسؤولون عن تبعة موقفهم، ولكل من الفريقين دينه الذي ارتضاه لنفسه. وقد روي أن السورة نزلت بمناسبة مراجعة بعض زعماء قريش للنبي صلّى الله عليه وسلّم وطلبهم التشارك في عبادة الآلهة، فيصلي إلى آلهتهم ويصلون إلى إلهه، ويحترم آلهتهم ويحترمون إلهه إلى أن يتحقق الفريقان أيّ الدينين خير فيتبعونه «1» . والرواية محتملة الصحة على ما تلهمه روح الآيات، ويؤيدها آية سورة القلم: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) التي مر تفسيرها قبل في سياق السورة المذكورة. على أن من المحتمل أيضا أن تكون نزلت بمناسبة موقف حجاجي بين النبي صلّى الله عليه وسلّم والكفار، ظل هؤلاء معاندين مكابرين فيه فنزلت لإنهاء الموقف. وقد تكرر مثل ذلك في مواقف ومناسبات مماثلة كما جاء في آية سورة يونس هذه: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وفي آية سورة يونس هذه أيضا: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وفي آية سورة الكهف هذه: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [29] وفي آيات سورة سبأ هذه: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ

_ (1) انظر تفسيرها في تفسير الطبري وابن كثير والطبرسي وغيرهم.

مبدأ حرية التدين في النظام الإسلامي

السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) . وقد يفسر هذا التوجيه أسلوب السورة من حيث خلوه من الحملة على عبادة الكفار الضالة. ولعلها استهدفت فيما استهدفته درء الأذى عن المسلمين المستضعفين الذين كان زعماء الكفار ينالونهم به وخاصة في أوائل عهد الدعوة حيث تدعوهم إلى الإنصاف، فإن كانوا يريدون أن يثبتوا على دينهم ويرون ذلك من حقهم فعليهم أن يحترموا هذا للمسلمين أيضا. مبدأ حرية التدين في النظام الإسلامي ومع خصوصية الخطاب وزمنيته فالمتبادر أن السورة تضمنت مبدأ قرآنيا جليلا منذ عهد مبكر من الدعوة، في تقرير حرية التدين والعبادة والدعوة إلى احترامها واستشعار الناس بشعور الإنصاف والعدل فيما بينهم في صددها، باعتبار هذه المسألة مسألة وجدان ويقين وطمأنينة قلب وروح وانشراح صدر، لا يجوز أن تكون معرضة لأي تأثير أو تابعة لأي اعتبار. ومن الجدير بالذكر أن هذا المبدأ لم يقرر في هذه السورة فحسب أو في العهد المكي الذي كان فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم ضعيفا والمسلمون قلة مستضعفة، بل قررته آيات القرآن المكي في مختلف أدوار التنزيل مرات كثيرة وبأساليب متنوعة، كما يفهم من الآيات التي أوردناها آنفا ومن آيات سورة النمل هذه: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) ومن آيات سورة الأنبياء هذه: قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ

أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) ثم قررته آيات عديدة من القرآن المدني في مختلف أدوار التنزيل كذلك كما يفهم من آية سورة البقرة هذه: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) وآية سورة آل عمران هذه: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) وآية سورة آل عمران هذه: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20) وآية سورة النساء هذه: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) وآية سورة المائدة هذه: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) وآيات سورة التوبة هذه: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) وإِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) وآيات سورة الممتحنة هذه: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) وهكذا يكون هذا المبدأ من المبادئ المحكمة. وفي هذا ما فيه من بليغ التلقين وبعد المدى ومؤيدات الخلود للإسلام ومبادئه. ولقد يرد أنه ورد في القرآن آيات كثيرة تدل على أن كفار العرب لم يكونوا ينكرون ربوبية الله ولم يكونوا منصرفين عن عبادته ودعائه بالمرة مثل ما جاء في آية سورة الزخرف هذه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وفي آية

سورة لقمان هذه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) ، وإن في هذا ما يتناقض مع مضمون السورة. ومع أن الشق الأول صحيح فليس هناك من تناقض. فقد كانوا يشركون مع الله غيره ويتخذون الأصنام رموزا لشركائهم فيسجدون لها ويقربون القرابين عندها، وكانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله ويعبدونهم ويدعونهم ولو ليكونوا شفعاءهم عند الله وفي هذا كفر صريح بحق الله وواجبه على خلقه وتناقض صريح بين ما يعبد النبي صلّى الله عليه وسلّم ويدعوا إليه وهو الله وحده لا شريك له ولا كفؤ له ولا ولد له وبين ما يعبدونه ويتجهون إليه، وهذا هو المراد في آيات السورة كما هو المتبادر. ونحن نعرف أنه يورد على هذا أقوال من جانب المسلمين وغير المسلمين على السواء. فإن كثيرا من علماء المسلمين ومفسري القرآن قالوا إن الآيات التي تأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالاكتفاء بإنذار المشركين وهجرهم وتركهم وشأنهم وإعلانهم أنه ليس إلّا منذر لهم وأنه ليس عليهم مسيطر ولا جبار أو التي تأمر بقتال المقاتلين للمسلمين منهم دون سواهم مما جاء في سور كثيرة مكية ومدنية مثل الآيات التالية في السور المكية: 1- قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ سورة يونس [108] . 2- فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ سورة الحجر [94] . 3- وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ سورة النحل [127] . 4- إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ سورة النمل [91- 92] .

5- وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا سورة المزمل [10] . 6- فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ سورة الغاشية [21- 22] . ومثل الآيات التالية في السور المدنية: 1- وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ البقرة [190] . 2- وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ البقرة [193] . 3- لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ البقرة [256] . 4- إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا النساء [90] . وأمثالها الكثير في السور المكية والمدنية قد نسخت بآيات سورة التوبة هذه: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) التي تأمر بقتال المشركين بدون هوادة إلى أن

يسلموا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. ثم بآية سورة التوبة [36] التي جاء فيها: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً والتي ينعتها بعض العلماء والمفسرين بآية السيف. وقد فسر كثير من مفسري القرآن وعلمائهم كلمة فتنة الواردة في آية سورة البقرة هذه: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) بمعنى الشرك وقالوا إنها توجب قتال المشركين حتى لا يبقى شرك ومشركون ويسود دين الله الإسلام. ومما قاله المفسرون في سياق تفسير آية البقرة لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ البقرة [256] إن هذه الآية منسوخة بالنسبة للعرب المشركين دون غير العرب. وإن العرب المشركين لا يقبل منهم إلّا الإسلام أو السيف وإن غير العرب يقبل منهم الجزية دون السيف. وأما من ناحية غير المسلمين فإن كثيرا من المبشرين والمستشرقين قالوا إن محمدا صلّى الله عليه وسلّم لم يقف عند مبدأ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ الكافرون [6] إلّا في ظروف ضعفه، وإنه حالما قوي بعد الهجرة أخذ يقاتل الكفار ولم يكن يقبل من المشركين إلّا الإسلام ومن الكتابيين إلّا الاستسلام والجزية. واستمر على ذلك إلى النهاية وكان يغري المسلمين بالغنائم. وشرح الموضوع على وجهه الحق الذي يتبادر من نصوص القرآن ووقائع السيرة النبوية كفيل بالإجابة على الطرفين. إن القتال في الإسلام إنما شرع للدفاع عن حرية الدعوة والمسلمين ومقابلة الأذى والعدوان والصدّ إلى أن تضمن الحرية والسلامة للمسلمين، والحرية والانطلاق للدعوة ويمتنع الأذى والعدوان على المسلمين والإسلام، وظل هذا المبدأ محكما إلى النهاية.

وأول آيات وردت في هذا الصدد آيات سورة الحج هذه: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) . ثم نزلت آيات سورة البقرة هذه: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) . والأساس في هذه الآيات وتلك هو ذلك المبدأ، وفيها صراحة أن المشركين كانوا يقاتلون المسلمين. وكانوا إلى هذا يفتنون المسلمين عن دينهم بالجبر والإكراه ويصدون عن سبيل الله ويعطلون سير الدعوة. ويضطرون المسلمين إلى الخروج من موطنهم مرغمين. وكل هذا سبب مشروع لقتالهم متسق مع ذلك المبدأ. وفي تأويل كلمة «الفتنة» بالشرك تجوّز كبير. فالفتنة هي إرغام المسلمين على الارتداد عن الإسلام الذي كان يمارسه زعماء المشركين في مكة ضد ضعفاء المسلمين. والدليل على ذلك آية سورة البروج هذه: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) وآية سورة النحل هذه: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) والكلمة في الآية الثانية من سلسلة آيات البقرة [190- 194] والتي هي في جملة وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ البقرة [191] تعني نفس الشيء حينما يتروى فيها. ولا يصح في حال أن تؤول بالشرك. ونزول

آية: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ البقرة [193] دليل قوي بل حاسم على أن معنى الآية هو قتال المعتدين إلى أن ينتهوا عن موقف العدوان وفتنة المسلمين وتغدو حرية الدعوة وحرية المسلمين في دينهم ودمائهم وأموالهم وحقوقهم مضمونة. وقد جاء في سورة الأنفال آية مثلها تقريبا وهي: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) ولعل في مقطع هذه الآية الأخير قرينة أقوى على أن المقصد من جملة «فإن انتهوا» الانتهاء من موقف العدوان وفتنة المسلمين. ومن الأدلة اليقينية على أن جملة فَإِنِ انْتَهَوْا الأنفال [93] في هذه الآية وفي آية سورة البقرة [193] ليست الانتهاء بالإسلام فقط وإن من الممكن أن يكون بوقف حالة الحرب بالصلح أيضا صلح الحديبية الذي جرى بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وقريش في السنة الهجرية السادسة حيث أنهى هذا الصلح حالة الحرب ووقف القتال ضد قريش. والآيتان نزلتا قبل هذا الصلح على الأرجح. ومما يسوغ تخمينه بقوة أن آية البقرة نزلت قبل وقعة بدر وآية الأنفال نزلت بعد هذه الوقعة على ما سوف نشرحه في مناسباتهما. وفي سورة الإسراء آية فيها دليل حاسم على معنى كلمة الفتنة وهو الرد والارتداد والإرجاع وهي هذه: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) . وآيات سورة التوبة التي تعلن البراءة من المشركين وتأمر بقتالهم إلى أن يتوبوا ويؤمنوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة والتي أوردناها آنفا تخللها وجاء معها استثناءات تجعل ذلك الإعلان والأمر محصورا في المشركين المعتدين والناكثين لعهودهم كما جاء في عبارة إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً التوبة [4] وكما جاء في الآيات التالية التي هي جزء من السلسلة: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ الجزء الثاني من التفسير الحديث 3

مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) . وآيتا فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ في سلسلة آيات التوبة ليستا المخرج الوحيد كما قد يتبادر. فالآيات في جملتها تعني أنهم إن آمنوا فبها ونعمت ويصبحوا إخوانا للمسلمين، ويهدر كل ما فعلوه معهم قبل. وإن لم يؤمنوا وحافظوا على عهدهم واستقاموا عليه فلا مانع. وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في الدين فيقاتلون حتى ينتهوا من هذا الموقف العدواني. وجملة وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً في آية التوبة [36] ليست منفردة. فإن لها تتمة وهي كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً التوبة [36] وهذه التتمة تزيل اللبس في الجملة وتعيد الأمر إلى أصله من وجوب قتال المشركين الذين يقاتلون المسلمين وتظهر مقدار ما في الاستناد إليها من تجوز كبير أيضا. وفحوى القول إن آية سورة النساء [90] منسوخة تجوز كبير أيضا إزاء ما فيها من صراحة وحسم. ويدعم هذا آية في سورة الممتحنة التي نزلت قبيل الفتح المكي فيها مثل هذه الصراحة والحسم بل وأكثر حيث إنها تحض على البرّ والإقساط للذين لا يقاتلون المسلمين ولا يشتركون في إخراجهم من ديارهم وهي:

لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) وقد فند الطبري قول من قال إن هذه الآية منسوخة وقال إن برّ المؤمن لأهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب غير محرم ولا منهي عنه أصلا إذا لم يكن في ذلك دلالة لهم على دعوة لأهل الإسلام أو تقوية لهم بكراع أو سلاح. وفي سورة البقرة آية أخرى تدعم ذلك وتدعم أو توضح مدى آية الممتحنة في الوقت نفسه وهي: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) وقد روى الطبري وغيره روايتين في نزولها واحدة تذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يمنع الصدقات عن فقراء المشركين وثانية أن المسلمين كانوا يمنعون صدقاتهم عن المشركين من أقاربهم وأنسبائهم فنزلت الآية مؤذنة بأن النبي والمسلمين غير مسؤولين عن هداهم الذي هو في يد الله وأن الصدقات هي قربة من المتصدق لله عن نفسه فلا مانع من إعطائهم منها على شركهم ... وليس هناك أي قول فيما اطلعنا عليه بنسخ هذه الآية الرائعة في مداها الذي نحن في صدده. ولقد حدث مرة سوء تفاهم بين قائد إحدى السرايا وبعض العرب الذين أظهروا الإسلام أو المسالمة، فظن القائد أن ذلك خدعة، وقتل بعضهم وأخذ ماشيتهم فغضب النبي صلّى الله عليه وسلّم أشد الغضب ولم يلبث أن أوحى الله بآية قوية رائعة فيها عتاب على عدم قبول ظواهر الناس كما ترى فيها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً سورة النساء [94] ، وفي آية سورة الأنفال هذه: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) أمر صريح بأن يسالم كل من جنح إلى المسالمة من الأعداء. وفي آيات سورة محمد هذه: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ

أَعْمالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها [4] آمر بقتال الكفار الصادّين عن سبيل الله إلى أن تخضد شوكتهم ثم يؤسر الباقون إلى أن يفتدوا أنفسهم أو يطلق سراحهم منّا دون إرغام على الإسلام لأن المقصود من القتال قد حصل. ولم يرد أي خبر بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم رفض في أي وقت طلب صلح أو عهد أمان من أعداء محاربين، كما أنه لم يرد أي خبر بأنه قاتل أو أمر بقتال أناس مسالمين أو حياديين أو معتزلين. والذي يدرس وقائع الجهاد «1» يرى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يبعث سرية ولم يباشر غزوة ولم يشتبك بقتال مع فئة إلّا ردا على عدوان أو انتقاما من عدوان أو دفعا لأذى أو تنكيلا بغادر أو تأديبا لباغ أو ثأرا لدم إسلامي أهدر أو ضمانة لحرية الدعوة والاستجابة إليها، أو بناء على نكث عهد أو بسبب مظاهرة لعدو أو تآمر معه على المسلمين. وكل هذا متسق مع النصوص القرآنية التي لا يمكن أن يصدر منه ما ينقضها بطبيعة الحال. وكل هذا ينطبق على وقائع القتال مع اليهود والنصارى الكتابيين أيضا. فكل عملية تأديب أو تنكيل أو غزوة ضد يهود يثرب والقرى اليهودية الأخرى في طريق الشام كانت ردا على عدوان أو مؤامرة ضد الإسلام والمسلمين «2» . وحملات مؤتة وتبوك كانت مقابلة على عدوان القبائل العربية النصرانية في طريق الشام والبلقاء

_ (1) انظر وقائع الجهاد وغزوات النبي صلّى الله عليه وسلّم وسراياه في طبقات ابن سعد وسيرة ابن هشام وفي الجزء الثاني من الطبرسي. (2) اقرأ الوقائع من الكتب الثلاثة السابقة الذكر وكتابنا القرآن واليهود.

على رسل النبي صلّى الله عليه وسلّم وقوافل المسلمين «1» . وآية التوبة هذه: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29) تضمنت إشارة إلى ذلك وحصرت أمر القتال في الفئات التي لا تدين دين الحق ولا تحرم ما حرم الله ورسوله من الكتابيين دون سائرهم وحملات الفتح التي سيرها أبو بكر رضي الله عنه وما بعدها هي امتداد لهذه الحملات حيث كانت حالة الحرب التي نشأت عن العدوان قائمة. ووصايا النبي صلّى الله عليه وسلّم والخلفاء رضي الله عنهم لقواد هذه الحملات بألّا يقاتلوا إلّا من يقاتلهم وبأن يسالموا من يسالمهم وبأن يتركوا من لا يتعرض لهم ومن يعتزلهم وشأنه وأن لا يقتلوا النساء والصبيان معروفة مشهورة «2» . ولو كان قتال كل كافر وكل مشرك مبدأ إسلاميا لاقتضى أن يقاتل كل كافر وكل مشرك مهما كانت حالته وسنه وموقفه وهذا لم يحصل إطلاقا لا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا في زمن خلفائه الراشدين رضي الله عنهم. وقتال أبي بكر للمرتدين وعدم قبوله منهم إلّا الإسلام والاستسلام حالة أخرى لأن الارتداد كان ضد الدولة الإسلامية والنظام الإسلامي في الدرجة الأولى «3» .

_ (1) اقرأ الجزء الثاني من كتابنا سيرة النبي عليه السلام ص 161 وما بعدها وطبقات ابن سعد ج 3 ص 103- 104 و 174- 178 و 218- 221. (2) طبقات ابن سعد ج 3 ص 132 والطبرسي ج 2 ص 520 وما بعدها وأشهر مشاهير الإسلام ج 1 ص 66 وما بعدها. ولقد روى الإمام مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد أن أبا بكر قال ليزيد بن أبي سفيان حين بعثه على رأس جيش إلى الشام «إني موصيك بعشر لا تقتلن امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما ولا تقطعن شجرا مثمرا ولا تخربن عامرا ولا تعقرن شاة ولا بعيرا إلا لمأكلة ولا تحرقن نخلا ولا تغلل ولا تجبن وإنك ستجد قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له» . (3) انظر تفسير آية سورة البقرة [190] : وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ في تفسير الخازن والطبرسي والزمخشري وتفسير آية سورة البقرة [193] : وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ في تفسير الطبرسي والزمخشري وتفسير آيات سورة التوبة [1- 13] في تفسير الخازن. ففي أقوال هؤلاء المفسرين في تفسير هذه الآيات نماذج لأقوال المفسرين وتأويلاتهم التي ذكرناها في مطلع البحث، وانظر تفسير آية [190] : وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وآية [193] : وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ في تفسير المنار للسيد رشيد رضا، فهو مطابق لما قلناه من عدم إساغته لتأويل الفتنة بالشرك وعدم إساغته لنسخ الاية الأولى. وعزا إلى الإمام محمد عبده أنه ردهما. ج 2 ص 209 الطبعة الأولى لسنة 1352 هـ- 1934 م.

وفي موطأ الإمام مالك حديث عن يحيى بن سعيد احتوى وصية أبي بكر ليزيد بن أبي سفيان حين بعثه على رأس جيش إلى الشام جاء فيها: «إني موصيك بعشر لا تقتلنّ امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما ولا تقطعنّ شجرا مثمرا ولا تخربنّ عامرا ولا تعقرنّ شاة ولا بعيرا إلّا لمأكلة ولا تحرقنّ نخلا ولا تفرّقنّه ولا تغلل ولا تجبن. وإنك ستجد قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له» . ويورد فيما يورد حديث صحيح جاء فيه: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلّا الله فقد عصم مني نفسه وماله إلّا بحقّه وحسابه على الله» «1» . ونكرر هنا ما قلناه تعليقا على هذا الحديث في سياق التعليق على (سبيل الله) والخطة القرآنية للدعوة إلى سبيل الله في سورة المزمل من أن ذلك يحمل على قصد قتال الذين يستحقون القتال حسب المبادئ التي قررها القرآن وليس قتل الكفار والمشركين بسبب كفرهم وحسب. لأنه لم يرد كما قلنا أي خبر عن قتال النبي صلّى الله عليه وسلّم لكفار ومشركين موادين ومسالمين ومحايدين وغير معتدين وغير متآمرين وغير ناقضين بشكل ما. وهناك أحاديث صحيحة عديدة تدعم ما ذكرناه. منها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي عن بريدة قال: «كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا أمّر أميرا على جيش أو سريّة أوصاه في خاصّته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلّوا ولا تغدروا ولا

_ (1) التاج ج 4 ص 326. [.....]

تمثلوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال فأيّتهنّ ما أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم. ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم ثم ادعهم إلى التحوّل من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا أن يتحوّلوا فأخبرهم أنّهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين. ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلّا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم» «1» . وحديث رواه أبو داود عن أنس قال: «إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله ولا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة ولا تغلّوا وضمّوا غنائمكم وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحبّ المحسنين» «2» . وحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن ابن عمر قال: «وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي صلّى الله عليه وسلّم فنهى عن قتل النساء والصبيان. وسئل النبيّ عن أهل الدار يبيّتون من المشركين فيصاب من نسائهم وذراريّهم قال هم منهم» «3» . وحديث رواه الترمذي والنسائي عن عطية القرظي قال: «عرضنا على النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم قريظة فكان من أنبت قتل ومن لم ينبت خلّي سبيله فكنت ممّن لم ينبت فخلّي سبيلي» «4» . وفي الحديث الأول بخاصة نقض لما قاله بعض المفسرين في سياق جملة لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ في الآية [256] من سورة البقرة وذكرناه قبل من أن هذه

_ (1) التاج ج 4 ص 327- 329. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه، ص 333 والمتبادر أن جملة (هم منهم) بسبيل عذر من يقتل بعض النساء والأولاد في التبييت العام الذي لا يمكن التمييز فيه بين الكبار والصغار والرجال والنساء ويظل الأصل وهي النهي عن قتل النساء والصبيان محكما. ويوم قريظة هو يوم قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم يهود بني قريظة عقب وقعة الخندق مما سوف نشرحه في سياق سورة الأحزاب. (4) المصدر نفسه.

الجملة منسوخة بالنسبة للمشركين من العرب ولا يقبل منهم غير الإسلام أو السيف. فليس في القرآن على ضوء ما قدمناه ما ينسخ ذلك بالنسبة للمشركين العرب. وفي هذا الحديث الصحيح إجازة بقبول الجزية من الأعداء المشركين ومعظم الجيوش والسرايا التي سيرها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانت على الأعداء المشركين من العرب. بل وإن صلح الحديبية الذي أشرنا إليه دليل على جواز الصلح مع المشركين العرب بدون جزية إذا ما كان في ذلك من مصلحة المسلمين. وفي سورة الأنفال آية تأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالجنوح إلى السلم إذا جنح إليها الكفار الأعداء. وهي الآية [61] وهي مطلقة لا تشترط جزية ولا شرطا آخر، وفي هذا دليل على ما تقدم أيضا، والله تعالى أعلم.

سورة الفيل

سورة الفيل في السورة تذكير بما كان من نكال الله في أصحاب الفيل في معرض الإنذار. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الفيل (105) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) . (1) أبابيل: جماعات وفرق يتبع بعضها بعضا. أو الجماعات الكثيرة وقيل إن واحدها أبيل، وقيل إنها جمع إبّالة وهي الحزمة، وهذا في نفس المعنى الأول. (2) سجيل: الطين المتحجر وقيل إنها تعريب سنك كيل الفارسية التي تعني ذلك. وقد تكرر ورودها في القرآن مما يدل على أن دخولها في اللسان العربي قديم. (3) العصف: ورق الزرع. معنى آيات السورة واضح، وهي تذكر السامعين في معرض الإنذار بما كان من نكال الله في أصحاب الفيل فجعل كيدهم حابطا خاسرا حيث أرسل عليهم جماعات من الطير فرمتهم بحجارة طينية وجعلتهم كورق الزرع الممضوغ.

وجمهور المفسرين «1» على أن المقصد من أصحاب الفيل هم الأحباش الذين غزوا مكة فإذا كان هذا صحيحا فإنه يؤيد الروايات التي ترويها الكتب العربية القديمة عن الغزوة التي تعرف في تاريخ العرب قبل الإسلام بغزوة الفيل والتي قام بها الأحباش بقيادة أبرهة. وسميت كذلك لأنه كان في الحملة الحبشية بعض الأفيال. وملخص ما جاء في الروايات «2» أن الأحباش غزوا اليمن قبل البعثة النبوية بذريعة نصر النصارى الذين اضطهدهم الملك الحميري ذو نواس الذي كان يعتنق اليهودية وانتصروا عالى الدولة الحميرية ووطدوا سلطانهم في اليمن. وقد اضطهدوا بدورهم اليهود اليهودية وأخذوا يدعون العرب إلى النصرانية وينشئون الكنائس في اليمن وقد أنشئوا كنيسة كبرى سمتها الكتب العربية باسم القليس. غير أن العرب لم يستجيبوا إلى الدعوة وظلوا متعلقين بتقاليدهم وبالحج إلى الكعبة في الحجاز حتى أن بعضهم نجّس القليس فغضب الأحباش وأرادوا أن يخضعوا الحجاز لحكمهم ويهدموا الكعبة التي يتعلق بها العرب فجاءوا بحملة كبيرة فلما وصلت قرب مكة شرد أهل مكة إلى الجبال لأنهم رأوا أن لا طاقة لهم بها. ولكن الله حبس الفيل الكبير الذي كان في طليعة الحملة عن مكة فتوقفت الحملة، فسلط الله عليها جماعات كثيرة من الطيور تحمل بمناقيرها حجارة صغيرة من طين متحجر وأخذت ترمي بالحجارة على الأحباش فلا يكاد الحجر يصيب جسم الحبشي حتى يتهرأ. وقد تمزق شمل الحملة نتيجة لذلك ونجا الحجاز والكعبة. وقد كان لهذا الحادث ونتيجته ردّ فعل عظيم في بلاد العرب حتى صاروا يؤرخون أحداثهم بعام الفيل. وقد روي فيما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولد في هذا العام كما روي أن الحادث كان قبل ولادته بمدة تراوحت بين ثلاث عشرة سنة وأربعين سنة على اختلاف

_ (1) انظر تفسير السورة في تفسير الطبري والنيسابوري وابن كثير والبغوي والزمخشري والخازن والطبرسي إلخ. (2) انظر تاريخ الطبري مطبعة الاستقامة ج 1 ص 529- 560. وغزو الحبشة لليمن وسيطرتهم عليها مما أيدته المنقوشات والآثار القديمة أيضا انظر الجزء الخامس من كتابنا الجنس العربي ص 76 وما بعدها.

الروايات، ومما ذكرته الروايات أن عربيا اسمه أبو رغال صار دليلا للحملة فمات في مكان اسمه المغمس فصار العرب يرجمون قبره استنكارا لخيانته لقومه وظلوا على ذلك دهرا. وأسلوب الآيات ومضمونها يدلان أولا على أن الحادث كان لا يزال صداه يتردد على الألسنة في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم حينما نزلت السورة. وثانيا على أن العرب كانوا يعتقدون أن البلاء الذي وقع على الأحباش وهرّأ أجسامهم ومزق شملهم هو بلاء رباني. وثالثا على أن القصد من التذكير بالحادث الذي كان قريب العهد، وكان مالئا للأذهان هو الموعظة ودعوة السامعين أو زعماء قريش إلى الارعواء عن مواقف الأذى والجحود التي يقفونها. فالله الذي كان من قدرته أن يصب بلاءه على الأحباش ويمزقهم شرّ ممزق مع ما هم عليه من شدة البأس قادر على أن يصب بلاءه عليهم ويمزقهم. وهم يعرفون ذلك فعليهم أن يرعووا ويحذروا ويتركوا الأذى والعناد. وهكذا يتسق الأسلوب والهدف القرآني في هذه القصة اتساقهما في القصص القرآنية عامة، على ما شرحنا قبل، أما ماهية الطير والحجارة فقد ذكر المفسرون القدماء «1» في صددها أقوالا تجعل الحادث في نطاق المعجزات والخوارق. ورووا فيما رووه أن مرضي الحصبة والجدري ظهرا لأول مرة في الحجاز «2» عقب الحادث كأنما يريدون أن يقولوا إن الطير رمتهم بحجارة أصيبوا منها بأحد المرضين. وقد أوّل الإمام الشيخ محمد عبده «3» ذلك بأن الحجارة كانت ملقحة بجرثومة الجدري. ولسنا نرى كبير طائل في تحقيق ماهية الحادث لذاته لأنه خارج عن نطاق الهدف القرآني. ولكنا نقول إن حرفية آيات السورة وظاهرها على كل حال في جانب كون الحادث بلاء ربانيا خارقا كما أن أسلوبها يساعد على القول إنها في صدد التذكير بحادث عظيم، وإن سامعي القرآن الذين كانوا حديثي عهد

_ (1) انظر كتب التفسير المذكورة سابقا. (2) انظر تفسيرها في تفسير الطبري والزمخشري. (3) انظر تفسير السورة في تفسير جزء عم للإمام الشيخ محمد عبده.

بالحادث كانوا يعتقدون أن الذي وقع على الأحباش هو بلاء رباني خارق في صورة زحوف من الطير كانت ترميهم بحجارة من سجيل. هذا، ولقد أسهب المفسرون المطولون في صور الحادث وأوردوا روايات عديدة عن ماهية الطير والحجارة وأشكالها وكيفية رميها والإصابات التي كانت تحدثها ومقابلة عبد المطلب جد النبي صلّى الله عليه وسلّم لأبرهة قبل الحادث وما دار بينه وبينه في صدد مواشي أهل مكة والكعبة، وأوردوا فيما أوردوه أن ابن عباس قال: إنه رأى من حجارة الطير قفيزا عند أم هانئ رضي الله عنها عمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهي مخططة بحمرة وأن عائشة رضي الله عنها قالت إنها رأت قائد الفيل وسائسه أعميين مقعدين ... إلخ «1» ومع أن هذا الإسهاب لا يدخل في غرض التفسير وأن الروايات تتحمل الشك والتوقف، فإن هذا وذاك يدلان على أن العرب في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم كانوا يتداولون أخبار الحادث العظيم ومشاهده.

_ (1) انظر كتب التفسير المذكورة سابقا.

سورة الفلق

سورة الفلق في السورة تعليم رباني بالاستعاذة بالله من أسباب المخاوف والهواجس في معرض تدعيم وحدة الله ونبذ ما سواه. وبعض الروايات تذكر أنها مكية وبعضها تذكر أنها مختلف في مكيتها ومدنيتها، ومعظم روايات ترتيب النزول تسلكها في سلك السور المكية المبكرة في النزول، وأسلوبها يسوغ ترجيح مكيتها وتبكير نزولها. ولقد روى البخاري ومسلم والترمذي عن عائشة قالت: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوّذتين وينفث فلما اشتدّ وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح بيده رجاء بركتها» «1» . وروى البخاري عنها أيضا: «أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان إذا أوى إلى فراشه كلّ ليلة جمع كفّيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما قل هو الله أحد وقل أعوذ بربّ الفلق وقل أعوذ بربّ الناس ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده. يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات» «2» . وروى مسلم والترمذي عن عقبة بن عامر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ألم تر آيات أنزلت عليّ الليلة لم ير مثلهنّ قطّ قل أعوذ بربّ الفلق وقل أعوذ بربّ الناس» «3» . وروى أبو داود والنسائي عن عقبة أيضا قال: «كنت أقود لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في السفر ناقته فقال لي يا

_ (1) التاج ج 4 ص 24. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه.

[سورة الفلق (113) : الآيات 1 إلى 5]

عقبة ألا أعلّمك خير سورتين قرئتا فعلّمني قل أعوذ بربّ الفلق وقل أعوذ بربّ الناس» «1» . وروى الاثنان نفسهما عن عقبة كذلك قال: «بينا أنا أسير مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين الجحفة والأبواء إذ غشيتنا ريح وظلمة شديدة فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتعوّذ بالمعوّذتين ويقول يا عقبة تعوّذ بهما فما تعوّذ متعوّذ بمثلهما قال وسمعته يؤمّنا بهما في الصلاة» «2» . وروى الترمذي بسند حسن عن عقبة أيضا قال: «أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أقرأ بالمعوّذتين في دبر كلّ صلاة» «3» . والمتبادر أن ما احتوته السورتان من بث السكينة والطمأنينة في النفس وتعليم اللجوء إلى الله تعالى وحده والاستعاذة به في ظروف المخاوف والأزمات النفسية المتنوعة من الحكمة المنطوية في الأحاديث، وهي حكمة مستمرة الفائدة لاستمرار دواعيها. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الفلق (113) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5) . (1) أعوذ: أحتمي وألتجئ. (2) الفلق: أوجه الأقوال أنه فلق الصبح أو الفجر حيث ينفلق من ظلمة الليل. (3) غاسق: الليل والظلمة. (4) وقب: خيّم أو انتشر.

_ (1) التاج ج 4 ص 24. [.....] (2) المصدر نفسه ص 24- 25. (3) المصدر نفسه.

(5) النفاثات في العقد: النفث هو النفخ واصطلاحا هو تمتمة السحرة ونفثهم. والعقد جمع عقدة والجملة كناية عن أعمال السحرة والساحرات حيث كانوا يعقدون عقدا في خط وينفثون عليها وهم يتلون تعاويذهم وتمتماتهم حينما كانوا يريدون أن يصنعوا سحرا لأحد بسبيل منعه من عمل أو حمله على عمل أو جعله مريضا إلخ ... في آيات السورة تعليم رباني بالاستعاذة بالله من شرّ ما خلق ومن الظلام إذا انتشر وخيم ومن السحرة ونفثاتهم ومن الحاسدين. والمتبادر أن ما علّمته السورة يتصل بالمخاوف التي كان العرب يخافونها حين تنزيلها ممتدا إلى ما قبل ذلك. فقد كانوا يخافون من الظلام ويعتقدون أن الجنّ يظهرون ويتعرضون للناس فيه حتى إنهم كانوا إذا نزلوا واديا بالليل هتفوا مستعيذين ومستجيرين بسكان الوادي من الجنّ ليكونوا في جوارهم وحمايتهم فتطمئن بذلك قلوبهم «1» . وكان عندهم سحرة وساحرات يستعين الناس بهم على تحقيق رغباتهم وشهواتهم، وكان مما يفعله هؤلاء عقد العقد في الخيوط والنفث فيها وتلاوة التعاويذ عليها وكان العرب يعتقدون بنفع ذلك وضرره «2» . وكانوا يعتقدون بتأثير الحسد وعيون الحاسدين. فإذا كان لأحدهم ولد أو بستان أو دابة محببة فأصيب بعارض مفاجئ فسروه بعين أصابته وحسود حسده «3» . وعلى هذا فالمتبادر أن الهدف الذي استهدفته السورة هو تثبيت فكرة القدرة

_ (1) انظر تفسير السورة في تفسير الطبري والنيسابوري وابن كثير والطبرسي وانظر تفسير سورة الجن والقلم في الاستعاذة بالجن وإصابة عين الحسود في الكتب المذكورة وفي كتاب بلوغ الأرب في أحوال العرب للآلوسي ج 3 ص 232 و 365 الطبعة الثانية. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه.

طائفة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في الاستعاذة وأهدافها وتلقيناتها

الإلهية وشمولها وكون الله عز وجل وحده هو النافع والضار، ووجوب عدم الاستعاذة أو الاستعانة بغيره عند ما ينبعث في نفوسهم خوف أو هاجس أو اضطراب، وتلقين كون الله هو القادر وحده على تسكين الروع وإدخال الطمأنينة إلى القلب ودفع الضرر وتحقيق النفع ووجوب الالتجاء إليه وحده والاستعاذة به وحده. وهذا مما يتصل بمبدأ أساسي من مبادئ الدعوة وهو الإيمان بالله وحده ونبذ ما سواه خضوعا وعبادة ودعاء ورجاء. وننبه على أن السورة ليست بسبيل تقرير قدرة النفاثات في العقد على إيراث النفع والضرر ولا تأثير الحاسد في المال والنفس والولد. ولا يدل مضمونها وأسلوبها على ذلك. وإنما هي كما قلنا بسبيل التعليم والتلقين والتطمين ومعالجة ما هو مستقر في أذهان الناس من بواعث الخوف، ومعالجة روحية بالاعتماد على الله وحده والالتجاء إليه وحده. طائفة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في الاستعاذة وأهدافها وتلقيناتها ولقد تكرر في القرآن أمر الله تعالى للنبي صلّى الله عليه وسلّم وبالتبعية للمؤمنين بالاستعاذة بالله مطلقا وبالاستعاذة به من الشيطان أحيانا حينما يحزبهم حازب أو تحدق بهم أزمة أو يشعرون بوسوسة شيطانية تحيك في صدورهم كما تكرر حكاية ذلك عن بعض أنبياء الله وعباده الصالحين كما ترى في الآيات التالية: 1- وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) الأعراف [200] «1» . 2- قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي

_ (1) في سورة فصلت آية مماثلة لهذه وهي الآية [36] .

أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) هود [47] «1» . 3- فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) النحل [98- 99] . 4- قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) مريم [18] «2» . 5- وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) المؤمنون [97- 98] «3» . حيث ينطوي في هذه الآيات توكيد للمعنى الذي نقرره وهو قصد المعالجة الروحية بالاعتماد على الله تعالى وحده في ظروف الأزمات والمخاوف المتنوعة في حالاتها وأسبابها، والاستعاذة من الشيطان خاصة متصلة بالحقيقة الإيمانية المغيبة عن الشيطان ووساوسه على ما شرحناه في سياق سورة التكوير شرحا يغني عن التكرار. ولقد روى الشيخان والنسائي عن أبي هريرة: «أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يتعوّذ من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء» «4» . وروى الخمسة عن أنس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقول اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال» «5» . وروى الترمذي عن عائشة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نظر إلى القمر فقال يا عائشة استعيذي بالله من شرّ هذا فإنّ هذا الغاسق إذا وقب» «6» . وروى الخمسة عن عائشة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقول

_ (1) حكاية عن لسان نوح عليه السلام. (2) حكاية عن لسان مريم عليها السلام. (3) هناك آيات أخرى لم نر ضرورة لإيرادها وهناك سورة الناس التي تأتي بعد هذه السورة فلم نر كذلك ضرورة لإيرادها. (4) التاج ج 5 ص 113. (5) المصدر نفسه. (6) المصدر نفسه، ج 4 ص 270.

اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم والمأثم والمغرم ومن فتنة القبر وعذاب القبر ومن فتنة النار وعذاب النار ومن شرّ فتنة الغنى وأعوذ بك من فتنة الفقر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجّال. اللهمّ اغسل عني خطاياي بماء الثلج والبرد. ونقّ قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب» «1» . وروى مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن زيد بن أرقم قال: «لا أقول لكم إلّا كما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل والهرم وعذاب القبر. اللهم آت نفسي تقواها وزكّها أنت خير من زكّاها أنت وليّها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها» «2» . روى أبو داود والنسائي عن أنس قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يدعو اللهمّ إني أعوذ بك من الهدم وأعوذ بك من التردّي وأعوذ بك من الغرق والحرق والهرم وأعوذ بك أن يتخبّطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرا وأعوذ بك أن أموت لديغا» «3» . وروى المفسر البغوي وهو من أئمة الحديث حديثا رواه بطرقه في سياق الآية [98] من سورة النحل عن مطعم جاء فيه: «إنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلي قال فكبّر فقال الله أكبر كبيرا ثلاث مرات والحمد لله كثيرا ثلاث مرات وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاث مرات ثم قال اللهمّ إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ولمزه ونفخه ونفثه» . وإلى هذا فقد روى البخاري ومسلم والترمذي عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوّذات. وفي رواية كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوّذات وينفث» «4» . وروى الترمذي عن أبي سعيد «أن رسول

_ (1) التاج الجامع ج 5 ص 113- 114. (2) المصدر نفسه. [.....] (3) المصدر نفسه ص 115. (4) التاج ج 3 ص 194. وهناك مأثورات نبوية أخرى في الاستعاذة أوردها مؤلف التاج في الجزء الخامس فاكتفينا بما أوردناه.

تعليق على ما روي في صدد نزول السورة ومدنيتها وسحر النبي صلى الله عليه وسلم

الله صلّى الله عليه وسلّم كان يتعوّذ من الجانّ وعين الإنسان حتى نزلت المعوّذتان فلما نزلتا أخذ بهما وترك ما سواهما» «1» . وعلى كل حال فإن الأحاديث النبوية تتساوق مع التلقين القرآني الذي نوهنا به آنفا. تعليق على ما روي في صدد نزول السورة ومدنيتها وسحر النبي صلّى الله عليه وسلّم ولقد روى المفسر البغوي عزوا إلى ابن عباس وعائشة أن هذه السورة وسورة الناس بعدها نزلتا معا في مناسبة سحر النبي صلّى الله عليه وسلّم من قبل ساحر يهودي اسمه لبيد بن الأعصم. ويروي رواية أخرى في ذلك عزوا إلى مقاتل والكلبي جاء فيها أنهما «قالا كان السحر في وتر عقد عليه إحدى عشرة عقدة وقيل كانت العقد مغروزة بالإبرة فأنزل الله هاتين السورتين وهي إحدى عشرة آية سورة الفلق خمس آيات، سورة الناس ست آيات كلما قرأ آية انحلت عقدة حتى انحلت العقد كلها فقام النبي صلّى الله عليه وسلّم كأنما نشط من عقال» . وروى أنه لبث فيه ستة أشهر واشتد عليه ثلاث ليال فنزلت المعوذتان. ويروي هذا المفسر في سياق ذلك عن عائشة «2» : «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم طب حتى إنه ليخيل إليه أنه قد صنع شيئا وما صنعه وأنه دعا ربه ثم قال أشعرت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه فقالت عائشة وما ذاك يا رسول الله قال جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه ما وجع الرجل؟ قال الآخر: هو مطبوب. قال من طبه؟ قال لبيد بن الأعصم. قال: فبماذا؟ قال: في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر «3» . قال فأين هو؟

_ (1) المصدر السابق نفسه. (2) المفسر من أئمة الحديث وهو يروي هذا الحديث بطرقه سماعا من راو عن راو عن هشام عن أبيه عن عائشة. (3) أي في وعاء من طلع النخل.

قال في ذروان- وذروان بئر في بني زريق- قالت عائشة: فأتاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم رجع إلى عائشة فقال والله لكأن ماءها نقاعة الحناء ولكأن نخلها رؤوس الشياطين. قالت: فقلت له يا رسول الله فهلا أخرجته؟ فقال: أما أنا فقد شفاني الله فكرهت أن أثير على الناس به شرا» . وقد قال البغوي بعد هذا الكلام «وروي أنه كان تحت صخرة في البئر فرفعوا الصخرة وأخرجوا جف الطلعة فإذا فيه مشاطة رأسه وأسنان مشطه فيها» . ويروي هذا المفسر كذلك حديثا عن زيد بن أرقم جاء فيه «1» : «سحر النبي صلّى الله عليه وسلّم رجل من اليهود. قال فاشتكى لذلك أياما قال فأتاه جبريل فقال إن رجلا من اليهود سحرك وعقد لك عقدا فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليا فاستخرجها فجاء بها فكلما حل عقدة وجد لذلك خفة فقام رسول الله كأنما نشط من عقال فما ذكر ذلك لليهود ولا رأوه في وجهه قط» . وليس في الحديثين صراحة بأن السورتين نزلتا في مناسبة ما ذكر فيهما من خبر سحر النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث يبقى ذلك كراوية مستقلة مروية عن ابن عباس وعائشة ومقاتل والكلبي. وشيء مما ذكره ورواه البغوي وارد في كتب تفسير الخازن والطبرسي والنيسابوري وابن كثير. ومما جاء في تفسير الأخير زيادة عزوا إلى ابن عباس وعائشة أنه كان غلام من اليهود يخدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدبت إليه اليهود فلم يزالوا به حتى أخذ مشاطة رأس النبي صلّى الله عليه وسلّم وعدة من أسنان مشطه فأعطاها اليهود فسحروه فيها وكان الذي تولى ذلك لبيد بن الأعصم وقد مرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وانتثر شعره ولبث ستة أشهر يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن وجعل يذوب ولا يدري ما عراه. ولم يذكر الطبري وهو أقدم المفسرين المطولين الذين وصلت إلينا كتبهم شيئا من ذلك في صدد سخر النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا في صدد نزول المعوذتين. ولم يذكر ذلك الزمخشري ولا النسفي. ويمكن أن يكون هناك مفسرون آخرون لم يذكروه لأننا لم

_ (1) يروي البغوي هذا الحديث بطرقه سماعا من راو إلى راو إلى يزيد بن حسان عن زيد بن أرقم.

نطلع على جميع كتب التفسير. وليس في فصول التفسير التي عقدها البخاري ومسلم في صحيحيهما شيء من ذلك أيضا مع التنبيه إلى أن هذين رويا حديثا عن عائشة قريبا في نصه إلى ما رواه البغوي وهذا نصه: «قالت سحر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يهوديّ من يهود بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم حتّى كان رسول الله يخيّل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة دعا رسول الله ثم دعا ثم دعا ثم قال يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه، جاءني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجليّ فقال الذي عند رأسي للذي عند رجليّ أو الذي عند رجليّ للذي عند رأسي ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب. قال: من طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم. قال: في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطة وجفّ طلعة ذكر. قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذي أروان. قالت: فأتاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أناس من أصحابه ثم قال يا عائشة والله لكأنّ ماءها نقاعة الحنّاء ولكأنّ نخلها رؤوس الشياطين. فقلت يا رسول الله أفلا أحرقته قال لا. أمّا أنا فقد عافاني الله وكرهت أن أثير على الناس شرا فأمرت بها فدفنت» «1» . وفي تفسير الخازن تعقيبا على نص قريب من هذا النص بهذه العبارة: «إن للبخاري رواية أخرى ذكر فيها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن. وأن سفيانا قال إن هذا أشدّ ما يكون من السحر» . وروايات البغوي والطبرسي والخازن والنيسابوري وابن كثير تقتضي أن يلتزموا القول بأن السورتين مدنيتان. غير أنهم لم يفعلوا ذلك فقال البغوي إنهما مكيتان وقيل إنهما مدنيتان. وقال الطبرسي أكثر الأقاويل أنهما مدنيتان وقيل إنهما مكيتان. وقال النيسابوري إنهما مكيتان. ولم يذكر ابن كثير والخازن لهما صفة. أما المفسرون الآخرون فمنهم من لم يصفهما بصفة مثل الطبري ومنهم من قال إنهما مدنيتان. ومنهم من قال إنهما مختلف فيهما مثل النسفي والزمخشري.

_ (1) التاج ج 3 ص 173- 174.

ومقتضى سكوت الطبري عمّا روي في صدد سحر النبي صلّى الله عليه وسلّم ونزولهما في مناسبته أن تكونا مكيتين. ويلحظ أن المعوذتين ليستا معقودتين على السحر وأثره. وأنهما تعلمان النبي التعوذ من شرّ الظلمات والحاسدين وشرار الخلق والنفاثات في العقد ووساوس الجن والإنس بأسلوب مطلق وعام. وهما مماثلتان لسور عديدة في القصر والتسجيع نزلت في وقت مبكر في مكة ممّا مر منه أمثلة. ومعظم روايات ترتيب النزول تسلكهما في سلك السور المكية المبكرة في النزول أيضا. ونص الأحاديث الواردة في سحر النبي صلّى الله عليه وسلّم ليس فيه إشارة إلى أنهما في نزلتا في هذه المناسبة ورواية نزول السورتين معا تبعدهما عن حادث السحر المروي وكل هذا يجعل مكيتهما هي الراجحة. بقي أمر ما ذكرته الأحاديث التي توصف بالصحة من خبر سحر النبي صلّى الله عليه وسلّم وامتداد ذلك ستة أشهر حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله. وقد صنع شيئا وما صنعه. ويأتي النساء وما يأتيهن فعلا. ولو لم تكن الأحاديث موصوفة بالصحة لكان يمكن أن يقال إن من المحتمل أن يكون الخبر من ذكريات ظرف طرأ على النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه بعض مظاهر تعب وقلق فظن المسلمون أن هذا من تأثير سحر اليهود على ما كان مستقرا في الأذهان من تأثير السحر وعلى ما كان معروفا من عداء اليهود للنبي صلّى الله عليه وسلّم ومعاطاتهم للسحر مما أيدته آية سورة البقرة هذه: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [102] وأن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم تلا المعوذتين مرة بعد مرة في هذا الظرف فعاد إليه نشاطه وسكون نفسه. ولكنا نقف حائرين أمام الحديث الذي روى واقعة السحر والذي وصف بالصحة. ويظهر أن هذا الأمر كان موضوع جدل فيما إذا كان للسحر تأثير حقيقي في النبي صلّى الله عليه وسلّم وفيما إذا كان هذا إذا صح يتسق مع العصمة النبوية حيث يكون إمكان لصدور شيء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يكون وحيا ولا صوابا حيث رأينا الخازن يتعرض

لهذه النقطة فيقول فيما يقول: «قد أنكر المبتدعة حديث عائشة المتفق عليه وزعم أنه يحط من منصب النبوة ويشكك فيها وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع. ورد على ذلك بأن هذا الزعم باطل لأن الدلائل القطعية والنقلية قامت على صدقه صلّى الله عليه وسلّم وعصمته فيما يتعلق بالتبليغ والمعجزة شاهدة بذلك. وتجويز ما قام الدليل بخلافه باطل، وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا وهو ما يعرض للبشر فغير بعيد أن يخيل إليه من أمور الدنيا ما لا حقيقة له وقد قيل إنه كان يخيل إليه أنه وطئ زوجاته وليس بواطئ وهذا مثل ما يتخيله الإنسان في المنام فلا يبعد أن يتخيله في اليقظة ولا حقيقة له. وقيل إنه يخيل إليه أنه فعله وما فعله ولكن لا يعتقد صحة ما تخيله فتكون اعتقاداته على السواء» . وقال القاضي عياض على ما جاء في تفسير الخازن: «وقد جاءت في بعض روايات هذا الحديث مبينة أن السحر إنما سلط على بدنه وظواهر جوارحه لا على قلبه وعقله واعتقاده وليس في ذلك ما يوجب لبسا على الرسالة ولا طعنا لأهل الزيغ والضلالة» . ومن الصعب أن يقال إن هذا مقنع ومزيل للحيرة. ويظهر أن هذا الأمر قد أشكل على المفسر الطبرسي فأبى أن يقبله كما هو وقال في سياق تفسير الآية [102] من سورة البقرة إن هذا من الأخبار المفتعلة. وقال في سياق تفسيره لسورة الفلق إن هذا لا يجوز لأن هذا يجعل وصف المسحور متحققا بالنبي مع أن الله تعالى قد أبي ذلك حينما قاله الكفار فيه فقال: وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا الفرقان [8- 9] «1» ثم قال ولكن يمكن أن يكون اليهودي أو بناته على ما روي اجتهدوا في ذلك فلم يقدروا عليه. وأطلع الله نبيه على ما فعلوه من التمويه حتى استخرج وكان ذلك دلالة على صدقه. وكيف يجوز أن يكون المرض من فعلهم ولو قدروا على ذلك لقتلوه وقتلوا كثيرا من المؤمنين من شدة عداوتهم له. وكلام

_ (1) الآيات في سورة الفرقان 8- 9 وفي سورة الإسراء أيضا آيتان قريبتان من هاتين الآيتين في الرد على الكفار 47- 48.

الطبرسي قوي ولا سيما احتجاجه برد القرآن عن النبي صلّى الله عليه وسلّم صفة المسحور كما هو المتبادر. ومثل هذا القول رواه المفسر القاسمي عن الشهاب عن أبي بكر الأصم الذي قال: «إن حديث سحره صلوات الله عليه المروي متروك لما يلزمه من صدق قول الكفرة إنه مسحور وهو مخالف لنص القرآن حيث أكذبهم الله فيه» . ويروي المفسر القاسمي كذلك عن الرازي عن القاضي أنه قال: «هذه الرواية باطلة، وكيف يمكن القول بصحتها والله تعالى يقول: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ المائدة [67] ووَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى طه [69] ولأن تجويز ذلك يفضي إلى القدح في النبوة. ولو صح لكان من الممكن أن يصلوا إلى ضرر جميع الأنبياء والصالحين وأن يحصلوا على الملك العظيم لأنفسهم وكل ذلك باطل. وكان الكفار يعيرون النبي صلّى الله عليه وسلّم بأنه مسحور فلو وقعت هذه الواقعة لكان الكفار صادقين في تلك الدعوة ولحصل فيه عليه السلام العيب وذلك غير جائز» . وقد عقب القاسمي على هذه الأقوال قائلا إنه لا غرابة في أن لا يقبل الخبر لما برهن عليه وإن كان مخرجا في الصحاح وذلك لأنه ليس كل مخرج فيها سالما من النقد سندا أو معنى كما يعرفه الراسخون. والمناقشة في خبر الآحاد معروفة عند الصحابة «1» . ثم أخذ يورد أقوالا للأئمة الغزالي وابن تيمية والفناري في جواز رد خبر الآحاد وعدم الأخذ به، وخلافه إذا قامت الأدلة عليه. وفي كل ذلك ما فيه من قوة ووجاهة، وقد أسهبنا في هذه المسألة في طبعة الكتاب الجديدة لأننا رأيناها مهمة يحسن تمحيصها سواء من ناحية وقوعها أو من ناحية صلتها بصفة وعصمة النبوة والله تعالى أعلم «2» .

_ (1) القصد من هذا هو التوقف في الأخذ بالأحاديث التي لا تروى إلا من شخص واحد إذا كان فيها مناقضة لمبدأ من المبادئ المحكمة القرآنية أو النبوية. (2) للإمام محمد عبده كلام سديد في هذا الموضوع متفق مع النتيجة التي انتهينا إليها والرأي الذي رجحناه. انظر الجزء الثالث من كتاب التفسير والمفسرون لمحمد حسين الذهبي ص 238 وما بعدها.

هذا، ولقد روي أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أحد كبار أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلماء القرآن كان يحك هذه السورة وسورة الناس من مصحفه ويقول إنهما ليستا سورتين من القرآن وإنما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يتعوذ بهما ويأمر بذلك. وقد استوعب ابن كثير الآثار الواردة في هذا الموضوع فأورد أحاديث عديدة رواها الإمام أحمد والبخاري والحافظ بن يعلى عن زر بن حبيش مفادها أن هذا قال لأبي بن كعب- وهو من كبار علماء أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في القرآن- إن ابن مسعود يحك المعوذتين من المصحف ولا يكتبهما في مصحفه، فأجابه: «أشهد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخبرني أن جبريل قال له قل أعوذ برب الفلق. فقالها. قل أعوذ برب الناس فقالها. فنحن نقول ما قاله النبي صلّى الله عليه وسلّم» . وأن زرا سأل ابن مسعود فأجابه قائلا: «سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عنهما فقال قيل لي فقلت لكم فقولوا» . وأورد ابن كثير أحاديث عديدة أخرى أخرجها الإمام أحمد ومسلم والنسائي والإمام مالك تفيد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ذكر المعوذتين في مناسبات عديدة كسورتين قرآنيتين وكان يقرأهما ويأمر بقراءتهما على هذا الاعتبار في الصلاة وغيرها. والأحاديث التي أوردناها في مطلع السورة صريحة الدلالة على ذلك كما أن الحديث الذي أوردناه في سياق التفسير والذي رواه الترمذي عن أبي سعيد صريح الدلالة على ذلك، ولقد أورد ابن كثير هذا الحديث وقال إن ابن ماجه والنسائي أخرجاه بالإضافة إلى الترمذي. ولقد روى ابن كثير عن الأعمش قولا جاء فيه أن من المحتمل أن يكون ابن مسعود قد رجع عن قوله إلى قول الجماعة لأن الصحابة أثبتوا السورتين في المصاحف الأئمة وأنفذوها إلى سائر الآفاق. حيث يستخلص من ذلك

ثبوت المعوذتين كسورتين قرآنيتين عند جميع المسلمين بالتواتر الذي لم ينقطع منذ عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقد أشار غير واحد من المفسرين إلى هذه المسألة وأورد بعض ما أورده ابن كثير مقتضبا مؤيدا للنتيجة المستخلصة. وقد نقل السيوطي «1» أقوالا للرازي والنووي وغيرهما مؤيدة لهما حتى إن النووي ذهب إلى إنكار ما نسب إلى ابن مسعود ووصفه بأنه باطل.

_ (1) انظر الإتقان، ج 1 ص 84.

سورة الناس

سورة الناس في السورة تعليم بالاستعاذة من وسوسة الموسوسين وشرهم إنسا كانوا أم جنا. وبعض الروايات تذكر أنها مكية وبعضها تذكر أنها مختلف في مكيتها ومدنيتها ومعظم روايات ترتيب النزول تسلكها في سلك السور المكية المبكرة في النزول. وأسلوبها يسوغ ترجيح مكيتها وتبكير نزولها. ولقد أوردنا الأحاديث النبوية التي تذكر تعوذ النبي صلّى الله عليه وسلّم بهذه السور وأمره بذلك ونوهنا بما في ذلك من حكمة في مطلع تفسير السورة السابقة فنكتفي بهذه الإشارة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الناس (114) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) . (1) الوسوسة: الإيحاء والتلقين والإغراء والإغواء والصوت الخفي الهامس. (2) الخناس: الذي يأتي ويعود ويختفي ويتربص. (3) الجنة: مرادفة لكلمة الجن ومعناها في الأصل الخفي المستتر غير الظاهر. في آيات السورة أمر رباني موجه للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالاستعاذة بالله من وسوسة الإنس والجن وإغرائهم وإغوائهم. وهي مثل سابقتها في معرض تعليم المسلمين الاستعاذة بالله وحده ونبذ ما

سواه من كل وسوسة ظاهرة وخفية من جن وإنس. والمتبادر أن المقصود من وسوسة الإنس هو ما يحاوله ويقوم به ذوو الأخلاق السيئة والسرائر الفاسدة من إغراء وإغواء وإيحاء وتلقين بالشرور والمنكرات والبغي وإقامة العثرات في سبيل الخير والصلاح والحق والبر. أما وسوسة الجنة فالمقصود منها كما هو المتبادر أيضا وسوسة تلك العناصر الخفية التي توسوس في صدور الناس وتغريهم بالشر والفساد والمنكرات والبغي والكفر وعبادة غير الله وجحود نعمته. وتزينه لهم وتمنعهم عن الإيمان والخير والمعروف والبر، والتي سماها القرآن بأسماء إبليس وجنوده وذريته وقبيله والشيطان والشياطين، مما هو مستفيض في فصول القرآن المكية والمدنية استفاضة تغني عن التمثيل. وروح الآيات تلهم أن السامعين يعرفون ما يفعله الوسواس الخناس من الجنة والناس. وقد تضمنت السورة أهدافا جليلة وتلقينات بليغة. فالوساوس سواء أكانت تلك التي تأتي من أعماق النفس وعناصر الشر الخفية أم تلك التي تأتي عن طريق وألسنة الشر وأعوان السوء من البشر من شأنها أن تثير مختلف الهواجس ونوازع الشر والإثم، وتسبب نتائج خطيرة في علاقات الناس ببعضهم، وتزلزل فكرة الخير والمعروف والثقة والتضامن والسكينة والطمأنينة فيهم. فالأمر بالاستعاذة بالله منها ومن شر مسببيها يتضمن التحذير والتنبيه والتنديد من جهة، والدعوة إلى الازورار عن الموسوسين ونبذهم من جهة، وتلقين تغليب نوازع الخير وإقامة الناس علاقاتهم فيما بينهم على أساس الروح الطيبة والنية الحسنة وحسن الظن والتواثق من جهة، وعدم الاستسلام لسوء الظن الذي تثيره الوساوس وعدم الإصغاء إلى كل كلمة يقولها المرجفون والدساسون وكل خبر يذيعونه وعدم الاندماج فيما ينصبونه من مكايد ويحيكونه من مؤامرات من جهة. وبعض الروايات تذكر أنها نزلت مع سورة الفلق في مناسبة حادث سحر

النبي صلّى الله عليه وسلّم في المدينة. وقد علقنا على هذا الحادث في سياق السورة السابقة. ولا تبدو صلة ظاهرة بين هذه السورة وبين الحادث المذكور. بل إن روايات نزول السورتين متتابعتين وفي ظرف واحد تبعد السورتين معا عن ذلك الحادث. ومعظم روايات ترتيب السور تسلك هذه السورة كما تسلك السورة السابقة في سلك السور المكية المبكرة في النزول. وروح السورة وأسلوبها يجعلان النفس مطمئنة إلى ذلك ولا سيما أن مضمونها عام شامل، وفيها صورة لما كان يجري بين الكفار إزاء الدعوة النبوية حيث كان زعماؤهم يبثون الدعاية والوساوس ضدها ويكيدون لها ويتآمرون عليها ليلا ونهارا على ما حكته آيات قرآنية مكية عديدة أوردنا أمثلة منها في المناسبات السابقة. هذا إلى ما ذكرته آيات كثيرة مكية ومدنية من وساوس الشيطان وإبليس اللذين عنتهما كلمة «الجنة» في السورة على الأرجح ونزغاتهما وإغراءاتهما للكفار وتزيينهما لهم مواقف الجحود والعناد والبغي مثل ما جاء في آية سورة فصلت هذه: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وآية سورة ص هذه: قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) «1» . وآية سورة فاطر هذه: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) ومثل آية سورة العنكبوت هذه: وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وآيات سورة المؤمنون هذه: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) . وآية سورة الكهف هذه: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) .

_ (1) الآيتان من سلسلة قصة آدم وإبليس.

تعليق على موضوع الجن

تعليق على موضوع الجن وبمناسبة ورود كلمة الْجِنَّةِ لأول مرة نقول: إن هذه الكلمة وبعض متشابهاتها وتفرعاتها اللفظية مثل جن وجنين تنطوي على معنى الاستتار والخفاء في اللغة العربية. وهذا يسوغ القول إن معنى الخفي والمستور وغير المرئي بالنسبة إلى الجن والجنة مما كان مستقرا ومفهوما في أذهان العرب قبل الإسلام. ولعل مما يصح قوله أن إطلاق التسمية مقتبس من المعنى اللغوي الذي يمكن أن تكون صيغته الفصحى متطورة عن جذر قديم أطلق على العناصر الخفية الشريرة التي كان الاعتقاد بوجودها طورا بشريا عاما مشتركا بين الأمم منذ أقدم الأزمنة ومن جملتهم العرب قبل الإسلام في مختلف أطوارهم كما هو الشأن إزاء العناصر الخفية الخيرة. ولقد كان لأهل الكتاب الذين كان العرب يتصلون بهم في جزيرتهم وخارجها عقائد متطورة فيهم فمن المحتمل كثيرا أن يكون ذلك قد تسرب إلى العرب فأدخل تطورا ما على عقائدهم فيهم أيضا. ولقد احتوى القرآن آيات كثيرة حول الجن وماهيتهم أولا وحول عقائد العرب فيهم ثانيا. ومجمل ما جاء عن ماهيتهم أنهم مخلوقات نارية على ما تفيده آية سورة الحجر هذه: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) وآية سورة الرحمن هذه: وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) وأنهم طوائف وطبقات على ما تفيده آية سورة الجن هذه التي تحكي أقوالهم: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) ، وأن منهم طبقة إبليس وذريته الذين يوسوسون للناس ويزينون لهم الشر والإثم والتمرد على الله على ما تفيده آيات سورتي ص والكهف التي أوردناها قبل قليل، وأن منهم من ينزل على الناس ويلقون إليهم ببعض الأقوال والأخبار والأفكار على ما تفيده آيات سورة الشعراء هذه: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ

الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وأن منهم من كان يصعد إلى السماء ويحاول استراق السمع على ما تفيده آيات سورة الجن هذه: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9) وأن منهم من كان تحت تسخير سليمان عليه السلام يعملون له ما يشاء ويقومون بأعمال أضخم من أعمال البشر على ما تفيده آيات سورة سبأ هذه: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ [13] وآيات سورة ص هذه: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) وأن منهم من سمع القرآن من النبي صلّى الله عليه وسلّم وآمنوا به وذهبوا إلى قومهم مبشرين ومنذرين به كما تفيده آيات سورة الجن هذه: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وآيتا سورة الأحقاف هذه: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) وأنهم صائرون إلى ما هو صائر إليه الإنس من الحياة الأخروية ومنازلها جنة ونارا وكرامة وهوانا وفق أعمالهم كما تفيده آية سورة الأعراف هذه: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179) وآية سورة الأحقاف هذه: يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وأنهم إلى ذلك كله عناصر خفية لا يمكن رؤيتها ولا الشعور بماديتها عادة على ما تفيده آية سورة الأعراف هذه: يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما

لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) «1» . أما مجمل ما جاء في القرآن عن عقائد العرب في الجن فهو أنهم كانوا يعتقدون أن بينهم وبين الله نسبا وصهرا على ما تفيده آية سورة الصافات هذه: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) وأنهم كانوا يتجهون إليهم ويشركونهم مع الله في العبادة والدعاء على ما تفيده آية سورة سبأ هذه: قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) وآية سورة الأنعام هذه: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ [100] وأنهم كانوا يرونهم مصدر خوف وشر ويعوذون بهم اتقاء شرهم على ما تفيده آية سورة الجن هذه: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) ولعل بشراكهم إياهم مع الله وعبادتهم لهم جاءت من هذا الخوف ومن الاعتقاد بقدرتهم على الأذى والضرر. وأنهم كانوا يخالطون الناس في عقولهم فيكون من ذلك الجنون وأعراضه على ما تفيده آية سورة المؤمنون هذه: أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) وأنهم ينزلون على بعض الناس ويوحون إليهم ويوسوسون في صدور الناس على ما تفيده آية سورة التكوير هذه: وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) وآية سورة الشعراء هذه: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وآية سورة الأعراف هذه: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) . فالصورة القرآنية عن الجن سواء أكانت بما جاء عن ماهيتهم وأعمالهم أم حكاية عن عقائد العرب فيهم هي صورة مخلوقات خفية غير مرئية ولا محسوسة

_ (1) وفي آيات سورتي الأحقاف والجن التي أوردناها قبل وذكرت خبر استماع نفر من الجن للقرآن من النبي صلّى الله عليه وسلّم قرينة على ذلك حيث تفيد أنهم رأوا النبي صلّى الله عليه وسلّم واستمعوا له دون أن يراهم. وهناك حديث عن ابن عباس جاء فيه إن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما قرأ على الجن ولا رآهم وإنما أوحي إليه قولهم. (التاج ج 4 ص 246 وتفسير ابن كثير لآيات سورة الأحقاف [29- 30] .

المادة عادة، فائقة القدرة متسلطة على البشر تثير فيهم الخوف والفزع، وتؤثر في أفكارهم وتوجههم توجيها ضارّا فاسدا باستثناء بعضهم الذين كانوا يؤمنون بالله ويخشونه. وهذه الصورة تتفق في بعض الخطوط مع الصورة القرآنية للملائكة وتختلف عنها في بعض، فهم سواء في الخفاء وعدم المادية والقدرة الفائقة. مفترقون من حيث كون الجن ناريين ومبعث خوف وقلق ومصدر شر وأذى، ومن حيث كون غالبيتهم موضع سخط الله ونقمته لشرورهم وتمردهم على الله، ومن حيث كون اتصالهم وتعاونهم مع ذوي النيات السيئة والأفكار الخبيثة والأخلاق المنحرفة، في حين أن الملائكة مبعث طمأنينة وسكينة ومصدر أمن وخير وعون ورجاء ومختصون من الله مكرمون لديه، يقومون بخدمته ويسبحون باسمه ويخضعون لأمره ويخشونه، وفي حين أن اتصالهم مع الأنبياء والرسل الذين لهم الكرامة عند الله. وكما قلنا بالنسبة للملائكة نقول بالنسبة للجن إن وجودهم في نطاق قدرة الله وإن لم تدرك عقول الناس مداه. وإن التصديق به واجب إيماني غيبي لأن نصوص القرآن قطعية في ذلك. وذكر الجن بالأساليب المتنوعة التي ذكروا بها في القرآن ماهية وعقائد وصورا لم يرد في كتب اليهود والنصارى المنسوبة إلى الوحي الرباني كما هو شأن الملائكة، ولذلك فإن هذا الأسلوب من خصوصيات القرآن أيضا. ولعل ما كان من عقائد العرب في الجن وما كان من صور في أذهانهم لهم هو من حكمة هذه الخصوصية كما هو الشأن بالنسبة للملائكة أيضا. وعلى كل حال فإن مما هو جدير بالتنبيه أن القرآن وهو يذكر الجن بما يذكر ويتحدث عنهم بما يتحدث إنما يذكر ويتحدث عن مخلوقات وكائنات يعتقد العرب بها ويعترفون بوجودها بما يقارب ما جاء فيه. وهذه مسألة مهمة في صدد كل ما جاء عن الجن، لأن الكلام عما هو معروف ومعترف به هو أقوى أثرا ونفوذا كما لا يخفى. الجزء الثاني من التفسير الحديث 5

ومما يتبادر أن ما ورد عن الجن والشياطين وإبليس من صور قرآنية بغيضة ومن حملات على الكفار في سياقها متصل بما في أذهان العرب عنهم، وبسبيل تقرير كون الانحراف عن الحق والمكابرة فيه والاستغراق في الإثم والخبائث والانصراف عن دعوة الله هو من تلقيناتهم ووساوسهم، ومظهرا من مظاهر الانحراف نحوهم، وبسبيل التحذير من الاندماغ بهم لما في ذلك من مهانة ومسبة. ومن هنا يأتي الكلام قويا ملزما ولاذعا، ويقوم البرهان على أن ذلك من الوسائل التدعيمية لأهداف القرآن وأسس الدعوة الإسلامية. وهذا ملموح أيضا على ما هو المتبادر من آيات سورتي الجن والأحقاف التي تخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم باستماع الجن للقرآن، فآيات سورة الجن تفيد أن الذين استمعوا القرآن منهم ممن كانوا يعتقدون أن الله ولدا وصاحبة كما ترى فيها: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) وآيات سورة الأحقاف تفيد أن الذين استمعوا هم من المتدينين بالديانة الموسوية على ما تفيده الآيات [29- 30] التي أوردناها قبل قليل، والصورة الأولى متصلة من ناحية بعقائد العرب المشركين ومن ناحية بعقيدة النصارى حيث يلمح أن هذا وذاك ينطويان من جهة ما على قصد التدعيم للرسالة المحمدية بالإخبار بأن بعض طوائف الجن الذين يدينون بالديانة الموسوية والديانة العيسوية وبعقائد العرب والذين لهم في أذهان العرب تلك الصورة الهائلة قد آمنوا بهذه الرسالة حينما سمعوا النبي صلّى الله عليه وسلّم يتلو القرآن «1» . ولقد تزيد المفسرون المطولون في صدد ماهية الجن وأوردوا أقوالا متنوعة عنهم بسبيل ذلك «2» معظمها مغرب وغير موثق. ولما كان القرآن إنما ذكر الجن في معرض التنديد والتحذير والموعظة والتدعيم والتمثيل، ثم لما كان الجن كائنات

_ (1) انظر كتابنا القرآن المجيد، ص 185، 189. [.....] (2) انظر نماذج من ذلك في كتابنا المذكور أيضا ص 242 وما بعدها.

غيبية إيمانية لا يصح الكلام فيها إلّا في نطاق ما جاء عنها في القرآن أو السنة النبوية الثابتة فإن من الواجب ملاحظة ذلك الهدف من جهة والوقوف عند الحد الذي وقف عنده القرآن من جهة أخرى فضلا عن انتفاء أي طائل في إرسال الكلام عنهم والتزيد فيه خارج ذلك.

سورة الإخلاص

سورة الإخلاص في السورة تقرير العقيدة الإسلامية بذات الله بأسلوب حاسم وقطعي ووجيز. وأسلوبها عام التوجيه والتقرير. وهناك روايات تذكر أنها مدنية وأخرى تذكر أنها مكية. والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي مكيتها، كما أنها مكية في التراتيب الكاملة المروية الأخرى «1» . ومن أسمائها «الصمد» وبذلك يتم الاتساق في تسميتها مع أسلوب تسمية السورة بصورة عامة. ولقد روى البخاري وأبو داود عن أبي سعيد: «أن رجلا سمع رجلا يقرأ قل هو الله أحد يردّدها فلما أصبح جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكر ذلك له وكأنّ الرجل يتقالّها فقال رسول الله والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن» «2» . وروى الشيخان والترمذي عن أبي الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن. قالوا وكيف يقرأ في ليلة ثلث القرآن قال قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن» «3» . وحديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «احشدوا فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن فحشد من حشد فخرج نبيّ الله فقرأ قل هو الله أحد ثم دخل فقال بعضنا لبعض إني أرى هذا خبرا جاءه من السماء فذاك الذي أدخله ثم خرج نبيّ الله فقال إني قلت لكم سأقرأ عليكم ثلث القرآن ألا إنها تعدل ثلث القرآن» «4» . وروى مسلم حديثا جاء فيه: «بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم رجلا على سريّة

_ (1) أسماء التراتيب وأصحابها في مقدمة الجزء. (2) التاج ج 4 ص 22. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه.

فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بقل هو الله أحد فلما رجعوا ذكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال سلوه لأيّ شيء يصنع ذلك فسألوه فقال لأنها صفة الرحمن فأنا أحبّ أن أقرأ بها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخبروه أنّ الله يحبّه» «1» . وروى الترمذي عن أنس قال: «كان رجل من الأنصار يؤمّهم في مسجد قباء فكان كلّما أمّهم في الصلاة قرأ بقل هو الله أحد ثم يقرأ سورة أخرى معها وكان يصنع ذلك في كلّ ركعة فكلّمه أصحابه إمّا أن تقرأ بها وإمّا أن تدعها وتقرأ بسورة أخرى فقال ما أنا بتاركها، إن أحببتم أن أؤمّكم بها فعلت وإن كرهتم تركت، وكانوا يرونه أفضلهم فلما أتاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبروه الخبر فقال يا فلان ما يمنعك مما يأمرك به أصحابك وما يحملك أن تقرأ هذه السورة في كل ركعة؟ فقال: يا رسول الله إني أحبّها. فقال: إن حبّها أدخلك الجنة» «2» . وروى الترمذي عن أبي هريرة قال: «أقبلت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فسمع رجلا يقرأ قل هو الله أحد الله الصمد فقال رسول الله وجبت قلت وما وجبت قال الجنة» «3» . وروى الترمذي عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قرأ كلّ يوم مائتي مرة قل هو الله أحد محي عنه ذنوب خمسين سنة إلّا أن يكون عليه دين» «4» . وروى الإمام أحمد عن أنس بسند حسن أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قرأ قل هو الله أحد عشر مرات بنى الله له بيتا في الجنة» «5» . وروى النسائي عن معاذ بن عبد الله عن أبيه قال: «أصابنا عطش وظلمة فانتظرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليصلّي بنا فخرج فقال قل قلت ما أقول قال قل هو الله أحد والمعوّذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاثا يكفك كلّ شيء» «6» . حيث ينطوي في الأحاديث تنويه بفضل هذه السورة وحثّ على قراءتها من حكمتها

_ (1) المصدر السابق نفسه. (2) المصدر نفسه، ص 23. (3) المصدر نفسه، ص 22- 23. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه. (6) المصدر نفسه.

[سورة الإخلاص (112) : الآيات 1 إلى 4]

المتبادرة ما انطوت فيه من إعلان الإيمان بوحدة الله التامة المنزّهة عن كل شائبة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الإخلاص (112) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) (1) الصمد: أوجه الأقوال في معنى الكلمة أنه السيد المصمود إليه في الحوائج الغني عن غيره. (2) كفو: مماثل وندّ. في الآيات أمر رباني للنبي صلّى الله عليه وسلّم بأن يعلن صفات الله عز وجل وهي أنه واحد أحد، المصمود إليه في الحاجات، المستغنى عن غيره. لم يلد ولم يولد وليس له مماثل ولا ندّ. وقد روي أن بعض العرب سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم أن ينسب لهم ربّه فأوحى الله بهذه السورة كما روي أن السؤال من اليهود «1» . وهناك حديثان صحيحان في صدد السورة ومعناها ونزولها واحد رواه الترمذي عن أبيّ بن كعب قال: «إن المشركين قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم انسب لنا ربّك؟ فأنزل الله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ فالصمد الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ لأنه ليس شيء يولد إلّا سيموت ولا شيء يموت إلّا سيورث والله عز وجل لا يموت ولا يورث وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ قال لم يكن له شبيه ولا عدل وليس كمثله شيء» «2» . وثان رواه البخاري عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قال الله تعالى كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي

_ (1) انظر تفسير السورة في تفسير الطبري. (2) التاج ج 4 ص 269.

تعليق على مدى تقرير وحدة الله في سورة الإخلاص

أن يقول إني لن أعيده كما بدأته وأما شتمه إياي أن يقول اتخذ الله ولدا وأنا الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد» «1» . تعليق على مدى تقرير وحدة الله في سورة الإخلاص ومهما يكن من أمر الرواية فالسورة قد استهدفت تقرير عقيدة الوحدة الإلهية ونفي كل ما يتناقض معها من العقائد الموجودة في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم وما تنطوي عليه هذه العقائد من المشابهة والمماثلة والتعدد والشركة والوالدية والولدية بأسلوب حاسم وجيز. ففي إعلان الوحدة الإلهية ردّ على من يجعل الله أكثر من واحد، سواء أكان هذا التعدد مؤولا مرده إلى الوحدة كما هو في العقيدة النصرانية أم غير مؤول كما هو في عقيدة المشركين. وفي إعلان أن الله هو المتّجه المفرد والغني المطلق ردّ على ما كان من اتجاه بعض الفئات إلى غيره أو إليه وإلى غيره معا إشراكا أو استشفاعا، ورد على ما كان من اعتقاد بعض الفئات من حاجة الله إلى المساعدين في تدبير ملكوت السموات والأرض، ومن أثر هؤلاء المساعدين في الكون إيجابا وسلبا ونفعا وضرّا. وفي إعلان نفي الولد عن الله رد على من كان يعتقد أن لله ولدا، سواء أكان ذلك من مشركي العرب الذين كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله أم النصارى الذين كانوا يعتقدون أن المسيح ابن الله أم اليهود الذين كانوا يعتقدون أن العزير ابن الله كما جاء في آية سورة التوبة [30] . وفي إعلان نفي تولد الله من والد ردّ على من كان يتخذ الملائكة أو المسيح آلهة ويعتقدون أنهم أولاد الله.

_ (1) التاج ج 4 ص 269. [.....]

وفي إعلان نفي المماثلة ردّ على من كان يتخذ لله أندادا ويجعل له شركاء في الخلق والاتجاه والعبادة وارتجاء الخير واتقاء الشر، كما حكت ذلك آيات عديدة مثل آية سورة البقرة هذه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [165] وآية سورة الرعد هذه: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16) . والسورة في حسمها وإيجازها قطعية المعنى التقريري، سهلة الحفظ والإيراد على لسان كل مؤمن، وعنوان الإخلاص في عقيدة الله ووحدته وتفرده بالربوبية وشمول قدرته وتصرفه واستغنائه عن كل معين، واحتياج جميع الكائنات إليه. وهي من هذا الاعتبار الصورة الواضحة القطعية المحكمة المجردة من كل الملابسات والشبهات للعقيدة الإسلامية بذات الله بحيث تكون مردّ كل ما يمكن أن يكون من الألفاظ والآيات المتشابهة التي قد تكون وردت في القرآن على سبيل التقريب والتمثيل في نطاق اللغة البشرية ومفاهيمها. وليس من ريب في أن من شأن الإخلاص في هذه العقيدة على هذا الوجه الحاسم المحكم أن يحرر النفس الإنسانية من الشبهات والارتكاسات والتأويلات والحيرة والخضوع لغير الله من القوى والمظاهر وأن يجعل اتجاهها لله الواحد الأحد الشامل القدرة المنزّه عن كل ما يتناقض مع هذا الشمول والتفرد، كما أن من شأنه أن يبعث فيها الطمأنينة والقوة والمناعة من التأثر بأي مؤثر ومن ارتجاء الخير واتقاء الشر من أي مصدر، ومن الخضوع لأي قوة والرهبة من أحد غيره والأمل في سواه. ويلحظ أن السورة قد اقتصرت كما قلنا على تقرير عقيدة الوحدة الإلهية

ونفي كلّ ما يتناقض معها حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت ذلك في هذه السورة إزاء ما كان سائدا في العالم من نقائض متنوعة المدى لهذه الوحدة المستغنية عن كل شيء والتي هي مرجع ومصدر كل شيء. ولقد وصف الله عز وجل في السور السابقة واللاحقة برب العالمين الرحمن الرحيم المالك لكل شيء والعالم بكل شيء والمحيط بكل شيء والقادر على كل شيء والمتصرف في كل شيء الذي لا تدركه الأبصار والذي ليس كمثله شيء المتصف بجميع صفات الكمال والمنزّه عن كل شائبة ونقص. وبذلك تكتمل الصورة القرآنية لله عز وجل في العقيدة الإسلامية كمالا لا يماثله بل ولا يدانيه شيء من الصور الإلهية في مختلف الديانات الأخرى. ومعظم روايات النزول وتراتيب السور تجعل هذه السورة بعد سورتي الناس والفلق مما يسوغ القول أن السور الثلاث نزلت في ظرف واحد وأوقات متقاربة أو متعاقبة. ولهذا دلالة مهمة من حيث توكيد السور الثلاث عدم وجود غير قوة الله الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد قادرة على النفع والضرر والمنع والإعطاء. ومن حيث إيجاب الاستعاذة به وحده وعدم خشية أحد غيره وعدم الاتجاه إلى غيره في أي مطلب وحاجة.

سورة النجم

سورة النجم تتضمن السورة توكيدا بصدق النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما أخبر به من رؤيته المشاهد الربانية والملك الرباني وبصدق صلته بالوحي الرباني. وتزييفا لعقائد العرب بالأصنام والملائكة والشفاعة، وتنويها بالمؤمنين الصالحين. وتنديدا بالكفار المكذبين. وإنذارا بالآخرة والوقوف بين يدي الله، وتقريرا بعدم انتفاع الإنسان إلّا بسعيه. وتذكيرا ببعض الأقوام السابقة، وما كان من تنكيل الله بهم بسبب تكذيبهم أنبياءه وتمردهم على دعوتهم إلى الله. وهي متوازنة الآيات مترابطة الفصول، مما يلهم أنها نزلت دفعة واحدة أو فصولا متتابعة. وقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآية [32] مدنية وانسجامها مع ما قبلها وما بعدها نظما وموضوعا يحمل على التوقف في هذه الرواية. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النجم (53) : الآيات 1 الى 12] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) . (1) النجم: تعددت الأقوال في النجم المقصود، وأوجهها عندنا هو الشهاب المنقض من السماء بقرينة جملة «إذا هوى» .

(2) هوى: خرّ وسقط. (3) ضل: انحرف أو ذهل. (4) صاحبكم: كناية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. (5) غوى: جهل أو التبس عليه أو ضلّ عن الحق. (6) الهوى: الرأي الذي لا يستند فيه صاحبه إلى الحق ويصدر فيه عن غاية خاصة وعاطفة وأنانية. (7) وحي يوحى: الوحي من الإيحاء وأصل معنى الكلمة السرعة والإيعاز والإلهام والقذف بالروع. وجاءت في القرآن بهذه المعاني. وجاءت بمعنى النواميس التي أودعها الله في كائناته وخلقه. وجاءت في معرض إرسال الله الملائكة بأوامره إلى أنبيائه أو إلهام الله لأنبيائه ما يريد إلهامهم به أو قذفه في قلوبهم. والجملة هنا بأحد المعنيين الأخيرين. (8) علمه: الضمير في هذا الفعل عائد إلى الملك الذي أرسله الله للنبي صلّى الله عليه وسلّم على ما عليه جمهور المفسرين وهو جبريل. (9) ذو مرة: ذو قوة أو ذو حصافة وإحكام في عقله، وهذا هو المقصود على الأرجح، والكلمة وصف لملك الله على ما عليه الجمهور. (10) استوى: اعتلى أو وقف موقف البروز والعلو. والضمير عائد للملك أيضا. (11) الأفق الأعلى: كناية عن السماء. (12) ثم دنا فتدلى: قال الطبري في الجملة تقدم وتأخير ومعناها: تدلى ثم دنا أي نزل من العلو ثم اقترب. ولو لم يصح التقديم والتأخير فنفس المعنى موجود. (13) قاب قوسين: جملة تعني شدة القرب وقصر المسافة. فكان بين النبي والملك ما بين قوسي الحاجبين من قرب. (14) فأوحى إلى عبده ما أوحى: عبده هنا كناية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم والضمير في أوحى عائد إلى الملك جبريل على ما عليه الجمهور.

(15) الفؤاد: كناية عن القوة الواعية المدركة في الإنسان. (16) تمارونه: تجادلونه. في الآيات قسم رباني في معرض التوكيد بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يذهل ولم ينحرف عن الحق والصدق، ولم ينطق بما نطق ولم يبلغ ما بلغ كذبا وشفاء لهوى النفس وخيلائها، وبأن ما أخبر به هو وحي أوحي إليه، وقد أبلغه إياه رسول رباني قوي صادق، وقد رآه في أفق السماء وقد اقترب منه إلى مسافة قريبة جدا، ومن المكابرة أن تجادلوه فيما رآه وعاينه. وواضح من هذا أن الآيات بسبيل وصف مشهد شهده النبي صلّى الله عليه وسلّم وتوكيد صدق ما أخبر به من ذلك. ولقد روى الشيخان والترمذي في فصل التفسير في سياق تفسير هذه الآيات حديثا عن الشيباني قال: «سألت زرا عن قوله تعالى: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى النجم [9- 11] فقال: أخبرنا عبد الله أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم رأى جبريل له ستمائة جناح» «1» . وروى البخاري حديثا عن مسروق جاء فيه: «قال مسروق لعائشة أين قوله تعالى: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى النجم [8- 9] قالت: ذلك جبريل كان يأتيه في صورة الرجال وأتاه هذه المرة في صورته الأصلية فسدّ الأفق» «2» . وأكثر المفسرين «3» يرجحون أن المشهد هو مشهد جبريل عليه السلام الذي رآه النبي صلّى الله عليه وسلّم بالأفق الأعلى، وهو الأوجه فيما هو المتبادر. ولقد ورد في سورة التكوير آيات فيها بعض ما في هذه الآيات من وصف لملك الله ورؤية النبي صلّى الله عليه وسلّم له بالأفق وتوكيد ذلك وهي: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)

_ (1) التاج ج 4 ص 220. (2) المصدر نفسه. (3) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والنيسابوري إلخ.

التكوير [19- 23] ، فمن الجائز أن تكون آيات النجم التي نحن في صددها بسبيل توكيد صحة ما أخبر به سابقا حيث ظل الكفار يكذبون ويمارون. ولقد احتوت الآيات التالية لهذه الآيات إشارة إلى مشهد ثان مماثل رآه النبي صلّى الله عليه وسلّم والضمير فيه معطوف على الأول. فمن الجائز كذلك أن تكون الآيات التي احتوت توكيدا للمشهد الذي حكته آيات سورة التكوير قد جاءت كتمهيد توكيدي واستشهادي للمشهد الثاني الذي حكته الآيات التالية لها. وتعبير ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى النجم [11] قد يفيد كون المشهد الذي شهده النبي صلّى الله عليه وسلّم روحاني خاص به شهده بقوة البصيرة التي اختصه الله بها من دون الناس العاديين على ما هو المتبادر من السياق. والآية التالية لهذه الآية تدعم هذا حيث استنكرت المرء في أمر خاص بالشعور والإدراك النبوي الذي لا يجوز أن يكون موضع مراء كأنما أرادت الآية أن تقول إن المراد إنما يصح أن يكون فيما يمكن أن يكون قدرا مشتركا بين الناس يستطيع جميعهم أن يروه ويحسوا به ويدركوه بحاسة من حواسهم. فإذا ادعى أحدهم أنه رآه وأحس به وأدركه كان لغيره أن يماري في ذلك إذا لم يره هو ويحس به ويدركه. ويمكن أن يضرب المثل للتوضيح برؤية الكسوف والرؤيا النومية. فلا يستطيع أحد مثلا أن يدعي أنه رأى كسوف الشمس دون سائر الناس، لأنه مشهد عام يتساوى الناس في رؤيته. وذلك على عكس الرؤيا لأنها خاصة بالشخص الذي رآها، ولا تتحمل دعوى رؤياها أي جدل أو مكابرة أو مراء. وقد قصدنا بهذا الشرح المستلهم من الآيات توضيح ما يكون بين الله وبين أنبيائه من اتصال خاص بهم على اختلاف صوره التي ذكرتها آية سورة الشورى هذه: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [51] «1» يدركونه ويشعرون به بما

_ (1) في الآية ثلاث صور لاتصال الله بأنبيائه وهي الوحي المباشر الذي يقذف في قلوبهم ويلهمون إياه أو صوت يسمعونه أو رسول ملك يرسله الله إليهم.

تعليق على مدى متناول آيات: وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى والعصمة النبوية

اختصهم الله به من قوة لا يمكن إدراكها بالعقل العادي، ويجب الإيمان بها لأن ذلك مما يستتبعه الإيمان بالله وأنبيائه، والمشهد الذي وصفته وأكدته الآيات مظهر من مظاهر هذا الاتصال ويجب الإيمان بصحته لأن القرآن والنبي قد أخبرا به. تعليق على مدى متناول آيات: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى والعصمة النبوية وقد ذهب بعض المفسرين «1» إلى أن آيتي: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى النجم [3- 4] تشملان كل ما صدر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من قول أو عمل ديني ودنيوي وقرآني وغير قرآني، وجعلوهما في عداد الدلائل على العصمة النبوية. والذي نلحظه من روح الآيات وسياقها أن الآيتين في صدد توكيد صحة ما أخبر به النبي صلّى الله عليه وسلّم من اتصال وحي الله به ورؤيته الملك وما ألقاه عليه من آيات القرآن. وفي الاستدلال بها على عصمة النبي صلّى الله عليه وسلّم في كل ما صدر عنه من قول وعمل دنيوي وغير قرآني واعتباره وحيا ربانيا تجوز كبير يتعارض مع وقائع ونصوص قرآنية كثيرة تدل على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يجتهد في أمر فيصدر عنه فيه قول أو فعل فينزل قرآن معاتبا ومنبها حينا ومذكرا حينا بما هو الأولى مثل حادث استغفاره مع المؤمنين لذوي قرباهم من موتى المشركين الذي أشارت إليه آيات سورة التوبة هذه منبهة: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) «2» ومثل حادث أسرى بدر الذي أشارت إليه آيات سورة الأنفال هذه: ما كانَ لِنَبِيٍ

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبرسي والنيسابوري والخازن مثلا. (2) في الآية الثانية ما يفيد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين اجتهدوا فقاسوا بما فعله إبراهيم عليه السلام فبين الله فيها الفرق ووجه الحق في ذلك.

أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) ومثل حادث حلفه على عدم قرب زوجاته التي أشارت إليها آية سورة التحريم هذه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) ومثل حادث الأعمى الذي أشارت إليه آيات سورة عبس هذه: عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) «1» . ونريد أن ننبه على نقطة هامة، فنحن لا نعني بما نقرره ألّا يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم في كثير مما قاله أو فعله أو أمر به أو نهى عنه مما لم ينزل فيه قرآن ناقض أو معدل أو معاتب ملهما به من الله عز وجل. ففي القرآن دلائل عديدة على أن كثيرا مما وقع من النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل نزول القرآن قد وقع بإلهام رباني. وأن القرآن نزل بعد وقوعه مؤيدا له فيه، ومن الأمثلة على ذلك سيره إلى مكة لأجل العمرة مع أصحابه بناء على رؤيا رآها وانتهاء ذلك بصلح الحديبية. فقد كان ذلك بإلهام رباني ثم نزلت سورة الفتح مؤيدة له. ومن ذلك أيضا واقعة بدر، فقد خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم بإلهام رباني مع أصحابه للاستيلاء على قافلة قريش وأدى ذلك إلى الاشتباك مع جيش قريش الذي انتصر فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه انتصارهم العظيم. وقد نزلت بعد ذلك سورة الأنفال مؤيدة له «2» . وإلى هذا فإن جميع ما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من سنن قولية وفعلية وأوامر ونواه مات عليها دون أن ينقضها هو أو القرآن هو تشريع واجب الاتباع بنص القرآن على ما جاء في آية سورة الحشر هذه: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [7] ومن المحتمل أن يكون بإلهام رباني. وإنما الذي نعنيه التوقف في تشميل مفهوم الآيتين

_ (1) هناك أمثلة أخرى سننبه عليها في مناسباتها. (2) وهناك أمثلة أخرى سننبه عليها في مناسباتها أيضا.

[سورة النجم (53) : الآيات 13 إلى 18]

لكل ما صدر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من فعل وقول طيلة حياته إطلاقا حسب ما شرحناه آنفا. وهذا لا يمس العصمة النبوية التي يجب الإيمان بها لا على ذلك المعنى الذي يجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم يمتنع عليه أن يصدر منه أي قول أو فعل أو اجتهاد في مختلف شؤون الحياة والناس، قد يكون فيه الخطأ والصواب وخلاف الأولى الذي في علم الله والذي لا ينكشف له إلّا بوحي، مما لا يمكن أن ينتفي عن الطبيعة البشرية النبوية المقررة في القرآن، وإنما على المعنى الذي يرتفع به النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى العصمة عن أي إثم أو جريمة أو فاحشة أو مخالفة للقرآن فعلا وقولا، وعن كتم أي شيء أوحي به إليه أو تحريفه وتبديله وذلك نتيجة لما وصل إليه بنعمة الله وفضله من كمال الخلق والروح والعقل والإيمان والاستغراق في الله الذي جعله أهلا للاصطفاء الرباني «1» . [سورة النجم (53) : الآيات 13 الى 18] وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18) (1) رآه: ضمير الفاعل عائد إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وضمير المفعول عائد إلى جبريل عليه السلام على ما عليه جمهور المفسرين. (2) سدرة المنتهى: شجرة السدرة التي ينتهي عندها التقدم أو الشوط. (3) جنة المأوى: قال بعض المفسرين إنها جنة خاصة على يمين العرش يأوي إليها أرواح الشهداء (انظر الكشاف والطبري) وقد وردت كلمة المأوى مضافة إلى «الجنات» بالجمع وبمعنى المثوى مطلقا للناجين والخاسرين معا. وقال ابن كثير: إن جنة المأوى وجنات المأوى هي التي يكون فيها منازل ومساكن للإقامة بالإضافة إلى الأشجار والمياه.

_ (1) انظر كتابنا القرآن المجيد ص 288- 294.

تعليق على حادث الإسراء والمعراج وما ورد في ذلك من أحاديث

(4) زاغ: انحرف وذهل ولم ير ما ينبغي أن يرى. (5) طغى: تجاوز الحد والهدف. في الآيات إشارة إلى مشهد آخر شاهده النبي صلّى الله عليه وسلّم فشاهد فيه ما شاء الله أن يشاهده من آيات الله الكبرى. ولقد روى الإمام أحمد عن ابن مسعود في صدد تفسير هذه الآيات أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «رأيت جبريل وله ستمائة جناح» «1» . وروى الإمام أحمد عن مسروق أنه سأل عائشة عن آية: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى النجم [13] «فقالت: أنا أول هذه الأمة سألت رسول الله عنها فقال إنما ذاك جبريل لم يره في صورته التي خلق عليها إلّا مرتين. رآه متهبطا إلى الأرض سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض» . ففي هذه الأحاديث تفسير لمدى هذه الآيات أيضا، مع التنبيه على أنه ليس هناك ما يساعد على توضيح مدى المقصود من سدرة المنتهى وجنة المأوى في سياق ذلك إلّا إذا كان جاء كوصف متمم للمشهد، والله أعلم. وقد يلحظ فرق في التعبير في مجموعتي الآيات حيث ورد في الأولى: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى النجم [11] وفي الثانية: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى النجم [17] . ويتبادر لنا أن مؤدى التعبيرين واحد وهو توكيد صحة المشهدين الذين شاهدهما النبي صلّى الله عليه وسلّم واللذين فسرتهما الأحاديث بأنهما مشهدا منظر جبريل عليه السلام في الأفق في صورته العظيمة. والله تعالى أعلم. تعليق على حادث الإسراء والمعراج وما ورد في ذلك من أحاديث ومع ما ورد في صدد هذه الآيات من الأحاديث التي أوردناها آنفا والتي تفسر مداها فإن المفسرين «2» يذكرون في سياقها أيضا حادث الإسراء والمعراج

_ (1) انظر تفسير ابن كثير والنصوص منه. (2) انظر تفسير سورتي النجم والإسراء في كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والنيسابوري والقاسمي والقرطبي إلخ. الجزء ثاني من التفسير الحديث 6

ويصرفونها إليه ويروون في صدده أحاديث كثيرة متنوعة الرتب. وفيها شيء كثير من التضارب فمنها ما يفيد أن الإسراء والمعراج كانا رؤيا منامية وأن جسد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يبرح مكانه. ومنها ما يفيد أنه كان مشهدا روحانيا، ومنها ما يفيد أنه كان مشهدا حيا وحادثا واقعا بالجسد واليقظة. ومنها ما يفيد أن الإسراء كان بالجسد واليقظة وأن المعراج كان في النوم أو بالروح. هذا أولا. وثانيا إن معظم الروايات تقرن حادث العروج بحادث الإسراء وتجعلهما في وقت واحد وتروي مشاهدهما في سلسلة واحدة، وإن كان هناك روايات تفيد حدوث كل منهما لحدته. وقد ذكرت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد وصوله في حادث الإسراء إلى المسجد الأقصى عرج به إلى السماء. هذا في حين أن حادث الإسراء قد أشير إليه في سورة الإسراء التي يجيء ترتيبها بعد هذه السورة بمراحل. والإشارة فيها قاصرة على الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كما ترى في نص الآية الأولى من سورة الإسراء وهو: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) ومن الروايات ما يجعل حادث الإسراء قاصرا على الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى دون عروج إلى السماء. ومنها ما يجعل الإسراء والعروج أكثر من مرة، وثالثا إن في الروايات تضاربا في الوقت الذي وقع فيه الحادث. فهناك رواية تذكر أن الإسراء والمعراج معا قد كانا بعد البعثة بخمسة عشر شهرا، وهذا قد يتطابق مع تاريخ نزول سورة النجم، ولكنه لا يتطابق مع تاريخ نزول سورة الإسراء التي يرجح أنها نزلت في أواسط العهد النبوي المكي. وهناك رواية تذكر وقوعهما معا بعد البعثة بخمس سنوات. وهذا قد يتطابق مع تاريخ نزول سورة الإسراء. ولكنه لا يتطابق مع تاريخ نزول سورة النجم، لأنها نزلت أبكر كثيرا من سورة الإسراء. وهناك روايات تذكر أنهما كانا قبل الهجرة بخمس سنوات وهذا لا يتطابق مع تاريخ نزول أي من السورتين!. بل وهناك رواية غريبة جدا تذكر أنهما وقعا قبل البعثة بسنة واحدة. وهناك رواية موازية في الغرابة لهذه الرواية وهي أن الإسراء والمعراج

وقعا قبل الهجرة بسنة واحدة. أي بعد نزول السورتين بمدة طويلة. ومما يزيد في غرابة هذه الرواية أن بعض الأئمة مثل البغوي وابن حزم يقولان إنها مما يكاد يتفق فيها الجمهور «1» . وهناك أحاديث كثيرة جدا أوردها المفسرون في سياق حادثي الإسراء والمعراج. منها ما ورد في كتب الصحاح بنصه أو قريب منه ومنها ما لم يرو «2» . ومن هذا النوع ما روي من قبل أئمة معروفين من أئمة الحديث بأسناد متواصلة مثل الإمام أحمد والإمام الطبراني والحافظ البزار والإمام ابن جرير والنسائي وابن أبي حاتم. ومنها ما وصف بأنه بسند حسن ومنها ما وصف بالغريب أو المنكر. ومنها ما أورد في سياق الآية الأولى من سورة الإسراء ومنها ما أورد في سياق آيات سورة النجم التي نحن في صددها. وأكثر المفسرين استقصاء واستيعابا لها فيما بدا لنا الإمام ابن كثير حتى لقد استغرقت نحو خمس وثلاثين صفحة من القطع الكبير. وقد أورد جلها في سياق تفسير مطلع سورة الإسراء. ومع أن بعض هذه الأحاديث قد يفيد أن المعراج كان لحدة ومن مكة رأسا وأن الإسراء كان كذلك لحدة ومن مكة رأسا فإن معظمها يفيد أنهما وقعا معا ومرة واحدة حيث أسري بالنبي صلّى الله عليه وسلّم إلى بيت المقدس ثم عرج به إلى السموات حتى انتهى إلى سدرة المنتهى. مع التنبيه على أمر مهم وهو أن ما ورد في كتب الصحاح من هذه الأحاديث لا يقرن بين الإسراء والمعراج فبعضها اقتصر على خبر الإسراء إلى بيت المقدس دون عروج إلى السماء وبعضها ذكر أن الانطلاق من المسجد الحرام كان إلى السماء دون تعريج على بيت المقدس. ولقد قلنا قبل إن هناك فترة طويلة بين نزول سورة النجم التي تساق قصة

_ (1) البغوي قال هذا في تفسيره لآية سورة الإسراء الأولى والقاسمي هو الذي روى قول ابن حزم في سياق تفسير الآية المذكورة. (2) انظر تفسير سورتي النجم والإسراء في كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والقرطبي والنيسابوري والنسفي. منهم من أورد جميع الأحاديث والروايات التي أشرنا إليها في هذه النبذة ومنهم من أورد بعضها.

الإسراء والمعراج في مناسبة آياتها التي نحن في صددها وبين نزول سورة الإسراء التي ذكر فيها الإسراء. وقد يمكن التوفيق بين ذلك بالقول تبعا لما تفيده معظم الأحاديث التي منها الوارد في كتب الصحاح أنهما وقعا في ظرف نزول سورة النجم التي كان نزولها سابقا وإن ذكر الإسراء في سورة الإسراء إنما جاء للتذكير بواقعته. وهذا إذا تغاضينا عن الاختلافات في سنة حدوث الإسراء والمعراج التي لا تتفق أحيانا مع الظرف المخمن لنزول أية من السورتين والتي تبدو غريبة جدا مثل وقوعهما قبل البعثة بسنة أو قبل الهجرة بسنة. غير أنه يظل هناك نقطة معترضة. وهي أن آية سورة الإسراء الأولى تقتصر في ما تخبر به أو تذكر به على الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. وليس في آيات النجم شيء صريح عن المعراج الذي يظل خبره الصريح مستندا إلى الأحاديث المروية وحسب، وأكثرهم يعتبر جملة وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى النجم [13] من قرائن العروج مع أن الحديث الذي أوردناه قبل عن عائشة يذكر أن المرئي هو جبريل عليه السلام. وليس في معظم الأحاديث صراحة قطعية بأن الإسراء والمعراج وقعا باليقظة والجسد. وإن كان ذلك قد يستفاد من فحواها. غير أن في بعضها ما يفيد أنه وقع والنبي صلّى الله عليه وسلّم نائم في المسجد الحرام وأنه استيقظ بعد أن تمت مشاهدهما. وهناك روايات أخرى بينها تضارب في صدد ذلك. رواية أو حديث عن معاوية أن الحادث كان رؤيا صادقة. ورواية أو حديث عن عائشة أن جسد النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يفارق فراشه. وأن الإسراء إنما كان بروحه. ورواية أو حديث عن أم هانئ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يبيت في بيتها ليلة الإسراء وأنها افتقدته في فراشه فلم تجده وخافت عليه أن يكون قد لحقه أذى من قريش ثم عاد فأخبرها عن ركوبه البراق ومسراه إلى بيت المقدس ورؤيته لإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ولله جلّ جلاله» . ورواية أو حديث آخر عن أم هانئ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نام عندها بعد صلاة العشاء فلما كان قبل الفجر أهابت به فاستيقظ فصلى الصبح وصلت معه ثم قال لها يا أم هانئ لقد صليت معكم العشاء الأخيرة كما رأيت بهذا الوادي ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ثم صليت الغداة معكم الآن كما ترين. وقال لها إنه

سيخبر الناس بذلك فأخذت تحذره وتخوفه من التكذيب والأذى. وهناك رواية أو حديث عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان في بيته نفسه وأن جبريل نزل عليه من سقفه وانطلق به. وفي الأحاديث المروية على مختلف رتبها حتى فيما ورد منها في كتب الصحاح أشياء عجيبة مذهلة. ونكتفي بإيراد النص الكامل لما ورد منها في هذه الكتب. فمن ذلك حديث رواه مسلم والترمذي عن عبد الله في سياق تفسير سورة النجم جاء فيه: «لما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سدرة المنتهى قال انتهى إليها ما يعرج من الأرض وما ينزل من فوق. قال فأعطاه الله عندها ثلاثا لم يعطهنّ نبيا قبله. فرضت عليه الصلاة خمسا وأعطي خواتيم سورة البقرة وغفر لأمته المقحمات ما لم يشركوا بالله شيئا» «1» . وحديث رواه البخاري عن عبد الله كذلك قال: «قال الله تعالى لقد رأى من آيات ربّه الكبرى. قال رأى رفرفا أخضر قد سدّ الأفق» «2» . وحديث رواه الترمذي في سياق تفسير سورة الإسراء عن أنس قال: «إن النبي صلّى الله عليه وسلّم أتي بالبراق ليلة أسري به ملجما مسرجا فاستصعب عليه فقال له جبريل أبمحمد تفعل هذا. فما ركبك أحد أكرم على الله منه قال فارفضّ عرقا» «3» . وحديث ثان رواه الترمذي عن بريدة في نفس السياق عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لما انتهينا إلى بيت المقدس قال جبريل بأصبعه فخرق بها الحجر وشدّ به البراق» «4» . وحديث ثالث في نفس السياق عن أبي هريرة رواه الشيخان والترمذي قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم حين أسري بي لقيت موسى عليه السلام فإذا رجل مضطرب رجل الرأس كأنه من رجال شنوءة ولقيت عيسى فإذا ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس. ورأيت إبراهيم صلوات الله عليه وأنا أشبه ولده به. قال فأتيت بإناءين في أحدهما لبن وفي الآخر خمر فقيل لي خذ أيّهما شئت فأخذت اللبن فشربته فقيل لي هديت الفطرة أو

_ (1) التاج ج 4 ص 221. [.....] (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه ص 140- 141. (4) المصدر نفسه.

أصبت الفطرة. أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك» «1» . وحديث رواه البخاري عن مالك بن صعصعة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان وذكر بين الرجلين فأتيت بطست من ذهب ملأى حكمة وإيمانا فشقّ من النحر إلى مراق البطن ثم غسل البطن بماء زمزم ثم ملئ حكمة وإيمانا وأتيت بدابة أبيض دون البغل وفوق الحمار البراق فانطلقت مع جبريل حتى أتينا السماء الدنيا قيل من هذا قال جبريل قيل من معك قال محمد قيل وقد أرسل إليه قال نعم قيل مرحبا به ولنعم المجيء جاء فأتيت آدم فسلمت عليه فقال مرحبا بك من ابن ونبيّ. وفي رواية فلمّا علونا السماء الدنيا فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى فقال مرحبا بالنبيّ الصالح والابن الصالح قلت من هذا يا جبريل قال هذا آدم وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه فأهل اليمين منهم أهل الجنة والتي عن شماله أهل النار فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى. فأتينا السماء الثانية قيل: من هذا؟ قال جبريل، قيل: من معك؟ قال: محمد، قيل: أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به ولنعم المجيء جاء فأتيت على عيسى ويحيى فقالا [مرحبا بك من أخ ونبي. فأتينا السماء الثالثة قيل من هذا قيل جبريل قيل من معك قال محمد قيل وقد] أرسل إليه قال نعم قيل مرحبا به ولنعم المجيء جاء فأتيت يوسف فسلّمت عليه فقال مرحبا بك من أخ ونبيّ فأتينا السماء الرابعة قيل من هذا قيل جبريل قيل من معك قيل محمد قيل وقد أرسل إليه قيل نعم قيل مرحبا به، ولنعم المجيء جاء فأتيت على إدريس فسلمت عليه فقال مرحبا بك من أخ ونبيّ فأتينا السماء الخامسة قيل من هذا قيل جبريل قيل ومن معك قيل محمد قيل وقد أرسل إليه قال نعم قيل مرحبا به، ولنعم المجيء جاء فأتينا على هارون فسلّمت عليه فقال مرحبا بك من أخ ونبيّ فأتينا السماء السادسة قيل من هذا قيل جبريل قيل من معك قيل محمد قيل وقد أرسل إليه [قيل نعم قيل] مرحبا به، ولنعم المجيء جاء فأتيت على موسى فسلّمت عليه فقال مرحبا بك من أخ ونبيّ فلما جاوزته بكى فقيل ما أبكاك قال يا ربّ هذا الغلام

_ (1) التاج ج 4 ص 140- 141.

الذي بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أفضل مما يدخل من أمّتي. فأتينا السماء السابعة قيل من هذا قيل جبريل قيل من معك قيل محمد قيل وقد أرسل إليه [قيل نعم قيل] مرحبا به ولنعم المجيء جاء فأتيت على إبراهيم فسلّمت عليه فقال مرحبا بك من ابن ونبيّ فرفع لي البيت المعمور فسألت جبريل فقال هذا البيت المعمور يصلّي فيه كلّ يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ما عليهم. ورفعت لي سدرة المنتهى فإذا نبقها كأنه قلال هجر وورقها كأنه آذان الفيول في أصلها أربعة أنهار نهران باطنان ونهران ظاهران فسألت جبريل فقال أما الباطنان ففي الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات. وفي رواية ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام ثم فرضت عليّ خمسون صلاة فأقبلت حتى جئت موسى فقال ما صنعت قلت فرضت عليّ خمسون صلاة قال أنا أعلم بالناس منك عالجت بني إسرائيل أشدّ المعالجة وإنّ أمتك لا تطيق فارجع إلى ربك فسله التخفيف فرجعت فسألته فجعلها أربعين ثم مثله ثم ثلاثين ثم مثله فجعل عشرين ثم مثله فجعل عشرا فأتيت موسى فقال مثله فجعلها خمسا فأتيت موسى فقال ما صنعت قلت جعلها خمسا فقال مثله قلت سلّمت بخير فنودي إنّي قد أمضيت فريضتي وخفّفت عن عبادي وأجزي الحسنة عشرا. وفي رواية مسلم فلم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى وبين موسى عليه السلام حتى قال يا محمد إنهنّ خمس صلوات كلّ يوم وليلة لكلّ صلاة عشر فذلك خمسون صلاة» «1» . وحديث رواه مسلم عن جابر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء فإذا موسى قائم يصلّي فإذا رجل ضرب جعد كأنه من رجال شنوءة. وإذا عيسى ابن مريم عليه السلام قائم يصلي أقرب الناس به شبها عروة بن مسعود الثقفي وإذا إبراهيم عليه السلام قائم يصلي أشبه الناس به صاحبكم- يعني نفسه- فحانت الصلاة فأممتهم فلما فرغت من الصلاة قال قائل يا محمد هذا مالك صاحب النار فسلّم عليه فالتفتّ إليه فبدأني بالسلام» «2» .

_ (1) التاج ج 3 ص 230- 233. (2) المصدر نفسه ص 234.

وحديث رواه البخاري عن شريك بن عبد الله قال: «سمعت أنس بن مالك يقول ليلة أسري برسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد فقال أولهم أيهم هو فقال أوسطهم هو خيرهم فقال آخرهم خذوا خيرهم فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عيناه ولا ينام قلبه- وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم- فلم يكلّموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم فتولاه منهم جبريل فشقّ ما بين نحره إلى لبّته حتى فرغ من صدره وجوفه فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه ثم أتى بطست من ذهب فيه تور من ذهب محشو إيمانا وحكمة فحشا به صدره ولغاديده- يعني عروق حلقه- ثم أطبقه ثم عرج به إلى السماء الدنيا فضرب بابا من أبوابها فناداه أهل السماء من هذا فقال جبريل، قالوا ومن معك قال معي محمد قالوا وقد بعث إليه قال نعم قالوا مرحبا به وأهلا به، يستبشر به أهل السماء لا يعلم أهل السماء بما يريد الله به في الأرض حتى يعلمهم فوجد في السماء الدنيا آدم فقال له جبريل هذا أبوك آدم فسلم عليه فسلم عليه ورد عليه آدم فقال مرحبا وأهلا بابني فنعم الابن أنت فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان فقال ما هذان النهر إن يا جبريل فقال هذا النيل والفرات عنصرهما ثم مضى به في السماء فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد فضرب بيده فإذا هو مسك أذفر فقال ما هذا يا جبريل؟ قال هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك ثم عرج به إلى السماء الثانية فقالت الملائكة له مثل ما قالت له الملائكة الأولى من هذا قال جبريل قالوا ومن معك قال محمد قالوا وقد بعث إليه قال نعم قالوا مرحبا به وأهلا. ثم عرج به إلى السماء الثالثة فقالوا له مثل ما قالت الأولى والثانية ثم عرج به إلى السماء الرابعة فقالوا له مثل ذلك ثم عرج به إلى السماء الخامسة فقالوا له مثل ذلك. ثم عرج به إلى السماء السادسة فقالوا له مثل ذلك ثم عرج به إلى السماء السابعة فقالوا له مثل ذلك كل سماء فيها أنبياء قد سماهم فوعيت منهم إدريس في الثانية وهارون في الرابعة وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه وإبراهيم في السادسة وموسى في السابغة بتفضيل كلام الله تعالى فقال موسى ربّ لم أظن أن ترفع عليّ أحدا ثم علا به فوق ذلك بما

لا يعلمه إلا الله عز وجل حتى جاء سدرة المنتهى ودنا الجبار ربّ العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى فأوحى الله إليه فيما يوحي خمسين صلاة على أمتك كل يوم وليلة ثم هبط حتى بلغ موسى فاحتبسه موسى فقال يا محمد ماذا عهد إليك ربك فقال عهد إليّ خمسين صلاة كل يوم وليلة. قال إن أمتك لا تستطيع ذلك فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم فالتفت النبي إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك فأشار إليه جبريل أن نعم إن شئت فعلا به إلى الجبار تعالى وتقدس فقال وهو في مكانه يا ربّ خفف عنا فإن أمتي لا تستطيع هذا فوضع عنه عشر صلوات ثم رجع إلى موسى فاحتبسه فلم يزل يردده موسى إلى ربه حتى صارت إلى خمس صلوات ثم احتبسه موسى عند الخمس فقال يا محمد والله لقد راودت بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا فضعفوا فتركوه فأمتك أضعف أجسادا وقلوبا وأبدانا وأبصارا وأسماعا فارجع فليخفف عنك ربك كل ذلك يلتفت النبي إلى جبريل ليشير إليه ولا يكره ذلك جبريل فرفعه عند الخامسة فقال يا رب إن أمتي ضعفاء أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبصارهم وأبدانهم فخفف عنا. فقال الجبار تبارك وتعالى يا محمد قال لبيك وسعديك، قال إنه لا يبدل القول لدي كما فرضت عليك في أم الكتاب فكل حسنة بعشر أمثالها فهي خمسون في أم الكتاب وهي خمس عليك فرجع إلى موسى فقال كيف فعلت فقال خفف عنا أعطانا بكل حسنة عشر أمثالها قال موسى قد والله راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه، فارجع إلى ربك فليخفف عنك أيضا قال رسول الله يا موسى قد والله استحييت من ربي عز وجل ممّا اختلفت إليه. قال فاهبط باسم الله. قال واستيقظ وهو في المسجد الحرام» «1» . وفي هذه الأحاديث التي يرويها أصحاب الكتب الخمسة وفي الأحاديث الكثيرة الأخرى التي يرويها أئمة آخرون والتي لم نر ضرورة إلى إيرادها تفاديا من

_ (1) هذا النص مفصول عن تفسير ابن كثير الذي قال هكذا ساقه البخاري في كتاب التوحيد ورواه في صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم عن إسماعيل بن أبي أويس عن أخيه عن أبي بكر عبد الحميد عن سليمان بن بلال. والنص لم يرد في التاج.

التطويل ولأنها لا تخرج في مداها عن هذه الأحاديث بقطع النظر عن صور جديدة ومتنوعة «1» أشياء عجيبة مذهلة كما قلنا. مثل شق بطن النبي صلّى الله عليه وسلّم من النحر إلى مراق البطن وإخراج قلبه وغسله وحشوه بالإيمان والحكمة ودابة البراق البيضاء التي تضع يدها في منتهى نظرها. وجمع الله الأنبياء في المسجد الأقصى وصلاة النبي بهم إماما. ومثل العروج إلى السماوات واحدة بعد أخرى واستفتاح جبريل أبوابها وفتحها له وسؤال الملائكة جبريل عن من معه وتساؤلهم حينما أخبرهم أنه محمد تساؤل المفاجأ وهل بعث؟ ولقاء النبي في بعضها لبعض الأنبياء وحديثه معهم. ومثل رؤية النبي صلّى الله عليه وسلّم الجنة والنار وما فيهما من أسباب النعيم والعذاب. وسماعه صوتيهما وهما يذكران ما فيهما من ذلك والله يعدهما بملئهما من أهلهما. ومثل طريقة فرض الصلوات الخمسين والمراجعة المتكررة بين النبي وربه صعودا وهبوطا في صدد تخفيفها بتوصية من موسى ومثل وصف سدرة المنتهى الهائلة بورقها التي كل ورقة تعطي الأمة ... ومثل ما رأى في طريقه في طريق الإسراء ثم في طريق المعراج من مختلف المشاهد لمختلف الفئات من البشر كانوا يعذبون بأنواع من العذاب وكان يفسر جبريل له هذه المشاهد حيث كان منهم من يأكل لحوم الناس ومن يلمز ويهمز ومن يأكل مال اليتيم ومن لا يؤدي الزكاة. ومن يأكل الربا، ومن يزني، ومن يخطب في الفتن، ومثل رؤيته جماعة من الحور العين بسبب دعوة منه وما كن عليه من جمال وما كان عليهن من حلى. ومثل رؤيته جميع أرواح ذرية آدم السعداء عن يمينه في السماء الأولى وجميع ذريته التعساء عن شماله وضحكه حينما يلتفت إلى الأولين وبكائه حينما يلتفت إلى الآخرين ومثل عرض أرواح الناس على آدم أبيهم فيأمر بالمؤمنين إلى عليين وبالكفار إلى سجين. ورؤيته أمته شطرين شطرا عليهم ثياب بيض كأنها القراطيس وشطرا عليهم ثياب رمد. وصلاته في البيت المعمور بالأولين وحجب الآخرين عنه والأعداد والأشكال الهائلة للملائكة الذين رآهم عند سدرة المنتهى أو في البيت المعمور. ومثل رؤيته نهر الكوثر وعليه قباب اللؤلؤ والياقوت والزبرجد وأواني الذهب وماءه

_ (1) انظر مطلع تفسير سورة الإسراء في تفسير ابن كثير.

الذي كان أبيض من الثلج وأحلى من العسل وطينه الذي كان أطيب من المسك. ومثل رؤيته نهري الفرات والنيل ينبعان من ناحية سدرة المنتهى. ورؤيته في الجنة أنهار اللبن والعسل المصفى والخمر. وهناك تغاير بارز في بعض ما يوصف بالصحيح منها مثل رؤيته موسى قائما يصلي في قبره ورؤيته إياه في السماء السادسة. ومثل رؤيته إبراهيم وعيسى في الأرض ثم في السموات ... وفي حين يذكر حديثا مالك بن صعصعة وشريك اللذان يرويهما البخاري خبر شق بطن النبي صلّى الله عليه وسلّم بين يدي حادث الإسراء يروى حديث صحيح آخر عن أنس بن مالك أن عملية من هذا النوع أجريت للنبي صلّى الله عليه وسلّم في زمن رضاعته في بني سعد حيث روى عنه «أنّ رسول الله أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فشقّ عن قلبه فاستخرجه فاستخرج منه علقة فقال هذا حظّ الشيطان منك ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ثم لأمه ثم أعاده في مكانه وجاء الغلمان يسعون إلى أمّه يعني ظئره فقالوا إن محمدا قد قتل فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره» «1» . ونحن نعرف أن كثيرا من أئمة الحديث والتفسير يقررون صحة خبر وقوع الإسراء والمعراج معا وباليقظة والجسد. غير أننا إزاء صراحة القرآن القطعية في الإسراء دون المعراج، وإزاء الأحاديث التي وردت في كتب الصحاح وإزاء بعضها الذي يذكر خبر الإسراء إلى بيت المقدس فحسب، وبعضها يذكر خبر الانطلاق إلى السماء رأسا وإزاء ما احتوته الأحاديث من تفاصيل عجيبة نرى أن نقف موقف التحفظ إزاء ما احتوته من تفاصيل في سياق المعراج وبخاصة من القول إنه كان باليقظة والجسد. وكل ما نرجح صحته إزاء كثرة الأحاديث الواردة التي لا يمكن إلّا أن تكون ترديدا لخبر مشهور هو أن المعراج رؤيا منامية أو مشهد روحاني شاء الله عز وجل أن يري رسوله فيه من آياته الكبرى مشاهد مما في عمله في ملكوت السموات والأرض حاضرا ومستقبلا ودنيويا وأخرويا ومما ورد كثير من صوره في

_ (1) التاج ج 3 ص 213- 214.

القرآن المكي أولا ثم القرآن المدني. وأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قصّ على أصحابه ما شاء الله عز وجل أن يجليه له من صور في هذا المشهد في ظروف متفرقة نرجح أنها كانت في العهد المدني لأن معظم رواة أحاديث هذا المشهد من أهل هذا العهد وبخاصة مالك بن صعصعة وأبو هريرة وأنس بل وعائشة رضي الله عنهم والأخيرة كانت طفلة حين وقوع الحادث. ولم تبلغ وترشد إلّا في المدينة كما هو مشهور وقد يدعم ما رجحناه نصوص بعض الأحاديث. وقد رأينا أن نسهب في هذا الأمر في هذه الطبعة لأننا سمعنا بعض النقد على ما كتبناه مقتضبا في الطبعة الأولى فأردنا أن نعرض الأمر في هذه الطبعة عرضا أوسع. أما حادث الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى فالنص القرآني الصريح به قد يجعل الأمر مختلفا عنه بالنسبة لما قلناه عن ماهية المعراج. ونؤجل الكلام عنه إلى مناسبته القرآنية في سورة الإسراء. ولقد روى البخاري حديثا عن سمرة بن جندب يحتوي خبر رؤيا منامية رآها النبي صلّى الله عليه وسلّم وقصها على أصحابه جاء فيه: «كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا صلّى صلاة أقبل علينا بوجهه فقال من رأى منكم الليلة رؤيا فإن رأى أحد قصّها فيكون ما شاء الله. فسألنا يوما فقال هل رأى أحد منكم رؤيا؟ قلنا: لا، قال: لكنّي رأيت الليلة رجلين أتياني فأخذا بيدي فأخرجاني إلى الأرض المقدسة فإذا رجل جالس ورجل قائم بيده كلّوب من حديد يدخله في شدقه حتى يبلغ قفاه ثمّ يفعل بشدقه الآخر مثل ذلك ويلتئم شدقه هذا فيعود فيضع مثله. فقلت ما هذا قالا انطلق، فانطلقنا حتى أتينا على رجل مضطجع على قفاه ورجل قائم على رأسه بفهر أو صخرة فيشدخ به رأسه، فإذا ضربه تدهده الحجر فانطلق إليه ليأخذه فلا يرجع إلى هذا حتى يلتئم رأسه وعاد رأسه كما هو فعاد إليه فضربه. قلت من هذا؟ قالا: انطلق. فانطلقنا إلى ثقب مثل التنور أعلاه ضيّق وأسفله واسع تتوقّد تحته نار فإذا اقترب ارتفعوا حتى كادوا يخرجون فإذا خمدت رجعوا فيها، وفيها رجال ونساء عراة قلت من هذا؟ قالا: انطلق. فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم على وسط النهر، وعلى شطّ النهر رجل بين يديه حجارة. فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا

أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فردّه حيث كان فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان. فقلت ما هذا. قالا انطلق. فانطلقنا حتى انتهينا إلى روضة خضراء فيها شجرة عظيمة وفي أصلها شيخ وصبيان وإذا رجل قريب من الشجرة بين يديه نار يوقدها فصعدا بي في الشجرة فأدخلاني دارا لم أر قطّ أحسن منها، فيها رجال شيوخ وشباب ونساء وصبيان ثم أخرجاني منها فصعدا بي الشجرة فأدخلاني دارا هي أحسن وأفضل فيها شيوخ وشباب. فقلت طوفتماني الليلة فأخبراني عما رأيت. قالا نعم، أما الذي رأيته يشقّ شدقه فكذاب يحدّث بالكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فيصنع به إلى يوم القيامة. والذي رأيته يشدخ رأسه رجل علّمه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل فيه بالنهار يفعل به إلى يوم القيامة. والذي رأيته في الثقب فهم الزناة. والذي رأيته في النهر آكل الرّبا والشيخ في أصل الشجرة إبراهيم عليه السلام والصبيان حوله فأولاد الناس والذي يوقد النار مالك خازن النار. والدار الأولى التي دخلت الجنة دار عامة المؤمنين. وأما هذه الدار فدار الشهداء. وأنا جبريل وهذا ميكائيل فارفع رأسك فرفعت رأسي فإذا فوقي مثل السحاب قالا ذاك منزلك قلت دعاني أدخل منزلي قالا إنه بقي لك عمر لم تستكمله. فلو استكملته أتيت منزلك» «1» . ولقد أورد ابن كثير في سياق تفسير سورة الإسراء وفي سياق تفسير الآية [69] من سورة ص حديثا رواه الإمام أحمد عن ابن عباس فيه خبر رؤيا منامية رآها النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاني ربي الليلة في أحسن صورة أحسب يعني النوم. فقال يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال قلت: لا، فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي- أو قال نحري- فعلمت ما في السموات وما في الأرض ثم قال يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى قال قلت نعم يختصمون في الكفارات والدرجات. قال وما الكفارات؟ قال قلت المكث في المساجد بعد الصلوات والمشي على الأقدام إلى الجماعات وإبلاغ

_ (1) التاج ج 4 ص 275- 277.

الوضوء في المكاره. من فعل ذلك عاش بخير ومات بخير وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه. وقال قل يا محمد إذا صليت اللهمّ إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحبّ المساكين وإذا أردت بعبادك فتنة أن تقبضني إليك غير مفتون وقال والدرجات بذل الطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام» . وروى الطبري هذا الحديث أيضا في سياق تفسير آية سورة ص [69] عن ابن عباس مع زيادة مهمة وهي: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لربّه بعد ما ذكر له فيما يختصم الملأ الأعلى يا ربّ إنك اتخذت إبراهيم خليلا وكلّمت موسى تكليما وفعلت وفعلت فقال ألم أشرح لك صدرك. ألم أضع عنك وزرك. ألم أفعل بك ألم أفعل بك قال فأفضى إليّ بأشياء لم يؤذن لي أن أحدّثكموها قال فذاك قوله في كتابه ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) فجعل نور بصري في فؤادي فنظرت إليه بفؤادي» . وحديث رواه البخاري عن سمرة بن جندب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أتاني الليلة آتيان فابتعثاني فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء وشطر كأقبح ما أنت راء قالا لهم اذهبوا فقعوا في ذلك النهر فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة. قالا لي هذه جنة عدن وهذاك منزلك. أما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا تجاوز الله عنهم» «1» . ولقد روى الشيخان والنسائي عن ابن عباس حديثا فيه خبر مشهد روحاني شهده النبي صلّى الله عليه وسلّم في حالة يقظته حيث روى: «أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم صلّى بأصحابه صلاة كسوف فرأوه يمدّ يتناول شيئا فلمّا فرغ قالوا يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا في مقامك ثم رأيناك تكعكعت فقال إني رأيت الجنة فتناولت عنقودا ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا. وإني رأيت النار فلم أر منظرا كاليوم قطّ أفظع ورأيت أكثر أهلها النساء، قالوا: بم يا رسول الله؟ قال بكفرهنّ قالوا أيفكرن بالله؟ قال: يكفرن

_ (1) التاج ج 4 ص 119.

العشير ويكفرن الإحسان» «1» . وروى مسلم والنسائي هذا الحديث عن جابر ببعض المغايرة حيث روى جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد أن قضى صلاة الكسوف قال لأصحابه: «ما من شيء توعدونه إلّا قد رأيته في صلاتي هذه. لقد جيء بالنار وذلكم حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها، وحتى رأيت فيها صاحب المحجن يجرّ قصبه في النار كان يسرق الحاجّ بمحجنه فإن فطن له قال إنما تعلّق بمحجني وإن غفل عنه ذهب به وحتّى رأيت فيها صاحبة الهرة التي ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من حشاش الأرض حتى ماتت جوعا. ثم جيء بالجنة وذلكم حين رأيتموني تقدمت حتى قمت مقامي هذا، ولقد مددت يدي وأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه. ثم بدا لي أن لا أفعل فما من شيء توعدونه إلّا قد رأيته في صلاتي هذه» «2» . وروى الشيخان والنسائي عن أسماء حديثا فيه مشهد روحاني آخر في اليقظة قالت: «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حمد الله وأثنى عليه ثم قال ما من شيء لم أكن أريته إلّا رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار فأوحي إليّ أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبا من فتنة المسيح الدجال. يقال ما علمك بهذا الرجل فأما المؤمن فيقول هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى فأجبناه واتبعناه هو محمد ثلاثا فيقال نم صالحا فقد علمنا إن كنت لموقنا به وأما المنافق أو المرتاب فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته» «3» . وبين هذه الأحاديث التي يتبادر أن من الحكمة التي توخاها النبي صلّى الله عليه وسلّم في قصة فيها ما رآه من رؤاه المنامية كما هو ملموح فيها قصد الإنذار والترهيب والبشرى والترغيب والحث على الأعمال الصالحة والتزام ما أمر الله والتحذير من المخالفة والانحراف نحو ما نهى الله عنه من أفعال وتصرفات وبين ما ذكرته بعض الأحاديث عن مشاهدات النبي صلّى الله عليه وسلّم في إسرائه وبخاصة في معراجه من تماثل عجيب يدعم فيما

_ (1) التاج ج 1 ص 279. (2) المصدر نفسه ص 279- 280. (3) المصدر نفسه ص 239. [.....]

يتبادر لنا فأرجحناه من أنه مشهد روحاني إن لم يكن رؤيا منامية قصها على أصحابه متوخيا ما ذكرناه من إنذار وترهيب وترغيب وحث وتحذير، ويسوغ القول إن هناك التباسا في الروايات أو من الرواة بسبب بعد الحادث الذي وقع في أواسط العهد المكي، والله أعلم. ونريد أن تحسن الظن في ذكاء الذين انتقدوا ترجيحنا في الطبعة الأولى بأن المعراج ومشاهده مشاهد روحانية إن لم تكن رؤيا منامية فلا نود لهم أن يكونوا قد ظنوا أننا في ما رجحناه ننكر قدرة الله على خرق النواميس. فاعترافنا بقدرة الله الشاملة ومعجزاته للنبي صلّى الله عليه وسلّم والأنبياء وما في ملكوت الله وعلمه من عجائب مذهلة يقصر العقل الإنساني عن إدراكها لا يحتاج إلى تكرار وتوكيد في هذه المناسبة. غير أن ترجيحنا إنما كان بسبب الأحاديث المتضاربة في كون المعراج بالروح أو الجسد واليقظة أو المنام ومكان الانطلاق أولا وما روي في صدد كون آيات النجم التي تتخذ قرينة عليه هي في مشهد جبريل عليه السلام ثانيا، والتماثل العجيب بين كثير من المشاهد التي وردت في أحاديث المعراج والمنامات النبوية التي قصها النبي صلّى الله عليه وسلّم على أصحابه ثالثا، وكون الرؤيا المنامية أو المشهد الروحاني هما اللذان يتحملان دون اليقظة والجسد معنى انتقاد الزمان والمكان ورؤية المشاهد العجيبة المذهلة الدنيوية والأخروية والسماوية والأرضية والسابقة والحاضرة واللاحقة إلى آخر الحياة في لمحة أو لحظة رابعا. والله تعالى أعلم. ونحن إذ نرجح أن المعراج رؤيا منامية أو مشهد روحاني مماثل لما رآه النبي صلّى الله عليه وسلّم في مناماته التي قص فيها على أصحابه ما رآه فيها من مشاهد ونبههم إلى ما فيها من عبر ونذر نقرر أن رؤيا النبي صلّى الله عليه وسلّم حق. وأن ما يمكن أن يكون قصه على أصحابه مما شاء الله تعالى أن يجليه له من مشاهد متنوعة في السماء والأرض وأن يبلغه إياه من أوامر ونواه وأن يريه إياه من مصائر الأتقياء، والمنحرفين هو حق ومن جملة ذلك كيفية فرض الخمسين صلاة ثم تخفيفها بالمراجعة إلى خمس. ولقد رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم في منامه أنه زار على رأس المؤمنين المسجد الحرام فاعتبر ذلك أمرا ربانيا

تعليق على ما ورد في كتب التفسير في سياق بعض هذه الآيات من مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل

ورحل مع المؤمنين إلى مكة بسبيل تنفيذه. وأيده الله فيما رآه ووصفه بأنه حق كما جاء في آية سورة الفتح هذه: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) والله تعالى أعلم. تعليق على ما ورد في كتب التفسير في سياق بعض هذه الآيات من مسألة رؤية النبي صلّى الله عليه وسلّم ربه عز وجل ومما يعرض له المفسرون في سياق بعض هذه الآيات والتي قبلها مسألة رؤية النبي صلّى الله عليه وسلّم ربه عز وجل. وقد أوردوا في صدد ذلك أحاديث عديدة ومثبتة ونافية ومؤولة. وفي بعضها تضارب أيضا. منها حديث رواه مسلم عن ابن عباس في معنى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى [النجم: 11- 13] أنه قال: «إنّ محمدا رأى ربّه مرتين بفؤاده» وحديث رواه مسلم عن أبي ذرّ قال: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هل رأيت ربّك فقال نور. إني أراه. وفي رواية رأيت نورا» «1» . وحديث عن عكرمة جاء فيه: «إنه سمع ابن عباس يقول إن محمدا رأى ربّه فقال له أليس الله يقول لا تدركه الأبصار؟ فقال له: ويحك إذا تجلّى بنوره، وإنه أريه مرتين» «2» . وحديث رواه ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب قال: قالوا يا رسول الله هل رأيت ربّك؟ قال: رأيته بفؤادي مرتين «3» . ثم قرأ: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى النجم [11] وقد روى هذا الحديث أيضا ابن جرير بطرقه. وحديث رواه ابن أبي حاتم عن أبي ذر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى ربّه بقلبه ولم يره بعينه» . وحديث رواه الإمام أحمد عن مسروق وروى صيغة قريبة له الشيخان

_ (1) التاج ج 4 ص 220. (2) المصدر نفسه. (3) انظر تفسير ابن كثير لسورة النجم. الجزء الثاني من التفسر الحديث 7

والترمذي. وقد جاء في هذه الصيغة: «قال مسروق كنت متكئا عند عائشة فقالت ثلاث من تكلّم بواحدة منهنّ فقد أعظم على الله الفرية. من زعم أن محمدا رأى ربّه فقد أعظم على الله الفرية والله يقول: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ الأنعام [103] . ووَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ الشورى [51] فقلت يا أمّ المؤمنين أنظريني ولا تعجليني أليس يقول الله وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى النجم [13] ووَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ التكوير [23] . قالت: أنا أول من سأل رسول الله قال إنما ذاك جبريل ما رأيته في الصورة التي خلق فيها غير هاتين المرتين رأيته مهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض ... إلخ» «1» . والحديث الذي أوردناه قبل قليل عن الإمام أحمد عن ابن عباس والذي يبدأ بجملة: «أتاني ربّي الليلة في أحسن صورة أحسب يعني في النوم» ثم الزيادات الواردة في الصيغة التي رواها الطبري عن ابن عباس والتي أوردناها آنفا أيضا. وحديث رواه الإمام أحمد عن ابن مسعود في سياق تفسير وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى النجم [13- 14] قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأيت جبريل وله ستمائة جناح ينتثر من ريشه التهاديل من الدر والياقوت» . ويمكن أن يستخلص من هذه الأحاديث أن الضمير في وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى مصروف على الأرجح إلى جبريل كما هو الشأن في ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى النجم [8] وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما رأى جبريل وإنه لم ير ربه بعينه الباصرة في يقظته وأن ذلك ممتنع. ونصوص كثير من الأحاديث التي أوردناها هنا تقوي رجحان انقطاع الصلة بين آيات سورة النجم التي نحن في صددها وحادث المعراج وتسوغ القول إنه أقحم عليها إقحاما وإن خبره إنما كان في الأحاديث المروية في صدده. كما أنها تدعم ما قلناه في نهاية التعليق السابق في صدد ماهيته، والله أعلم.

_ (1) التاج ج 4 ص 100.

أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ (1) الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (2) (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ (3) إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25) . وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30) [19- 30] . (1) اللات والعزى ومناة: أسماء أصنام أو معبودات عربية جاهلية. وقد قال المفسرون إن اللات مؤنث الله. والعزى مؤنث الأعز. ومناة مفعلة من النوء. وسنزيد ذلك شرحا في سياق التفسير. (2) ضيزى: جائرة. (3) سلطان: بمعنى برهان وتأييد. في الآيات تنديد بالمشركين الذين يسمون الملائكة تسمية الإناث ويعبدونهم ويستشفعون بهم على اعتبار أنهم بنات الله مع أنهم عبيده ولا يشفعون لأحد إلّا بإذنه ورضائه. وتسفيه لهم على إقامة دينهم على أساس الظن وهوى النفس وإعراضهم عن الهدى والحق الذي جاءهم من ربهم وتقرير بأنهم في ذلك كله يصدرون عن عدم إيمانهم بالآخرة واستغراقهم في الدنيا ومطالبها ولذاتها. والآيات هي الأولى من نوعها في احتوائها تعريضا صريحا بمعبودات العرب وعقائدهم ونقاشا وحجاجا وتسفيها وإفحاما حول هذه العقائد. فإن الآيات التي نزلت قبلها من السور الأخرى اكتفت بالإنذار والوعيد والدعوة إلى وحدة الله وبيان أهداف الرسالة النبوية العامة، والتنديد بموقف التصدي والتعطيل والتكذيب

شرح عقائد العرب في اللات والعزى ومناة والملائكة وتعليقات في صدد ذلك

والمكابرة الذي وقفه المشركون والرد على ما نسبوه إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وشككوا فيه في صدد صلته بالله ووحيه، وفي ذلك صورة من صور تطور التنزيل القرآني كما هو المتبادر. ولقد أمرت الآية [29] النبي صلّى الله عليه وسلّم بالإعراض عمن تولى عن ذكر الله ولم يستجب إلى دعوته. والمتبادر أن ذلك أسلوب يقصد به تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم إزاء ما بدا من الكفار من إعراض عن الدعوة واستغراق في متاع الحياة لأن الاستمرار في الدعوة هو مهمة النبي صلّى الله عليه وسلّم الرئيسية بقطع النظر عن استجابة المدعوين وعدمها. والآية التي تلاها تدعم هذا القصد كما يلمح فيها، فكأنما تقول للنبي صلّى الله عليه وسلّم ألّا يغتم لموقفهم فإنه مظهر من مظاهر ضعف إدراكهم للأمور وعدم تقديارهم للعواقب، وإن الله هو الحكم الفصل في من هو على الحق والهدى ومن هو في الغواية والضلال. ولقد احتوت الآيات تلقينات جليلة عامة ومستمرة المدى في تنديدها الشديد المتكرر بالذين يتبعون هوى النفس ويسيرون وراء الظن والوهم وخاصة بعد أن تبدو أعلام الحق والهدى ويستبين الحق من الباطل والهدى من الضلال. فالحق والهدى يجب أن يكونا غاية مطلب المرء. وعليه أن يبذل جهده في الوصول إليهما واتباعهما. ولا يجوز له أن يا بني أحكامه على الظنون أو يصدر عن هوى النفس المنحرفة وأغراضها ومتعها. شرح عقائد العرب في اللات والعزى ومناة والملائكة وتعليقات في صدد ذلك ونرى من المفيد أن نشرح ما تضمنته الآيات من إشارات إلى عقائد العرب وتقاليدهم قبل الإسلام، لأن ذلك يساعد على فهم مقاصد الآيات وحكمة تنزيلها فنقول: إن مضمون الآيات وروحها تدل على الأمور التالية: 1- إن العرب كانوا يعبدون اللات والعزى ومناة وكانوا يسمونها بأسمائها

المؤنثة على اعتبار أنها رموز للملائكة وأن أسماءها هي أسماء الملائكة وأن الملائكة هم بنات الله. 2- إنهم كانوا يعبدون الملائكة بقصد الاستشفاع بهم عند الله على اعتبار أنهم بناته وذوو حظوة لديه. 3- إن هذه العقائد ليست حديثة وإنما هي متوارثة عن الآباء. 4- إنهم كانوا يقصدون من عبادتهم الملائكة والاستشفاع بهم تحقيق ما يبتغون من مطالب الحياة الدنيا فقط من جلب النفع ودفع الضرر دون تفكير بالآخرة ومصيرهم فيها لأنهم لم يكونوا يؤمنون بها. 5- ولقد تكرر في القرآن تسفيه العرب في عقائدهم المذكورة ونفي أثر ونفع استشفاعهم بالملائكة وتقرير كون الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح فقط هو المفيد للإنسان مما مرت منه أمثلة ومما سوف يأتي كثير منه، حيث يدل هذا على أن فكرة الشفاعة كانت راسخة عندهم يعتقدون بأثرها النافع. ولقد تكرر كذلك تقرير كون الملائكة إنما هم عبيد الله، وأنهم لا يشفعون لأحد عند الله إلا إذا كان راضيا عنه آذنا بالشفاعة فيه مما أوردنا في سياق سورة المدثر أمثلة قرآنية عنه. والمتبادر أن هذا التقرير المتكرر قد انطوى فيه فيما انطوى إفهام العرب أن الذين يعبدونهم ويشركونهم في الدعاء والاتجاه مع الله هم عبيد خاضعون له لا يفتأون يسبحون بحمده ويقدسونه. وأن الأحجى أن يعبدوا الله ربّ العالمين من إنس وجن وملائكة. 6- والأقوال في اللات والعزى ومناة عديدة وفيها تضارب. منها أن اللات كان صنما بالطائف لثقيف أو بنخلة لقريش. وأن العزى شجرة بأرض غطفان أو صنم لهم أو بيت عبادة في الطائف. وأن مناة صنم لهذيل وخزاعة، وكان من معبودات أهل مكة أو أنها بيت عبادة في المشلل كان يطوف به بنو كعب، أو أنها صخرة كان العرب يستمطرون عندها، وأن اسمها مشتق من النوء وهو الريح الماطر. وقد ورد فيما ورد أن الثلاثة أصنام كانت قائمة في فناء الكعبة أو موضوعة في جوفها.

وذكر هذه المعبودات في آيات مبكرة وقبل أن تتجاوز الدعوة مدينة مكة وورود السؤال عنها في صيغة الخطاب القريب الذي يرجح أنه وجه لأهل مكة ثانيا وتواتر الروايات على أن أهل مكة كانوا يحلفون باللات والعزى وأنهم كانوا يسمون المعبودات الثلاثة الغرانيق العلى، ويهتفون بها ويقولون إن شفاعتها لترتجى، وأنهم كانوا يقسمون بها مضافة إلى تعبير العبودية أي «عبد العزى» و «عبد اللات» و «عبد مناة» وما يفيده هذا من اعتبارهم هذه المعبودات معبودات لهم ثالثا، وما في روايات السيرة من أن أبا جهل كان يقول للناس: إن محمدا يريد أن يصرفكم عن اللات والعزى. ومن هتاف أبي سفيان يوم أحد متفاخرا على المسلمين وقد نكبوا في هذا اليوم: «لنا العزى ولا عزى لكم» رابعا، كل هذا يجعل الرجحان للقول بأن هذه المعبودات الثلاث كانت في مكة وكانت معبودات لأهلها. وهذا لا يمنع أن تكون قبائل أخرى في مناطق أخرى مشتركة في عبادتها أو في عبادة بعضها أو أن يكون لها في هذه المناطق هياكل مشابهة لها. بل إن اختصاصها بالذكر في القرآن وهي الوحيدة التي ذكرت فيه كمعبودات عربية جاهلية يدل على أنه كان لها خطورة وعمومية عند العرب أو على الأقل في بلاد الحجاز. وانتشار الحلف باللات والعزى وانتشار تسميات عبد اللات وعبد العزى وعبد مناة في خارج مكة من قرى وقبائل على ما تذكره الروايات العديدة يؤيدان كلتا الخطورة والعمومية. واعتبار العرب هذه المعبودات رموزا للملائكة يستلهم من مضمون الآيات وروحها حيث تربط بقوة بين هذه المعبودات وأسمائها المؤنثة وبين الملائكة. وبين عقيدة العرب بأن الملائكة بنات الله وبين تسمية الملائكة بأسماء الإناث. وقد ذكر ذلك عنهم في آيات عديدة صريحة تارة، وضمنية تارة، مسفهة منددة مما مرت منه أمثلة في سياق تفسير سورة المدثر ومما سوف يأتي كثير منه بعد. ولقد قلنا في تعريف كلمة «اللات» إن المفسرين قالوا إنها مؤنث الله. غير أن المعروف أن بين معبودات العراق القديمة معبودا اسمه «اللاتو» وأن هيرودت ذكر

اللات قبل ألف سنة من البعثة النبوية على أنها من معبودات العرب. وقد قرئ اسم اللات- اللت- هلّلت- على نقوش نبطية ولحيانية وثمودية كتبت قبل البعثة بزمن يتراوح بين ثلاثمائة عام وثمانمائة عام. فالذي يتبادر أنه الأصوب هو أن اللاة معبود عربي قديم اشترك في عبادته جماعات كثيرة من العرب في أنحاء مختلفة في جزيرة العرب وخارجها وظل يحتفظ باسمه ومكانته في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيئته بنوع خاص. ولعل مفهوم كون اللاة مؤنث الله عز وجل نشأ عندهم حين استقرت صيغ الفصحى وصاروا يعتقدون بوجود الله كإله أعظم وبكون الملائكة إناثا وبنات الله. فصاروا يعتبرون المعبود الذي يسمونه بهذا الاسم رغما عن قدم التسمية من الوجهة التاريخية رمزا للملائكة. ويظل احتمال أن يكون اللاة من جذر عربي قديم فيه معنى الألوهية أو العبادة واردا على ما ذكرناه في سياق التعليق على كلمة «الله» في سورة الفاتحة. كذلك قلنا في تعريف مناة إن المفسرين قالوا إنها مشتقة من النوء وإن العرب كانوا يستمطرون عندها. ولقد قرئ اسم «منوتو» على نقوش نبطية تعود إلى قرون عديدة قبل الإسلام كمعبود من جملة المعبودات النبطية. حيث يمكن أن يقال عن هذا المعبود ما قلناه عن اللاة. وإن كانت دائرة التشارك فيه أضيق. واحتمال تطور مفهوم الاسم والرمزية الذي أوردناه بالنسبة للاة في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم في دور العروبة الفصحى وارد أيضا بالنسبة لمناة التي يحتمل والحالة هذه أن تكون تطورا عن منوتو. ولا يبعد أن يكون جذر هذه الكلمة متصلا بمعنى النوء والمطر فكان أهل بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم يتفاءلون بالاسم ويستمطرون عند المعبود المسمى به. ولعل في هذا تفسيرا لتعدد المعبودات والآلهة عند العرب حيث كانوا يتجهون في كل مطلب إلى إله خاص. وفي الروايات العربية تأييدات أخرى لذلك كانوا يلقون سهام الاستخارة حينما يريدون مشاورة المعبودات في بعض شؤنهم عند صنم لهم في الكعبة اسمه هبل. ولعله كان غير ذلك مما أباد عصر الإسلام خبره.

وهذا طور من أطوار العقائد البشرية ما تزال آثاره قائمة إلى اليوم في أوساط تعدّ متحضرة وأصول ديانتها توحيدية علوية حيث يتخذ بعض المسلمين والنصارى واليهود فضلا عن غيرهم من أبناء الأديان الأخرى لكل مطلب وليا أو قديسا يتوسلون بهم أو عند قبورهم في مطالبهم برغم ما في ذلك من انحراف عن أصل العقيدة عند أصحاب الديانات التوحيدية السماوية. ولقد قلنا إن المفسرين قالوا إن العزى هي تأنيث الأعز أو العزيز. ولقد قرئ اسم «عزيزو» في نقوش تدمرية تعود إلى ما قبل البعثة بعدة قرون كمعبود من المعبودات. وقد ذكر في بعض المؤلفات السريانية القديمة المؤلفة قبل البعثة اسم «العزى» كمعبود لأهل الحيرة له صنم كانوا يقدمون إليه قرابين من البشر. حيث يصح أن يقال في هذا المعبود ما قلناه في المعبودين السابقين سواء من حيث احتفاظه باسمه ومكانته وتطور صيغته ورمزيته. ويبدو من صيغته أنه أكثر من الأولين انسجاما مع صيغ الفصحى ليكون رمزا على بنت من بنات الله سبحانه وتعالى. وأسلوب الآيات التي تجعل صلة بين هذه المعبودات الثلاثة وبين الملائكة وتسمية الملائكة بتسميات الأنثى هو أسلوب تنديدي فيه تنبيه لعقول العرب على عقائدهم الباطلة. والأسئلة الاستنكارية التي جاءت فيها هي من قبيل المساجلة والسخرية من قولهم وعقيدتهم. فقد كانوا يكرهون ولادة البنات ويتمنون لأنفسهم الذكور ويعتبرون ولادتهم علامة امتياز وفضل. فكأنما أريد أن يقال لهم إنكم تزدادون ضلالا وسخفا بنسبتكم البنات لله وأنتم تفضلون الذكور حيث إن من المعقول أن يتخذ الله ولدا من الجنس المفضل. إذا كان لا بد من أن يكون له ولد. وقد جاء هذا صريحا في آية سورة الزمر هذه: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4) ، وفي آيات سورة الزخرف هذه: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ

اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) «1» . وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ (1) وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ (2) إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ (3) فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا (4) أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32) [31- 32] . (1) الإثم: بمعنى الذنب بصورة عامة. (2) اللمم: الهفوات الصغيرة أو الإلمام ببعض الذنوب الصغيرة من حين إلى حين أو النية والتحويم حولها دون اقترافها فعلا. (3) أجنّة: جمع جنين. وهو الطفل في بطن أمه. (4) فلا تزكوا أنفسكم: لا تتبجحوا ولا تدّعوا الطهارة والنقاء والبراءة لأنفسكم. في الآيات تقرير لشمول علم الله وحكمته وإحاطته بأحوال الناس منذ بدء خلقتهم، ومعرفته محسنهم ومسيئهم، وقدرته على جزاء كل منهم حسب عمله. وفيها تنويه بأصحاب الأعمال الحسنة الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، وتأميلهم بغفران ما يلمون به من هفوات وأخطاء، فإن الله واسع المغفرة. والصلة ملموحة بين هذه الآيات وسابقاتها. فتلك تضمنت التنديد بعقائد العرب الجاهلية واتباعهم الظن والهوى وتبجحهم بأنهم على الحقّ، وهذه تضمنت تعقيبا وتوضيحا وتنبيها.

_ (1) انظر لأجل ما ورد في هذه النبذة تفسير سورة النجم في تفسير الطبري والنيسابوري والبغوي وابن كثير والطبرسي والخازن وكتابنا عصر النبي عليه السلام وبيئته قبل البعثة، الباب الرابع في الحياة الدينية عند العرب.

تعليق على اجتناب كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم

تعليق على اجتناب كبائر الإثم والفواحش إلّا اللمم وفي الآية الأولى توكيد لتقريرات سابقة بأن الله سيحاسب الناس على أعمالهم الحسنة والسيئة وسيجزيهم عليها، ويتضمن هذا توكيد تقرير قابلية الإنسان للكسب ومسؤوليته عن كسبه. ومما لا ريب فيه أن هذه التقريرات والتوكيدات المتكررة مما يفيد فائدة كبيرة في تربية النفس وجعل المرء يفكر قبل إقدامه على أي عمل في عواقب ما هو مقدم عليه. ولقد تعددت الأقوال في تأويل «اللمم» المستثنى في الآية الثانية حيث قيل إنه الذنب الذي يتوب عنه فاعله أو صغائر الذنوب أو الذنب الذي لم يذكر الله عليه حدا ولا عذابا أو ما يخطر على القلب من ذنوب أو ما ليس عادة متكررة أو النظرة غير المتعمدة أو القبلة والغمزة والنظرة. والذي نرجحه هو أنه صغائر الذنوب والهفوات التي لا يمكن للطبيعة البشرية أن تتفاداها. ولقد روى الترمذي في صددها «1» أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «إن تغفر اللهم تغفر جمّا ... وأي عبد لك لا ألمّا» مما فيه تدعيم لذلك. وعلى هذا تكون الآية الثانية قد احتوت مبدأ قرآنيا جليلا متمشيا مع الوقائع وطبائع الأمور. فالناس بسبب ما فيهم من غرائز تسوقهم إلى ما يرون فيه نفعهم وتدفعهم عما يرون فيه من ضرر لا يمكن أن يكونوا معصومين من الوقوع في الأخطاء واقتراف الذنوب والانحراف. غير أن من هذه الذنوب والأخطاء والانحرافات ما يكون كبائر وفواحش ويكون مخالفته لحقوق الله وضرره العظيم للناس واضحا لا يدق عن الأفهام بصورة عامة، ومنه

_ (1) التاج ج 4 ص 222.

الهفوات التي قد تبدر عن حسن نية أو غفلة أو تقصير غير متعمد فيه الضرر والإثم والمخالفة. أو التي يكون ضررها محدودا ضئيلا. ومنه كذلك خلجات النفس الآثمة التي تظل في القوة ولا تخرج إلى حيّز الفعل. فالواجب المحتم على الناس أن يجتنبوا كبائر الإثم والفواحش على كل حال ولا يمكن أن يعذروا على اقترافها. أما تلك الهفوات والأخطاء والإلمامات العابرة والخلجات التي لا تخرج إلى نطاق الفعل فإن الله عز وجل يشملها بعفوه وغفرانه إذا كانت صدرت من صاحبها عن نية حسنة أو غفلة أو تقصير أو اضطرار ولم يكن ضررها كبيرا، وكان صاحبها مؤمنا مجتنبا للكبائر. وفي سورة النساء آية فيها هذا المعنى بأسلوب إيجابي قوي داعم لما قررناه وهي: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً (31) حيث يتساوق التلقين القرآني المدني مع التلقين القرآني المكي تساوقا رائعا قويا. وفيما جاء في الآية نفسها من التنبيه إلى عدم التبجح والدعاوى الفارغة وتزكية النفس بغير حقّ تلقين جليل في صدد تربية النفس وجعل صاحبها يعرف حدوده، ويعرف أن الله لا تخفى عليه خافية فتزعه هذه المعرفة عن الخيلاء والغرور وتبعده عن الخداع والتضليل. وقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآية [32] مدنية في حين أنها متصلة بما قبلها وما بعدها اتصالا قويا نظما وموضوعا. وهذا ما يحمل على التوقف في الرواية. ولقد روى مسلم والترمذي عن النواس الأنصاري حديثا نبويا فيه تعريف للإثم جاء فيه: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن البر والإثم فقال البر حسن الخلق والإثم ما جال في صدرك وكرهت أن يطلع الناس عليه» «1» . غير أن الكلمة

_ (1) التاج ج 5 ص 3.

في مقامها تعني كما هو المتبادر الذنب المقترف بصورة عامة. ولقد وردت الكلمة في هذا المعنى في آيات عديدة مكية ومدنية مثل آية سورة الأعراف هذه: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33) وآية سورة الأنعام هذه: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وآية سورة المائدة هذه: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ [2] وآية سورة النور هذه: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ [11] حيث يبدو من هذا أن الحديث النبوي إنما احتوى تعريفا بأخف مظاهر الإثم لينبه على أن هذا المظهر مكروه عند الله ومؤاخذ عليه فيكون ما هو أكبر منه أكثر كراهية ومؤاخذة. على أن جملة كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ في مقامها تعني الذنوب الكبيرة كما هو المتبادر. وهناك أحاديث نبوية عديدة في وصف هذه الذنوب. وأكثرها متماثل بخلاف يسير ومنها المرفوع ومنها المتصل ومنها ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة بوصف الموبقات. ومما ذكر فيها الشرك بالله. وأكل مال اليتيم، وأكل الربا وقذف المحصنات والفرار يوم الزحف واستحلال البيت الحرام، وشهادة الزور وعقوق الوالدين وشرب الخمر والسحر والبهتان والقتل وترك الصلاة واليمين الغموس والزنا واستطالة المسلم في عرض رجل مسلم بغير حق. والقنوط من رحمة الله وسوء الظن بالله والسرقة والغلول ومنع فضول الماء والتعرب بعد الهجرة- أي العودة إلى الأعراب والبادية. وهناك من قال إن الكبائر كثيرة قد يصل عددها إلى سبعين بل وإلى سبعمائة «1» . وهذه بعض نصوص الأحاديث النبوية الواردة في ذلك، فمن ذلك حديث

_ (1) انظر تفسير الآية [31] من سورة النساء في كتب تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن والقاسمي وغيرهم. وأكثرهم استيعابا للأحاديث الواردة في كتب الأحاديث الصحيحة وغيرها ابن كثير.

رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله وما هنّ قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرّم الله إلّا بالحقّ وأكل الرّبا وأكل مال اليتيم والتولّي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» «1» . وحديث رواه الطبري بطرقه عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري قالا: «خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما فقال والذي نفسي بيده ثلاث مرات ثم أكبّ فأكبّ كلّ رجل منا يبكي لا يدري على ماذا حلف ثمّ رفع رأسه وفي وجهه البشر فكان أحبّ إلينا من حمر النعم فقال ما من عبد يصلّي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويخرج الزكاة ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة ثم قيل ادخل بسلام» . وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي بكرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ألا أخبركم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور أو قول الزور قال فما زال يقولها حتى قلنا ليته سكت» «2» . وحديث أورده ابن كثير عن عمير بن قتادة قال: «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في حجة الوداع ألا إن أولياء الله المصلون من يقيم الصلاة الخمس التي كتب الله عليه ويصوم رمضان ويحتسب صومه يرى أنه عليه حق، ويعطي الزكاة من ماله يحتسبها ويجتنب الكبائر التي نهى الله عنها فسأله رجل يا رسول الله ما الكبائر؟ قال: تسع الشرك بالله وقتل نفس مؤمن بغير حق وفرار يوم الزحف وأكل مال اليتيم وأكل الربا وقذف المحصنة وعقوق الوالدين المسلمين واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا» . وهناك نصوص عديدة أخرى في كتب التفسير وبخاصة في تفسير ابن كثير لا تخرج عن نطاق ما أوردناه فنكتفي بما أوردناه. وننبه على أن كل ما ورد في

_ (1) التاج ج 3 ص 4- 5. (2) المصدر نفسه ص 57.

الأحاديث مما نهى القرآن وشدد فيه الإنذار والوعيد. ويبدو من تنوع الكبائر في الأحاديث أنها لم تذكر على سبيل الحصر، وفي القرآن كبائر لم تذكر في الأحاديث مثل الكذب والميسر والظلم والنفاق والفساد في الأرض مثلا. والأحاديث الواردة في هذا الصدد مما أوردناه ولم نورده هي على الأرجح على ما يدل عليه أنواع الكبائر المذكورة فيها وأسماء رواتها من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد صدرت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في العهد المدني، حيث يمكن القول إن الجملة التي نحن في صددها والتي نزلت في وقت مبكر من العهد المكي قد قصدت كل ذنب كبير إطلاقا مما فيه تقرير مبدئي. وهذا من سمات القرآن المكي، أما التنوع الملحوظ في الأحاديث فالمتبادر أنه متصل بالظروف التي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرى من الحكمة أن ينبه أو ينهى عما جاء فيها، والله تعالى أعلم. أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى (1) (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ (2) وازِرَةٌ وِزْرَ (3) أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (4) (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (5) (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (6) (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ (7) وَأَطْغى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ (8) أَهْوى (9) (53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (10) (54) فَبِأَيِّ آلاءِ (11) رَبِّكَ تَتَمارى (12) (55) [33- 55] . (1) أكدى: بخل وأمسك ومنع وأظهر الفقر. (2) تزر: تحمل. (3) وزر: حمل ومعنى الآية أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى: ألا يحمل امرؤ ذنب امرئ آخر.

(4) تمنى: تنزل منيّا. (5) أقنى: يسر للناس أن يقتنوا الأموال والمقتنيات. أو أغناهم حتى أرضاهم، حسب تعدد الأقوال. (6) الشعرى: أحد الكواكب المشهورة عند العرب. (7) أظلم: هنا بمعنى أشد جرما وعدوانا وانحرافا. (8) المؤتفكة: قوم لوط وقراهم على ما ذكره جمهور المفسرين. (9) أهوى: أسقطها وجعل عاليها سافلها كما جاء في آيات أخرى. (10) فغشّاها ما غشّى: فألبسها من العذاب ما ألبسها. (11) آلاء: آيات أو نعم. (12) تتمارى: تشك وتكذّب. معاني الآيات اللغوية والبيانية واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وأكثرها جاء على ما يتبادر استطرادا معطوفا على التنديد بالذي أعرض عن الدعوة ولم يعط من ماله إلّا القليل ثم تباخل وتظاهر بالفقر مطمئنا إلى المستقبل كأنما أمر الغيب في يده، وهو ما احتوته الآيات الثلاث الأولى فجاء ما بعدها من الآيات لتستطرد إلى توكيد المبادئ التي قررها الله في كتبه منذ القدم بحتمية انتهاء مصائر الناس إليه ونيلهم جزاء أعمالهم من خير وشر، دون أن يحمل أحد وزر غيره، والتنبيه إلى سنن الله وآلائه في كونه والتذكير بما كان من نكال الله في الطغاة والغابرين أمثال عاد وثمود وقوم لوط في معرض التدليل على شمول قدرته وتصرفه، وكون ما في أيدي الناس من مال وخير إنما هو من تيسيره ونعمه. والمتبادر أن الآيات غير منقطعة الصلة عن الآيات السابقة لها وخاصة الآيتين السابقتين مباشرة. ففيهما أمر بالإعراض عمن تولى عن ذكر الله وتنويه وبشرى للذين أحسنوا. فجاءت هذه الآيات تندد بالمتولي المتباخل ثم تستطرد إلى ما استطردت إليه.

ولقد روى المفسرون «1» روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات أو القسم الأول منها. فهناك رواية بأنها نزلت في الوليد بن المغيرة الذي لان قلبه واتبع الرسول فعيره بعضهم فقال إني خشيت عذاب الآخرة فقال له أعطني بعض مالك وأنا أتحمل عنك ذلك العذاب فأعطاه شيئا ثم أمسك. ورواية بأنها نزلت في أبي جهل أو العاص بن وائل السهمي لأنهما كادا يقران برسالة النبي ثم نكصا. ورواية بأنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح أخي عثمان بن عفان في الرضاعة لأنه خوف أخاه من ذهاب ماله من كثرة ما أنفق في سبيل الله فقال له إن لي ذنوبا كثيرة أرجو بما أفعله عفو الله فقال له أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك. والحوادث المروية لا تتطابق مع نص الآيات ومضمونها. ومع أننا نرجح أن يكون شخص معين فعل شيئا مما ورد في الآيات فاستحق ما احتوته من حملة تنديدية فإن عدم انفصاح السلسلة عما قبلها يسوغ القول إن فعل هذا الشخص كان وسيلة وموضوعا لحملة عامة مطلقة تشمله وتشمل أمثاله. وتقرر ما قررته من مبادئ وتذكر بما ذكرت به من مواضع العبر السالفة مما جرى النظم القرآني عليه كثيرا. ولقد روى الطبري بطرقه في سياق تفسير الآية [124] من سورة البقرة أحاديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها توضيح لجملة وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) منها حديث رواه أبو أمامة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإبراهيم الذي وفّى أتدرون ما وفّى؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: وفّى عمل يوم أربع ركعات في النهار» . وحديث رواه أنس قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم ألا أخبركم لم سمّى الله خليله الذي وفّى؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون حتى يختم الآيات» . والأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة، والخبر من المغيبات يجب الوقوف منها عند ما وقف عنده القرآن ما دام ليس هناك أثر نبوي وثيق فيها.

_ (1) انظر تفسيرها في كتب تفسير الطبري والبغوي والزمخشري.

تعليق على مبدأ

وإن كان يصح القول أن الجملة في صدد التنويه بإبراهيم عليه السلام لأنه وفّى ما أمره به الله تعالى. تعليق على مبدأ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وعلى مبدأ: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وفي الآيات [40- 42] توكيد قوي وحاسم للمبدأ القرآني الذي قررته بعض آيات هذه السورة والسور التي قبلها. وهو قابلية الإنسان للكسب والاختيار والسعي ومسؤوليته عن كسبه واختياره، واستحقاقه الجزاء على ذلك وفاقا لما يكون فيه من خير وشر ونفع وضرّ وهدى وضلال. وفي هذا ما فيه من تقوية الوازع الذاتي فيما يباشره الإنسان من عمل وفي عواقبه على ما ذكرناه في سياق سورة المدثر. وفي الآيات زيادة مهمة ذات خطورة تلقينية عظمى في تقوية هذا الوازع وهي تقرير أثر سعي الإنسان في عاقبته وجزائه على طريق الحصر بحيث يوفر في نفسه عدم الجدوى في الاعتماد على شيء آخر غير العمل الصالح على سعة شموله لنيل ما وعد الله عباده الصالحين من سعادة الدنيا والآخرة. ولقد استطرد المفسرون «1» في سياق تفسير هذه الآيات إلى مسألة انتفاع الموتى بما يهبه لهم الأحياء من عبادات وصدقات. وأوردوا في ذلك أحاديث نبوية عديدة، منها حديث رواه الشيخان عن عائشة جاء فيه: «أن رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم إنّ أمي افتلتت نفسها ولم توص وأظنّها لو تكلّمت لتصدّقت أفلها أجر إن تصدّقت عنها قال نعم» «2» . وحديث رواه البخاري والترمذي والنسائي عن ابن عباس جاء

_ (1) انظر تفسير البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي. (2) التاج ج 1 ص 345- 346. الجزء الثاني من التفسير الحديث 8

فيه: «إن أمّ سعد بن عبادة توفّيت وهو غائب عنها فقال يا رسول الله أينفعها شيء إن تصدّقت عنها قال نعم قال فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها» «1» . وحديث رواه أبو داود وأحمد والنسائي عن سعد بن عبادة نفسه أنه قال: «يا رسول الله إنّ أمّ سعد ماتت فأيّ الصدقة أفضل قال الماء فحفر بئرا وقال هذه لأمّ سعد» «2» . وحديث عن عائشة رواه البخاري ومسلم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وليّه» «3» . وحديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال: «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله إنّ أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ فقال: لو كان على أمّك دين أكنت قاضيه عنها؟ قال: نعم، قال فدين الله أحقّ أن يقضى» «4» . وحديث رواه الشيخان جاء فيه: «جاءت امرأة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها؟ قال: أرأيت لو كان على أمّك دين فقضيتيه أكان يؤدّي ذلك عنها قالت نعم قال فصومي عن أمك» «5» . وحديث رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كلّ يوم مسكينا» «6» . وقد ذهب الإمام أحمد إلى صحة انتفاع الميت بثواب كل ما يوهب له من عبادات وتطوعات وصدقات استنادا إلى هذه الأحاديث. والمذهب وجيه، ولسنا نرى فيه تناقضا مع روح الآيات، وفي الأحاديث النبوية حثّ على فعل الخير عبادة وصدقات ولو كان للميت. وفي ذلك ما فيه من تلقين. ويتحفظ الإمام الشافعي بخاصة في انتفاع الموتى بما يقرأ ويوهب لهم من قرآن لأنه ليس من عملهم وكسبهم، وأيده ابن كثير الذي فرق بين قراءة القرآن وبين الدعاء والصدقات وقال إن هذا مجمع على وصول

_ (1) التاج ج 1 ص 345- 346. [.....] (2) المصدر نفسه. (3) التاج ج 2 ص 71. (4) المصدر نفسه ص 72. (5) المصدر نفسه. (6) المصدر نفسه.

نفعه إلى الموتى. ومن هذا السنة المتواترة بالصلاة على الأموات والدعاء والاستغفار لهم. ولقد أورد المفسرون إلى ذلك أحاديث أخرى عن انتفاع الموتى بثواب ما يكون أثرا من آثارهم. منها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة جاء فيه: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» «1» . وحديث رواه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة أيضا جاء فيه: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» «2» . وحديث رواه ابن ماجه والبيهقي عن أبي هريرة كذلك جاء فيه: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم إن ممّا يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علّمه ونشره وولدا صالحا تركه أو مصحفا ورّثه أو مسجدا بناه أو بيتا لابن السبيل بناه أو نهرا أجراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحّته وحياته تلحقه من بعد موته» «3» . وحديث رواه مسلم والترمذي عن جرير قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سنّ في الإسلام سنّة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء» «4» وحديث رواه الترمذي عن عوف المزني قال: «إن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لبلال بن الحارث اعلم قال ما أعلم يا رسول الله قال إنه من أحيا سنة من سنّتي قد أميتت بعدي فإنّ له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من

_ (1) التاج ج 1 ص 66. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه ص 66- 67. (4) المصدر نفسه.

عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا» «1» . وهذه الأحاديث أكثر من تلك تساوقا مع الآيات لأن هذه الأعمال التي تلحق آثارها الموتى هي من كسبهم وسعيهم. ومهما يكن من أمر هذا الاستطراد فإن المتبادر أن الآيات في أصلها وظرف نزولها المبكر قد استهدفت حضّ السامع على الإيمان والعمل الصالح، وتحذيره من عواقب الإثم والضلال وتنبيه إلى أن نجاته وشقاءه في الآخرة مرهونان بسعيه وكسبه اللذين سوف يجازى حسبهما جزاء تاما وافيا. وليس من شأن ما ورد من آثار أن تؤثر في قوة ما احتوته الآيات من ذلك. وجملة: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى النجم [38] تكررت أربع مرات أخرى في أربع سور «2» . وفي كل المقامات جاءت في صدد كسب الإنسان لعمله ومسؤوليته عنه أمام الله تعالى. حيث ينطوي في ذلك إيذان قرآني بأن كل إنسان مسؤول عن عمله وبأن الله تعالى لا يمكن أن يحمل أحدا مسؤولية عمل صدر من غيره وحيث يمكن أن يقال إن هذا من المبادئ القرآنية المحكمة المتسقة مع مبادئ الحق والعدل التي بشرت بها الدعوة الإسلامية. وإطلاق العبارة يجعل تلقينها شاملا بحيث يمكن أن يقال إن الله تعالى كما أنه لا يحمل أحد مسؤولية عمل صدر عن غيره وبأن كل إنسان مسؤول عن عمله أمامه فلا ينبغي لأحد أن يحمل شخصا مسؤولية عمل صدر من شخص آخر إذا لم يكن له صلة ما بهذا العمل ظاهرة أم باطنة. وإن مسؤولية أعمال الإنسان منحصرة في فاعلها. وقد تقدم تعريف بقومي عاد وثمود في سياق تفسير سورتي الشمس والفجر. وسيأتي بتفصيلات أخرى عنهما في مناسبات أخرى لأن قصصهما تكررت وتنوعت مضامينها في سور عديدة وليس في ما جاء عنهما في السورة جديد يتحمل تعليقا

_ (1) التاج ج 1 ص 66- 67. (2) الأنعام 164 والإسراء 15 وفاطر 18 والزمر 7.

جديدا فنرجئ ذلك إلى المناسبات الآتية. وذكر قوم نوح يأتي هنا لأول مرة، وقد تكرر كثيرا في سور أخرى في بعضها إسهاب غير يسير. وخلاصة قصة نوح وقومه في القرآن أن الله أرسله إلى قومه فكفروا وكذبوه فأخبره الله أنه سوف يهلكهم بالطوفان وأمره بصنع سفينة تحمله وأهله وزوجين من كل حي لينجيهم من الطوفان ففعل ثم كان الطوفان فأغرق الناس ونجا نوح وأهله ومن على السفينة. وكان نوح وأهله هم الباقين من بني آدم وأصلهم الثاني. وقد ذكرت قصة نوح وسفينته وطوفانه في الإصحاحات 5- 9 من سفر التكوين وبين ما ورد في هذا السفر وما ورد في القرآن تطابق إجمالا مع بعض التغاير وسوف نعلق على ذلك في المناسبات الآتية التي جاءت قصة نوح فيها أكثر بيانا وإسهابا. والمتبادر أن سامعي القرآن كانوا يعرفون هذه القصة التي كان يعرفها الكتابيون من أسفارهم ومنهم من كان بينهم. وفي كتب التفسير بيانات كثيرة على هامشها معزوة إلى علماء الصدر الإسلامي الأول، وفي ذلك دليل على ما قلناه. وليس في سفر التكوين شيء عن البلاد التي كان فيها نوح وقومه. وقد ذكر فيه أن السفينة استقرت فوق جبل أرارات. وذكر في سورة هود اسم آخر لهذا الجبل وهو الجودي وأرارات أو الجودي أحد جبال شمال العراق. ولا ندري إذا كان هذا يسوغ القول إن مكان نوح وقومه كان بلاد العراق. وسفر التكوين متطابق مع القرآن في أن نوحا هو أقدم أنبياء الله ورسله بعد آدم، والله تعالى أعلم. والإشارة إلى قوم لوط تأتي هنا لأول مرة أيضا إذا كان تعبير المؤتفكة يعني قوم لوط. وقد تكررت كثيرا في سور أخرى فيها شيء من البيان والإسهاب. وخلاصة قصة لوط وقومه في القرآن أن الله أرسله إلى قومه فكفروا برسالته وكانوا يرتكبون الفاحشة مع الذكور ولم يرتدوا رغم الإنذار فأرسل الله عليهم حاصبا

ودمر قراهم وجعل عاليها سافلها وترك آثارها للعبرة. وفي القرآن آيات تشير إلى ذلك وإلى الجهة التي فيها هذه الآثار وهي آيات سورة الصافات هذه: وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) والآيات تفيد أن هذه الآثار في طريق قوافل أهل بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم ويمرون عليها في الصباح وبالليل. والمقصود من ذلك على ما هو المتواتر آثار سدوم وعمورة على شاطئ البحر الميت الذي كان في طريق قوافل أهل الحجاز إلى فلسطين ومصر. ولقد ذكرت قصة لوط وقومه في الإصحاحات 12- 19 من سفر التكوين بشيء من الإسهاب متطابق إجمالا مع ما جاء في القرآن مع شيء من التغاير. وسنعلق على ذلك في المناسبات الآتية التي جاءت هذه القصة أكثر بيانا وإسهابا. والمتبادر أن سامعي القرآن كانوا كذلك يعرفون هذه القصة من الكتابيين وفي كتب التفسير بيانات كثيرة على هامشها أيضا معزوة إلى علماء الصدر الإسلامي الأول مما فيه دليل على ذلك. ولقد ذكرت الكتب العربية اسم الشعرى الوارد في الآيات وقالت إنه النجم الوقّاد الذي يتبع الجوزاء وإن هناك شعريين شعرى العبور وشعرى الغميضاء وإن العرب كانت تتعبدهما ويقال لهما أختا سهيل أيضا. وروت بعض الأساطير حولهما «1» . والمتبادر من الأسلوب الذي ذكرت به الشعرى في الآيات أن القصد من ذلك تنبيه السامعين إلى أن الله عز وجل هو رب ذلك المعبود الذي يسمونه الشعرى ويعبدونه. وصحف إبراهيم وموسى ذكرت في سورة الأعلى وقد نبهنا في سياق تفسير هذه السورة إلى القصد من ذلك وعلقنا على الموضوع بما فيه الكفاية. ولقد قال المفسرون في معنى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى النجم [37] الذي قام بما أمره الله به

_ (1) انظر بلوغ الأرب للآلوسي ج 2 ص 239 وما بعدها، وانظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير.

على سبيل التنويه. وفي سورة البقرة آية تذكر ذلك وهي: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [124] وسنذكر ما ذكرته الروايات عن هذه الكلمات في مناسبة هذه الآية لأنها ملائمة أكثر. هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56) أَزِفَتِ (1) الْآزِفَةُ (2) (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (3) (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62) [56- 62] . (1) أزفت: اقتربت. (2) الآزفة: كناية عن يوم القيامة حيث تتضمن معنى القريبة. (3) سامدون: متكبرون وشامخون أو معرضون أو غافلون. في الآيات توكيد بأن الإنذار القرآني الذي يبلغه النبي صلّى الله عليه وسلّم للناس هو من جنس النذر الأولى التي أرسلها الله على لسان رسله الأولين وهتاف بقرب مجيء يوم القيامة الذي ليس لأحد منه معاذ إلّا الله والاستجابة لدعوته، وخطاب تنديدي موجه إلى الكفار بسبب مقابلتهم نذير الله وقرآنه بالعجب والضحك والإعراض في حين أن الأولى بهم أن يخافوا ويبكوا من هول ما ينذرون به وقد انتهت الآيات بأمر السامعين بالسجود لله وعبادته كأنما تهتف بهم بأن هذا هو ما يجب أن يفعلوه. والآية الأخيرة يمكن أن تكون موجهة إلى المؤمنين حثا لهم على عدم الاهتمام بموقف الكفار وما هم فيه من لهو وضحك، والإقبال على عبادة الله والتقرب إليه كما يمكن أن تكون موجهة إلى الكفار استمرارا على الخطاب الموجه إليهم. والآية الأولى خاصة جاءت معقبة على الآيات السابقة فبعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم ليست بدعا يستدعي الاستغراب ويثير العجب. والقرآن ليس هو الكتاب الوحيد الذي

أوحى الله به. وهذا وذاك مما جرى من سنن الله في إنذار البشر منذ الأزمنة الأولى كما أنهما متصلان في أهدافهما ومضامينهما بما أرسل الله من رسل وأوحى إليهم من كتب، وهذا المعنى قد تكرر كثيرا في القرآن، والمتبادر أنه استهدف تأنيب الكفار على مواقفهم من جهة وتقرير وحدة الأسس والمصدر بين دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم ودعوة الأنبياء السابقين عليهم السلام من جهة أخرى، ولما كان السامعون والكفار منهم يعرفون خبر رسالات الرسل السابقين كانت الحجة قد قامت عليهم. والآية الثانية وإن كان يبدو من ظاهرها أنها تتضمن معنى اقتراب يوم القيامة فإن روحها تلهم أنها بقصد الإنذار بهذا اليوم مطلقا إنذار فيه إرهاب وقطعية، على اعتبار أن الشيء الذي لا بد من مجيئه وشهوده واقع لا ريب فيه ومقترب إليهم. فكأنما أريد تذكير السامعين وخاصة المكذبين بأسلوب إنذاري حاسم أن ما يظنونه غير ممكن أو غير حقيقي أو بعيد الاحتمال هو أمر حقيقي لا ريب فيه، ولا يقيهم من هوله إلّا اللجوء إلى الله والاستجابة إلى دعوة نبيه، وفي هذا من التلقين وقوة الوازع ما فيه.

سورة عبس

سورة عبس في السورة عتاب رباني للنبي صلّى الله عليه وسلّم على اهتمامه بزعيم كافر معرض عن الدعوة أكثر من اهتمامه بأعمى مسلم، وتقرير لمهمة النبوة وتنديد بالإنسان وجحوده وتعداد نعم الله عليه. وإنذار بالآخرة وهولها ومصائر الصالحين والمجرمين فيها. ومن المحتمل أن تكون قد نزلت فصلا بعد فصل حتى كملت بدون انفصال، وعدا فصل العتاب الذي هو الفصل الأول فإن أسلوب باقي آياتها هو تنديد وإنذار عام. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 12] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) . (1) يزكّى: يتزكى بمعنى يستفيد ويزداد علما وصفاء روح. (2) تصدّى: تتصدى أي تتعرض له. (3) تلهّى: تتلهى أي تتشاغل عنه. في الآيات عتاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم على ما كان منه من عبوس وانصراف عن الأعمى المسلم المستشعر بخوف الله الذي جاءه ساعيا للاستفادة والاستنارة وتصدّ لرجل عنيد مكذب يظهر الاستغناء عن دعوة الله ليس مسؤولا عن عدم إسلامه واستجابته.

مدى العتاب الرباني للنبي صلى الله عليه وسلم وما في آيات سورة عبس الأولى من تلقين ومبادئ

وقد انتهت بتقرير كون الدعوة إنما هي تذكير للناس لا إلزام فيه ولا إبرام، فمن شاء الخير تذكّر وانتفع، ومن لم يشأ فعليه وبال أمره. وقد روي أن الآيات نزلت بمناسبة مجيء أعمى مسلم يتفق جمهور المفسرين على أنه ابن أم مكتوم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ليسأله في بعض شؤون الدين في وقت كان يتحدث فيه مع بعض الزعماء بأمر الدعوة، وأن الأعمى قد ألحّ في السؤال حتى بدت الكراهية في وجه النبي صلّى الله عليه وسلّم وظل منصرفا معرضا عنه ماضيا في حديثه مع الزعيم الذي روي في رواية أنه عتبة بن ربيعة وفي رواية أنه أبو جهل وفي رواية أنهم كانوا ثلاثة وهم عتبة وأبو جهل والعباس بن عبد المطلب «1» ، وروح الآيات تلهم صحة الرواية إجمالا. مدى العتاب الرباني للنبي صلّى الله عليه وسلّم وما في آيات سورة عبس الأولى من تلقين ومبادئ وهذه أول مرة ينزل فيها قرآن فيه عتاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وروح الآيات ومضمونها يلهمان أن العتاب إنما كان على مخالفة النبي صلّى الله عليه وسلّم لما هو الأولى. فالنبي صلّى الله عليه وسلّم كان في موقف المجتهد فيما رآه الأولى. والمستغرق في دعوته ونشرها والحريص على النجاح فيها، وليس في موقف الممتنع عن تعليم الأعمى وتنويره وليس في هذا شيء يناقض العصمة النبوية. وفي العتاب وأسلوبه ومفهومه وروحه تهذيب رباني عظيم المدى للنبي صلّى الله عليه وسلّم وفي إعلان النبي صلّى الله عليه وسلّم العتاب يتجلى الصدق النبوي العميق الذي يملك النفس والقلب ويملأهما بالإعظام والإجلال. وفي الآيات تلقينات ومبادئ أخلاقية واجتماعية وسلوكية جليلة مستمرة المدى، ففيها إشادة بذوي النيات الحسنة من الناس الذين يسعون وراء الخير والمعرفة صادقي الرغبة في الاستفادة والاستنارة وصالح العمل، وإيجاب الاهتمام

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والنيسابوري وابن كثير والبغوي والطبرسي.

[سورة عبس (80) : الآيات 13 إلى 16]

لهم والعناية بهم وتشجيعهم ومساعدتهم مهما كانت طبقتهم، وترجيحهم على الذين يترفعون عن كلمة الحق والدعوة إليه ويظهرون الغرور والاستغناء مهما علت مراكزهم، وإيجاب معاملة هؤلاء بالإهمال والاستهانة تأديبا لهم ولأمثالهم، وفيها تقرير الأفضلية بين الناس لذوي النيات الحسنة والصلات الصادقة في الخير بقطع النظر عما يكونون عليه من فضل أو تأخر في الدرجات الاجتماعية. وفي الآيتين الأخيرتين خاصة تطمين للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتقرير لمهمته. فمهمته التذكير والدعوة لا الإلزام، وفيهما توكيد تقرير المشيئة والاختيار للإنسان بعد بيان طريق الهدى والضلال والحق والباطل وتقرير مسؤولية كل امرئ عن عمله، فمن اهتدى فقد نجى نفسه ومن ضل فقد أهلكها. وهذا كله مما تكرر تقريره في كثير من المناسبات وفي ذلك تلقين جليل مستمر المدى يجب على المسلمين وخاصة أصحاب الدعوات الإصلاحية والاجتماعية والسياسية أن يسيروا على ضوئه في صلاتهم بالناس. وبعض مفسري الشيعة يروون أن العتاب ليس موجها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه لا يمكن أن يصدر منه ما يستوجب عتابا. وإنما هو موجه إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه أو أحد بني أمية من كان حاضرا مجلس النبي صلّى الله عليه وسلّم حينما جاء الأعمى فأظهر تقززه منه «1» . غير أن جمهور المؤولين والرواة على أنه موجه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم. وفحوى الآيات ينطوي على دلالة تكاد تكون حاسمة على ذلك. والمتبادر أن روايات الشيعة منبثقة من هواهم وبغضهم لعثمان وبني أمية. وهذا ديدنهم في كل مناسبة مماثلة على ما نبهنا عليه في سياق سورة الليل. [سورة عبس (80) : الآيات 13 الى 16] فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) . (1) صحف: الجمهور على أن الكلمة تعني الفصول القرآنية التي كانت توحى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقد قال بعض المفسرين إنها صحف أعمال الناس التي

_ (1) انظر الجزء الثاني من كتاب التفسير والمفسرون السابق الذكر ص 167 و 191. [.....]

يكتبها الملائكة الموكلون بهم أو كتب الله التي أنزلها على أنبيائه «1» . والقول الأول أوجه لأنه متسق مع ظرف نزول الآيات. (2) سفرة: جمع سفير وهو الرسول. والجمهور على أنهم الملائكة الذين يبلغون وحي الله وقرآنه. وقد قال بعض المفسرين إنهم قراء القرآن «2» والقول الأول أوجه. (3) بررة: جمع بار، وهنا بمعنى الصادق الأمين. جاءت هذه الآيات معقبة على الآيات السابقة وبخاصة على الآيتين الأخيرتين منها، فقد تضمنت الآية [9] كلمة تذكرة فجاءت الآيات لتبين ماهية هذه التذكرة وتنوه بها فهي صحف مكرمة مطهرة رفيعة القدر يبلغها سفراء كرام على الله بررة أمناء مخلصون لله عز وجل فيما يقومون به من مهمة السفارة بينه وبين أنبيائه. وواضح أن تعبير الصحف على التأويل المتقدم الذي عليه الجمهور هو هنا تعبير مجازي لأن الوحي الرباني لم يكن يحمل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم شيئا مكتوبا في صحف وإنما كان يلقى ما يحمله من وحي رباني عليه إلقاء. ولعل في التعبير تلقينا بوجوب تدوين ما يلقيه الوحي في الصحف أو إشارة إلى مصيره إلى ذلك. والمأثور المتواتر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يأمر بتدوين ما كان ينزل به الوحي من فصول القرآن في صحف في حين نزوله «3» حيث يكون قد لمح ذلك التلقين وعمل به. وفي الآيات تلقين مستمر المدى بما يجب للمدونات القرآنية من التكريم والطهارة وحرمة الشأن والرفعة. هذا، ولما كان الملك الرباني الذي كان يتصل بالنبي ويبلغه القرآن واحدا وهو جبريل في آية سورة البقرة هذه: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) والروح الأمين في

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والطبرسي والنيسابوري والبغوي. (2) المصدر نفسه. (3) انظر الفصل الثاني من كتابنا القرآن المجيد.

[سورة عبس (80) : الآيات 17 إلى 23]

آيات الشعراء هذه: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وروح القدس في آية سورة النحل هذه: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) «1» . فالمتبادر أن صيغة الجمع لكلمة سفرة وأوصاف السفرة هي بقصد تعظيم شأن ملك الله جريا على أسلوب التخاطب البشري عامة والعربي خاصة. [سورة عبس (80) : الآيات 17 الى 23] قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23) . (1) قدّره: دبر خلقه على ناموس محسوب قويم. (2) كلّا لمّا يقض ما أمره: قال جمهور المفسرين إنها جاءت منددة بالإنسان على جحوده لأنه لم يقم بواجبه نحو الله «2» وقال بعضهم إنها من المحتمل أن تكون توضيحا للآيات التي قبلها أي إن الله لا ينشر من في القبور إلّا في الوقت الذي قضى به «3» ، والتأويل الأول هو الأوجه. في الآيات استطراد تنديدي بالإنسان الذي يجحد الله ويتمرد على أوامره ولا يقوم بواجبه نحوه على ضآلة شأنه في كون الله وشمول تصرف الله فيه إنشاء وإحياء وإماتة ونشرا بعد الموت حين تشاء حكمته. ومع احتمال أن يكون التنديد بالكفار على مواقف المكابرة والعناد التي وقفوها فإن أسلوب الآيات المطلق يجعلها في نفس الوقت تنديدا عاما ذا تلقين

_ (1) جمهور المفسرين على أن الروح الأمين وروح القدس تعنيان جبريل عليه السلام أيضا، انظر تفسير آيات الشعراء والنحل في تفسير الطبري وابن كثير والطبرسي والزمخشري وغيرهم. (2) انظر تفسيرها في الطبري والبغوي والنيسابوري والطبرسي وابن كثير. (3) انظر تفسيرها في تفسير ابن كثير أيضا.

[سورة عبس (80) : الآيات 24 إلى 32]

مستمر المدى بكل إنسان يجحد الله ويتمرد عليه كما هو المتبادر. والآية [20] تتضمن تقرير كون الله قد بيّن للناس الطريق القويم ويسّر لهم سلوكه وأوجد فيهم قابلية القدرة على هذا السلوك. وفي هذا توكيد للتقريرات القرآنية السابقة في هذا الصدد كما هو ظاهر. [سورة عبس (80) : الآيات 24 الى 32] فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32) . (1) قضبا: الرطب أو الثمار الغضة التي يتكرر قطف أشجارها أو العلف على اختلاف الأقوال. (2) غلبا: كثيفة الشجر. (3) فاكهة: كل ثمرة لذيذة حلوة. (4) أبّا: المرعى على أوجه الأقوال. الآيات جاءت معقبة على ما سبقها من الآيات كما هو المتبادر، واستمرارا لها سياقا وموضوعا، فعلى ذلك الإنسان الجاحد المتمرد على الدعوة إلى الله وغير القائم بحق الله أن ينظر ويفكر فيما يتمتع به مما يسره الله له من أسباب الغذاء المتنوع له ولأنعامه ليرعوي عن موقفه لأنه سوف يرى أن كل هذا إنما يتم له بتيسير الله ورعايته. ومع أن ورود جمع المخاطب في الآية الأخيرة يجعل الكلام موجها في الدرجة الأولى إلى السامعين وبخاصة المكابرين الجاحدين منهم، فإن أسلوب الآيات وبدأها بخطاب الإنسان يجعلها كذلك عامة التوجيه والتنديد أيضا. والمتبادر أن ما عددته الآيات من نعم الله على الإنسان من أنواع الغذاء لم

[سورة عبس (80) : الآيات 33 إلى 42]

يكن على سبيل الحصر وإن كان يتضمن التنويه بما فيه قوام حياة الإنسان والأنعام تقوية للتذكير وإحكاما للتنديد. كذلك فإن الآيات ليست بسبيل بيان نواميس الطبيعة، وإنما هي بسبيل الوعظ والتذكير بما هو ماثل للناس وواقع تحت مشاهدتهم وحاصل بممارستهم وفيه متاع متنوع الأشكال والصور لهم. وقد استهدفت إيقاظ الضمير الإنساني وحمله على الاعتراف بفضل الله وحقه وربوبيته. وهذا وذاك مما يلحظ في جميع الفصول القرآنية المماثلة. [سورة عبس (80) : الآيات 33 الى 42] فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) . (1) الصاخة: الصاكة للآذان من شدة الصوت. والكلمة كناية عن يوم القيامة وتتضمن الإشارة إلى هوله. (2) صاحبته: كناية عن زوجته. (3) شأن يغنيه: شغل يشغله عن غيره. (4) مسفرة: منبسطة الأسارير. وهذه علامة الفرح والطمأنينة. (5) عليها غبرة ترهقها قترة: القترة سواد الدخان المتصاعد من النار وقيل إن القترة الغبار النازل من علو والغبرة الغبار الصاعد من الأرض والمقصود من الجملة بيان شدة ما يلحق بوجوه الكفار الفجار من اربداد وسواد ووسخ من شدة الهول والبلاء الذي يصيبهم في الآخرة. (6) الفجرة: جمع فاجر وهو المستهتر الموغل في الغواية والفاحشة. وهذه الآيات أيضا معقبة على ما سبقها واستمرار في السياق، وقد تضمنت

إنذارا بيوم القيامة ووصفا لهوله الذي يذهل المرء عن أقرب الناس إليه، وتصنيفا للناس فيه. فمنهم الفرح المغتبط المستبشر وهم المؤمنون الصالحون، ومنهم المربد الوجه الذي يعلوه الوسخ والاسوداد من شدة البلاء، وهم الكفرة الفجرة. والوصف قوي من شأنه إثارة الطمأنينة في الفريق الأول والفزع والرعب في الفريق الثاني. وحفز الأول على الثبات فيما هو فيه والثاني على الارعواء وتلافي العاقبة الوخيمة الرهيبة وهو في متسع من الوقت وهما مما استهدفته الآيات كما هو المتبادر.

سورة القدر

سورة القدر في السورة تنويه بليلة القدر وتقرير إنزال القرآن فيها. وبعض الروايات تذكر أنها مدنية «1» . غير أن جميع التراتيب المروية تسلكها في عداد السور المكية. وأسلوبها ووضعها في المصحف بعد سورة العلق قد يؤيدان مكيتها وتبكيرها في النزول. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) . (1) القدر: الشأن والنباهة. وفي آية سورة الأنعام هذه: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [91] أي ما عظموه تعظيما يتناسب مع قدره العظيم. (2) وما أدراك: جملة تنبيهية لخطورة الأمر المذكور وقد تكرر ورودها في معرض التنبيه للأمور الخطيرة. (3) جمهور المفسرين على أن هذا الاسم ينصرف إلى جبريل أحد عظماء الملائكة أو عظيمهم. احتوت الآيات تقريرا تذكيريا بإنزال القرآن في ليلة القدر، وتنبيها تنويهيا

_ (1) انظر الإتقان للسيوطي ج 1 ص 14. الجزء الثاني الحديث 9

تعليقات على ما روي في صدد نزول السورة ومدى جملة خير من ألف شهر وصلتها بدولة بني أمية

بهذه الليلة وعظم شأنها وخيرها وشمولها ببركة الله وسلامه، وتنزل الملائكة والروح فيها بأوامره وتبليغاته. والآيات لم تذكر القرآن غير أن جمهور المفسرين على أن ضمير الغائب في «أنزلناه» عائد إليه، وروح الآية تلهم ذلك كما أن آيات سورة الدخان هذه: حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) تؤيد ذلك. تعليقات على ما روي في صدد نزول السورة ومدى جملة خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ وصلتها بدولة بني أمية ولقد روى المفسرون «1» أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ذكر يوما رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر فعجب المسلمون فأنزل الله السورة. كما رووا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ذكر يوما أربعة من بني إسرائيل عبدوا الله ثمانين عاما لم يعصوه طرفة عين فعجب المسلمون فأتاه جبريل فقال يا محمد عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النفر فقد أنزل الله خيرا من ذلك ثم قرأ عليه السورة. وهذه الروايات لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. والذي يتبادر لنا استئناسا من بكور نزول السورة وترتيبها في المصحف بعد سورة العلق أنها نزلت بعد قليل من آيات سورة العلق الخمس الأولى للتنويه بحادث نزول أول وحي قرآني. ولقد أورد المفسرون حديثا رواه الترمذي عن القاسم بن الفضل الحداني عن يوسف بن سعد قال: «قام رجل إلى الحسن بن علي بعد ما بايع معاوية فقال سوّدت وجوه المؤمنين أو يا مسوّد وجوه المؤمنين فقال لا تؤنّبني رحمك الله فإنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أري بني أمية على منبره فساءه ذلك فنزلت إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) الكوثر يا محمد يعني نهرا في الجنّة ونزلت: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ

_ (1) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.

الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) ، يملكها بعدك بنو أمية يا محمد. قال القاسم فعددناها فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوما ولا تنقص» «1» . ولقد علق الطبري على هذا بقوله إنها دعاو باطلة لا دلالة عليها من خبر وعقل. وذكر ابن كثير أن الترمذي وصف حديثه بالغريب وقال إنه لا يعرف إلّا عن طريق القاسم. ووصفه ابن كثير بأنه منكر جدا وقال إن شيخنا الإمام الحافظ الحجة أبو الحجاج المزي قال عنه إنه منكر. ونبه على عدم انطباق مدة بني أمية على الألف شهر لأنها أكثر من ذلك بنحو تسع سنين. وفي هذا إظهار لكذب القاسم راوي الحديث في قوله إننا حسبناها فلم تزد ولم تنقص يوما. وقال ابن كثير فيما قاله إن السورة مكية ولم يكن للنبي منبر في مكة. والذي نعتقده أن الرواية من روايات الشيعة التي يخترعونها لتأييد مقالاتهم على ما نبهنا عليه في مناسبة سابقة مهما كان بين ما يروونه وبين فحوى العبارة القرآنية وسياقها مفارقة. وهذا يظهر قويا في هذه الرواية. ورواية الترمذي للرواية ليس من شأنها أن تجعلنا نتوقف في ذلك فاحتمال التدليس في ذلك وارد دائما. ولعل ما قاله ابن كثير من أنه لم يكن في مكة منبر هو الذي جعل رواة الشيعة يروون رواية مدنية السورة لأن روايتهم تتسق بهذه الرواية. ولقد قال الطبري إن أشبه الأقوال بظاهر التنزيل في معنى جملة لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) من قال: «عمل في ليلة القدر خير من عمل ألف شهر ليس فيها ليلة القدر» وروي عن مجاهد قولا جاء فيه أن معناها هو أن قيامها والعمل فيها خير من ألف شهر. ومع ما في هذا القول وذاك من وجاهة وصواب فإننا لا نزال نرجح أن الجملة قد جاءت بقصد التوكيد على ما في ليلة القدر من خير وبركة على سبيل التنويه والتعظيم بحدث الحادث العظيم الذي كان فيها، والله أعلم.

_ (1) انظر تفسيرها في الطبري وابن كثير ونص الحديث من ابن كثير. وقد أورده أيضا مؤلف التاج عزوا إلى الترمذي انظر التاج ج 4 ص 263.

تعليق على روايات نزول القرآن جملة واحدة

تعليق على روايات نزول القرآن جملة واحدة ولقد أورد المفسرون في سياق هذه السورة روايات وأقوالا تتضمن فيما تتضمنه أن القرآن أنزل دفعة واحدة إلى سماء الدنيا ثم أخذ ينزل منجّما أي مفرقا، وأن ما عنته هذه السورة هو هذا حيث قصدت جميع القرآن «1» . ولقد أورد ابن كثير في سياق تفسير آية البقرة [185] عن الإمام أحمد حديثا رواه عن واثلة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنزلت صحف إبراهيم في أول رمضان والتوراة لست خلت منه والإنجيل لثلاث عشرة خلت منه» . وأورد حديثا آخر رواه جابر بن عبد الله فيه زيادة عن الزبور وتعديل لوقت الإنجيل حيث جاء فيه: «إن الزبور نزل لثنتي عشرة خلت من رمضان والإنجيل لثماني عشرة خلت منه» . والمتبادر أن الأحاديث بسبيل ذكر نزول هذه الكتب في هذه الأوقات دفعة واحدة. والأحاديث لم ترد في الكتب الخمسة، ولقد روى بعضهم عن الشعبي أن الآية الأولى من سورة القدر تعني «إنّا ابتدأنا بإنزاله في ليلة القدر» «2» . والنفس تطمئن بقول الشعبي هذا، وبأن هذا السورة وآيات سورة الدخان التي أوردناها آنفا وآية سورة البقرة هذه: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [185] قد عنت بدء نزول القرآن، وبأن سورة القدر قد احتوت تنويها بعظم حادث بدء نزول القرآن وجلالة قدره، وبخطورة الليلة التي شرّف الله قدرها، بحدوث هذا الحادث العظيم فيها. أما إنزال القرآن جميعه دفعة واحدة إلى سماء الدنيا فليس عليه دليل من القرآن أو من الحديث الصحيح. ولا يبدو له حكمة كما لا يبدو أنه منسجم مع طبيعة الأشياء حيث احتوت معظم فصول القرآن صور السيرة النبوية المتنوعة في مكة أولا ثم في المدينة وكثيرا ما كانت تنزل في مناسبات

_ (1) انظر تفسيرها في تفسير الطبري والنيسابوري وابن كثير والبغوي والطبرسي والزمخشري. (2) انظر تفسير السورة في تفسير الزمخشري والطبرسي أيضا وانظر تفسير آية شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن من البقرة في تفسير المنار وانظر الإتقان للسيوطي ج 1 ص 42 وانظر كتابنا القرآن المجيد ص 281 وما بعدها.

تعليق على ليلة القدر

أحداثها، وهذا الذي قلناه ينطبق على رواية قتادة التي أوردها الطبري بالنسبة للكتب السماوية الأخرى. تعليق على ليلة القدر ولقد أورد المفسرون ورواة الأحاديث أحاديث عديدة في صدد تعيين ليلة القدر. منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن عائشة أيضا قالت: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يجاور في العشر الأواخر من رمضان ويقول تحرّوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان» «1» . وحديث رواه الخمسة إلّا الترمذي جاء فيه: «قال ابن عمر إن رجالا من أصحاب النبي أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحرّيها فليتحرّها في السبع الأواخر» «2» . وحديث رواه الشيخان والترمذي عن عائشة قالت: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحرّوا ليلة القدر في الوتر من العشر الأخير من رمضان» «3» . وحديث رواه الخمسة إلّا البخاري عن زرّ بن حبيش قال: «سألت أبيّ بن كعب فقلت إن أخاك ابن مسعود يقول من يقم الحول يصب ليلة القدر فقال رحمه الله أراد ألا يتكل الناس. أما إنّه قد علم أنها في رمضان وأنها في العشر الأواخر وأنها ليلة سبع وعشرين ثم حلف لا يستثني أنّها ليلة سبع وعشرين فقلت بأيّ شيء تقول ذلك يا أبا المنذر قال بالعلامة أو بالآية التي أخبرنا رسول الله أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها» «4» . وحديث عن معاوية بن أبي سفيان رواه أبو داود وأحمد قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة القدر ليلة سبع وعشرين» «5» .

_ (1) التاج ج 2 ص 73- 76 ومعنى يجاور: يعتكف في المسجد. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه. [.....] (4) المصدر نفسه ص 77- 78 وهناك أحاديث عديدة أخرى أوردها ابن كثير في وقتها لم ترد في كتب الصحاح ومنها ما يذكر غير الأوقات المذكورة في الأحاديث التي أوردناها والواردة في كتب الصحاح فاكتفينا بذلك لأنها هي المشهورة والوثيقة معا. (5) المصدر نفسه.

ولما كانت آية البقرة تنصّ على نزول القرآن في شهر رمضان وآية القدر تنص على نزوله في ليلة القدر فيمكن أن يقال إن حادث أول وحي قرآني قد وقع في إحدى الليالي العشر الأخيرة من رمضان أو ليلة السابع والعشرين منه على التخصيص. والتنويه القرآني بهذه الليلة قوي. وهي جديرة به لأن الحادث الذي وقع فيها أعظم حادث في تاريخ الإسلام. وإليه يرجع كل حادث فيه. وكل ذكرى من ذكرياته، وكل خير وبركة من خيراته وبركاته، وهو الجدير بأن يكون تاريخه موضع تنويه وإشادة وتكريم واحتفاء في كل جيل من أجيال الإسلام، بل في كل جيل من أجيال البشر وفي كل مكان من الأرض. فالنبوة المحمدية التي بدأت به هي نبوة الخلود والبشرية جمعاء. والقرآن الذي بدئ بإنزاله على النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذه الليلة هو كتاب الله الخالد الذي فيه رحمة وهدى وشفاء لجميع الناس في كل مكان وزمان، والذي احتوى ما فيه الكفاية لرجع أمور الدين والدنيا إلى نصابها الحق ولإقامة إخاء عام بين البشر. ونظام اجتماعي وسياسي واقتصادي مرتكز على قواعد الحق والعدل والحرية والمساواة والكرامة وهذا التاريخ هو التاريخ الوحيد المعروف في مثله من تاريخ الأنبياء وكتبهم. والقرآن هو الكتاب الوحيد الذي بقي في أيدي الناس كما بلغه النبي صلّى الله عليه وسلّم سليما تاما فوق كل مظنة. ومحمد صلّى الله عليه وسلّم هو النبي الوحيد الذي لم يدر حول وجوده وشخصيته وتاريخه ما دار حول غيره من الشكوك والأقوال. وفيما احتوته السورة من الإشارة إلى نزول الملائكة وعلى رأسهم عظيمهم في هذه الليلة بأوامر الله وبركاته وشمولها بالسلام والتجليات الربانية قصد إلى بيان عظمة شأنها ورفعة قدرها أولا، ودعوة ضمنية إلى المسلمين إلى إحيائها في كل عام اقتداء بالملائكة وتحصيلا للبركة الربانية فيها وتكريما للذكرى المقدسة التي انطوت فيها. ولقد أثرت بعض الأحاديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في خير هذه الليلة وبركتها، والحث على تحريها وإحيائها منها حديث رواه الخمسة عن أبي هريرة قال: «قال

النبي صلّى الله عليه وسلّم من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه» «1» . وحديث رواه الخمسة عن عائشة قالت: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل العشر شدّ مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله» . ولفظ الترمذي: «كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها» «2» . وهذا متصل من دون ريب بالذكرى الجليلة. ومن الغريب أن يغفل المسلمون عن المعنى العظيم لهذه الذكرى وأن ينتهوا من أمرها إلى المعاني والأهداف المادية الخاصة فيما يدعون الله به كما هو السائد في الأوساط الإسلامية منذ قرون طويلة. وقد يكون هنا مجال للتساؤل عما إذا كانت تسمية «ليلة القدر» هي تسمية قرآنية ونعتية طارئة، القصد منها التنويه والحفاوة والتذكير بعظمة شأن الحادث الذي كان فيها، أم أنها كانت معروفة قبل نزول القرآن. ولم نطلع على قول وثيق يساعد على النفي أو الإثبات. غير أن في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها والذي أوردناه في سياق تفسير سورة العلق أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يخلو بغار حراء فيتحنّث أي يتعبد فيه الليالي ذوات العدد، وأن الوحي نزل عليه هنا ما يمكن أن يكون دلالة ما إلى ما كان من معنى خطير لليالي ذوات العديد قبل البعثة. وما دام أن الوحي نزل عليه في إحدى هذه الليالي فمن الجائز أن تكون الليالي ذوات العدد هي الليالي العشر الأخيرة من رمضان أو أن هذه الليالي العشر منها. ولقد ذكرت الروايات «3» أن التحنث في شهر رمضان كان معروفا وممارسا في أوساط مكة المتقية المتعبدة حيث يسوّغ هذا أن يقال إن الليالي ذوات العدد كانت من الأمور المعروفة في هذه الأوساط أيضا. ولقد صارت ليلة القدر علما على ليلة بعينها، ووردت بمعنى هذه العلمية أحاديث عديدة مما مرت نصوصها، ولقد ورد في سورة الدخان هذه الآيات: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) حيث يفيد هذا أن الله عز وجل قد جرت

_ (1) التاج ج 2 ص 73- 74. (2) المصدر نفسه. (3) تاريخ الطبري ج 2 ص 48.

تعليق على كلمة الروح

عادته على قضاء الأمور الخطيرة المحكمة في ليلة القدر. ففي كل هذا كما يتبادر لنا قرائن أو شبه قرائن على أن تسمية ليلة القدر ليست تسمية طارئة ونعتية أو تنويهية وحسب، وأنها قد كان لها في أذهان بعض الأوساط المكية خطورة ما دينية الصفة. تعليق على كلمة الروح وبمناسبة ورود تعبير «الروح» نقول إن هذه الكلمة قد وردت في القرآن كثير في سياق الإشارة إلى هبة نسمة الحياة لآدم والمسيح والناس مضافة إلى الله عز وجل كما في آيات سورة الحجر هذه: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) وفي سورة الأنبياء هذه: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91) وفي آيات سورة السجدة هذه: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (9) . وقد وردت الكلمة أيضا في صدد الإشارة إلى وحي الله وأوامره، وإلى الملك الذي كان ينزل بالقرآن على النبي صلّى الله عليه وسلّم كما جاء في آية سورة النحل هذه: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) وفي آية غافر هذه: رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) وآيات سورة الشعراء هذه موصوفا بالأمين: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) . ووردت مطلقة بما يفيد أنها عظيم الملائكة كما جاء في آية سورة النبأ هذه: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ووردت مضافة إلى القدس في سياق تنزيل القرآن كما جاء في آية

سورة النحل هذه: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) ووردت في آيات عديدة مضافة إلى القدس في صدد تأييد المسيح عليه السلام كما ترى في هذا المثال: وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ البقرة [87] والمتبادر أن المقصود من الكلمة هنا على ما تلهمه روح العبارة هو عظيم الملائكة. وفي سورة التحريم آية تلهم أن عظيم الملائكة هو جبريل وهي: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) ولما كانت آيات النحل نعتت الملك الذي ينزل بالوحي القرآني بالروح ولما جاء في آية في سورة البقرة أن الذي ينزل بهذا الوحي هو جبريل وهي: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) فيكون المقصود من الكلمة هنا هو جبريل عظيم الملائكة على ما هو المتبادر. وجمهور المفسرين على أن تسمية جبريل بروح القدس هي على اعتبار أنه روحاني الخلقة بدون تولد من أب وأم وأنه مطهر من الرجس والله تعالى أعلم. ولما كان أمر الملائكة وحقيقتهم وأعمالهم من المسائل الغيبة الواجب الإيمان بها لأن القرآن قد قررها كما قلنا قبل فالواجب الإيمان بما جاء في صددهم في الآية دون تخمين وتزيد مع ذكر كون ذلك بسبيل التنويه بعظم شأن الليلة للحادث العظيم الذي كان فيها. وندع التعليق على ما ورد في الآيات التي أوردناها في معرض التمثيل والتي تنسب الروح إلى الله عز وجل وتذكر نفخه بروحه في آدم ومريم والإنسان عامة إلى تفسير هذه الآيات في سورها.

سورة الشمس

سورة الشمس في السورة توكيد بفلاح المتقين الصالحين وخسران المنحرفين الضالين. وتذكير بحادث ناقة ثمود ونكال الله فيهم لتمردهم وطغيانهم. وتقرير لقابلية اكتساب الخير والشر في الإنسان وإيداع الله فيه تلك القابلية وإقداره على هذا الاكتساب. وهي عرض عام لأهداف الدعوة، وليس فيها مواقف حجاج وردود، مما يمكن أن يدل على أنها نزلت قبل الفصول التي ذكرت فيها مثل ذلك: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 15] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4) وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) وَلا يَخافُ عُقْباها (15) (1) ضحاها: ضوءها في أول النهار. (2) تلاها: تبعها. (3) طحاها: بسطها أو وسعها. (4) ونفس وما سواها: جعلها سوية تامة الصفات والمظاهر خلقا وعقلا.

(5) فألهمها فجورها وتقواها: هنا بمعنى أودع فيها قابلية الفجور والتقوى. (6) زكاها: طهرها بصالح الأعمال. (7) دساها: أفسدها بسيء الأعمال وخبيثها. (8) طغواها: طغيانها. (9) أشقاها: أشقى قوم ثمود وهو الذي عقر ناقة الله. (10) سقياها: نصيبها من الشرب. (11) عقروها: هنا بمعنى قتلوها. (12) فدمدم: دمر أو استأصل. (13) فسوّاها: أحاط عذابه بها. (14) لا يخاف عقباها: قال بعض المفسرين إن الجملة تعني أن الله لا يعبأ بأحد حينما ينزل عليهم عذابه ولا يسأل عن ذلك، كما قالوا إنها تعني شقيّ ثمود الذي أقدم على عقر الناقة دون أن يحسب حساب العاقبة «1» . في السورة قسم رباني بما عدده من مظاهر الكون والخلق ونواميسها بأن المفلح السعيد من طهر نفسه باتباع الهدى وعمل الصالحات والتزام حدود الله، وبأن الخاسر الشقي من أفسدها بالضلال والتمرد والأفعال المنكرة. وفيها كذلك تذكير بما كان من تكذيب ثمود لنبيهم وطغيانهم وجرأة أحدهم نتيجة لذلك على عقر ناقة الله دون أبوه بتحذير نبيهم وبما كان من نكال الله فيهم. والسورة احتوت تقريرا عام التوجيه مستمر المدى لأهداف الدعوة في تطهير النفس والتسامي بها عن الإثم والغواية، وتبشير المستقيمين بالفلاح والمنحرفين بالخسران. والإطلاق في كلمتي (زكاها ودساها) يمكن أن يتناول الطهارة الدينية والدنيوية أو الروحية والأخلاقية أو الفساد الديني والدنيوي أو الروحي والأخلاقي معا، كما أن الفلاح والخيبة الواردين مع الكلمتين يمكن أن يتناولا الدنيا والآخرة معا، وفي كل ذلك من جلال التلقين وشموله ما هو ظاهر.

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي مثلا.

تعليق على جملة ونفس وما سواها

تعليق على جملة وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها وجملة وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) تعني نفس الإنسان دون الأحياء الأخرى كما هو ظاهر من مضامين الآيات الثلاث التالية لها. ولما كان الله عز وجل قد خلق كل شيء وأحسن خلقه كما جاء في آيات أخرى منها آية سورة السجدة هذه: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [7] فإن في ذكر الإنسان بما جاء في الآيات [7- 10] معنى من معاني التنويه به وما اختصه الله به من إدراك وأودعه فيه من قابليات. ومعنى من معاني التنبيه على أنه ملزم دون غيره من الأحياء نتيجة لذلك بمسؤولية سلوكه. وفي هذا ما فيه من تكريم للإنسان وتحميله مسؤولية عن هذا التكريم. وقد تكررت هذه المعاني كثيرا في القرآن حيث ينطوي في ذلك خطورة ما تهدف إليه. تعليق على جملة فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها وحديث نبوي ورد في تفسيرها ولقد روى مسلم والترمذي عن عمران بن حصين قال: «إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالا يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه. أشيء قضي عليهم ومضى أو فيما يستقبلون به. فقال لا بل شيء قضي عليهم. وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) » «1» حيث ينطوي في الحديث تفسير للآية مفاده أن ما يفعله الإنسان من خير وشر هو بقضاء رباني سابق لا حيلة فيه. في حين أن الذي يتبادر بقوة من فحوى الآية وروحها أنها تتضمن تقرير كون الله عز وجل قد أودع في الناس قابلية

_ (1) التاج ج 5 ص 174.

تعليق على ناقة ثمود

فعل الخير والشر والهدى والضلال والتمييز والاختيار والسلوك. وفي الآيتين التاليتين لها تأييد قوي لذلك حيث احتوتا تنبيها تبشيريا وإنذاريا إلى نتائج استعمال هذه القابلية مع نسبة هذا الاستعمال للإنسان. وحيث يبدو من ذلك قصد التنبيه على التلازم والتلاحم بين الاختيار ونتائجه. وحيث يتسق هذا مع التقريرات القرآنية السابقة بتحميل الإنسان مسؤولية عمله واختياره. وقد تكرر هذا كله بعد هذه السورة بأساليب متنوعة على ما سوف ننبه إليه في مناسباته حتى ليصح أن يقال إنه من المبادئ القرآنية المحكمة ثم من الضوابط القرآنية التي يمكن أن يزول على ضوئها ما يبدو أحيانا من وهم المباينات والإشكالات في بعض العبارات القرآنية. فإذا صح الحديث فيكون هناك حكمة نبوية ضاعت علينا. وننبه على أننا لسنا هنا في صدد الكلام في موضوع القدر الذي قد يكون التفسير الذي انطوى في الحديث متصلا به ولسوف يأتي الكلام فيه في سياق سورة القمر إن شاء الله. تعليق على ناقة ثمود والناقة المذكورة قد وصفت بناقة الله وهذا يعني أنها معجزة ربانية ظهرت على يد نبي ثمود جوابا على تحديهم. وقد تكرر ذكرها في مواضع عديدة من القرآن المكي. والمفسرون يذكرون استنادا إلى الروايات أن الناقة خرجت من بطن صخرة، كما يذكرون بيانات كثيرة عن جسمها وكيفية شربها وحلبها ومقامها ورغائها والمؤامرة على عقرها ونهاية أمرها وعن تدمير مساكن ثمود وإبادة أهلها «1» . غير أن كل ما جاء في القرآن عنها أنها آية من آيات الله وأن نبي ثمود وهو صالح عليه السلام اشترط عليهم أن يتحاموها ويمكنوها من نصيبها من الشراب وأن يجعلوا لشرابها يوما خاصا فلم يوفوا بشرطهم ثم عقروها وأصروا على الكفر والعناد فأخذتهم الرجفة ودمرت منازلهم وحلّ عليهم عذاب الله ونقمته

_ (1) انظر تفسير سورة الأعراف وهود والشعراء والنمل في كتب تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والنيسابوري والطبرسي والخازن.

كما جاء في قصة ثمود في سور الأعراف وهود والشعراء والنمل. والذي نراه إزاء الناقة وغيرها من معجزات الله التي أظهرها الله على يد رسله والمحكية في القرآن، والتي هي في نطاق قدرة الله عز وجل، هو الإيمان بما جاء في القرآن عنها والوقوف عند ذلك دون تزيد ولا تخمين، والتحفظ إزاء ما توسع فيه الرواة توسعا جلّه غير قائم على أساس وثيق. والمرجح إن لم نقل المحقق أن أخبار ثمود وناقتهم على الوجه الذي ورد في القرآن أو ما يقاربه مما كان متداولا عند العرب قبل الإسلام ... وفي آية سورة العنكبوت هذه: وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) دليل على ذلك فجاء ذكرهم بسبيل التذكير والإنذار بعاقبة مثل عاقبتهم لمن يطغى ويتمرد على الله ودعوته، على ما هو ظاهر في أسلوب الآيات هنا وفي كل مكان آخر وردت فيه القصة. ولعل ما أورده المفسرون استنادا إلى الروايات قد يكون دليلا على ذلك التداول. ويضاف إلى هذا وهو بسبيل ذلك أيضا أن في مساكن ثمود التي تعرف اليوم بمداين صالح أطلالا مدمرة وأن عرب الحجاز كانوا يمرون بها في طريقهم إلى بلاد الشام. هذا، وليس في السورة إشارة إلى موقف تكذيب معين أو موقف حجاج ولجاج. وهي عرض لأهداف الدعوة عرضا عاما وإنذار للناس بعاقبة كعاقبة قوم ثمود التي يعرفونها إذا طغوا وتمردوا على الله بصورة عامة، ولذلك نرجح أنها من أوائل ما نزل من القرآن، وتصح أن تسلك في سلك القسم الذي كانت تعنيه تسمية القرآن كالفاتحة والأعلى والليل والله أعلم.

سورة البروج

سورة البروج في السورة حملة على الكفار لاضطهادهم ضعاف المؤمنين والمؤمنات وفتنتهم إياهم عن الإسلام، وإشارة إنذارية إلى حادث مماثل، وتثبيت للمؤمنين وتذكير بمصائر البغاة كفرعون وثمود، وتنويه بقدر القرآن وحفظه وآياتها متصلة ببعضها نظما وموضوعا. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) . (1) البروج: واحد البرج. وأصل معنى البرج ما ارتفع وبرز، ثم صار يطلق على القصر العالي وعلى القلاع والحصون. ومن ذلك ما جاء في آية سورة النساء هذه: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [78] وكان العرب قبل الإسلام يطلقون كلمة البروج على النجوم وعلى المنازل أو المدارات السماوية التي تدور فيها الشمس والقمر والكواكب السيارة المعروفة آنذاك وهي المريخ وزحل وعطارد والمشتري والزهرة، وهي اثنا عشر وهذه أسماؤها: الحمل، الثور،

الجوزاء، السرطان، الأسد، السنبلة، الميزان، العقرب، القوس، الجدي، الدلو، الحوت «1» . (2) اليوم الموعود: كناية عن يوم القيامة. (3) وشاهد ومشهود: في حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن الشاهد هو يوم الجمعة والمشهود هو يوم عرفة. واليوم الموعود هو يوم القيامة. ومع ذلك فقد روي عن بعض التابعين أن المشهود هو يوم القيامة والشاهد هو ابن آدم أو أن المشهود يوم عرفة والشاهد يوم الأضحى. ومما قاله الطبري الصواب أن يقال إن الله أقسم بشاهد شهد ومشهود شوهد، وما ذكر من بيان هو ما ظنه العلماء أنه المعنى المقصود. (4) الأخدود: الشق الطويل الذي يحفر في الأرض. (5) وما نقموا منهم: وما أنكروا عليهم أو حقدوا عليهم أو سخطوا منهم. في الآيات قسم رباني بالأقسام الثلاثة بأن لعنة الله قد حقّت على الذين حفروا الأخدود وأججوا فيه النيران وألقوا فيه المؤمنين وهم جالسون يشهدون عذابهم دون أن تأخذهم الشفقة عليهم. ولم يكن لهم ذنب يغضبهم عليهم إلّا أنهم آمنوا بالله وحده. والمتبادر أن الأقسام الثلاثة في بدء السورة مما كان يعرف السامعون خطورته ومداه مهما اختلف المؤولون فيه. وبهذا فقط تبدو الحكمة في ذلك، والله أعلم ولقد رويت روايات مختلفة في صدد الحادث الذي ذكر في الآيات منها حديث نبوي «2» عن ساحر كان يعلم أحد الأولاد السحر فمر الولد براهب فأسلم على يديه وصار يبرئ الأكمه والأبرص باسم الله ثم أسلم الساحر على يد الولد

_ (1) انظر تفسير هذه السورة وسورة الحجر والفرقان في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي. (2) انظر تفسير السورة في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والطبرسي والتاج ج 4 ص 254- 257.

تعليق على ذكر البروج

وعلم الملك بالأمر فعذب الراهب والساحر والولد ثم قتلهم. وظهرت للولد كرامات فآمن الناس بالإله الذي يؤمن به فأمر الملك بحفر أخدود وتأجيج النار فيه وإلقاء من لم يرتد عن دين الولد فيه. ومنها «1» أن ذا نواس ملك حمير الذي اعتنق اليهودية طلب من نصارى نجران أن يتركوا دينهم ويتهودوا فأبوا فخذّ الأخدود وأجّج فيه النار وألقى فيها كل من ثبت على نصرانيته حتى بلغ من حرقهم 12 ألفا في رواية وعشرين ألفا في رواية وأن هذا العمل حفز الأحباش النصارى على غزو اليمن وتفويض حكم ذي نواس والديانة اليهودية. وتهود ذي نواس وبعض أهل اليمن واضطهاده النصارى وغزو الأحباش لليمن بسبب ذلك وقائع تاريخية ثابتة «2» يمكن أن يستأنس بها في ترجيح هذه الرواية وقد ذكرنا ذلك في سياق تفسير سورة الفيل. ومهما يكن من أمر فإن روح الآيات واكتفاءها بالإشارة الخاطفة إلى أصحاب الأخدود يدلان على أن سامعي القرآن كانوا يعرفون حادث التحريق في الأخدود وأسبابه فاقتضت حكمة التنزيل التذكير به في صدد الحملة على مقترفي إثم يماثل إثم أصحاب الأخدود. وأسلوب الآيات أسلوب تقريعي لهذا العمل الوحشي الظالم غضبا على أناس آمنوا بالله وتمسكوا بإيمانهم. وفيه تلقين قرآني عام مستمر المدى كما هو المتبادر. تعليق على ذكر البروج هذا، وما تعنيه كلمة «البروج» هو مما كان متداولا بين العرب قبل الإسلام على ما هو مستفاد من أقوال المفسرين. حيث يصح القول إن حكمة التنزيل قد شاءت بأن تقسم بأمر يعرف العرب خطورته ويعرفون أنه مظهر من مظاهر قدرة الله

_ (1) انظر تفسير السورة في تفسير ابن كثير والبغوي. (2) انظر تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي ج 3 ص 165- 209. وقد أورد بعض المفسرين روايات أخرى غير أن الروايتين اللتين أوردناهما هما الأوثق الأشهر فاكتفينا بهما. الجزء الثاني من التفسير الحديث 10

[سورة البروج (85) : الآيات 10 إلى 16]

تعالى وبكلمة أخرى شاءت أن تذكر هذا المظهر من مظاهر الكون بما كان متداولا بينهم. وهذا الأسلوب مما تكرر كثيرا في هذا الأمر لأنه أكثر تأثيرا فيهم كشأن القصص على ما شرحناه في سياق سورة القلم. ولقد كانوا يعرفون ويعترفون بأن الله سبحانه هو الذي خلق السموات والأرض وما بينهما وهو مدبر الأكوان على ما جاء في آيات كثيرة منها آية سورة يونس هذه: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) وآية سورة الزخرف هذه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) . [سورة البروج (85) : الآيات 10 الى 16] إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) . (1) فتنوا: بمعنى اضطهدوا أو أرغموا المؤمنين على الارتداد. يصرف المفسرون بدون سند وثيق ضمير الفاعل في الآية الأولى من هذه الآيات إلى أصحاب الأخدود ويقولون إن الوعيد فيها لهم وإن عذاب الحريق هو مقابلة عينية لما فعلوه من حرق المؤمنين في نار الأخدود. وهذا عجيب وغير صواب فيما يتبادر لنا. وجملة ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا دليل على ذلك لأن أصحاب الأخدود ماتوا وانقضى أمرهم ولم يعد لفتح باب التوبة لهم محل. والمعقول الذي تدل عليه هذه الجملة أن يكون الوعيد لجماعة كانوا يفتنون المؤمنين والمؤمنات وقت نزولها. ولقد كان ذلك أمرا واقعا حيث كان بعض الزعماء المشركين في مكة يضطهدون ضعفاء المؤمنين والمؤمنات ويؤذونهم ليرغموهم على الافتتان أي

تعليق على محنة فتنة المؤمنين الأولين

الارتداد عن الإسلام. وهكذا تكون الآيات الأولى من السورة بمثابة مقدمة بين يدي هذا الوعيد يحتوي وعيدا مماثلا للمشركين الذين كانوا يفعلون بالمؤمنين بالرسالة النبوية شيئا مما فعله أصحاب الأخدود بالمؤمنين السابقين. وتكون الصلة قائمة واضحة بين المجموعتين. وهو ما جرى عليه النظم القرآني في سياق قصص الأمم السابقة وما كان من نكال الله الدنيوي فيهم جزاء كفرهم ومواقفهم العدائية والعدوانية من أنبيائهم مما مرّ منه بعض الأمثلة. وقد احتوت الآيات بالإضافة إلى الوعيد لفاتني المؤمنين والمؤمنات، إذا لم يتوبوا بشرى للمؤمنين الذين يعملون الصالحات وتثبيت لهم وتنويه بقوة بطش الله الذي خلق الخلق بدءا والقادر على خلقه إعادة، الفعال لما يريد. وتنويه في الوقت نفسه بسعة رحمة الله وغفرانه ومودته للصالحين من عباده. وفي التنويه بالبطش والغفران والمودة وفي الإنذار والتبشير تساوق تام إزاء موقف المؤمنين ومضطهديهم وما يطلب من كل منهم كما هو المتبادر. وذكر العرش هنا يأتي للمرة الثانية، ولقد علقنا على هذا الموضوع في سياق سورة التكوير بما يغني عن التكرار إلّا أن نقول إن الأسلوب الذي جاء به هنا أيضا يؤيد ما نبهنا عليه في ذلك التعليق من الحكمة المنطوية في ذكر العرش وهو قصد بيان عظمة شأن الله تعالى. تعليق على محنة فتنة المؤمنين الأولين وفتنة المؤمنين في العهد المكي ذكرت في غير هذه السورة أيضا. وذكرها في هذه السورة المبكرة في النزول يدل على أنها قد بدأت منذ عهد مبكر من الدعوة، ولقد رويت روايات عديدة في سياقها كما وردت أيضا آيات في القرآن تشير إلى بعض نتائجها. ويستفاد من هذه وتلك أن الأرقاء والمستضعفين من المسلمين الأولين هم الذين تعرضوا لها في الدرجة الأولى وأنها كانت مع ذلك تشمل المؤمنين من الأسر القرشية البارزة وأنه كان من صورها أن يعرى المسلمون

ويطرحون فوق الرمال والصخور الشديدة الوهج من حرارة الشمس وتوضع على أجسادهم الصخور الثقيلة ويمنع عنهم الماء والطعام ساعات طويلة أو أياما عديدة وكانت تقيد أيديهم وأرجلهم بقيود الحديد ويجلدون شديد الجلد، وأنه قد زهقت بسبب العذاب أرواح فضرب أصحابها الشهداء مثلا خالدا على التمسك بالعقيدة وتحمل أنواع الأذى والتضحية بالنفس في سبيلها «1» والراجح أن آيات سورة البروج هذه تشير إلى هذه المرحلة. وفي سورة النحل آيتان قد تدلان على أنّ بعض المؤمنين أرغموا على الافتتان والتبرؤ من الإسلام فمنهم من ظل كافرا ومنهم من عاد إلى الإسلام حينما سنحت له الفرصة وفرّ من مكة وهما هاتان: 1- مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) . 2- ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) . وقد روى المفسرون «2» أن الاستثناء في الآية الأولى كان لعمار بن ياسر رضي الله عنه الذي أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، وأنه قد جاء يبكي للنبي صلّى الله عليه وسلّم ويقول له إني نلتك بالشر فقال له مشجعا مطمئنا (إن عادوا لك فعدلهم) . وقد كان بعض أغنياء المسلمين وبخاصة أبا بكر رضي الله عنه يشترون بعض الأرقاء المضطهدين من مالكيهم وينقذونهم من المحنة. وقد استمرت المحنة طيلة العهد المكي ثم إلى الفتح المكي في السنة الهجرية الثامنة بالنسبة لمن اضطر إلى البقاء في مكة ومنع الهجرة إلى المدينة. وكانت من أهم الحركات التي سببت للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين همّا عظيما. وكان من نتائجها أن هاجر معظم المسلمين

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير البغوي وابن كثير وغيرهما. (2) المصدر نفسه. [.....]

رجالا ونساء إلى الحبشة. وآيات سورة النحل هذه: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) تشير إلى ذلك. ولقد كاد النبي صلّى الله عليه وسلّم نفسه يهاجر نتيجة لذلك على ما تفيده آية سورة الإسراء هذه: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) ثم كانت من أسباب هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة. وآية سورة الأنفال هذه: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) وما جاء في آية الحج [40] من هذه الجملة: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وآية سورة آل عمران هذه: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195) تشير إلى ذلك. وقد وصفها القرآن بأنها أشد من القتل وأكبر واعتبر الكفار بسببها البادئين بالحرب المستحقين للانتقام وأوجب الاستمرار في قتالهم إلى أن ينتهوا عنها على ما جاء في آية سورة الحج هذه: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) وآيات سورة البقرة هذه: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) وفي كل هذا ينطوي ما كان لهذه المحنة من أثر عظيم وشديد في أحداث وسير السيرة النبوية ثم ما كان من تحمل النبي صلّى الله عليه وسلّم والرعيل الأول من المؤمنين رضوان الله عليهم شدّة هذه المحنة بقلوب عامرة بالإيمان مستغرقة في الله

تعليق على موقف المرأة المسلمة في هذه المحنة

ودينه، وعظم كفاحهم وثباتهم في سبيل إعلاء دين الله أمام تألب السواد الأعظم من أهل مكة وقبائلها بقيادة الزعماء الأقوياء والأغنياء إلى أن حق الحق وزهق الباطل وانتصر دين الله وصارت كلمته هي العليا. تعليق على موقف المرأة المسلمة في هذه المحنة ولقد كان الرعيل الأول من المؤمنين من الرجال والنساء على السواء، وكما تعرض الرجال للمحنة وصبروا عليها وكافحوا وثبتوا فقد تعرض النساء لها وصبرن وكافحن، على ما تفيده آيات سورة البروج التي نحن في صددها أولا، وآية سورة آل عمران [195] التي أوردنا نصها آنفا ثانيا. وقد ذكرت الروايات أن أم عمار بن ياسر رضي الله عنهما ماتت تحت العذاب مع أبيه وفضّلا الموت على النطق بكلمة الكفر. كما ذكرت أن المهاجرين إلى الحبشة ثم إلى المدينة كانوا من الرجال والنساء على السواء. ومن اللاتي هاجرن إلى الحبشة بنات زعماء كبار من قريش أسلمن مع أزواجهن وهاجرن معهم إلى الحبشة تمسكا بدينهن رغم قوة آبائهن، مثل أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، وسهلة بنت سهيل بن عمرو، وأم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومي وفاطمة بنت صفوان بن أمية، وكان عدد النساء المهاجرات إلى الحبشة سبع عشرة. ولقد سجل القرآن حادثا عظيما من هذا الباب حيث كان من نساء الرعيل الأول من أجبر على التخلف عن الهجرة إلى المدينة، فما إن سنحت لهن الفرصة حتى غامرن وخرجن والتحقن برسول الله صلّى الله عليه وسلّم تاركات أزواجهن وأهلهن الكفار مما انطوى خبره في آية سورة الممتحنة هذه «1» : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ

_ (1) هذه الآية والحادثة التي ذكرت فيها نزلت بعد صلح الحديبية فجاء ذووهن إلى المدينة وطالبوا بإرجاعهن بمقتضى شروط الصلح فأمر الله في الآية بعدم إرجاعهن وتعويض ذويهن أو أزواجهن. انظر الجزء الثاني من كتابنا سيرة الرسول عليه السلام، ص 294- 295.

تعليق على موضوع التوبة

مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) . وهكذا سجلت المرأة العربية المسلمة شخصيتها وقوة إيمانها ووعيها وكفاحها وثباتها وجرأتها ومخاطرتها منذ بدء الدعوة الإسلامية وفي دور الأذى والمحنة العصيب أسوة بالرجل مما يثير الإعجاب والإجلال. تعليق على موضوع التوبة وبمناسبة ورود جملة لَمْ يَتُوبُوا [10] في الآية الأولى نذكر أن القرآن فتح باب التوبة لكل فئة من الناس ومهما كانت أفعالهم وسواء منهم الكفار أم المنافقون أو مقترفو المنكرات من المسلمين وحضّهم عليها بمختلف الأساليب وفي مختلف السور المكية والمدنية وفي مختلف أدوار التنزيل من عهد مبكر في مكة إلى عهد متأخر في المدينة كما جاء في الآية التي نحن في صددها وكما جاء في آيات كثيرة أخرى منها الأمثلة التالية: 1- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ البقرة [278- 279] . 2- كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ آل عمران [86- 89] . 3- وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما

إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً النساء [16- 18] . 4- وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً النساء [110] . 5- إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً النساء [145- 147] . 6- إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ المائدة [33- 34] . 7- وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ المائدة [38- 39] . 8- وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ الأنعام [54] . 9- وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ

وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ التوبة [3] . 10- فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ التوبة [5] . 11- لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ التوبة [10- 11] . 12- يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ التوبة [74] . 13- وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً الفرقان [68- 71] . 14- قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ الزمر [53- 55] . وكل هذا يلهم أن التوبة في الإسلام مبدإ قرآني محكم وأن كون صلاح الناس وهدايتهم وإنقاذهم من الضلال والغواية والارتكاس في الآثام هو الجوهري في

الدعوة الإسلامية حيث يفتح الكافر حينما يسلم صفحة جديدة ويستقبل عهدا جديدا وهو ما عبر عنه الأثر المشهور «الإسلام يجبّ ما قبله» ومؤيد بما تضمنته آية التوبة [11] ويصبح الكفار إخوانا للمسلمين مهما فعلوا معهم من أفعال ووقفوا من مواقف ومهما ارتكبوا من آثام قبل إسلامهم. وحيث يتاح للمخطئين والآثمين من المسلمين فرصة الرجوع عن خطأهم وآثامهم ويشجعون على السير في سبيل الصلاح والإصلاح والحق والخير. ويحال دون تسرب الناس إلى قلوب الجاهلين والاستمرار في طريق الأشر والإثم. وفي هذا كله من المصلحة الإنسانية وصلاحها الأخلاقي والاجتماعي والديني ما هو واضح من الروعة والجلال. والآيات مكية ومدنية، وقد نزلت في مختلف أدوار التنزيل وبدأ نزولها من عهد مبكر حيث يبدو من هذا حرص الدعوة الإسلامية على فتح ذلك الباب وإتاحة تلك الفرصة منذ أولى خطواتها ثم استمر ذلك إلى آخر عهودها. وفي الآيات شروط هامة جدا للتوبة وقبولها ونفعها لا تدع مجالا لقول قائل إنها مما يشجع على اقتراف الإثم وتجاوز الحد. وهي التوبة الصادقة التي تتمثل في الندم على ما فات والعزم على الكف والإصلاح والإنابة إلى الله واتباع ما أمر به ونهى عنه. وفي متسع من الحياة والعمر والعافية. وللإصلاح الذي تكرر وروده في الآيات معنى واسع شامل. وقد يتناول بالإضافة إلى تحسين الخلق والسلوك والتزام الحق والفضيلة. بالنسبة للمسلم الجانح والدخول في دين الله بالنسبة للكافر تلافي ما يمكن أن يكون سببه التائب من أضرار مادية ومعنوية وبخاصة مما يتعلق بحقوق الناس أفرادا وجماعات. لأن حقوق الناس ودماءهم وأموالهم تظل في عنق المعتدين عليها حتى يؤدوها أو تؤخذ منهم في الدنيا أو يعاقبوا عليها في الآخرة. وقد روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلّله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم. إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه» «1»

_ (1) التاج ج 5 ص 19.

وحديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة جاء فيه: «لتؤدّنّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة» «1» . وواضح من كل ما تقدم أن استغفار المستغفرين وتوبة التائبين باللسان إذا كانت على غير أساس هذه الشروط تظل لغوا لا قيمة له ولا فائدة. وفي القرآن آية تذكر غفران الله لمن يشاء بدون أن يكون ذلك مترافقا مع ذكر التوبة وهي آية سورة النساء هذه: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً النساء [48] . والمتبادر أن أسلوب الآية جاء بسبيل تشنيع الشرك وتعظيمه، وما دام القرآن يفسر بعضه بعضا فالمتبادر أن ما جاء في الآيات الكثيرة الأخرى من غفران الشرك إذا تاب عنه المشرك ومن شرط التوبة والإخلاص فيها لمرتكبي الذنوب يقيد الإطلاق الذي جاءت عليه الآية. وهناك آية تقرر الخلود في جهنم لقاتل المؤمن عمدا دون أن يرد فيها ذكر للتوبة جريا على النظم القرآني في الأمثلة المتقدمة. وهي آية سورة النساء هذه: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً النساء [93] ولقد استند عليها بعض العلماء وأصحاب المذاهب الكلامية وقالوا إن مرتكب الكبيرة مخلد في النار. ولقد روى الشيخان عن ابن عباس أن لا توبة لقاتل المؤمن العمد استنادا إلى هذه الآية وإن سعيد بن جبير لما راجعه في ذلك وقال له إن آيات سورة الفرقان [70- 71] تفتح باب التوبة للقاتل وغيره قال له إن هذه آيات مكية قد نسختها آية مدنية وهي آية سورة النساء المار ذكرها «2» . مع أن آيات سورة النساء [110] و [147] و [149] وسورة المائدة [33- 34] و [38- 39] وسورة التوبة [3 و 5] و [10] و [11]

_ (1) التاج ج 5 ص 19. (2) التاج ج 4 ص 84 و 173 وهذا نص حديث مسلم من الصفحة 173: «قال سعيد بن جبير قلت لابن عباس ألمن يقتل مؤمنا متعمدا توبة. قال لا، فتلوت عليه آية الفرقان إِلَّا مَنْ تابَ فقال هذه آية مكية نسختها آية مدنية ومن يقتل مؤمنا متعمدا ... الآية.

و [74] والتي أوردناها قبل قد نزلت بعد آية سورة النساء [93] وقد أبقت باب التوبة مفتوحا لمختلف الفئات من مشركين وكفار ومرتدين ومنافقين ومحاربين لله ورسوله وسارقين إلخ حيث يسوغ هذا التوقف في التسليم بقول ابن عباس والقول إن أسلوب آية النساء [93] إنما جاء على ما جاء به بسبيل تشنيع قتل المؤمن العمد وتغليظه وتعظيمه وإن باب التوبة يظل مفتوحا لقاتل المؤمن العمد إذا كان مؤمنا مخلصا وتاب توبة صادقة. ولقد روى الشيخان تتمة الحديث الذي روياه عن سعيد ابن جبير وابن عباس وهي أن سعيدا أخبر مجاهدا وهو من كبار علماء التابعين ومفسريهم بجواب ابن عباس فعقب قائلا «إلّا من ندم» «1» حيث يدعم هذا ما قلنا. وما قاله مفسرون آخرون قبلنا أيضا. وهنا آثار نبوية مؤيدة لذلك أيضا حيث تذكر أن الخلود في النار هو لمن يستحل القتل ومات على ذلك لأنه يكون كافرا. وتذكر أن لا خلود لمن مات مؤمنا وأن باب التوبة لهذا غير مغلق. ومن ذلك حديث رواه مسلم عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخرج من النار من قال لا إله إلّا الله وفي قلبه وزن شعيرة من إيمان» «2» . وحديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يزني العبد حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب حين يشرب وهو مؤمن ولا يقتل حين يقتل وهو مؤمن. وزاد أبو هريرة في رواية جملة «والتوبة معروضة بعد» «3» . وقد يصح القول على ضوء حديث أنس أن هؤلاء وأمثالهم من مرتكبي الكبائر إذا لم يتوبوا وكانوا مؤمنين وغير مستحلين لما اقترفوه يعذبون في النار عذابا طويلا ثم يخرجون منها في النهاية، والله تعالى أعلم. وهناك أحاديث نبوية عديدة فيها حثّ على التوبة وتأميل في عفو الله وغفرانه وتبيين لمدادها وتلقين متساوق مع التلقين القرآني فيها. منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أنس: «أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال الله أشدّ فرحا بتوبة عبده حين يتوب

_ (1) التاج ج 4 ص 84. (2) التاج ج 1 ص 27. (3) التاج ج 3 ص 5.

إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلّها قد أيس من راحلته فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدّة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربّك أخطأ من شدّة الفرح» «1» . وحديث رواه مسلم والترمذي عن ابن عمر: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال يا أيّها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في اليوم مئة مرة» «2» . وحديث رواه الترمذي وأحمد والحاكم عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلّ بني آدم خطّاء وخير الخطائين التوّابون» «3» . وحديث رواه الثلاثة عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» «4» . وحديث رواه مسلم عن أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» «5» . وحديث رواه الشيخان وأبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت آمن الناس كلّهم أجمعون فيومئذ لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا» «6» . وحديث أخرجه ابن مردويه عن عبد الله بن عمر أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما من عبد مؤمن يتوب قبل الموت بشهر إلّا قبل الله منه أدنى من ذلك. وقبل موته بيوم وساعة يعلم الله منه التوبة والإخلاص إليه إلّا قبل منه» .

_ (1) التاج ج 5 ص 137- 139. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه، والمقصود بتعبير يغرغر حشرجة الموت. ولا يعني الحديث تسويغ تأخير التوبة إلى هذا الوقت وإنما معناه أن التوبة مقبولة إلى هذا الوقت. وقد ندد الله بالذين يؤخرون التوبة إلى وقت الموت وحث على التوبة في متسع من العمر والعافية في الآيات 16- 18 من سورة النساء التي أوردناها مع الآيات. وطلوع الشمس من مغربها من علامات قيام الساعة على ما جاء في الحديث التالي للحديث الخامس. (5) المصدر نفسه. (6) المصدر نفسه ص 139.

هذا، والآيات والأحاديث الواردة في موضوع التوبة وهذه الآيات الواردة في سورة التوبة: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) تفسح المجال لشيء من المقايسة بين التوبة والاعتراف بالذنب في الإسلام وبين ما هنالك من ذلك في التقاليد النصرانية. وقد يكون مساغ للقول إن ما بين الإسلام والنصرانية شيئا من التساوق في جوهر الموضوع. غير أن الأسلوب مختلف، فتقاليد الاعتراف النصرانية منوطة بمراسم ووساطة كهنوتية في حين أن التوبة في الإسلام ليست في شيء من ذلك. ولم ترو أي رواية تفيد أن المسلمين كانوا يراجعون النبي صلّى الله عليه وسلّم وخلفاءه من بعده ويعترفون لهم بذنوبهم ويطلبون منهم الدعاء لهم. والمتواتر الذي لا خلاف فيه أن التوبة تتم بين الله وعباده مباشرة. وهذا متصل بعدم وجود مراسم ووساطة كهنوتية في الإسلام كما هو واضح. ونحن نرى في هذا امتياز يحفظ للمسلم كرامته ونراه مما تميزت به الديانة الإسلامية فلم يقم فيها ما قام في النصرانية وغيرها من كهنوت ديني يتوسط بين الله وعباده في التوبة وطلب الغفران ومنحه أو يناط به إبرام عقود الزواج وتعميد الأطفال وإقامة الطقوس وتحديد خطوات وحدود العقل والبحث في مختلف شؤون الدين والدنيا الأمر الذي ينطوي على حكمة الله تعالى في جعل العقل والفكر الإنسانيين في ظل هذه الديانة في كل مسلم ومسلمة مطلقين يستطيعان أن يحلقا في كل جو ويتناولا كل شأن في حدود الإيمان بالله ورسوله وقرآنه واليوم الآخر وصفات الله الكاملة المنزهة عن كل نقص وشائبة ومماثلة. ثم في حدود ما أمر الله ورسوله به وما نهيا عنه من أوامر ونواه إيمانية وتعبدية وسلوكية واجتماعية بسبيل الصلاح والنجاة في الدنيا والآخرة. وهناك نقطة هامة يحسن أن ننبه عليها، وقد أشير إليها في بعض الآيات إشارات خاطفة. وهي أن الآيات المكية والمدنية الواردة في موضوع التوبة والآيات المكية والمدنية التي لم يذكر فيها موضوع التوبة التي وصفت الكفار من

[سورة البروج (85) : الآيات 17 إلى 22]

الكتابيين وغيرهم والمنافقين والآثمين من المسلمين بالفسق والظلم والإجرام والفساد والبغي والضلال أو قررت ضلالهم وأن الله لا يهديهم وأن النذر لا تؤثر فيهم وأنهم لن يجدوا من دون الله هاديا ولا نصيرا وأنذرتهم بالعذاب الأخروي الخالد والخزي. وسجلت عليهم لعنة الله وغضب الملائكة والناس أجمعين إلخ، ليست هي على ما يفيده فحواها وروحها على سبيل التأبيد إلّا بالنسبة للذين يصرون على كفرهم ونفاقهم وآثامهم وفسقهم وضلالهم ويموتون على ذلك فقط. وإنها في ظروف نزولها كانت على سبيل وصف واقعهم من جهة ولإنذارهم وتخويفهم وحملهم على الارعواء والتوبة إلى الله من جهة أخرى. وهناك دليل من الوقائع الثابتة من سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم على ذلك وهو أن كثيرا من الذين نعتوا في الآيات بما نعتوا وأنذروا بما أنذروا وقرر في حقهم وسجل عليهم ما قرر وسجل بل غالبيتهم- باستثناء غالبية يهود الحجاز الذين لم يكونوا بالنسبة لعرب الحجاز فضلا عن الجزيرة العربية إلّا أقلية ضئيلة- قد آمنوا في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل الهجرة وبعدها وحسن إسلامهم ونالوا رضاء الله وتنويهه في القرآن في آيات كثيرة منها هذه الآية في سورة التوبة التي نزلت في أواخر حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) . [سورة البروج (85) : الآيات 17 الى 22] هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) . (1) الجنود: هنا بمعنى الجموع المتجمعة. (2) مجيد: يمكن أن تكون الكلمة من المجد ويكون معناها صاحب المجد والعظمة، ويمكن أن تكون من الإجادة ويكون معناها المجوّد. الآيات متصلة بسابقاتها نظما وموضوعا، حيث احتوت تذكيرا آخر بما كان

تعليق على جملة في لوح محفوظ

من مواقف فرعون وثمود وجموعهم المجندة وتمردهم ونكال الله فيهم، وإنذارا للكافرين المكذبين بنقمة الله المحيط بهم. وقد انتهت السورة بالتنويه بالقرآن بسبيل توكيد صلة الله به وتوكيد ما احتواه من نذر ووعيد للطغاة المتمردين. فهو كتاب الله المجيد الذي لا يمكن أن يطرأ عليه تبديل وتغيير لأن الله حافظ له في لوحه. تعليق على جملة فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ إن أصل معنى اللوح الشيء الممهد المنبسط الذي يكتب أو ينقش عليه. ولقد أورد المفسرون في سياق الجملة المذكورة أقوالا وروايات عديدة «1» . منها ما أوردوه في سياق تفسير سورة البروج ومنها ما أوردوه في سياق تفسير جملة «أم الكتاب» في سورة الرعد التي فسروها بمعنى «اللوح المحفوظ» . ومنها ما أورده في سياق تفسير مطلع سورة القلم حيث رووا أن «ن» تعني اللوح النوراني الذي أمر الله القلم أن يكتب عليه المقادير. وقد أوردنا ذلك في سياق تفسير هذه السورة فنكتفي بالإشارة إليه. ولقد روى الطبري في سياق تفسير سورة البروج عن أنس أنه القرآن المجيد المحفوظ في جبهة إسرافيل. وقال البغوي هو أم الكتاب ومنه تنسخ الكتب ومحفوظ من الشياطين ومن الزيادة والنقصان. وروي عن ابن عباس أنه من درة بيضاء طوله ما بين السماء والأرض وعرضه ما بين المشرق إلى المغرب وحافتاه الدر والياقوت ودفتاه ياقوتة حمراء وقلمه نور وكلامه قديم وكل شيء فيه مستور. وأعلاه معقود بالعرش وأصله في حجر ملك وعن يمين العرش. وأنه مكتوب في صدره «لا إله إلا الله وحده دينه الإسلام ومحمد عبده ورسوله فمن آمن بالله عز وجل وصدق بوعده واتبع رسله أدخله الجنة» . وروى ابن كثير عن عبد الرحمن بن

_ (1) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري. [.....]

سليمان أنه ما من شيء قضى الله القرآن وما قبله وما بعده إلّا وهو في اللوح المحفوظ واللوح المحفوظ بين عيني إسرافيل لا يؤذن له بالنظر فيه وروي عن الحسن البصري أن معنى الجملة إن هذا القرآن عند الله في لوح محفوظ ينزل ما يشاء على من يشاء من خلقه وأورد حديثا أخرجه الطبراني عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله تعالى خلق لوحا محفوظا من درة بيضاء صفحاتها من ياقوتة حمراء، قلمه نور وكتابه نور، لله في كل يوم ستون وثلاثمائة لحظة، يخلق ويرزق ويميت ويحيي ويعز ويذل ويفعل ما يشاء» . وفي سياق جملة (أم الكتاب) قال البغوي إن أم الكتاب هو اللوح المحفوظ الذي لا يبدل ولا يغير. وروي عن ابن عباس أنهما كتابان كتاب يمحو منه ما يشاء ويثبت وأم الكتاب الذي لا يغير منه. وروي كذلك عن ابن عباس قوله «إن الله تعالى لوحا محفوظا مسيرة خمسمائة عام من درة بيضاء لها دفتان من ياقوت. لله في كل يوم فيه ثلاثمائة وستون لحظة يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب. وروي كذلك أن ابن عباس سأل كعبا عن أم الكتاب فقال علم الله ما هو خالق وما خلقه عاملون. وفي تفسير ابن كثير في سياق تفسير الآية [7] من سورة هود حديث رواه الإمام أحمد عن عمران بن الحصين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال جوابا على سؤال: «كان الله قبل كل شيء، وكان عرشه على الماء، وكتب في اللوح المحفوظ ذكر كل شيء» . ويلحظ أن الحديث الذي أورده ابن كثير عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من إخراج الطبراني أورده البغوي بصيغة مباينة وعزوا إلى ابن عباس فقط والبغوي من أئمة الحديث حيث يفيد هذا أنه لم يثبت عنده صدور ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وهذا فضلا عن أن مسند الطبراني لا يعد من كتب الأحاديث الصحيحة. وليس هناك فيما اطلعنا عليه حديث صحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في ماهية اللوح. والحديث الذي أوردناه في سياق كلمة القلم في سورة العلق والذي رواه الترمذي وأبو داود عن عبادة بن الصامت لم يذكر اللوح وإنما ذكر القلم وذكر أن الله أمره أن يكتب ما هو كائن. ومهما يكن من أمر فإننا نقول إن القرآن لم يحتو أي بيان عن ماهية اللوح ومدى الجملة. وأنه ليس هناك أثر نبوي صحيح في ذلك وهما المصدران اللذان الجز الثاني من التفسير الحديث 11

يجب الوقوف عندهما في مثل هذه الأمور الغيبية. وليس فيما قيل وروي عن غير النبي صلّى الله عليه وسلّم ما يمكن أن تطمئن به النفس باستثناء ما روي عن كعب من أن معنى «أم الكتاب» التي يذكرها المفسرون كمرادفة للوح هو علم الله ما هو خالق وما خلقه عاملون. والإيمان بما جاء في القرآن عن الأمور الغيبية واجب. ومع إيماننا بذلك فلا نرى ما يمنع الأخذ بتفسير كعب لأم الكتاب ولا القول إن الله عز وجل منزه عن الحاجة إلى تثبيت كلامه وقرآنه وعلمه ومقدراته وكتابتها ونقشها على ألواح مادية. وإنه لما كان الناس قد اعتادوا أن يكتبوا وينقشوا ما يريدون تثبيته وحفظه من الأحداث والأفكار على الألواح بالأقلام أو ما يقوم مقامها ولما كانت حكمة التنزيل جرت على استعمال مألوفات البشر في الدنيا في التعبير عن المشاهد الأخروية والغيبية فالذي يتبادر لنا أولا إن اللوح والقلم هما من هذا الباب للتعبير عن علم الله الأزلي الأبدي لكل كائن. وثانيا إن من حكمة استعمال كلمة اللوح في صدد القرآن قصد التقريب والتشبيه، وبيان كون القرآن محفوظا حفظا تاما لا يمكن أن يطرأ عليه تبدل ولا تحريف. وفي سورة الواقعة آيتان عن القرآن مشابهتان لآيتي سورة البروج اللتين نحن في صددهما مع اختلاف في اللفظ وهما هاتان: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) فكريم هنا مقابل مجيد في آيتي البروج. وفي «كتاب مكنون» مقابل «في لوح محفوظ» وهذا الاختلاف اللفظي مع الاتفاق في المعنى يؤيد ما قررناه حيث يمكن أن يكون الكتاب واللوح في معنى واحد ومعرض واحد بقصد التقريب والتشبيه وتوكيد الحفظ التام، والله أعلم.

سورة التين

سورة التين في السورة تنويه بتكوين الإنسان ومواهبه، وتنبيه إلى ما يمكن أن يتردى إليه من الانحطاط بالانحراف عن الإيمان والعمل الصالح، وتوكيد بالجزاء الأخروي واتساق ذلك مع عدل الله وحكمته، والسورة عامة التوجيه والعرض. وقد روت بعض الروايات أنها مدنية، غير أن أكثر الروايات متفقة على مكيتها وأسلوبها يؤيد ذلك. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة التين (95) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) . (1) طور سينين: لغة في طور سيناء وهو الطور الكائن في شبه جزيرة سيناء الذي كلّم الله فيه موسى عليه السلام كما جاء في القرآن. (2) البلد الأمين: مكة. ووصف بالأمين للإشارة إلى تحريم سفك الدم فيه وكون كل من يدخله آمنا كما جاء في القرآن. (3) أحسن تقويم: أحسن تكوين وأتمه. في السورة قسم رباني بأن الله قد خلق الإنسان في أحسن تكوين وأقومه وأتمه بما أودعه الله فيه من مواهب وقوى ثم ردّه إلى أسفل سافلين باستثناء الذين

آمنوا وعملوا الصالحات الذين لهم عنده الأجر الدائم. وانتهت آياتها بسؤال استنكاري عن السبب الذي يحمل الناس على التكذيب بالجزاء الأخروي بعد هذا البرهان وبجواب رباني بأسلوب السؤال بأن الله هو أحكم الحاكمين وأن صفته هذه تقتضي ذلك الجزاء. ولقد تعددت الأقوال المعزوة إلى ابن عباس وعلماء التابعين كالحسن وعكرمة ومقاتل ومجاهد وعطاء. أولا: في مدلول وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، حيث قيل إنهما الثمرتان بذاتهما وقد أقسم الله بهما لكثرة منافعهما وحيث قيل إن التين جبل أو مسجد في دمشق والزيتون جبل أو مسجد في بيت المقدس. وحيث قيل إن المقصود منابتهما في دمشق وبيت المقدس على اعتبار أنهما قد اشتهرا بهما. ولا حظ بعض المفسرين أن طور سينين مهبط وحي موسى عليه السلام والبلد الأمين مهبط وحي محمد صلّى الله عليه وسلّم وأن فلسطين كانت مشهورة بكروم زيتونها وتينها وهي مهبط وحي عيسى عليه السلام وأن التساوق يقضي أن يكون المقصود هو فلسطين المشهورة بتينها وزيتونها. وفي هذا وجاهة ظاهرة «1» . ثانيا: في مدلول أَسْفَلَ سافِلِينَ حيث قيل إنها الشيخوخة التي يرتد فيها الإنسان إلى أرذل العمر بعد ما كان عليه من القوة العقلية والجسمية. وحيث قيل إنها النكال الأخروي الذي يكون نصيب المنحرفين عن سبيل الله من الناس. واستثناء

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي والخازن والقاسمي. ولقد ذكرت أقوال أخرى فيها غرابة تركناها واكتفينا بما هو وارد ومشهور. وفي صدد شهرة فلسطين بكرومها منذ القديم وردت في الإصحاح السادس من سفر التثنية من أسفار العهد القديم المتداولة هذه العبارة في وصف أرض كنعان (مدن عظيمة لم تبنها وبيوت مملوءة خيرا لم تملأها وكروما وزيتونا لم تغرسها) . وفي كتاب التفسير والمفسرون للذهبي أن بعض مفسري الشيعة أوّلوا كلمة (الزيتون) بعلي وبعضهم بالحسين رضي الله عنهما. (ج 2 ص 69 و 70) وهذا من غرائب تأويلاتهم.

الذين آمنوا وعملوا الصالحات يسوغ القول إنه أريد أن يقال إن الله عز وجل قد خلق الإنسان على أحسن تقويم عقلي وجسمي وجعله موضع اختبار فمن آمن وعمل صالحا كان له الأجر الذي لا ينقطع من الله ومن شذّ عن ذلك ارتكس إلى أحط الدركات في الدنيا والآخرة. ونسبة رد الإنسان الشاذ إلى أسفل سافلين إلى الله لا ينقص القول إن الله قد جعله موضع اعتبار ورتب ما يستحقه على اختباره على ضوء آيات قرآنية عديدة منها آيات سورة البقرة هذه: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27) . أما الآيتان الأخريان فهما نتيجة للمقدمة أو البرهان الذي احتوته الآية الرابعة وهو خلق الله الإنسان في أحسن تقويم. والبرهان مستحكم في السامعين لأنهم يؤمنون به على ما حكته عنهم آيات عديدة منها آية سورة يونس هذه: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) وآية سورة الزخرف هذه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) وآية سورة الزخرف هذه أيضا: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) والسورة كما هو ظاهر من نوع السور العامة المبشرة المنذرة وهي قريبة المدى إلى سورة العصر. ولقد قلنا في التعريف أن الْبَلَدِ الْأَمِينِ هي مكة التي جعلها الله أمانا للناس وحرم سفك الدم فيها. وفي سورة النمل جملة فيها هذا المعنى صريح أكثر وهي: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها [91] . واسم مكة ورد في آية سورة الفتح هذه: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ [24] وفي القرآن اسم آخر لمكة وهو بكة وقد ورد في آية

سورة آل عمران هذه: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) . وسنزيد مسألة أمن مكة وحرمها شرحا في سياق تفسير سورة قريش التي تأتي بعد هذه السورة.

سورة قريش

سورة قريش في السورة تذكير لقريش بنعم الله عليهم ودعوة لهم إلى عبادته وقد روي أنها مدنية، غير أن أسلوبها يلهم مكيتها كما أن أكثر الروايات متفقة على ذلك. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) . (1) الإيلاف: بمعنى التهيؤ والاتجاه أو الألفة والاعتياد أو الإعداد ومن أوجه الأقوال في اللام التي بدئت بها السورة أنها متعلقة بكلمة فليعبدوا وأن في الآيات تقديما وتأخيرا مقدرين. ونصب (رحلة) هو بمصدر إيلافهم. (2) البيت: كناية عن الكعبة. وفي سورة المائدة آية ذكر البيت فيها بدلا من الكعبة وهي: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ [97] . في السورة هتاف بقريش أن يعبدوا الله ربّ البيت الذي هم في جواره. فقد يسّر الله لهم ببركته الأمن من الخوف والوقاية من الجوع كما يسّر لهم رحلتي الشتاء والصيف اللتين كانوا يتهيأون لهما كل عام ويعدون لهما العدة ويجنون منهما أسباب الرخاء والرفاه، فمن واجبهم شكر أفضاله عليهم بالإيمان وعبادته وحده.

تعليق على قريش والبيت والرحلات التجارية

تعليق على قريش والبيت والرحلات التجارية واختصاص قريش بالذكر إما لأنهم أول من وجهت إليهم الدعوة أو لأنهم كانوا قدوة العرب بسبب جوارهم وسدانتهم للكعبة التي كانت تسمى بيت الله وكانت محجا للعرب أجمع والتي كان لهم بسببها المركز المحترم بين العرب، أو لأن زعماء قريش وأثرياءهم كانوا يقفون متمردين في وجه الدعوة ويحولون دون استجابة الناس إليها، وينالون بالأذى من قدروا عليه من المستجيبين إليها، ومن الجائز أن يكون كل هذا مما قصد إليه بهذا الاختصاص الذي فيه شيء من التنديد كأنما يقال لهم إن عليكم بدلا من أن تفعلوا ذلك أن تكونوا أولى الناس بالاستجابة إلى دعوة الله شكرا على نعمته واعترافا بفضله. ولقد كانت قريش تدرك خطورة مركزها وتدرك أنها مدينة به وبما تتمتع به من خيرات وبركات وأمن ورغد رزق للكعبة، على ما يمكن أن تدل عليه آية سورة المائدة هذه: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) وآية سورة القصص هذه: وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) وآية سورة العنكبوت هذه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وآيات سورة الحج هذه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما

رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) . ولقد ظل معظم العرب من بدو وحضر منقبضين عن الدعوة إلى السنّة الهجرية الثامنة فلما يسّر الله سبحانه وتعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم فتح مكة ودخل أهلها في الإسلام أخذ الناس يدخلون في دين الله أفواجا على ما جاء في سورة النصر: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3) حيث يبدو من هذا أثر الموقف الذي وقفته قريش بزعامة سادتها وكبرائها وأغنيائها في سيرة الدعوة الإسلامية الذي يدل على ما كان لها من خطورة في المجتمع العربي، وعلى هدف هذه السورة التي اختصتهم بالهتاف وذكرتهم بأفضال الله عليهم ونبهتهم إلى وجوب مقابلة ذلك بالشكر والاستجابة لدعوته. ولقد تعددت الأقوال في معنى قريش واشتقاقها، فهناك قول بأن هذا الاسم مقتبس من اسم دابة بحرية قوية تظهر في سواحل البحر الأحمر الحجازية وهي القرش. وهناك قول بأنه من التقرش بمعنى التجمع، أو التقرش بمعنى التجارة، وهناك قول بأن هذا الاسم أطلق على بطون قريش قبل قصي الجد الرابع للنبي صلّى الله عليه وسلّم الذي اجتمعت هذه البطون تحت لوائه، والإجماع منعقد على أن هذه القبيلة تمتّ إلى عدنان أولا ومضر ثانيا من الأجداد الأولين. وقد كان من المتداول قبل البعثة النبوية أن عدنان من أنسال إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام الذي أسكنه أبوه في وادي مكة وتزوج من جرهم إحدى قبائل العرب فيه. وإسكان إبراهيم لابنه إسماعيل في وادي مكة مشار إليه في القرآن في آية سورة إبراهيم هذه: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) . ولقد ذكر في الإصحاح السادس عشر من سفر التكوين المتداول اليوم وهو أول أسفار العهد القديم أن إبراهيم عليه السلام صرف إسماعيل مع أمه تلبية لطلب سارة زوجته التي غارت منهما وإن هاجر تاهت مع ابنها في برية بئر سبع ونفد الماء

منها وخشيت أن يموت الصبي من العطش وبكت ورفعت صوتها فأرسل الله إليها ملاكا طمأنها ووعدها بأنه سيجعله أمة كبيرة وكشف لها عن بئر ماء. وأن الله كان مع الغلام وأمامه مع أمه في برية فاران واتخذت له أمه امرأة من أرض مصر. وباستثناء الخبر الأخير فإن نفس القصة مما كان متداولا في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن جملة ذلك أن البئر الذي كشفه لها الملاك هو بئر زمزم أو ماء زمزم. وعلماء المسلمين بناء على ذلك يفسرون فاران بوادي مكة. ويوردون بعض الأدلة على صحة تفسيرهم. والنص القرآني يؤيد ذلك. وسفر التكوين وسائر الأسفار المتداولة الأخرى قد كتبت بعد موسى عليه السلام بمدة طويلة وطرأ عليها تحريفات وتشويهات متنوعة على ما سوف نشرحه في مناسبات أخرى. والواجب على المسلم أن يؤمن بما جاء في القرآن. وليس هناك أي دليل تاريخي يقيني أو أي دليل عقلي صحيح يناقضه «1» . ونرجح إلى هذا أنه كان في أيدي اليهود أسفار ذكرت ما هو متطابق مع القرآن الكريم وضاعت كما ضاع كثير غيرها على ما سوف نشرحه كذلك في مناسبة آتية. ومهما يكن من أمر فإن اسم قريش كان يطلق على القبيلة المسماة به قبل البعثة بمدة غير قصيرة على ما تؤيده الروايات وعلى ما يلمح في سورة قريش التي نحن في صددها. ولقد كانت قريش قبل البعثة مؤلفة من عدة بطون، وكان في مكة من رؤساء بطون قريش البارزة حكومة أو شبه حكومة أو حكومة شيوخ، لكن بطن أو عشيرة مركز معين فيها ينتقل في زعماء العشيرة أو البطن جيلا بعد جيل، ومن هذه المراكز ما هو ديني مثل سدانة الكعبة وحجابتها وسقاية الحج ورفادته (ضيافته وقراه) ومنها ما هو سياسي مثل اللواء وقيادة الجيش والسفارة ومنها ما هو اجتماعي مثل الأنساب والأشناق أي تأمين الديات التي تطلب من بطون القبيلة،

_ (1) انظر تفسير سورة التين في تفسير القاسمي وتفسير سورة إبراهيم في تفسير البغوي والطبري وابن كثير، وانظر الفصل الأول من كتابنا عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيئته قبل البعثة.

وكان بين أصحاب المراكز تضامن وتساند، وكان لهم دار ندوة قرب الكعبة يجتمعون فيها للمداولة في مختلف شؤون القبيلة، وقد كان هذا مع كونهم أهل حرم الله وسدنته وسقايته وعمارته مما جعل لهذه القبيلة خطورة واحتراما بين سائر العرب، وسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم من أحد بطون قريش البارزة وهو بطن هاشم. وكان عمه العباس صاحب مركز هذا البطن وكان يتولى سقاية الحج أي أمر توفير المياه للحجاج في موسم الحج «1» . والمتبادر أن تعبير «البيت» والإشارة القريبة إليه وتذكير قريش بما كان من أفضال الله عليهم متصل بتلك الخطورة وإدراكها، والتعبير يلهم أن قريشا كانوا يعتقدون أن الكعبة بيت الله، والآيات التي أوردناها تلهم أن العرب كانوا يشاركون قريشا في هذه العقيدة. ويحجون الكعبة وهي المرادف القرآني للبيت على ما جاء في الآية [97] من سورة المائدة. ويحترمون حرمها وقدسيتها وأمنها على أساس هذه العقيدة. وكانت الحرمة والقدسية شاملة لجميع منطقة مكة على ما تفيده الآيات العديدة التي منها آية سورة النمل هذه: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) ومنها آيات سورة القصص [57] وسورة العنكبوت [67] التي أوردناها آنفا. وعلى هذا فإن الكعبة وحجها كان نوعا ما مظهرا لوحدة عربية دينية قبل البعثة. وقد اقتضت حكمة الله عز وجل أن يبقى تقليد الحج وحرمة الحرم المكي ومعظم طقوسه بعد تنقيتها من شوائب الشرك في الإسلام بسبب ذلك على ما هو المتبادر والله أعلم. والكعبة غرفة مثمنة الأضلاع تقوم في وسط الحرم المكي. ولها باب مرتفع عن الأرض بنحو متر ثم يرتفع البناء إلى نحو خمسة أمتار ويقوم السقف على ستة أسطوانات مرمرية. ويبلغ مسطحها الداخلي نحو ثلاثين مترا، والبناء الحاضر هو بناء إسلامي وقد تجدد ورمّم في الإسلام أكثر من مرة. وهو مكان بناء قديم وعلى صورته التي كان عليها قبل البعثة. وهذه الصورة ليست هي القديمة الأولى وإنما

_ (1) انظر كتابنا عصر النبي عليه السلام وبيئته قبل البعثة ص 215 وما بعدها.

كانت تجديدا لها أيضا في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل بعثته حيث تروي روايات السيرة أن البناء القديم تصدّع فهدمه القرشيون وجددوه. ومما روته هذه الروايات أن زعماء قريش اختلفوا على من يضع الحجر الأسود في ركنه المعتاد وهو حجر صواني لامع بقدر بلاطة عادية كانوا يقدسونه ويستلمونه أو يقبلونه عند الطواف حول الكعبة فحكموا النبي صلّى الله عليه وسلّم في الأمر، لأنه كان مشهورا عندهم بالأمانة ورجحان العقل فوضعه في رداء، وطلب من الزعماء أن يحملوا الرداء ويرفعوه جميعا حتى إذا بلغ مستوى مكانه وضعه فيه بيده الشريفة «1» . وروايات المفسرين متعددة في أصل هذا الحجر حيث يذكر بعضها أن الحجر من زمن إبراهيم وبعضها أنه هدية من السماء. وليس هذا واردا في كتب الأحاديث الصحيحة. والاحتمال الأقوى أن يكون قطعة من نيزك سقط من السماء على أرض مكة فاعتبروه هدية سماوية وقدسوه ووضعوه في ركن بيت عبادتهم المقدس. وقد هدم البناء من قبل عبد الله بن الزبير لما أعلن خلافته في سنة 62 هـ ووسعه وأدخل فيه المقام المسمّى بحجر إبراهيم وجعل له بابين لأن هناك حديثا رواه البخاري عن عائشة قالت: «قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ألم تري أن قومك بنوا الكعبة واقتصروا عن قواعد إبراهيم. فقلت يا رسول الله ألا تردّها على قواعد إبراهيم قال لولا حدثان قومك بالكفر. فقال ابن عمر لئن كانت عائشة سمعت هذا من النبي صلّى الله عليه وسلّم ما أراه ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلّا أن البيت لم يتمّم على قواعد إبراهيم» «2» . وفي الجزء الأول من طبقات ابن سعد ورد هذا النص مع زيادة جاء فيه: «فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فهلم أريك ما تركوا منه فأراها قريبا من سبع أذرع في الحجر، قالت عائشة وقال رسول الله: ولجعلت لها بابين موضوعين في الأرض شرقا وغربا» «3» . ثم تصدع في زمن ابن الزبير نتيجة لضرب مكة بالمجانيق من قبل الحجاج

_ (1) انظر طبقات ابن سعد ج 1 ص 126- 128. (2) التاج ج 4 ص 43. (3) الطبقات الكبرى ج 1 ص 129.

قائد عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي الذي قاد حملة لإرغام ابن الزبير، حيث كان يعتبر خارجا متمردا على الدولة. فلما تمت الغلبة له على ابن الزبير هدم الكعبة وأعاد بناءها إلى الصورة التي كانت عليها قبيل البعثة، ثم في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم. وتصدع البناء ورمم وجدد بعد ذلك وكان يعاد إلى هذه الصورة التي هو عليها الآن. وهناك أحاديث أخرى وردت في الكتب الخمسة في صدد الكعبة غير التي أوردناها فيها بعض الصور التي كانت وتأييد لما ذكرناه استنادا إلى الروايات. منها حديث رواه البخاري وأبو داود عن ابن عباس قال: «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما قدم أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة فأمر بها فأخرجت فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قاتلهم الله أما والله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قطّ. فدخل البيت فكبّر في نواحيه» «1» . وحديث رواه الخمسة عن ابن عمر قال: «دخل رسول الله البيت هو وأسامة وبلال وعثمان بن طلحة فأغلقوا عليهم فلما فتحوا كنت أول من ولج فلقيت بلالا فسألته هل صلّى فيه رسول الله؟ قال: نعم بين العمودين اليمانيين وفي رواية جعل عمودا عن يساره وعمودين عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ثم صلّى» «2» . وحديث رواه أصحاب السنن وصححه الترمذي عن عائشة قالت: «كنت أحبّ أن أدخل البيت وأصلّي فيه فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيدي فأدخلني في الحجر فقال صلّي في الحجر إن أردت دخول البيت فإنما هو قطعة من البيت فإنّ قومك اقتصروا حين بنوا الكعبة فأخرجوه من البيت» «3» . وحديث رواه الخمسة عنها قالت: «سألت رسول الله عن الجدار أمن البيت هو قال نعم، قلت فلم يدخلوه في البيت قال إن قومك قصّرت بهم النفقة قلت فما شأن بابه مرتفعا، قال فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا. ولولا أن

_ (1) التاج ج 2 ص 162- 163. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه ص 163- 164.

قومك حديث عهدهم في الجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل الجدر في البيت وأن ألزق بابه بالأرض. وفي رواية لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا. باب يدخلون منه وباب يخرجون منه وزدت فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشا اقتصرتها حيث بنت الكعبة» «1» . أما بناء الكعبة (البيت) وقدسيتها وجعل حرمها آمنا لا يقع فيه قتال ولا يسفك فيه دم. وحجها فالقرآن يقرر أن ذلك يرجع إلى عهد إبراهيم عليه السلام الذي يخمن وجوده في القرن الثالث والثلاثين أو الرابع والثلاثين قبل الهجرة النبوية. والقرن التاسع عشر أو العشرين قبل الميلاد المسيحي على ما تفيد آيات سورة الحج [25- 28] التي أوردناها قبل وآيات سورة البقرة هذه: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) . وآيات سورة آل عمران هذه: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) . والمرجح أن العرب كانوا يعتقدون ذلك قبل البعثة ويتناقلونه جيلا عن جيل ويشيرون إلى علامات موجودة في حرم الكعبة تدل عليه. وهي ما عبر عنه في آيات

_ (1) التاج ج 2 ص 163- 164.

البقرة وآل عمران بجملة مَقامِ إِبْراهِيمَ وجملة آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ حيث كانوا يرون أثرا في حجر كبير لقدم إنسانية ويتداولون أنه الحجر الذي كان يقف عليه إبراهيم فيما كان يرفع قواعد البيت مع إسماعيل على ما ذكرته آيات البقرة وانطبع عليه أثر قدمه فسموه مقام إبراهيم، وقد أقر القرآن التسمية وأمر المسلمين باتخاذه مصلى. ولقد أشار ديودور الصقلي من أهل القرن الأول قبل الميلاد إلى الكعبة في سياق كلام عن الأنباط حيث قال: «ووراء أرض الأنباط بلاد فيها هيكل يحترمه العرب كافة احتراما كبيرا» «1» وحيث يدل هذا على تقدم وجود الكعبة على زمنه بمدة طويلة وعلى ما كان لها من احترام شامل. والقرآن يقرر أنه أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ آل عمران [96] . والمؤولون «2» يؤولون الجملة بأنها أول بيت قام في الأرض لعبادة الله. ويروي المفسرون «3» في سياق ذلك روايات كثيرة عن هذه الأولية. منها أن الله قد خلق الكعبة قبل الأرض بألفي سنة إذ كان عرشه على الماء ودحيت الأرض من تحته. وإن الله بعث الملائكة فبنتها على مثال بيت لعبادتهم في السماء اسمه البيت المعمور. وإنها كانت موجودة قبل آدم أو أن آدم هو أول من بناها بأمر الله على مثال ذلك البيت وطاف بها. وأنها رفعت زمن الطوفان إلى السماء أو هدمت به فأمر الله إبراهيم وإسماعيل بإعادة بنائها في مكانها الذي كشف الله لهما عنه وعلى مثالها الأول. وهناك من قال إن هذه الأولية تعني كون الكعبة أول مكان جعل للناس قبلة ومحجا وأمانا لمن يدخله أو أول بيت وضعت فيه البركة. وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الأحاديث المعتبرة وإن كان القولان الأخيران هما على ما يتبادر الأكثر ورودا ووجاهة.

_ (1) انظر تاريخ العرب قبل الإسلام لجرجي زيدان ص 244. (2) انظر تفسير آيات البقرة وآل عمران والحج المذكورة وآيات سورة إبراهيم [25- 40] في كتب تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والقاسمي وغيرهم. (3) المصدر نفسه.

وهناك حديث رواه الشيخان والنسائي عن أبي ذر قال: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أول مسجد وضع في الأرض، قال المسجد الحرام، قلت ثم أيّ قال المسجد الأقصى، قلت كم بينهما؟ قال أربعون عاما. ثم الأرض لك مسجد فحيثما أدركتك الصلاة فصلّ» «1» . والمسجد الأقصى تسمية إسلامية والمراد بها لغة المسجد البعيد جدا. والمتفق عليه أن المقصد منها مسجد بيت المقدس، وقد قام على أنقاض معبد اليهود القديم الذي دمره الرومان في القرن الأول بعد الميلاد «2» . ولم يكن مسجد قائم في مكانه حينما نزل القرآن فتكون التسمية على اعتبار ما كان قبل وبعد. والمعروف المتداول أن الذي أنشأ ذلك المعبد هو سليمان بن داود عليهما السلام «3» الذي عاش على وجه التخمين القريب في القرن العاشر قبل الميلاد أي بعد الزمن الذي يخمن أن إبراهيم عاش فيه بألف عام. وهذا يثير إشكالا بالنسبة للحديث كما هو المتبادر. ويزداد هذا الإشكال بحديث رواه النسائي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن سليمان بن داود عليهما السلام لمّا بنى بيت المقدس سأل الله عزّ وجلّ خلالا ثلاثة حكما يصادف حكمه فأوتيه. وملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه وسأل الله تعالى حين فرغ من بنائه ألا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمّه» «4» حيث ينطوي في الحديث خبر نبوي بأن الذي بنى المسجد هو سليمان عليه السلام لأن الفقرة الثالثة قوية الدلالة على أن المراد بها هو المسجد. ولقد حاول ابن القيم في كتابه زاد المعاد أن يحلّ الإشكال فقال إن المستشكلين لا يعرفون أن سليمان ليس هو الباني الأول للمسجد وإنما هو مجدد له وأن الباني الأول هو يعقوب حفيد إبراهيم عليهما السلام وتكون المسافة بين

_ (1) التاج ج 1 ص 209. [.....] (2) انظر كتابنا الجزء الرابع من تاريخ الجنس العربي ص 241 وما بعدها. (3) انظر الإصلاحات 2 و 3 و 4 و 5 و 7 و 8 و 9 من سفر الملوك الثالث في الطبعة الكاثوليكية والأول في الطبعة البروتستانتية. (4) التاج ج 1 ص 210.

الجد وحفيده صحيحة كما في الحديث «1» . ولم يذكر ابن القيم من أين استقى هذا والراجح أنه قرأ سفر التكوين المتداول اليوم. وفي الإصحاح (33) من هذا السفر خبر بناء يعقوب مذبحا للرب وأنه دعاه باسم القدير إله إسرائيل في قطعة حقل اشتراها عند شليم مدينة أهل شليم، وشليم هذه كانت عاصمة ملك اسمه ملكيصادق على ما جاء في الإصحاح (14) من السفر المذكور. وشراح الأسفار يراوحون الظن في شليم بين أن تكون مدينة أورشليم التي عرفت باسم بيت المقدس أو مدينة يقوم مكانها اليوم قرية اسمها سالم قريبة من نابلس. والظاهر أن ابن القيم رجح الظن الأول واعتبر يعقوب هو المنشئ الأول لمسجد بيت المقدس الذي سمي في القرآن والحديث المسجد الأقصى. وعلى كل حال فإن من واجب المسلم الإيمان بكل ما يثبت صدوره عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذا يشمل حديث أبي ذر إذا كان صادرا يقينا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وليس فيه ما يمنع ذلك. وليس هناك من دليل تاريخي يقيني وعقلي صحيح ينفي ما جاء فيه. وفيه تساوق مع كلام الله الذي يقرر السبق والأولوية للبيت. ومن الحكمة التي قد تلمح فيه بالإضافة إلى ذلك توكيد فضل البيت الذي صار حجه واستقباله في الصلاة من أركان دين المسلمين وصلاتهم على كل بيت آخر من بيوت الله تعالى. ولقد روى الشيخان والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في سواه، إلّا المسجد الحرام» «2» . وفي رواية ابن ماجه: «وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مئة ألف صلاة فيما سواه» «3» مما فيه توكيد لذلك الفضل الذي تلمح حكمة توكيده في الحديث الأول، والله تعالى أعلم. وهناك أحاديث وروايات وشروح أخرى متصلة بظروف وكيفية بناء الكعبة

_ (1) انظر تفسير آية سورة آل عمران 96 في تفسير القاسمي. (2) التاج ج 1 ص 210. (3) المصدر نفسه. الجز الثاني التفسير الحديث 12

لأول مرة من قبل إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وبمناسك الحج جاءت في سياق آيات أخرى في سور أخرى فرأينا أن نؤجلها إلى مناسباتها. وجملة وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ تعني ما كان يتمتع به أهل مكة من أمن بسبب وجود بيت الله في مدينتهم. وهو ما ذكر في آيات القصص [67] والنمل [91] والبقرة [125- 129] وآل عمران [97] التي قرر بعضها أن هذا الأمن كان من لدن إبراهيم عليه السلام حين أنشأ الكعبة حيث دعا الله بأن يجعل البلد آمنا. وقد جاء هذا الدعاء أيضا في آية سورة إبراهيم هذه: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) . ولقد كان من مظاهر هذا الأمن أن كل إنسان يكون فيه آمنا على دمه وماله من غيره مهما كان بينه وبين هذا الغير من عداء وإحن وثارات وسواء أكان من أهل مكة أم غريبا عنها. وكان لمكة أو لما كان يسمى الحرم حدود معينة تشمل جميع منطقة مكة إلى مسافة أميال من جميع جوانبها. ولقد كان زعماء مكة يدركون في قرارة أنفسهم أن رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم حق وهدى ولكنهم كانوا يخافون أن تنسف هذا التقليد الذي كانوا يتمتعون في ظله بالأمن والرفاه فيما تنسفه من عادات جاهلية فقالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم ما حكته عنه آية القصص [57] : وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا وقد طمأنتهم الآية على ذلك إذ قالت: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ القصص [57] لأن حكمة الله اقتضت أن تبقى معظم تقاليد الحج ومن جملته أمن مكة بسبب وجود بيت الله فيها على ما ذكرناه قبل قليل. ولقد أشارت آية في سورة العنكبوت إلى نفس المعنى الذي أشارت إليه هذه الجملة من آية القصص وهي: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) . ولقد وقعت بعض الأحداث التي اعتدي فيها على بعض الناس في حرم مكة أي أخل بها في تقليد أمن الحرم فنشبت بسبب ذلك وبسبيل تأديب المخلّين حروب عرفت بحروب الفجار أو أيام الفجار وسميت بهذا الاسم لأنها وقعت في منطقة

حرم مكة وفي الأشهر الحرم وقد شهد أحد الأيام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع أعمامه وكان ينبل عليهم أي يرد عليهم نبل عدوهم إذا رموهم بها على ما رواه ابن هشام عن أبي عبيدة النحوي عن أبي عمرو بن العلاء «1» . وقد روى ابن هشام رواية أخرى في حادث متصل بأمن مكة شهده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاء فيها أن بني هاشم وبني عبد المطلب وبني أسد بن عبد العزى وبني زهرة بن كلاب وبني تميم بن مرة اجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلّا قاموا معه وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته وسمّوا حلفهم هذا حلف الفضول. وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم ممن شهد هذا الحدث. وقد روى ابن هشام هذه الرواية عن زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن اسحق. وأورد في سياقها حديثا عن محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ التيمي أنه سمع طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري يقول: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم. ولو أدعى به في الإسلام لأجبت» «2» . وهناك أحاديث نبوية عديدة صحيحة في حرمة بيت الله ومكة التي هو فيها. من ذلك ما جاء في حديث رواه مسلم وأبو داود عن جابر بن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا» «3» . وحديث رواه الخمسة عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله عزّ وجلّ

_ (1) انظر الجزء الرابع من تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي ص 372- 374 وابن هشام ج 1 ص 184. (2) ابن هشام ج 1 ص 133 وانظر طبقات ابن سعد ج 1 ص 108- 110 حيث ذكر خبر اشتراك النبي صلّى الله عليه وسلّم في أحد أيام الفجار وذكر في رواية هذا الخبر قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «قد حضرته ورميت مع عمومتي فيه بأسهم وما أحب أني لم أكن فعلت» وذكر خبر شهوده عهد حلف الفضول وقوله: ما أحب أن لي بحلف حضرته بدار ابن جدعان حمر النعم وإني أغدر به ولو دعيت به لأجبت» . وروى ابن سعد هذين الخبرين عن راو عن راو إلى حكيم بن حزام أحد أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. (3) التاج ج 2 ص 143.

حبس عن مكة الفيل وسلّط عليها رسوله والمؤمنين. ألا وإنها لم تحلّ لأحد قبلي ولن تحلّ لأحد بعدي. ألا وإنها أحلّت لي ساعة من النهار. ألا وإنها ساعتي هذه حرام. لا يخبط شوكها ولا يعضد شجرها وزاد في رواية ولا ينفّر صيدها ولا يلتقط ساقطتها إلّا منشد» «1» . وحديث رواه الشيخان عن ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة» «2» وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي شريح العدوي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ مكة حرّمها الله ولم يحرّمها الناس فلا يحلّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة. فإن أحد ترخّص بقتال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيها فقولوا له إنّ الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنّما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس وليبلّغ الشاهد الغائب» «3» . ورحلتا الشتاء والصيف هما رحلتان تجاريتان كان القرشيون يقومون بهما: واحدة إلى اليمن جنوبا في الشتاء، وأخرى إلى الشام شمالا في الصيف. وكانوا يصلون إلى بلاد الصومال والحبشة في رحلة الجنوب وإلى فلسطين ومصر وربما إلى بلاد العراق وفارس في رحلة الشمال على ما ذكرته الروايات العربية «4» ، وأشارت إلى شيء منه آيات سورة الصافات هذه في معرض ذكر مساكن قوم لوط التي كانت في تخوم فلسطين: وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) وكانت هذه الرحلات وسائل عظيمة لتنمية ثروة القرشيين واكتسابهم المهارة التجارية واقتباسهم كثيرا من معارف العالم المتحضر الذي كان يحيط بالجزيرة ووسائل حضارته ومعيشته. وكانت مواسم الحج والأسواق التي كانت تقام فيها مجالا واسعا لأعمالهم التجارية أيضا فضلا عما كان يعقد في هذه

_ (1) التاج ج 2 ص 157- 159. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه. (4) انظر كتاب تاريخ حياة عمرو بن العاص للدكتور حسن إبراهيم ص 24 وما بعدها.

المواسم والأسواق من مجالس قضائية وندوات شعرية وخطابية يشهدها وفود من مختلف أنحاء جزيرة العرب وأطرافها التي كان ينتشر فيها العرب ويقوم لهم فيها ممالك، ونعني بلاد الشام حيث كان فيها مملكة الغساسنة وبلاد العراق حيث كان فيها مملكة المناذرة أو اللخميين. وكل هذا مما جعل كذلك لقريش خطورتهم واحترامهم ومما ساعدهم على الاستنارة والتفوق الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. فالدعوة المحمدية انبثقت في هذا الوسط الذي كانت له زعامة موطدة وخطورة مفروضة وحرمات محترمة ومصالح متنوعة في الحجاز بنوع خاص، وفي خارجها بنوع عام. وقد توهم الزعماء في هذه الدعوة تهديدا لزعامتهم وخطورتهم ومصالحهم وحرماتهم، فكان منهم المواقف المناوئة التي حكت فصول القرآن عنها الشيء الكثير فاقتضت حكمة التنزيل توجيه الهتاف في هذه السورة إلى قريش وزعمائهم في الجملة للكف عنها وشكر الله على نعمه وأفضاله التي يسّرها لهم والاستجابة لدعوته وعبادته بدلا منها.

سورة القارعة

سورة القارعة في السورة إنذار بهول القيامة وبيان مصير المحسنين والمسيئين فيها، وأسلوبها عام وليس فيها إشارة إلى موقف معين، فهي من نوع سور الليل والشمس والأعلى وأخواتها. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة القارعة (101) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11) . (1) القارعة: التي تقرع الآذان لشدتها، وهي كناية عن يوم القيامة، وقد ذكرت بهذا المعنى بصيغة أصرح في سورة الحاقة كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ [4] . (2) مبثوث: منتشر. (3) العهن: الصوف. (4) أمّه: قيل إنها على مفهومها المعروف وإنها هنا على مألوف خطاب العرب. إذا هلك امرؤ قالوا هوت أمه ثكلا وحزنا، وقيل إنها على مضاف إليه محذوف وهو أم رأسه، ولعلها بمعنى أمامه أو مصيره. (5) هاوية: حفرة عميقة.

تعليق على تعبير الموازين وثقلها وخفتها في الآخرة

أسلوب الآيتين الأوليين استرعائي إلى يوم القيامة للإنذار بهوله وشدته، وهو من أساليب النظم المتكرر في متون السور وفي مطالعها وتعبير وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ بسبيل تعظيم أمرها وهولها. والآيتان التاليتان لهما احتوتا وصفا لما يكون عليه الناس والجبال في هذا اليوم، بسبيل توكيد هوله وشدته أيضا. والآيات الأربع الأخيرة احتوت تصنيف الناس حسب أعمالهم حيث يكونون فريقين: فريقا موازينه ثقيلة، فمصيره الطمأنينة والعيش الرضي، وآخر خفيفة فمصيره أعماق النار الحامية. وتشبيه الناس بالفراش المبثوث والجبال بالعهن المنفوش مستمد من مألوفات الناس ومدركاتهم، فالفراش دائم الاضطراب والتحويم والانتشار، وسيكون الناس كذلك يوم القيامة من شدة القلق والرعب، والجبال معروفة بصلابتها وصخورها ورسوخها في الأرض وارتفاعها في السماء. فأريد إفهام السامعين أن أشد ما يعرفونه صلابة ورسوخا يتفكك وينحل ويصبح كالعهن المنفوش رخاوة ولينا وخفة من شدة الهول وقد تنوع وصف حالة الجبال في يوم القيامة، ومرّ من ذلك مثال في سورة المزمل. وهذا التنوع قد يدل على ما قلناه من أن القصد بهذا الوصف وأمثاله توكيد هول يوم القيامة وشدته. تعليق على تعبير الموازين وثقلها وخفتها في الآخرة وبمناسبة ورود تعبير الموازين وثقلها وخفتها في الآخرة في هذه السورة لأول مرة نقول إن ذلك قد ورد في سور أخرى منها آيات سورة الأعراف هذه: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9) وآية سورة الأنبياء هذه: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47) وآيات سورة المؤمنون هذه: فَإِذا نُفِخَ فِي

الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) . ولقد تعددت التأويلات المروية لهذه المسألة كما روي في صددها أحاديث عديدة. ومن الأحاديث حديث رواه أبو داود عن عائشة جاء فيها: «إنها ذكرت النار فبكت فقال لها رسول الله ما يبكيك فقالت ذكرت النار فبكيت فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة يا رسول الله. فقال أمّا في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحدا: عند الميزان حتّى يعلم أيخفّ ميزانه أو يثقل، وعند الكتاب حين يقال هاؤم اقرأوا كتابيه حتّى يعلم أين يقع كتابه أفي يمينه أم في شماله أم من وراء ظهره، وعند الصراط إذا وضع بين ظهري جهنّم» «1» . وحديث رواه الترمذي عن أنس قال: «سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يشفع لي يوم القيامة فقال أنا فاعل، فقلت يا رسول الله فأين أطلبك قال اطلبني أول ما تطلبني على الصّراط، قلت فإن لم ألقك على الصّراط قال فاطلبني عند الميزان، قلت فإن لم ألقك عند الميزان، قال فاطلبني عند الحوض فإني لا أخطئ هذه الثلاث المواطن» «2» . وحديث رواه الترمذي كذلك عن عبد الله بن عمرو قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم إن الله سيخلص رجلا من أمّتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا كلّ سجلّ مثل مدّ البصر ثم يقول الله أتنكر من هذا شيئا، أظلمتك كتبتي الحافظون. فيقول لا يا ربّ. فيقول أفلك عذر؟ فيقول لا يا ربّ. فيقول بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم فتخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقول احضر وزنك فيقول يا ربّ ما هذه البطاقة مع هذه السجلّات فيقول إنك لا تظلم فيقول فتوضع السجلات في كفّة والبطاقة في كفّة فتطيش السجلات وتثقل البطاقة فإنه لا يثقل مع اسم الله شيء» «3» .

_ (1) التاج الجامع ج 5 ص 342. [.....] (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه ص 342- 343.

وحديث رواه الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال اقرؤوا فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا» «1» . وحديث رواه الإمام أحمد جاء فيه: «إنّ ابن مسعود كان يجني سواكا من أراك وكان دقيق الساقين فجعلت الريح تكفؤه فضحك القوم منه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ممّ تضحكون. قالوا يا نبيّ الله من دقة ساقيه. فقال والذي نفسي بيده إنّهما أثقل في الميزان من أحد» «2» . والتأويلات المروية عن أهل التأويل أو التي ذكرها المفسرون مختلفة، فهناك من أخذ الآيات على ظاهرها مستأنسا بالأحاديث فقال إنه ينصب موازين بكفتين فتوضع الأعمال الحسنة في كفة والسيئة في كفة. ومن الذين ذهبوا هذا المذهب من قال استئناسا ببعض الأحاديث السابقة الذكر إن الذي يوضع في الكفتين كتب الأعمال، ومنهم من قال إن الأعمال ذاتها تتجسد، واستند هؤلاء إلى أحاديث أخرى منها حديث رواه مسلم عن أبي أمامة الباهلي قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه. اقرأوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صوافّ تحاجّان عن أصحابهما» «3» . وحديث أخرجه ابن ماجه عن بريدة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب يقول أنا الذي أسهرت ليلك وأظمأت نهارك» . «4» وحديث رواه الإمام أحمد عن البراء في قصة سؤال القبر جاء فيه: «فيأتي المؤمن شاب حسن اللون طيب الريح فيقول من أنت فيقول أنا عملك الصالح وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق» «5» .

_ (1) المصدر السابق نفسه ج 4 ص 153. (2) تفسير القاسمي لآيات سورة الأعراف 8- 9. (3) التاج ج 4 ص 16. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه.

على أن هناك من قال إن الميزان في الجملة القرآنية تمثيلي يعني القضاء السوي والحكم العادل وأن استعمال الميزان بهذا المعنى شائع في اللغة. وقد عزيت بعض هذه الأقوال إلى مجاهد والضحاك من علماء التابعين بل وروي عن مجاهد قوله: «ليس ميزانا وإنما هو ضرب مثل» «1» . ومع ما في هذه الأقوال من وجاهة وسداد فان جمهور المفسرين وأهل السنة قد أخذوا المذهب الأول بناء على صراحة العبارة القرآنية وما روي من أحاديث صحيحة. وعلى كل حال فإننا نقول إن الإيمان بما جاء في القرآن والأحاديث الصحيحة في هذا الأمر كما في غيره واجب على المسلم مع الإيمان بأنه لا بد من أن يكون لذكر الأمر بالأسلوب الذي ذكر به حكمة. ولما كانت حكمة التنزيل اقتضت أن تكون أوصاف مشاهد الآخرة من نعيم وعذاب وحساب مستمدة من مألوفات الناس على ما نبهنا عليه في سياق تعليقنا على الحياة الأخروية في سورة الفاتحة. ولما كان الناس في الحياة الدنيا قد اعتادوا على وزن الأشياء لمعرفة مقاديرها وقيمها واستيفاء حقوقهم فيها حسب نتيجة الوزن واعتبار ذلك هو مقتضى العدل واعتبار الشذوذ عنه ظلما وغبنا وإجحافا فقد يكون هذا من مقتضيات تلك الحكمة. وقد يكون من مقتضياتها كذلك تنبيه الناس إلى أنهم محاسبون على أعمالهم مهما كانت صغيرة أو كبيرة وأنها سوف يقايس ويوازن بين الحسنات والسيئات منها ولا ينجو إلّا من كانت أعماله حسنات أو على الأقل من كانت حسناته غالبة على سيئاته حتى يجتهدوا في الأعمال الحسنة ويتجنبوا الأعمال السيئة، والله تعالى أعلم.

_ (1) انظر تفسير آيات الأعراف والأنبياء والمؤمنون في كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والمنار والقاسمي.

تلقينات السورة جملة

تلقينات السورة جملة هذا، وفيما احتوته السورة من الإنذار الشديد والوصف القوي وبيان مصير المحسن والمسيء دعوة للناس ليرجعوا عن طريق الغواية والشرّ ويسلكوا طريق الهدى والحق في الحياة الدنيا حتى ينالوا الحياة الرضية والعيشة الهنيئة في الآخرة، وهو ما استهدفه الإنذار والتبشير القرآنيان بصورة مستمرة. كذلك فإن في الآيات الأربع الأخيرة تقريرا ضمنيا لمسؤولية الناس عن أعمالهم وأنها إنما تصدر عن كسبهم وأنهم إنما ينالون جزاءها حقا وعدلا وفاقا لها.

سورة القيامة

سورة القيامة في السورة توكيد لمجيء يوم القيامة وبرهنة على قدرة الله على بعث الناس. وتنبيه لهم بأن أعمالهم محصاة. وبيان لمصائرهم حسب سلوكهم. وتنديد باستغراق من يستغرق في الحياة ويهمل واجباته نحو الله والناس. وفيها آيات تتصل بظروف الوحي القرآني وتحتوي دلالة خطيرة في سوره. وأسلوب آياتها يمكن أن يعتبر عرضا عاما وإنذارا وتبشيرا وتنديدا عاما أيضا. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة القيامة (75) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) . (1) النفس اللوامة: قيل إنها إشارة إلى ما طبع الإنسان عليه من التلوم والندم على ما يفوته، أو إلى ما طبع بعض الناس عليه من التلوم على كل شيء. وقيل إنها نفس المؤمن الذي يظل يلوم نفسه مهما اجتهد في العمل الصالح خشية التقصير. وقيل إنها إشارة إلى ما يستشعر به الخاسر يوم القيامة من الندم والتلوم على ما فاته «1» . ولعل المعنى الأخير أوجه لأنه متسق مع ذكر القيامة في الآية السابقة.

_ (1) انظر تفسيرها في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والطبرسي والزمخشري.

(2) البنان: الظاهر من باطن الأصابع. وأوجه التأويلات لآية بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ أنها جواب على الجاحد الذي يحسب أن الله لن يجمع عظامه على ما جاء في الآية السابقة لها، بمعنى أن الله عزّ وجلّ الذي قدر على تكوين البنان من عظام دقيقة قادر على جمع عظام الإنسان مرة أخرى «1» . (3) بل يريد الإنسان ليفجر أمامه: بمعنى أن الإنسان الجاحد يرغب في الاستمرار على الفجور فينكر الآخرة ولا يخشى عواقبها. في الآيات قسم رباني مقدّر الجواب، وهو توكيد البعث والقيامة وتكذيب الإنسان فيما يظنه من عدم قدرة الله على جمع عظامه وتساؤله تساؤل المنكر الجاحد عن يوم القيامة الموعود. فالله الذي سوّى بنانه العجيب الصنع بعظامه الصغيرة وتكوينه الدقيق قادر على ذلك. وجحوده إنما هو بسبيل رغبته في الاستمرار فيما هو فيه من إثم وفجور دون أن يخشى العواقب الوخيمة. وأسلوب القسم مما هو متكرر في القرآن، وقد سبق مثله في سورة التكوير وعلقنا عليه بما فيه الكفاية. وقد قال بعض المفسرين إن المناسبة بين يوم القيامة وبين النفس اللوامة قد تكون فيما يظهر من الآثمين الجاحدين من ندم وحسرة وتلوم في ذلك اليوم. وفي القول وجاهة قد تدعمها آيات عديدة حكت ما سوف يكون من الجاحدين والمجرمين من ندم وحسرة يوم القيامة مثل آية سورة الأنعام هذه: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31) ومثل آية سورة سبأ هذه: وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33)

_ (1) انظر تفسيرها في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والطبرسي والزمخشري.

تعليق على محاولة ربط البنان بفن بصمات الأصابع الحديث وعلى محاولة استخراج النظريات الفنية الحديثة من العبارات القرآنية بصورة عامة

ولقد روى البغوي أن الآيات نزلت في عدي بن ربيعة الذي أتى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فسأله عن القيامة فلما بيّن له أمرها قال له لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك ولم أو من بك. أو يجمع الله العظام؟. والرواية محتملة، وفيها صورة لما كان يقع بين النبي صلّى الله عليه وسلّم والجاحدين من محاورات. وقد اقتضت حكمة التنزيل أن تحكى بأسلوب منسوب إلى الإنسان مطلقا لأن أكثرية الناس كانوا جاحدين إلّا أن مضمونه يدل على أن ذلك حكاية موقف الجاحد ليوم البعث والحساب فقط. أما المؤمن بذلك الذي يزعه إيمانه عن الفجور ويسوقه إلى العمل الصالح فهو خارج عن متناول التنديد الذي تضمنته. وفي الفصل الأخير من السورة تأييد لذلك. وواضح أن الآيات في تنديدها وتكذيبها وتوكيدها تستهدف بالإضافة إلى تقرير الحقيقة الإيمانية وهي البعث تنبيه السامعين الجاحدين إلى وجوب الارعواء والارتداع، لأن بعثهم وحسابهم حقيقة لا تتحمل ريبا. فوعد الله بذلك صادق واقع وهو قادر عليه. تعليق على محاولة ربط البنان بفن بصمات الأصابع الحديث وعلى محاولة استخراج النظريات الفنية الحديثة من العبارات القرآنية بصورة عامة وبمناسبة ورود كلمة البنان في الآيات نذكر أننا كنا قرأنا مقالا أراد كاتبه أن يجعل صلة بين اختصاص البنان بالذكر وبين ما ظهر حديثا من علم بصمات الأصابع وما صار له من خطورة في إثبات شخصيات الناس، وتمشيا مع الفكرة التي سادت بعض الناس من استخراج النظريات العلمية والفنية والكونية من الكلمات والآيات القرآنية للتدليل على صدق القرآن وإعجازه. ومعجزات الله المشار إليها فيه، وفي هذا في اعتقادنا تحميل لكلمات القرآن وآياته غير ما تتحمل وإخراج له من نطاق قدسية وغايته التي هي هداية البشر إلى أسباب سعادتهم ونجاتهم.

وفي كل كبيرة وصغيرة وجليلة ودقيقة من خلق الله وملكوته، وفي عالم الحياة والجماد من الدقة والإتقان ما يبعث الذهول في النفس ويملأها بالدهشة، وليس البنان وتكوينه إلّا نقطة من محيط عظيم، وعدم التشابه بعد ليس محصورا في أصابع اليد وبصماتها بل هو شامل لكل أعضاء الناس وأشكالهم وصورهم! بل ليس هو خاصا بالبشر وإنما هو شامل لمخلوقات الله عز وجل على اختلافها وكل ما هنالك أن الذهن البشري اهتدى إلى طريقة تسجيل البصمة للدلالة على الشخصية فانتشرت لأنها سهلة، واختصاص البنان بالذكر ليس بدعا في القرآن يستلزم استنتاج أمور خاصة منه فقد جرت حكمة التنزيل القرآني على اختصاص شؤون بالذكر دون شؤون، وأعمال دون أعمال، وأخلاق دون أخلاق في معرض العظة والتذكير والإنذار والتبشير دون أن يكون الشيء المختص بالذكر هو الأهم والأخطر دائما، وقد مرّ من ذلك أمثلة نبهنا إليها. ويستشهد بعضهم للتدليل على هذا المذهب ببعض آيات القرآن ومنها آية سورة فصلت هذه: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) ومنها آيات سورة الذاريات هذه: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وليس في الآيات ما يؤيد مذهبهم في تطبيق الآيات والإشارات القرآنية على ما يظهر من نواميس الكون والأنفس التي لم تكن معروفة. وهي تخاطب السامعين الجاحدين للرسالة النبوية وتنذرهم. والآية التي تلي آية سورة فصلت تنطوي على دليل حاسم على ذلك وهي: أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) وكذلك الأمر في الآيات التي تلت آيات سورة الذاريات. وواضح من هذا أنه ليس من مانع من الاستشهاد بالعبارات القرآنية على ما في الكون من عظمة وإبداع ونواميس وعجائب ظاهرة وخفية أو مكتشفة حديثا. بل هذا واجب لأن حكمة التنزيل قد هدفت إلى التدليل على عظمة الخالق وشمول قدرته وإيجاب الاتجاه إليه وحده فيما استعملته من أساليب التنبيه والاسترخاء

تعليق آخر على ما تفيده ظواهر الآيات من بعث الناس بأجسادهم

والتنويه بما في الكون من عجائب وبدائع. على أن يبقى الأمر في نطاق هذه الأساليب التي وجهت إلى جميع الناس على اختلاف عقولهم ومداركهم والتي فيها الكفاية كل الكفاية لتحقيق تلك الحكمة ودون أن يخرج إلى نطاق التمحلات في التطبيقات الفنية التي كثيرا ما تؤدي إلى مأزق وليس من ورائها في الوقت نفسه طائل في صدد الهدف القرآني. تعليق آخر على ما تفيده ظواهر الآيات من بعث الناس بأجسادهم وظاهر الآية الرابعة أن الناس يبعثون في الحياة الأخرى بأجسامهم وما ركّبت عليه في الدنيا من عظام ولحم ودم وأعضاء بأعيانها. وهذه المسألة من المسائل التي يختلف فيها المؤمنون بالحياة الأخروية «1» حيث ينفي بعضهم بعث الناس بأعيان أجسامهم لأن هذه الأعيان تنحلّ وتدخل في بنيان أجسام أخرى بشرية وغير بشرية، ويظل هذا يتكرر بصورة مستمرة وقالوا بناء على ذلك إن البعث الأخروي وما يكون فيه من حساب ونعيم وعذاب هو روحاني أي إنه يقع على الأرواح التي هي وحدها التي تكسب وتستحق الجزاء حسب كسبها لا على الأجسام التي هي غلاف للروح، وقال آخرون: إن الناس يبعثون جسمانيا وإن ذلك في نطاق قدرة الله على كل حال، وإن هذا هو المؤيد باستمرار في مختلف آيات القرآن، وردّ بعضهم بأنه ليس من الضروري أن تبعث الأجسام بأعيانها لأنها ليست إلّا غلافا للروح الكاسبة المستحقة للنعيم والعذاب فمن الممكن أن يبعثها الله بأجسام جديدة لأن الروح المستحقة للنعيم والعذاب لا تشعر بهما إلّا بالإحساس الجسماني. والذي يتبادر لنا بالنسبة للآية التي نحن في صددها أنها بسبيل المساجلة في أسلوب الإنكار وتعبير المنكرين. فقد أنكر كفار العرب الذين وجهت إليهم الدعوة والقرآن لأول مرة جمع العظام بعد الموت فردّت عليهم الآية بأسلوب مثل أسلوبهم

_ (1) انظر مثلا تفسير المنار ج 8 الطبعة الثانية الصفحة 264 وما بعدها.

[سورة القيامة (75) : الآيات 7 إلى 15]

منوّهة بقدرة الله تعالى على كل ما يحسبونه غير ممكن. وقد تكرر في القرآن حكاية أقوالهم وإنكارهم كثيرا وكان الجدل حول البعث بين النبي والكفار من أكثر ما دار الجدل حوله على ما ذكرناه في تعليق سابق. واحتوى القرآن ردودا قوية بأساليب متنوعة في كل مرة حكى فيها إنكارهم ومراءهم مؤكدا بأن ذلك في نطاق قدرة الله تعالى الذي خلقهم أول مرة وبأن الله تعالى لم يخلقهم ولم يخلق الأكوان عبثا وإنما ليبلوهم أيهم أحسن عملا ويجزي كل الناس حسب أعمالهم في الدنيا. والآيات كثيرة كثرة تغني عن التكرار. ويمكن القول إن الآيات القرآنية مؤيدة في ظاهرها للقائلين بالبعث الجسماني وإن قدرة الله لا يعجزها شيء فإذا اقتضت حكمة الله بعث الأجسام جسمانيا فإن ذلك داخل ولا ريب في نطاق هذه القدرة. مع التنويه بوجاهة قول القائلين بأنه ليس من الضروري أن تبعث نفس الأجسام وأن من الجائز أن تحلّ الروح في أجسام جديدة لأن الأجسام غلاف أو وعاء والروح هي التي تحسّ بالنعيم والعذاب. ومعلوم أن الجسم الإنساني تتبدّل خلاياه دوما في أثناء حياة صاحبه. ومع ذلك تظلّ شخصيته محتفظة بذاتيتها مع قواها العقلية وذكرياتها منذ أيام الطفولة إلى آخر أيام الحياة. وقد يكون في هذا تقريب وتوضيح. وعلى كل حال فالحياة الأخروية مسألة غيبية يجب على المسلمين أن يؤمنوا بها في نطاق ما جاء عنها في القرآن لأن ذلك من أركان الإسلام وإن كان جاء بأساليب وألفاظ دنيوية مألوفة للناس مما قد يكون من حكمته قصد التقريب والتأثير والمساجلة في الجدل. ولسنا نرى الآية وأمثالها يقتضي أن تكون مثار جدل ولا خلاف بينهم ولا تتحمل ذلك من حيث المدى والقصد. وعلى المسلم أن يعتقد أن ما جاء في القرآن هو في نطاق قدرة الله وحكمته وأن يقف عنده بدون تحمل ومراء وأن يكل ما يعجز عن إدراكه من صور وكيفيات إلى الله تعالى، والله تعالى أعلم. [سورة القيامة (75) : الآيات 7 الى 15] فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15) الجزء الثاني من التفسير الحديث 13

(1) برق البصر: زاغ من الفزع أو اتسعت حدقتاه منه. (2) وزر: ملجأ أو معصم. (3) بل الإنسان على نفسه بصيرة: قيل إن معنى الآيتين هو أن جوارح الإنسان شهيدة عليه مهما أنكر وحاجّ، وقيل إن معناهما هو أن الإنسان يعلم في نفسه ماهية أفعاله مهما أنكر وحاجّ، وقيل هما بمعنى أن الإنسان أدرى بنفسه ولذلك يكون ما يلقاه على عمله جزاء حقّا لأنه عمله باختياره، وقيل هما بمعنى كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) «1» وجميع الأقوال وجيهة والمقصد في الآيتين واضح. (4) معاذيره: أعذاره وحججه. الآيات استمرار للسياق السابق كما هو ظاهر. وقد هدفت إلى توكيد قيام القيامة وإنذار السامعين وتكذيب المكذبين. فيوم القيامة آت لا ريب فيه. وستزوغ من هوله الأبصار ويخسف القمر ويجتمع أو يصطدم الشمس والقمر. ويتساءل الناس وهم مأخوذون فزعون عما إذا كان من مجال لفرار فيجابون أن لا ملجأ من الله ولا معصم. ويحاسب الناس على جميع ما عملوه في الدنيا وهم يعرفون ما عملوه لأن جوارحهم شاهدة عليه، ولن ينفعهم ما قد يبدونه من حجج وأعذار. والآيتان الأخيرتان مفحمتان ملزمتان وقد احتوتا تلقينا جليلا أو وسيلة تربوية نفسية فالأعذار والحجج لن تغني عن الناس شيئا، لأن للإنسان على نفسه بصيرة وشاهدا.

_ (1) انظر تفسيرها في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والطبرسي والزمخشري.

[سورة القيامة (75) : الآيات 16 إلى 19]

[سورة القيامة (75) : الآيات 16 الى 19] لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) . (1) قرآنه: هنا بمعنى قراءته لأن قرآن مصدر من مصادر قرأ. الخطاب في الآيات موجّه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم. وفيها أمر بعدم تحريك لسانه بالقرآن الذي يوحى إليه مستعجلا آية بعد آية، بل عليه متابعة سماع الآيات إلى أن ينتهي وحيها. وفيها تطمين بأن الله عزّ وجلّ مثبت في وعيه ما يلقى عليه وملهمه بيانه وفهمه. والآيات جاءت كما هو ظاهر معترضة بين آيات تؤكد مجيء يوم القيامة وتنذر منكريه وتبين مصائر الناس فيه. والآيات التالية لها استمرار في نفس الموضوع والسياق. حيث يبدو من هذه أن لا صلة لهذه الآيات بالسياق. وقد روى المفسرون أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان حينما يوحى إليه بالقرآن يردّد الآيات واحدة بعد أخرى بشفتيه قبل انتهاء وحيها مستعجلا حفظها وتذكرها خشية نسيانها فنزلت الآيات للتنبيه والتعليم والتطمين «1» . والرواية متسقة مع الآيات. وورودها في الموضع الذي وردت فيه والذي يبدو عجيبا لا يستقيم والله أعلم إلّا بفرض أن تكون هذه الحادثة قد وقعت أثناء نزول الآيات السابقة لها فأوحى الله عزّ وجلّ بهذه الآيات فورا لبيان ما في العمل

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والطبرسي. وقد روى ذلك أيضا البخاري والترمذي عن ابن عباس (انظر التاج ج 4 ص 248) وهذا نص الحديث: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل جبريل بالوحي وكان مما يحرك في لسانه وشفتيه فيشتدّ عليه وكان يعرف منه فأنزل الله الآيات فكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعد الله» .

تعليق على دلالة آيات لا تحرك به لسانك لتعجل به وأخواتها

من عجلة لا ضرورة لها، فأملى النبي صلّى الله عليه وسلّم على كاتبه الآيات مع الآيات الأخرى ولو لم تكن متصلة بها موضوعا. تعليق على دلالة آيات لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ وأخواتها وفي الآيات صورة رائعة من صور التنزيل القرآني ووحيه ترد لأول مرة في وقت مبكر نوعا ما من العهد المكي. وهي تثير معاني خطيرة وجليلة نبهنا إليها بإسهاب في كتابنا «القرآن المجيد» . ومن ذلك أنها لا تدع محلّا لشك ولا مراء حتى من أشدّ الناس شكّا ومراء بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان مؤمنا أقوى الإيمان بأن الوحي الرباني هو الذي كان يوحى إليه بالقرآن، لا على معنى أنه نابع من ذاته، بل على معنى أنه من خارج ذاته، يشعر به في أعماق نفسه ويستمع إليه بأذن بصيرته ويعيه بقلبه. ومن ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان شديد الحرص على ألّا يفلت منه آية أو كلمة أو حرف أو معنى مما يوحى إليه. ومن ذلك أنه كان يأمر بتدوين ما يوحى إليه حالا ويملي على كاتبه حتى ما هو تعليم خاص له بكيفية تلقيه وحي الله عزّ وجلّ وقرآنه، لأنه وحي. ومن ذلك أن الوحي القرآني كان يقذف من الله رأسا في روع النبي صلّى الله عليه وسلّم. ولما كان هناك آيات صريحة أخرى تفيد أن الله كان ينزل القرآن على النبي بواسطة جبريل الذي ذكر اسمه صراحة في هذا الصدد في آية سورة البقرة [97] وذكر بوصف الروح الأمين في آية سورة الشعراء [193] وبوصف روح القدس في آية سورة النحل [102] «1» فيقال بسبيل التوفيق: إن في الآيات التي نحن في صددها صورة من صور الوحي القرآني وهي قذف هذا الوحي من الله عزّ وجلّ رأسا في روع النبي صلّى الله عليه وسلّم. وهذه الصورة إحدى الصور الثلاث لاتصال الله سبحانه بمن يصطفيهم من عباده التي انطوت في آية سورة الشورى هذه: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ

_ (1) أوردنا الآيات في سياق تفسير سورة القدر. [.....]

[سورة القيامة (75) : الآيات 20 إلى 25]

بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) . هذا، ولقد قال بعض المفسرين في صدد آية فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ إنها أمر بوجوب اتباع أوامر القرآن ونواهيه. والمتبادر أنها في صدد أمر النبي عليه السلام بمتابعة استماع وحي الله. ومضمون الآيات جميعها والآية التي جاءت بعد هذه الآية بنوع خاص مما يدعم ذلك على أن في أقوال المفسرين ما يتطابق مع هذا بل إن بعضهم فنّد القول الأول «1» . [سورة القيامة (75) : الآيات 20 الى 25] كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25) . (1) ناضرة: مشرقة من السرور. (2) باسرة: عابسة من الشدّة. (3) فاقرة: داهية تكسر فقار الظهر. الخطاب في الآيات موجه إلى مخاطبين سامعين. وهي بسبيل تقرير أسباب ما يحدو بالناس إلى تكذيب يوم القيامة، وهي استغراقهم في محبة الدنيا وإهمالهم الآخرة. وقد احتوت بيانا استطراديا على سبيل الإنذار فالناس في الآخرة فريقان: فريق ناضر الوجه لما يشعر به من الرضى والطمأنينة ينظر إلى ربّه وفريق عابس لما يتوقعه من الهول الذي يكسر فقار الظهر. والخطاب في الآيات وإن كان مطلقا فإن الآيتين الأوليين منها تدلان على أنه موجه بخاصة إلى منكري البعث والجزاء على سبيل التنديد بهم. والذي تلهمه روح الآيات أن التنديد ليس موجها لمحبة الناس الدنيا

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي والنيسابوري وغيرهم والتفنيد في تفسير النيسابوري.

تعليق على موضوع رؤية الناس لله عز وجل

ورغبتهم في الاستمتاع بخيراتها وطيباتها إطلاقا. فهذا من فطرة الله التي فطر الناس عليها، وإنما هو موجّه بخاصة للذين يندفعون في ذلك بدون تقيد ولا تحفظ ولا تفكير بالمصير الأخروي وما يجب عليهم إزاءه من حسن التصرف والقصد والقيام بالواجبات نحو الله عزّ وجلّ ونحو الناس. فالذين يأخذون من العاجلة أي من الحياة الدنيا ما هو مشروع لا إسراف فيه، ولا يهملون ما يجب عليهم نحو الله والناس ولا ينسون الآخرة والعمل لها لا يدخلون في شمول التنديد. وهذا مبدأ من المبادئ القرآنية المكررة بأساليب ومناسبات عديدة. وقد نبّهنا على ذلك في مناسبات سابقة. تعليق على موضوع رؤية الناس لله عزّ وجلّ ولقد كانت الآيتان وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ من الآيات التي نحن في صددها وأمثالها مما يحتوي معنى رؤية الله من قبل عباده من المسائل الخلافية بين علماء الكلام والفرق الإسلامية. وهذه المسألة هي غير مسألة رؤية النبي صلّى الله عليه وسلّم لله عزّ وجلّ التي كتبنا تعليقا عليها في سياق بعض آيات سورة النجم وإن تكن غير منفصلة عن مداها بصورة عامة. ولقد استند فريق من العلماء إلى هاتين الآيتين وأمثالهما وإلى أحاديث نبوية وصحابية متنوعة الرتب فقالوا بإمكان الرؤية. واستند فريق آخر إلى آيات أخرى وإلى أحاديث مماثلة فقالوا بعدم إمكانها. ومن الفريق الأول من أكد إمكانها في الآخرة بنوع خاص استنادا إلى أحاديث نبوية عديدة توصف بالصحة والقوة. ومنهم من استند إلى آيات واحدة في النفي والإثبات. فقال النافون إن آية سورة الأعراف وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) تنفي الرؤية على التأبيد باستعمالها تعبير لَنْ تَرانِي وإن تعليقها إمكان الرؤية على استقرار الجبل هو من قبيل تقرير كون الجبل لن يستقرّ

لتجلّي الله. في حين قال المثبتون إن الله علّق الرؤية على شيء غير مستحيل وأن رسول الله موسى عليه السلام ما كان يمكن أن يطلب شيئا لو علم أنه مستحيل. وقال المثبتون إن جملة إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ تتضمن وعدا ربانيا بالرؤية وتوكيد إمكانها في حين قال النافون إنها لا تتضمن معنى الرؤية وإن معناها أنها منتظرة أوامر ربها وثوابه. واستند النافون إلى آية سورة الأنعام هذه: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) في نفي إمكان الرؤية في حين قال المثبتون إنها لا تنفي الرؤية وإنما هي بسبيل تقرير عدم إمكان الإحاطة بالله وكنهه وعلمه. كما قال بعض الذين يثبتون الرؤية في الآخرة دون الدنيا أن هذه الآية خاصة بالدنيا لأن أبصار أهل الدنيا فيها لا تقوى على ذلك بخلاف أبصار أهل الآخرة من عباد الله المؤمنين. ومن الأحاديث التي أوردها المثبتون لرؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة بنوع خاص حديث رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة جاء فيه: «أنّ أناسا قالوا يا رسول الله هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ فقال: هل تضارّون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب؟ قالوا: لا، قال: فإنكم ترون ربّكم كذلك» «1» . وحديث رواه البخاري ومسلم كذلك عن جرير قال: «نظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى القمر ليلة البدر فقال: إنّكم سترون ربّكم كما ترون هذا القمر. فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا» «2» . وحديث رواه مسلم عن صهيب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة قال يقول الله تعالى: تريدون شيئا أزيدكم. فيقولون ألم تبيّض وجوهنا. ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار. قال: فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحبّ إليهم من النظر إلى ربّهم. وهي الزيادة في هذه الآية لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ» «3» .

_ (1) التاج ج 5 ص 357. (2) التاج ج 4 ص 217. (3) المصدر نفسه ص 129.

وحديث رواه الترمذي والإمام أحمد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إنّ أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه وخدمه وسروره مسيرة ألف سنة. وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ثم قرأ رسول الله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» «1» . ومن الأحاديث التي في جانب عدم إمكان رؤية الله عزّ وجلّ حديث رواه الإمام أحمد عن مسروق قال: «سألت عائشة فقلت يا أمّ المؤمنين هل رأى محمد ربّه عزّ وجلّ؟ قالت: سبحان الله، لقد قف شعري لما قلت أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب. من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب ثم قرأت: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ [الأنعام: 103] ووَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الشورى: 51] ومن أخبرك أنه يعلم ما في غد فقد كذب ثم قرأت: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ [لقمان: 34] الآية ومن أخبرك أن محمدا قد كتم فقد كذب ثم قرأت: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة: 67] ، ولكنه رأى جبريل مرتين في صورته» «2» . وحديث رواه مسلم عن أبي ذرّ قال: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هل رأيت ربّك؟ فقال: نور. أنّى أراه» . وحديث رواه مسلم عن عبد الله بن شفيق قال: «قلت لأبي ذرّ لو رأيت رسول الله لسألته. فقال عن أي شيء كنت تسأله؟ قال: كنت أسأله هل رأيت ربّك؟ قال أبو ذرّ: قد سألته فقال رأيت نورا» . وحديث رواه النسائي عن أبي ذرّ قال: «رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ربّه بقلبه ولم يره ببصره» . ووصل

_ (1) التاج، ج 5 ص 220. (2) تفسير ابن كثير. وروى هذا الحديث بصيغة قريبة الشيخان والترمذي وأوردناها في تعليقنا على رؤية النبي صلّى الله عليه وسلّم ربّه في سورة (النجم) . وهناك أحاديث أخرى يرويها المفسرون فاكتفينا بما أوردناه مما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة وقريبا منه. انظر تفسير هذه الآيات وتفسير سور (ق) و (الأنعام) في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن ورشيد رضا وغيرهم.

الأمر بين الفريقين إلى التهاجي لأن الفريق المثبت قال إن رؤية الله ممكنة بلا كيفية. فهجاهم النافون حيث قال قائل منهم: وجماعة سموا هواهم سنة ... لجماعة حمر لعمري مؤكفة قد شبهوه بخلقه وتخوفوا ... شنع الورى فتستروا بالبلكفه ورد عليهم خصومهم فقال قائلهم: وجماعة كفروا برؤية ربهم ... حقا ووعد الله ما لن يخلفه وتلقبوا عدلية قلنا أجل ... عدلوا بربهم فحسبهمو سفه وتلقبوا الناجين كلا إنهم ... إن لم يكونوا في لظى فعلى شفه مع أن الفريقين مخلصان في إيمانهم بالله ورسوله واليوم الآخر وفي تنزيه الله عزّ وجل عن المماثلة لأي شيء كل الإخلاص. وقصارى اختلافهم أن الفريق النافي ينزّه الله عن الجسمانية التي لا يمكن للرؤية البصرية أن تتحق إلّا بها ويتوقف في الأحاديث الواردة بإمكان ذلك في الآخرة. والفريق المثبت يقف عند هذه الأحاديث مع تنزيه الله عز وجل عن المماثلة والتحفظ في صدد الكيفية. ولقد عقد السيد رشيد رضا في الجزء التاسع من تفسيره فصلا طويلا في سياق تفسير آية سورة الأعراف المذكورة آنفا على مسألة رؤية الله عز وجل وأورد كثيرا مما روي وقيل فيها من أحاديث وأقوال وخلافات كلاميين وتأويلات متنوعة للنصوص وانتهى به الكلام إلى القول إنه ليس هناك نصّ قطعي الرواية والدلالة على الرؤية البصرية. وليست من العقائد الدينية الضرورية العلم كما أنها ليست مما كان يدعى إليها في تبليغ الدين مع التوحيد والرسالة «1» .

_ (1) بالإضافة إلى هذا الفصل الطويل انظر هذه المسألة في تفسير سور (الأنعام والأعراف والقيامة والإسراء والنجم) في كتب تفسير الطبري والبغوي والزمخشري وابن كثير والخازن والطبرسي وغيرهم. وانظر كتابه في مجموعة تفسير شيخ الإسلام ابن تيمية نشر عبد الصمد شرف الدين في بومباي عام 1374 هـ- تفسير سورة الأعلى أيضا. وما أوردناه في النبذة مستقى منها.

ونحن بدورنا نقول إنه ليس في القرآن فيما يتبادر لنا من النصوص شيء صريح وقطعي بإمكان رؤية الله عز وجل في الدنيا والآخرة. وفيه ما ينفي عنه المماثلة لأي شيء ما لا يمكن أن يتحقق أي معنى من معاني الرؤية البصرية إلّا بها وفيه ما ينفي احتمال إدراك الأبصار له. وفي الأحاديث المأثورة ما فيه نفي لإمكان الرؤية مطلقا. وإذا كان من الحق أن يقال إن الأحاديث التي تذكر إمكان ذلك في الآخرة عديدة وقوية السند ولا يصح إنكارها فإن اتصال الأمر بالحياة الأخروية يسوغ عطفها على هذه الحياة المغيبة التي يجب الإيمان بها على إطلاقها. ونحن نرى بعد أن الخلاف والجدل والكلام في هذه المسألة وأمثالها مما يتصل بذات الله عز وجل لا طائل من ورائه لأنه متصل بالحقيقة الإلهية الكبرى التي يجب الإيمان بوجوب وجودها استدلالا من الكون ورسالات الرسل دون الدخول في بحث كنهها أو ماهيتها الذي لا سبيل إلى الوصول منه إلى نتيجة إيجابية، مع ملاحظة الضابط القرآني المحكم القاطع الذي ينطوي في الآية [11] من سورة الشورى وهو لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ومع ملاحظة أن الألفاظ المستعملة فيما يتصل بذات الله تعالى إنما تستعمل للتقريب والتمثيل للسامعين من البشر بأسلوب خطابهم ومفهوماتهم فلا محل للدخول بسببها في متاهات لا نهاية لها. وأن الأولى أن يقف المسلم منها ومن أمثالها موقف المتحفظ المؤمن بتلك الحقيقة الكبرى مع التنزيه المطلق الواجب لله عزّ وجل عن المكان والحدود والجسمانية، وما يتناقض معها من كيفيات وماهيات وحركات وهو ما كان عليه من السلف الصالح في الصدر الإسلامي الأول. هذا. مع القول بوجوب الإيمان بما صحّ عن رسول الله من أخبار متصلة بالمشاهد الأخروية وبأنه لا بدّ من أن يكون في ذلك حكمة. وقد يتبادر من نصوص الأحاديث أن التبشير وإثارة الغبطة في نفوس المؤمنين وجعلهم يتوسلون بكل وسيلة إلى نيل رضاء الله والمنزلة السامية عنده في الآخرة من تلك الحكمة. والله أعلم.

[سورة القيامة (75) : الآيات 26 إلى 40]

[سورة القيامة (75) : الآيات 26 الى 40] كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40) . (1) التراقي: جمع ترقوة وهي أعلى الصدر مما يلي الحلق. وبلغت التراقي بمعنى وصلت روح الإنسان إلى ترقوته في طريقها إلى الخروج منه. والجملة كناية عن الاحتضار. (2) من راق: من الذي يرقى. قيل إن السؤال من الملائكة عن هوية المحتضر. (3) ظنّ: هنا بمعنى تيقن. (4) التفت الساق بالساق: قيل إن معناها التفت شدة الدنيا بشدة الآخرة، أو التفت ساق الدنيا بساق الآخرة كما قيل إنها وصف لحالة المحتضر الذي يعاني سكرات الموت وتلتف ساقاه على بعضها منها وهذا هو الأوجه فيما يتبادر لنا. (5) المساق: الحشر. (6) يتمطى: يتبختر. (7) أولى لك فأولى: دعاء بالسوء بمعنى الويل لك. والآيات استمرار للسياق أيضا. وهي في صدد الإنذار بالآخرة ومصائر الناس فيها، والبرهنة على قدرة الله على بعث الناس وحشرهم إلى الحساب والجزاء. وفيها وصف لحال الإنسان حينما يحضره الموت ويتأكد من فراق الدنيا ويساق إلى الله وفيها تنديد في معرض الإنذار لمن لا يكون قد آمن وقام بواجبات عبادة الله وأعرض عن الدعوة إليه مستكبرا متبخترا، وتساؤل استنكاري في معرض التوكيد بأن الله لا يمكن أن يكون خلق الناس عبثا وأن يتركهم بدون

حساب وجزاء كما قد يحسب الجاحدون. فالله قد أنشأ الإنسان من نطفة ثم من علقة ثم جعله خلقا سويا ثم جعله زوجين ذكرا وأنثى، ومن قدر أن يفعل ذلك قادر من باب أولى أن يحيي الموتى ويبعثهم ليحاسبوا على أعمالهم. والآيات على ما يبدو من مجموعها في صدد التنديد بالمعاند المكذب ليوم القيامة المهمل لواجباته نحو الله والمنصرف عن دعوته. والوصف الذي بدأت به الآيات قد قصد به على ما هو المتبادر تذكير السامعين وبخاصة المعاندين والمكذبين بالمصير المحتوم لكل حي، وإثارة الخوف في نفوسهم ودعوتهم إلى التفكير في العاقبة والمصير قبل أن يصلوا إلى النهاية من آجالهم وتكون الفرصة قد أفلتت منهم.

سورة الهمزة

سورة الهمزة في السورة حملة على من اعتاد السخرية بالناس ولمزهم والتفاخر بماله، ومع صلتها بالسيرة النبوية وبعض صور مواقف الأغنياء فيها فأسلوبها عام مطلق. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الهمزة (104) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) . (1) ويل: كلمة دعاء سوء وإنذار وتقريع. (2) همزة: من الهمز، ومعناه في الأصل الكسر والقبض على الشيء بعنف واستعير منه كسر أعراض الناس ونفوسهم بالعيب عليهم والسخرية منهم. (3) لمزة: من اللمز وهو إلصاق المعايب بالناس والوقيعة بهم. (4) عدّده: أكثره وجعله كثير العدد، أو اعتدّ به أو أعدّه. (5) الحطمة: من الحطم وهو الإهلاك والتكسير، وهنا كناية عن جهنّم. (6) تطلع على الأفئدة: تصل بإحراقها وحرارتها إلى قلوب المعذبين بها. (7) مؤصدة: مغلقة. (8) عمد: جمع عمود.

في الآيات حملة شديدة قارعة على من يجعل ديدنه السخرية بالناس وإلصاق المعايب فيهم، وبخاصة على صاحب المال الكثير من هؤلاء الذي غرّه ماله وجعله يحسب أنه واقيه من النكبات ومخلده في النعيم والقوة، وتكذيب له وتوكيد بأن مصيره جهنّم الشديدة الحرارة التي تحرق كل شيء وتصل إلى القلوب والتي ستوصد أبوابها عليه ويحكم سدّها بالأعمدة ويكون له فيها العذاب الدائم. وقد روي «1» أن الآيات نزلت في حقّ شخص اختلف في اسمه بين الأخنس بن شريق وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة كان غنيا وجيها مغرورا ديدنه السخرية بالنبي صلّى الله عليه وسلّم واتهامه بالمعايب. والرواية متسقة مع الآيات كما هو واضح، والآيات بذلك تحتوي صورة من صور مواقف الكفار وبخاصة أغنياءهم وزعماءهم من النبي عليه السلام ودعوته، وصرخة داوية رادعة في وجوههم بالتقريع والإنذار. ومع هذا فأسلوب الآيات التعميمي المطلق يتضمن تلقينا مستمر المدى ضدّ هذا النوع من الناس والتنديد به والتنبيه إلى ما في أخلاقه من سوء ووجوب اجتنابها.

_ (1) انظر تفسيرها في تفسير البغوي والطبري وابن كثير مثلا.

سورة المرسلات

سورة المرسلات في السورة توكيد ليوم القيامة وهوله، وإنذار بمصير الكفار الرهيب وتنويه بمصير المؤمنين فيه، وأسلوبها ذو خصوصية فنية نثرية، ومع ما في بعض فصولها من خطاب للمكذبين فإنها لا تحتوي موقفا شخصيا معينا ويصح أن تسلك في سلك السور ذات الطابع العام، وقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآية [48] مدنية، وانسجام هذه الآية التام مع الآيات يسوغ الشك في صحة ذلك، وترابط فصول السورة وتوازنها وخصوصية نظمها تسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) . (1) المرسلات: من الإرسال، والمرسلات عرفا بمعنى المرسلات متتابعة كعرف الفرس أو الديك. (2) عرفا: من عرف الديك أو الفرس. (3) العاصفات عصفا: الشديدة الهبوب والحركة. (4) الناشرات: من النشر بمعنى الإعلان والإذاعة.

(5) الفارقات: بمعنى المفرقات بين شيء وآخر. (6) ذكرا: هنا بمعنى التذكير أو الوحي. (7) عذرا: من الإعذار وهو التنبيه حتى لا يبقى محل للوم والتحجج. (8) نذرا: من الإنذار. تعددت الأقوال في تأويل الفقرات المقسم بها ومحمولها، وقد تكرر القسم بمثل هذا الأسلوب الذي تتعدد في تأويلها ومحمولها الأقوال كمطالع سور الصافات والذاريات والنازعات. وقد قيل في صدد فقرات السورة إنها الرياح كما قيل إنها الملائكة. وقيل كذلك إنها الرياح والملائكة معا. ومن نماذج الأقوال ما جاء في تفسير ابن عباس رواية الكلبي بأن الله أقسم بالملائكة الذين يرسلون متتابعين كعرف الفرس، وأقسم بالرياح العواصف وأقسم بالسحاب الناشرات بالمطر، أو الملائكة الذين ينشرون الكتاب وأقسم بالملائكة الذين يفرقون بين الحق والباطل، والحلال والحرام بما يلقونه من الذكر والوحي عذرا لله من الجور والظلم، أو نذرا لخلقه من عذابه. وقد جاء في تفسير الكشاف للزمخشري أن الله أقسم بطوائف من الملائكة أرسلهن بأوامره فعصفن في مضيهن كما تعصف الرياح امتثالا لأمره، وبطوائف منهن نشرن أجنحتهن في الجو عند انحطاطهن بالوحي، أو نشرن الشرائع في الأرض أو نشرن النفوس الموتى بالكفر والجهل بما أوحين، ففرقن بين الحق والباطل، فألقين ذكرا إلى الأنبياء عذرا للمحقين أو نذرا للمبطلين، أو أقسم برياح عذاب أرسلهن فعصفن وبرياح رحمة نشرن السحاب في الجو ففرقن بينه، أو بسحائب نشرن الموات ففرقن بين من يشكر الله تعالى على نعمة الغيث وبين من يكفر. والذي يتبادر لنا أن السامعين أو نبهاءهم كانوا يفهمون محمول هذه الفقرات ودلالتها لأن القرآن نزل بلسان عربي مبين يسمعه أناس يعلمونه على ما جاء في آية

[سورة المرسلات (77) : الآيات 8 إلى 15]

سورة فصلت هذه: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) على أن الفقرة أو الآية الخامسة أوضح دلالة على أن المقسم به هم الملائكة. لأنهم هم الذين ينزلون بالوحي الذي يحتوي الإنذار أو الإعذار ويلقونه. والآية الأخيرة هي جواب القسم كما هو واضح. والآيات والحال هذه بصدد توكيد وقوع ما يوعد به الناس وهو يوم القيامة وحسابه وثوابه وعقابه وكون الله عزّ وجلّ ينزل الوحي مع الملائكة لإنذار الناس والإعذار إليهم. حتى يتعظوا ولا يبقى لهم حجة بالغفلة. والخطاب وإن كان للسامعين عامة فهو كما تلهمه عبارة تُوعَدُونَ وهي من الوعيد موجه بخاصة إلى الكفار لأنهم المحتاجون للتوكيد بسبب تكذيبهم للقيامة وهم موضع الوعيد بسبب جحودهم وإعراضهم عن الدعوة. [سورة المرسلات (77) : الآيات 8 الى 15] فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) . (1) طمست: محيت أو انطفأت. (2) فرجت: فتحت. (3) وإذا الرسل أقتت: جعل لهم موعد موقوت. (4) يوم الفصل: يوم القضاء بين الناس وهو كناية عن يوم القيامة. الآيات متصلة بالآيات السابقة ومعقبة عليها. فالذي يوعد به الكافرون واقع وسيكون من أعلامه تبدّل نواميس الكون ومشاهده الكبرى. وسيعلن الرسل بميقاته حتى يأتوا لشهود حساب أممهم، وسيكون هذا الميقات هو يوم الفصل الذي يحاسب الناس ويفصل في أمرهم فيه، وهو يوم عظيم يكون الجزء الثاني من التفسير الحديث 14

تعليق على عبارة انفراج السماء وانطماس النجوم

الويل فيه والخزي للمكذبين بالقيامة والغافلين عنها. والمتبادر أن السؤال لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ يهدف إلى استرعاء السمع إلى خطورة اليوم المعين بمثابة (هل تدرون أي يوم ذلك اليوم) فيأتي الجواب (إنه يوم الفصل وما أدراك ما خطورة يوم الفصل) . والتبدّل الذي أشير إلى طروئه على السماء والنجوم والجبال هنا ليس بقصد الحصر. فقد ورد في سور عديدة سابقة ولاحقة إشارات إلى طروء التبدّل على مشاهد كونية غيرها. وقد ذكرنا ما تلهمه هذه الإشارات من مقاصد في المناسبات السابقة فلا حاجة إلى التكرار. تعليق على عبارة انفراج السماء وانطماس النجوم وقد يتوهم البعض أن استعمال فعل الانفراج للسماء والطمس للنجوم يدل على أن القرآن يعني أن السماء جسم صلب وأن النجوم مصابيح قابلة للاشتعال والانطفاء. والذي نراه أن هذا أسلوب خطابي للناس متسق مع ما يرونه من مشاهد واعتادوه من ظواهر وقام في أذهانهم من صور، وأن القصد منه البرهنة على قدرة الله عزّ وجلّ ومطلق تصرفه في الأكوان وبخاصة بما يملأ النفوس روعة من مشاهدها. وقد أوّلنا توقيت الرسل بما أوّلناه في القرآن آيات عديدة ذكر فيها الإتيان بالنبيين والرسل لشهود محاسبة أممهم يوم القيامة، منها آية سورة النساء هذه: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) وآيات سورة الزمر هذه: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وآية سورة المائدة

[سورة المرسلات (77) : الآيات 16 إلى 28]

هذه: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) . [سورة المرسلات (77) : الآيات 16 الى 28] أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) . (1) قرار مكين: كناية عن الرحم، والمكين بمعنى الحصين والحريز. (2) قدر معلوم: كناية عن مدة الحمل. (3) فقدرنا: فدبرنا وحسبنا. (4) كفاتا: وعاء ونطاقا متسعا للأحياء والأموات. (5) رواسي شامخات: كناية عن الجبال، وشامخات بمعنى عاليات. (6) فراتا: عذبا حلوا. والآيات متصلة بالسياق السابق أيضا وبسبيل التدليل على قدرة الله على تحقيق ما يوعد به الناس من البعث والحساب والجزاء وهي ثلاثة مقاطع كل منها ينتهي بإنذار المكذبين بهول ذلك اليوم. وهذا التكرار مستمر في جميع مقاطع السورة مما جعل لها خصوصية نظمية ومما ينطوي فيه تشديد في الإنذار والتقريع كما هو المتبادر. وفي كل مقطع حجة مقتطعة مما يعرفه السامعون من حقائق لا سبيل للمماراة فيها من قدرة الله وعظمة كونه ودقة نواميسه فيه حيث تستحكم الحجة فيهم.

وقد جاءت المقاطع بأسلوب السؤال الاستنكاري الذي ينطوي فيه تقرير معرفة السامعين لجوابه الصحيح وهو التسليم بقدرة الله وصدق الحجة. فهم يعرفون أن الله عزّ وجلّ قد أهلك الأولين وأتبعهم بمن بعدهم، وأن هذه عادته في المجرمين. وهم يعرفون أن الله عزّ وجلّ خلقهم من ماء مهين قدّر له وقتا معلوما في الرحم وأنه هو الذي سوّاهم على أحسن تقدير وحساب وتكوين، وهم يعرفون أن الله عزّ وجلّ جعل الأرض نطاقا واسعا للأحياء والأموات وجعل فيها الرواسي الشامخات وأجرى فيها المياه العذبة التي يستقون منها والتي فيها قوام حياتهم. وفي كل هذا الدليل القاطع على قدرته على بعثهم بعد الموت للحساب. وفي القرآن آيات جاء فيها اعترافهم صريحا بكل هذا وهو الذي سوّغ لنا تأويل الآيات بما أوّلناه بها. ففي سورة العنكبوت هذه الآية: وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) حيث ينطوي فيها معرفتهم بنكال الأقوام السابقين بسبب اتباعهم الشيطان وعدم استجابتهم إلى رسلهم. ومن هذا الباب آيات سورة الصافات هذه: وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) . وفي سورة الزخرف هذه الآيات: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) . وهذه الآية وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وفي سورة الواقعة هذه الآيات: أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ

تنبيه إلى أن الدعوة قائمة على الإقناع

فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) . ومع أن أسلوب الآيات عام للسامعين على اختلافهم فالمتبادر من روحها أنها موجهة إلى الكفار والمكذبين على سبيل الإنذار والتقريع والإفحام والدعوة إلى الارعواء. وفي الآيات التالية لها دلالة صريحة على ذلك. تنبيه إلى أن الدعوة قائمة على الإقناع وفي هذه الآيات وأمثالها الكثيرة مما سبق ومما سيأتي ظاهرة قرآنية جليلة وهي أن الدعوة كانت تقوم على الإقناع والجدل المنطقي الذي فيه الحجة الدامغة والإفحام، وعلى لفت النظر إلى وجود الله وقدرته الشاملة وحكمته البالغة بما في ملكوت السموات والأرض، وبما في تكوين وقوى الناس أنفسهم الذين يوجه إليهم الخطاب من آيات ومشاهد باهرة قائمة، مما يعترفون به ومما لا يتحمل مماراة ولا يحتاج إلى براهين خارقة، واستحقاق الله وحده من أجل ذلك للخضوع والعبودية والاتجاه. [سورة المرسلات (77) : الآيات 29 الى 40] انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) . (1) ظليل: ذو ظلّ واق. (2) القصر: قطع الشجر أو الحطب الكبيرة. (3) جمالات: جمع جمالة وهي الحبل المجدول أو حبل السفينة.

تعليق على ما يمكن أن يتوهم من تناقض في حكاية حال الكفار يوم القيامة

والآيات متصلة بالسياق ومعقبة على ما سبقها كما هو ظاهر. والخطاب فيها موجّه إلى المكذبين بصراحة. وهو حكاية لما سوف يقال لهم يوم القيامة. وقد تكرر هذا الأسلوب في القرآن كثيرا بقصد تصوير الحال كأنما يراها السامع حتى يرتدع عن الغي ويستجيب إلى الدعوة. والوصف في المقطع الأول قوي مرعب. فجهنّم التي يساق المكذبون إليها والتي كانوا يكذبونها ترمي بشرر عظيم الحجم والطول. وقد ضرب عليها رواق ذو ثلاث شعب يظنه الرائي ظلا واقيا ولكنه لا يلبث أن يعرف أنه لا يصلح للاستظلال ولا يقي من اللهب. وكذلك ما احتواه المقطعان التاليان حيث يحكيان ما سوف تكون عليه حال المكذبين من سوء وحرج. فهم لا يستطيعون أن يقولوا شيئا، ولا يسمح لهم بالاعتذار عمّا بدا منهم ويتحدون بأسلوب السخرية والاستهتار فيقال لهم لقد جمعناكم جميعا الأولين والآخرين فاصطنعوا أي حيلة وتوسلوا بأي وسيلة للخلاص من قبضة الله إذا استطعتم. وكل هذا من شأنه أن يثير الفزع في السامعين ويحملهم على تدبر أمرهم قبل فوات الوقت وهو مما استهدفته الآيات كما هو المتبادر. تعليق على ما يمكن أن يتوهم من تناقض في حكاية حال الكفار يوم القيامة ولقد يبدو تناقض بين الآيتين [36، 37] اللتين تقرران أن الكفار في ذلك اليوم لا ينطقون. ولا يؤذن لهم فيعتذرون وبين آيات أخرى سابقة ولاحقة فيها إشارة إلى ما يكون في الآخرة من حجاج ومحاورات بين الله والكفار وبين الملائكة والكفار وبين المؤمنين والكفار وبين الكفار أنفسهم. وفيها اعتذارات عما بدا منهم مثل آيات سورة المدثر هذه: إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ

[سورة المرسلات (77) : الآيات 41 إلى 45]

الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) ومثل آية سورة الزمر هذه: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) ومثل آيات سورة المؤمنون هذه: قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) ومثل آيات سورة الشعراء هذه: قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) ومثل آية سورة السجدة هذه: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) . وهذا التناقض المتوهم يزول إذا ما لوحظ أن هذه التعابير هي تعابير تصويرية أسلوبية وفاق ما اعتاده الناس في حياتهم للتقريب والتأثير، وهذا الذي اعتاده الناس يتحمل هذا كما يتحمل ذلك حسب تنوّع المواقف ومقتضياتها. والهدف العام هو وصف هول مصير الكفار وشدّة موقفهم يوم القيامة، لإثارة الرعب والفزع في نفوسهم وحملهم على الارعواء والازدجار على ما قررناه آنفا. [سورة المرسلات (77) : الآيات 41 الى 45] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) . وهذا المقطع استطرادي كما هو ظاهر، وصلته بالسياق قائمة بالاستطراد إلى ذكر مصير المؤمنين الصالحين بعد ذكر مصير الآثمين المكذبين، وقد تكرر مثل هذا الاستطراد كثيرا في المناسبات المماثلة، ومعنى الآيات واضح لا يحتاج إلى أداء بياني آخر. ومع أن نعتي المتقين والمحسنين يعنيان المؤمنين بالله عزّ وجلّ ورسالة

تعليق على مدى التنويه بالمحسنين والإحسان

نبيه صلّى الله عليه وسلّم فإن في استعمالهما كما هو متبادر تلقينا مقصودا به تقرير كون الإيمان بالله ورسوله يجب أن يكون له أثر بارز في سلوك المؤمنين وتصرفهم نحو الله والناس، بحيث يجتهدون في تقوى الله باجتناب الآثام والفواحش وفي الحصول على رضائه بالعمل الصالح والإحسان والإخلاص فيه، وبكلمة ثانية بحيث يتحقق في سلوكهم وتصرفهم صفتا المتقي المحسن فيكونون أهلا لرضوان الله وتكريمه وهكذا يبدو التلقين قويا رائعا. وهو مستمر المدى كما هو واضح. تعليق على مدى التنويه بالمحسنين والإحسان ولقد تكرر التنويه بالمحسنين والحثّ على الإحسان كثيرا في السور المكية والمدنية كما تكرر ذلك بالنسبة للمتقين والتقوى. ولقد علّقنا على مدى عناية التنزيل القرآني بالتنويه بالمتقين والحثّ على التقوى في سياق سورة القلم، ونقول هنا بمناسبة ورود كلمة المحسنين لأول مرة إن هذه الكلمة ومشتقاتها قد وردت في أكثر من مائة آية حيث يدلّ هذا على مبلغ عناية التنزيل القرآني بالتنويه بالمحسنين والحث على الإحسان كما هو الشأن بالنسبة للمتقين والتقوى. والتعبير في أصل معناه والمقصد منه هو عمل ما هو حسن وأحسن وبعبارة أخرى عدم التقيد بقيد الواجب المقتضي عقلا وشرعا وخلقا بل تجاوزه إلى ما هو الأفضل والأحسن والأتمّ. وفي هذا ما فيه من قصد جليل إلى الارتفاع بالمسلم إلى ذرى الفضائل والمكرمات والكمال الخلقي والنفسي ونكتفي هنا ببعض الأمثلة التي يبرز فيها هذا القصد الجليل ويبرز معه ما وعده وأعده الله للمحسنين من مكافأة وجزاء في الدنيا والآخرة: 1- بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 112] . 2- وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة: 195] .

3- الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 172] . 4- وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً [النساء: 128] . 5- لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة: 93] . 6- وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56] . 7- إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 9] . 8- ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل: 125- 128] . 9- وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً [الإسراء: 53] . 10- وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69] . 11- قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الزمر: 10] .

[سورة المرسلات (77) : الآيات 46 إلى 50]

12- وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت: 33- 35] . 13- إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات: 16- 19] . ولقد تعددت الآيات المكية والمدنية التي قررت أن الله لا يضيع أجر المحسنين وأنه يحب المحسنين وأنه سيزيد المحسنين وأنه سيجزي المحسنين مما فيه توكيد وتشويق متكرران. ومما هو متصل بذلك القصد الجليل كما هو المتبادر. [سورة المرسلات (77) : الآيات 46 الى 50] كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) . والاتصال مستمر كذلك بين هذين المقطعين وما قبلهما، وفي المقطع الأول التفات خطابي للمجرمين المكذّبين احتوى إنذارا لهم وتنديدا باستكبارهم عن الركوع لله، أما الآية الأخيرة فقد جاءت خاتمة قوية للسورة تضمنت تنديدا وتقريعا للكفار على عنادهم وعدم تأثرهم بما يتلى عليهم من قرآن الله ونذره مع ما فيها من الحجة الدامغة والموعظة البالغة، وقد جاءت بأسلوب الاستنكار القوي فبأي شيء يؤمنون إذا لم يقنعهم هذا ويؤمنوا به. وقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآية [48] مدنية وذكرت بعض الروايات «1» أنها نزلت في مناسبة استثقال وفد ثقيف الذي جاء لمفاوضة النبي عليه السلام بعد فتح مكة لحركة الركوع وطلبهم إعفاءهم منه، وانسجام الآية

_ (1) انظر تفسيرها في الكشاف للزمخشري وتفسير ابن عباس رواية الكلبي.

مع سائر الآيات وزنا وموضوعا يسوغ الشك في الرواية، ومن الطريف أنه بينما يعزى لابن عباس رواية نزولها في مناسبة مفاوضة ثقيف يعزى إليه قول آخر «1» وهو أن هذا سوف يقال لهم يوم القيامة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون. والمتبادر أن الركوع هنا تعبير عن الصلاة لله وحده، وهذا ما كان يطلب من الناس عامة منذ بدء الدعوة.

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير البغوي.

سورة ق

سورة ق وفي السورة توكيد للبعث الأخروي وتبشير وإنذار به، وتدليل على قدرة الله عليه، وحكاية لبعض مشاهده، وتنديد بالكافرين المكذبين وتنويه بالمتقين، وبيان مصير هؤلاء وأولئك في الآخرة، وفيها تذكير بمصير الأقوام السابقة المكذبين، وتسلية للنبي وتطمين له من مواقف قومه، وموضوعها عام ليس فيه مشاهد ومواقف شخصية ومعينة، وانسجام فصولها وترابطها واتساق وزنها يسوغ القول إنها من السور التي نزلت دفعة واحدة أو فصولا متلاحقة، وقد روي أن الآية [38] مدنية، وأسلوبها وانسجامها مع بقية الآيات يحملان على الشك في ذلك. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة ق (50) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) . (1) مريج: مضطرب أو ملتبس عليهم. قال بعض المفسرين إن ق اسم جبل ومنهم من قال إنه جبل أخضر محدق بالدنيا ومنهم من قال إنه اسم السورة أو من أسماء الله، ومنهم من قال إنه حرف مثل الحروف المفردة التي بدئ بها كثير من السور للتنبيه والاسترعاء «1»

_ (1) انظر تفسير السورة في تفسير ابن عباس وابن كثير والطبرسي والطبري والخازن.

تعليق على ذكر القرآن والقسم به بعد حرف ق

ونحن نرجح هذا لأن القسم بالقرآن أعقب حرف ق وهذا الأسلوب قد تكرر كثيرا في هذه السور بل هو الأغلب. أما جواب القسم فإما أنه محذوف وتقديره إن الكفار كاذبون أو إن ما يتلى من القرآن صدق لا ريب فيه أو إن بعثكم أكيد وإما في الآية الرابعة. وفي الآيات حكاية لما ثار في الكافرين من عجب ودهشة حينما جاءهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو منهم ومثلهم يدعوهم إلى الله وينذرهم بالآخرة. ويبدو من مضمون الآيات وروحها أن عجب الكافرين ودهشتهم كانا منصبين في الدرجة الأولى على البعث الأخروي، حيث حكت الآية الثالثة تساءلهم عما ينذره النبي من هذا البعث وقولهم إنه مستبعد بعد أن يموتوا ويصبحوا ترابا، وفي الآية الرابعة ردّ عليهم بأسلوب تقريري بأن الله محيط بهم وبذرات أجسامهم وقادر على بعثهم، أما الآية الخامسة فهي بسبيل تقرير أنهم في تكذيبهم إنما يكذبون الحق الذي لا ريب فيه حينما جاءهم وأن الأمر قد التبس عليهم واضطرب، شأن من يبهته الحق فيذهله. تعليق على ذكر القرآن والقسم به بعد حرف ق هذه السورة أولى السور التي أعقبت حروفها المتقطعة المفردة الأولى ذكر القرآن. ثم جرى النظم القرآني على ذلك في معظم السور التي تبتدئ بحرف أو حروف منفردة متقطعة مع ورود كلمة الكتاب بدلا من القرآن في بعضها ومع ورود كلمة القرآن والكتاب معا في بعضها ومع القسم بالقرآن أو الكتاب في بعضها ومع الإشارة إلى القرآن أو الكتاب بدون قسم في بعضها. والقرآن أو الكتاب الذي هو تعبير آخر له ولو كان لكل من الكلمتين معنى أو دلالة خاصة «1» ظلّ يطلق على ما كان ينزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم من كلام الله عزّ وجلّ إلى

_ (1) كلمة القرآن تعني كلام الله المقروء. وكلمة الكتاب تعني كلام الله المكتوب حيث كان ما ينزل من القرآن يكتب فيصير كتابا ويقرأ فيكون قرآنا. والله تعالى أعلم.

تعليق على حكاية تعجب الكفار من مجيء رسول إليهم منهم وإنذاره بالآخرة

أن تمّ تمامه. فيصح أن يعتبر القسم بالنسبة لما نزل حين نزوله كما يصح أن يعتبر لمجموعه بطبيعة الحال. والله تعالى أعلم. تعليق على حكاية تعجب الكفار من مجيء رسول إليهم منهم وإنذاره بالآخرة وحكاية عجب الكفار بمجيء رسول إليهم منهم وإنذاره بالآخرة وما فيها من حساب وثواب وعقاب قد تكررت كثيرا في القرآن مما يدل على أن الأمرين كانا مثار الدهشة والخلاف والجحود والعناد دائما. وخاصة أمر البعث والحساب. وهذا يفسر الحيز الواسع الذي شغله هذا الأمر في القرآن حتى لا تكاد سورة من سورة تخلو منه بأسلوب وصيغة ما، وصفا وإنذارا وتبشيرا وتوكيدا. ويستدل منه ومما تكرر كثيرا من حكاية موقفهم من شخص الرسول صلّى الله عليه وسلّم على أن موقفهم من النبي آت من شكهم في صلته بالله تعالى وهو منهم ومثلهم وأن موقفهم من الآخرة آت من اعتقادهم باستحالة البعث بعد أن يصبحوا رميما وترابا. ولقد مرّت أمثلة عديدة من موقفهم من الآخرة. وأما موقفهم من شخص الرسول وشكّهم في صلته بالله تعالى فمن الأمثلة عليه بالإضافة إلى ما احتوته هذه الآيات آيات سورة الإسراء هذه: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا (94) وسورة ص هذه: وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) «1» . ومن هنا جاء ما حكته آيات كثيرة من تحديدهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم بإثبات صلته بالله بالمعجزات واستنزال الملائكة وبإحياء آبائهم مثل آيات سورة الأنبياء هذه:

_ (1) اكتفينا بهذين المثالين من أمثلة كثيرة سوف تأتي في السور الآتية.

[سورة ق (50) : الآيات 6 إلى 11]

لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) ومثل آيات سورة الحجر هذه: وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ومثل آيات سورة الدخان هذه: إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) . [سورة ق (50) : الآيات 6 الى 11] أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11) . (1) فروج: شقوق أو فتوق. (2) رواسي: كناية عن الجبال. (3) من كل زوج: من كل صنف. (4) بهيج: حسن المنظر. (5) حبّ الحصيد: إشارة إلى الزراعة الحبوبية التي تجنى بطريق الحصد كالقمح والشعير. (6) باسقات: مرتفعات أو عاليات. (7) طلع: هو في اللغة أول ثمر النخلة. (8) نضيد: منضد بعضه فوق بعضه أو بعضه إلى جانب بعضه.

والآيات متصلة بسابقاتها بقرينة جملة أَفَلَمْ يَنْظُرُوا التي تنصرف إلى الكفار الذين حكت الآيات السابقة عجبهم من رسالة النبي واستبعادهم البعث الأخروي. وهي بسبيل البرهنة على قدرة الله. والسؤال الذي بدأت به الآيات استنكاري يتضمن التنديد بالجاحدين لإنكارهم قدرة الله بينما يرون آثارها العظيمة ماثلة أمامهم في السماء وبديع خلقها وزينتها، والأرض ورواسيها وصنوف نباتها وأشجارها والمطر المبارك الذي ينزل من السماء فينبت به الشجر والحب وتحيا به الأرض بعد موتها ويعرفون أن ذلك من آثار تلك القدرة. وليس البعث بأعظم من ذلك. ولقد حكى القرآن اعترافهم بأن الله هو الذي خلقهم وأنه هو الذي خلق السموات والأرض على ما أوردنا شواهده القرآنية في السورة السابقة وبذلك تستحكم حجة الله فيهم. ولقد أشير في آيات أخرى إلى تزيين الله سبحانه السماء بالكواكب منها آية سورة الصافات هذه: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) حيث يمكن القول إن العبارة القرآنية هنا قد قصدت ذلك. وجملة أَفَلَمْ يَنْظُرُوا التي بدأت بها الآيات قد تفيد أن ما لفت نظر السامعين أو الجاحدين إليه فيها من بديع خلق الله ونواميس كونه ولا سيما عدم وجود شقوق في السماء وزينتها مطابق لما كان في أذهانهم عنها. وبذلك تستحكم كذلك حجة القرآن فيهم من هذه الناحية أيضا. ولقد انطوت الآية الأخيرة على تشبيه إحياء الأرض بالماء بعد موتها بالبعث الأخروي. وعلى دليل على قدرة الله عزّ وجلّ على هذا البعث. فالماء الذي ينزله الله تعالى من السماء يثير في الأرض الميتة الجافة مظاهر الحياة المتنوعة. والذي يقدر على ذلك يقدر بطبيعة الحال على بعث الناس بعد موتهم. وقد تكرر هذا البرهان التشبيهي المقتطع من مشاهدات الناس في المناسبات المماثلة، ومن ذلك

صورة من الأسلوب القرآني في مخاطبة العقل والقلب والحس في البرهنة على قدرة الله عبر مشاهد الطبيعة ونواميس الكون

ما جاء في آية سورة الروم هذه: فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وما جاء في آية سورة الأعراف هذه: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) . صورة من الأسلوب القرآني في مخاطبة العقل والقلب والحسّ في البرهنة على قدرة الله عبر مشاهد الطبيعة ونواميس الكون ويلفت النظر الأسلوب البسيط القوي المسترعي للأذهان والحسّ الذي أشير به إلى المشاهد والنواميس الكونية، والذي هو سائغ لجميع الناس على اختلاف طبقاتهم فلا يقصر أحد به عن إدراك ما في تلك المشاهد والنواميس من عظمة ونفع وقوام حياة وبرهان، ولا يتردّد به أحد في ردّ ذلك إلى قدرة الله ورحمته، والإقناع بأنها ليست في نطاق قدرة ما غير قدرة الله عزّ وجلّ الخالق البارئ المصوّر الرازق، وبأن الذي يقدر على هذا يقدر على كل شيء بما في ذلك بعث الناس يوم القيامة ومحاسبتهم ومجازاتهم حسب أعمالهم لأن ذلك من مقتضيات عدل الله وحكمته. وهذا الأسلوب تكرر في كل المناسبات والآيات المماثلة. وهو أسلوب مخاطبة العقل والقلب والبصر والحس والبرهان الحي الماثل لكل الناس من جميع الطبقات وفي كل زمن ومكان. وما دام أن هذا الأسلوب في عرض مشاهد الكون والطبيعة في القرآن قد قصد به استرعاء الأذهان والأبصار إلى عظمة الله وقدرته والبرهنة على أنه هو وحده المستحق للعبادة والاتجاه عبر ما يلمسه السامعون ويشاهدونه ويعرفون مداه فالأولى إبقاؤه في هذا النطاق وعدم محاولة الخروج منه إلى بحوث فنية والتوفيق الجزء الثاني من التفسير الحديث 15

[سورة ق (50) : الآيات 12 إلى 14]

بين ما ورد في القرآن من هذه المشاهد وبين ما عرف فنيا من ذلك، لأن ذلك مما يخرج القرآن عن هدفه الوعظي والتذكيري ويعرضه للنقاش فيما لم يقصد إليه. وبعض المسلمين يفعلون ذلك بسبيل البرهنة على أن القرآن احتوى كثيرا مما ظهرت صحته ومداه فنيا ومن الحق أن نذكر أن فيما يفعلونه أحيانا كثيرة تجوّزا وتمحّلا. ونحن لا نرى ذلك ضروريا لإثبات صحة الوحي القرآني وصدق ما احتواه. ففي أساليب القرآن ومحتوياته ما فيه أقوى إثبات لمن يكون حسن النية وراغبا في الإيمان بالله وكتابه. أما غيرهم فإنه يجد دائما ما يورده على من يحاول استخراج نواميس الكون والطبيعة من القرآن. في حين أن هذه المحاولة ليست من ضروريات الدين والإيمان وليست متسقة مع أهداف ما في القرآن من ذلك. هذا، والمتبادر أن الآية السابقة قد جاءت استطرادية أو تنبيهية لتهتف بأن في كل هذه المشاهد الكونية والنعم الربانية تبصرة وذكرا لمن حسنت نيته ورغب في الحق وأراد الإنابة إلى الله تعالى حيث يرى في كل ذلك دلائل قدرة الله وعظمته فلا يبقى له مندوحة عن الاستجابة لدعوته. وهي بهذا الشرح متساوقة مع الأسلوب الذي نبهنا عليه آنفا. [سورة ق (50) : الآيات 12 الى 14] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) . الصلة بين الآيات وسابقاتها قائمة بضمير قَبْلَهُمْ المنصرف إلى المكذبين الذين حكت الآيات السابقة دهشتهم وعجبهم وتكذيبهم. وقد هدفت إلى تذكير هؤلاء بمصير أمثالهم من المكذبين السابقين وإنذارهم به. ولعل فيها قصد تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم أيضا. فالتكذيب الذي يلقاه ليس بدعا. فقد لقيه الأنبياء الأولون قبله من أقوامهم أيضا. وقد استحقّ أولئك نكال الله وحقّ عليهم وعيده. وسيحق على هؤلاء وعيده ونكاله أيضا. وقد تكرر بيان هذا القصد أكثر من مرة، مثل ما جاء في آية سورة فاطر هذه وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)

تعليق توضيحي لأهل الرس والأيكة وتبع

ومثل ما جاء في آية سورة الأنعام هذه وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) . تعليق توضيحي لأهل الرسّ والأيكة وتبّع وقد جاءت إشارة إلى أقوام فرعون وعاد وثمود ونوح في السور السابقة، وعلقنا عليها بما اقتضى المقام، أما أقوام الرسّ والأيكة وتبّع فإنهم يذكرون هنا لأول مرة، وكذلك هي المرة الأولى التي يذكر فيها قوم لوط بصراحة لأن ذكرهم سابقا كان باسم المؤتفكة في سورة النجم. ولم ترد إشارة في موضع آخر من القرآن إلى أنبياء أرسلوا إلى أصحاب الرسّ وقوم تبّع مثل ما ورد من ذلك بشأن فرعون وعاد وثمود وقوم نوح وقوم لوط وأصحاب الأيكة، وكل ما هناك أن أصحاب الرسّ ذكروا بنفس التعبير في سورة الفرقان مرة أخرى دون تبّع. والرسّ هي البئر المطوية بالخسف أو الردم، وقد تعددت أقوال المفسرين في أصحابها منها أنهم قوم في شمال جزيرة العرب أو اليمامة منه، وقيل إنهم أصحاب الأخدود، وروح التسمية يلهم بأنهم كانوا من أقوام وقبائل جزيرة العرب، ويطلق اسم بلاد الرسّ اليوم على ناحية في شمال الجزيرة، ولعلها تسمية ممتدة من القديم. ولقد روى المفسرون عن علماء الأخبار من التابعين فيما رووه في سياق هذه الآيات وآية سورة الفرقان [38] عن أهل الرسّ أنهم أهل قرية اسمها فلج في اليمامة وأن اسم النبي الذي أرسله الله إليهم حنظلة وأنهم وثبوا عليه وقتلوه فأهلكهم الله حيث يفيد هذا أن أهل عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيئته كانوا يتداولون قصصا حول أهل الرسّ. ويدعم كونهم من جزيرة العرب. والأيكة هي الحرج «1» وقد ذكر أصحاب الأيكة ثلاث مرات أخرى مرتين

_ (1) الشجر الملتفّ الكثير. [.....]

بصيغة خاطفة مثل ما ذكروا هنا في سورتي ص والحجر ومرة في سورة الشعراء مع اسم شعيب بصفته رسول الله الذي أرسل إلى أصحاب الأيكة، وقد ذكرت مدين مع اسم شعيب بنفس الصفة أيضا في سورتي الأعراف وهود. والوصف الذي وصفت به حالة أصحاب الأيكة في سورة الشعراء والخطاب الذي حكى توجيهه إليهم من قبل شعيب وخاصة أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ [الشعراء: 181] وصفت به حال أهل مدين في سورتي الأعراف وهود والخطاب الذي حكى فيهما توجيهه إليهم من قبل شعيب فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ [الأعراف: 85] ووَ لا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ [هود: 84] بحيث يسوغ هذا القول إن أصحاب الأيكة هم قوم شعيب وأصحاب مدين. واسم مدين مذكور في سفر الخروج وغيره من أسفار العهد القديم، ولا يزال هذا الاسم يطلق على خرائب أو بقايا مدينة في جهات العقبة في شرق الأردن، ويرجح المفسرون أن شعيبا هو الذي تزوج موسى ابنته على ما سوف نشرحه في سورة القصص. وفي الإصحاح الثاني من سفر الخروج من أسفار العهد القديم اسم (رعوئيل) كاهن مدين الذي تزوج موسى عليه السلام بإحدى بناته. وهذا ما حكاه الإصحاح نفسه وحكته آيات في سورة القصص قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28) . وفي الإصحاح الثامن عشر من نفس السفر ورد اسم آخر لهذا الكاهن وهو بترو حمو موسى. وفي الإصحاح العاشر من سفر العدد ورد هذا الاسم (حوباب بن رعوئيل المديني حمي موسى) والتقارب اللفظي بين حوباب وشعيب واضح فضلا عن ما هو ملموح من اللمحة العربية على الاسم. وقد يرد أن هذا هو اسم ابن الكاهن. ولعل هذا هو

الذي كان النبي المرسل إلى قومه. وليس في آيات القصص ولا في آيات أخرى ما يفيد أن الذي تزوج موسى ابنته هو شعيب النبي. وليس في الأسفار ذكر لرسالة شعيب أو كاهن مدين لقومه. غير أن هذا لا يمنع أن يكون ذلك ورد في قراطيس ضاعت. لأن المتداول اليوم من الأسفار ليس كل ما كان متداولا على ما سوف نشرحه في مناسبة قريبة آتية. وفي كتب التفسير بيانات كثيرة حول رسالة شعيب لقومه معزوة إلى علماء التابعين. وردت في سياق قصته في السور الأخرى على ما سوف نشرحه بعد حيث يدل هذا على أن قصة رسالته مما كان متداولا في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيئته. ومدين كانت في طريق قوافل أهل الحجاز إلى بلاد الشام ومصر. والراجح أنهم كانوا يتداولون معارف قديمة عنها ومن جملة ذلك رسالة شعيب. وما حلّ في مدين من العذاب الرباني مما ذكر في قصته في السور الأخرى. وتبّع لقب لملوك اليمن قبل البعثة النبوية مثل ألقاب كسرى وقيصر والنجاشي. وواضح أن المقصد من الجملة أهل اليمن الذين كانوا تحت حكم الملوك التبابعة. وهم غير قوم عاد الذين هم أقدم منهم. وهذا مؤيد بذكر القومين معا في آية واحدة. وفي كتب التفسير والتاريخ بيانات كثيرة عن الملوك التبابعة الذين استمر حكمهم إلى ما قبل عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم بقليل معزوة إلى علماء التابعين والذين كان منهم الذين اعتنقوا اليهودية واضطهدوا النصارى على ما شرحناه في سياق سورة الفيل والذين كان في عهدهم سيل العرم الذي ذكر في آيات سورة سبأ هذه: فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) . وقد قرئت على المنقوشات أخبار كثيرة عن المملكة السبئية والحميرية للمدة العائدة إلى ما قبيل الميلاد للمسيح والممتدة إلى أواسط القرن السادس بعد الميلاد وهي مملكة التبابعة التي عناها القرآن وعنتها الروايات العربية على الأرجح والمتبادر أن أهل بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم كانوا يتداولون أخبارهم في جملة ما يتداولون من أخبار جزيرة العرب

[سورة ق (50) : الآيات 15 إلى 18]

الأخرى والأقطار المجاورة القديمة «1» وكان في أذهانهم بالنسبة إليهم صورة قوية فاقتضت حكمة التنزيل ذكرهم في جملة ما اقتضت ذكره في مقام العظة والإنذار. والأسلوب الذي ذكر به الأقوام واضح الدلالة على أن الهدف هو الإنذار والتذكير، ولقد جاءت بعد الحملة على الكفار والتنديد بهم ولفت أنظارهم إلى مشاهد عظمة الله وقدرته، وهو الأسلوب الذي جرى عليه النظم القرآني. ومما يحسن التنبيه إليه أن بلاد قسم من الأقوام الثمانية المذكورين في الآيات هي في جزيرة العرب وهم تبّع عاد وثمود وأصحاب الرسّ وأن بلاد القسم الآخر متصلة بالجزيرة وهم قوم نوح ولوط وأصحاب الأيكة وفرعون ومتصلة من قريب أو بعيد ببلاد الحجاز مهبط وحي الله ومبعث نبيه المصطفى، ومنها ما هو على طريق قوافلها كبلاد ثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة ومنها ما تصل إليه قوافلها كاليمن ومصر، فالتذكير بهم تذكير بأمور معروفة سمعا ومشاهدة من قبل سامعي القرآن، وهو المتسق مع هدف القصص كما أن فيه القرينة على عدم جهل السامعين لأخبارهم على ما نبهنا عليه آنفا. [سورة ق (50) : الآيات 15 الى 18] أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) . (1) عيينا: عجزنا أو تعبنا. (2) الخلق الأول: الخلق لأول مرة للناس والكائنات. (3) لبس: شك أو حيرة.

_ (1) انظر تفسير الآيات وتفسير سور الفيل وسبأ والدخان في كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن وانظر الجزء الخامس من كتابنا تاريخ الجنس العربي، ص 60- 114.

تعليق على موضوع الملائكة الكاتبين على أيمان الناس وشمائلهم

(4) حبل الوريد: جهاز من الدورة الدموية. والقصد من التعبير هنا بيان شدّة القرب. (5) قعيد: قاعد ومترصد. (6) رقيب: مراقب. (7) عتيد: حاضر. والآيات متصلة بالسياق السابق. وفيها عود على بدء في مناقشة المكذبين للبعث والردّ عليهم والبرهنة على قدرة الله عليه بأسلوب آخر فيه تنديد وتسفيه، وفيه في نفس الوقت إنذار بعلم الله بكل ما يدور في نفوس الناس وبأن له عليهم رقباء يحصون كل ما يقولونه ويشهدون على كل ما يفعلونه. تعليق على موضوع الملائكة الكاتبين على أيمان الناس وشمائلهم ولقد روى المفسرون في صدد الآيتين الأخيرتين من هذه الآيات بعض الأحاديث. منها حديث رواه البغوي بطرقه عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يسار الرجل. وكاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال دعه سبع ساعات لعله يسبّح أو يستغفر» . ومنها حديث رواه الطبرسي عن أنس بن مالك قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن الله تعالى وكلّ بعبده ملكين يكتبان عليه فإذا مات قالا يا ربّ قد قبضت عبدك فلانا فإلى أين قال سمائي مملوءة بملائكتي وأرضي مملوءة من خلقي يطيعونني. اذهبا إلى قبر عبدي فسبّحاني وكبّراني وهلّلاني فاكتبا ذلك في حسنات عبدي إلى يوم القيامة» . ومنها حديث أورده الطبري في سياق تفسير الآية [11] من سورة الرعد مرويا عن كنانة العدوي قال: «دخل عثمان بن عفان على رسول الله فقال يا رسول

الله أخبرني عن العبد كم معه من ملك؟ قال: ملك على يمينك على حسناتك وهو أمير على الذي على الشمال فإذا عملت حسنة كتبت عشرا وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين أأكتب؟ قال: لا، لعله يستغفر الله ويتوب فإذا قال ثلاثا قال اكتب أراحنا الله منه فبئس القرين ما أقلّ مراقبته لله وأقلّ استحياءه منا. يقول الله ما يلفظ من قول إلّا لديه رقيب عتيد، وملكان من بين يديك ومن خلفك يقول الله له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله. وملك قابض على ناصيتك فإذا تواضعت لله رفعك وإذا تجبرت على الله قصمك. وملكان على شفتيك يحفظان عليك إلّا الصلاة على محمد وملك قائم على فيك لا يدع الحية تدخل في فيك وملكان على يمينك. فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي ينزلون ملائكة الليل على ملائكة النهار فهؤلاء عشرون ملكا على كل آدمي. وإبليس بالنهار وولده بالليل» . وهذه الأحاديث لم ترد في كتب الصحاح. ومع ذلك فإن مضمونها إجمالا قد يتسق مع ظاهر الآيتين. وفي سورة الانفطار آيات قد يتسق ظاهرها مع ذلك أيضا وهي: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12) وفي سورة الجاثية آية متصلة بهذا المعنى وهي: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) . وفي سورة الزخرف هذه الآية: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) . وهناك آيات تذكر أن كتب أعمال الناس توضع أمامهم أو توزع عليهم منها آيات سورة الإسراء هذه: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) وآية سورة الكهف هذه: وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) . فهذه الآيات وتلك الأحاديث التي تتساوق معها والتي ليس ما يمنع أن تكون صدرت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولو لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة وكذلك الآيات الكثيرة التي تذكر قيام الملائكة بخدمات الله المتنوعة ومن جملة ذلك إحصاء

تعليق على جملة ونحن أقرب إليه من حبل الوريد

وتسجيل أعمال الناس توجب الإيمان بما ذكرته من ذلك ولو لم تدرك العقول كيفيته مع الإيمان بأن وروده في القرآن بالأسلوب الذي ورد به لا بدّ من أن يكون له حكمة. وفي الآية [16] من آيات (ق) التي نحن في صددها تقرير كما هو ظاهر بأن الإنسان تحت مراقبة الله عزّ وجلّ وإحاطته مباشرة وأنه قريب جدا إليه وأنه يعلم كل ما يجول في ذهنه وتوسوس به نفسه فضلا عن ما يباشره من أعمال ويلفظه من أقوال. وفي سورة يس هذه الآية: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12) حيث ينسب الله عزّ وجلّ الكتابة والإحصاء إلى نفسه. وهذه التقريرات متكررة أيضا كثيرة في القرآن. وقد مرّ أمثلة منها وستأتي أمثلة كثيرة أخرى. ولما كان علم الله الشامل محيطا بكل شيء ولا يخفى عليه شيء من أعمال خلقه وهو غني عن الاستعانة على ذلك بالراصدين والرقباء والكتّاب والشهود وإبراز ذلك يوم القيامة في صورة كتب توزّع على الناس. ولما كان الناس قد اعتادوا في حياتهم تسجيل الأعمال ورصدها والشهادة عليها في مقام الاحتجاج على ما صدر منهم حتى لا يكون أي مجال للإنكار والمماراة. ولما كانت حكمة الله قد اقتضت أن تكون صور المشاهد الأخروية من مألوفات الناس في الدنيا فيتبادر أن هذا من هذا الباب وأنه قصد من ذكره بالأسلوب الذي ورد به تحذير الناس وتنبيههم إلى أن كل ما يفعلونه محصيّ مسجّل عليهم لا يمكن أن يماروا فيه حتى يظلوا مجتنبين ما فيه إثم وفاحشة مجتهدين في الأعمال الصالحة التي يرضى الله عنها. وفي بعض الأحاديث التي أوردناها ما يدعم هذا التوجيه ويتسق مع هذا القصد والله تعالى أعلم. تعليق على جملة وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ولقد رأينا بعض المفسرين يتوقفون عند جملة وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ فيؤولونها بأن ذلك بواسطة الملائكة تفاديا من معنى حلول الله أو اتحاده بخلقه

[سورة ق (50) : الآيات 19 إلى 30]

سبحانه وتعالى «1» . ولقد تكرر مثل هذا التعبير بالنسبة إلى الله عزّ وجلّ كما جاء في آية سورة البقرة هذه: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) وآية سورة سبأ التي فيها أمر الله للنبي بأن يقول: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) ولقد روى البخاري ومسلم حديثا عن أبي موسى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سمع أصحابه يرفعون أصواتهم بالتكبير فقال: «أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمّ ولا غائب، وإنما تدعون سميعا قريبا وإن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» . حيث يتبادر من ذلك والله أعلم أن المقصود من هذه التعبيرات وأمثالها هو تقرير إحاطة علم الله بخلقه وكون الناس تحت مراقبته التامة استهدافا لجعلهم يرقبونه في كل ما يقدمون عليه من أعمال ويتقونه. وهذا ملموح بقوة في آية سورة المجادلة هذه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) وهو ملموح كذلك بقوة في الآية التي ورد فيها التعبير الذي نحن في صدده والله تعالى أعلم. ومن الجدير بالذكر أن شيخ المفسرين القدماء الطبري لم يتوقف عند ما توقف عنده بعض المفسرين المتأخرين من هذه الجملة وكل ما قاله إن بعضهم قال إن معناها نحن أقرب إليه من حبل وريده بالعلم بما توسوس به نفسه. [سورة ق (50) : الآيات 19 الى 30] وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)

_ (1) انظر تفسير ابن كثير والقاسمي مثلا.

(1) ذلك ما كنت منه تحيد: تبتعد عن تذكّره أو تنفر منه وتهرب ولا تفكر فيه. (2) حديد حاد قوي الإبصار. (3) قرينه: مقارنة وملازمة. والمقصود من الكلمة في الآية [23] الملك الموكل على الإنسان حيث يجيء ليشهد عليه والمقصود من الكلمة في الآية [27] الذي أغوى الغاوي الجاحد من الإنس والجنّ بملازمته ووسوسته له على ما ذكره جمهور المفسرين «1» . (4) لا تختصموا: لا تتجادلوا. الآيات متصلة بالسياق واستمرار له كما هو ظاهر. وفيها استطراد إلى حكاية ما سوف يواجهه المكذبون حين احتضارهم ثم حين بعثهم يوم القيامة من الحقائق التي كانوا يتهربون منها أو يرتابون فيها بأسلوب قوي يتضمن التبكيت والتقريع وبعض المشاهد المذكورة في الآيات مما هو مألوف للناس في الحياة حيث يتساوق هذا مع الحكمة الملموحة في وصف مشاهد الآخرة من مألوفات الحياة الدنيا على ما نبهنا عليه في تعليقات سابقة. ولقد أورد المفسرون أقوالا معزوة إلى علماء التابعين بأن السائق المذكور في الآية [21] هو الملك الموكل بالإنسان. وأن الشهيد هو النبي أو عمل الإنسان أو جوارحه. وبأن القرين المذكور في الآية [23] هو الملك وفي الآية [25] هو

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير ابن كثير والبغوي والخازن والطبرسي.

الشيطان. وهذه الأقوال اجتهادية. ولا تخلو من وجاهة متسقة مع نصوص وروح الآيات هنا وفي مواضع أخرى. ولقد أوردوا أحاديث في صدد الحوار الذي يجري بين الله تعالى وجهنّم. منها حديث رواه البخاري والترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «1» : «يقال لجهنّم هل امتلأت وتقول هل من مزيد فيضع الربّ تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول قط قط» . وحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أيضا قال «2» : «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: تحاجّت الجنة والنار فقالت النار وأوثرت بالمستكبرين والمتجبّرين. وقالت الجنة ما لي لا يدخلني إلّا ضعفاء الناس وسقطهم. قال الله عزّ وجلّ للجنة أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي وقال للنار أنت عذابي أعذّب بك من أشاء من عبادي ولكلّ واحدة منهما ملؤها. فأمّا النار فلا تمتلئ حتى يضع الله رجله فتقول قط قط. فهناك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض. ولا يظلم الله عزّ وجلّ من خلقه أحدا. وأمّا الجنّة فإنّ الله عزّ وجلّ ينشئ لها خلقا» . ومع واجب الإيمان بما جاء في القرآن وصحّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من أخبار المشاهد الأخروية يجب الإيمان أيضا بأنه لا بدّ لذلك من حكمة. ويتبادر من نصوص الآيات التي نحن في صددها والأحاديث التي أوردناها أن من هذه الحكمة قصد التبشير والترهيب لإثارة الغبطة في نفوس المؤمنين المخلصين وحملهم على الاستزادة من الأعمال الصالحة المرضية لله تعالى والخوف في قلوب الكفار والمشركين والمجرمين وحملهم على الارعواء عن كفرهم وشركهم وإجرامهم والإنابة إلى الله وكسب رضائه.

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير. وقد نقلنا النصوص من التاج ج 4 ص 216- 217. وفي كتب التفسير المذكورة صيغ مقاربة أخرى بطرق أخرى فاكتفينا بما أوردناه. (2) المصدر نفسه.

ما في التنديد بمنع الخير من تلقين في الآية [27]

ما في التنديد بمنع الخير من تلقين في الآية [27] والآية [27] في إطلاقها وعمومها تتضمن تقبيح منع الخير والاعتداء عامة. وإنذار المتّصف بهذه الأخلاق بسخط الله وغضبه بالإضافة إلى وصف الكفار بها في المشهد الأخروي وإعلان استحقاقهم النار بسببها. وفي ذلك تلقين مستمر المدى للسامعين عامة وللمسلمين خاصة. ولقد سبق في سورة القلم تنديد بمنّاع الخير، وهنا يأتي هذا للمرة الثانية. وقد تكرر بأساليب متنوعة في أماكن أخرى أيضا حيث يبدو من ذلك تلقين مستمر المدى أيضا بما في منع الخير من جرم وإثم وبما يستحقه المنّاعون للخير من نكال وخزي ربانيين وبوجوب تجنّب هذا الخلق والإقبال على فعل الخير الذي أمرت به ونوّهت بفاعلية آيات عديدة مثل آية سورة البقرة هذه: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وآية سورة آل عمران هذه: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وآية سورة الحج هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وآيات سورة المؤمنون هذه: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61) وآية سورة فاطر هذه: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) . والنفخ في الصور هنا كالنقر بالناقور في سورة المدثر. وقد شرحنا مدى ذلك وعلقنا عليه في سياق هذه السورة بما يغني عن التكرار. والآية [30] مع أنها تحكي ما يقال للمكذبين فإنها تتضمن تقرير كون ما يلقاه الكفار المناعون للخير المعتدون الخبثاء إنما هو جزاء على ما اقترفوه من إثم

تعليق على تعبير وما أنا بظلام للعبيد

حقا وعدلا. وبمعنى آخر تقرير قابلية الإنسان لاختيار طريقه وعمله، واستحقاق الضالّ الآثم العقاب بسبب اختياره طريق الضلال والإثم بعد أن بيّن الله عزّ وجلّ للناس الطريق وأوعد من حاد عنها كما ذكرته الآية التي قبلها. وفي هذا كذلك تلقين قرآني مستمر المدى كذلك. تعليق على تعبير وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ والآيتان [29 و 30] وبخاصة تعبير وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ كانت موضوع تشاد بين أصحاب المذاهب الكلامية حيث استشهد بها وبأمثالها المعتزلة على أن الجزاء الأخروي هو جزاء عدل على أعمال الناس ومكتسباتهم في الدنيا وحيث أوّلها وأمثالها الأشاعرة ليجعلوا ذلك الجزاء من حقّ الله المطلق «1» . والمعنى الذي شرحناه آنفا هو المتسق مع روح الآيات ومضمونها ومقام ورودها ومع روح الآيات القرآنية عامة. مع التنبيه إلى أننا لا نرى التشاد حولها وحول أمثالها متسقا مع ما استهدفته الآيات من العظمة والترهيب لإثارة هيبة الله وخوف المصير في قلوب الناس وحملهم على الارعواء ولا متسقا مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها من السعي والنشاط ونتائجهما في الدنيا والآخرة ممّا نبهنا إليه أكثر من مرة في السور السابقة. ومما قاله الطبري في معنى الجملة: (ولا أنا بمعاقب أحدا من خلقي بجرم غيره ولا حامل على أحد منهم ذنب غيره فمعذبه به) . حيث يفيد هذا أن هذا الإمام أخذ الجملة على معناها القريب الصحيح. وقد جاراه في ذلك البغوي والخازن والطبرسي. ولقد أورد القاسمي في سياق آية الأنفال هذه: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) حديثا رواه مسلم عن أبي ذرّ يمكن أن يورد في

_ (1) انظر تفسيرها في الكشاف للزمخشري وكتاب الانتصاف وحاشية الشيخ محمد عليان المطبوعين مع تفسير الكشاف أيضا الطبعة الأولى مطبعة مصطفى محمد سنة 1354.

تنبيه إلى مدى عقيدة الشرك عند العرب

مناسبة ورود التعبير المذكور لأول مرة في هذه السورة. وقد جاء فيه: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنّ الله تعالى يقول إني حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرّما فلا تظالموا يا عبادي. إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلّا نفسه» . حيث يتساوق الحديث مع روح الآيات وتأويل المفسرين. تنبيه إلى مدى عقيدة الشرك عند العرب والآية [28] تتضمن إشارة إلى ما كان عليه العرب من عقيدة الشرك وتبيّن ماهيتها وهي الجمع بين الاعتراف بالله وإشراك غيره معه في العبادة والدعاء والاعتماد أو بقصد الشفاعة لهم عنده كما جاء ذلك بصراحة في آيات أخرى أوردنا نصوصها في مناسبات سابقة. وقد قامت الرسالة النبوية على الدعوة إلى توحيد الله عزّ وجلّ واستحقاقه وحده للعبادة والاتجاه والاعتماد والدعاء وتسفيه إشراك غيره معه وتفنيده ومحاربته في كل ذلك وبأي أسلوب ومقصد كان. ولقد تكررت هذه المعاني في القرآن كثيرا بحيث يمكن أن يقال إن هذه العقيدة كانت عقيدة العرب العامة على اختلاف منازلهم ومداركهم وتنوّع الشركاء الذين كانوا يشركونهم في الاتجاه والعبادة والدعاء. تعليق على ما حكته بعض الآيات من حوار بين الله وبين قرناء الإنسان يوم الحساب وفي الآيات حكاية حوار سوف يكون بين الله عزّ وجلّ وبين قرين الكافر المحصي عمله وقرينه الموسوس له. ولقد تكررت حكاية مثل هذا الحوار كثيرا بأساليب متنوعة في سور عديدة كثيرة تغني عن التكرار. ومع واجب الإيمان بالمشاهد الأخروية التي يخبر بها القرآن على اختلاف صورها فإن من الحكمة الملموحة في ذلك إثارة الخوف في الكفار والضالين والمجرمين وحملهم على الارعواء بإيذانهم بأن الذين وسوسوا لهم من قرنائهم وشياطينهم سيتنصلون منهم وبأن الذين يرافقونهم من ملائكة الله قد أحصوا عليهم

تعليق على تأويل روي عن مفسري الشيعة لجملة ألقيا في جهنم كل كفار عنيد

كل شيء وسوف يقدمونه لله تعالى لمحاسبتهم. وهذا المعنى بهذا القصد ورد في آيات كثيرة منها آية سورة إبراهيم هذه: وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22) . تعليق على تأويل روي عن مفسري الشيعة لجملة أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ وبرغم ما هو واضح من مدى هذه الجملة وسياقها فإن مفسري الشيعة يؤولونها تأويلا متسقا مع هواهم حيث رووا عن عطاء بن أبي رباح أن رسول الله سئل عن هذه الجملة فقال: «أنا وعلي نلقي في جهنم كلّ من عادانا» وهذا الحديث لم يرد في الكتب الخمسة ولا في أي كتاب من كتب الأحاديث المعتبرة وهو موضوع على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لتأييد الهوى الحزبي. وهم يصرفون بوجه عام كلمة الكفر والكفار والكافرين في كثير من الآيات إلى جاحدي إمامة علي وأولاده «1» . ومن هنا جاء تأويلهم لكلمة (الكفار) في الجملة بأنهم أعداء علي أو الجاحدين بإمامته . [سورة ق (50) : الآيات 31 الى 35] وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35) . (1) أزلفت: هيئت وقربت. (2) أوّاب: صيغة مبالغة من الأوبة وهي الرجوع وهنا هي الرجوع إلى الله وشدّة التعلّق به أو الدائم التوبة والاستغفار.

_ (1) انظر التفسير والمفسرون للذهبي ج 2 ص 30- 31.

وجوب تلازم الإيمان مع التقوى والعمل الصالح

(3) حفيظ: حافظ لما يجب عليه قائم به. (4) الغيب: كثر استعمال هذه الكلمة في القرآن. وقد تعددت مفهوماتها مع تقاربها حسب مواضعها. فعنت الشيء البعيد المطويّ في التاريخ. وعنت الشيء المغيّب المجهول ماضيا وحاضرا ومستقبلا وعنت الشيء الذي لا تدرك ماهيته ولكن وجوده مقرّر بالتبليغ القرآني كالحياة الأخروية والوحي الرباني. وعنت حالات السرّ والغياب والخلوة. والكلمة هنا عنت المعنى الأخير أي الذي يخاف الله في السرّ ولو لم ير أحد ما يفعله على ما ذهب إليه جمهور المفسرين «1» . (5) منيب: من الإنابة وهي الاستسلام والخضوع. وهنا بمعنى الاستسلام والخضوع إلى الله. الآيات متصلة أيضا بسابقاتها واستمرار لها. وفيها استطراد لذكر مصير الصالحين في الآخرة مقابل ذكر مصير الكفار الآثمين جريا على الأسلوب القرآني. والوصف في الآيات قوي ومشوق ومن شأنه جذب أصحاب القلوب الواعية والنفوس الطيبة وحملها على السير في السبيل القويم وبثّ الطمأنينة والغبطة والرضاء فيها بالإضافة إلى ما فيها من حقيقة النعيم والتكريم الأخروية الإيمانية. وجوب تلازم الإيمان مع التقوى والعمل الصالح والأوصاف الواردة في الآيات تتضمن تلقينات جليلة مستمرة المدى. فلا يكفي أن يعلن المرء إسلامه بل عليه أن يكون مجتهدا في تقوى الله بالعمل الصالح واجتناب الآثام. وأن يكون حافظا لعهوده وواجباته مراقبا الله في سرّه وعلنه منيبا إليه بقلبه وجوارحه. وفي هذا ما فيه من قصد تهذيب نفس المسلم وإعداده ليكون صالحا بارا خيرا راشدا يقظ القلب طاهر السريرة والنفس قائما بواجباته نحو الله والناس لذاتها متّقيا ربه في السرّ والعلن. وفي الآيات دلالة على أن الصالحين إنما ينالون رضاء الله وتكريمه وجناته

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والزمخشري والطبرسي. الجز الثاني من التفسير الحديث 16

تعليق على مدى جملة ولدينا مزيد

جزاء اختيارهم سلوك السبيل إليه وعملهم الصالح كما هو شأن الكفار بالنسبة للعذاب والهوان اللذين ينالونهما على ما ذكرناه في سياق الآيات السابقة. تعليق على مدى جملة وَلَدَيْنا مَزِيدٌ ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون في مدى جملة وَلَدَيْنا مَزِيدٌ منها أنه النعيم الذي لا يخطر ببال المؤمنين أو ما أعدّ لهم من الألطاف الزائدة وقرة العين. ومنها أنها رؤية الله تعالى والنظر إلى وجهه الكريم. وأوردوا في هذا الصدد أحاديث نبوية وصحابية متنوعة الرتب منها ما رواه أصحاب مساند الأحاديث الصحيحة ومنها ما لم يرووه «1» . وقد تشاد الذين يسوغون رؤية الله تعالى ولا يسوغونه حول ذلك. ولقد شرحنا هذا الموضوع في تعليق كتبناه في سياق تفسير سورة القيامة شرحا يغني عن التكرار. ويتبادر لنا بالنسبة للعبارة التي نحن في صددها أنها لا تتحمل هذا التشاد وأن الأقوال الأولى في مداها هي الأوجه استهدافا للتشويق والترغيب والتطمين والله أعلم. [سورة ق (50) : الآيات 36 الى 37] وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) . (1) نقبوا في البلاد: ضربوا في البلاد وطوفوا. (2) محيص: مخلص أو مهرب. الصلة بين هاتين الآيتين وسابقاتهما مستمرة. وفيهما عود على بدء في إنذار الكفار والتذكير بما كان من نكال الله في أمثالهم المكذبين السابقين الذين كانوا

_ (1) انظر تفسيرها في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن والطبرسي والزمخشري.

[سورة ق (50) : الآيات 38 إلى 45]

أقوى منهم وأشد بطشا فما أعجزوا الله ولم يجدوا لهم منه مخلصا ومهربا في الأرض. وفي هذا الذي يعرفه السامعون عظة وعبرة لمن حسنت سريرته وطابت نيته ورغب في النجاة. وفي الآية الثانية تقرير بأسلوب جديد لقابلية الاختيار في الإنسان كما هو المتبادر. [سورة ق (50) : الآيات 38 الى 45] وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45) . (1) لغوب: تعب. (2) أدبار السجود: عقب السجود. (3) جبار: هنا بمعنى مسيطر وقاهر أو مجبر. يروي الطبري والبغوي في صدد نزول الآيتين [38 و 39] أنهما نزلتا في موقف جدلي بين النبي صلّى الله عليه وسلّم واليهود حيث روى الطبري عن أبي بكر قال: «جاءت اليهود إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا محمد أخبرنا ما خلق الله من الخلق في هذه الأيام الستة؟ فقال: خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين وخلق الجبال يوم الثلاثاء وخلق المدائن والأقوات والأنهار وعمرانها وخرابها يوم الأربعاء وخلق السموات والملائكة يوم الخميس إلى ثلاث ساعات يعني من يوم الجمعة وخلق في أول الثلاث الساعات الآجال وفي الثانية الآفة وفي الثالثة آدم قالوا صدقت إن أتممت فعرف النبي صلّى الله عليه وسلّم ما يريدون فغضب فأنزل الله وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلى ما

يَقُولُونَ » . وروى البغوي هذا الحديث بزيادة وهي: «أن اليهود حينما قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم صدقت إن أتممت قال وما ذاك قالوا ثم استراح يوم السبت واستلقى على العرش فأنزل الله تعالى هذه الآية ردا عليهم وقال له فاصبر على ما يقولون من كذبهم فإن الله لهم بالمرصاد وهذا قبل الأمر بقتالهم» . والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآية [38] التي فيها خلق السموات والأرض في ستة أيام مدنية دون الآية [39] مع أن الآية [39] هي الأولى لأن تكون مدنية. لأن فيها أمرا بالصبر على ما يقولون، ومقتضى الرواية أن تكون الآيات نزلت مجزأة مع أنها وحدة منسجمة متوازنة وهي وما قبلها في صدد مواقف الكفار منكري البعث وفي صدد إنذارهم وحكاية ما سوف يلقونه من مصير أخروي رهيب وما سوف يلقاه المؤمنون من مصير أخروي سعيد بالمقابلة. وكل هذا يجعلنا نتوقف أولا في رواية مدنية الآية [38] ثم في الرواية التي يرويها الطبري كسبب لنزول الآيات ونرجح أنها في صدد البرهنة على قدرة الله تعالى على بعث الناس بالتذكير بأنه الذي خلق السموات والأرض وما بينهما دون أن يناله بذلك إعياء وعجز. وبأن من كان كذلك قادر من باب أولى على الخلق ثانية. وقد استمر الإنذار الرباني لهم مع تسلية النبي وتثبيته مما هو متصل بموضوع الآيات عامة. وفيه دليل على انسجامها ووحدتها. على أن هذا لا يمنع أن يكون من مقاصد جملة وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ الردّ على ما كان يقول اليهود والنصارى معا لأنه مما ورد في الإصحاحين الأول والثاني من سفر التكوين ولم يكن ذلك مجهولا في العهد المكي. ولم نطّلع على روايات في صدد وسبب نزول الآيات الأخرى التي نرجح كما قلنا أنها سياق واحد ونزلت معا. وفي الآيات [42 و 43 و 44] توكيد جديد من الله عزّ وجلّ بأنه هو الذي يحيي ويميت وبأن صوت مناديه سوف يعلو فيخرج الناس من الأرض ملبين مسرعين إليه ليفصل بينهم حسب أعمالهم وبأن ذلك هين سهل عليه. وفي الآيات

كثرة الآيات المتضمنة تطمينا للنبي عليه السلام وحكمتها

[38 و 39 و 40 و 45] تطمين للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتسلية له عن تكذيب المكذبين ومواقفهم حيث تهيب به بأن يتحمل أقوالهم التي يسمعها الله عزّ وجلّ وأن يواصل تسبيح الله وعبادته، وحيث تعلنه أنه لم يرسله ربّه لإجبار الناس على الاستجابة، وأنه ليس عليه إلّا أن يذكّر بالقرآن من يخاف وعيد الله. وقد انطوى في الآيات تقرير مهمة النبي صلّى الله عليه وسلّم. والإشادة بذوي النيات الحسنة والضمائر اليقظة الراغبين في الحق والهدى. فهم الذين من شأنهم أن ينتفعوا بما في القرآن من عظة وهدى. وقد انطوى في الآية الأخيرة خاصة توكيد مبدأ حرية التدين وترك الناس لاختيارهم وعدم الإكراه في الدين. فعلى النبي أن يدعو ويذكر وليس عليه أن يجبر. وقد تكرر هذا بأساليب متنوعة، منها آيات سورة الغاشية هذه فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) وآية سورة يونس هذه: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وآية سورة البقرة هذه: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) . كثرة الآيات المتضمنة تطمينا للنبي عليه السلام وحكمتها وبمناسبة ما انطوى في الآيات من تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم نقول إن القرآن المكي احتوى آيات كثيرة جدا في هذا الباب وبأساليب متنوعة. فقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم شديد الحرص على هداية قومه وكان حزنه وهمّه يشتدان كل ما رأى الزعماء يستمرون في مواقف الجحود والمناوأة والصدّ، ورأى الأكثرية الساحقة من العرب ينكمشون عن الدعوة نتيجة لذلك طيلة العهد المكي الذي امتدّ ثلاث عشرة سنة مضافا إلى ذلك اضطهاد المستضعفين من المؤمنين وفتنتهم حتى ليكاد يهلك نفسه من الهمّ والحزن مما أشارت إليه آيات عديدة، منها آية سورة فاطر هذه: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما

تعليق على موضوع خلق السموات والأرض في ستة أيام

يَصْنَعُونَ (8) وآية سورة الشعراء هذه: لَعَلَّكَ باخِعٌ «1» نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) وآية سورة طه هذه: ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) وآية سورة الكهف هذه: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) فاقتضت حكمة التنزيل موالاة التطمين له وتسليته والتهوين عليه وإخباره بأنه ليس مسؤولا عن هدايتهم ولا هو وكيلا عليهم ولا جبّارا ولا مسيطرا، وإنما هو نذير وبشير. والآيات في هذا الباب كثيرة جدا منثورة في أكثر السور المكيّة فلم نر ضرورة إلى إيراد نماذج منها. والمفسرون يقولون في سياق هذه الآيات وأمثالها إنها نسخت بآيات السيف والقتال في العهد المدني. وقد علقنا على هذا القول بما فيه الكفاية في سياق تفسير سورتي المزمل والكافرون فلا نرى ضرورة للإعادة. تعليق على موضوع خلق السموات والأرض في ستة أيام في كتب التفسير أقوال وتعليقات وأحاديث في هذا الموضوع الذي تكرر كثيرا وبأساليب متنوعة في القرآن. وفيما يلي إحاطة به في مناسبة وروده هنا لأول مرة نرجو أن يكون فيها الفائدة والصواب إن شاء الله. ولقد روى المفسرون «2» حديثا عن أبي هريرة جاء فيه: «أنّ رسول الله أخذ بيدي فقال: خلق الله التربة يوم السبت وخلق الجبال فيها يوم الأحد وخلق الشجر فيها يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبثّ فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل» . وهذا الحديث رواه مسلم أيضا ويعد من الصحاح في اصطلاح علماء الحديث «3» . ومع ذلك فإنه يلحظ منه أن الخلق استغرق سبعة أيام حيث بدأ به يوم السبت وانتهى منه مساء الجمعة وليس

_ (1) باخع: بمعنى مهلك أو قاتل. (2) انظر الآية [54] من سورة الأعراف في تفسير ابن كثير. (3) انظر التاج ج 4 ص 33- 34.

فيه ذكر للسموات. وهذا مناقض لنصّ الآية. وقد لحظ هذا ونبّه عليه ابن كثير أيضا وقال إن البخاري تكلّم في هذا الحديث. وهناك حديث رواه الطبري عن مجاهد جاء فيه: «إن الخلق بدأ يوم الأحد وانتهى مساء الجمعة» . ولقد ورد في الإصحاحين الأول والثاني من سفر التكوين أول أسفار العهد القديم أن الدنيا كانت خالية وظلاما ويغمرها الماء وكانت روح الله ترفّ على وجهه وأن الله خلق في يوم النور وفصل بينه وبين الظلام فسمى النور نهارا والظلام ليلا وأنه خلق في اليوم التالي السماء وفي اليوم الثالث الأرض (الجلد) في وسط الماء وصنوف النبات والشجر وفي اليوم الرابع الشمس والقمر والنجوم لتضيء على الأرض وفي اليوم الخامس الزحافات والطيور والحيتان وفي اليوم السادس البهائم والوحوش ودبابات الأرض، ثم صنع الإنسان على صورته ذكرا وأنثى، وفرغ في اليوم السابع من العمل واستراح- سبحانه وتعالى وبارك هذا اليوم وقدسه. ولم يرد في هذا السياق أسماء الأيام الستة. غير أنه ورد في أسفار أخرى أن الله قدس السبت وحرّم فيه العمل «1» . حيث يمكن أن يكون في ذلك قرينة على أن اليهود كانوا يرون أن يوم السبت هو اليوم الذي انتهى الخلق قبله. ولقد روى ابن كثير عن الإمام أحمد ومجاهد وابن عباس رضي الله عنهم أن اليوم السابع الذي اكتمل الخلق قبله كان يوم السبت وأنه سمّي بهذا الاسم لأن معناه القطع على اعتبار أن العمل قد انقطع فيه «2» . ومع ما في هذا من غرابة سواء من ناحية القول بانقطاع الله سبحانه عن العمل أم من ناحية كون تسمية (السبت) لا يمكن أن تكون إلّا متأخرة جدا عن عملية الخلق الأولى فإن شيئا من التماثل قائم بين ما ورد في الحديث وما ورد في سفر التكوين، ثم بين ما روي في صدد السبت وبين ما ورد في سفر التكوين والأسفار الأخرى من تقديس السبت وتحريم العمل فيه. وفي سورة هود هذه الآية: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى

_ (1) انظر الإصحاح 20 من سفر الخروج مثلا. وقد تكرر ذكر ذلك كثيرا في الأسفار الأخرى. (2) انظر تفسير آية الأعراف السابق ذكرها في تفسير ابن كثير. [.....]

الْماءِ [7] حيث يبدو شيء من التماثل بينها وبين عبارة سفر التكوين «كان روح الله يرفّ على وجه الماء» . ولقد تساءل ابن كثير «1» عما إذا كان يوم الخلق هو يوم عادي أو مثل اليوم الذي ذكر في آية سورة الحج [47] : وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ وفي تفسير ابن عباس رواية الكلبي أنه يوم كألف سنة بأسلوب الجزم. وبعض المفسرين قالوا إن اليوم يعني في اللغة زمنا ما أو وقتا ما على الإطلاق، وإن عبارة القرآن قد تعني أن الله خلق الكائنات في أزمان متتالية «2» . ولقد أوّل السيد رشيد رضا «3» الأيام بالأطوار التكوينية التي مرت بعملية خلق السموات والأرض وما بينهما وما فيهما من كائنات حية وغير حية. وبعض المفسرين أخذوا عبارة القرآن على ظاهرها واعتبروا الأيام عادية. وبعضهم علّل ذلك بأن الله مع قدرته على خلق جميع ما خلق في الأيام الستة بمجرد تعلق إرادته به فإنه أراد بذلك تعليم عباده التأني والتدرّج «4» . ومنهم من جال في كيفيات وماهيات خلق السموات والأرض وما فيهما خلال الأيام الستة في سياق آيات سورة فصلت هذه بخاصة التي تفسح المجال لذلك الجولان: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) . ومع تقريرنا واجب الإيمان بكل ما جاء في القرآن وأنه من عند ربنا ما فهمنا

_ (1) انظر تفسير آية الأعراف السابق ذكرها في تفسير ابن كثير. (2) انظر تفسير آية الأعراف المذكورة سابقا في تفسير محاسن التأويل للقاسمي. (3) انظر تفسير آية الأعراف المذكورة سابقا في تفسير المنار ج 7. (4) انظر تفسير آية الأعراف المذكورة سابقا في تفسير البغوي ومجمع البيان للطبرسي مثلا.

حكمته ومداه وما لم نفهم فإننا نقول: إن الإشارات القرآنية تلهم كما قلنا قبل أن من مقاصدها التذكير بقدرة الله وعظمته أكثر من قصد تقريره المدة والكيفيات لذاتها، وفي الآية التي نحن في صددها وفي آيات سورة فصلت التي أوردناها دليل قوي على ذلك. وقد يكون في فكرة السيد رشيد رضا بتأويل اليوم بالتطوّر الزمني في تكوّن مشاهد الكون وصنوف الكائنات الحية وغير الحية شيء كثير من الوجاهة بالنسبة لموضوعية الآيات، غير أن هذا لم يكن معروفا على الوجه الذي عرف به في القرون الحديثة في زمن النبي عليه السلام، ولا نريد أن نسلّم بأن القرآن احتوى إشارات إلى أمور فنية وعلمية لم تكن معروفة ولا مدركة على حقيقتها من قبل النبي عليه السلام وسامعي القرآن، ونرى هذا مما لا تتحمله أهداف القرآن ولا عباراته من جهة ومما فيه إخراج له من نطاقه الإرشادي إلى مجال البحث والنقد من جهة أخرى. ومن الممكن أن نضيف إلى ما قلناه: إن مشاهد الكون ونواميسه في القرآن من قسم الوسائل التدعيمية لمبادئ الدعوة وبخاصة لحقيقة عظمة الله ووحدته وقدرته الشاملة وأن الأولى أن يوقف عند ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه فيها بالأساليب التي اقتضتها هذه الحكمة بدون تزيد ولا تخمين. ولقد قلنا أكثر من مرة في مناسبات سابقة: إن هذه الوسائل تكون أقوى على تحقيق غايتها حين يكون موضوعها مما يعرفه السامعون وخلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وكان روح الله قبل ذلك يرفّ على وجه الماء مما ورد كما قلنا في سفر التكوين الذي كان من جملة الأسفار المتداولة بين أيدي الكتابيين في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم. ومما لا ريب فيه أن سامعي القرآن العرب كانوا أو كان كثير منهم يعرفون ذلك عن طريق الكتابيين. فالمتبادر أن حكمة الله اقتضت أن يذكر ذلك بصورة موجزة لما فيه من تماثل مع ما يعرفه السامعون لتدعيم المبدأ القرآني المحكم، وهو وجود واجب الوجود وشمول قدرته وربوبيته وكونه الذي خلق الكون. والذي يسير بتدبيره ونواميسه التي أودعها فيه، وإننا لنرجو أن يكون في هذا الصواب، والله سبحانه وتعالى أعلم.

تعليق على مدى العبارات القرآنية في تعيين أوقات الصلوات

تعليق على مدى العبارات القرآنية في تعيين أوقات الصلوات وقد علّق بعض المفسرين على ما احتوته الآيات [39 و 40] من ذكر أوقات التسبيح التي أمر النبي بالتسبيح فيها بحمد ربّه فقال: إنها بصدد أوقات الصلوات الخمس. ولقد تكرر الأمر والحثّ على ذكر الله وقراءة القرآن وإقامة الصلوات مقرونا بذكر أوقات معينة من الليل والنهار كما في آية سورة هود هذه: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) وفي آيات سورة الإسراء هذه: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) وفي آية سورة طه هذه: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130) ومع أن المتبادر من روح الآيات هو قصد الأمر بذكر الله وعبادته في جميع الأوقات فإن مما يحتمل أيضا أن يكون قد انطوى فيها قصد الصلوات الخمس المفروضة وأوقاتها. وإذا صحّ هذا ففيه دلالة على أن الصلوات الخمس في الليل والنهار مما كان ممارسا منذ عهد مبكر من البعثة، أو على الأقل فيه دلالة على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين كانوا يقيمون الصلاة في أوقات عديدة في الليل والنهار منذ أوائل البعثة إذا صح أن الصلوات الخمس لم تفرض فرضا محددا إلّا في ظروف الإسراء، على ما شرحناه في سياق سورتي العلق والنجم. وواضح من آيات هذه السورة والآيات الأخرى التي أوردناها آنفا أنها لا تحتوي أسماء الأوقات صراحة ولا تحددها تحديدا معينا وقاطعا. وهذا ما تكفلت به السنّة النبوية التي تكفلت بشرح وتحديد كثير من التعليمات والتشريعات والخطوط القرآنية.

تعليق على ما يمده ذكر الله وتسبيحه وعبادته للمؤمن من قوة معنوية تساعده على مواجهة الملمات

تعليق على ما يمده ذكر الله وتسبيحه وعبادته للمؤمن من قوة معنوية تساعده على مواجهة الملمات ويلحظ أن الأمر بتسبيح الله في الآيات مسبوق بأمر النّبي بالصّبر على ما يقوله الكفار من أقوال مثيرة للشجن، وعلى ما يقفونه من مواقف الجحود واللجاج. وهذا ما يلحظ في آية سورة طه أيضا بل إن هذا ملحوظ في السياق الذي يسبق آيات سورة الإسراء كما ترى في هاتين الآيتين اللتين سبقتا تلك الآيات وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا (77) كما هو ملحوظ أيضا في السياق الذي يسبق آية سورة هود، كما ترى في هاتين الآيتين: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113) وينطوي في هذا تلقين روحاني رائع وهو أن ذكر الله سبحانه وتعالى وتسبيحه والوقوف بين يديه في الأوقات التي يلمّ فيها بالمؤمن غمّ وهمّ من شأنه أن يشرح صدره ويمدّه بقوّة معنوية كبيرة تتضاءل معها خطوب الدنيا وهمومها. وهذا مما انطوى في الآيتين الأخيرتين لسورتي العلق والشرح على ما ذكرناه تعليقا عليهما. ولقد روى البخاري ومسلم في سياق الآية عن جرير بن عبد الله قال: «كنا جلوسا عند النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال: إنكم سترون ربّكم كما ترون هذا. لا تضامون في رؤيته. فإن استطعتم ألّا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ «1» . وفي الحديث توضيح تدعيمي لكون التسبيح المأمور به في الآيات هو الصلاة أو كون الصلاة من جملة ذلك.

_ (1) التاج ج 4 ص 217.

معنى توالي السور التي احتوت توكيد البعث والحساب

ولقد أوردنا هذا الحديث في سياق تعليقنا على مسألة رؤية الله تعالى في سورة القيامة. ونقول بمناسبة وروده في سياق هذه الآية إن الحكمة النبوية الملموحة في هذا الحديث هي جعل المؤمنين يهتمون اهتماما عظيما لأداء الصلوات في أوقاتها رجاء نيل رضوان الله تعالى وفي ذلك عميم الخير في الدنيا والآخرة معا. معنى توالي السور التي احتوت توكيد البعث والحساب هذا ويلحظ أن السورة منصبة في الدرجة الأولى على توكيد البعث الأخروي والتبشير والإنذار به. وهو مما انصبّت عليه سور المرسلات والقيامة والقارعة السابقة بالتوالي لهذه السورة فضلا عن احتواء أكثر السور السابقة فصولا إنذارية وتبشيرية وتوكيدية به. وفي كل هذا توكيد لما قلناه في سياق تفسير العلق من أن الحياة الأخروية كانت من أهم مواضيع الجدل والحجاج بين النبي صلّى الله عليه وسلّم والكفار من جهة، ومن أهم وسائل التدعيم للدعوة النبوية وإنذارا وتبشيرا وترغيبا وترهيبا وعظة وتذكيرا من جهة أخرى منذ بدء التنزيل القرآني. خبر عن تلاوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه السورة أيام الجمع ولقد أورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد ومسلم عن أم هشام بنت حارثة قالت: «لقد كان تنورنا وتنور النبي صلّى الله عليه وسلّم واحدا سنتين أو سنة وبعض سنة وما أخذت ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إلّا على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس» . وعلّل ابن كثير ذلك بسبب اشتمال السورة على بدء الخلق والبعث والنشور والمعاد والقيام والحساب والجنة والنار والثواب والعقاب والترغيب والترهيب.

سورة البلد

سورة البلد في السورة تنديد بالذين يقفون موقف المشاقّة والمشاكسة ويتباهون بأموالهم غير حاسبين حساب العاقبة. وتقرير لقابلية الإنسان للاختيار بين الخير والشر. وحثّ على الإيمان والتواصي بالصبر والمرحمة والمكرمات الأخرى وفي مقدمتها عتق الرقيق. وأسلوبها عام إجمالا. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) . (1) البلد: المقصود منها مكة على ما هو جمهور المفسرين. (2) حلّ: تعددت أقوال المفسرين في تأويل الكلمة «1» ، منها أنها بمعنى الحالّ المقيم وأن الآية بسبيل التنويه بشرف مكة بحلول النبي عليه السلام أو بعثته فيها. ومن ذلك التحليل- ضد التحريم وأن الآية بسبيل التنديد بأهل مكة الذين يستحلّون أذى النبي والمؤمنين وإخراجهم ومناوأة دعوة الله في البلد الذي حرّم فيه الظلم. ومن ذلك أن النبي في حلّ مما يفعله في مكة مما هو محرّم على غيره من قتال.

_ (1) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والنسفي والنيسابوري إلخ.

ونحن نرجّح المعنى الأول لأنه متساوق مع مفهوم القسم الذي بدأت به السورة فالله سبحانه يقسم بمكة التي شرّفها الله بحلول النبي أو بعثته فيها. أما الرأي الثالثة فقد ذكره معظم المفسرين ناقلا بعضهم عن بعض على الأغلب. ورغم ذلك نراه غريبا. فإن تحليل الله القتال لنبيه في مكة كان في السنة الثامنة للهجرة في سياق فتحها. وبين هذه السورة وذلك الحادث سنون طويلة. (3) ووالد وما ولد: تعددت الأقوال التي أوردها المفسرون عن هذه الجملة. منها أنها قصدت آدم وذريته. ومنها أنها قصدت إبراهيم وذريته، ومنها أنها قصدت معناها الطبيعي العام. ولعلّ هذا هو الأوجه. (4) كبد: أصل معناها المشقة والشدة. وقد تعددت الأقوال التي أوردها المفسرون في معنى لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ منها أنها في صدد بيان طبيعة الإنسان في المشاقة والمكابدة. ومنها أنها في صدد ما في الإنسان من القوى التي تساعده على تحمّل المشاق. ومنها أن تكون في صدد وصف ما يظل يتعرض له الإنسان من المحن ويندفع فيه من الكد والجهد في الحياة. ومنها أنها بمعنى انتصاب القامة الذي تميّز به الإنسان. ولعلّ الاحتمال الأول هو الأوجه. (5) لبدا: كثيرا ومتراكما. (6) النجدين: معظم المفسرين على أن النجدين هما طريقا الخير والشرّ. وتكون جملة وَهَدَيْناهُ والحالة هذه بمعنى بينّا له. في الآيات توكيد تقريري وتنديدي بأسلوب القسم لما جبل عليه الإنسان من طبيعة المشاقة والمكابدة، والاعتداد بقوته وماله ظانا أنه لا يراه أحد ولا يقدر عليه أحد في حين أن الله قد جعل له عينين ولسانا وشفتين تشهد عليه ويستطيع بها أن يميّز الخير من الشر، وفي حين أن الله بيّن له معالم طريقي الخير والشر، وأن الأجدر به أن لا يغترّ ولا يعتدّ ولا يشاقق وأن يختار أفضل الطرق وأقومها. وقد روى بعض المفسرين أنها نزلت بمناسبة موقف مكابرة وتبجح وقفه أبو الأسد بن كلدة أحد زعماء مكة وأغنياءها وفاخر فيه بما أنفقه من مال في مناوأة

تعليق على عبارة لقد خلقنا الإنسان في كبد

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «1» وصحة الرواية محتملة، غير أن أسلوب الآيات عام مطلق، ويتبادر أن الموقف المروي كان مناسبة لنزول الآيات متضمنة تنديدا عاما بمثل خلق هذا الزعيم وموقفه، وهذا ما يلحظ في مناسبات كثيرة. تعليق على عبارة لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ وقد تفيد آية لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ أن الله قد جبل الإنسان على هذا الطبع غير المستحب، ولقد احتوى القرآن آيات عديدة أخرى تضمنت التنديد بالطبائع غير المستحبة في الإنسان بأسلوب قد يفيد أن الله قد خلق الإنسان على هذه الطبائع مثل آيات سورة المعارج هذه: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) وآية سورة الإسراء هذه: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا (11) وآية الكهف هذه: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وآيات سورة العاديات هذه: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) وآيات سورة الفجر هذه كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) ويلحظ أن الآيات جاءت في معرض التنديد والتقريع للناس بسبب هذه الطباع مما يثير تساؤلا عمّا إذا كان من المعقول أن يندد الله سبحانه بطبائع خلق الإنسان عليها؟ والمتبادر الذي يلهمه تنديد القرآن بهذه الطبائع ويلهمه سياق الآيات وروحها أن هذه الآيات صيغ أسلوبية مما اعتاد الناس أن يخاطبوا بعضهم

_ (1) انظر تفسيرها في تفسير مجمع البيان للطبرسي. والمفسر يروي رواية أخرى جاء فيها أن الآية عنت شخصا من المسلمين اسمه الحرث بن عامر أذنب ذنبا فاستفتى النبي فأمره أن يكفّر عنه فقال: ذهب مالي في الكفارات والنفقات منذ دخلت في دين محمد. والرواية الأولى أكثر احتمالا للصحة.

تعليق على آية وهديناه النجدين

بعضا بها وأن المقصد الحقيقي منها هو التنديد بما يبدو من كثير من الناس من مثل هذه الأخلاق والطبائع غير المستحبة، وأنه لا ينبغي حملها على محمل قصد بيان أن الله قد خلق الإنسان أو تعمد خلقه على هذه الطبائع التي ندّد بها في مختلف المناسبات القرآنية ولا سيما أن الله سبحانه قد نبّه في سياق الآية التي نحن في صددها وفي المناسبات المماثلة أن الله بيّن للناس طريقي الخير والشرّ والتقوى والفجور، وأوجد فيهم قابلية التمييز بينهما وجعلهم مسؤولين عن اختيارهم وسلوكهم إن خيرا فخير وإن شرا فشرّ مما مرّ منه أمثلة عديدة في المناسبات السابقة. تعليق على آية وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ومع ما قلناه في تأويل آية وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ فإنها تحتمل أن يكون قصد بها أو انطوى فيها إشارة إلى ما أودعه الله عزّ وجلّ في الإنسان من عقل يستطيع أن يميز به بين الخير والشرّ ويختار بينهما، كما تحتمل أن يكون قصد بها أو انطوى فيها إشارة إلى ما في القرآن والدعوة النبوية من تبيان معالم الخير والشر والهدى والضلال والتقوى والفجور، وهذا الاحتمال لا ينقض ما تضمنته الآيات على كل حال من تقرير قابلية الاختيار في الإنسان ومسؤوليته عن اختياره كما هو واضح. ولقد روى الطبري حديثا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في سياق الجملة جاء فيه: «إنما هما نجدان نجد الخير ونجد الشرّ فما جعل نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير» . والمتبادر أن الحديث ينطوي على سؤال تعجبي أو تنديدي للذي يحبّ نجد الشر أكثر من نجد الخير حيث يدعم هذا معنى قابلية الاختيار في الإنسان ومسؤوليته عن اختياره. تعليق على آيتي أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ وقد ذكرنا معنيين لآيات أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ وهما أن هذه الجوارح أوجدها الله في الإنسان لتشهد على أفعاله أو تجعله يميز بين الخير

تلقينات آيات سورة البلد الأولى

والشر. والمعنى الأول قد ورد بصراحة في آيات أخرى مثل آية سورة النور هذه: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) وآية سورة فصلت هذه: حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) مما سوف نعلّق عليه موضوعيا في مناسبة الآيات المذكورة. تلقينات آيات سورة البلد الأولى والآيات في جملتها قد احتوت تلقينات جليلة مستمرة المدى سواء في تنديدها بخلق المشاقة والمشاكسة أم بخلق التباهي بالمال والاعتداد بالنفس بحيث يظن المرء أنه أمنع من أن ينال بسوء وأقوى من أن يقدر عليه أحد، وكذلك في تذكيرها ما في الإنسان من مواهب وقوى أودعها الله فيه من الواجب أن يستعملها في ما هو الأفضل والأقوم والأهدى. [سورة البلد (90) : الآيات 11 الى 20] فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20) . (1) فلا: ذكر المفسرون لمعناها احتمالين الأول أن تكون بمعنى (هلا) التحريضية. والثاني أن تكون نافية. وكلا الاحتمالين سائغ. ونحن نرجّح الأول لأنه متسق مع السياق أكثر. (2) اقتحم: أقدم بقوة أو هجم على الأمر الصعب وقفز إليه أو اجتازه. (3) العقبة: أصل معناها الهضبة، ويمكن أن تكون كناية عن الصعب الشاق، وقد روى بعض المفسرين أنها واد في جهنّم، ونحن نرجّح الكناية المذكورة. الجزء الثاني من التفسير الحديث 17

(4) فكّ رقبة: كناية عن عتق الرقيق. (5) مسغبة: مجاعة. (6) مقربة: من ذوي القربى. (7) متربة: عوز وحاجة وقيل في تفسير الكلمة إنها تعني شدة الفقر حتى لكأن صاحبها لاصق بالتراب. أو ليس له شيء يقيم فيه أو يأوي إليه إلّا التراب. (8) أصحاب الميمنة: قيل إن الميمنة تعني اليمن والحظ السعيد. كما قيل إنها تعني اليمين وإن أصحاب اليمين هم الذين يأخذون كتب أعمالهم في الآخرة بأيمانهم وينجون. وفي سورة الواقعة جاء تعبير أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ في آية وجاء تعبير أَصْحابُ الْيَمِينِ في آية كأن ذلك تفسير للتعبير الأول. ونتيجة كل من المعنيين واحدة. (9) أصحاب المشأمة: قيل إن المشأمة تعني الشؤم والحظ النحس كما قيل إنها تعني الشمال وإن أصحاب الشمال هم الذين يأخذون كتب أعمالهم في الآخرة بشمالهم ويشقون بالعذاب. وفي سورة الواقعة جاء تعبير أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ في آية وجاء تعبير أَصْحابُ الْيَمِينِ في آية كأنّ ذلك تفسير للتعبير الأول. ونتيجة كل من المعنيين واحدة. الضمير في «اقتحم» مصروف كما هو المتبادر إلى الإنسان الذي نددت الآيات السابقة به والآيات بهذا الاعتبار متصلة بسابقاتها اتصال تعقيب واستطراد حيث تضمنت تحريضا إيجابيّا على ما هو الأولى عمله بدلا من التباهي بالمال والاعتداد بالنفس وهو أن يقتحم الصعب ويتغلب على ما في نفسه من طباع فينفق ماله في تحرير الرقاب وإطعام فقراء اليتامى والأقارب والمعوزين في أيام المجاعات فإن من يقدم على هذه المكرمات ويكون في الوقت نفسه مؤمنا بالله عز وجل متضامنا مع المؤمنين في الصبر على المكاره والخطوب وفي المرحمة بالمحتاجين إليها كان ميمون العاقبة فائزا سعيدا في الآخرة. أما الكافرون بآيات الله المبتعدون عن مكارم الأفعال والأخلاق فإنهم سيكونون من أهل الشؤم الخاسرين الذين سوف يلقون في النار وتغلق عليهم أبوابها فتكون مأواهم الخالد.

التلازم بين العمل الصالح والإيمان أيضا

والمتبادر أن فكّ الرقاب وإطعام المساكين والبرّ بالأيتام لم تورد في الآيات على سبيل الحصر بما يجب على الإنسان الإقدام عليه من المكرمات، ولكن تخصيصها بالذكر يدل على أنها من المكرمات المسلّم بأهميتها عند عامة السامعين، ووصفها بالعقبة الشديدة تنويه بخطورتها كما هو واضح. التلازم بين العمل الصالح والإيمان أيضا ويلحظ أن الآيات قد قرنت إلى هذه المكرمات الخطيرة واجب اجتماعها مع الإيمان بالله والتضامن مع المؤمنين في التواصي بالصبر والمرحمة. وفي هذا توكيد لما قرره القرآن المرة بعد المرة من التلازم الذي لا بدّ منه بين الإيمان والعمل الصالح. فلن تنفع أفعال الخير وحدها صاحبها في الآخرة إذا لم يكن مؤمنا بالله عزّ وجلّ قائما بواجباته نحوه مما نبهت عليه بعض آيات قرآنية مثل آيات سورة هود هذه مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16) ومما شرحنا حكمته في مناسبة سابقة. وواضح أن الآيات وهي تنعى على الإنسان الذي تتمثل فيه الطبائع المكروهة وتحرضه على الإقدام على المكرمات بدلا منها مع الإيمان بالله بأسلوبها القوي تتضمن تلقينا مستمر المدى. تعليق على موضوع الرقيق وموقف القرآن منه وحثّه على عتقه وبمناسبة الإشارة إلى فكّ الرقاب والحثّ عليه في هذه الآيات لأول مرة نقول إن طبقة الرقيق كانت موجودة في كل مكان في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم وما قبله وليس وجودها خاصا بالمجتمع العربي. ولقد ورد في القرآن آيات عديدة تتضمن عنهم أمورا كثيرة. وقد كان الرقيق كالمال المقوّم يتصرف فيه صاحبه كما يشاء بيعا

وشراء وهبة واستثمارا وشراكة. وكان من المعتاد أن تستفرش الإماء من قبل سادتهن بدون عقد على أن يكون أبناؤهن أحرارا. أما النسل الذي يكون من تزاوج العبيد والإماء فيظلّ رقيقا «1» . ولقد عالج القرآن أمر الرقيق من حيث الموقف الواقعي فحثّ على تحريره وحسن معاملته بمختلف الأساليب والمناسبات كما وضع مبدأ إلغائه عن طريق المنّ والفداء للأسرى حيث كان أسرى الحرب هم منشأ الرقّ على الأغلب عند العرب وغيرهم. فمن ذلك آية في سورة الإنسان تنوّه بالذين يطعمون الأسير وهي: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) «2» وآية في سورة النساء تأمر بالإحسان في معاملتهم في جملة من تأمر بالإحسان في معاملته وهي: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [36] وفي سورة النور آية تأمر بالاستجابة إلى المماليك الذين يرغبون شراء أنفسهم وهي: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ [33] وقد جعل الله عتق الرقاب كفارة عن القتل الخطأ وعن المظاهرة وعن اليمين في هذه الآيات: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [92] من سورة النساء ووَ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا من سورة المجادلة [3] ولا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [89] من سورة المائدة. وفي سورة البقرة آية حثّت على الإنفاق في سبيل تحرير الرقاب وهي لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي

_ (1) انظر كتابنا عصر النبي عليه السلام وبيئته قبل البعثة ص 230- 236. (2) كانت كلمة الأسير تعني المملوك. والأسر هو سبيل التملك على الأعمّ الأغلب.

الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ [177] . وقد جعل الله في الزكاة نصيبا لعتق الرقاب كذلك كما جاء في آية سورة التوبة هذه: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ [60] وآية سورة محمد هذه: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها [4] تكاد تكون منطوية على إلغاء الأسر حيث تأمر بإطلاق سراح الأسرى بالفداء أو بالمنّ بدون فداء. وإذا كان هناك مأثورات نبوية تجيز استرقاق الأسرى وقتلهم فالمستفاد منها أن النبي فعل ذلك في ظروف خاصة وكان أكثر ما فعل الطريقتين القرآنيتين على ما سوف نشرحه في مناسبتها. ومن الوسائل التي جعلتها الشريعة الإسلامية وسيلة إلى تحرير الرقاب ولادة الأمة من سيدها فإنها تسمى أم ولد وتصبح معتقة بعد وفاة سيدها ولا يصح عليها بيع ولا هبة. وقد روى أحمد وابن ماجه حديثا في ذلك جاء فيه: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيّما امرأة ولدت من سيّدها فهي معتقة عن دبر منه» «1» . وكذلك العبد الذي يعلن سيده عتقه بعد موته فيسمى المدبر ولا يصح عليه بيع ولا هبة ويكون معتقا حال وفاة سيده على ما ذكره الفقهاء استنادا إلى الآثار «2» . وهناك أحاديث نبوية عديدة في الحثّ على عتق الرقاب. من ذلك حديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم أيّما رجل أعتق

_ (1) التاج ج 2 ص 250. (2) هناك حديث رواه الخمسة فيه حادث يدل على أن هذه الوسيلة مما كان جاريا ومأذونا به جاء فيه: «إن رجلا من الأنصار أعتق غلاما له عن دبر لم يكن له مال غيره فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال من يشتريه مني فاشتراه نعيم بن عبد الله بثمانمائة درهم فدفعها له ثم قال النبي في رواية أبي داود إذا كان أحدكم فقيرا فليبدأ بنفسه فإن كان فيها فضل فعلى عياله فإن كان فيها فضل فعلى ذي قرابته» . ص 249 وما فعله النبي ليس منعا وإنما كان مراعاة لحالة مالك الغلام فإن النبي لا يمكن أن يمنع هذه المكرمة التي حضّ عليها القرآن وحضّ عليها هو في أحاديث كثيرة كما هو آت.

امرأ مسلما استنقذ الله بكل عضو منه عضوا منه من النار» «1» . وحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي ذرّ جاء فيه: «أنّ أبا ذرّ سأل النبي أي الرقاب أفضل فقال أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها» «2» . وحديث رواه أبو داود والترمذي أن رسول الله قال: «أيما رجل مسلم أعتق رجلا مسلما فإنّ الله جاعل وقاء كلّ عظم من عظامه عظما من عظام محرره من النار وأيّما امرأة أعتقت امرأة مسلمة فإنّ الله جاعل وقاء كل عظم من عظامها عظما من عظام محررها من النار» «3» . وحديث رواه أبو داود عن واثلة بن الأسقع قال: «أتينا رسول الله في صاحب لنا قد أوجب يعني النار بالقتل فقال أعتقوا عنه يعتق الله بكلّ عضو منه عضوا من النار» «4» . وحديث رواه الإمام أحمد عن البرّاء بن عازب قال: «جاء أعرابي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله علّمني عملا يدخلني الجنّة فقال لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة. أعتق النسمة وفكّ الرقبة. فقال يا رسول الله أو ليستا واحدة؟ قال: لا. إن عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفكّ الرقبة أن تعين في عتقها» «5» . وحديث رواه الطبري بطرقه عن عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أعتق رقبة مؤمنة فهي فداؤه من النار» «6» . حيث يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الأمر الخطير كما هو الأمر في كلّ شأن. وهناك إلى هذا أحاديث نبوية عديدة توجب إحسان معاملة الأرقاء طالما احتفظوا بصفتهم من ذلك حديث رواه مسلم عن عبادة بن الوليد قال: «خرجت أنا وأبي فلقينا أبا اليسر صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه غلام وعلى أبي اليسر بردة ومعافريّ وعلى غلامه بردة ومعافريّ فقلت له يا عمّي لو أنك أخذت بردة غلامك

_ (1) التاج ج 3 ص 246. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه. [.....] (4) انظر تفسير السورة في تفسير ابن كثير. (5) المصدر نفسه. (6) انظر تفسيرها في تفسير الطبري.

وأعطيته معافريّك وأخذت معافريّه وأعطيته بردتك فكان عليك حلّة وعليه حلّة «1» . فمسح رأسي وقال: اللهمّ بارك فيه يا ابن أخي بصر عيناي هاتان وسمع أذناي هاتان ووعاه قلبي هذا وأشار إلى مناط قلبه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يقول أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون وكان أن أعطيته من متاع الدنيا أهون عليّ من أن يأخذ من حسناتي يوم القيامة» «2» . وحديث رواه الترمذي عن أبي مسعود قال: «كنت أضرب غلاما لي فسمعت صوتا من خلفي اعلم أبا مسعود مرّتين لله أقدر عليك منك عليه. فالتفتّ فإذا هو النبي صلّى الله عليه وسلّم فقلت يا رسول الله هو حرّ لوجه الله. قال: أما لو لم تفعل للفعتك النار أو لمستك النار» «3» . وحديث رواه الترمذي أيضا عن ابن عمر قال: «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله كم تعفو عن الخادم؟ فصمت، فأعاد الكلام فصمت، فلما كان في الثالثة قال: في كلّ يوم سبعين مرّة» «4» . وحديث رواه الترمذي كذلك عن أبي ذرّ قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من لاءمكم من مملوكيكم فأطعموه مما تأكلون واكسوه مما تكتسون ومن لم يلائمكم منهم فبيعوه ولا تعذّبوا خلق الله» «5» . وحديث رواه مسلم وأبو داود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من لطم مملوكه أو ضربه فكفّارته أن يعتقه» «6» . حيث يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الأمر أيضا. وهناك أحاديث كثيرة أخرى في الموضوعين غير واردة في الكتب الخمسة فاكتفينا بما أوردناه نقلا عن هذه الكتب.

_ (1) المعافري ثوب أو رداء يصنع في مكان في اليمن اسمه معافر أو اسم صانعيه قبيلة معافر وكانت صنعته مشهورة بالجودة. ويظهر من العبارة أن كلا من السيد والغلام كانا يلبسان رداء ومعافريا غير متشاكلين فاقترح على السيد أن يتشاكل اللباس. (2) التاج ج 5 ص 10- 12. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه. (6) ج 2 ص 252.

تعليق على إعطاء الناس يوم القيامة كتب أعمالهم باليمين والشمال

وورود الحثّ على فكّ الرقاب في سورة مبكرة في النزول بالأسلوب القوي الذي جاء في الآيات التي نحن بصددها يدلّ على أن الدعوة الإسلامية قد استهدفت منذ بدئها معالجة أمر الرقيق الذي كان موجودا واقعا على خير الوجوه وهو العتق والتحرير مما هو متسق مع أهداف هذه الدعوة من الخير والحق والعدل والفضائل الأخلاقية والاجتماعية والتسوية بين الناس والقضاء على الاستعلاء الطبقي والعنصري التي تضمنتها الآيات القرآنية منذ بدء التنزيل وفي مختلف أدواره. تعليق على إعطاء الناس يوم القيامة كتب أعمالهم باليمين والشمال وعلى صحة تفسير (أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة) بالذين يعطون كتب أعمالهم في الآخرة بيمينهم أو شمالهم نقول إن هذا الموضوع قد ورد في آيات عديدة بصيغ أصرح فجاء في سورة الإسراء: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) وفي سورة الحاقة: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) وفي سورة الانشقاق: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) . وهناك حديث يرويه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «يعرض

الناس يوم القيامة ثلاث عرضات. فأمّا عرضتان فجدال ومعاذير فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله» «1» . وحديث أورده ابن كثير في سياق تفسير آيات الإسراء المارّ ذكرها وأخرجه الحافظ البزار عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وليس ما يمنع نسبته إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وإن لم يرد في الكتب الخمسة جاء فيه: «يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه ويمدّ له في جسمه ويبيّض وجهه ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤة تتلألأ فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون اللهمّ آتنا بهذا وبارك لنا فيه فيأتيهم فيقول لهم أبشروا فإن لكل رجل منكم مثل هذا. وأما الكافر فيسودّ وجهه ويمدّ له في جسمه ويراه أصحابه فيقولون نعوذ بالله من هذا اللهمّ لا تأتنا به. فيأتيهم فيقولون اللهمّ أخزه فيقول أبعدكم الله فإن لكلّ رجل منكم مثل هذا» . وما دام ورد هذا في القرآن بصراحة فيجب الإيمان به، وهو متصل بما اقتضته حكمة الله أن تكون عليه المشاهد الأخروية من مألوفات الدنيا على ما شرحناه في مناسبات سابقة. ولعلّ من حكمة وروده بالأسلوب الذي جاء به التبشير والترغيب والترهيب والتحذير. وفي الأحاديث التي أوردناها ما يدعم ذلك والله تعالى أعلم. ولقد كان العرب على ما روته روايات كثيرة يتشاءمون من الطير الذي يمرّ من جانب شمالهم إذا ما اعتزموا رحلة أو أمرا ويسمونه بالبارح ويلغون أو يترددون في تنفيذ ما اعتزموا عليه وإنهم كانوا يتفاءلون بالطير الذي يمر من جانب يمينهم ويسمونه بالسانح ويمضون في تنفيذ ما اعتزموا عليه برغبة وشوق. ولقد روى مسلم وأبو داود عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وإذا شرب فليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله» «2» . وروى الأربعة عن عمر بن أبي سلمة قال: «كنت غلاما في حجر رسول الله وكانت يدي تطيش في

_ (1) التاج ج 5 ص 341. (2) التاج ج 3 ص 106 و 108.

الصحفة فقال لي النبي صلّى الله عليه وسلّم: يا غلام سمّ الله وكل بيمينك مما يليك فما زالت تلك طعمتي بعد» «1» . فلعل إعطاء الكفار المجرمين كتبهم بشمالهم كعلامة على الشؤم الذي ألمّ بهم وإعطاء المؤمنين كتبهم بيمينهم كعلامة على اليمن الذي ألمّ بهم متصل بهذه الصورة الدنيوية اتساقا مع حكمة الله التي نوّهنا بها. والله تعالى أعلم.

_ (1) التاج ج 3 ص 106- 108.

سورة الطارق

سورة الطارق في السورة توكيد للبعث وتدليل عليه بقدرة الله على خلق الإنسان للمرة الأولى. وإنذار للسامعين بأن أعمالهم محصاة عليهم. ووعيد للكفار وتطمين للنبي عليه السلام. وأسلوبها عامّ مطلق. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10) . (1) الطارق: الذي يجيء ليلا. (2) الثاقب: الخارق أو النافذ أو المتوهج الضياء. والنجم الثاقب هو النجم الذي يخرق بضوئه الظلمات. والجملة بدل بياني للطارق. وقال بعض المفسرين إنه زحل وبعضهم إنه الثريا وبعضهم إنه الشهاب المنقض. (3) لما: قرئت بالتخفيف وبالتشديد. وفي حالة التخفيف تكون جملة لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ بمعنى لعليها حافظ وفي حالة التشديد تكون بمعنى إلا وقد تكرر ورودها في القرآن بالمعنى الأخير. (4) الصلب والترائب: قال بعض المفسرين إنها مخرج ماء الرجل والمرأة الجنسي وإن الصلب للرجل والترائب للمرأة، وقالوا إن الصلب والترائب للرجل فقط وإن الترائب هي التي أسفل الصلب وتعددت الأقوال في مكان الصلب

والترائب في جسم الإنسان فقيل إن الصلب هو الظهر والترائب هي الصدر وقيل إن الترائب ما بين المنكبين والصدر، وقيل إنها أسفل من التراقي وقيل إنها فوق الثديين بل وقيل إنها أطراف الرجل يداه ورجلاه وعيناه ومنخزه ... والمتبادر أن سامعي القرآن كانوا يعرفون معنى الكلمات ومواضعها من الجسم وهي على كل حال تعني مخرج الماء الجنسي الذي يتكوّن منه الجنين. (5) تبلى: تختبر وتظهر وتنكشف. (6) السرائر: جمع سريرة وهي طوية الإنسان. في الآيات الأربع الأولى قسم بالسماء والنجم الثاقب الطارق بالليل ذي الخطورة بين النجوم بأن كل نفس عليها رقيب وحافظ يحصيان عملها ويرقبانه. وفي الآيات الأربع التالية تدليل على قدرة الله تعالى على بعث الإنسان لمحاسبته على عمله. فالله الذي خلقه من ماء يندفق من بين الصلب والترائب قادر على إعادة خلقه. وجملة فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ قد تفيد أن ما ذكر مما كان يعرفه السامعون ويتصورونه. وبذلك تستحكم الحجة عليهم. أما الآيتان الأخيرتان فقد احتوتا خبر ما يكون من أمر الإنسان يوم البعث. ففي ذلك اليوم تظهر أعمال الناس وتنكشف سرائرهم ويواجهون الله عزّ وجلّ منفردين لا قوة تدفع عنهم ولا ناصر ينصرهم. وقد انطوى في الآيتين الأخيرتين أن الناس ليس لهم في الآخرة إلّا أعمالهم المحصاة فمن كانت أعماله صالحة نجا ومن كانت أعماله سيئة هلك. وقد تضمنتا نتيجة لذلك إنذارا للسامعين ليتقوا هول ذلك اليوم بالاستجابة إلى دعوة الله والإيمان به وعمل الأعمال الصالحة واجتناب الأعمال السيئة. ولقد تعددت الأقوال في المقصود من كلمة حافِظٌ فقيل إنه الله عزّ وجلّ الذي هو الرقيب على كل نفس المحصي عليها عملها وأوردوا للتدليل على ذلك آية سورة الأحزاب هذه: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52) «1» وقيل إنه الملك

_ (1) تفسير القاسمي.

[سورة الطارق (86) : الآيات 11 إلى 17]

الموكل بإحصاء أعمال الناس «1» . وقيل إنه حافظ يحرس الناس من الآفات وأوردوا للتدليل على ذلك آية سورة الرعد هذه: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ «2» [11] والقول الأخير غريب فيما هو المتبادر. وروح السياق يلهم أن المقصود هو إيذان السامعين بأن أعمالهم محصاة عليهم لمحاسبتهم عليها في الآخرة. [سورة الطارق (86) : الآيات 11 الى 17] وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17) . (1) ذات الرجع: ذات السحاب الممطر أو ذات المطر لأنه يرجع مرة بعد مرة أو ترجع بالرزق كل عام. (2) ذات الصدع: التي تتصدع أي تتشقق عن النبات. (3) قول فصل: قول جدّ. (4) يكيدون كيدا: الكيد هو تدبير السوء والعداء. (5) مهل: في الكلمة معنى الإنذار أي اطلب منهم الانتظار ليروا مصداق الوعيد. (6) أمهلهم: اتركهم لأجل ما أو لمهلة ما. (7) رويدا: زمنا قليلا. وفي هذه الآيات قسم آخر بتوكيد صحة ما يسمعه الناس من نذر قرآنية وجدّها وبعدها عن الهزل والعبث وإشارة إلى مواقف الكيد والمناوأة التي يقفها الكفار من النبي صلّى الله عليه وسلّم بالتعطيل والأذى والإعراض، وتوكيد بأن الله عزّ وجلّ

_ (1) الطبري. [.....] (2) ابن كثير.

سيقابلهم على كيدهم بكيد أيضا وأمر للنبي عليه السلام بأن يتوعدهم وينذرهم وينتظر قليلا فلن يلبث أن يرى هو ويروا هم تحقيق الوعد ومصداق الإنذار. والمتبادر أن القصد من كيد الله هو انتقامه وعذابه. وأن استعمال الكلمة هو من قبيل مقابلة الشيء بمثله. وهو استعمال أسلوبي مألوف. وقد تكرر في القرآن. وفي الآيات إشارة إلى مواقف الكفار الكيدية بوجه عام وإنذار لهم وتطمين للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتثبيت له. وهي غير منفصلة عن الشطر الأول من السورة حيث يبدو بينهما ترابط وانسجام. ولقد قال المفسرون إن الأمر بالتمهيل قد نسخ بآيات القتال والسيف. وقد علقنا على مثل هذا التعبير في مناسبات سابقة. والقول يصدق هنا بالنسبة لمن ظلّ على كفره ومواقفه العدائية والعدوانية كما قلنا قبل.

سورة القمر

سورة القمر في السورة إشارة إلى آية انشقاق القمر وحملة على الكفار لمكابرتهم وتكذيبهم لآيات الله. وتذكير لهم بأمثالهم المكذبين السابقين. والسورة ذات خصوصية فنية نثرية. وفصولها مترابطة تامة الانسجام والتوازن. وقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآيات [44- 46] مدنيات وانسجامها التام مع الآيات الأخرى يسوغ التوقف في صحة الرواية. ولقد روى بعض المفسرين ومنهم ابن كثير عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت إن الآية [46] نزلت وهي جارية تلعب وقد يكون في هذا قرينة مؤيدة لنزولها في مكة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة القمر (54) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) . (1) آية: علامة أو بينة أو معجزة. (2) مستمر: إما من الاستمرار، وتكون الجملة في معنى أنه مظهر من مظاهر السحر المتكررة المستمرة. وإما من المرور بمعنى الذهاب والانقضاء، فتكون الجملة في معنى أنه مظهر سحري لا يلبث أن يمر وينقضي وكلا الاحتمالين

وجيه. وبعض المفسرين قالوا بالإضافة إلى هذا: إن المعنى كلام قوي شديد. (3) وكل أمر مستقر: الجملة إنذارية بمعنى أن لكل أمر مصيرا يستقر عنده. وهذا ما يكون من شأن المكذبين. وبعض المفسرين أضاف إلى هذا قولا آخر وهو أن كل شيء سوف يستقر ويثبت سواء كان حقا أو باطلا، وخيرا أو شرا. فهم يقولون إنه سحر ويكذبونه وسوف تظهر الحقيقة وتستقر ... (4) مزدجر: فيه ما يحمل على الازدجار أي الكف عن المناوأة والتكذيب. (5) حكمة بالغة فما تغني النذر: هناك من حمل «فما» على النفي فيكون معنى الآية أن النذر والآيات لا تغني إذا لم يزدجر المكذبون بما جاءهم من الأنباء والهدى والحكمة في القرآن. وهناك من حملها على الاستفهام فيكون معنى الآية تقريعيا وتساؤلا عما تغني عنه الآيات والنذر إذا لم يزدجر الناس بما جاءهم في القرآن من الأنباء والهدى والحكمة البالغة. ومعظم المفسرين يجعلون جملة حِكْمَةٌ بالِغَةٌ بدلا بيانيا من مزدجر «1» . والحكمة هنا هي حكمة الله تعالى. وهي كل ما فيه الهدى والحق والإحكام. في الآيات إيذان إنذاري باقتراب الساعة وقيام القيامة وانشقاق القمر. وتنديد بالكافرين المكذبين الذين إذا رأوا آية من آيات الله أنكروها وقالوا إنها سحر مألوف مستمر. وتقرير للواقع من أمرهم حيث كذبوا الرسول وما جاء به اتباعا للأهواء وإعراضا عن الحق عمدا. وإنذار بأن لكل أمر مستقرا ومصيرا حيث يظهر الحق من الباطل والهدى من الضلال ويستقر. وتقريع لهم على عدم ارعوائهم بينما جاءهم في القرآن من أنباء الأولين ومصائر المكذبين ومن أعلام الهدى والحق ما فيه العبرة التي تحمل على الازدجار والارعواء، وما فيه الحكمة البالغة المقنعة لمن يريد أن يقنع وينجو من المصير الرهيب، فإذا هم لم يزدجروا بذلك فلا تزجرهم الآيات والنذر.

_ (1) انظر معاني الكلمات في تفسير الطبري والطبرسي والخازن والنسفي وابن كثير والبغوي.

تعليق على انشقاق القمر

وتعبير اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ في معنى توكيد اقترابها. واستعملت صيغة الماضي على سبيل التوكيد، وقد تكرر ذلك في القرآن مثل ما جاء في آية سورة النحل هذه: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) وفي آية سورة الأنبياء هذه اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) . تعليق على انشقاق القمر أما انشقاق القمر المذكور بصيغة الماضي فقد قيل فيه قولان: أحدهما وقوع الانشقاق فعلا كمعجزة أظهرها الله عزّ وجلّ على يد النبي صلّى الله عليه وسلّم إجابة لتحدي الكفار، وثانيهما توكيد وقوع الانشقاق عند قيام الساعة كعلامة من علاماتها أو أثر من آثارها. ولقد روى المفسرون أحاديث عديدة متنوعة الرتب والأسانيد «1» ، ومنها ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة تفيد أن الانشقاق وقع فعلا بناء على تحدّي الكفار وأن آيات السورة الأولى نزلت لأن الكفار أصروا على كفرهم وقالوا إن محمدا سحر القمر أو سحر أعين الناس. من ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أنس بن مالك قال: «سأل أهل مكة النبي صلّى الله عليه وسلّم آية فانشقّ القمر بمكة فنزلت: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ «2» وحديث رواه كذلك الشيخان والترمذي عن عبد الله قال: «بينما نحن مع رسول الله بمنى انشقّ القمر فلقتين فلقة من وراء الجبل وفلقة دونه فقال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اشهدوا» «3» . وللترمذي «انشقّ القمر على عهد النبي حتى صار فرقتين على هذا الجبل وعلى هذا الجبل فقالوا سحرنا محمد فقال بعضهم إن كان سحرنا لا يستطيع

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والنسفي والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والقاسمي. (2) التاج ج 4 ص 222- 223. (3) المصدر نفسه. الجزء الثاني من التفسير الحديث 18

أن يسحر الناس كلّهم» «1» . وحديث رواه الإمام أحمد عن أنس فيه زيادة عن ما رواه الشيخان والترمذي حيث جاء فيه: «سأل أهل مكة النبيّ آية فانشقّ القمر بمكة مرتين فنزلت اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ «2» . وحديث رواه الإمام أحمد عن عبد الله قال: «انشقّ القمر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى رأيت الجبل من بين فرجتي القمر» «3» . وحديث رواه البيهقي عن عبد الله قال: «انشقّ القمر بمكة حتى صار فرقتين فقال كفار قريش أهل مكة هذا سحر سحركم به ابن أبي كبشة. انظروا السّفّار فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق وإن كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو سحر سحركم به قال فسئل السفار قال: وقدموا من كل وجهة، فقالوا رأيناه» «4» . وحديث رواه الطبراني عن ابن عباس قال: «كسف القمر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا سحر القمر فنزلت اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ إلى قوله مُسْتَمِرٌّ «5» . ومع أن هناك كما قلنا قبل من قال إن جملة وَانْشَقَّ الْقَمَرُ إنما عنت أنه سوف ينشق «6» . فإن جمهور المفسرين وأهل السنّة يأخذون بالأحاديث الواردة وبظاهر الآية ويقررون أن الانشقاق وقع فعلا كمعجزة نبوية بناء على طلب المشركين. ومنهم من نسب إنكار ذلك إلى أهل البدع والأهواء. وهناك من قال إن هذا لو وقع لكان متواترا وعرفه أهل الأرض كلهم ولم يختصّ أهل مكة برؤيته. وقد فنّد المثبتون هذه الأقوال بحجج وأقوال متنوعة. ولقد قال بعض أهل السنّة

_ (1) التاج ج 4 ص 222- 223. (2) النصوص من ابن كثير. وهناك صيغ أخرى لهذه الأخبار فيها بعض الزيادة والنقص فاكتفينا بما نقلناه. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه. (6) روى المفسر الطبرسي هذا القول عن الحسن وعثمان بن عطاء عن أبيه وهما من علماء التابعين.

والحديث إن هذا الحادث متواتر غير أن هناك من العلماء من ردّ على ذلك وقال إنه لم يتواتر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إلّا القرآن «1» . والحق إن الآية الثانية قوية التأييد لما عليه هذا الجمهور. لأنها من الصعب أن تصرف إلى معنى آخر. وهذا فضلا عن الأحاديث الواردة في كتب الصحاح وبخاصة إن بينها حديثا صحيحا مرويا عن شاهد عيان هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. ومع ذلك فإنه يلحظ أولا أن السور التي سبقت هذه السورة لم تحتو إلّا مرة واحدة احتمالا بوقوع تحدّ من المشركين وهو ما تضمنته آية سورة المدثر هذه: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) واكتفت بالإعلان بأن القرآن أو الدعوة تذكرة فمن شاء ذكره كما جاء في سورة المدثر بعد هذه الآية: كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) دون الاستجابة إلى تحديهم. وثانيا أن السور التي نزلت بعد سورة القمر لم تشر صراحة ولا ضمنا إلى حادث انشقاق القمر كمعجزة جوابا على تحدّي المشركين على عظيم خطورته وعلى كثرة تحدّي المشركين للنبي صلّى الله عليه وسلّم. وكانوا كلما تحدّوه بالإتيان بمعجزة أو آية ردّ عليهم القرآن بأن الآيات عند الله وأن النبي بشر يتبع ما يوحى إليه. وأن القرآن هو المعجزة البالغة ويقف عند ذلك، وبأنهم لن يؤمنوا بأية آية لأن طلبهم هو من قبيل التعجيز والسخرية والتعنّت وليس فيه إخلاص وحسن نية ورغبة صادقة في الاقتناع مما أوردنا نصوصه وعلقنا عليه في سياق سورة المدثر تعليقا يغني عن التكرار. وثالثا إن حكمة التنزيل حينما اقتضت أن يعلل عدم الاستجابة إلى تحدي المشركين لم يذكروا بموقفهم من معجزة انشقاق القمر وذكروا بمواقف الأمم السابقة المكذبة لمعجزات أنبيائهم وبخاصة بموقف قوم ثمود من معجزة الناقة التي أتى بها إليهم نبيهم كما جاء في آية سورة الإسراء هذه التي هي ذات خطورة عظيمة في صدد توكيد عدم الاستجابة إلى تحدي الكفار المتكرر في الوقت نفسه: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما

_ (1) انظر تفسير ابن كثير والخازن والقاسمي.

نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً (59) مع أن المتبادر أن التذكير بموقفهم من معجزة انشقاق القمر يكون أقوى وأشد إفحاما. ورابعا إن رواة أحاديث الانشقاق باستثناء عبد الله بن مسعود هم من أبناء العهد المدني. ويكون حديث ابن مسعود حديث آحاد. وكل هذه الملاحظات قد تبرر الميل إلى الأخذ بتأويل من أوّل عبارة اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ بأنها في صدد المستقبل أو عند قيام القيامة حيث تتبدل نواميس الكون على ما ذكرته آيات عديدة مرّت أمثلة منها في المناسبات السابقة ومن ذلك في صدد القمر في سورة القيامة: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) . وقد يدعم هذا الحديث النبوي الصحيح الذي أوردناه في سياق تعليقنا في سورة المدثر وهو: «ما من نبيّ إلّا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ» والذي ينطوي فيه تقرير اقتضاء حكمة الله تعالى أن لا يظهر على يد النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم معجزة خارقة اكتفاء بالوحي الرباني الذي فيه الهدى والبينات والسعادة والفلاح في الدنيا والآخرة. ومع كل ذلك تظل الآية وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ التي جاءت عقب آية اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ قوية الدلالة ويصعب صرفها إلى معنى آخر كما قلنا. وتظل صحة الأحاديث الواردة في حدوث المعجزة واردة. وللتوفيق بين الأمرين قد يمكن أن يقال إن حكمة الله اقتضت أن يظهر هذه الآية في أول العهد المكي فلما كذّبها الكفار وقالوا إنها سحر اقتضت حكمة الله أن يكون ذلك الموقف السلبي المنطوي في الآيات التي نزلت بعد هذه السورة. والله تعالى أعلم. وننبّه على نقطة هامة وهي أننا لا نعني أن هذا التأويل يمكن أن يكون في معنى تقرير استحالة انشقاق القمر كمعجزة ربانية، إذا ما شاء الله ذلك. فخرق النواميس الكونية المعروفة وهو ما تعنيه المعجزة في نطاق قدرة الله تعالى على

تعليق على موضوع اقتراب الساعة

الوجه الذي تشاءه حكمته. وقد شرحنا هذه النقطة في سياق سورة المدثر شرحا يغني عن التكرار. هذا، وفيما تضمنته الآيات من التقريع على اتباع الأهواء وإنكار الحق والمراء فيه، وعدم الاعتبار بالأحداث الزاجرة والاقتناع بالحق الذي يؤيده الحكمة البالغة والحجة الدامغة، والاستمرار في الغي والغواية تلقينات مستمرة المدى سواء أكانت في تقبيح اتباع الهوى والمراء في الحق والحقيقة، أم في العناد والمكابرة وعدم الازدجار بالأنباء الزاجرة بقطع النظر عما يكون في ذلك من ضرر وخطأ وصدم للحقيقة والحق، وتعطيل للمصلحة وتنافر مع المنطق، أم في إيجاب الابتعاد عن ذلك واتباع الحق أم في التسليم بما تقوم عليه الحجة وتقصده الحكمة القرآنية. تعليق على موضوع اقتراب الساعة وخبر اقتراب الساعة المنطوي في الآية الأولى من السورة ليس الوحيد في القرآن فقد تكرر بأساليب متنوعة مثل آية سورة الأنبياء هذه: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ [1] وآية سورة النحل هذه: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [1] . ولقد رويت في صدد ذلك أحاديث نبوية عديدة أيضا منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن سهل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «بعثت أنا والساعة هكذا ويشير بإصبعيه فيمدّهما. وفي رواية بعثت أنا والساعة كهاتين وضمّ السبّابة والوسطى» «1» . وحديث رواه الحافظ أبو بكر البزار عن أنس قال: «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطب أصحابه ذات يوم وقد كادت الشمس أن تغرب فلم يبق منها إلّا شفّ يسير فقال: والذي نفسي بيده ما بقي من الدنيا فيما مضى منها إلّا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه. وما نرى من الشمس إلّا يسيرا» «2» . وحديث رواه الإمام أحمد عن ابن عمر قال: «كنّا جلوسا عند النبي صلّى الله عليه وسلّم والشمس على قعيقعان بعد العصر فقال ما

_ (1) التاج ج 5 ص 301. (2) النصوص من تفسير ابن كثير. [.....]

شرح لكلمة (الحكمة) ومعانيها في القرآن

أعماركم في أعمار من مضى إلّا كما بقي من النهار فيما مضى» «1» . وحديث رواه الإمام أحمد عن بهز قال: «خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال أمّا بعد فإنّ الدنيا قد آذنت بصرم وولّت حذّاء ولم يبق منها إلّا صبابة كصبابة الإناء يتصابّها صاحبها. وإنّكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها فانتقلوا منها بخير ما يحضرنكم فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنّم فيهوي فيها سبعين عاما ما يدرك لها قعرا. والله لتملؤنّه. أفعجبتم والله لقد ذكر لنا أن ما بين مصرعي الجنة مسيرة أربعين عاما وليأتينّ عليه يوم وهو كظيظ الزّحام» «2» . وهذا أمر مغيّب لا مجال للتخمين والتزيد فيه. والإيمان بما جاء في الآيات والأحاديث الثابتة واجب مع الوقوف عند ذلك. وقد يلمح من الحديث الأخير أن الحكمة من الإيذان بذلك هي حثّ الناس على تقوى الله وصالح الأعمال. والله سبحانه وتعالى أعلم. وهناك أحاديث عديدة أخرى في علامات الساعة وأشراطها سنوردها ونعلّق عليها في مناسبات أكثر ملاءمة إن شاء الله. شرح لكلمة (الحكمة) ومعانيها في القرآن وبمناسبة ورود هذه الكلمة لأول مرة في هذه السورة نذكر أن هذه الكلمة تكررت كثيرا في مناسبات متنوعة. وأصل الكلمة من «حكم» بمعنى فصل وقضى وبتّ وضبط. وقد جاءت في القرآن وفي اللغة العربية بالتالي لتعبر عن معان عديدة أخرى وإن لم تبتعد عن هذا الأصل حيث صارت تعبر عن كل قول وفعل وشيء يكون فيه صواب وسداد وحق وهدى وبرّ ومعروف وضبط وإتقان. ويكون بعيدا عن الطيش والرعونة والغلظة والجفاء والبغي والضرر والباطل. وفي سورتي

_ (1) النص من تفسير ابن كثير. (2) المصدر نفسه.

الإسراء ولقمان وسلسلتان من الآيات فيها وصايا وأوامر ونواه إيمانية وأخلاقية واجتماعية وسلوكية رائعة إحداهما من الله تعالى مباشرة وثانيتهما على لسان لقمان. وكلتاهما وصفتا بالحكمة. حيث جاء في آخر سلسلة الإسراء ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ [39] وفي أول سلسلة سورة لقمان وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ [12] وكل ما في هاتين السلسلتين هو في نطاق المعاني المذكورة. وفي سورة النحل جاءت الكلمة في معرض رسم خطة للنبي صلّى الله عليه وسلّم في الدعوة إلى سبيل الله كما ترى في هذه الآية: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [125] حيث يفيد هذا النصّ أن الحكمة هي البعد عن الجفاء والغلظة واللجاج والتزام العقل والمنطق وحسن العرض والنية. وهو ما يتصل بالمعاني المذكورة أيضا. وهناك آيات تذكر ما آتاه الله سبحانه لأنبيائه من الحكمة وإرسالهم للناس بها وتعليمهم إياها للناس إلى جانب كلمة الكتاب حيث يفيد هذا أن الحكمة التي أوتيها أنبياء الله هي ما ألهمهم إياه من قول وفعل متصفين بالصفات المذكورة آنفا بالإضافة إلى ما احتوته كتب الله المنزلة عليهم من مثل ذلك كما ترى في الآيات التالية: 1- كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة: 151] . 2- وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [آل عمران: 48] . 3- وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ [آل عمران: 81] . 4- وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [النساء: 113] . وفي سورة البقرة تنويه بمن يؤتيه الله الحكمة كما ترى في هذه الآية: يُؤْتِي

[سورة القمر (54) : الآيات 6 إلى 8]

الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (269) والمتبادر أن الكلمة هنا تعني الأقوال والأفعال المتّصفة بتلك الصفات. ومن هنا يصح أن تسمّى سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القولية والفعلية حكمة وأن يقال إنها ما عني بها في آية البقرة [151] وأمثالها. ونكتفي الآن بما تقدم على أن نعود إلى بيانات وشروح أخرى في مناسبات آتية. [سورة القمر (54) : الآيات 6 الى 8] فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) . (1) نكر: لا يعرف مثيل له. (2) الأجداث: القبور. (3) مهطعين: مسرعين. الآيات متصلة بسابقاتها اتصال تعقيب وتسلية وإنذار. فهي تأمر النبي عليه السلام بعدم الأبوه بتكذيب المكذبين والانصراف عنهم. ثم تصف ما سوف يلقونه في يوم القيامة حيث يدعوهم منادي الله فيخرجون من قبورهم مسرعين كالجراد المنتشر كثرة واضطرابا وأبصارهم خاشعة من الخوف والفزع وشدّة الهول الذي لا مثيل له، وحيث يتيقنون أن يومهم يوم عسير جدا. والمتبادر أن وصف الذي سوف يلقاه المكذبون في الآخرة قد استهدف- فيما استهدف- إثارة الرعب في قلوب المعاندين والمكذبين وحملهم على الارعواء. وتعبير فَتَوَلَّ عَنْهُمْ لا يعني كما هو المتبادر أن يدع إنذار الناس

[سورة القمر (54) : الآيات 9 إلى 42]

والمكذبين من الجملة، فهذه مهمة النبي المستمرة، وإنما هو تعبير أسلوبي يتضمن التسلية والتهوين، وقد تكرر بعبارات مماثلة حينما كان يشتدّ لجاج الكفار والمكذبين مما مرّت أمثلة منه. [سورة القمر (54) : الآيات 9 الى 42] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) . (1) ازدجر: قوبل بشدّة أو منع بشدة.

(2) قد قدر: قد حسب ودبّر بإحكام. (3) دسر: قيل إن الكلمة تعني المسامير وقيل إنها العوارض وجملة ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ كناية عن السفينة. (4) تجري بأعيننا: تسير تحت رعايتنا وبتوجيهنا. (5) مدّكر: متذكر. (6) صرصرا: قيل إنه البرد، وقيل إنه الشديد الهبوب والدويّ. (7) أعجاز نخل منقعر: عجز النخلة ساقها، ومنقعر بمعنى منخلع، والآية تعني أن الريح كانت تنزع الرؤوس من الأجسام أو تطرحهم بشدتها كأنهم أعجاز النخل المنقعر. (8) سعر: الجنون، ومنه المسعور. (9) أشر: المتبجح بالكذب أو الموغل فيه أو المتبطر أو المتكبر. (10) فتنته: اختبارا وامتحانا. (11) كل شرب محتضر: كل فريق من أصحاب نوبة الشرب يحضرون في يومهم المعين المتفق عليه فقط. (12) صاحبهم: الذي اتفقوا على أن يكون عاقر الناقة منهم. (13) تعاطى: هاجم الناقة أو تهيأ للهجوم عليها ليعقرها. (14) هشيم: النبات الجاف. (15) المحتظر: الحظيرة أي الحديقة أو الحقل. (16) حاصبا: ريحا تحصب بالحجارة من شدّتها. (17) تماروا: جادلوا وكذبوا. (18) راودوه عن ضيفه: فاوضوه وطالبوه بالتخلي عن ضيوفه. (19) مستقر: شامل لإخلاص منه. في الآيات سلسلة لقصص أقوام نوح وعاد وثمود ولوط وفرعون مع أنبيائهم عليهم السلام، وقد جاءت عقب حكاية موقف كفار العرب من النبي صلّى الله عليه وسلّم وحكاية تكذيبهم له ولآيات الله والتنديد بهم وإنذارهم، وهو ما جرى عليه أسلوب النظم

تعليق توضيحي على القصص الواردة في السلسلة

القرآني في إيراد القصص على ما شرحناه في تفسير سورة القلم، فهي والحالة هذه متصلة بالآيات السابقة اتصال تعقيب واستطراد. وباستثناء قصة فرعون فقد جاءت القصص الأخرى مفصلة بعض الشيء، وهذه أول مرة تأتي كذلك مما يمكن أن يدلّ على أن ظروف السيرة وحكمة التنزيل اقتضتا أن تأتي هنا مسهبة بعض الشيء بعد الإشارات الخاطفة التي ذكرت بها من قبل، وفي هذا مشهد من مشاهد تطور التنزيل كما هو المتبادر. والبيان القصصي مفهوم وليس من حاجة إلى شرحه بأداء آخر، وأسلوب الآيات وصيغتها ومضمونها يؤيد ما قلناه من أن القصص القرآنية لم ترد لذاتها وإنما للعظة والتذكير واللازمة التي تكررت عقب كل مقطع وهي: فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ تزيد ذلك توكيدا. ولقد احتوت تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم من ناحية وتذكيرا وإنذارا للكفار من ناحية أخرى فإذا كان قومه قد كذبوه ونعتوه بالجنون والكذب والسحر وزجروه وتحدّوه فقد فعل الأقوام السابقون مثل ذلك مع أنبيائهم. ولقد نكّل الله بهم فمنهم من أغرقه بالطوفان ومنهم من أهلكه بالريح الصرصر. ومنهم من دمّره بالرجفة وخسف به الأرض ومنهم من أرسل عليه حاصبا. ومن الهيّن عليه أن ينكّل بهؤلاء كما نكّل بالسابقين إذا أصروا على مواقف التكذيب والعناد والمناوأة والصدّ. والوصف الذي احتوته الآيات عن نكال الله للأقوام السابقة بسبب مواقفهم من أنبيائهم قوي مفزع. والمتبادر أنه استهدف فيما استهدفه إثارة الرعب في السامعين الكفار لحملهم على الارعواء. تعليق توضيحي على القصص الواردة في السلسلة والأنبياء وأقوامهم المذكورون في السلسلة ورد ذكرهم بإشارات مقتضبة في سور ق والنجم والمزمل والفجر والشمس. وأوردنا عنهم بعض التعريفات.

ولقد ذكرنا في سياق التعريف بنوح أن قصته واردة في الإصحاحات (5- 9) من سفر التكوين. ونقول هنا إنه ليس في هذه الإصحاحات إشارة ما إلى ما جاء في الآيات التي نحن في صددها من خبر رسالة نوح إلى قومه وتكذيبهم إياه ونعتهم له بالمجنون. وقد جاء في الإصحاح السادس: (أن الله رأى الأرض قد فسدت وكل جسد قد أفسد طريقه عليها فقال لنوح الذي نال حظوة في عيني الربّ وكان رجلا برّا كاملا في أجياله وسلك مع الله قد دنا أجل كل بشر بين يدي فقد امتلأت الأرض من أيديهم جورا فها أنا ذا مهلكهم) ثم أمره بصنع فلك من خشب ليدخل فيه هو وأهله لينجيهم وقال له: إني آت بطوفان مياه على الأرض لأهلك كل جسد فيه روح حياة من تحت السماء وأقيم عهدي معك إلخ) ... وقد لا يكون بين هذا النص وفحوى الآيات تناقض. وليس ما يمنع إلى هذا أن يكون في أيدي الكتابيين قراطيس أخرى فيها بيانات متطابقة مع النص القرآني. ولقد صرف بعض المفسرين الضمير في جملة تَرَكْناها التي جاءت في الآية [15] من قصة نوح إلى سفينة نوح وأوردوا حديثا رواه البخاري في فصل التفسير من صحيحه جاء فيه أن قتادة قال: «إنّ الله تعالى أبقى سفينة نوح حتى أدركها أوائل هذه الأمة» «1» . وزاد الطبري والبغوي فرويا عن قتادة قوله أيضا: «أن الله أبقاها بباقردي من أرض الجزيرة» . وقد صرفها بعضهم إلى عذاب الله ونكاله الطوفاني بالكافرين المكذبين. وخبر آثار سفينة نوح على قمة جبل الجودي أو أرارات من الأخبار التي ظلّت تتناقلها الأجيال إلى جيلنا. وقد حاول بعضهم التثبّت من وجودها فلم يتمكنوا فإذا كانت الكلمة عنتها فيكون ذلك لما كان مشهورا متداولا من أن السفينة استقرّت على أرارات أو الجودي وظلت هناك. وإلّا فيصرف الضمير في الجملة إلى الطوفان الذي كان نكالا وعذابا لقوم نوح على اعتبار أن خبر ذلك سيظل آية وعبرة للأجيال الآتية والله أعلم. والعذاب الرباني لعاد الذي ذكر في الآيات [19- 20] قد تكرر في سور

_ (1) التاج ج 4 ص 223.

[سورة القمر (54) : الآيات 43 إلى 55]

أخرى بعد هذه. مثل سورة الحاقة التي جاء فيها: وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) وسورة الأحقاف التي جاء فيها: فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) والمتبادر أن هذا مما كان متداولا من قصص عاد ونبيهم في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم على ما نبهنا عليه في التعريف الأول. ويقال هذا في صدد ثمود الذين تكررت قصتهم بعد هذه السورة ويقال هذا كذلك في صدد قصة لوط وقومه التي وردت في الإصحاحين الثامن عشر والتاسع عشر من سفر التكوين بما يقارب ما جاء في القرآن على ما نبهنا عليه في التعريف الأول أيضا. ونؤجل التوسّع في التعليق على قصة رسالة موسى إلى فرعون إلى سور أخرى جاءت هذه القصة فيها مسهبة. [سورة القمر (54) : الآيات 43 الى 55] أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) . (1) الزبر: جمع زبور وهو الكتاب والزبر الأولى في الآيات تعني كتب الله والثانية تعني علم الله وما يسجل على الناس من أعمالهم على ما تلهمه روح الآيات.

(2) نحن جميع: بمعنى نحن جمع عظيم والقصد من الجملة الاعتداد بالكثرة. (3) خلقناه بقدر: خلقناه بتدبير وحساب. (4) وما أمرنا إلا واحدة: كل ما نريده يحدث في لمح البصر حالما نأمر بذلك كلمح البصر. (5) أشياعكم: أمثالكم. (6) مستطر: مسطور ومسجّل. (7) في مقعد صدق عند مليك مقتدر: كناية عن تكريم الله الذي يناله المتقون. في الآيات التفات تعقيبي على الفصول القصصية وعود على بدء في إنذار الكفار وتقريعهم. فهي والحال هذه متصلة بالسياق واستمرار له. وهي قوية في إنذارها وتقريعها وأسئلتها الاستنكارية الساخرة وإفحامها. والمتبادر أنها استهدفت فيما استهدفته زجر الكفار وحملهم على الارعواء. والأسئلة الاستنكارية في الآية [43] قوية مفحمة حقا. فهل يظن الكفار أنفسهم خيرا أو أقوى من السابقين الذين يعرفون أن الله قد نكّل بهم، أم هل حصلوا من الكتب المنزلة على براءة تقيهم ذلك النكال حتى يكونوا مطمئنين هذا الاطمئنان مستمرين في ضلالهم وغوايتهم. وفي الآية [44] إشارة إلى اعتداد الكفار بقوتهم وكثرتهم. وقد ساجلتهم الآية [45] بالتعبير فأنذرتهم بهزيمة جموعهم وتوليتها الأدبار. ثم آذنتهم الآيات التالية بأن أمر الله واقع كلمح البصر حالما تقترن مشيئته بشيء. وذكّرتهم بما كان من إهلاله لأمثالهم وأعلنتهم بأن كل شيء فعلوه محصى مسطور عليهم وتوعدتهم بيوم القيامة كموعد أدهى وأمرّ من غيره حيث يسحبون على وجوههم في النار ويتيقنون من أنهم كانوا في ضلال وجنون ثم انتهت جريا على النظم القرآني إلى تطمين المتقين بالمقابلة بما أعدّه الله لهم عنده من جنات ورضوان.

تعليق على الآية إنا كل شيء خلقناه بقدر والآثار الواردة في موضوع القدر

ويلحظ أن نعت الكفار بالمجرمين قد تكرر في الآيات ومن المحتمل أنه قصد بذلك الزعماء خاصة الذين لم يكتفوا بالكفر والتكذيب بل ارتكبوا إلى جانبهما جريمة اضطهاد المسلمين وفتنتهم مع جريمة الصدّ والتآمر والتعطيل. وفي الآية [45] بشارة ربانية حققها الله لنبيه والمؤمنين في بدر وما بعد بدر فكانت معجزة قرآنية. ولقد روى البخاري عن ابن عباس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال وهو في قبّة يوم بدر اللهمّ أنشدك عهدك ووعدك. اللهمّ إن تشأ ألا تعبد بعد اليوم. فأخذ أبو بكر بيده فقال حسبك يا رسول الله ألححت على ربّك وهو يثب في الدرع فخرج وهو يقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ «1» . تعليق على الآية إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ والآثار الواردة في موضوع القدر ويظهر مما أورده المفسرون في سياق جملة إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ أن الجملة قد أخذت على معنى قدر الله السابق لخلقه وتقديره الأحداث من الأزل. وقد أوردوا في سياقها حديثا عن أبي هريرة قال: «جاء مشركو قريش إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم يخاصمونه في القدر فنزلت يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ «2» ومقتضى الحديث أن تكون الآيات نزلت لحدة في هذه المناسبة مع أنها منسجمة نظما ووزنا وموضوعا في السياق العام. وأبو هريرة لم

_ (1) التاج ج 4 ص 223. وقد أورد ابن هشام عن ابن إسحق صيغة أخرى لمناجاة رسول الله وهي: «اللهمّ إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد» . ج 2 ص 267. وفي الصيغة التي أوردها المفسران ابن كثير والبغوي تعبير: «إن شئت» بدلا من «إن تشأ» . (2) معظم المفسرين تطرقوا إلى هذا الموضوع في سياق تفسير الآية. وهذا الحديث أورده الطبري والبغوي وابن كثير. وقد ورد في التاج من مرويات مسلم والترمذي أيضا، التاج ج 1 ص 32.

يذكر أنه سمع هذا من النبي أو أحد أصحابه من السابقين الأولين من المهاجرين من مكة. وهو ليس منهم وإنما أسلم بعد النصف الأول من العهد المدني. وفي القرآن مقاطع كثيرة ورد فيها كلمة (القدر والتقدير وقدرنا) ولكن لم نطلع على حديث نبوي أو صحابي يذكر أنها تعني القدر الذي هو موضوع البحث. على أن هناك أحاديث عديدة أخرى في موضوع القدر. منها ما أورده المفسرون في سياق هذه الآية ومنها ما أورده في سياق آيات أخرى من بابها. ومنها ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة ومنها ما ورد في كتب وروايات محدثين آخرين. فمن ذلك الحديث الطويل الذي أوردناه في بحث الملائكة في سورة المدثر والذي رواه الخمسة عن عمر بن الخطاب والذي فيه المحاورة التي جرت بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وجبريل عن الإسلام والإيمان ومن جملتها كون الإيمان بالقدر خيره وشرّه من أسس الإيمان «1» . وحديث رواه الشيخان عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنّ الله عزّ وجلّ قد وكلّ بالرحم ملكا فيقول أي ربّ نطفة. أي ربّ علقة. أي ربّ مضغة. فإذا أراد الله أن يقضي خلقا قال الملك أي ربّ ذكر أو أنثى. شقيّ أو سعيد. فما الرزق. فما الأجل فيكتب كذلك في بطن أمه» «2» . وحديث رواه الأربعة عن علي قال: «كان رسول الله جالسا ذات يوم وفي يده عود ينكت به فرفع رأسه فقال ما منكم من نفس إلّا وقد علم منزلها من الجنة والنار. قالوا يا رسول الله فلم نعمل أفلا نتكل. قال: اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له ثم قرأ فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى [الليل: 5- 7] الآيتين» «3» . وحديث رواه الترمذي ومسلم جاء فيه: «قيل يا رسول الله بيّن لنا ديننا كأننا خلقنا الآن. ففيم العمل اليوم أفيما جفّت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما نستقبل. قال: لا بل فيما جفّت به الأقلام وجرت به المقادير. قال: ففيم العمل

_ (1) التاج ج 5 ص 173- 174. (2) انظر المصدر نفسه. (3) انظر المصدر نفسه.

قال كلّ عامل ميسّر لعمله» «1» . وحديث رواه الترمذي جاء فيه: «قال عمر يا رسول الله أرأيت ما نعمل فيه أمر مبتدع أو فيما قد فرغ منه فقال فيما قد فرغ منه. يا ابن الخطاب كلّ ميسّر أمّا من كان من أهل السعادة فإنّه يعمل للسعادة. وأمّا من كان من أهل الشّقاء فإنه يعمل للشقاء» «2» . وحديث رواه مسلم والترمذي عن عمران بن حصين قال: «إنّ رجلين من مزينة أتيا رسول الله فقالا: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه. أشيء قضي عليهم ومضى أو فيما يستقبلون به؟ فقال: لا بل شيء قضي عليهم وتصديق ذلك في كتاب الله عزّ وجلّ: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها «3» [الشمس: 7- 8] . وحديث رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إنّ الله عزّ وجلّ خلق خلقه في ظلمة فألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضلّ فلذلك أقول جفّ القلم عن علم الله تعالى» «4» . وحديث رواه الترمذي عن جابر قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشرّه وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه» «5» . وحديث رواه الترمذي والحاكم عن عائشة قالت: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ستة لعنتهم لعنهم الله وكلّ نبيّ كان. الزائد في كتاب الله والمكذّب بقدر الله والمتسلّط بالجبروت ليعزّ بذلك من أذلّ الله ويذلّ من أعزّ الله والمستحلّ لحرم الله. والمستحلّ من عترتي ما حرّم الله والتارك لسنّتي» «6» . وحديث رواه مسلم عن عبد الله أنه قال: «الشقيّ من شقي في بطن أمه

_ (1) التاج ج 5 ص 173- 174. (2) المصدر نفسه. (3) انظر المصدر نفسه. (4) انظر المصدر نفسه. (5) انظر المصدر نفسه ج 5 ص 172- 173. (6) انظر المصدر نفسه. [.....] الجز الثاني من التفسير الحديث 19

والسعيد من وعظ بغيره فسمعه رجل فأتى حذيفة فأخبره بذلك وقال: كيف يشقى رجل بغير عمل؟ فقال له حذيفة: أتعجب من ذلك فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول إذا مرّ بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصوّرها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال يا ربّ أذكر أم أنثى فيقضي ربّك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول يا ربّ أجله. فيقول ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول يا ربّ رزقه فيقضي ربّك ما شاء ويكتب الملك ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص» «1» . وحديث عن ابن زراره عن أبيه قال: «إن النبي صلّى الله عليه وسلّم تلا هذه الآية وقال نزلت في أناس من أمتي يكونون في آخر الزمان يكذّبون بقدر الله» «2» . وحديث رواه الإمام أحمد مؤيد لهذا الحديث جاء فيه: إن عبد الله بن عمر كتب لصديق له من أهل الشام: إنه بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر فإياك أن تكتب إليّ فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «سيكون في أمّتي أقوام يكذّبون بالقدر» «3» . وحديث عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له: «اعلم أنّ الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم ينفعوك ولو اجتمعوا على أن يضرّوك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يضرّوك. جفّت الأقلام وطويت الصحف» «4» . وحديث رواه الإمام أحمد جاء فيه: «إن عبادة دخل على أبيه وهو مريض فقال له: يا أبتاه أوصني واجتهد لي فقال أجلسوني فلما أجلسوه قال: يا بني إنك لم تطعم الإيمان ولم تبلغ حقّ حقيقة العلم بالله حتى تؤمن بالقدر خيره وشرّه. قلت يا أبتاه وكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشرّه؟ قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك. يا بني إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول إن أول ما خلق الله القلم ثم قال له اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة. يا بني إن متّ ولست

_ (1) التاج ج 5 ص 172- 173. (2) النصوص من ابن كثير والآية المقصودة هي آيات السورة التي نحن في صددها. (3) انظر المصدر نفسه. (4) انظر المصدر نفسه.

على ذلك دخلت النار» «1» . وحديث رواه الترمذي عن علي بن أبي طالب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع يشهد أن لا إله إلّا الله وأني رسول الله بعثني بالحق. ويؤمن بالموت. ويؤمن بالبعث بعد الموت. ويؤمن بالقدر» «2» . وحديث رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر أن رسول الله قال: «لكلّ أمة مجوس ومجوس أمتي الذين يقولون لا قدر. إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم» «3» . وحديث رواه الإمام أحمد عن طاووس اليماني قال سمعت ابن عمر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلّ شيء بقدر حتى العجز والكيس» «4» . وحديث رواه مسلم والترمذي عن ابن عمرو بن العاص عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «قال: كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة» «5» . وحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن عمران بن حصين قال: «قيل يا رسول الله أعلم أهل الجنة من أهل النار؟ قال: نعم، قيل: ففيم يعمل العاملون؟ قال: كلّ ميسّر لما خلق له» «6» . وحديث وصفه ابن كثير بالصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «استعن بالله ولا تعجز فإن أصابك أمر فقل قدّر الله وما شاء فعل ولا تقل لو إني فعلت لكان كذا فإن (لو) تفتح عمل الشيطان» «7» . وحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن عبد الله قال: «حدّثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو الصادق المصدوق فقال إنّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم ينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع

_ (1) هذا النص من ابن كثير وقد روى أبو داود والترمذي هذا الحديث بصيغة أخرى ليس بينها وبين نص ابن كثير فرق جوهري. (2) التاج ج 1 ص 33، وقد روى ابن كثير هذا الحديث عن سفيان الثوري عن علي بزيادة في آخره وهي: «يؤمن بالقدر خيره وشره» . (3) النصّ من ابن كثير وقد روى مثله أبو داود بصيغة قريبة، التاج ج 1 ص 33. (4) النص من ابن كثير. (5) التاج ج 1 ص 32. (6) انظر المصدر نفسه. (7) النص من تفسير ابن كثير لسورة القمر.

كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقيّ أو سعيد. فو الله الذي لا إله غيره إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلّا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلّا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» «1» . وحديث رواه الترمذي عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «صنفان من أمّتي ليس لهما في الإسلام نصيب المرجئة والقدرية» «2» . وحديث رواه مسلم وأبو داود جاء فيه: «قيل لابن عمر إنه ظهر قبلنا ناس يقرأون القرآن ويتقفّرون العلم. وأنهم يزعمون أن لا قدر وأنّ الأمر أنف فقال فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني. والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر» «3» . وحديث رواه الطبراني عن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنّ أول ما خلق الله القلم والحوت، قال للقلم اكتب. قال ما أكتب؟ قال كلّ شيء كائن إلى يوم القيامة» «4» . وحديث رواه ابن عساكر عن أبي هريرة قال: «سمعت رسول الله يقول إن أول ما خلقه الله القلم ثم خلق النون وهي الدواة ثم قال له اكتب. قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما يكون أو ما هو كائن من عمل أو رزق أو أجل فكتب ذلك إلى يوم القيامة» «5» . وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: «خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن نتنازع في القدر فغضب حتى احمرّ وجهه كأنما فقئ في وجنتيه الرّمان، فقال: أبهذا أمرتم؟ أم بهذا أرسلت إليكم؟ إنّما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا

_ (1) التاج ج 1 ص 31- 34. (2) انظر المصدر نفسه. (3) انظر المصدر نفسه وكلمة (أنف) تعني أن أعمال الناس حادثة وليست مقدرة أزليا.. [.....] (4) من ابن كثير في تفسير سورة القلم. (5) انظر المصدر نفسه.

الأمر. عزمت عليكم، عزمت عليكم ألا تتنازعوا فيه» «1» . والذي يتبادر لنا من ناحية الآية بذاتها ومن روحها وروح السياق أنها في صدد الإيذان بأن الله قد خلق كل شيء بحساب مقدّر بما اقتضت حكمته أن يكون عليه أو خلق كل شيء على قدر معلوم ووضع محدد أو على الشكل الموافق له. وفي سورة السجدة آية فيها تعبير قوي عن ذلك وهي: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ... [7] وقد قال هذا غير واحد من المفسرين عزوا إلى ابن عباس وغيره من علماء الصحابة والتابعين «2» . ومن ناحية موضوع القدر بمعنى أن كل شيء وعمل من أحداث الدنيا وأعمال الناس مقدرة في الأزل محتومة الوقوع فهو من المسائل الخلافية الكلامية التي نشبت بين علماء المسلمين في صدر الإسلام وتشعبت في زمن الدولتين الأموية والعباسية وقام فرق عديدة يناقض بعضها بعضا في الأمر. وأكثر ما كان من ذلك هو في صدد أفعال الناس ومكتسباتهم حيث أنكر بعضهم أن تكون محتومة مقدرة من الأزل وأثبت بعضهم ذلك وتوسط بعضهم فجعل للإرادة الجزئية التي أودعها الله في الناس أثرا في أفعال الناس ومكتسباتهم. واجتهد كل فريق في تأييد قوله بآيات وأحاديث ومبادئ من المنطق مما لا يحتمل منهج الكتاب التبسّط فيه. ونحن نرجّح أنه كان لما وقع في صدر الإسلام من الفتن والحروب التي بدأت في أواخر خلافة عثمان رضي الله عنه وامتدّت إلى خلافة علي رضي الله عنه ثم استمرت طيلة الدولة الأموية وشطرا من الدولة العباسية أثر كبير في ذلك. ولقد كان هناك تياران متعارضان تيار يحمل مسؤولية ما كان على القائمين بالأمر ويسعى إلى التغيير على اعتبار أن ذلك من كسبهم. وتيار يعطف ما كان على قدر الله المحتوم ويسعى إلى التهدئة. وكان من التيار الأول الهاشميون وشيعتهم والخوارج والمعتزلة ومن التيار الثاني الأمويون وأنصارهم وكثير من علماء التابعين وأهل السنّة.

_ (1) التاج ج 4 ص 223. (2) انظر الخازن والطبرسي والزمخشري والطبري.

والموضوع في ذاته من ناحية أخرى من المعضلات والمواضيع التي كانت وما تزال قدرا مشتركا بين مختلف النحل والملل والأدوار والأفكار حيث ينقسم الناس فيه بين الاعتقاد بالجبر أو الاختيار بالنسبة لأعمال الناس ومكتسباتهم وبين المسبّبات الحادثة والتقدير المحتوم بالنسبة لأحداث الكون المتنوعة. والإيمان بالله وشمول علمه وقدرته وإحاطته وحكمته ومشيئته وأبديته وأزليته يقتضي بدون ريب الإيمان بأنه لا يصحّ أن يقع شيء في الدنيا من أحداث الكون وأعمال الخلق إلّا بإرادة الله وتقديره. وفي القرآن آيات كثيرة تؤيد ذلك كما أن هذا من مقتضى الأحاديث العديدة التي أوردناها والتي كثير منها بأسناد قوية صحيحة. ومع ذلك ففي القرآن أيضا شواهد لا تحصى على أن الله عزّ وجلّ أودع في الكون نواميس تجري أحداثه وفقها وأودع في الناس قابليات العمل والكسب والتمييز والاختيار فيعملون أعمالهم السلبية والإيجابية بها. وأمرهم باستعمال هذه القابليات ونسب أعمالهم إليهم. ورتّب ثوابهم وعقابهم على اختيارهم وكسبهم. وربط بين ذلك كله وبين حكمة إرسال الرسل. وبيان معالم الهدى والحق من الضلال والباطل في شؤون الدين والدنيا وحثّهم على اتباع الحق والهدى وفعل الخير وحذّرهم من اتباع الباطل والآثام وآذنهم أن ذلك في إمكانهم ومن قابلياتهم التي أودعها الله فيهم بل وربط بين ذلك والحياة الأخروية ربطا وثيقا كما أن فيه آيات كثيرة جدا تنسب أعمال الناس على اختلافها إليهم وإلى مشيئتهم أيضا. وفي القرآن والأحاديث ضوابط يزول بها ما يمكن أن يبدو من تناقض بين ذلك ويكشف عن الحكمة المتوخاة مما مرّ وسيأتي أمثلة كثيرة منها بل ويكاد يكون في كل الآيات وسياقها التي تذكر هداية الله وإضلاله للناس وتقدير ذلك عليهم ما يمكن أن يزيل كون ذلك تقديرا جزافا حتميا وبدون سبب وعمل منهم مما مرّ وسيأتي أمثلة كثيرة منه. ويبدو أن مذهب الاختيار والمسببات أكثر إلزاما لأن المتسق بخاصة مع الحقيقة الكبرى في حكمة إرسال الرسل ودعوة الناس إلى الله وإلى الأعمال

الصالحة وتحذيرهم من الانحراف عنه ومن الأعمال السيئة وترتيب مصائرهم وفقا لمواقفهم من ذلك. ويستتبع هذا أن يقال إن الله حينما أرسل إليهم الرسل وكلفهم وبشّرهم وأنذرهم يعلم ما أودعه فيهم من قابليات التمييز والاختيار والاستجابة وأنه جعلهم مسؤولين عن مواقفهم بناء على ذلك، ويكون فرض غير هذا والقول إن الله قد كلفهم ودعاهم وبشرهم وأنذرهم في حين قدّر عليهم مواقفهم وأعمالهم من الأزل تقديرا حتميا لا قدرة لهم على مخالفته بدون سبب منهم يكون عبثا ومتناقضا مع حكمته السامية المذكورة يتنزه الله عن ذلك. وكل هذا يجعلنا نميل إلى القول إن القصد من الأحاديث التي وردت في القدر والآيات التي تتساوق معها هو بسبيل تقرير علم الله السابق لأفعال عباده ومصائرهم بالدرجة الأولى. وفي بعض الأحاديث التي أوردناها ما يفيد أن هذا هو المقصود. ومن الممكن أن يقال مع ذلك إن الناس يباشرون أعمالهم ويكتسبونها خيرا كانت أم شرا وصالحة أم سيئة بمشيئتهم التي شاء الله أن يودعها فيهم فيزول بذلك وهم كون ذلك بمشيئتهم دون مشيئة الله والله تعالى أعلم. على أن المحقق في الأمر يجد أن المسألة في جملتها تظلّ في نطاق الفكرة الجدلية من حيث إن الناس منذ وجودهم في الدنيا ومنذ أن يعوا كانوا وظلوا منغمرين في أسباب الحياة على مختلف أشكالها وأبعادها دائبين على العمل بدون انقطاع متحملين لمختلف النتائج وقلّما يتوقفون ليتساءلوا عما إذا كانوا مسيرين أو مخيرين ولا يمنعهم هذا لو وقع عن الاستمرار والانغمار في العمل والحياة. ولا يصح أن يشكّ أحد في أن هذا هو مظهر من مظاهر إرادة الله وتقديره وتيسيره وحكمته السامية. ولقد أمر القرآن في آيات عديدة الإنسان بالعمل الذي سوف يراه الله ويجازيه عليه وقرر أن الله خلق الموت والحياة وجعل ما على الأرض زينة لها وخلق الناس ليبلوهم أيهم أحسن عملا وجعل الأرض ذلو لا ليمشوا في مناكبها ويأكلوا من رزقه فيها وأنه جعلهم فيها خلائف ورفع بعضهم فوق بعض درجات ليبلوهم فيما آتاهم وأنه لو شاء لجعلهم أمة واحدة ولكن ليبلوهم فيما آتاهم وعليهم أن يتسابقوا إلى الخيرات مما هو منبثّ في كثير من السور ولا يحتاج إلى

تمثيل حيث يبدو أن حكمة التنزيل قد شاءت أن تنبّه الإنسان إلى أنه وقد وجد في الحياة مكلف بالاندماج فيها دون تساؤل لا طائل وراءه ومكلف بعمل أحسن العمل في حياته أي كل ما فيه الخير والبرّ والعدل والإحسان والحق وإلى أنه بذلك فقط يكون قد حقق حكمة الله في خلقه ووجوده وأدرك هذه الحكمة. ولقد احتوت بعض الأحاديث النبوية التي أوردناها حلو لا ومعالجات حكيمة لهذه المسألة يحسن الوقوف عندها كذلك. فمع تقريرها لتلك الحكمة المتصلة بذات الله وأزليته وأبديته وشمول علمه وقدرته ومشيئته نهت عن النقاش والجدل فيها وأمرت الناس بالعمل دون القول. إن الأمور مقدّرة سابقة ونهت عن (اللو) التي تفتح الطريق لوساوس الشيطان. ولقد مرّ في السور السابقة تلقينات مماثلة وسيأتي كثير من مثل ذلك في السور الآتية إن شاء الله. والله تعالى أعلم. وبعض الأغيار يأخذون على الإسلام عقيدة القدر. ويزعمون أن المسلمين مستسلمون لها وأنها لذلك من المثبطات للنشاط والمسببات للخمول والتواكل. ومع أن المسألة ليست إسلامية وحسب وإنما هي عالمية وجدت وما تزال في مختلف النحل والملل والأفكار والأدوار كما قلنا ومع أن الذين يستسلمون لها من المسلمين جزافا وإطلاقا لا يفعلون ذلك عن فهم لمدى التلقين القرآني والنبوي فيها وإنما يفعلون ذلك عن جهل. ومع أنها ليست مطلقة في الإسلام وأن قابلية الإنسان وقدرته على الكسب والتمييز والاختيار وحثّه على كل ما فيه الخير والصلاح وإيذانه بقابليته وتحميله مسؤوليته من المبادئ المحكمة المكررة في القرآن والحديث فإن مأخذهم ذلك على المسلمين في أي مدى كان هو في غير محلّه بل عكسه هو الأصح من حيث إنها تدفع المسلم إلى الإقدام والتضحية على اعتبار أنه لن يصيبه إلّا ما كتب له وإن ما لم يكن مكتوبا عليه لن يصيبه في حال وإن هو مكتوب عليه سيصيبه على أي حال. وإن ما هو مقدّر عليه مغيّب. ليس من شأنه أن يمنعه من الاستجابة للأوامر والتلقينات القرآنية والنبوية في العمل والكسب والضرب في الأرض وبذل كل جهد في الانتفاع بقوى الكون ونواميسه وطلب العلم على مختلف مستوياته واتخاذ الأسباب للتمكن في الأرض ونشر دين الله

والتسابق في الخيرات والجهاد في سبيل الله وتقواه والاستمتاع بطيبات الرزق والزينة التي أخرج الله لعباده إلخ ... فإن أصاب خيرا ونجاحا فيكون قد حصل المقصود وإن لم يكن فلا يكون قد خسر شيئا لأن ذلك هو المقدّر أي أنه حتى لو اعتقد كون كل ما يقع منه أو عليه مقدرا فإن هذا يجعله لا يتوانى عن العمل لأن هذا العمل هو قدر أيضا ولعل آيات سورة الحديد هذه: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) قد هدفت إلى مثل هذه المعالجة في حالة إخفاق المسلم في ما يباشره من عمل أو التعرّض للمؤذي من الأحداث. وهكذا يصحّ أن يقال إن التلقينات القرآنية والنبوية قد عالجت هذه المعضلة على مختلف صورها معالجة لا يماثلها بل لا يدانيها أية معالجة أخرى من بابها. ولسوف ننّبه في ما يأتي على الشواهد الكثيرة المؤيدة لذلك. والله تعالى أعلم.

سورة ص

سورة ص في السورة حكاية لمواقف الكفار ومعارضتهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وحمله عليهم. وتذكير لهم بأمثالهم. وفيها سلسلة متعددة الحلقات في قصص الأنبياء دون أقوامهم في معرض التسلية والتذكير والتنويه. وفيها قصة آدم والملائكة وإبليس. وقد تخللها مواعظ وتلقينات بليغة وتقريرات عن مهمة النبي عليه السلام وعموم رسالته. وفصول السورة وآياتها مترابطة منسجمة ومتوازنة مما يدلّ على وحدة نزولها أو تلاحق فصولها في النزول. وفيها قرائن على صحة ترتيب نزولها وبخاصة بعد سورتي القمر وق. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة ص (38) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11) . (1) ذي الذكر: الذي فيه التذكير والذكرى أو ذي الشأن والرفعة.

(2) في عزّة: في اعتزاز واستكبار. (3) شقاق: خلاف أو مشاقة وعناد ومعارضة. (4) قرن: بمعنى قوم أو جيل من الناس. (5) لات حين مناص: لا مهرب حينئذ ولا مخلص. (6) عجاب: بليغ في العجب أو في إثارة العجب. (7) الملأ: الزعماء ووجهاء القوم. (8) أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد: قيل إن معناها أنه يراد بالدعوة النبوية مصلحة غير مصلحتنا وتحويلنا عن آلهتنا فانصرفوا عنها وتمسكوا بآلهتكم. وقيل إن معناها أن الصبر على آلهتكم والتمسك بها هو الشيء المطلوب منكم، والمعنى الثاني هو الأوجه المتسق مع العبارة. (9) الملّة الآخرة: أوجه الأقوال فيها أنهم أرادوا الملّة التي أدركوا عليها آباءهم. (10) الأسباب: هنا بمعنى وسائل العروج والصعود إلى السماء. والآية [9] في مقام التحدي للكفار. فإن كان لهم ملك السموات والأرض فليصعدوا إلى السماء. (11) جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب: جند هنا بمعنى فريق، وفي الآية توكيد بهزيمة فريق من الأحزاب، والمقصود حزب المكذبين. قال بعض المفسرين في حرف «ص» إنه بسبيل وصف صدق النبي، وقال بعضهم من المصادّة أو الصدّ وقال بعضهم إنه من أسماء الله الحسنى. وقال بعضهم إنه حرف من نوع الحروف المنفردة التي بدأت بها السور الأخرى للاسترعاء «1» . وهو ما نراه الأوجه، قد أعقبه قسم بالقرآن وهو الأسلوب الذي جرى عليه النظم القرآني في معظم مطالع السور المماثلة. أما جواب القسم فقد تعددت فيه الأقوال. فقيل إنه الآية الثانية. وقيل إنه الآية الثالثة. وقيل إنه محذوف تقديره «إن

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والزمخشري والبغوي والطبرسي.

ما يتلى هو صدق وحق» وعلى كل حال فالعبارة واضحة بأن القسم في معرض توكيد صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم وكذب الكفار وقبح موقف الاستكبار الذي يقفونه. والآيات تحكي موقف زعماء الكفار من النبي صلّى الله عليه وسلّم ودعوته وما بدا منهم من استكبار عنها واستغراب للدعوة إلى وحدة الإله بخاصة واختصاص النبي عليه السلام من دونهم بالوحي، ونعتهم إياه بالسحر والكذب والاختلاق وتوصيتهم الناس بالثبات على عقائدهم التي ورثوها عن الآباء وتندّد بهم وتذكرهم بالأقوام السابقين الكثيرين الذين أهلكهم الله فنادوا واستغاثوا فلم يكن لهم مهرب ولا مغيث. وتتحداهم بأسلوب استنكاري ساخر إذا كان عندهم خزائن رحمة الله حتى يكونوا مطمئنين، أو إذا كان لهم ملك السموات والأرض وما بينهما حتى يستطيعوا أن ينجوا من عذاب الله وتنذرهم بالهزيمة في النهاية. وهي قوية نافذة في ردّها وإنذارها وتنديدها وتحديها، وقد روى المفسرون أن الآيات نزلت بمناسبة مراجعة رهط من زعماء قريش لأبي طالب عمّ النبي صلّى الله عليه وسلّم وقولهم له إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل ويقول ويقول: فلو بعثت إليه؟ فجاء النبي صلّى الله عليه وسلّم فدخل فجلس فقال له أبو طالب أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول. وأكثروا عليه القول وتكلّم رسول الله فقال: يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية، ففزعوا لكلمته ولقوله فقالوا كلمة واحدة؟ نعم وأبيك عشرا. فقالوا: وما هي؟ قال: «لا إله إلّا الله» فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون: أجعل الآلهة إلها واحدا! إن هذا لشيء عجاب. فنزلت الآيات. وهذه الرواية ونصها ورد في سياق تفسير الآيات في تفسير ابن كثير عزوا إلى الترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير، والمفسرون الآخرون يشيرون إلى نزولها في هذه المناسبة مع بعض التغاير «1» ، وعلى كل حال فإن مضمون الآيات يلهم أنها

_ (1) انظر تفسير الطبري والزمخشري والخازن والبغوي والطبرسي. وقد أورد مؤلف التاج حديث الترمذي معزوّا إلى ابن عباس وهو مقارب لما رواه المفسرون. (التاج ج 4 ص 196) .

تعليق على مدى ما انطوى في جملة أأنزل عليه الذكر من بيننا

نزلت في مناسبة مشهد من مشاهد الجدل والحجاج بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وبعض زعماء الكفار. ولقد انطوى فيها تلقينات جليلة مستمرة المدى، منها تقبيح المماراة في الحق اندفاعا وراء الهوى واعتدادا بالنفس وتعمدا للشقاق والمعارضة، ومنها تقبيح التمسك بالتقاليد الموروثة على علاتها، ومنها إيجاب مقابلة كل فكرة أو دعوة جديدة بالتدبّر والتروي واتباع ما يكون فيه حقّ وخير وصلاح مهما كان مغايرا للقديم. تعليق على مدى ما انطوى في جملة أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا والمعنى المنطوي في جملة أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا تكرر في آيات أخرى بأسلوب آخر حيث حكت إحدى آيات سورة فاطر أن من المشركين من كان يحلف أنهم إذا ما جاءهم نذير منهم يتبعونه حتى يكونوا أهدى من الأمم الأخرى ثم استكبروا لما بعث محمد صلّى الله عليه وسلّم نذيرا كما ترى في هذه الآيات: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر: 42- 43] وحيث حكت آيات في سورة الزخرف قولهم إن القرآن كان يجب أن ينزل على أحد زعماء مكة أو الطائف واستكبارهم لما نزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم كما ترى في هذه الآيات: وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف: 30- 32] وحيث يبدو أن اختصاص النبي بالوحي ولم يكن من الزعماء والأغنياء كان من العوامل الهامة في حمل الزعماء أو بعضهم على الأقل على مناوأته والصدّ عن دعوته.

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (1) (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وَما يَنْظُرُ (2) هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (3) (15) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا (4) قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) [12- 16] . (1) ذو الأوتاد: الراجح أن المقصود منها الأهرام التي كانت كالجبل. والقرآن استعمل الكلمة في معنى الجبال، ومن ذلك آية في سورة النبأ: وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) . (2) ينظر: ينتظر. (3) فواق: رجوع. (4) قطنا: قسطنا ونصيبنا. الآيات متصلة بالسياق اتصال تعقيب وتذكير وإنذار كما هو واضح حيث ذكرت بعض الأقوام الذين أشارت الآيات السابقة إشارة خاطفة إليهم وكيف أن الله أهلكهم دون أن يجدوا مغيثا ولا مهربا وقررت أن كل من كذّب في السابق استحقّ عذاب الله وأن مكذبي النبي صلّى الله عليه وسلّم لن يلبثوا حتى تأخذهم الصيحة التي لا فواق لهم بعدها ولا رجوع. أما الآية الأخيرة فقد حكت قولا ساخرا من أقوالهم، فيه استخفاف وتحدّ، جوابا على ما ينذرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم من العذاب، فطلبوا من الله أن يعجّل بعذابهم في الدنيا قبل الآخرة، وهذه صورة جديدة من مواقفهم تكررت منهم وتكررت حكايتها عنهم في القرآن كما جاء في آية سورة الرعد هذه: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) وفي آية سورة الحج هذه: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) .

ومع هذا التأويل للآية الذي قال به غير واحد من المفسرين فهناك من أوّلها بأنها حكاية لطلبهم جميع حظوظهم وما يبشرون به من الجنة الأخروية في الدنيا وحسب بأسلوب السخرية والتحدي من حيث إنهم يجحدون الحياة الأخروية «1» . ولا يخلو هذا التأويل من وجاهة أيضا. ولقد روى الطبري في سياق الآية [15] حديثا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم رواه أبو هريرة أن الصيحة تعني النفخ بالصور. وقد أوردنا هذا الحديث في سياق تفسير سورة المدّثر وعلّقنا عليه بما فيه الكفاية فنكتفي بهذه الإشارة. والأقوام المذكورون في الآيات قد ذكروا في السور السابقة ذكرا عابرا حينا وبشيء من البيان حينا، والأسلوب هنا كما هو في السابق أسلوب إنذار وتذكير، وهو الهدف الجوهري في القصص القرآنية على ما قررناه في المناسبات السابقة، التي ذكرنا فيها ما اقتضاه المقام من تعريف وبيان. وليس في ما جاء عنهم هنا ما يتحمل تعليقا جديدا. اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ (1) إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (2) (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (3) (20) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ (4) إِذْ تَسَوَّرُوا (5) الْمِحْرابَ (6) (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ (7) وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها (8) وَعَزَّنِي (9) فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ (10) نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ (11) لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ (12) داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ (13) فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى (14) وَحُسْنَ مَآبٍ (15) (25) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً

_ (1) انظر الطبري.

فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29) [17- 29] . (1) ذا الأيد: ذا القوّة. (2) كل له أوّاب: كل مسبّح معه منقاد ومطيع له. (3) فصل الخطاب: بمعنى القول الفصل المصيب أو القضاء العادل المصيب. (4) الخصم: المتخاصمون أو المتنازعون في قضية. (5) تسوروا: صعدوا من على السور. (6) المحراب: مكان الاعتكاف والعبادة. ومما قيل إن معنى الكلمة المكان الذي يحارب دونه لعزّته أو قداسته. (7) لا تشطط: لا تبتعد ولا تنحرف عن الحق. (8) أكفلنيها: ضعها تحت يدي أو تحت كفالتي والمقصود تخلّ لي عنها. (9) عزني: شدّد عليّ وغلبني. (10) سؤال: هنا بمعنى طلب. (11) الخلطاء: الشركاء. (12) ظنّ: هنا بمعنى أدرك وتيقن. (13) فتنّاه: امتحنّاه. (14) زلفى: مكانة أو قربى. (15) حسن مآب: حسن مقام ومرجع. وجّه الخطاب في أول هذه الآيات إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم تأمره بتحمل ما يقول الكفار

تعليق على سلسلة قصص الأنبياء وهدفها

والصبر عليه وبذكر عبد الله داود الذي آتاه الله القوة والملك والحكمة وفصّل الخطاب وسخّر له الجبال والطير يسبّحن معه وكلّ طائع منقاد له وهو مع ذلك أوّاب مطيع لله عزّ وجلّ. ثم قصّت قصة الخصم الذي دخل على داود من فوق السور ليتقاضوا عنده في قضية فيها امتحان رباني لداود وعقّبت عليها بتعقيبات واضحة العبارة لا تحتاج إلى بيان آخر. تعليق على سلسلة قصص الأنبياء وهدفها وهذه الآيات حلقة من سلسلة طويلة ذكر فيها عدا داود عليه السلام أنبياء الله سليمان وأيوب وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل واليسع وذو الكفل عليهم السلام دون أقوامهم. وقد ذكر بعضهم باقتضاب وبعضهم بشيء من التفصيل حسب ما اقتضته حكمة التنزيل. والآية الأولى تصل بين هذه الآيات والآيات السابقة لها سياقا وموضوعا. فصور التكذيب واللجاج التي احتوتها الآيات السابقة من شأنها أن تحدث في نفس النبي صلّى الله عليه وسلّم مرارة وحزنا فأعقبتها أولا إشارة خاطفة في معرض الإنذار والتذكير إلى الأقوام الذين كذّبوا أنبياءهم، ثم جاءت هذه السلسلة لتسلي النبي صلّى الله عليه وسلّم وتخفف عنه ما يجده، فتحثّه على الصبر على ما يقول الكفار من جهة، وتخبره مذكرة أنه إذا وقف هؤلاء من دعوته هذا الموقف المرّ المحزن فإن هناك أناسا أخلصوا لله كل الإخلاص وأنابوا إليه كل الإنابة في حالات سرّائهم وضرّائهم وقوّتهم وضعفهم. ومنهم من وصل إلى ذرى القوة والملك كداود وسليمان فلم تبطرهم القوة. ومنهم من وصل إلى أشدّ حالات البلاء، كأيوب فلم يزغه البلاء. وقد صبروا على امتحان الله الصبر الجميل وكانوا في كل امتحان يبادرون إليه نادمين منيبين مستغفرين فاستحقوا برّه ورحمته وتكريمه والمزيد من نعمه ومنحه. وهي تدعوه إلى الصبر على ما يلقاه من عناد ومناوأة وتكذيب والتأسي بمن سبقه من أنبياء الله وتبشيره بما سوف يكون له من برّ الله ورحمته وتكريمه والمزيد من نعمه ومنحه مثل ما كان الجز الثاني من التفسير الحديث 20

لهم. وقد انتهت الحلقة الأولى بالتنويه بالقرآن الكريم المبارك وكون الله قد أنزله على نبيه ليتدبّر السامعون آياته ويتذكّر أولو الألباب منهم فيهتدوا وينيبوا. وهكذا يتسق هدف القصص القرآنية الذي نبهنا عليه سواء أكان قصص أنبياء مع أقوامهم أم قصص أنبياء لحدّتهم، وهو التدعيم والعظة والعبرة والدعوة إلى التأسي. وقد جاءت هذه السلسلة بعد حكاية ما كان من مواقف الكفار والمكذبين وعنادهم. وهو ما جرى عليه النظم القرآني على ما ذكرناه في مناسبات سابقة. وداود يذكر لأول مرة هنا. وقد تكرر ذكره بعد ذلك، كما أن سيرته واردة بشيء من الإسهاب في بعض أسفار العهد القديم «1» . وهناك سفر خاص منها يعرف بالمزامير، فيه استغفار وتمجيد وتقديس وابتهالات لله يعزى أكثر فصوله إلى داود. والراجح أنها هي الزبور الذي اقترن في القرآن باسم داود وذكر أن الله آتاه إياه كما جاء في آيات قرآنية عديدة منها آية النساء [163] التي فيها هذه الجملة: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) . أما ملخص ما ورد في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم من سيرته فهو أن جدته لأبيه مؤابية وأنه كان بارعا في الضرب على الكنارة وأنه بارز جالوت قائد الفلسطينيين وقتله وصار من رجال الملك طالوت وأن هذا خاف منه على ملكه وصار يطارده ويتربص به ليقتله فالتجأ إلى الفلسطينيين وكان يحارب معهم. ولما مات طالوت بايعه فريق من بني إسرائيل ملكا في حبرون ثم صار ملكا على جميع بني إسرائيل واتخذ بيت المقدس التي كانت تسمّى أورشليم وكانت من قبل تسمى (يبوس) عاصمة له ونشبت بينه وبين الفلسطينيين الذين كان لهم ممالك عديدة في جنوب فلسطين وبينه وبين العمونيين والمؤابيين في شرق الأردن وبينه وبين الآراميين في سورية حروب انتصر فيها وصار سلطانه واسعا قويا في الشطر الأول

_ (1) هي سفر صموئيل الأول وصموئيل الثاني والملوك الأول وأخبار الأيام الأولى في الطبعة البروتستانتية وأسفار الملوك الأول والثاني والثالث وأخبار الأيام الأولى في الطبعة الكاثوليكية.

تعليق على قصة الخصم الذي تقاضى أمام داود وتلقيناتها

من عهده. وتمرد عليه ابن له كما تمرد عليه متمردون آخرون فأدى ذلك إلى اضطراب حالة ملكه وانكماشه في الشطر الثاني من عهده «1» . تعليق على قصة الخصم الذي تقاضى أمام داود وتلقيناتها وقصة صاحب الغنم الكثيرة الذي طمع في النعجة الوحيدة التي يملكها فقير والتي وردت الإشارة إليها في الآيات، قد وردت في سفر صموئيل الثاني (الطبعة البروتستانتية) وخلاصة ما جاء في هذا السفر أن داود عليه السلام رأى زوجة أحد رجال جيشه واسمه أوريا عارية على سطح بيتها المجاور لبيته فأعجبته فأحضرها واضطجع معها وكان زوجها في جبهة حربية فلما عاد وشعر بذلك امتنع عنها فأرسله داود إلى الجبهة ثانية وأوعز للقائد بأن يجعله في وجه الموت حتى يقتل فلما قتل، وأرسل القائد يخبر داود بذلك تزوج بامرأته وقد ذكر السفر أن الله أرسل نبيا اسمه ناتان إلى داود فحكى له قصة طمع الرجل الغني الكثير البقر والغنم في نعجة الفقير، فقال داود إن هذا الرجل يستحق الموت فقال له ناتان أنت هو هذا الرجل، لأنك قتلت أوريا وتزوجت بامرأته وعاتبه عتابا شديدا بلسان الله على خطيئته البشعة برغم ما يسّره له وأغدقه عليه من نعمه الكثيرة وأنذره بإثارة الشرّ من بيته ودفع أزواجه إلى غيره فيدخل عليهن جهارا في عين الشمس وعيون بني إسرائيل فقال داود قد خطئت للرب، فقال له ناتان إن الربّ أيضا قد نقل عنك خطيئتك فلا تموت أنت ولكن الابن الذي يولد لك يموت. والآيات وإن كانت خلت من هذه التفاصيل فإن فيها إشارات خاطفة متسقة معها حيث ذكرت أن داود قد أدرك أن الله امتحنه بسبب خطيئة له فاستغفر ربّه وخرّ راكعا وأناب فغفر الله له. والمرجح أن من سامعي القرآن العرب، من كان يعرف قصص داود كليا أو

_ (1) انظر تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم ص 100- 113.

جزئيا، لأن أسفار العهد القديم التي وردت فيها كانت متداولة بين أيدي الكتابيين وبخاصة اليهود الذين كان منهم جالية كبيرة في الحجاز في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم على ما ذكرناه في مناسبات سابقة ولقد أورد المفسرون في سياق هذه الآيات بيانات كثيرة عن داود وملكه وخطيئته وتوبته في بعضها تطابق مع ما جاء في الأسفار وفي بعضها مباينة له وفي بعضها إغراب عجيب «1» ومما يؤيد على كل حال ما قلناه من معرفة أهل بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم قصص داود وما كان يضيفه اليهود إليها من حواش. وربما كان عندهم أسفار وقراطيس أخرى فيها تفصيلات وزوائد لم ترد في الأسفار المتداولة اليوم. وننبه على أمر هام بالنسبة للأسلوب القرآني في قصص الأنبياء. فإنه جرى بصورة عامة على ذكر الأنبياء السابقين بأسلوب تكريمي وتنويهي وعتابي ولم يحتو ما احتوته بعض أسفار العهد القديم عن بعض الأنبياء المذكورين فيها مثلا من تهم وقصص فاحشة. وعلى المسلم أن يحتذي هذا الحذو ولا يتجاوز نطاقه لأن الإيمان بأنبياء الله واحترامهم وتنزيههم ركن من أركان العقيدة الإسلامية على ما جاء في آيات كثيرة منها آية سورة البقرة هذه: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ ... [177] وقد وصف الأنبياء المذكورون في القرآن ومنهم طائفة أخرى ذكروا في سورة (ص) التي نحن في صدد تفسيرها بوصف عباد الله والصالحين والصابرين والأخيار وذوي الزلفى عند الله. ويجب على المسلم أن يذكر إلى هذا أن الأسفار المتداولة اليوم قد كتبت بأقلام بشرية وبعد الأحداث المذكورة فيها بمدة ما وأن من المحتمل كثيرا بل من المؤكد أنها اختلطت بالخيال والمبالغة وتعرضت للتحريف والتشويه المقصود وغير المقصود. وعليه أن يلاحظ حقيقة أخرى تبدو من الإمعان في قصص الأنبياء وهي أن أسلوب هذه القصص في القرآن ليس أسلوب سرد للأحداث وتدوين لها كما هو شأنها في الأسفار المتداولة

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي والقرطبي والخازن وابن كثير مثلا.

تعليق على ما احتوته الآية يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق إلخ من تلقين وما ورد في صدد ذلك من أحاديث

بل توخى فيه الوعظ والتذكير والتدعيم وفاقا لهدف القصص القرآني بصورة عامة. وبالنسبة لأسلوب قصة الخصم التي نحن في صددها يلحظ بالإضافة إلى قصد بيان ما كان من إنابة داود عليه السلام ذي الملك والسلطان لله تعالى واستغفاره عن خطيئة ارتكبها ليكون في ذلك العبرة والتسلية فقد انطوى فيه عظات بالغات حيث قام موضوع الخصومة فيه على الشكوى من طمع الأغنياء وأصحاب الحول والطول بما عند الفقراء والضعفاء وحيث احتوى تصويرا قويا لبشاعة الطمع وتسفيها لأصحابه وتنفيرا منه ووصفه بالظلم والبغي وتنويها بالذين يجانبونه ويلتزمون حدودهم، ويحترمون حدود الآخرين وحقوقهم أيضا مما فيه تلقين عام مستمر المدى. وفيه بالإضافة إلى ذلك عظة وتلقين للحكام وأصحاب السلطان بخاصة على ما هو المتبادر حيث توجب أن يكونوا القدوة الصالحة للناس، وأن ينتبهوا لكل هفوة قد تبدر منهم ليبادروا إلى إصلاحها والرجوع عنها والوقوف عند حدود الله ومراعاة الحق والعدل والإنصاف بكل دقة. وفي استثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات من البغي لفتة تنويهية للمؤمنين الصالحين. فإيمانهم وسلوكهم المستقيم المستمد منه يزعهم عن البغي والظلم وتجاوز حدود الله. تعليق على ما احتوته الآية يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ إلخ من تلقين وما ورد في صدد ذلك من أحاديث والخطاب في الآية [26] وإن كان موجها إلى داود عليه السلام فإن فيه بطبيعة الحال خطابا عاما لأولي الحكم والأمر في الناس بوجوب الحكم بالحق وعدم الزيغ مع الهوى لما في الزيغ من مجانبة الحق والعدل، ثم من ضلال عن سبيل الله. ولما في صدور ذلك من هذه الطبقة خاصة من ضرر مضاعف وإثم مشدّد وخطر أوكد على مصالح الناس. فهم بمثابة خلفاء الله في أرضه وعباده وعليهم أن يرعوا حقوق الله وحدوده فيهم.

ولقد ورد في إحدى آيات سورة الممتحنة ما يفيد أن شرط الطاعة لرسول الله أن يكون أمره فيما هو معروف أنه خير وصلاح كما ترى في هذا النص: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ [الممتحنة: 12] وفي إحدى آيات سورة الأنفال أمر للمؤمنين بالاستجابة إلى الرسول إذا ما دعاهم لما يحييهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ ... [24] . ورسول الله لا يمكن أن يأمر إلّا بما هو خير ولا يدعو إلّا إلى ما فيه حياة حيث يبدو في الأوامر القرآنية قصد تعليم وتقرير مبدأ الأمر والطاعة بين أولي الأمر والرعية وهو واجب الطاعة والاستجابة لأولي الأمر في كل ما فيه معروف وحياة بصورة عامة وحسب وهو ما عبر عنه بالقاعدة المشهورة (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وما ورد فيه حديث رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحبّ أو كره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» «1» . مع التنبيه على أن المتبادر والمستلهم من الحديث أن يكون ذلك واضحا مشهورا لا غموض فيه بالنسبة للجمهور أو لأكثر أهل العلم والحلّ والعقد وأن لا يكون رهنا باجتهادات فردية. ولقد روى الترمذي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ أحبّ الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم منه مجلسا إمام عادل. وأبغض الناس إلى الله وأبعدهم منه مجلسا إمام جائر» «2» . وروى الخمسة عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيته. فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته والمرأة راعية على أهل بيت

_ (1) التاج ج 3 ص 40. (2) المصدر نفسه ص 42- 45، وابن كثير روى الحديث الأول بزيادة في آخره وهي «وأشدّهم عذابا» .

زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه ألا فكلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيته» «1» . وروى الشيخان عن معقل بن يسار أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من وال يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم إلّا حرّم الله عليه الجنة» «2» . وروى الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنما الإمام جنّة يقاتل من ورائه ويتّقى به فإن أمر بتقوى الله عزّ وجلّ وعدل كان له بذلك أجر وإن يأمر بغيره كان عليه منه» «3» . وروى مسلم عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اللهمّ من ولي من أمر أمتي شيئا فشقّ عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به» «4» . وروى الترمذي عن معاوية أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما من إمام يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلّة والمسكنة إلّا أغلق الله أبواب السماء دون خلّته وحاجته ومسكنته» «5» . وروى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظله الإمام العادل وشابّ نشأ بعبادة الله ورجل قلبه معلّق في المساجد، ورجلان تحابّا في الله اجتمعا عليه وتفرّقا عليه. ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» «6» . وروى مسلم والنسائي عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عزّ وجلّ وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا» «7» . حيث يتساوق التلقين النبوي في هذا الأمر الخطير مع التلقين القرآني كما هو الشأن في كل أمر.

_ (1) التاج ج 3 ص 42- 45. (2) المصدر نفسه. [.....] (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه. (6) المصدر نفسه. (7) المصدر نفسه.

تعليق على تسخير الجبال والطير يسبحن مع داود

تعليق على تسخير الجبال والطير يسبّحن مع داود وفي صدد ما جاء في الآيتين [18 و 19] اللتين ذكر فيهما تسخير الجبال وحشر الطير لداود عليه السلام وتسبيحهن معه نقول: إن ذكر ذلك قد تكرر مرة ثانية في سورة سبأ بصيغة تختلف قليلا وهي: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) وإن أكثر المفسرين اكتفوا بالقول إن الله قد سخّر الجبال وحشر الطير لداود يسبّحن معه أو يرجعن تسبيحه وأوّلوا جملة أَوِّبِي مَعَهُ بمعنى سبحي معه أو رجّعي تسبيحه، وبعضهم زاد فقال: إن الله خلق فيها حياة ونطقا «1» ومما قاله الطبري كان إذا سبّح أجابته الجبال واجتمعت إليه الطير. ومما قاله ابن كثير إن الله منح داود عليه السلام صوتا عظيما فكان يسبّح به عند شروق الشمس وغروبها فتسبّح معه الجبال الراسيات وتقف له الطيور السارحات الغاديات الرائحات وتجاوبه مسبّحة معه بأنواع اللغات «2» ، ومما قاله القاسمي «3» إنه كان لصوت داود الحسن دويّ في الجبال وحنين من الطيور إليه وترجيع، ومع ما في كلام المفسرين من وجاهة فإن ظاهر الآيات يدلّ على أن ذلك امتياز خصّ الله سبحانه به داود عليه السلام. ومن الجدير بالذكر أن تسبيح الجبال والطير مع داود وتسخيرهما لم يرد في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم التي روت سيرة داود بشيء من الإسهاب على ما ذكرناه قبل. وهذا لا ينفي أن يكون ذلك واردا في أسفار وقراطيس كان اليهود يتداولونها في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم فقدت. ولقد كان القرآن يتلى علنا ويسمعه أهل الكتاب ولا يمكن أن يكون ذلك جزافا. وفي كتب التفسير بيانات مروية عن علماء الصدر الإسلامي الأول تدور في نطاق ما جاء في الآيات حيث يمكن أن يدلّ هذا

_ (1) انظر تفسير آيات ص وسبأ في تفسير الطبرسي والخازن والزمخشري والبغوي والطبري. (2) انظر تفسير الآيات في تفسير ابن كثير والقاسمي. (3) انظر المصدر نفسه.

تلقينات آية وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ... إلخ

على أن ما جاء في القرآن كان متداولا في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم وليس لذلك مصدر إلّا الكتابيون وأسفارهم. ولقد جاء في سيرة داود في سفر الملوك الأول المسمّى في النسخة البروتستانتية بصموئيل الأول من الأسفار المتداولة اليوم أن داود كان يحسن الضرب على الكنارة كما وصف داود في بعض المزامير المنسوبة إليه وهو المزمور (35) بإمام الغناء عبد الربّ داود، مما يمكن أن يستأنس به على ذلك. والمتبادر أن الهدف الذي استهدفه القرآن من ذكر ذلك هو تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم وتثبيته على ما ذكرناه في مطلع الكلام. تلقينات آية وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ... إلخ وصيغة الاستنكار والتوكيد التي صيغت بها الآية [27] تتضمن كما هو واضح معنى الاستنكار والتسفيه لظنّ الكفار بأن الله قد خلق السماء والأرض وما بينهما باطلا واطمئنانهم به واندفاعهم بتأثيره وراء الفساد والفجور ثم معنى التوكيد على مصيرهم الرهيب يوم القيامة، ولقد تكرر هذا في سور عديدة أخرى مثل هذه الآيات في سورة الدخان وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) وهذه الآية في سورة المؤمنون: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) وهذه الآيات في سورة الأنبياء: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) مما يدل على أن حكمة التنزيل اقتضت توكيد ذلك بخاصة للكفار الفجار المطمئنين بالدنيا واللاهين عن الآخرة والمنحرفين عن الله وآياته نتيجة لذلك، وفي هذا ما فيه من تلقين تهذيبي وإيقاظي مستمر.

تعليق على كلمة كتاب

والآية تضمنت تقريرا قرآنيا محكما بأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات: إنما يفعلون ذلك باختيارهم وكسبهم، كما أن المفسدين الفجّار إنما يرتكبون جرائمهم ويسيرون في طريق الغواية باختيارهم وكسبهم أيضا حيث تقرر أنه لا يمكن أن يكون الفريقان في مركز واحد وأن يعاملا معاملة واحدة أو أن يترك الصالحون المتقون والمفسدون الفجّار وشأنهم بدون حساب ولا جزاء إذ أن هذا يكون عبثا وباطلا في حين أن الله سبحانه لم يخلق الكون عبثا وباطلا. تعليق على كلمة كِتابٌ وكلمة كِتابٌ ترد هنا لأول مرة، والأصل في معناها الشيء المكتوب، وقد أطلقت في القرآن على القرآن وعلى الكتب المنزلة كما أطلقت على أعمال الناس وعلى علم الله أيضا، ومن أمثلة إطلاقها على القرآن الآية التي نحن في صددها، ومن أمثلة إطلاقها على الكتب المنزلة آية سورة المائدة هذه: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ... [48] ومن أمثلة إطلاقها على أعمال الناس آية سورة الانشقاق هذه: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وآية سورة الكهف هذه: وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) ومن أمثلة إطلاقها على علم الله آية سورة الروم هذه: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) . وبما أن القرآن لم يكن تاما حينما نزلت هذه الآية التي عنت كلمة الكتاب فيها القرآن فيمكن أن يقال إن الكلمة تطلق على جميع القرآن كما تطلق على جزء منه، وإن شأنها في هذا شأن كلمة القرآن تماما على ما شرحناه في سياق تفسير سورة المزمل، بما في ذلك دلالتها في الأصل، مثل القرآن على القسم الذي

تعليق على آية كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب

يحتوي مبادئ الدعوة وأسسها الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية والإنسانية. ومن الأدلة على ذلك الآية التي نحن في صددها وآيات سورة العنكبوت هذه: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) وآيات سورة البقرة هذه: الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) ثم صار يطلق على جميع الآيات القرآنية على ما تفيده آية سورة آل عمران هذه: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [7] . ومع أن كلمتي القرآن والكتاب قد وردتا في القرآن مترادفتي المعنى في تسمية كتاب الله المجيد أو التنويه به، فإنهما اجتمعتا في آية واحدة أكثر من مرة أيضا، كما جاء ذلك في آية سورة الحجر هذه: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) وفي آية سورة النمل هذه: طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) . مما يمكن أن يسوغ القول إنهما لم يردا في الآيتين على معنى الترادف التام. ولعله قصد بإيرادهما معا في آية واحدة الإشارة إلى معناهما الأصليين «المقروء المكتوب» ولما كانت الآيات والفصول القرآنية توحى إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وحيا فيتلوها على الناس شفويا ويأمر بتدوينها في الوقت نفسه فإن الإشارة إليها بتعبير الكتاب يمكن أن تكون على اعتبار ما سوف يكون من أمرها بعد تبليغها قراءة وشفويا. واستعمال هذا التعبير ينطوي في ما هو المتبادر لنا على قرينة قوية بأن آيات القرآن وفصوله كانت تكتب على أثر وحيها. تعليق على آية كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ وفحوى الآية [29] التي احتوت كلمة كِتابٌ جدير بالتنويه. فالله سبحانه وتعالى أنزل كتابه المبارك على نبيه صلّى الله عليه وسلّم ليتدبّر السامعون آياته وليتذكر به أولو

العقول الواعية ويهتدوا. وينطوي في هذا دعوة إلى كل إنسان من كل جنس ولون ودين وطبقة من مسلمين وغير مسلمين، وتقرير بإمكان كل إنسان أن يتدبر آياته، وإيجاب على كل إنسان أيضا أن يفعل ذلك. وهكذا يؤذن الله عزّ وجلّ الناس جميعا أنه إنما أنزل كتابه على نبيه ليتدبروا آياته مؤكدا أن أولي الألباب الذين يتدبرون آيات هذا الكتاب المبارك المحكمات «1» اللاتي هن أمّ الكتاب، تدبر الواعي الراغب في الحق العازف عن المكابرة والعناد، البريء عن الزيغ، المتجنب اتّباع المتشابهات ابتغاء الفتنة سوف يتذكرون ويهتدون منه إلى الله عزّ وجلّ، فتتحرر نفوسهم، ويجدون فيه أفضل وأكمل نظام إنساني واجتماعي ضامن لسعادة الدارين. وفي هذا ما فيه من روعة وجلال. وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (1) (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ (2) عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (3) (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (4) (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ (5) جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً (6) حَيْثُ أَصابَ (7) (36) وَالشَّياطِينَ (8) كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (9) (38) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ (10) أَوْ أَمْسِكْ (11) بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) [30- 40] . (1) الصافات الجياد: الجياد هي الخيل الجيدة. والصافنات من الصفون الذي تعددت الأقوال في معناه والذي هو على ما يتبادر منها صفة مرغوبة في الخيل

_ (1) هذا مستلهم من إطلاق الكتاب في أول الأمر على قسم المبادئ والأسس الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية والإنسانية التي جاءت الدعوة الإسلامية للتبشير بها على ما شرحناه في المتن قبل قليل.

تدل على قدرتها على الجري السريع وتحفزها له برفع إحدى يديها لتكون على طرف الحافر أو بقيامها على ثلاث قوائم وتكون رابعتها على طرف الحافر. (2) الخير: الكلمة بمعنى متع الحياة وهي هنا كناية عن حبّ سليمان للخيل الجياد. على ما هو مستلهم من روح الآيات. وقد ذكر الطبري ذلك عزوا إلى أهل التأويل وقال إن العرب كانوا يسمون الخيل بالخير أيضا. (3) توارت بالحجاب: كناية عن غروب الشمس على ما ذكره المفسرون. (4) فطفق مسحا بالسوق والأعناق: طفق بمعنى أخذ، ومسحا بمعنى ضربا بالسيف، والسوق جمع ساق، والأعناق جمع عنق. ومعنى الآية أنه أخذ يضرب بالسيف أعناق الخيل وسوقها لأنها شغلته عن ذكر ربه حتى غربت الشمس. (5) كرسيه: الجمهور على أن الكلمة هنا بمعناها المعتاد وهو السرير الذي يجلس عليه. (6) رخاء: ليّنة طيعة. (7) حيث أصاب: هنا بمعنى حيث قصد وأراد. (8) الشياطين: هنا بمعنى شياطين الجن من غير طبقة إبليس. (9) مقرّنين في الأصفاد: مقيّدين بالسلاسل والأغلال. (10) امنن: أعط وامنح. (11) أمسك: امنع ولا تعط ولا تمنح. هذه الآيات حلقة ثانية من السلسلة. وهي متصلة بالسياق كما هو واضح. ويتجلى فيها قصد التنويه بإخلاص سليمان وإنابته إلى الله وتوبته وامتحان الله له على عظم ملكه وسلطانه. وما كان من مدّ الله له بالقوة وشموله إياه بالعناية والتكريم بسبب ذلك. وكل هذا متصل بالهدف الذي استهدفته السلسلة على ما نبهنا عليه في مطلعها. وليس في عبارة الآيات غموض يحتاج إلى أداء آخر. وسليمان يذكر هنا لأول مرة. ثم يتكرر ذكره مرارا. وسيرته مسهبة في سفري الملوك الأول والثاني (الطبعة البروتستانتية) أو الثالث والرابع (الطبعة

الكاثوليكية) وفي سفر أخبار الأيام الثاني من أسفار العهد القديم. وهناك سفران من هذه الأسفار منسوبان إلى سليمان، اسم أولهما الأمثال، وثانيهما نشيد الأناشيد، فيهما أمثال وحكم ومواعظ بليغة. أما ما جاء في الآيات عنه فقد جاء مقتضبا وبأسلوب غير أسلوب أسفار العهد القديم من حيث إنه لم يكن لسيرته ذاتها وإنما كان للتدعيم والتنويه والعظة والعبرة والتسلية. وفي سور النمل وسبأ والأنبياء آيات أخرى تضمنت شيئا غير قليل من أخبار سليمان عليه السلام أيضا، فيها بعض ما جاء في هذه الآيات مع زيادة وتفصيل، وجاءت بنفس الأسلوب المستهدف للعظة والعبرة والتنويه والتدعيم كذلك، على ما سوف نشرحه في مناسباته. وفي أسفار العهد القديم المذكورة آنفا تروي سيرة سليمان أشياء كثيرة عنه تلخص بأنه كان يحكم معظم أرض فلسطين وبعض أنحاء شرق الأردن وأن السلم كان مخيّما على بلاده وأنه كان ملكا عظيما ذا أموال طائلة ومعادن وسفن وخيل، وأنه منح حكمة فاقت حكمة جميع بني المشرق ومصر وتكلّم بثلاثة آلاف مثل، وعن الأشجار والبهائم والطير والدبيب والسمك، وأن ملكة سبأ جاءت لزيارته واستماع حكمه وقدمت له هدايا ثمينة من عطور وذهب وحجارة كريمة، وأن ملوكا آخرين منهم ملوك من العرب هادوه بهدايا ثمينة. وأنه أنشأ في أورشليم معبدا فخما زيّنه بصفائح الذهب وثمين الخشب وضخم الأعمدة وجعل أوانية من الذهب، كما أنشأ قصرا لسكناه ومباشرة الحكم والقضاء فيه. وكان موضع وحي الله وتكريمه وتجلياته. وإلى هذا فقد ذكرت الأسفار أنه استكثر من النساء حتى بلغ عدد زوجاته ومحظياته ألفا، وتزوج من بنت فرعون ومن نساء صيدونيات وعمونيات وأدوميات وحثيات فأملن قلبه إلى آلهتهن مخالفا لأوامر الله وبنى لهذه الآلهة مذابح وقرّب لها قرابين وعمل الشرّ في عين الربّ فكان ذلك سببا لنقمة الله عليه ووعيده بتمزيق ملكه وإعطائه لعبيده. وقد خرج عليه ثائران وفرّ أحدهما إلى

مصر ثم عاد بعد موته وقاد حركة ضدّ ابنه أدت إلى انقسام مملكته، وليس في الأسفار ما ورد في آيات هذه السور والسور الثلاث الأخرى من تسخير الجنّ والريح لسليمان ولا أعمال الجن البنائية والغوصية، ولا تقييده بعضهم بالأصفاد ولا معرفته لغة الطير واحتشاده معه، ولا قصة الهدهد الذي طار إلى سبأ وأتى بخبر ملكتها، ولا قصة الصافنات الجياد ولا قصة الجسد الذي ألقاه الله على كرسي سليمان. واتساقا على ما نبهنا عليه في سياق فصل داود عليه السلام السابق نقول إن من واجب المسلم الوقوف موقف التحفّظ إزاء ما ورد في الأسفار عن انحرافات سليمان عليه السلام. وكل ما يمكن أن يقال إن الآيات تفيد أنه صدر من سليمان خطأ ما استحق أن يبتليه الله ببلاء ما عليه وأنه أدرك ذلك فأناب إلى ربّه فغفر الله له لأنه كان عنده ذا حظوة وقبول. والأسلوب الذي جاءت عليه قصة سليمان وأخباره ليس أسلوب سرد وتسجيل كما هو الشأن في أسفار العهد القديم وإنما هو أسلوب وعظ وعبرة. فهو عبد الله وهو يعترف بهذه العبودية وينيب إلى الله ويستغفره ويلتمس منه المطالب ويكون موضع ابتلائه وفتنته مع ما وصل إليه من الملك والسلطان والسيطرة على بعض القوى الكونية القوية. وقد يقول المغرضون الأغيار بسبب عدم ورود أخبار تسخير الجنّ والريح وغير ذلك مما ورد في السور الأخرى في الأسفار المتداولة إن كل هذا اختراع بقطع النظر عن كون ذلك داخلا في نطاق قدرة الله تعالى فإننا نقول من قبيل المساجلة إنه ليس هناك ضرورة فنية للاختراع وإن السياق القرآني يبقى مستقيما بدون الزوائد لو لم تكن مستندة إلى أصل. ونحن نعتقد أنها واردة في أسفار وقراطيس كانت متداولة بأيدي اليهود في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم وضاعت ولم تصل إلينا. وهدف القصة إنما يتحقق بقوة إذا كان السامعون يعرفونها. وما كان يتداوله اليهود كان يتسرب إلى العرب. ولقد جاء في الإصحاح التاسع من سفر أخبار الأيام الثاني المتداول اليوم هذه الجملة: (وبقية أخبار سليمان الأولى والأخيرة مكتوبة في أسفار ناتان النبي ونبوّة أحيا الشيلوتي وعدو الرائي) وورد في الإصحاح الحادي

عشر من سفر الملوك الأول- وهو سفر الملوك الثالث في الطبعة الكاثوليكية- هذه الجملة: (وبقية أخبار سليمان وجميع ما عمل ووصف حكمته مكتوبة في سفر أخبار سليمان) . وجميع هذه الأسفار مفقودة لم تصل إلينا. ولقد كان القرآن يتلى علنا ويسمعه أهل الكتاب ومنهم إسرائيليون. وقد سجل القرآن المكي شهادات عديدة للكتابيين بصدق الوحي الرباني بالقرآن وصدق ما احتواه وإيمانهم به على ما أوردناه في تعليقنا على أهداف القصص في سياق سورة القلم. ولا يمكن أن يكون ذلك إلّا أنهم كانوا عرفوا أن ما جاء في القرآن من قصص وغير قصص هو حقّ ومطابق لما كان عندهم. ولقد روى المفسرون «1» في سياق قصص سليمان وأخباره في هذه السورة والسور الأخرى المذكورة آنفا بيانات كثيرة عن جنّ سليمان وجنوده وعلمه وحكمته وسلطانه وبساط ريحه والصافنات والجسد والهدهد وملكة سبأ وعرشها إلخ ... إلخ مروية عن علماء التابعين الذين كان بينهم بعض مسلمي اليهود وأبناؤهم وبعض مسلمي الجاليات الكتابية والأجنبية الأخرى وأبناؤهم مثل كعب الأحبار والقرظي والسدّي وأبناء منبه حيث يفيد هذا أن تلك القصص مما كان متداولا مع زيادات كثيرة في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيئته. وليس من مصدر لذلك قبل القرآن إلّا الجاليات الكتابية واليهودية بخاصة. ومهما يكن من أمر فمن واجب المسلم أن يؤمن بما جاء في القرآن من أخبار الأنبياء ومعجزاتهم وأن يؤمن بأن الله قادر على خرق العادة على أيديهم أو اختصاصهم بأمور خارقة. وإلى هذا فإن مما تجب ملاحظته كون الآيات القرآنية وهي تذكر ما كان يعرفه السامعون عن سليمان عليه السلام من ذلك إنما وردت لبيان عناية الله بمن يخلص له ثم بيان ما كان من إدراك سليمان لما بدر منه من خطأ وما تعرّض له من فتنة وبلاء بسببه وإنابته إلى ربه مع ما وصل إليه من الملك والسلطان والسيطرة على بعض القوى الكونية بسبيل

_ (1) انظر تفسير هذه الآيات ثم تفسير الآيات التي ورد فيها ذكر سليمان وأخباره في سور الأنبياء والنمل وسبأ في كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن. وانظر أيضا تفسير الآيات [102] من سورة البقرة في هذه الكتب حيث تورد أخبارا كثيرة عن سليمان وأحداثه.

العظة والتذكير والمثل والتدعيم كما قلنا آنفا. وهذا ما يجعلنا في الوقت نفسه نتوقف عن إيراد ما جاء في روايات المفسرين من بيانات زائدة عن ما جاء في القرآن قد لا يخلو كثير منها من غلوّ وخيال. ولا سيما ليس فيها ما هو ثابت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي هو وحده المصدر الوحيد الوثيق باستثناء حديث رواه أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه قصة من قصص سليمان التي لم تذكر أيضا في الآيات ولا في الأسفار حيث روي عن أبي هريرة أنه قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم قال سليمان بن داود عليه السلام لأطوفنّ الليلة على مائة امرأة أو تسع وتسعين كلّهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله فقال له صاحبه إن شاء الله فلم يقل إن شاء الله فلم يحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشقّ رجل. والذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون» . ولقد روى هذا الحديث المفسر البغوي بطرقه عن أبي هريرة ورواه عنه البخاري أيضا على ما ذكره الذهبي «1» وأورده البغوي والذهبي على اعتبار أن له صلة بالآيات: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) . ولسنا نرى صلة بين فحوى الحديث والآيات. ولقد روى البغوي وابن كثير وغيرهما رواية طويلة في سياق هذه الآيات أيضا عن وهب بن منبه أحد رواة الأخبار التابعين مختلفة في الصيغ متفقة في المدى خلاصتها أن سليمان صنع لإحدى زوجاته صنما على شكل أبيها فجازاه الله على ذلك بأن جعل شيطانا اسمه صخر على صورته وكان سليمان حينما يذهب لحاجته يسلم خاتمه لخادمة له فجاء الشيطان وأخذ الخاتم وجلس على كرسي سليمان وأخذ يتصرف بالملك كما يشاء ويطيعه الجميع. وعاد سليمان إلى الخادمة فأنكرته وأنكره الناس ولبث منكورا مقهورا حائرا أربعين يوما حتى أدرك خطيئته وكون ما جرى له عقوبة من الله فندم واستغفر الله وذلّت نفسه فتاب الله عليه وجعل الشيطان يلقي بالخاتم في البحر ويطير والتقم الخاتم سمكة صادها صياد

_ (1) انظر كتاب التفسير والمفسرون ج 1 ص 181.

تعليق على ما روي في سياق قصة سليمان من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم عفريتا من الجن ومن رؤيته إبليس أيضا

واشتراها منه سليمان ولما فتحها وجد الخاتم فسجد لله شاكرا وعاد إلى ملكه. وهذا تأويل الفتنة التي فتن الله بها سليمان والجسد الذي ألقاه على كرسيه. ونعتقد أن هذه القصة مما كان متداولا في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأن مصدرها اليهود. والله تعالى أعلم. تعليق على ما روي في سياق قصة سليمان من رؤية النبي صلّى الله عليه وسلّم عفريتا من الجنّ ومن رؤيته إبليس أيضا لقد روى البخاري في فصل التفسير في صحيحه في سياق فصل قصة سليمان عليه السلام عن أبي هريرة قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم إن عفريتا من الجنّ تفلّت البارحة يقطع عليّ صلاتي فأمكنني الله منه فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلّكم فذكرت دعوة أخي سليمان رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص: 35] فرددته خاسئا» «1» . وقد أورد ابن كثير في سياق ذلك وبعد الحديث الذي أوردناه آنفا حديثا آخر عزوا إلى صحيح مسلم ومرويا عن أبي الدرداء قال: «قام رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصلّي فسمعناه يقول أعوذ بالله منك ثم قال ألعنك بلعنة الله ثلاثا ثم بسط يده كأنه يتناول شيئا فلمّا فرغ من الصلاة قلنا يا رسول الله سمعناك تقول في الصلاة شيئا لم نسمعك تقوله قبل ذلك ورأيناك بسطت يدك قال إنّ عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي فقلت أعوذ بالله منك ثلاث مرات ثم قلت ألعنك بلعنة الله التّامة فلم يستأخر ثلاث مرات ثم أردت أن آخذه والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا يلعب به صبيان أهل المدينة» . وقد أورد نصا مقاربا لهذا النص أخرجه الإمام أحمد أيضا. ونقف حائرين أمام هذه الأحاديث. ففي سورة الأعراف هذه الآية عن الشيطان الذي جاء في سياق طويل مرادفا لإبليس: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا

_ (1) التاج ج 4 ص 197.

تَرَوْنَهُمْ [27] وإبليس في الوقت نفسه من الجنّ على ما جاء في آية سورة الكهف هذه: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ... [50] وإلى هذا فالقرآن ذكر في موضعين خبر استماع بعض طوائف الجنّ للقرآن من لسان النبي صلّى الله عليه وسلّم بأسلوب يفيد أن النبي لم ير المستمعين ولم يشعر بهم وإنما علم الخبر من القرآن كما ترى في آية سورة الأحقاف هذه: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) وآيات سورة الجن هذه: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) فإذا صحّت الأحاديث فيكون النبي صلى الله عليه وسلّم قد استثني من آية الأعراف وأنه رأى عفريت الجنّ وإبليس بالقوة التي اختصّه الله بها والتي كان يرى بها الملائكة أيضا. والله أعلم. وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ (1) بِنُصْبٍ (2) وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ (3) هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (4) (42) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً (5) فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ (6) إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) [41- 44] . (1) الشيطان: هنا مرادف لإبليس ومفهومه. (2) نصب: شقاء أو بلاء أو مرض. (3) اركض برجلك: اضرب برجلك الأرض. (4) مغتسل بارد وشراب: ماء بارد للشرب والاغتسال. (5) ضغثا: حزمة من القشّ. (6) لا تحنث: لئلا تحنث بيمينك أو قسمك. وهذه حلقة ثالثة من السلسلة. وهي استمرار للسياق والموضوع والهدف على ما ذكرناه سابقا. والخطاب في الآية الأولى موجه للنبي صلّى الله عليه وسلّم كما وجّه إليه في

أول السلسلة. وهناك أمر له بالصبر على ما يقول الكفار وهنا أمر له بالتذكر بما وقع لأيوب وما كان منه. والخطاب يحتمل أن يتضمن أمر ذكر ذلك للمسلمين أو للسامعين وتذكيرهم به بطبيعة الحال. وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى بيان آخر. وهذه أول مرة يرد فيها اسم أيوب عليه السلام. وقد تكرر وروده بعد ذلك. ومن أسفار العهد القديم سفر خاص به احتوى قصته مفصلة. وهي متفقة مع الإشارات المقتضبة الواردة عنه في الآيات القرآنية مع الفارق في الأسلوب من حيث إنها في السفر قصة وسيرة وفي الآيات لم تقصد لذاتها وإنما قصد منها العظة والعبرة والذكرى. وملخص القصة في السفر أن أيوب كان نبيا وكان صاحب مال وافر وأنعام وأولاد وأهل، متمتعا برفاه العيش ورغد الحياة. وكان يقوم بواجب الشكر لله على نعمه. وأن حوارا جرى بين الله والشيطان في صدده فقال هذا لله إن أيوب إنما يشكره على نعمه وإنه لن يلبث أن يجحده لو سلبها منه. فأخذ الله يمتحنه ببلاء بعد بلاء باقتراح من الشيطان إلى أن هلك أولاده ومواشيه وأمواله بكوارث ساحقة متلاحقة، ثم ابتلي بأمراض في جسمه وقروح في جسده. وحاول الشيطان إغواءه وتغيير قلبه وروحه فأخفق وثبت أيوب في الامتحان وظلّ متمسكا بالصبر والإنابة والخضوع لله لا يدعو إلا الله للتفريج عنه. وحينئذ شمله الله برحمته ونعمته ثانية فأنبط الله له ماء كان له في شربه والاغتسال به البرء والشفاء، وردّ عليه ما فقده من مال ومواش وولد، ومنحه المزيد من نعمته. ولقد كانت امرأته تقوم على خدمته بإخلاص غير أنها كانت أحيانا تظهر التذمر والتألم مما حلّ بهم من بلاء ومصائب، فاعتبر أيوب عليه السلام ذلك منها تمردا على الله، فأقسم أن يجلدها مائة جلدة إن شفاه الله. فأوحى الله إليه بأن يضربها مرة واحدة بحزمة من القش فيها مئة عود فلا يحنث بيمينه بسبب ما كان منها من إخلاص وحسن وفاء هي الأخرى.

التلقينات المنطوية في قصة أيوب عليه السلام

والمرجح أن قصة أيوب عليه السلام مما كان متداولا وغير مجهول من السامعين فاكتفت الآيات بالإشارة إليها باقتضاب متّسق معها، لأن الهدف منها فيها هو الموعظة والتذكير والدعوة إلى التأسّي والاعتبار. ولقد أسهب المفسرون في قصته كثيرا «1» . وفيما ذكروه ما هو متطابق مع قصته في السفر ومنها الزائد الذي يمكن أن يكون مما هو متداول على هامش القصة حسب العادة ولا يبعد أن يكون مما ورد في أسفار وقراطيس لم تصل إلينا. وقد اكتفينا بتلخيص القصة لأنها لم ترد في القرآن لذاتها. التلقينات المنطوية في قصة أيوب عليه السلام ولقد احتوت الآيات عظة وعبرة وتلقينات بليغة فيها تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين في ظروف الدعوة كما فيها تلقين مستمر المدى في كل ظرف. فإذا كان أناس من خلق الله كفروا وتكبّروا وشاقوا واعتزوا بالمال والولد فهناك عباد الله مخلصون كل الإخلاص له في حالتي قوّتهم وضعفهم وفقرهم وغناهم وصحتهم ومرضهم مثل أيوب الذي كان واسع الثروة متمتعا برغد الحياة فشكر ولم تبطره النعمة، ولما ابتلي بالمحن الشديدة صبر ولم تسخطه النقمة فاستحقّ المزيد من منح الله وعنايته وتداركه بالفرج واليسر بعد الضيق والعسر، وإن من واجب المسلمين التمسّك بالله والإخلاص له والشكر له في حال اليسر والصبر في حال العسر. وفي تحلّة اليمين التي أذن الله بها لأيوب حتى لا يحنث أو يضرب زوجته المخلصة دليل على أن الله يسمح لعباده أن يتوسلوا بوسيلة مشروعة تنقذهم مما قد يواجهونه من محرجات ومشاكل ويوقعهم في الإثم والضرر والخطر. وهذه النقطة

_ (1) انظر تفسير الآيات وتفسير آيات سورة الأنبياء [82- 84] في تفسير الطبري وابن كثير والخازن والبغوي والطبرسي مثلا.

تعليق على توسع بعض الفقهاء في تأويل تحلة اليمين التي يسرها الله لأيوب

الأخيرة صارت مبدأ من مبادئ القران المقررة المتكررة بأساليب مختلفة كما يفهم من آية البقرة: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) وآيات سورة المائدة هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) وآيات سورة التحريم هذه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) . وقد روي أنه رفع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر شاب وجد على أمة يواقعها فقال لهم اضربوه حدّه فقالوا يا رسول الله إنه أضعف من ذلك إن ضربناه مئة قتلته فقال فخذوا عثكالا فيه مئة شمراخ فاضربوه ضربة واحدة وخلوا سبيله «1» . تعليق على توسّع بعض الفقهاء في تأويل تحلّة اليمين التي يسّرها الله لأيوب ولقد توسع بعضهم في الحكمة أو الرخصة الواردة في موضوع تحلة يمين أيوب عليه السلام وحاولوا أن يتخذوها دليلا على ما يسمونه بالحيل الشرعية على الإطلاق، وأخذوا يضعون الحيل الشنيعة البشعة للتحلّل من كثير من الواجبات والالتزامات الشرعية من زكاة وربا وطلاق وعتاق وزنا وأيمان موجبة للعقود وأعمال متنوعة أخرى. وهناك فصول في كتب فقهية في ذلك. وسمعنا كثيرا من

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبرسي والقاسمي. والعثكال بمعنى العنقود والشمراخ بمعنى العود. ويطلق عادة على عنقود النخل. [.....]

ذلك ورأيناه بأنفسنا يقع بفتوى بعض المشايخ، حيث كانوا يفتون بوضع مبلغ الزكاة الواجبة في زنبيل قمح أو أرز ويعطونه لفقير ويقولون له هذا وما فيه زكاة ما لنا فيأخذه ثم ينبري ابن الغني أو أخوه أو عامله فيشتري الزنبيل بما فيه بما يوازي ثمن القمح أو الأرز. وكثير من الذين يمارسون الربا يعمدون إلى حيلة مماثلة. وأدنى إمعان وتدبّر يكفي لإبراز ما في هذا التوسع من وهن سند وضعف منطق وجرأة على الله وقرآنه وحكمته وحدوده فأيوب عليه السلام قد أقسم على ضرب امرأته. وكان قسمه قد وقع منه في حال اضطراب وألم وفي حق شخص مخلص بريء. والأيمان على ارتكاب الإثم والضرر غير جائزة أصلا كما تلهمه روح آيات القرآن مثل آيات سورة البقرة هذه: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ «1» (224) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (255) ، وآية سورة النور هذه: وَلا يَأْتَلِ «2» أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) وعدم تنفيذها واجب محتم. وقد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم على اجتناب زوجاته فعاتبه الله وأمره بالتحلّل من يمينه على ما جاء في آيات سورة التحريم التي أوردناها قبل وقد أقسم بعض أصحاب رسول الله على مجانبة اللذائذ المباحة فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم بالتحلّل من يمينهم على ما جاء في آيات سورة المائدة التي أوردناها قبل أيضا. فالقياس لا يمكن أن يطرد إلّا في المواقف المماثلة والإطلاق فيه يعني تعطيل شرائع الله وحدوده وحكمته في هذه الشرائع والحدود. وتصوير الله في صورة المتناقض العابث جلّ عن ذلك وتعالى. هذا عدا ما في ذلك من أضرار لا تقف عند حد في مصالح الناس وصلاتهم فيما بينهم وفي سلب ثقتهم في بعضهم ومن عدوان على حقوقهم وأموالهم وأعراضهم.

_ (1) أي لا تحلفوا بالله لتجعلوا يمينكم ذريعة إلى عدم البرّ والتقوى والإصلاح بين الناس. (2) أي لا يحلف الأغنياء بعدم إعطاء أموالهم إلى أناس معينين من ذوي القربى والمساكين والمهاجرين.

ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات التي تذكر حيلة بني إسرائيل على شريعة السبت في سورة الأعراف وهي الآيات [163- 166] حديثا عن أبي هريرة وصف بأن رجاله ثقاة مشهورون وإسناده جيد قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلّوا محارم الله بأدنى الحيل» . وفي الفصل الذي عقده ابن القيم في الجزء الثالث من كتابه «أعلام الموقعين» على التنديد بالتحايل على أحكام الله أحاديث أخرى منها حديث رواه الإمام أحمد عن ابن عمر قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول إذا ضنّ الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله عليهم بلاء فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم» . والشاهد من الحديث هو التبايع بالعينة. وقد روى ابن القيم عن ابن عباس توضيحا لذلك في رواية جاء فيها: «باع رجل من رجل حريرة بمائة ثم اشتراها بخمسين فسأل ابن عباس عن ذلك فقال دراهم بدراهم متفاضلة دخلت بينهما حريرة وهذا مما حرّم الله ورسوله وإن الله لا يخدع» «1» . ومنها حديث رواه ابن بطة بإسناده إلى الأوزاعي قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأتي على الناس زمان يستحلّون الربا بالبيع» . وحديث رواه الإمام أحمد عن أبي إسحق السبيعي عن امرأته جاء فيه: «إنها دخلت على عائشة هي وأم ولد زيد بن أرقم وامرأة أخرى فقالت لها أم ولد زيد إني بعت من زيد غلاما بثمانمائة نسيئة واشتريته بستمائة نقدا فقالت أبلغي زيدا أن قد أبطل جهاده مع رسول الله إلّا أن يتوب بئسما شريت وبئسما اشتريت» «2» . وهذه الأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. ولا مانع من صحتها. على أن هناك حديثا رواه البخاري عن جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «قاتل الله اليهود لمّا حرّم الله عليهم شحومها جملوها ثم باعوها فأكلوها» «3» . وفي هذا

_ (1) نحن نعرف بالمشاهدة أن المرابين كانوا يكتبون سند الدين بأصل المبلغ ثم يكتبون فائدته بقيمة سلعة ما ويشتري تابعهم هذه السلعة بمبلغ تافه فيحتالون بذلك على أخذ الربا والمتبادر أن الرواية المروية عن ابن عباس لتوضيح التبايع بالعينة من هذا الباب. (2) انظر المصدر نفسه. (3) التاج ج 4 ص 101.

تعريف بالأسماء المذكورة في الآيات

تحريم نبوي للحيل في إبطال شرائع الله تعالى. وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (1) (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (2) (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48) [45- 48] . (1) أولي الأيدي والأبصار: الأقوال متعددة في تأويل الجملة وأوجهها أنها بمعنى أولي القوة في العبادة والطاعة وأولي البصيرة في الدين والشريعة. (2) إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار: أوجه الأقوال في تأويل الجملة أنها بمعنى إنا جعلناهم خالصين لنا بخصلة خالصة فيهم وهي تذكرهم الدار الآخرة والعمل لها والزهد عن غيرها. هاتان حلقتان أخريان من السلسلة. والخطاب فيهما موجه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بالتبعية بذكر إبراهيم وإسحاق ويعقوب ثم إسماعيل واليسع وذي الكفل أنبياء الله الذين اصطفاهم ورفع أقدارهم وخصّهم ببرّه وتكريمه لما كانوا عليه من حسن الطاعة والبصيرة والعمل الصالح، والآيات استمرار في السياق السابق وهدفها الدعوة إلى التأسّي بهم والاعتبار بما نالوه من حسن المآب والكرامة الربانية، وهو هدف السلسلة عامة على ما نبهنا عليه. تعريف بالأسماء المذكورة في الآيات وذكر إبراهيم عليه السلام ورد في سور سابقة، أما الأسماء الأخرى فهذه هي المرة الأولى التي ترد. ثم تكررت في سور تالية. ولقد ذكر إسحاق ويعقوب وإسماعيل عليهم السلام مرارا في سفر التكوين المتداول اليوم بشيء من الإسهاب. وقد ذكرنا لمحة عن إبراهيم عليه السلام في سورة الأعلى فنكتفي الآن بذلك لأن ذكره هنا جاء خاطفا. ومما جاء في هذا السفر عن إسحق ويعقوب وإسماعيل:

1- إن إسماعيل وإسحق هما من أبناء إبراهيم. وإن يعقوب هو ابن إسحق. 2- إن إسماعيل هو البكر وأمه مصرية اسمها هاجر. وإنه لما ولد غارت زوجة إبراهيم سارة وطلبت إبعاده مع أمه. وأمره وحي الله بتلبية طلبها ووعده بأنه سيجعل نسل ابنه أمة عظيمة. وأبعده إلى برية فاران حيث استقرّ وتزوج وصار له اثني عشر ولدا ونمت ذرياتهم نموا عظيما. 3- إن إسحق ولد لإبراهيم وسارة بعد شيخوختهما وببشارة ومعجزة ربانية. وكان موضع عناية الله ووعده بأن يجعل من نسله أمة كبيرة. وشاخ ومات ودفن في أرض كنعان. 4- إن يعقوب هو ابن إسحق وتؤام لأخ له اسمه عيسو الذي كان هو الأول في الولادة. وإن يعقوب اشترى بكورية أخيه بأكلة عدس واحتال على أبيه «1» حينما شاخ وعمي فقدم له نفسه باسم عيسو وحصل على بركته ودعائه بأن يجعل ذريته هي السيدة على ذرية أخيه وعلى سائر الأمم فصار موضع عناية الله وتجلّى له مرارا وسمّاه إسرائيل وصار له اثني عشر ولدا من أمهات عديدة. ونمت ذريتهم وصارت اثني عشر سبطا وانتسبوا إلى جدّهم الأكبر إسرائيل الذي صار اسما ليعقوب. ونكتفي الآن عنهم بهذه اللمحة لأنهم ذكروا هنا ذكرا خاطفا. وقد ذكروا في القرآن مرارا بتوسع أكثر وسنعود إلى ذكرهم بتوسع أكثر في المناسبات الآتية. وفي كتب التفسير «2» روايات وبيانات مسهبة عنهم معزوة إلى العلماء من أصحاب رسول الله وتابعيهم حيث يفيد هذا أن ذكرهم كان متداولا في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل البعثة. وليس من مصدر لذلك إلّا الجاليات الكتابية والجاليات اليهودية بنوع خاص. أما اليسع فهو على الأرجح اليشاع أحد أنبياء بني إسرائيل الذي ورد ذكره مرارا في سفر

_ (1) نحن ننقل ما ورد في السفر وموقفنا من أنبياء الله تعالى هو موقف المنزّه المكرّم في نطاق الأسلوب والمضمون القرآنيين. (2) انظر تفسير الآيات ثم تفسير آيات سورتي الأنعام والأنبياء في كتب تفسير الطبري وابن كثير والخازن والطبرسي.

الملوك الثاني في الطبعة البروتستانتية والرابع في الطبعة الكاثوليكية وذكر خبر نشاطه ومعجزاته المتعددة وتبليغاته لبني إسرائيل. وقد ذكر مرة أخرى في القرآن في سورة الأنعام في سلسلة الأنبياء بوصفه من ذرية إبراهيم مع إسماعيل ذكرا خاطفا كما ذكر هنا. ولم يرو عنه المفسرون فيما اطلعنا عليه شيئا كثيرا، وعلى كل حال فإنه هو الآخر كان معروف الاسم والهوية في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل البعثة مثل الذين ذكروا في أسفار العهد القديم على ما هو المتبادر ومن طريق الجاليات اليهودية «1» . وأما ذو الكفل فإن المفسرين رووا في صدده وشخصيته روايات متعددة منها أنه من أنبياء بني إسرائيل أو من رجالهم الصالحين أو أنه ملك عادل تكفل لنبيّ قومه بالعدل فسمّي ذا الكفل أو أنه شاب صالح تكفّل لنبيّ قومه بالصيام والصلاة وعدم الغضب فوفى بما تكفّل به فسمّي ذا الكفل أي ذا الحظ من ثواب الله أو ذا الثواب المضاعف لأن معنى الكفل هو الحظ أو الضعف. ومنها أن اسمه الحقيقي زكريا أو يوشع بن نون أو عدويا. ومنها أنه كان جبارا عاصيا تاب وأناب إلى الله فسمي باسمه «2» . وروى ابن كثير في صدده حديثا وصفه بالغريب رواه الإمام أحمد عن ابن عمر أنه قال: «سمعت من رسول الله أكثر من مرة يقول كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورّع عن ذنب فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل أرعدت وبكت فقال لها ما يبكيك هل أكرهتك؟ قالت: لا ولكن هذا عمل لم أعمله قط وإنما حملني عليه الحاجة، قال: فتفعلين هذا ولم تفعليه قط ثم نزل عليها وقال اذهبي بالدنانير لك والله لا يعصي الكفل الله أبدا. فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه قد غفر الله للكفل» . وعلى كل حال فالذي نرجحه أن اسمه وشخصيته لم يكونا مجهولين عند سامعي القرآن وأهل بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل البعثة. ومن المحتمل كثيرا الذي يسوغه صيغة الاسم العربية أنه نبي عربي مثل هود وصالح وشعيب. والله أعلم.

_ (1) انظر كتب التفسير السابقة الذكر. (2) انظر المصدر نفسه.

تعليق على عدم وصف إسماعيل واليسع وذي الكفل بوصف عبادنا وعدم قرن إسماعيل مع إبراهيم وإسحق ويعقوب

تعليق على عدم وصف إسماعيل واليسع وذي الكفل بوصف عبادنا وعدم قرن إسماعيل مع إبراهيم وإسحق ويعقوب ويلحظ أولا أن إسماعيل واليسع وذا الكفل قد ذكروا مجردين من تعبير «عبادنا» الذي استعمل في ذكر الأنبياء الآخرين. وثانيا أن إسماعيل لم يقرن بإبراهيم وإسحق ويعقوب مع أنه ابن إبراهيم مثل إسحق بل ابنه البكر كما قلنا قبل على ما ورد في سفر التكوين وقد تكرر هذا في آيات أخرى «1» مما جعل بعض الأغيار والباحثين يقولون إن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يعرف بنوة إسماعيل لإبراهيم إلّا في العهد المدني حينما احتكّ باليهود، فلم يذكر بنوته له إلا في الآيات المدنية. وهذا خطأ فاحش فأبوّة إبراهيم لإسماعيل وأبوّة إسماعيل للعدنانيين مما كان متداولا بل راسخا عند العرب قبل البعثة النبوية على ما هو المتواتر وعلى ما تلهمه آيات قرآنية عديدة منها آيات سورة البقرة هذه: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وهذا فضلا عن أن بنوة إسماعيل لإبراهيم قد ذكرت في آية مجمع على مكيتها وهي آية سورة إبراهيم هذه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ

_ (1) منها آية سورة الأنعام [84] وهود [71] والأنبياء [72] والعنكبوت [27] .

الدُّعاءِ (39) وقد ذكرت آية أخرى أن إسماعيل من ذرية إبراهيم وهي آية سورة الأنعام هذه: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) . ونقول من قبيل المساجلة إن بنوّة إسماعيل لإبراهيم وبكريته مذكورتان في إصحاحات عديدة من سفر التكوين. وكان في مكة جاليات كتابية تتداول هذا السفر. وهذا يعني أن هذا الأمر لم يكن ليخفى في مكة قبل البعثة. فضلا عن أن اليهود لم يكونوا منقطعين عن مكة حيث كان منهم المقيم فيها والمتردد عليها ومنهم من آمن فيها برسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم على ماذكرته آية سورة الأحقاف المكية هذه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) فليس من الضروري أن يكون علم النبي بذلك قد تأخر حتى هاجر إلى المدينة. ولعلّ قرن إبراهيم وإسحاق ويعقوب في مقام واحد هنا وفي المواضع الأخرى قد قصد به الإشارة إلى كونهم هم أصل سلسلة أنبياء بني إسرائيل في حين لم يكن إسماعيل أصلا لها. ويؤيد هذا أن عيسو لم يذكر مع أنه الابن الأول لإسحق لأنه ليس أصلا لهذه السلسلة وأنه حينما اقتضت حكمة التنزيل وسياقه في مكة ذكر بنوّة إسماعيل مع بنوّة إسحق لإبراهيم ذكر ذلك كما جاء في آية سورة إبراهيم المكية الآنفة الذكر وقدم فيها إسماعيل لأنه البكر. أما مسألة ورود إسماعيل واليسع وذي الكفل بدون عبارة «عبادنا» دون الأنبياء السابقين فإن حكمة ذلك خافية علينا. مع التنبيه إلى أننا لا نرى في هذا المقام قرينة مؤيدة لقصد دلالة التفضيل. ولعلّ عطف الآية [48] على ما سبقها ينطوي فيه معنى العطف على وصف عبادنا أيضا. والله أعلم.

تعليق على جنات عدن

هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ (1) أَتْرابٌ (2) (52) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (3) (54) [49- 54] . (1) قاصرات الطرف: الطرف بمعنى العين والبصر. وقد يكون معنى الجملة غاضّات الأبصار حياء وخفرا. ومما قيل في تأويلها إنهن قصرن أبصارهن وقلوبهن على أزواجهن. (2) أتراب: جمع ترب. بمعنى متساو أو رفيق. وقيل إنها بمعنى متساوين في السنّ مع سنّ أزواجهن. (3) نفاد: انتهاء وجملة ما لَهُ مِنْ نَفادٍ بمعنى أنه لا ينقطع ولا ينتهي. الآيات متصلة بالسياق ومعقبة عليه. حيث احتوت تنبيها إلى أن ما تقدم ذكره هو للتذكير والاعتبار. ثم احتوت بشرى بما للمتقين في الآخرة من حسن المنزل والنعيم والفواكه والأتربة التي لا تنفد والنساء الخفرات اللائقات بهم الملازمات لهم المساويات في السنّ لهم في جنات عدن التي يأتي شرح مداها بعد قليل. ومع ما احتوته الآيات من حقيقة نعيم الآخرة الإيمانية فإنها استهدفت فيما استهدفته على ما تلهمه روحها ومضمونها تطمين الصالحين المتقين وإثارة الرغبات فيما عند الله بالإيمان والتقوى والعمل الصالح والدعوة إلى التأسي بعباد الله المخلصين الشاكرين الصابرين في كل حالاتهم. تعليق على جَنَّاتِ عَدْنٍ وبمناسبة ورود هذه الجملة لأول مرة نقول إنها وردت مرارا في آيات مكية ومدنية. وقد قيل إن عدن مصدر عدن بمعنى أقام إقامة دائمة. وتكون الجملة

حينئذ بمعنى جنات الخلود. وقيل إنها علم على نوع خاص من الجنات الأخروية. وقيل إن عدن بمعنى الكرم والبستان في السريانية. وقيل إنها بمعنى وسط الجنة. وليس شيء من هذه الأقوال واردا في كتب الأحاديث الصحيحة وليس هناك مأثور عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها. وقد ذكرت (عدن) مرتين في سفر التكوين أول أسفار العهد القديم المتداول اليوم. حيث جاء ذكرها في هذه العبارة: (وغرس الربّ الإله جنة عدن شرقا وجعل هناك الإنسان الذي جبله) الإصحاح (2) . وفي هذه العبارة من نفس الإصحاح أيضا: (وأخذ الرب الإله الإنسان وجعله في جنة عدن ليفلحها ويحرسها وأمر الربّ الإله الإنسان قائلا من جميع شجر الجنة تأكل وأما شجرة معرفة الخير والشر فإنك لا تأكل منها. إنك يوم تأكل منها تموت موتا) والعبارة تقتضي أن تكون الكلمة علما على بقعة ما في الكون أو الأرض. ولقد عرف من آثار السبئيين النقشية في اليمن الذين وجدوا وحكموا قبل المسيح بأكثر من ألف سنة وامتدّ زمنهم إلى الميلاد المسيحي أنه كان في جنوب اليمن منطقة اسمها (أدنت) كان فيها نتيجة لنظام الريّ الذي اهتمّ له السبئيون وكان من مظاهره خزانات أو سدود كثيرة للماء من جملتها سدّ مأرب العظيم بساتين وارفة وحقول فيحاء «1» . ومعلوم أنه يوجد اليوم منطقة ومدينة باسم عدن في أقصى الساحل اليمني الجنوبي الغربي يمتد إلى آماد بعيدة في التاريخ ولا يبعد أن تكون منطقة (أدنت) هي هذه المنطقة. وأن كلمة عدن الفصحى التي تطلق عليها اليوم متطورة من كلمة أدنت والتقارب اللفظي شديد بينهما. هذا مع التنبيه على أن فحوى الآيات القرآنية التي وردت فيها يفيد أن المقصود من الكلمة جنة أو جنات أخروية. ومن المحتمل كثيرا أن تكون أوصاف جنات منطقة أدنت اليمنية مشهورة متداولة عند العرب قبل البعثة فاقتضت حكمة الله تعالى تسمية جنات الآخرة أو بعضها باسمها جريا على النظم القرآني في وصف مشاهد الآخرة بالمألوفات الدنيوية على ما ذكرناه قبل وتبشير المؤمنين الصالحين بذلك للترغيب والتطمين. والإيمان واجب على كل حال بما ورد في القرآن وبكونه في نطاق قدرة الله تعالى وحكمته. والله تعالى أعلم.

_ (1) انظر تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي ج 2 ص 130.

هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (1) (56) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ (2) وَغَسَّاقٌ (3) (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (4) (58) [55- 58] . (1) المهاد: ما يفرش تحت الإنسان. (2) حميم: الماء الشديد الحرارة. (3) غساق: الصديد النتن، وقيل إنه الشديد الظلمة، وقيل الشديد البرودة. وقد روى الطبري بطرقه عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو أنّ دلوا من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا» حيث يؤيد هذا المعنى الأول للكلمة. (4) أزواج: أصناف، والآية وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ بمعنى أنواع أخرى من مثل أشكال هذا العذاب. والآيات استطرادية إلى ذكر مآل الطاغين بالمقابلة لمآل المتقين على ما جرى عليه النظم القرآني. وهي بذلك متصلة بالسياق على ما هو المتبادر. والوصف فيها قوي رهيب. وقد استهدفت فيما استهدفته إثارة الرعب في قلوب الطغاة الجاحدين ليرعووا والرغبة في قلوب الصالحين المتقين. وهي على هذا مستمرة التلقين كما هو الظاهر. والوصف مستمد من مشاهد الحياة للتقريب والتمثيل والتأثير على ما ذكرناه من المناسبات المماثلة السابقة. هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ (1) مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (2) (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا (3) أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (4) (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) [59- 64] . (1) الاقتحام: الاجتياز بقوة، أو الدخول بشدة وقوة.

(2) ما لنا لا نرى رجالا كنّا نعدّهم من الأشرار: الآية تلهم أن معنى الأشرار فيها سقط المتاع أو المستضعفون، أو الضالون، وهو ما كان الكفار ينعتون به المؤمنين بالرسالة النبوية الذين كان كثير منهم في مبادئ الدعوة من الفقراء والمستضعفين. (3) أتخذناهم سخريا: قرئت أتخذناهم على أنها استفهام من الكفار وقرئت على أنها إخبار. وقرئت سخريا بكسر السين على معنى السخرية وبضمّ السين على معنى التسخير وكلا المعنيين لكلمة سخريا محتمل ووجيه. أما اتخذناهم فإن قراءتها على الإخبار أكثر اتساقا مع السياق، وكلمة سخريا قرينة على ذلك حيث تكون الجملة تتمة لكلام الكفار، ما لنا لا نرى الجماعات الذين كنا نعدهم من الأشرار وكنا نتخذهم سخريا أو خدما مسخّرين لخدمتنا. (4) أم زاغت عنهم الأبصار: هل لم نرهم معنا لأن أبصارنا زاغت عنهم؟. الآيات استمرار في السياق السابق أيضا. وفيها استطراد آخر إلى ذكر ما يكون بين الكفار في النار من حوار وعتاب وتلاوم وتحميل كل فريق مسؤولية المصير السيء الذي صار إليه على الفريق الآخر. وقد تكررت حكاية مثل هذا الحوار في سور أخرى «1» . وعبارة الآيات واضحة. وقد انتهت بتقرير رباني بأن هذا الجدل والخصام بين أهل النار واقع حقا. والآيتان [62- 63] احتوتا حكاية ما يكون من تساؤل أهل النار عمن كانوا يظنونهم أشرارا أو سقط متاع. ويعنون بهم على ما تلهمه الآيات الذين اتبعوا النبي صلّى الله عليه وسلّم ويقولون إنهم كانوا يستخدمونهم ويسخّرونهم في حاجاتهم أو يتخذونهم هزؤا. وينطوي في هذا تقريع لاذع يسمعه الكفار وخاصة رؤساءهم سلفا. فالذين يسألون عنهم كانوا من المتقين وصاروا إلى أحسن منازل النعيم والتكريم. وكلام الكفار الذي تحكيه الآيتان ينطوي على حكاية ما كان من استكبار الكفار- وخاصة زعماءهم- وتعاظمهم على المؤمنين لأن كثيرا منهم في بدء الأمر كان من الفقراء

_ (1) آيات سورة الأعراف [38- 39] وسورة إبراهيم [21] وسورة سبأ [31- 33] مثلا. لاجز الثاني من التفسير الحديث 22

والمستضعفين وقد تكررت حكاية ذلك عنهم وحكاية طلبهم من النبي صلّى الله عليه وسلّم إبعادهم عنه حتى يجلسوا إليه ويتحادثوا معه كما جاء في آيات سورة الأنعام هذه: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا «1» أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وآيات سورة الكهف هذه: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) ومثل آية سورة البقرة هذه: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) ومثل آيات سورة المطففين هذه: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) . ولعل كلمة الطاغين التي وصف بها الكفار في مطلع الفصل الاستطرادي جاءت لتشير إلى هؤلاء الرؤساء، وخاصة الذين كانوا بالإضافة إلى كفرهم ومكابرتهم ومناوأتهم يستكبرون على المؤمنين ويهزأون بهم وينالونهم بالأذى والعدوان. ونقول في صدد الحوار بين أهل النار الذي حكته الآيات إن الإيمان بما أخبر به القرآن من المشاهد الأخروية واجب مع ملاحظة أنه لا بد لذكره بالأسلوب الذي جاء من حكمته. ومن الحكمة الملموحة من أسلوب الآيات هنا قصد تقريع الكفار وإنذارهم وإثارة الخوف فيهم وحملهم على الارعواء والارتداع. والله تعالى أعلم.

_ (1) يقولون ذلك القول بأسلوب الهازئ المتنقص.

تعليق على ما في آيات قل إنما أنا منذر ... وما بعدها من دلالة ومدى

ْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى (1) إِذْ يَخْتَصِمُونَ (2) (69) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) [65- 70] . (1) الملأ الأعلى: كناية عن الله وملائكته على ما يلهمه سياق الآيات التالية لها. (2) يختصمون: يتجادلون ويتحاورون. في هذه الآيات أمر رباني للنبي صلّى الله عليه وسلّم بإيذان الناس بأنه ليس إلا نذيرا يحذر الناس من شرّ المصير إذا تمسكوا بالضلال، وينبههم إلى ما فيه خيرهم وهداهم، ويدعوهم إلى الإقرار بأن لا إله إلّا الله ربّ السموات والأرض وما بينهما القوي القادر القهار الغفار. وبالهتاف بالناس وتنبيههم إلى خطورة مهمته ودعوته وشدّة خطلهم بالإعراض عنها، مقررا بأمر الله بأنه لم يكن له علم بما في الملأ الأعلى وما يكون بين يدي الله من جدل ومحاورات وخصومات، وكل أمره هو أن الله يوحي إليه بذلك لينذر الناس به. فيقوم بتبليغ ما يوحي الله به إليه. ولقد قال بعض المفسرين «1» إن الآية [69] هي في صدد ما كان من أمر تكليف الله الملائكة بالسجود لآدم وتمرد إبليس مما هو مذكور في الآيات التالية لها. ومع أن هذا ليس بعيد الاحتمال وتكون الآية المذكورة وما بعدها حينئذ تمهيدا لذكر تلك القصة فإننا لا نراه يقلّل من وجاهة التأويل الذي ذهبنا إليه، ولا سيما قد استعملت كلمة من مصدرها قبل وهي (تخاصم) أهل النار. تعليق على ما في آيات قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ ... وما بعدها من دلالة ومدى والآيات جاءت معقبة على الآيات السابقة وهي والحال هذه متصلة بالسياق، حيث جاءت على أثر بيان مصائر المتقين والطاغين داعية منذرة، مبينة

_ (1) انظر تفسير الآية في الطبري والزمخشري وابن كثير مثلا. [.....]

استطراد إلى حديث نبوي مروي في سياق الآية ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون

لمهمة النبي صلّى الله عليه وسلّم وخطورتها العظيمة. وفيها صورة قوية للمقصد الرباني في إرسال الرسل. وفيها تنديد قوي لأولئك الذين يعرضون عما يدعون إليه من توحيد الله سبحانه والخضوع له ونبذ كل شريك معه. وفيها توكيد لما تكرر في القرآن من أن مهمة النبي هي الإنذار والدعوة وتبليغ ما يوحى إليه. ولعلّه مما يندمج في هذا أن للناس عقولا وقابليات وقوى اختيارية، لا يحتاجون معها في واقع الأمر إلّا إلى الدعوة والتنبيه والتوضيح والتحديد. فإن لم يستجيبوا بعد ذلك فلا يبقى على الله للناس حجة بعد الرسل الذين أنيط بهم ذلك، على اعتبار أن العقل مهما بلغ يظلّ عاجزا عن الوصول إلى معرفة كل واجب وتبين كل حد من واجبات الله وحدوده، ويظلّ هناك بعض الغوامض فيما يجب وما لا يجب، وما يجوز وما لا يجوز. والآيات بعد تنطوي على صورة رائعة نافذة لخلوص النبي صلّى الله عليه وسلّم واستغراقه في الله ووحيه وعمق إيمانه وشعوره بصدق رسالته، ونزول وحي الله عليه وإعلان ما أمره الله بإعلانه من ذلك. استطراد إلى حديث نبوي مروي في سياق الآية ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ لقد روى الترمذي في سياق هذه الآية حديثا عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: «احتبس عنّا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات غداة عن صلاة الصبح حتى كدنا نترايا عين الشمس فخرج سريعا فثوّب بالصلاة فصلّى وتجوّز في صلاته فلمّا سلّم دعا بصوته قال لنا على مصافّكم كما أنتم ثم انفتل إلينا فقال أما إنّي سأحدّثكم ما حبسني عنكم الغداة. إني قمت من الليل فتوضّأت وصلّيت ما قدّر لي فنعست في صلاتي حتى استثقلت فإذا أنا بربّي تبارك وتعالى في أحسن صورة فقال يا محمد قلت لبّيك ربّ قال فيم يختصم الملأ الأعلى قلت لا أدري قالها ثلاثا فرأيته وضع كفّه بين

كتفيّ حتى وجدت برد أنامله بين ثدييّ فتجلّى لي كلّ شيء وعرفت فقال يا محمد قلت لبّيك ربّ قال فيم يختصم الملأ الأعلى قلت في الكفّارات قال ما هنّ قلت مشي الأقدام إلى الحسنات والجلوس في المساجد بعد الصلوات وإسباغ الوضوء حين الكريهات. قال فبم؟ قلت: إطعام الطعام ولين الكلام والصلاة بالليل والناس نيام. قال سل قل اللهمّ إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحبّ المساكين وأن تغفر لي وترحمني وإذا أردت فتنة قوم فتوفّني غير مفتون. أسألك حبّك وحبّ من يحبّك وحبّ عمل يقرّب إلى حبّك. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنّها حقّ فادرسوها ثمّ تعلّموها» «1» . وقد أوردنا بعض هذا الحديث الذي وصف ابن كثير بأنه حديث المنام المشهور في سياق تفسير آيات سورة النجم الأولى. وقد رأينا إيراده بجميع نصّه هنا لأن المفسرين أوردوه في سياق الآيات التي نحن في صددها. ولأن فيه صورة رائعة لاستغراق النبي في عبادة ربّه حتى يراه ويتحاور معه. وصورة رائعة كذلك لحياته مع أصحابه ومسارعته إلى إبلاغهم كل ما يقع له ولو كان رؤيا منام على اعتبارها حقا يجب إبلاغها إليهم. وما في المحاورة والوعاء من التلقينات والفوائد. إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (1) (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي (2) إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (3) (83) قالَ

_ (1) هذا النص من التاج فصل التفسير ج 4 ص 204 وقد روى هذا الحديث بطرقه المحدّث المفسّر البغوي مع فرق يسير في الصيغة. وأورده ابن كثير بعينه عزوا إلى الإمام أحمد الذي رواه كذلك بطرقه عن معاذ.

تعليق على قصة آدم وسجود الملائكة له وتمرد إبليس وتلقيناتها

فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) [71- 85] . (1) رجيم: مرجوم بالحجارة، والمقصد مطرود بقوة. (2) أنظرني: أخّرني وأمهلني. (3) المخلصين: الذين أخلصوا من الغواية واهتدوا إلى الله والتزموا حدوده. احتوت الآيات حكاية قصة خلق آدم وسجود الملائكة له بأمر الله تعالى وتمرّد إبليس على هذا الأمر، وما كان من حوار بينه وبين الله. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى بيان آخر. والمتبادر أنها هي الأخرى متصلة بالسياق السابق اتصال تعقيب وعظة وتذكير. وحرف «إذ» الذي بدئت به قرينة على ذلك. ولعلّ الاتصال قائم بنوع خاص فيما ذكرته الآيات السابقة من ذكر الطغاة واستكبارهم على دعوة الله وتعاظمهم على المؤمنين، فجاءت هذه الآيات تحكي موقف إبليس المماثل لموقفهم. ونستدرك هنا أن الآيات لم تذكر اسم آدم بصراحة، وقد ذكرناه بصراحة لأن القصة في سور أخرى قد احتوت اسمه، حيث جاء في سورة البقرة هذه الآية من سلسلة القصة ذاتها: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34) . تعليق على قصة آدم وسجود الملائكة له وتمرّد إبليس وتلقيناتها وقصة آدم وإبليس قد وردت في القرآن سبع مرات. ست منها في السور المكية وهي هذه السورة وسور الأعراف والحجر والإسراء والكهف وطه وواحدة في سورة البقرة المدنية. ومحتوياتها متقاربة مع بعض الفروق من حيث البيان

والحوار والتلقين والتوجيه، وبينها وبين قصص الأنبياء وأممهم مماثلة من ناحية التكرار ومن ناحية الأسلوب والسياق ففي كل مرة تأتي في سياق التنديد بالكفار ومواقفهم وتمردهم وتربط ذلك بما كان من موقف إبليس واستحقاقه من أجل ذلك غضب الله، وبما كان من خضوع الملائكة لأمر الله ومسارعتهم إلى تنفيذه. وأسلوبها وعظي وليس سردا قصصيا وهذا هو شأن قصص الأنبياء وأقوامهم. وهذا كله يسوغ القول إن هذه القصة لم تورد في القرآن لذاتها وفي معرض تقرير بدء خلق البشر، وإنما أوردت بقصد العظة والاعتبار وضرب المثل. والإشارة إلى ما في عصيان الله والتمرّد على أوامره من جريمة منكرة، وإلى أن الذين يتمردون على الله ودعوته إنما هم تبع لإبليس، ثم إلى ما في مسارعة الملائكة إلى تنفيذ أمر الله والخضوع له من المثل الحسن الذي يتضمن تقرير كون الذين يستجيبون إلى الله ودعوته هم سائرون في الطريق القويم الذي سار فيه الملائكة. ويتبادر لنا بالإضافة إلى هذا أن القصة استهدفت فيما استهدفته تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين. فالذين لا يستجيبون إلى الدعوة هم ذوو النيات الخبيثة والقلوب المريضة المتكبرون المتعالون الذين يجد فيهم إبليس مجالا للوسوسة والإغواء. ومصيرهم جميعا إلى النار. وأن طريق إبليس مسدود بالنسبة لذوي النيات الحسنة والقلوب السليمة والرغبة الصادقة في الحق والهدى، الذين يستجيبون إلى دعوة الله ويلتفون حول نبيه. وفي جملة إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ من حكاية كلام إبليس تأييد لذلك. وفي كل هذا تلقينات جليلة مستمرة المدى من حيث التبكيت بالمنحرفين وقرنهم بإبليس والتنويه بالصالحين وقرنهم بالملائكة. ولعلّ مما يندمج في أهداف القصة وأسلوبها أمرين مهمين بالنسبة إلى عقائد العرب في الملائكة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة المدثر. أولهما توجيه العرب الذين للملائكة في أذهانهم صورة فخمة إلى الاحتذاء بهم في إطاعة أمر الله واستجابة دعوته. وثانيهما تفهيم العرب أن الملائكة الذين يشركونهم مع الله ليسوا

إلّا عبيدا له يسجدون لمن خلقه من طين استغراقا في الخضوع له. وأن من كان هذا شأنه لا يجوز اتخاذه ربا أو شريكا لله واعتقاد القدرة فيه على النفع والضرّ والمنح والمنع. وفي القرآن آيات عديدة فيها حكاية تنصل الملائكة وتقرير بخضوعهم لله وعبوديتهم له مثل آيات سورة سبأ هذه: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) وآية سورة النساء هذه: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) وآيات سورة الأنبياء هذه: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) . وهذا التوجيه يؤدي إلى التساؤل عما إذا كان العرب يعرفون ما يرمز إليه تعبير إبليس وعما إذا كانوا يعرفون كذلك قصة آدم والملائكة وإبليس. لأن استحكام الحجة عليهم والتأثر بالعظة والعبرة منوطان بذلك على ما قررناه في المناسبات السابقة. وللإجابة على النقطة الأولى ينبغي أن نبحث في كلمة إبليس. فهناك من يقول إنها معربة من كلمة ديابوليس اليونانية التي كانت ترمز إلى الشيطان الموسوس «1» . وهناك من يقول إنها عربية الجذر والاشتقاق والصيغة وإنها من جذر (أبلس) بمعنى يئس وعلى صيغة إفعيل مثل إزميل. وفي القرآن ورد اشتقاق من هذا الجذر بهذا المعنى في آيات سورة الروم هذه: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ

_ (1) انظر تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي ج 5 ص 309 وبعدها.

كافِرِينَ (13) وفي آيات سورة الزخرف هذه: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وقد أنكر الزمخشري عروبة الكلمة وقال إنها أعجمية معرّبة واستدلّ على ذلك بامتناعها عن الصرف. غير أن ابن منظور صاحب لسان العرب ومفسرين آخرين رجحوا عروبتها. ونحن نرجّح ذلك ما دام هناك جذر عربي فصيح وقرآني يمكن أن ترجع إليه الكلمة. ومما لا ريب فيه أن الكلمة كانت متداولة على لسان العرب قبل الإسلام. وتبعا لترجيح عروبتها الفصحى يمكن أن يقال إنها نعت لا اسم وأنها نعت ذمّ وأن العرب كانوا يفهمون هذه الدلالة. ولقد ذكرنا في التعليق على كلمة الشيطان في سياق سورة التكوير أن كلمة الشيطان التي هي أيضا نعت ذمّ وتشنيع وردت في القرآن مرادفة لكلمة إبليس وأنها كانت مفهومة الدلالة عند العرب من حيث إنها كانت تطلق فيما تطلق عليه على العنصر الخفي الشرير الذي يوسوس للناس ويغويهم. وهذا يعني أن العرب كانوا يرادفون بين الشيطان وإبليس ويعرفون أن إبليس هو اسم آخر للشيطان الذي يوسوس للناس ويغويهم. ولقد قلنا في التعليق السابق الذكر إنهم يمكن أن يكونوا عرفوا دور الشيطان من أهل الكتاب. وهذا ينسحب على كلمة إبليس التي كان الكتابيون يرادفون بدورهم بينها وبين الشيطان «1» . وأما بالنسبة للنقطة الثانية فنقول: إن سفر التكوين من أسفار العهد القديم المتداول في أيدي الكتابيين قد ذكر القصة، وملخص ما جاء فيه «2» (أن الله خلق آدم من تراب وسوّاه ونفخ فيه نسمة الحياة، ثم خلق حواء من ضلعه وأسكنهما في جنة أنشأها لهما في عدن شرقا، وأباح لهما الأكل من كل شجرة إلّا شجرة معرفة الخير والشرّ فنهاهما عن أكل ثمرها، ولكن الحية التي كانت أحيل جميع الحيوانات أغوت حواء وأغرتها بالأكل من هذه الشجرة قائلة لها: لن تموتا إذا أكلتما منها كما قال لكما الله، وإن الله عالم أنكما في يوم تأكلان منها تتفتح

_ (1) انظر مثلا الفصل العشرين من رؤيا يوحنا وهو من الأسفار الملحقة بالأناجيل. (2) الإصحاحان الثاني والثالث.

أعينكما وتصيران كالآلهة وتعرفان الخير والشر. فأكلت حواء وأعطت بعلها فأكل. فانفتحت أعينهما فعرفا أنهما عريانان فخاطا من ورق التين مآزر. وسمعا صوت الربّ وهو يتمشى في الجنة فاختبآ من وجهه فنادى الرب آدم أين أنت؟ قال: إني سمعت صوتك فخشيت لأني عريان فاختبأت. قال فمن أعلمك أنك عريان؟ هل أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها؟ قال: إن المرأة التي جعلتها معي أعطتني من الشجرة فأكلت. فسأل الربّ المرأة فقالت أغوتني الحية، فغضب عليهما ربهما وأخرجهما من الجنة ليكدا ويتعبا في الأرض ويعرقا في سبيل أكل خبزهما بعد أن صنع لهما أقمصة من جلد، ولعن الحية وآذنها بعداوة دائمة ضارية بينها وبين ذرية آدم وحواء، وأنذر حواء بمشقة الحمل والولادة وآلامهما إلخ ... ) . وهذا الملخص يتسق مع ما جاء عن القصة في سورة الأعراف بشيء من التباين حيث ذكر في الآيات إبليس بدلا من الحية «1» وذكر فيها أمر الله للملائكة بالسجود لآدم وتمرد إبليس والحوار بينه وبين الله وبينه وبين آدم وحواء وهو ما لم يرد في سفر التكوين كما ترى في هذه الآيات: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ

_ (1) في تفسير الخازن لآيات القصة في سورة الأعراف أن إبليس اتخذ الحيّة مطيّة للدخول إلى الجنة بعد طرده وتمكّن بذلك من إغواء آدم وحواء. وفي تفسير البغوي لآيات القصة في سورة الأعراف أيضا أن حواء قالت إن الحيّة أغوتها وإن الحية قالت إن إبليس أمرها. وفي الإصحاح العشرين من سفر رؤيا القديس يوحنا أحد حواريي المسيح عليه السلام هذه العبارة: (فقبض الملاك على التنين الحية القديمة الذي هو إبليس والشيطان وقيده) . وهذا السفر من أسفار العهد الجديد المتداولة اليوم. والنص يفيد أن الكتابيين كانوا يتداولون قبل البعثة النبوية أن الذي أغرى آدم وحواء هو إبليس. وهذا متطابق مع ما جاء في القرآن. ولعلهم كانوا يتداولون أن إبليس تمثّل لهما على صورة التنين أو الحية.

خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25) يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) . ومع المباينة التي بين الآيات وسفر التكوين فإن التوافق الكبير بينهما يجعلنا نميل إلى القول إن القصة كما وردت في هذه السورة وغيرها من السور لم تكن غريبة عن السامعين لأن أسلوبها تذكيري يلهم أنه بسبيل التذكير بشيء غير غريب. لأن العبرة القرآنية إنما تتحقق بذلك. ونعتقد أن الكتابيين كانوا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم يتداولون أسفارا وقراطيس لم تصل إلينا فيها شروح وحواش متّسقة مع ما ورد في القرآن من القصة. وأن العرب في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم وعصره عرفوها عن طريقهم بحيث يمكن أن يقال إن المخاطبين بالقرآن لأول مرة كانوا يعرفون قصة آدم وإبليس وتمرّد إبليس على الله وطرده من رحمته ودوره في إغواء الناس فاقتضت حكمة التنزيل أن تتلى عليهم لأول مرة في هذه السورة ثم تتكرر بأساليب متنوعة لما انطوى فيها من تلقينات ومواعظ وعبر وأهداف على النحو الذي شرحناه. وهكذا يصدق ما قلناه

في تعليقنا على القصص القرآنية في سورة القلم من أن سامعي هذه القصص من العرب كانوا يعرفونها على هذه القصة أيضا. وفي كتب التفسير «1» روايات كثيرة عن أهل التأويل في الصدر الإسلامي الأول من ابن عباس وقتادة والضحاك والحسن وسعيد بن جبير وابن زيد وغيرهم في سياق هذه الآيات وآيات السور الأخرى التي وردت فيها القصة. كما أن في هذه الكتب أقوالا كثيرة للمفسرين أنفسهم في كيفية خلقة آدم والطينة التي جبل منها ونفخ الله من روحه فيه وخلق زوجته منه والجنة التي أسكنهما فيها والشجرة الممنوعة إلخ معظمها تخمينية واجتهادية فيها السمين والغثّ والمتسق مع ما ورد في القصة في القرآن وسفر التكوين وغير المتسق. وفي بعضها كثير من الإغراب أيضا. ومثل هذا يقال في ما رووه وقالوه في صدد إبليس وماهيته وذريته وأسمائهم وأشكالهم وتفريخهم وأدوارهم. ولم نر طائلا في إيرادها لأنها ليست من أهداف القصة ولكنها تدلّ كما قلنا على أن القصة كانت مما يتداوله أهل عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيئته وليس لذلك مصدر إلّا الكتابيون فيهما. ولقد انجرّ بعضهم إلى بحوث علمية بسبيل التوفيق. ومنهم من رأى في القصة رموزا ومعاني تمثيلية. ومنهم من حاول أن يرى صلة بين خلود روح الإنسان بخاصة وبين تعبير نفخ الله من روحه في الإنسان الأول الذي خلقه من طين وصار أبا البشر. ومنهم من حاول أن يوفق بين هذه الآيات وبين الآيات الأخرى الواردة في صدد نشأة الكون والخلق ثم بينها وبين النظريات العلمية القائمة على ناموس التطور والاصطفاء والنشوء والبقاء أو نشوء جميع الأحياء من نبات وحيوان على مختلف المستويات من التراب والماء مما لا نرى طائلا ولا محلا له كذلك في مجال القصة وأهدافها. ومن غريب ما عزي إلى ابن عباس وبعض التابعين مثل قتادة والضحاك أن إبليس كان من الملائكة بل كان من أشرافهم وكان خازنا للسماء وللجنة. وأنه لو

_ (1) انظر تفسير آيات القصة في هذه السورة والسور الأخرى في كتب الطبري والبغوي وابن كثير والزمخشري والقرطبي والنسفي والخازن ورشيد رضا والقاسمي والطنطاوي جوهري.

لم يكن من الملائكة لما أمر بالسجود لأن الله أمر الملائكة بالسجود فسجدوا وتمرد إبليس. أي أمر معهم بالسجود لأنه منهم وعزي إليهم إزاء آية الكهف التي تصف إبليس بأنه من الجنّ وهي: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ... [50] أن الجنّ الذين منهم إبليس هم قبيلة من الملائكة مع أن في سورة سبأ آية جمعت بين الجنّ والملائكة كخلقين مختلفين بل متعاكسين وهي: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) ومع أن القرآن جمع إبليس مع الجنّ في أصل الخلقة حيث قرر في الآيات التي نحن في صددها وأمثالها أن إبليس خلق من نار وقرر في آيات عديدة أن الجنّ خلقوا من النار أيضا مثل آية سورة الرحمن هذه: وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) وآية سورة الحجر هذه وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) في حين أن هناك حديثا رواه مسلم والإمام أحمد عن عائشة ذكر فيه أنّ الله خلق الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار «1» . ونلاحظ أولا: أن القرآن في صدد ماهية إبليس قد قرر بعض التقريرات التي منها أنه كان من الجنّ كما جاء في آية سورة الكهف التي أوردناها آنفا. مع تقرير أن الجنّ خلقوا من النار كما جاء في آيات سورتي الحجر والرحمن التي أوردناها وغيرها. وحكى قول إبليس أنه هو نفسه خلق من نار كما جاء في آيات قصته التي نحن في صددها وفي السور الأخرى. وقد ذكره بمفرده كما في آيات القصة وأحيانا هو وذريته كما في آية سورة الكهف المذكورة آنفا وأحيانا هو وجنوده كما في آية سورة الشعراء هذه: وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) وذكر الشيطان مرادفا له بصيغة المفرد كما في آية سورة الأعراف [11] التي أوردناها آنفا، وبصيغة الجمع كما في نفس الآية، وذكره هو وقبيله كما في نفس الآية. وعزا إلى إبليس والشيطان وفروعهما إغواء الناس وإضلالهم وتزيينهم لهم الفساد والكفر والإثم كما ورد في

_ (1) التاج ج 5 ص 269.

الآيات التي أوردناها وكثير غيرها وحكى ما جرى من حوار في صدد ذلك بين الله تعالى وإبليس وبين إبليس وآدم، ووقف عند هذا الحدّ. وثانيا: أن القرآن في صدد ماهية آدم وخلقه كرر ما قرره في الآيات التي نحن في صددها بشيء من الخلاف الأسلوبي، وذكر مع ذلك في بعض الآيات خلق الإنسان من طين بدون ذكر آدم وسجود الملائكة كما جاء في آيات سورة المؤمنون هذه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ووقف عند هذا الحد. وثالثا: أن القرآن أورد كل ما أورده في صدد آدم وإبليس بأسلوب التذكير والعظة لا بأسلوب تقرير واقعة لذاتها. وتكرار القصة مع تنوّع صيغتها وسياقها في كل مرة وردت فيها مما يدل على ذلك فضلا عن الأسلوب. فالأولى- فيما نرى من وجهة التفسير القرآني- الوقوف عند الحد الذي وقف عنده القرآن أو اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه في صددها بدون تزيد ولا تخمين مع الإيمان بما احتوته الآيات القرآنية من صور وعدم التورط في تخمين الكيفيات التي لم تقتض حكمة التنزيل بيانها ومع ملاحظة أن هذه القصة هي مثل سائر القصص من قسم القرآن الثاني الذي سميناه بالوسائل، والذي يمكن أن يدخل في نطاق المتشابهات اللاتي ذكرت في آية سورة آل عمران مقابل الآيات المحكمات اللاتي هن أمّ الكتاب والتي ليست الإحاطة بماهيتها من الضرورات الدينية وأن هدفها هو التدعيم والعبرة والعظة، وأنه ليس في التخمين والتزيد طائل كما أنهما لا ينسجمان مع الهدف القرآني، ونرى في الوقت نفسه أن ما نقله المفسرون من الروايات دليل على أن أشياء كثيرة حول آدم وإبليس كانت متداولة في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم وعهده، منها ما مصدره أسفار العهد القديم ومنها ما كان يتناقله الكتابيون على هامشها من شروح وحواش من الجائز أن تكون وردت في قراطيس كانت عندهم ولم تصل إلينا وبكلمة أخرى إن هذه القصة كانت معلومة عند السامعين، فأوحى الله بها في القرآن استهدافا للعظة والإنذار والتدعيم.

أما ما جاء في هذه الآيات وغيرها من دور إبليس والشيطان وأعوانهما في إغراء الناس وإغوائهم، ومن صراحة القرآن بموافقة الله عزّ وجلّ على قيامه بهذا الدور كما جاء في آيات أخرى منها آيات سورة الإسراء هذه التي جاء فيها ذلك بصراحة: قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً (64) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) فيمكن أن يقال في صدده إن من واجب المسلم الإيمان به ما دام القرآن قد أخبر به دون تورط كذلك في التخمين ومع الإيمان بأن لذلك حكمة يمكن أن تكون قصد تقرير كون الناس معروضين للاختبار وأنهم بعد أن يكون الطريق قد وضح لهم بواسطة رسل الله يصبحون مدعووين لاختيار ما فيه الصلاح والخير والحق. فالذين حسنت نياتهم وصفت قلوبهم وبرئوا من الهوى والعناد يستجيبون ولا يتأثرون بوسوسة الشيطان. وهم الذين قالت الآيات إنهم المخلصون الذين ليس لإبليس سلطان عليهم. أما الذين خبثت نياتهم وغلظت قلوبهم وتغلّب عليهم الهوى والعناد فهم الذين لا يستجيبون لداعى الله ويتأثرون بوسوسة الشيطان وهم أتباع إبليس الذين قالت الآيات إن الله سيملأ بهم جهنم. ويندمج في هذا تقرير القرآن لمعنى كون الناس غير واقعين في أمر محتم عليهم منذ الأزل ليس لهم منه مناص. لأنهم لو كانوا كذلك لما كان مجال لامتحان الله وتسلّط إبليس عليهم بالوسوسة والإغراء. ولما كان محل للقول إنّ عباد الله الصالحين المخلصين لن يتأثروا بالوسوسة والإغراء لأن تأثير أولئك وعدم تأثّر هؤلاء إنما يكون معقولا بسبب الاختيار وحرية الإرادة والاستجابة سلبا وإيجابا. وبعبارة أخرى قصد الإنذار والتنبيه والتحذير والتطمين والبشرى. ولقد ذكر المفسرون أقوالا في صدد أسباب شمول الخطاب الرباني بالسجود لإبليس مع أن الخطاب موجه للملائكة وفي صدد الأمر بطرد إبليس من الجنة مع آدم وزوجته وإهباطهم إلى الأرض ليكون بعضهم عدوا لبعض، ثم في صدد ما ورد

في القرآن من كون الله قد قصد في الأصل بخلق آدم وزوجته أن يجعل في الأرض خليفة مما هو متناقض في الظاهر مع ما تفيده الآيات من أن هبوطهما من الجنة إلى الأرض كان عقوبة لهما، ومن محاورة الله مع الملائكة حول ذلك ومن تعليم آدم الأسماء كلها إلخ كما جاء في آيات سورة البقرة هذه: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) وجلّ الأقوال في نطاق التخمين. هذا، ولقد أورد مؤلف كتاب التاج في فصل التفسير وفي سياق آيات القصة نفسها في سورة البقرة بعض الأحاديث النبوية. منها حديث رواه مسلم وأحمد عن أبي هريرة قال: «أخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم بيدي فقال خلق الله عزّ وجلّ التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبثّ فيها الدوابّ يوم الخميس وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة» «1» . وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «خلق الله آدم وطوله ستون ذراعا ثم قال اذهب فسلّم على أولئك من الملائكة واستمع ما يحيونك وهي تحيتك وتحية ذريتك فقال السلام عليكم فقالوا السلام عليك ورحمة الله فزادوه ورحمة الله. فكلّ من يدخل الجنة على صورة آدم فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن» «2» . وفي رواية الترمذي: «لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال الحمد لله فقال له ربّه رحمك الله يا آدم اذهب إلى أولئك الملائكة فقل السلام عليكم قالوا وعليك السلام ورحمة الله ثم رجع إلى ربّه فقال إن هذه تحيتك وتحية بنيك بينهم. فقال الله له ويداه مقبوضتان اختر أيّهما شئت

_ (1) التاج ج 4 ص 33- 34. (2) المصدر نفسه.

قال اخترت يمين ربّي وكلتا يديه يمين مباركة ثم بسطها فإذا فيها آدم وذريته قال يا ربّ ما هؤلاء؟ قال هؤلاء ذريتك. فإذا كلّ إنسان مكتوب عمره بين عينيه» «1» . وحديث رواه الترمذي عن أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيّب» «2» . وقد يكون هناك أحاديث أخرى من باب هذه الأحاديث وردت في كتب التفسير أو كتب الحديث الأخرى. ولسنا نرى فيها نقضا لشرحنا وتعليقاتنا المتقدمة وبخاصة لما تبادر لنا من أهداف القصة. ونقول فيما جاء فيها من أمور مغيّبة وماهيات إن من واجب المسلم أن يؤمن بما يثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذا الأمر ويقف عنده ولو لم يدرك حكمته ومداه ويفوض الأمر إلى الله ورسوله كما هو الشأن بالنسبة للآيات القرآنية والأحاديث النبوية الثابتة في شؤون أخرى مماثلة مرّت أمثلة لها وسيأتي أمثلة عديدة لها. ولا سيما إن هذه المسألة وأمثالها ليست من أركان الدين المحكمة التي يجب على المسلم معرفتها والعمل بها. ويكفي أن يؤمن بما جاء في القرآن والحديث الثابت فيها والله تعالى أعلم. وما قلناه آنفا ينسحب على هذا. فالقصة وحواشيها إنما جاءت في معرض العظة وليس من طائل في التوسع ولا ضرورة. ولا يتصل بجوهر الهدف القرآني. والأولى أن يوقف منها عند ما وقف القرآن والإيمان به مع ملاحظة الهدف الذي استهدفه منها. كذلك كانت هذه القصة وسيلة إلى الجدل والتشادّ والبحوث الكلامية والمذهبية سواء أكان فيما يتعلق بالإغواء والاختيار وتحتيم الجنة والنار على الناس منذ الأزل، أم فيما يتعلق بتعبير يد الله وروحه الذي ورد في الآيات التي نحن بصددها وأمثالها، أم في موضوع التفاضل بين الأنبياء والملائكة الذي لو حظ في

_ (1) التاج ج 4 ص 34. (2) المصدر نفسه. الجزء الثاني ممن التفسير الحديث 23

تعليق على تعبير ونفخت فيه من روحي

عبارة آيات البقرة [30- 32] لأن آدم كان من الأنبياء حسب التقاليد الإسلامية. وكل هذا لا يدخل في نطاق الهدف القرآني للقصة فلا طائل من ورائه كما أن فيه تحميلا للعبارات القرآنية ما لا تتحمله. تعليق على تعبير وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي وتعبير وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي في الآيات في صدد خلق آدم قد تكرر في القرآن فاستعمل في سياق خلق الإنسان الأول مطلقا في غير قصة آدم وإبليس كما جاء في آيات سورة السجدة: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (9) واستعمل في سياق ذكر خلق عيسى كما جاء في آية سورة الأنبياء هذه: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91) . وروح التعبير في مختلف المواضع تلهم قصد التدليل على قدرة الله وتقرير دبيب نسمة الحياة في الإنسان الأول وفي رحم أمّ المسيح بأمر الله وقدرته وإرادته. فالواجب الوقوف عند هذا الحد مع ملاحظة أن استنتاج وتقرير أي صلة حقيقية بين الله والإنسان عن طريق الروح بمفهومها الحرفي لا معنى له، وليس مما تقتضيه أو تتحمله العبارات والتقريرات القرآنية المتنوعة، وخاصة ضوابط الكنه الرباني في القرآن التي من أهمها جملة لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ حيث يشمل هذا كل ما يتصل به وصفاته وكينونته مما لا سبيل لإدراكه بعقلنا الإنساني ومما لا تصح فيه أي مماثلة. أما خلود الروح الإنسانية وبعث البشر بعد الموت وخلودهم في النعيم أو العذاب بعد البعث والحساب مما هو مبثوث تقريره في آيات القرآن التي مرّت أمثلة منها فلا يصح أن يجعل بينه وبين وهم كون الإنسان من روح الله تبعا للوهم الذي تثيره الجملة التي نحن في صددها أي صلة. ولا سيما إنه يرد على ذلك كون نسمة

تعليق على ما سجله الله تعالى في القرآن من كرامة بني آدم في هذه القصة

الحياة قدر مشترك ومتشابه بين أنواع الحيوان من إنسان وغير إنسان. وكل ما في الأمر أن حكمة الله تعالى قد جعلت الإنسان يمتاز على سائر الأحياء بالعقل المتكامل الذي يكون به مسؤولا عن كسبه ورتب على ذلك حكمة بعثه وحسابه وتخليده في النعيم والعذاب دون سائر الأحياء. والله تعالى أعلم. تعليق على ما سجله الله تعالى في القرآن من كرامة بني آدم في هذه القصة هذا، وفيما احتوته قصة آدم وإبليس في القرآن من التنويه بخلق الله تعالى آدم بيده ومن نفخه فيه من روحه ومن أمره الملائكة بالسجود له تكريما تسجيل لما اختصه الله من كرامة عظمى كما هو المتبادر. وهذه الكرامة تشمل بني آدم بطبيعة الحال. وفي قصة خلق آدم في سورة البقرة تدعيم لذلك حيث جاء في بعض آياتها: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وهذا التدعيم منطو كذلك في آية الإسراء هذه: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا (70) ولعلّ من هذا التكريم أو من مظاهره تفوق بني آدم على سائر الحيوانات بمواهبهم العقلية والنطقية وقابليتهم للتكليف واختيار الكسب والتصرف، وجعلهم بذلك أهلا للتكليف والجزاء الأخروي مع مماثلتهم لهم في معظم مظاهر الحياة حتى مع ملاحظة ما يقوله علماء الحياة من أن تميز الإنسان عن سائر الحيوان هو نتيجة تطور طبيعي حيث يمكن أن يقال إن هذا التطور الذي تمثّل في الإنسان هو مظهر من مظاهر حكمة الله وإرادته وتكريمه.

وأعظم بتسجيل كتاب الله المجيد لكرامة بني آدم وخلافته في الأرض فخرا وشرفا يوجبان عليهم التسامي عن العجماوات في تصرفهم وسلوكهم وأخلاقهم في الحياة وقيامهم بواجباتهم قياما تاما نحو الله وخلقه. هذا، ولقد ألقى صادق العظم أحد أساتذة الجامعة الأميركية البيروتية في أحد أندية بيروت في أواسط سنة 1385 هجرية وأواخر سنة 1965 ميلادية محاضرة بعنوان (مأساة إبليس) فيها كثير من التمحل والسفسطة والأخطاء والتناقض رغم كونه ينطلق من العبارات القرآنية للقصة وغيرها مما يفيد أنه مؤمن بالقرآن. ومن جملة ما جاء في المحاضرة أن إبليس الذي كان كبير الملائكة وجد نفسه أمام أمر وواجب. فالله يأمره بالسجود لآدم، وهو يعرف أنه لا يجوز السجود لغير الله. فتمرّد على أمر الله مفضلا التمسك بواجب حصر السجود له وحده فكانت مأساته وكان ضحية لتناقض الله عزّ وجلّ. وقد ناقش المحاضر بعض المفسرين والباحثين قبله الذين قالوا إن السجود الذي أمر به سجود تكريم وليس سجود عبادة ولكنه أصرّ على القول إنه ليس له في القرآن إلّا معنى واحد وهو سجود عبادة. رغم ما في القرآن من آيات طويلة لأولئك القائلين والتي تلزم المحاضر إلزاما لا فكاك له منه لأنه كما قلنا ينطلق من العبارات القرآنية للقصة وغيرها. فقد جاء في صيغة من صيغ القصة في سورة الإسراء عن لسان إبليس: قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) وقد حكى القرآن سجود أبوي يوسف وإخوته له في سورة يوسف: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا ... [100] ولا يمكن لأي كان أن يزعم أن سجودهم ليوسف كان سجود عبادة من دون الله ويتصف بإشراكه مع الله فيه ... وتغافل المحاضر عن صراحة حكم الله في موقف إبليس الذي حكاه القرآن وهو أنه كان به كافرا متكبرا وإنه استحقّ على هذا الموقف اللعنة المؤبدة والعار. كما جاء في الآيات [76- 85] من هذه السورة وغيرها. وهو ملزم بهذا الحكم إلزاما لا فكاك له منه

لأنه ينطلق من العبارة القرآنية. ولقد تغافل المحاضر تغافلا عجيبا عن أن القرآن يدور جملة وتفصيلا على الدعوة إلى عبادة الله وحده ومحاربة كل نوع من أنواع الشرك به وعبادة غيره والسجود لغيره بأي صورة وتأويل وعمل وإن الله يتنزه والحالة هذه عن أن يأمر الملائكة وإبليس أن يسجدوا سجود عبادة وشرك لغيره. وعن كون إطاعة الملائكة لأمره بالسجود لآدم سجود عبادة تجعلهم مشركين وهم الذين ينزّههم القرآن عن الشرك ويقرر كونهم دائمي العبادة والتسبيح والتقديس له. وعن أنه بدعواه يقف موقفا فيه كل السخف إذ يجعل إبليس أشدّ حرصا على التمسك بواجب توحيد الله من الله نفسه! ويجعله مؤمنا موحدا ضحّى بنفسه في سبيل عقيدته! رغما عن نصوص القرآن! وتغافل كذلك عن ما انطوى في القصة من هدف تذكير سامعي القرآن الذين كانوا يعرفونها بما فيها من عبرة وعظة بسبيل حملهم على عدم الاندفاع بالسير في طريق إبليس المتمرّد على أمر الله: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) [الكهف] وعلى السير في طريق الملائكة عباد الله المخلصين الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. ولقد رددنا عليه ردا قلنا فيه فيما قلنا: «إنه ليس هناك ما يصح أن يكون محلّ نقاش في هذه القصة. فالقصة بالصيغة التي ورد بها في القرآن فريدة لم ترد في غيره. وهي عند المسلمين من المغيبات التي يجب عليهم الإيمان بها لأنها وردت في القرآن مع أخذها على أنها ليست من المحكمات التي هي أمّ الكتاب وإنما هي من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلّا الله. وأن ورودها في القرآن بالأسلوب الذي وردت فيه وتكررها سبع مرات قد استهدف الموعظة والتذكير لأناس يعرفون مركز كل من الملائكة وإبليس من الله تعالى، ويعترفون بالله كالخالق المدبر للأكوان المحيط بكل شيء علما وقدرة. وإن المحاضر أمام سؤال يجب أن يجيب عليه وهو هل هو مؤمن بالقرآن وبالقصة الغيبية التي وردت فيه؟

[سورة ص (38) : الآيات 86 إلى 88]

فإن كان جوابه إيجابا فإنه يستتبع أن يؤمن بما أخبر الله به من حكمه في هذه القصة وهو أن إبليس امتنع عن تنفيذ أمر الله واستحقّ بذلك لعنته في الدنيا وعذابه في الآخرة كما يستتبع تنزيه الله بأن يأمر بالسجود لغيره سجود عبادة وتنزيه الملائكة عن ذلك. وفي هذه الحالة يكون النقاش في مدى امتناع إبليس عن السجود وتبريره وتخريجه والقول إن ما سجّل عليه من لعنة وكفر وطرد في غير محلّه إلّا أن يكون من باب الجدل مع الله وتوجيه اللوم عليه سبحانه على حكمه واعتبار هذا الحكم جائرا وهذا لا يكون من مؤمن فضلا عن ما في رأيه في ذلك من مفارقة وعدم انطباق مع مدى العبارات والأهداف القرآنية، وإن كان الجواب سلبا فيصبح النقاش من المحاضر في قصة غيبية لم ترد في غير القرآن وليس هو مؤمنا بها أصلا غير ذي موضوع لأنه لا يكون لهذه القصة في ذهنه حقيقة أو أصل إلّا أن يكون من باب ما يعمد إليه بعض سخفاء المبشرين من المماحكات الكلامية التي لا تثبت على نقد ورد وتفنيد ويكون في ذلك في هذه الحالة تنطع وسوء أدب وذوق بالنسبة للعقائد الإسلامية برغم أنه ليس فيها ما يضير هذه العقائد. وقد رأينا أن نسجل هذا الحديث في هذا المقام لما له من جملة بقصة آدم وإبليس ولما فيه من مواضع العبر لمن يتصدّى للجدال في العبارات القرآنية تعسفا وبدون علم ودراية فيه. [سورة ص (38) : الآيات 86 الى 88] قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) . (1) المتكلف: الفضولي الذي يحمّل نفسه مهمة لم يحمّلها. وقال الزمخشري معنى الجملة ولست من المتصنعين الذين يتحلون بما ليسوا من أهله ويدعون ما ليس عندهم. وقال ابن كثير لا أبلّغ إلّا ما أمرت به بدون زيادة ولا نقص. وقال الطبري لست ممن يتكلّف تخرصه وافتراءه.

التلقين المنطوي في جملة وما أنا من المتكلفين وما روي في سياقها

الآيات متصلة بالسياق والموقف. وقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها بتوجيه الكلام للسامعين وبخاصة للكفار الذين أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم في الآيات السابقة بتوجيه الكلام إليهم. وقد جاءت ختاما قويا للسورة واستهدفت توكيد الإنذار للكفار وتوكيد صدق الرسالة النبوية وإيذانا بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما هو منتدب لأداء مهمة وليس مندفعا فيها بالفضول ولا متصنعا ولا زائدا ولا منقصا وليس متوخيا منها أجرا ولا منفعة، وإن هذا الذي يبلغه عن الله هو ذكر للعالمين أجمع ولسوف يتحققون مصداقه ومداه. والمتبادر أن الآيات قد استهدفت فيما استهدفته تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم وتثبيته في الوقت نفسه. التلقين المنطوي في جملة وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ وما روي في سياقها وفي الأمر الرباني للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالإعلان بأنه ليس من المتكلفين تلقين تأديبي رفيع للمسلمين بأن لا يتصفوا بما ليس لهم علم وبأن لا يكونوا فضوليين فيما ليس فيه مصلحة وفائدة. ولقد روى الزمخشري في سياق الجملة حديثا مرفوعا رواه البيهقي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في وصف المتكلّف ونصّه: «للمتكلّف ثلاث علامات: ينازع من فوقه. ويتعاطى ما لا ينال. ويقول ما لا يعلم» . وروى البخاري والترمذي في سياقها كذلك حديثا عن عبد الله بن مسعود جاء فيه: «يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به. ومن لم يعلم فليقل الله أعلم. فإنّ من العلم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم. قال الله لنبيه صلّى الله عليه وسلّم قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ «1» . وهذا يتساوق مع ذلك التلقين التأديبي الرفيع الذي انطوى في الجملة القرآنية. تعليق على جملة وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري والبغوي وغيرهما من أهل التأويل

_ (1) التاج ج 4 ص 198.

في تأويل هذه الجملة حيث قيل إنها تعني يوم القيامة. أو عند الموت أو عند ما يغلبون في بدر وغيرها أو حين يظهر أمر الإسلام ويعلو. ومهما يكن من أمر فالذي يتبادر لنا أنه انطوى فيها تحد للجاحدين وإنذار لهم وبشرى ربانية بحسن مصير الدعوة الإسلامية إلى العاقبة المحمودة والنجاح التام الذي سوف يعلمون نبأه ويشهدون حقيقة. وهذه البشرى على هذا الوجه معجزة من معجزات القرآن التي تحققت بكل قوة وسطوع في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم وكثير من السامعين، ثم ظلت تتحقق إلى الآن وإلى ما شاء الله بمن انضوى إليها وما يزال ينضوي من المجموعات البشرية العظيمة المنتشرة في كل أطراف الدنيا على اختلاف الألوان والأجناس واللغات والمستويات والنحل والأديان. وجملة إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ تأتي هنا للمرة الثانية حيث جاءت لأول مرة في سورة القلم بصيغة وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52) وقد علقنا على ما ينطوي في الجملة من مغزى خطير في صدد عموم الدعوة النبوية في سياق سورة القلم فنكتفي بهذه الإشارة.

سورة الأعراف

سورة الأعراف في السورة صور عما كان عليه العرب من أفكار وعادات وعبادات وتقاليد. وعن مواقف العناد والمكابرة التي كان يقفها الجاحدون المكذبون من النبي صلّى الله عليه وسلّم. وفيها حملات على المشركين وتفنيد لتقاليدهم وعقائدهم. وتصوير لمصائر المؤمنين والكفار الأخروية تصويرا فيه الحثّ والتشويق والإرهاب والوعيد. وفيها تقريرات عن مشاهد قدرة الله في كونه، للبرهنة على البعث وربوبية الله ووحدانيته. وفيها قصة آدم وإبليس بتوسع أكثر مما جاء في السورة السابقة، كما فيها قصص عن الأنبياء والأمم السابقة، وعن رسالة موسى لفرعون وبني إسرائيل بإسهاب أكثر مما مرّ في السور السابقة. وقد تخللها مواعظ ومبادئ وتلقينات جليلة. وهي أولى السور التي تبتدئ بأكثر من حرف منفرد واحد. وهي أطول السور المكية بل هي ثالثة السور القرآنية طولا. والسلسلة القصصية فيها أطول السلاسل القصصية في السور الأخرى، مما ينطوي فيه صورة من صور التطور الذي اقتضته حكمة التنزيل. وقد ينطوي فيه كذلك قرينة على صحة نزولها بعد السورة السابقة. وفصول السورة متساوقة منسجمة تلهم أنها نزلت فصولا متلاحقة، والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أن الآيات [163- 170] مدنية وجمهور المفسرين يؤيدون ذلك. وأسلوب الآيات ومضمونها يلهمان صحة الرواية. وسياقها السابق واللاحق متساوق معها حيث يبدو في ذلك حكمة إضافتها إلى هذه السورة وفيه كذلك صورة من صور تأليف السور القرآنية.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 1 إلى 9]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الأعراف (7) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9) . (1) حرج: ضيق وغمّ وقيل شكّ. وبعض المفسرين أولوا جملة فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ بمعنى لا يضق صدرك بتلاوته وتبليغه للناس وإنذارهم به. وهو الأوجه. (2) تذكرون: تتذكرون بمعنى تتعظون. (3) بأسنا: عذابنا وبلاؤنا. (4) بياتا: التبييت في اللغة الهجوم على قوم ليلا مفاجأة وهم غارون وغافلون. ومعنى الكلمة هنا في الليل وهم نائمون. (5) قائلون: من القيلولة. ومعنى الكلمة هنا وهم في قيلولة النهار. (6) دعواهم: بمعنى قولهم واعتذارهم. (7) ظالمين: هنا بمعنى مجرمين أو جائرين عن طريق الحق. (8) بآياتنا يظلمون: يقفون من آياتنا موقف الإجرام والتمرّد. هذه السورة أولى السور التي تعددت حروف مطلعها المنفردة حيث كانت السور التي قبلها من ذوات الحروف المنفردة تبدأ بحرف واحد وهي (ن) و (ق) و (ص) وقد روى المفسرون أقوالا عديدة فيها منها أنها بمعنى أنا الله أفصل. ومنها أنها رموز إلى بعض أسماء الله أو أقسام ربانية ومنها أنها حروف متقطعة

للاسترعاء والتنبيه. والقول الأخير هو ما رجحناه بالنسبة لمطالع السور المماثلة وما نرجحه بالنسبة لهذا المطلع. ولعلّ حكمة تعدد الحروف متصلة بطول السورة حيث هي أولى السور الطويلة المكية بل أطولها والله أعلم. وهذه هي أول مرة يعقب الحروف المنفردة كلمة الكتاب بدلا من القرآن وبدون قسم. وقد علقنا على هذا الأمر ومداه في سياق سورة (ق) فنكتفي بهذا التنبيه. ومطلع السورة الذي يتألف من مجموعة الآيات [1- 9] قوي استهدف فيما هو المتبادر تثبيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وإنذار الكفار والتنويه بالمؤمنين: فلا موجب لضيق صدره مما يوحى إليه من آيات الكتاب لينذر به الناس. وليكون بنوع خاص ذكرى وهدى للمؤمنين به. وليهتف بالناس أن يتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم وأن ينبذوا ما يتخذونه من دونه من أولياء لأنه لا يفعل هذا إلّا من غفل عن الحقيقة والحق ولم يترو في أمره. وليس هؤلاء بمعجزي الله سبحانه. فلقد أهلك كثيرا من أمثالهم بما كان يصبّه عليهم من بلاء عذاب يأتيهم وهم غافلون في نوم الليل والنهار فما يكون منهم إلّا الاعتراف بانحرافهم وإجرامهم دون أن ينفعهم ذلك. ولسوف يحشر الله الناس جميعا يوم القيامة فيحاسبهم على أعمالهم التي يخبرهم عنها لأنه لم يكن غائبا عنهم وكان عليما محيطا بكل ما كانوا يعملون ولسوف توزن أعمالهم بالحق والعدل. وسيشهد الرسل الذين أرسلهم الله إليهم هذا الحساب ويسألون بدورهم عن مواقف أممهم منهم فمن كان مؤمنا صالح العمل ثقلت موازينه فأفلح ونجا ومن كان كافرا آثما خفّت موازينه فخسر نفسه. ومن شأن هذا التثبيت بهذا الأسلوب القوي النافذ أن يبثّ الطمأنينة في نفس النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين وأن يهدئ روعهم ويضاعف قوتهم على الصبر. ولقد تكرر في القرآن نهي النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الاستشعار بضيق الصدر من تبليغ آيات الله. ومن ذلك ما جاء في آية سورة هود هذه: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ

وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) وقد احتوت الآية تثبيتا مثل التثبيت الذي احتوته الآيات التي نحن في صددها. ولقد حكت آيات عديدة مرّت أمثلة منها ما كان من مواقف النبي صلّى الله عليه وسلّم القوية الجريئة في مواجهة طواغيت الكفار كما حكت آيات عديدة ما كان من عمق إيمانه برسالته واستغراقه فيها مثل آية سورة الأنعام هذه: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) وآية سورة الأحقاف هذه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) . حيث يتبادر من ذلك أن ذلك ليس بسبيل بيان كون صدر النبي صلّى الله عليه وسلّم يضيق فعلا بتبليغ القرآن للناس لأنه قد بلغ المرتبة التي خلصت نفسه بها من كل تردد أو نفاد صبر أو ضيق صدر بإعلان ما يوحى إليه أو شبهة في علوّ كلمة الله في النهاية. وإنما كان يعتلج في نفسه همّ وحزن دائمان بسبب وقوف الزعماء موقف العناد والمناوأة والصدّ، وانكماش أكثرية الناس عن دعوته نتيجة لذلك، على شدّة حرصه على هدايتهم فكانت حكمة التنزيل تقتضي موالاته بالتثبيت والتهوين على ما شرحناه في سياق تفسير سورة (ق) والعبارة هنا من هذا الباب. ولقد سبق الكلام عن مدى تعبير الموازين وثقلها وخفتها في سياق تفسير سورة القارعة فلا حاجة إلى الإعادة. وإنما نذكر في مناسبة ورود جملة وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ما ينطوي في الجملة من الإشارة إلى العدل الرباني في محاسبة الناس ونيل كل واحد نصيبه الحق بالعدل، وقد تكررت هذه الجملة في سورة أخرى. وتعبير وَما كُنَّا غائِبِينَ قد يقوّي توجيهنا في سورة (ق) في صدد تعابير القرناء والشهداء وكتّاب الأعمال عن أيمان الناس وشمائلهم وكونها تعابير أسلوبية للتقريب والتمثيل وكون علم المحيط وقدرته الشاملة في غنى عن ذلك.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 10 إلى 25]

وتعبير أَوْلِياءَ مصروف كما هو المتبادر إلى الشركاء الذين كان العرب يشركونهم مع الله في الدعاء والاستنصار والعبادة. وقد تكرر وروده كثيرا مفردا وجمعا بهذا المعنى وبمعنى الحامي والنصير. والمقطع الأخير من الآية الثالثة يحتوي تسفيها لاتخاذ أولياء غير الله وإشارة إلى ما في ذلك من سخف وقلة بصيرة. وفي هذا توكيد للمبدأ القرآني المحكم الذي لا يسمح بالاتجاه إلى أي قوة أو شخص أو رمز أو نصير أو ولي غير الله في أي شيء من خصائص الربوبية الشاملة الواحدة المنحصرة في الله عزّ وجلّ من نفع وضرر ومنع ومنح وحماية وشفاعة. [سورة الأعراف (7) : الآيات 10 الى 25] وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25)

(1) معايش: أسباب العيش. (2) ما منعك ألّا تسجد: أوّل بعض المفسرين مَنَعَكَ بمعنى اضطرك وحينئذ يستقيم المعنى وقال آخرون إن لا زائدة وإن تقدير الجملة هو ما منعك أن تسجد. (3) اهبط: بمعنى انزل أو اخرج. (4) من الصاغرين: من الذليلين الحقيرين. (5) فبما أغويتني: قيل إنها بمعنى فبما أنك خيبتني من رحمتك وقيل إنها بمعنى فبما أنك امتحنتني بالسجود وقيل إنها بمعنى فبما أنك أهلكتني. والجملة هي حكاية لقول إبليس وقيل إنها تعبّر عن عقيدة إبليس بأن الله أغواه وأضلّه. (6) مذؤوما: من الذأم وقيل معناه اللعنة كما قيل معناه العيب والعار. (7) مدحورا: مبعدا ومطرودا. (8) قاسمهما: أقسم لهما. (9) دلّاهما: أمالهما. (10) بغرور: بالتغرير والخداع. (11) يخصفان: يرقعان أو يلصقان. الآيات متصلة بسابقاتها اتصال تعقيب وتذكير وتنديد كما هو المتبادر. فالآيات السابقة احتوت دعوة إلى اتباع ما أنزل الله وتنويها بالمؤمنين وإنذارا للكافرين في الدنيا والآخرة فجاءت هذه الآيات تذكر المدعوين بنعمة الله عليهم وتمكينهم في الأرض وتيسير وسائل العيش لهم ثم بما جبلهم الله عليه من حسن الخلق والتكوين، وتندّد بهم على ما يبدو منهم تجاه ذلك من جحود وقلة شكر لله وعدم الاستجابة لدعوته. ثم تستطرد إلى قصة آدم وإبليس بسبيل التذكير والعظة والتمثيل. فالفئة

تعليق على قصة آدم وإبليس في هذه السورة

الصالحة الخيرة وهم الملائكة قد أطاعوا أمر الله، والفئة الخبيثة الشريرة وهي إبليس قد تمرّد عليه فلعنه الله وطرده من رحمته. وأدّى ذلك إلى أن يتسلّط على ذرية آدم وزوجته ليغويهما كما غوي. ولقد روى الطبري في صدد جملة وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ أنها موجهة لبني آدم وأن خلقهم وتصويرهم يعنيان ما كان من ذلك في صلب آدم ورحم حواء. ولقد نقل ابن كثير هذا التأويل. ولكنه رجّح أن يكون الضميران عائدان إلى آدم بالذات لأن الكلام في صدده وأن استعمال الجمع المخاطب هو بسبب كونه أبا البشر الذين يوجه إليهم الخطاب. ومع ضآلة الفرق في التأويلين بوجه عام فإننا نرى ترجيح ابن كثير في محله. ونرى في الوقت نفسه أن الآية التي جاءت فيها هذه الجملة والتي قبلها قد جاءتا بمثابة تمهيد للخطاب والقصة. وأن فيهما قرينة جديدة على كون قصد العظة والتنبيه للذين يوجه إليهم القرآن هو الجوهري في القصة. تعليق على قصة آدم وإبليس في هذه السورة والقصة هنا أكثر إسهابا منها في السورة السابقة. ولعل من السامعين من طلب الاستزادة فاقتضت حكمة التنزيل هذا الإسهاب. أو لعلّ ذلك كان بسبب استمرار الكفار في جحودهم وعنادهم. وربما كان ذلك قرينة على صحة ترتيب نزول هذه السورة بعد سورة (ص) . وقصد الموعظة والتمثيل والترغيب والترهيب ظاهر في الآيات وفي الآيات التي جاءت بعدها أكثر منه في السورة السابقة. ولعل ذلك متصل بالحكمة التي خمناها في الإسهاب الذي جاء في هذه السورة. ولقد توسّع المفسرون فيما جاء جديدا في القصة توسعا بلغ بعضهم فيه حدّ الإغراب وبخاصة في الماهيات والماديات والأشكال مما لا طائل من ورائه ولا تقتضيه العبارة ولا هدف القصة وغير مستند إلى أحاديث نبوية صحيحة ومن جملة ما قالوه مثلا أن الجنة التي كان آدم وإبليس فيها كانت في السماء واستدلوا على

ذلك بكلمات فَاهْبِطْ مِنْها [الأعراف: 13] واهْبِطُوا مِنْها [البقرة: 38] وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24) «1» . ومع ما قلناه في سياق السورة السابقة من أنه لا طائل في بحث ذاتية القصة لأنها ليست الهدف فإن هذه الكلمات لا تقتضي أن تكون قد قصدت الإشارة إلى أن الجنة في السماء كما هو المتبادر. وفي آيات القصة الواردة في سورة البقرة آية تفيد أن الله قد خلق آدم ليكون خليفة في الأرض وهي: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30) . ولقد علقنا في السورة السابقة تعليقا مسهبا على القصة وأشخاصها ونبهنا إلى وجوب الوقوف فيها عند ما وقف عنده القرآن لأنه ليس هناك أحاديث نبوية صحيحة فيها زيادة عن ذلك كما نبهنا إلى الأهداف الجوهرية في القصة المتبادرة من عباراتها وإلى مواضع العبرة والعظة فيها فلا نرى ضرورة للإعادة. غير أن فيما جاء جديدا في الآيات التي نحن في صددها عبرا أخرى تستحق التنويه. كالإشارة إلى ما توطد من عداء بين آدم وإبليس للتنبيه إلى ما في متابعة إبليس من جرم مضاعف لأنه عدو. وهذا ما نبهت إليه الآيات التي تأتي بعد هذه الآيات. وقد ذكرت ذلك أيضا آيات في سور أخرى منها آية الكهف هذه: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) . وكالإشارة إلى أسلوب الخديعة والتغرير الذي اصطنعه إبليس مع آدم وحواء وما كان له من نتائج أليمة للتنبيه إلى وجوب التروّي في الإصغاء إلى الوسوسة والإغواء وأساليب الغواية وعدم الاندفاع بما فيها من تزويق وبهرجة.

_ (1) انظر تفسير آيات القصة في سورتي البقرة والأعراف في تفسير ابن كثير والخازن.

تعليق على التلقين القرآني بالشكر لله ومداه

تعليق على التلقين القرآني بالشكر لله ومداه وبمناسبة التنديد بقلّة شكر بني آدم لله عزّ وجلّ في الآية [10] وبقول إبليس من أنه سوف يوسوس لبني آدم حتى يمنع أكثرهم عن شكر الله في الآية [17] من الآيات التي نحن في صددها نقول إن القرآن قد احتوى آيات كثيرة في سورة مكية ومدنية فيها أمر بالشكر لله والحث عليه والوعد بزيادة نعمة الله للشاكرين والدعاء لله بأن يوفق الداعي إلى شكره واعتبار عدم الشكر جحودا لله وفضله وعنوانا للكفر به وتقرير كون الله شاكرا من شكره مسبغا عليه نعمته ورعايته مجزيه عليه بأحسن الجزاء. والإيذان مع ذلك بأن الله غني عن الناس وعن شكرهم وأن الشاكر إنما يشكر لنفسه من حيث إنّ في الشكر اعترافا بالله وفضله ونعمته وتقربا إليه للازدياد من هذا الفضل والنعمة. من ذلك على سبيل التمثيل هذه الآيات: 1- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة: 172] . 2- فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران: 123] . 3- وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران: 144] . 4- وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7] . 5- وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [لقمان: 12] . 6- إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ... [الزمر: 7] . 7- إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ [التغابن: 17] . حيث تدلّ هذه الآيات التي لها أمثال كثيرة في السور المكية والمدنية على ما الجزء الثاني من التفسير الحديث 24

[سورة الأعراف (7) : الآيات 26 إلى 27]

أعاره القرآن لموضوع الشكر لله من عناية واهتمام. ولقد رويت أحاديث نبوية في هذا الصدد متساوقة في المدى والتلقين مع الآيات القرآنية. منها حديث رواه الترمذي عن ثوبان أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لما سئل أي المال خير فنتخذه: «أفضله لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة مؤمنة تعينه على إيمانه» «1» . وحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من لا يشكر الله لا يشكر الناس» «2» . وحديث رواه الإمامان المذكوران أيضا عن جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أعطي عطاء فوجد فليجز به ومن لم يجد فليثن فإنّ من أثنى فقد شكر ومن كتم فقد كفر» «3» . وللشيخ مصطفى المراغي كلمة جديرة بالإيراد في هذا السياق حيث قال إن كلمة الشكر من جوامع الكلم تنتظم كل خير وتشمل كل ما يصلح به قلب الإنسان ولسانه وجوارحه. وإن الشكر لله على ما أنعم به على الإنسان من مال أو علم يطهّر النفوس ويقرّبها من الله ويوجّه إرادتها إلى الوجهة الصالحة في إنفاق النعم في وجوهها المشروعة. ويبث فيها الأمل والرجاء والطمأنينة إلى وعد الله بالزيادة والرعاية وحسن الجزاء. [سورة الأعراف (7) : الآيات 26 الى 27] يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) . (1) لباسا يواري سوآتكم وريشا: إشارة إلى ما يسّره الله للناس من وسائل

_ (1) التاج ج 4 ص 116. [.....] (2) التاج ج 5 ص 62- 63. (3) انظر المصدر نفسه.

تعليق على دلالة جملة إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم

اللباس. وقيل إن الريش هو المال أو ما يستر به أو ما يتزين به، ويتبادر لنا أنه إشارة إلى أصواف الأنعام وأشعارها وأوبارها التي تصنع منها الثياب. (2) لباس التقوى: الأرجح أنه تعبير مجازي يقصد به أن التزام سبيل التقوى أو العمل الذي فيه تقوى أو الدعوة التي أنزلها الله في القرآن هو خير من كل شيء. روى الطبري عن مجاهد أن هاتين الآيتين والآيتين اللتين بعدهما نزلتا في قريش حيث كانوا في الجاهلية يطوفون عراة بقصد تحذيرهم وتنبيههم إلى وجوب الاحتشام والتزين وقبح التعري وأن الله قد أنزل لهم اللباس والرياش لتفادي ذلك. والرواية لم ترد في كتب الصحاح. ونرجح أنها من قبيل التطبيق بسبب ما روي في سياق آية أخرى تأتي بعد قليل. وأن الآيات جاءت معقبة على قصة آدم وإبليس لتستطرد إلى تذكير بني آدم بما أنعم الله عليهم من اللباس والرياش الذي يواري سوآتهم وإلى تحذيرهم من أن يفتنهم الشيطان الذي فتن أبويهم من قبل والذي يراهم هو وقبيله من حيث لا يرونهم، وإيذانهم بأن التزام تقوى الله وخشيته كما أمروا هو كل الخير لهم. وبأن الشياطين قد جعلوا أولياء للذين لا يؤمنون بالله ولا يلتزمون أوامره. ويبدو فحوى الآيتين بهذا الشرح المستلهم منه قويّا نافذا كما تبدو صلتهما بالسياق السابق واضحة. والله تعالى أعلم. تعليق على دلالة جملة إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ وتعبير إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ قد استهدف فيما هو المتبادر شدّة التحذير والتنبيه. فلا يقولن أحد إني لا أرى الشيطان أو إني في نجوة منه، فهو دائم الترصد للناس. وإذا كانوا لا يرونه فإنه يراهم هو وقبيله والعدو المتربص المختفي هو أشد نكاية من الظاهر. ولعله يندمج في هذه العبارة تقرير ما يتنازع الإنسان من عوامل الشر والميول الأثيمة في باطنه مما يحسّ به كل امرئ.

ولقد استدلّ بعضهم بهذه الجملة على أن بني آدم لا يمكن أن يروا الجن الذين منهم إبليس ومرادفه الشيطان كما ذكرت ذلك آية سورة الكهف [50] التي أوردناها قبل قليل. بل قال بعضهم إن من قال إنهم يرون هو كافر لأنه بذلك يكذب القرآن وإن زعم رؤيتهم زور ومخرقة. وإلى هذا قال بعضهم إنه ليس في الآية تقرير صريح بأن رؤيتهم ممتنعة البتة وكل ما فيها أن الشيطان يرانا هو وقبيله من حيث لا نراهم وإن انتفاء رؤيته لنا في وقت ما لا يستلزم انتفاءها مطلقا. وبعضهم يستثني من ذلك الأنبياء ويساق في هذا المساق حديث رواه البخاري ومسلم في رؤية النبي صلّى الله عليه وسلّم عفريتا. ويساق حديث رواه الإمام أحمد في رؤية النبي صلّى الله عليه وسلّم إبليس. والحديثان أوردناهما في سياق تعليقنا على قصة سليمان في سورة ص. ويساق كذلك ما ورد في القرآن من خبر تسخير الجن لسليمان في مختلف الأعمال وحبسه بعضهم مما ورد شيء منه في السورة المذكورة كذلك. وتعليقا على ذلك نقول مرة أخرى: أولا: إن القرآن ذكر استماع الجن للقرآن من النبي صلّى الله عليه وسلّم مرتين بأسلوب يدلّ دلالة قاطعة على أن النبي لم يرهم وإنما أعلم بذلك أو أمر بأن يقول إن الله أخبره بذلك على ما جاء في آيتي سورتي الأحقاف والجن اللتين أوردناهما في ذلك التعليق. وثانيا: إنه لم يثبت ثبوتا يقينيا عيانيا أن بني آدم رأوا أو يرون الجنّ. وثالثا: إزاء النص القرآني بالنسبة لسليمان وإزاء الحديث الصحيح بالنسبة للنبي صلّى الله عليه وسلّم يمكن أن يقال إن الأنبياء يرونهم بالقوة التي امتازوا بها والتي كانوا يرون بها الملائكة أيضا. وعلى كل حال فهذه المسألة تابعة لأصل وجود الجن الواجب الإيمان به لأنه ثابت بالنصّ القرآني مع ملاحظة ما نبهنا عليه من ذلك في سياق سورة الناس. والله تعالى أعلم.

تعليق على جملة إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون

تعليق على جملة إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ويتبادر لنا أن تعبير إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ هو أسلوبي من باب ما جرى عليه النظم القرآني أحيانا من نسبة كل أمر إلى الله عزّ وجلّ من حيث الأصل مع قيام القرينة على أن ذلك نتيجة لمسلك وأخلاق الذين لا يؤمنون. وقد قصد به التنديد بالكافرين ونسبة ما هم فيه من كفر وإثم إلى وسوسة الشياطين وإغراءاتهم كما قصد به تطمين المؤمنين بأنه لا سبيل للشياطين عليهم فأولياء الكفار هم الشياطين في حين أن الله عزّ وجلّ هو وليّ المؤمنين. وفي آيات قصة آدم وإبليس في سورتي الحجر والإسراء تقرير صريح لذلك حيث جاء في الأولى هذه الآية: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) وفي الثانية هذه الآية: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) ، وفي سورة النحل آيتان تؤيدان هذا القصد مع تأييدهما لأسلوبية التعبير وهما: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وفي إحدى الآيات التالية توكيد آخر حيث نسب فعل اتخاذ الشياطين أولياء إلى الكفار. فنحن ننزّه الله عزّ وجلّ عن أن يجعل الشياطين أولياء لأناس دون كسب وسبب منهم. وهو إنما يضلّ الظالمين والفاسقين ويهدي إليه من أناب ويثبت الذين آمنوا بالقول الثابت كما جاء في آية سورة إبراهيم هذه: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27) وآيات سورة البقرة هذه: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي

[سورة الأعراف (7) : الآيات 28 إلى 30]

الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27) وآيات سورة الرعد هذه: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) والجملة التي نحن في صددها من هذا الباب. وفي سورة الزخرف آية فيها تفسير آخر مع تساوقها في المآل مع هذه الآيات وهي: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) أي إن الشيطان إنما يسلط على الذي يتعامى عن ذكر الله ويصرّ على طريق الكفر والإثم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 28 الى 30] وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) (1) فاحشة: معنى الكلمة كل ما عظم قبحه. وقد روي عن ابن عباس «1» أن الكلمة هنا كناية عن عادة الطواف في حالة العري. (2) القسط: هنا بمعنى العدل والحق. والكلمة من الأضداد حيث وردت كلمة القاسطين بمعنى المنحرفين عن الحق. (3) أقيموا وجوهكم: وجهوا وجوهكم. (4) مسجد: وردت هذه الكلمة في آيات عديدة في معنى السجود والصلاة مطلقا وفي معنى مكان السجود والصلاة. ويجوز أنها هنا في المعنى الأول كما يجوز أن تكون في المعنى الثاني بل يجوز أن تكون في المعنيين والله أعلم.

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وغيره.

الآيات معطوفة على سابقاتها، وضمائر الجمع الغائب وبخاصة في الآية الأولى عائدة إلى لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ المذكورين في آخر الآية السابقة بحيث يصح القول إن الآيات استمرار في السياق السابق. وقد احتوت تنديدا بالكفار الذين كانوا يقولون عن الفاحشة حينما يفعلونها إنهم وجدوا آباءهم عليها وإن الله قد أمرهم بها افتراء على الله بدون علم وبينة. وأمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالإعلان بأن الله لا يمكن أن يأمر بالفحشاء وإنما الذي أمر به هو العدل والاستقامة وتوجيه الوجوه في العبادة والسجود وأماكنهما إليه وحده بكل إخلاص، وبأن الله سيعيدهم كما بدأهم وبأن الناس فريقان فريق هداهم الله وفريق حقّت عليهم الضلالة. لأنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويتوهمون مع ذلك أنهم مهتدون. ولقد تعددت التأويلات التي يرويها المفسرون «1» لجملة كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ منها أن الله يعيد الناس يوم القيامة على حالتهم في الدنيا كافرهم كافر ومؤمنهم مؤمن ومنافقهم منافق. ومنها أن ذلك متصل بالمقدر الأزلي عليهم فمن قدر عليه أن يكون مؤمنا وسعيدا أو كافرا أو منافقا أو شقيا صار كذلك حينما يخرج إلى الدنيا مهما بدا في بعض الظروف غير ذلك. وقد أورد المفسرون في صدد هذين القولين بعض الأحاديث النبوية منها حديث رواه مسلم وابن ماجه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «يبعث كلّ عبد على ما مات عليه» «2» . وفي رواية أخرى: «تبعث كلّ نفس على ما كانت عليه» «3» . وحديث رواه البخاري عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «فوالذي لا إله غيره إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلّا باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فليعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلّا باع أو ذراع فيسبق

_ (1) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن. (2) النصوص منقولة عن ابن كثير. (3) انظر المصدر نفسه.

تعليق على جملة وإذا فعلوا فاحشة

عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة» «1» . ومنها أنها بمعنى كما خلقكم ولم تكونوا شيئا فأحياكم كذلك يميتكم ثم يحييكم. ومنها أنها بمعنى كما خلقكم عند خروجكم من الدنيا يعيدكم كذلك بعد الموت. أو كما خلقكم أولا يعيدكم ثانية. وأوردوا في صدد القول الثاني حديثا رواه ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أيها الناس إنّكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا» وقرأ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ» [الأنبياء: 104] «2» . وقد رجّح الطبري أحد الأقوال الثلاثة الأخيرة واستبعد القولين الأولين واستأنس بآية سورة الأنبياء التي جاءت في الحديث النبوي الأخير. وفي هذا الصواب والسداد فيما هو المتبادر. تعليق على جملة وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً وأسلوب الآيات يلهم أنها بسبيل الإشارة إلى مشهد من مشاهد الجدل قام بين النبي صلّى الله عليه وسلّم والكفار حول بعض التقاليد والطقوس التي كان يمارسها العرب اقتداء بآبائهم ويعتقدون أنها متصلة بأوامر الله وشريعته. وقد قال المفسرون «3» في سياق تفسير الآيات إن العرب كانوا يستحلون الطواف حول الكعبة في حالة العري وإن الآيات نزلت في تقبيح هذه العادة واعتبارها فاحشة منكرة. وروح الآيات تلهم صحة ذلك. ومما روي في معرض ذلك «4» أن العرب كانوا حينما يريدون الطواف يخلعون ثيابهم العادية ويلبسون ثيابا أو مآزر خاصة حتى لا يطوفوا بالثياب التي قد يكونون اقترفوا بها ذنبا فإن لم

_ (1) النص منقول عن ابن كثير. (2) انظر المصدر نفسه. (3) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والطبرسي والخازن. (4) انظر كتابنا عصر النبي عليه السلام وبيئته قبل البعثة ص 197 وما بعدها مع كتب التفسير السابقة الذكر.

تعليق على جملة فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة

يجدوا هذه الثياب أو المآزر التي كان يؤجرها سدنة الكعبة الذين كانوا يسمون الأحماس للطائفين أو إذا لم يقدروا على دفع أجرتها خلعوا ثيابهم وطافوا عراة الرجال والنساء على السواء وكلّ ما كان من أمر النساء أنهن كن يضعن شيئا ما يسترن به مكان القبل. وكانوا يظنون أن ذلك من تقاليد الحج المتصلة بأمر الله والتي وضعها إبراهيم عليه السلام. فردّت عليهم الآيات ردا قويا متسقا مع المبادئ السامية التي يدعو القرآن إليها. وقد احتوى الردّ تلقينات جليلة سواء في تنديدها بالتمسك بتقاليد الآباء مهما كان فيها من الفحش والباطل وسوء المظهر والذوق أم في تنديدها بعزو كل تقليد وعادة قديمة إلى الله بدون علم وبينة وبسبيل تقديس هذه العادات والتقاليد والتمسك بها. مع هتاف قوي بأن الله لا يمكن أن يأمر بالفحشاء. وكلمات فاحشة وفحشاء من ذوات المعاني العامة الشاملة حيث تشمل كل ما عظم قبحه من الرذائل الفردية والاجتماعية قولا وعملا مما نصّ عليه القرآن أو السنّة أو اعتبره جمهور المسلمين كذلك في كل ظرف ومكان بالاستئناس بالمبادئ العامة التي قررها القرآن والسنّة وقد جاءت هنا مطلقة للدلالة على هذا الشمول وبذلك يبرز مدى ما في الردّ القرآني من تلقين جليل. تعليق على جملة فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ وجملة فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ قد توهم أن الله تعالى يفعل ذلك بدون سبب من المهتدي والضالّ. غير أن بقية الآية تزيل هذا التوهم حيث احتوت تعليلا متسقا مع تقريرات القرآن المتكررة التي مرّت أمثلة منها وهو كونهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله. وفي آية سورة يونس هذه: كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) توضيح يزيل بدوره ذلك التوهم. وهذا أيضا ملموح في آيات سورة البقرة [26- 27] وسورة الرعد [27] وسورة

تعليق على مسجد

إبراهيم [26] التي أوردناها سابقا أيضا. ولقد فرّع المؤولون والمفسرون عن هذه الجملة معاني أو أحكاما أخرى. فذهب الطبري إلى أن فيها دليلا على أن العذاب لا يقع فقط على الضالّ المعاند لربّه بل يقع على الضالّ الذي يظن أنه على هدى. وهناك من فرّق بين من تحرّى واجتهد وظنّ أنه على هدى وبين من انحرف دون تحرّ واجتهاد تقليدا لغيره. فذهب إلى أن الأول يكون معذورا وأن العذاب لا يكون إلّا على الثاني. وهناك من قال إنه لا يكون بعد الإسلام عذر لمن يضلّ عن مبادئ الإسلام ومما فيها من عقائد وأحكام صريحة وقطيعة بنصّ قرآني أو سنّة نبوية ثابتة لأنّ فهم هذا من متناول الجميع. وإن العذر إنما يكون للمجتهد فيما ليس فيه نصّ صريح وقاطع بل ويكون له أجران إذا أصاب وأجر إذا أخطأ. ويتبادر لنا أن القول الأخير هو الأوجه الأسدّ. وهناك من قال إن الآية تدلّ على أن مجرد الظنّ والحسبان لا يكفي في صحة الدين بل لا بد فيه من الجزم والقطع واليقين وفي هذا وجاهة وسداد أيضا «1» . والله تعالى أعلم. تعليق على مَسْجِدٍ وبمناسبة ورود هذه الكلمة لأول مرة في هذه الآيات إنها تأتي في القرآن في معنى السجود والصلاة إطلاقا كما تأتي في معنى أماكنهما إطلاقا. غير أنها صارت علما على أماكن عبادة المسلمين ولا تطلق على أماكن غيرهم. ولقد أثرت أحاديث نبوية كثيرة فيها حثّ على بناء المساجد والتنويه بمنشئيها وحثّ على غشيانها وما يجب على المسلمين إزاءها من آداب، من ذلك حديث رواه الخمسة إلّا أبا داود عن عثمان قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول من بنى مسجدا يبتغي وجه الله بنى الله له مثله في الجنّة وفي رواية بيتا في الجنة» «2» .

_ (1) انظر تفسير الآية في تفسير رشيد رضا والقاسمي. (2) هذا الحديث والأحاديث التالية له منقولة من الجزء الأول من كتاب التاج ص 205 وما بعدها.

وحديث رواه الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من غدا إلى المسجد أو راح أعدّ الله له في الجنة نزلا كلما غدا أو راح» وحديث عنه رواه الخمسة إلّا أبا داود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه. الإمام العادل وشابّ نشأ في عبادة ربّه ورجل قلبه معلّق بالمساجد ورجلان تحابّا في الله اجتمعا عليه وتفرّقا عليه ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ورجل تصدّق فأخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه» . وروى أبو داود ومسلم عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجرا» . وحديث رواه مسلم والنسائي والترمذي عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من تطهّر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطوتاه إحداهما تحطّ خطيئة والأخرى ترفع درجة» وحديث رواه أبو داود والترمذي عن بريدة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «بشّر المشّائين في الظلم إلى المساجد بالنّور التامّ يوم القيامة» وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا. قلت يا رسول الله وما رياض الجنة؟ قال: المساجد» . وحديث رواه الخمسة عن أبي قتادة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس» وحديث رواه الأربعة عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «البزاق في المسجد خطيئة وكفّارتها دفنها» . ولمسلم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «عرضت عليّ أعمال أمتي حسنها وسيّئها فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق ووجدت في مساوئ أعمالها النّخاعة تكون في المسجد لا تدفن» . روى الثلاثة عن أنس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى نخامة في القبلة فحكّها بيده ورئي منه كراهية لذلك وشدّته عليه وقال إنّ أحدكم إذا قام في صلاته فإنما يناجي ربّه فلا يبزقنّ في قبلته ولكن عن يساره أو تحت قدميه. ثم أخذ طرف ردائه فبزق فيه وردّ بعضه على بعض وقال أو يفعل هكذا» . ويجب أن يلحظ القارئ أن أرضية مسجد رسول الله الذي كانت الآداب المذكورة في شأنه كانت ترابية يصحّ دفن البزاق فيها وأن هذا لا يقاس عليه بالنسبة لأرضية المساجد اليوم. وأن يلحظ أن ما فعله النبي صلّى الله عليه وسلّم بردائه هو تنزيه لأرض المسجد وحينما لا يكون مع المرء

منديل يبزق فيه. وروى البخاري عن السائب بن يزيد: «أن عمر قال لرجلين من أهل الطائف رفعا صوتيهما في المسجد لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم» . وروى مسلم وأبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من سمع رجلا ينشد ضالّة في المسجد فليقل لا ردّها الله عليك فإنّ المساجد لم تبن لهذا» . وروى الثلاثة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من مرّ في شيء من مساجدنا أو أسواقنا بنبل فليأخذ على نصاله بكفّه لا يعقر مسلما» . وروى الخمسة عن جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أكل البصل والثوم والكرّاث فلا يقربنّ مسجدنا فإنّ الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم. وفي رواية من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا أو فليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته. وفي رواية من أكل من هذه البقلة فلا يقربنّ مساجدنا حتى يذهب ريحها» . وروى الترمذي والنسائي: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن تناشد الأشعار في المسجد وعن البيع والاشتراء فيه وأن يتحلّق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة» . وننبه على أن هناك روايات متواترة على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يستقبل الوفود في مسجده من مختلف الأنحاء والملل. وكان منهم من يخطب أو يلقي شعرا بين يديه فيه. ويتفاوض معهم ويكتب لهم رسائل وعهودا. وقد أسر أمير بني حنيفة فجعله في خيمة فيه. وجرح زعيم بني الأوس فضرب له فيه خيمة وأمر ممرضة من المسلمين بمداواته. وجاء وفد من نصارى نجران فتناظر معه في المسجد وأقام في خيمة نصبها له فيه وكان يعقد فيه مجالس قضائه ومشاوراته ووعظه. وكان أصحابه يأتون إلى المسجد في غير أوقات الصلاة فيتحلقون عليه فيه أو على بعضهم، بل كان منهم من يضطجع أو ينام فيه. وكان فيه صفّة يقيم عليها فقراء وغرباء المسلمين إقامة دائمة «1» . وكان في ناحية من فنائه صف بيوت

_ (1) في سيرة ابن هشام وفي طبقات ابن سعد وهما من أقدم أو أقدم مما وصل إلينا من كتب سيرة رسول الله روايات كثيرة في كل ذلك يبدو عليها طابع الصحة. وروى الثلاثة عن أبي هريرة قال: «بعث رسول الله خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد» . التاج ج 1 ص 214. وروى الخمسة عن عباد بن تميم عن عمه «أنه رأى رسول الله مستلقيا في المسجد واضعا رجله على الأخرى» ص 214. وروى البخاري والترمذي: «أن ابن عمر وهو شاب أعزب لا أهل له كان ينام في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم ص 214. وهناك أحاديث أخرى من هذا الباب رواها غير الخمسة ووردت في مجمع الزوائد.

نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم وغرفاته التي ذكرت في القرآن: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [الحجرات: 4] ويا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الأحزاب: 53] مما فيه صور متنوعة لما كان يجري في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم بحيث يجب أن يحمل هذا الحديث على قصد تنزيه المساجد عن اللهو واللغو والابتذال وما لا يتناسب مع حرمتها من مشاغل الناس الخاصة والشخصية التي لا نفع لها لجماعة المسلمين وبخاصة في أوقات الصلاة والله تعالى أعلم. وروى أبو داود والترمذي عن عائشة قالت: «أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ببناء المساجد في الدور وأن تنظّف وتطيّب» . وروى الشيخان عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي الصبح بغلس فينصرف نساء المؤمنين لا يعرفن من الغلس» . ويفيد الحديث أن نساء المؤمنين كن يغشين المسجد كالرجال في الليل والنهار. وروى الشيخان وأبو داود عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» وروى مسلم وأبو داود والترمذي عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد. فقال ابن له يقال له واقد إذن يتّخذنه دغلا. قال فضرب في صدره وقال أقول قال رسول الله وتقول لا» . وروى الشيخان عنه أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهنّ» . وروى أبو داود عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما أمرت بتشييد المساجد» والمتبادر أن المقصود من ذلك عدم رفع بنائها أو تطويلها أو تجصيصها. وروى البخاري وأبو داود عن ابن عباس قوله: «لتزخرفنّها كما زخرفت اليهود والنصارى» . وروى أبو داود والنسائي عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد» . والأحاديث تحمل على الكراهية وليس على المنع والتحريم. وروى الشيخان عن عائشة: «أن أم سلمة ذكرت لرسول الله كنيسة رأتها بأرض الحبشة

يقال لها مارية فذكرت ما رأت فيها من الصّور فقال رسول الله أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوّروا فيه تلك الصور. أولئك شرار الخلق عند الله» . وروى الشيخان عن عائشة قالت: «لما نزل برسول الله- تعني لما مرض المرض الذي مات فيه- طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتمّ بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. يحذّر ما صنعوا» . وننبه على أن هذا لا ينطبق على مكان قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه دفن في بيته وكان في ناحية من أنحاء مسجده الذي كان موجودا. وروى مسلم والنسائي عن جندب قال: «سمعت رسول الله قبل أن يموت بخمس ألا وإنّ من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد. ألا فلا تتخذوا القبور مساجد. إنّي أنهاكم عن ذلك» . وروى البخاري وأبو داود في صفة مسجد رسول الله حديثا عن ابن عمر جاء فيه: «أن المسجد كان على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم مبنيا باللّبن وسقفه الجريد وعمده خشب النخل فلم يزد فيه أبو بكر شيئا وزاد فيه عمر وبناه على بنيانه في عهد رسول الله باللّبن والجريد وأعاد عمده من خشب النخل. ثم غيّره عثمان فزاد فيه زيادة كبيرة وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصّة «1» وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالسّاج» . وروى البخاري والترمذي عن جابر قال: «كان النبي يخطب إلى جذع فلما اتخذ المنبر حنّ الجذع حتى أتاه النبيّ فالتزمه فسكن» . وروى الثلاثة «أن امرأة قالت يا رسول الله ألا أجعل لك شيئا تقعد عليه فإن لي غلاما نجارا قال إن شئت فعملت المنبر» . وروى الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا ومسجد الحرام ومسجد الأقصى» . وروى الشيخان والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلّا المسجد الحرام. وزاد ابن ماجه وصلاة في المسجد

_ (1) الراجح أن الحجارة المنقوشة تعني المحسنة بالحجم والوجه على نحو ما يفعل البناءون في نقش الحجارة حينما يبنون بها، أما القصة فقد ذكر الشراح أن المقصود منها التجصيص. [.....]

[سورة الأعراف (7) : الآيات 31 إلى 33]

الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه» . وروى أبو داود وابن ماجه عن ميمونة مولاة النبي صلّى الله عليه وسلّم أنها قالت: «يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس فقال ائتوه فصلّوا فيه. فإن لم تأتوه وتصلّوا فيه فابعثوا بزيت يسرج في قناديله» . وروى النسائي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن سليمان بن داود عليهما السلام لما بنى بيت المقدس سأل الله عزّ وجلّ ثلاثا حكما يصادف حكمه- أي يوافق حكم الله- فأوتيه وملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه. وسأل الله تعالى حين فرغ من بنائه ألّا يأتيه أحد لا ينهزه إلّا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمّه» . والمقصود من كلمة بيت المقدس الواردة في الحديثين الأخيرين هو مسجد بيت المقدس كما هو المتبادر وهو المقصود من كلمة (المسجد الأقصى) الواردة في حديث أبي هريرة الذي رواه الخمسة. وقد وردت هذه الكلمة في آية سورة الإسراء الأولى أيضا وهي: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ والمقصود من كلمة الْأَقْصَى هو البعيد بعدا شاسعا. ولقد كان هذا المسجد حين صدور الأحاديث وحين نزول الآية خرابا ليس في محله إلّا الأنقاض بحيث تكون التسمية القرآنية والنبوية على اعتبار ما كان وبحيث يحمل حديث أبي هريرة ثم حديث ميمونة على أن الله عزّ وجلّ كشف لنبيه أن المسلمين سيقيمون محل هذه الأنقاض مسجدا يسمونه المسجد الأقصى كما سمّاه القرآن ويكون مما تشدّ الرحال إليه مع المسجد الحرام ومسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم. والله تعالى أعلم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 31 الى 33] يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33)

تعليق على تلقين الآيات الثلاث يا بني آدم خذوا زينتكم وما بعدها

(1) زينتكم: ما تبدون فيه متجملين محتشمين. (2) زينة الله: بمعنى ما يسّره الله في الدنيا من أسباب التجمّل والزينة. (3) الفواحش: كل ما عظم من الآثام. (4) ما ظهر منها وما بطن: ما كان علنا أو سرا. (5) الإثم: الذنب أو المعصية إطلاقا. (6) البغي: الظلم والعدوان. (7) ما لم ينزل به سلطانا: ما لا يستند إلى برهان وتأييد من الله. في الآيات هتاف ببني آدم بوجوب الاحتشام عند كل صلاة وعبادة وأماكنهما، وبأن يكون أكلهم وشربهم في حدود الاعتدال وفي غير إسراف لأن الله لا يحب المسرفين. وأمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بأن يسأل في معرض الاستنكار عمن حرم ما يسّر الله في الدنيا من أسباب التجمل والزينة وطيبات الرزق. وبأن يجيب بأن ذلك مباح للذين آمنوا في الحياة الدنيا وبأن مثيله خالص لهم في الآخرة ثم بأن يقرر بأن الله إنما حرم الأفعال الفاحشة بالسرّ والعلن والقلب والجوارح والأعمال الآثمة المحرمة والعدوان على الناس بدون حق والشرك بالله دون ما سند من الله والافتراء على الله بدون علم وبينة. تعليق على تلقين الآيات الثلاث يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ وما بعدها روى المفسرون عن ابن عباس وغيره أن الجملة الأولى من الآية الأولى هي في صدد منع الطواف في حالة العري. وإيجاب التستر والاحتشام عند مباشرته. وأن جملة قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ هي بسبيل استنكار هذه العادة ونسبتها إلى الله تعالى. وأوردوا في ذلك حديثا رواه مسلم عن ابن عباس جاء فيه:

«كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة فتقول من يعيرني تطوافا تجعله على فرجها وتقول: اليوم يبدو بعضه أو كلّه ... وما بدا منه فلا أحلّه فنزلت خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» «1» ونحن نتوقف في كون ذلك سببا لنزول الآية. وكل ما يمكن أن يكون هو أن ابن عباس أراد تفسيرها وبيان مداها. لأن مقتضى الحديث أن تكون نزلت لحدتها في حين أنها منسجمة مع ما قبلها وما بعدها انسجاما وثيقا. ويتبادر لنا أن الآيات تضمنت تعقيبا على الآيات السابقة وهتافا للناس على النحو الذي شرحناه آنفا. والله أعلم. ومقتضى حديث ابن عباس أن المرأة فقط هي التي كانت تطوف عريانة غير أن هناك روايات أوردها المفسرون في سياق تفسير الآية [3] من سورة التوبة تفيد أن ذلك كان عادة عامة يمارسها الرجال والنساء معا. وهناك حديث رواه البخاري والترمذي عن أبي هريرة قال: «بعثني أبو بكر في الحجّة التي أمّره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليها قبل حجّة الوداع في رهط يؤذّنون في الناس بمنى أن لا يحجّ بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ثم أردف النبي صلّى الله عليه وسلّم بعلي يؤذن ببراءة فأذن معنا عليّ في أهل منى يوم النّحر ببراءة» «2» . وهناك أحاديث أخرى في هذا الصدد سوف نوردها ونعلّق عليها في سياق تفسير سورة التوبة. ومما رواه المفسرون «3» في سياق تفسير آيات الأعراف التي نحن في صددها في صدد عادة الطواف بالعري أن العرب كانوا قبل الإسلام يرون من واجبهم طرح ثيابهم إذا طافوا بها لئلا يقترفوا ذنوبا وهي عليهم بعد أن تطهّرت. فكانوا يستأجرون مآزر من سدنة الكعبة تسمى المآزر الأحمسية نسبة إلى كلمة الحمس التي كانت السدنة يتسمون بها ومن لا يجد أو لم يستطع طاف في حالة العري رجالا كانوا أم نساء ضنا بثيابهم أن يرموها ويحرموا

_ (1) التاج ج 4 ص 103. (2) المصدر نفسه ص 114. (3) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن. الجزء الثاني من التفسير الحديث 25

أحاديث في ستر العورة

منها. وقد يصحّ أن يزاد على هذا أنهم ربما كانوا يتحرّجون من الطواف وعليهم ثيابهم التي قد يكونون اقترفوا ذنوبا وهي عليهم فكانوا يخلعونها قبل الطواف ويضعون المآزر أو يطوفون في حالة العري. أحاديث في ستر العورة ومدى جملة خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أوسع من كونها خاصة بالطواف في حالة العري كما هو ملموح من نصّها. بحيث يصحّ القول إنها تتضمن أمرا ربانيا بالاحتشام عند كل صلاة الله عزّ وجلّ وعند دخول كل مسجد من مساجد الله للعبادة. وهو ما يعبّر عنه في الفقه الإسلامي بتعبير (ستر العورة) ويعتبر شرطا من شروط الصلاة. ولقد أثرت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أحاديث عديدة في مدى هذا الأمر. منها حديث رواه الخمسة إلّا الترمذي عن أبي هريرة قال: «قام رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فسأله عن الصلاة في الثوب الواحد فقال أوكلّكم يجد ثوبين» «1» . وحديث رواه الخمسة إلّا الترمذي أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يصلّ أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شيء» «2» . والحديث الأول يجيز للمسلم الصلاة بثوب واحد والثاني يجعل الإجازة رهنا بأن يكون الثوب ساترا. وروى الشيخان عن جابر قال: «رأيت رسول الله يصلّي في ثوب واحد متوشّحا به» «3» . وروى البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الفخذ عورة» «4» وحديث رواه أبو داود والحاكم والبزار عن علي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تكشف فخذك ولا تنظر إلى فخذ حيّ ولا ميّت» «5» . وحديث رواه أبو داود والدارقطني والبيهقي عن عمرو بن

_ (1) التاج ج 1 ص 138. (2) انظر المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه.

شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا زوّج أحدكم خادمه عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرّة وفوق الركبة» » . وروى أبو داود حديثا جاء فيه: «سئلت أمّ سلمة ماذا تصلّي فيه المرأة من الثياب، فقالت: تصلّي في الخمار والدرع السابغ الذي يغيّب ظهور قدميها. وقالت سألت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أتصلّي المرأة في درع وخمار ليس عليها إزار، قال إذا كان الدرع سابغا يغطي ظهور قدميها» «2» . وروى أبو داود والترمذي عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يقبل الله صلاة حائض إلّا بخمار» «3» . وروى الخمسة إلّا أبا داود حديثا جاء فيه: «سئل أن أكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلّي في نعليه؟ قال: نعم» «4» . وأحاديث ابن عباس وعلي وعمرو بن شعيب هي في صدد حدود ما يحسب عورة من الرجل يجب عليه ستره ولا يجوز النظر إليه وبخاصة في الصلاة كما هو المتبادر. أما المرأة فالمتبادر من حديثي أم سلمة وعائشة أنها يجب ستر جميع جسدها بما في ذلك رأسها بخاصة للصلاة. مع التنبيه على أنه من المتفق عليه عند الفقهاء أن وجه المرأة ويديها ليست عورة فيجوز كشفها في الصلاة وفي غير الصلاة. وهناك حديث يرويه أصحاب السنن وأحمد عن ابن عمر في صورة لباس المرأة في الإحرام نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه المرأة عن القفازين والنقاب مما فيه تأييد لذلك أو سند له، ونصّه: «سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى النساء في إحرامهن عن القفّازين والنقاب وما مسّ الورس والزعفران من الثياب ولتلبس بعد ذلك ما أحبّت من ألوان الثياب معصفرا أو خزّا أو حليّا أو سراويل أو قميصا أو خفّا» «5» والمؤولون يرون سندا لذلك في جملة في آية سورة النور وهي: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها [31] أي ما كان إظهاره سائغا لا حرج فيه وهو الوجه واليدان. ولقد روى الطبري عن عائشة قالت: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إذا

_ (1) التاج ج 1 ص 138. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. (5) التاج ج 2 ص 106.

حركت المرأة لم يحلّ لها أن تظهر إلّا وجهها وإلّا ما دون هذا وقبض على ذراع نفسه فترك بين قبضته وبين الكف مثل قبضة أخرى» . وروى حديثا آخر جاء فيه: «إن النبي صلّى الله عليه وسلّم أباح للمرأة أن تبدي من ذراعها إلى قدر النصف» . والحديثان لم يردا في كتب الأحاديث الخمسة ولكنهما متسقان مع ما ورد فيها ومع ما ذكره المؤولون في تأويل جملة آية سورة النور. وسنزيد هذا الأمر بخاصة شرحا في سياق تفسير هذه الآية. وهكذا تكون الآيات الثلاث بإيجابها الاحتشام بين يديّ الله وإباحتها التجمّل والزينة وطيبات الرزق وتحريمها ما هو جماع كل شرّ في الدين والدنيا من أقوى الآيات المحكمة وأروعها التي تظلّ محتفظة بروعتها وقوتها ونفوذها وفعاليتها في كل ظرف ومكان مهما طرأ على البشرية من تطور لاتساقها التام المستمر مع المنطق والعقل والمصلحة الإنسانية. وفي هذا من الإعجاز القرآني ما فيه. هذا، وفي الآية [32] التفات لطيف نحو المسلمين بخاصة بسبيل تطمينهم وحثّهم على الاستمتاع بزينة الحياة الدنيا وطيبات رزقها. فلهم أن يستمتعوا بذلك مع غيرهم في الدنيا دون أن ينقص هذا من نصيبهم من مثله في الآخرة الذي يكون لهم فيها خالصا. وفي هذا ما فيه من التلقين الجليل لا سيما إذا لوحظ أن الاستمتاع بزينة الحياة وطيبات الرزق يستلزم أن يسعى المسلمون في مناكب الأرض كما أمرهم الله في آية سورة الملك هذه: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) وأن يستعدوا بكل وسائل العلم والفن والعمل للنجاح في سعيهم. وننبه أولا: إلى قيد الطَّيِّباتِ حيث ينطوي في هذا منع تناول شيء من مأكل ومشرب وملبس لا يتّصف بصفة الطيب الحلال أو يكون فيه شائبة من شوائب الخبث والحرام. ولقد ورد في القرآن آيات عديدة أخرى فيها توضيح أو توكيد لذلك أو نهي عن تحريم الطيبات كما ترى في الآيات التالية:

1- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة: 172] . 2- يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ [المائدة: 4] . 3- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ [المائدة: 87- 88] . 4- قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام: 145] . 5- يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون: 51] . وفي سورة الأعراف آية مهمة في هذا الباب حيث تجعل حلّ الطيبات من أصول الرسالة المحمدية وهي: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ ... [157] . ويلفت النظر إلى آية الأنعام [145] حيث تضمنت تعليلا للتحريم وهو كون الثلاثة الأولى نجسة أو خبيثة وهو ما عبرّت عنه الآية بكلمة رِجْسٌ وكون الرابعة شركا بالله وهو ما عبرت عنه بكلمة فسق أهلّ لغير الله به وفي هذا تفسير لمعنى الطيب الحلال وكلمة الخبائث العامة التي جاءت في آية الأعراف [157] .

وثانيا: إلى النهي عن الإسراف. وبيان كون الله عزّ وجلّ لا يحبّ المسرفين في سياق الأمر بالاستمتاع بزينة الله التي أخرجها لعباده والطيبات من الرزق والأكل والشرب حيث انطوى في ذلك حدّ فيه كل الحق والحكمة لمنع المسلم من تجاوزه والاستغراق في شهوات النفس والإسراف في الأكل والشرب والزينة ولو كان من الطيب الحلال. وينطوي في هذا فيما ينطوي فيه من الحكم الجليلة منع التفاوت العظيم في المعيشة بين مختلف الفئات مهما اختلفوا في حيازة الثروة والأسباب الميسّرة للاستمتاع بطيبات الحياة وزينتها. والحيلولة بذلك دون فوران أحقاد الطبقات المعسرة على الطبقات الموسرة. وتوجيه ما يمكن أن يتوفر من جرّاء الاعتدال وعدم الإسراف إلى الفئات المحرومة والمعسرة والمشاريع التي فيها برّ وخير ومنفعة للمسلمين. وحياطة المسلمين من صفة التبذير والسّفه. ولقد نعتت إحدى آيات سورة الإسراء المبذرين بأنهم إخوان الشياطين في سياق النهي عن الإسراف والأمر بالاعتدال. وثالثا: إلى صيغة الحصر للمحرّمات في الآية الثالثة حيث يفيد أن الله تعالى إنما حرّم ما فيه انحراف عن وحدة الله وما فيه بغي وظلم وعدوان على الغير. وما فيه معصية لله تعالى بأي شكل ومدى وحالة. وسواء أكان ذلك من الفواحش الكبيرة أم من الذنوب العادية وسواء أكان ذلك في السرّ أم في العلن وظاهرا لا يمكن المماراة فيه أم باطنا يمكن التأوّل فيه ولكن مقترفه يعرف أنه معصية. وإن ما عدا ذلك هو مباح للمسلمين في نطاق التوجيه الذي تضمنته الآيتان الأولى والثانية من التزام الطيب الحلال وعدم الإسراف. وفي كل ذلك ما فيه من شمول وتأديب وروعة وجلال ثم من مظهر حكمة ترشح الشريعة الإسلامية للشمول والخلود الذي انطوى في آية الفتح هذه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [28] لأن فيه إجماع ما فيه الخير والشر والصلاح والفساد في الدين والدنيا الذي يتسّق في كل ظرف ومكان مع المنطق والعقل والمصلحة الإنسانية.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 34 إلى 41]

وللمفسرين تأويلات في مدى ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ منها أن الظاهر هو الزنا العلني والباطن التخادن مع زوجات الآخرين والزنا بهنّ سرا. ومنها أن الظاهر شرب الخمر والباطن الزنا. وإطلاق العبارة يجعلها واسعة المدى بحيث تشمل كل فاحشة كبيرة اقترفها المرء سرا لا يراه أحد أو في حالة يأمن فيها العقاب أو علنا بدون مبالاة. ولقد استدلّ الفقهاء بالآية الأولى على وجوب التستر والاحتشام والتجمّل عند الصلاة والمساجد بنوع خاص وفي هذا وجاهة وسداد. [سورة الأعراف (7) : الآيات 34 الى 41] وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) . (1) افترى: كذّب واختلق.

(2) ينالهم نصيبهم من الكتاب: يستوفون ما كتب عليهم أو يستوفون حظهم في الدنيا من عمل أو رزق أو عذاب أو خير أو شر أو سعادة أو شقاء على اختلاف التأويلات المروية. وكلها وارد. (3) رسلنا: هنا كناية عن الملائكة. (4) ضلّوا عنا: بمعنى غابوا عنا أو أهملونا. (5) خلت: بمعنى مضت. (6) أمة: هنا بمعنى جيل من الناس. (7) لعنت أختها: دعت على من كان سبب ضلالها ودخولها في النار ممن قبلها أو من جيلها باللعنة. ومعنى اللعنة الطرد والإبعاد وجاءت في القرآن بمعنى العذاب الرباني والسخط الرباني والغضب الرباني. وفي مقام الدعاء بذلك على المستحقين. وفي مقام الدعوة إلى الدعاء بذلك على المستحقين أيضا. (8) اداركوا: تداركوا أي أدرك بعضهم بعضا أو لحق بعضهم بعضا حتى تجمعوا جميعا. (9) الجمل: الجمهور على أنه الحيوان المعروف. وقرئت بتسكين الميم بمعنى حبل السفينة الغليظ. والتناسب بين هذا وبين سمّ الخياط أيضا قائم. (10) سمّ الخياط: هو ثقب الإبرة. (11) مهاد: فراش. (12) غواش: جمع غاشية بمعنى الغطاء. الآيات استمرار في السياق وتعقيب على ما سبق كما هو المتبادر. وقد جاءت على أثر التنديد بشرك المشركين وعاداتهم الفاحشة ونسبتها إلى الله كذبا وافتراء لتنبّه الناس إلى أن الله قد جعل لكل أمة وجيل أجلا وجعل لكل أمة فرصة في هذا الأجل، حيث يرسل إليهم رسلا منهم يتلون عليهم آياته ويبينون لهم الهدى من الضلال. فالذين يغتنمون الفرصة فيستجيبون إلى دعوة الله ويتقون ويكون رائدهم الصلاح والإصلاح هم الناجون الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. أما الذين يضيعون الفرصة فيكذبون بآيات الله ويستكبرون عنها فيستحقون عذاب الله

وناره ويخلدون فيهما. وقد أخذت الآيات بعد ذلك تندّد بهم وتنذرهم بالمصير الرهيب الذي سوف يلقونه وبالندم الشديد الذي سوف يستشعرونه. فليس من أحد أشدّ ظلما ممن يفتري على الله ويكذّب بآياته. ولسوف يأتيهم ملائكة الله ليتوفوهم بعد أن يستوفوا ما كتب لهم في الحياة فيسألونهم سؤال المندد المتحدي أين الذين كانوا يدعونهم من دون الله ويشركونهم مع الله ليأتوا وينصروهم فلا يسعهم إلّا القول إنهم ضلّوا عنا ثم إلّا الاعتراف بما كانوا عليه من سخف وكفر، وحينئذ يقال لهم ادخلوا النار أمة بعد أمة. فتأخذ كل أمة تلعن أختها التي سبقتها وحينما يتمّ تلاحقهم يلقي الآخرون اللوم على الأولين ويطلبون من الله أن يضاعف لهم العذاب لأنهم هم الذين أضلّوهم ويردّ هؤلاء عليهم مكذبين شامتين ويقول الله تعالى لهم جميعا ذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون وإنه لمضاعف لكم جميعا. وقد انتهت الآيات بتيئيس المكذبين المستكبرين من دخول الجنة ونيل رضاء الله عزّ وجلّ وولوج ساحاته العلوية بأسلوب تشبيهي قوي ولاذع وهو إناطة ذلك بدخول الجمل في ثقب الإبرة ثم بوصف ما يكون لهم من فراش وغطاء ناريين في جهنم جزاء وفاقا على ما كان منهم من كفر وإجرام وظلم. وقد جاءت الآيات عامة الخطاب لتكون عامة الشمول والتقرير والتنديد والإنذار والتبشير للمخاطبين بها مباشرة وللناس عامة. وأسلوبها قوي نافذ يخاطب العقل والقلب معا. وقد استهدفت فيما استهدفته تثبيت الذين آمنوا واتقوا وإثارة الرعب في المكذّبين المستكبرين وحثهم على عدم تضييع الفرصة قبل فوات الوقت والندم حيث لا ينفع. وفحوى الآيات مؤكد لما نبهنا إليه مرارا من تقرير القرآن لقابلية الاختيار والكسب التي أودعها الله في الناس واستحقاق كل امرئ لمصيره وفق اختياره وكسبه وموقفه من دعوة الله وأوامره وحدوده. ويلفت النظر الآية [37] وقوتها الإنذارية والتقريرية وبخاصة ما نبهت إليه من افتراء الكذب على الله. ولعلها تحمل فيما تحمله إنذارا وتسفيها لكل من يجرؤ

على نسبة قول أو عمل أو عقيدة أو تحليل أو تحريم إلى الله بغير علم ولا برهان تنطعا أو اندفاعا وراء الهوى وتكون بذلك مستمرة التلقين والمدى. والمقصود بالرسل في جملة حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ الملائكة الذين يتوفون الناس حينما ينتهي أجلهم وقد ذكر الملائكة بصراحة في مثل هذا القصد في آية سورة النحل هذه: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) وآية سورة النساء هذه: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) . والملائكة وما يقومون به من خدمات لله مما يجب الإيمان به لأنه مما قرّره القرآن. ومن الواجب الوقوف عند ما جاء في القرآن في ذلك بدون توسّع ولا تزيّد ولا سيما ما لا يستند إلى نصّ نبوي ثابت لأن ذلك مما لا طائل منه من حيث إنه من الأمور المغيبة التي لا يصح الكلام فيها إلّا بنصّ قرآني أو نبوي ثابت. مع ملاحظة ما كان من عقائد العرب فيهم وصلة ذلك بكثير مما ورد في القرآن عنهم على ما شرحناه في سياق سورة المدثر. ولقد روى الطبري روايات عديدة عن أهل التأويل في مدى جملة لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ منها عن ابن عباس أنها لا تفتح لأرواحهم ومنها عنه أيضا أنها لا تفتح لخير يعملونه. وعن مجاهد أنها بمعنى لا يصعد لهم كلام ولا عمل إلى السماء. وعن السدي أن الكافر إذا أخذت روحه ضربتها ملائكة الأرض حتى ترتفع إلى السماء فإذا بلغت السماء الدنيا ضربتها ملائكة السماء فهبطت إلى أسفل سافلين. وصوّب الطبري تأويل أن السماء لا تفتح لأرواحهم ولا لأعمالهم، وروى حديثا عن البراء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه ذكر قبض روح الفاجر وأنه يصعد بها إلى السماء فلا يمر الصاعدون بها على ملأ من الملائكة إلّا قالوا ما هذا الروح الخبيث فيقولون فلان بأقبح أسمائه التي كان يدعى بها في الدنيا حتى ينتهي إلى السماء فيستفتحون له فلا يفتح له ثم قرأ لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ

التلقين الذي انطوى في حكاية تلاوم الأجيال المتعاقبة في جهنم

الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ. وهذه الروايات لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. ومهما يكن من أمر فالمتبادر من روح الجملة والتي بعدها أنهما أسلوبيتان بسبيل بيان شدّة سخط الله تعالى على الكافرين المستكبرين عن آياته واستحالة حصولهم على رضائه والدخول في جنته. والله تعالى أعلم. التلقين الذي انطوى في حكاية تلاوم الأجيال المتعاقبة في جهنم والمتبادر أن المقصود من أولاهم وأخراهم الذين حكت الآيات تلاومهم هم الآباء والأبناء أو الأجيال السابقة والأجيال اللاحقة أو الفئات التابعة والفئات المتبوعة. وأن كلام الآخرين هو من قبيل الاعتذار بأنهم إنما ساروا على خطوات الأولين وضلوا بضلالهم، وردّت الآيات عليهم بأن العذاب المضاعف لهم جميعا لأن كل امرئ رهن بما كسب ولا تفيده مثل هذه الحجة. ومع واجب الإيمان بما أخبرت به الآيات من الحوار الذي سوف يكون بين فئات الكفار في النار فإن في الصيغة التي ورد فيها ذلك تلقينا مستمر المدى في تقبيح اتباع الأولين أو الآباء أو الزعماء في كل ما ساروا عليه ولو كان شرّا أو ضلالا وإثما وفي وجوب تروي كل امرئ وكل جيل في أمر نفسه وتحري طريق الحق والهدى والسير فيه وسقوط حجة المحتجين في تقليد غيرهم والسير على خطواتهم، وقد تكرّر مثل هذا التلقين في آيات كثيرة مما مرّ أمثال له في السور السابقة. [سورة الأعراف (7) : الآيات 42 الى 45] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45)

(1) غلّ: حقد. (2) أذّن مؤذن: نادى مناد. (3) يصدّون: يمنعون. (4) يبغونها عوجا: يريدون أن تكون معوجة وغير مستقيمة والجملة كناية عن إرادتهم تعطيل دعوة الله. الآيات استمرار للسياق كذلك كما هو المتبادر وهي بسبيل بيان المصير السعيد الذي يصير إليه المؤمنون الصالحون مقابلة لما سبق بيانه من مصير الكافرين والمستكبرين، وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى بيان آخر. وأسلوب الآيات قوي مشوّق من شأنه بثّ الطمأنينة في نفوس المؤمنين الصالحين كما هو واضح ومع واجب الإيمان بما أخبر به القرآن من الحواريين أصحاب الجنة وأصحاب النار فإنه كما هو المتبادر متصل بهذا الهدف من جهة وفيه إنذار بالمناسبة للكفار وبخاصة لزعمائهم الظالمين الباغين الذين يصدّون عن سبيل الله ويبغونها عوجا من جهة أخرى. وما حكي في الآيات عن لسان المؤمنين في جملة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ مفسّر كما هو ظاهر في جملة لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ حيث تبين أن ذلك هو ما جاء به رسل الله من بيانات وشرائع وتلقينات. وهذا متسق مع تقريرات القرآن العامة في حكمة إرسال الرسل لبيان ما لا يمكن معرفته بالعقل وحده من رسوم وحدود وحكم ربانية متنوعة. وقد جاءت الآيات مطلقة لتكون عامة الشمول والتقرير والبشرى والإنذار والتلقين كما هو المتبادر.

ولقد أورد مؤلف التاج في كتاب التفسير في سياق الآية [43] حديثا رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ينادي مناد إن لكم أن تصحّوا فلا تسقموا أبدا وإنّ لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا وإنّ لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا وإنّ لكم أن تنعموا فلا تبتئسوا أبدا» فذلك قول الله عزّ وجلّ: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «1» وفي الحديث من البشرى والتطمين للمؤمنين ما يتساوق من ذلك في الآيات كما هو واضح. ولقد أورد ابن كثير في سياق جملة وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ حديثا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «واعلموا أنّ أحدكم لن يدخله عمله الجنة. قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلّا أن يتغمّدني الله برحمة منه وفضل» . ولقد روى هذا الحديث الشيخان والنسائي عن أبي هريرة بهذه الصيغة: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: قاربوا وسدّدوا واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله قالوا يا رسول الله ولا أنت؟ قال: ولا أنا إلّا أن يتغمّدني الله برحمة منه وفضل، وفي رواية لا يدخل أحدا منكم عمله الجنة ولا يجيره من النار ولا أنا إلّا برحمة الله» «2» . وإزاء الصراحة القطعية في الآية ليس من بد من حمل الحديث على قصد تنبيه المؤمنين إلى عدم إنهاك أنفسهم بما لا يطيقونه من الأعمال الصالحة ويكفي منهم ما يطيقونه. وهو ما ينطوي في أول الحديث حين التمعّن فيه. وهناك حديث صحيح آخر قد يؤيد هذا التوجيه رواه البخاري عن أبي هريرة قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم إن الدين يسر ولن يشادّ الدين أحد إلّا غلبه. فسدّدوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدّلجة» «3» والله تعالى أعلم.

_ (1) التاج ج 4 ص 103- 104. [.....] (2) التاج ج 5 ص 195- 196. (3) التاج ج 1 ص 41- 42.

تعليق على مدى جملة لا نكلف نفسا إلا وسعها

تعليق على مدى جملة لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وهذه الجملة وإن كانت في مقامها هي بسبيل تقرير كون الله تعالى لا يكلف الذين آمنوا وعملوا الصالحات إلّا ما في وسعهم من ذلك فإنها في إطلاقها تتضمن مبدأ من أمهات المبادئ القرآنية الذي تكرر تقريره بأساليب متنوعة وهو أن الله سبحانه وتعالى لا يكلّف الناس إلّا وسعهم. وهذا المعنى يتناول حدّين أو معنيين: الأول: أن ما يكلفه الله الناس هو ما يعرف أنه في نطاق قدرتهم ووسعهم أن يفعلوه. والثاني: أن الله لا يطلب من الناس أن يتجشموا ما لا طاقة لهم به في سبيل القيام بما يكلفون به. والوسع يتناول فيما يتناول عدم التعارض مع القابليات والإمكانيات وعدم التعرّض للأخطار والأضرار. فالمسلمون حسب هذا المبدأ ليسوا مكلفين بما ليس في إمكانهم وقابلياتهم الجسدية والنفسية والمالية ولا بما يكون فيه تعريض حياتهم للخطر والتهلكة والحرمان سواء أكان ذلك بسبيل الواجبات والتكاليف التعبدية أم غير التعبدية. وإنما يطلب ذلك منهم في نطاق الطاقة وحدود الإمكان والمعقول. وهذا المبدأ يتسق مع طبيعة الأشياء ووقائع الأمور. ولعله من أعظم المبادئ التي ترشح المبادئ القرآنية للخلود والتطبيق في كل زمن ومكان. وقد تكرر تقريره كما قلنا بأساليب متنوعة مما ينطوي فيه حكمة التنزيل ومن الأمثلة على ذلك إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1» [البقرة: 173] و

_ (1) مثل هذه الآية أو قريبا منها جاء في سورة الأنعام والمائدة والنحل.

لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [البقرة: 286] . وما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [المائدة: 6] ووَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ... [الأنعام: 152] وفَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ... [التغابن: 16] ولِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها ... [الطلاق: 7] . ولقد روي في سياق آية البقرة [286] التي أوردناها آنفا حديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: «لما نزلت لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 284] اشتدّ ذلك على أصحاب النبي فأتوه وبركوا على الركب وقالوا أي رسول الله كلّفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها فقال رسول الله أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير قالها مرتين. فلما اقترأها القوم وذلّت بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة: 285] فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا [البقرة: 286] قال نعم رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا [البقرة: 286] قال: نعم رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ [البقرة: 286] قال: نعم، وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [البقرة: 286]

قال: نعم» «1» . حيث يفيد الحديث أنّ الله تعالى علّم المؤمنين هذا الدعاء وآذانهم أنه قد استجاب دعاءهم. فقوي المبدأ القرآني قوّة وإحكاما. ولقد رويت أحاديث نبوية صحيحة متساوقة في تلقينها مع التلقين القرآني الذي تضمنته الآيات التي أوردناها وأمثالها. من ذلك حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» «2» . وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به» «3» . وحديث رواه الشيخان والترمذي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» «4» . وحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن عائشة قالت: «إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل عليها وعندها امرأة فقال من هذه قالت فلانة تذكر من صلاتها قال مه. عليكم بما تطيقون فو الله لا يملّ الله حتى تملّوا وكان أحبّ الدين إلى الله ما داوم عليه صاحبه» «5» . وحديث رواه الشيخان عن عبد الله بن عمرو قال: «قال لي النبي صلّى الله عليه وسلّم ألم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار قلت إني أفعل ذلك. قال: فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عينك ونفهت نفسك وإنّ لنفسك حقّ ولأهلك حقّ فصم وأفطر وقم ونم» «6» . وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الدين يسر ولن يشادّ الدين أحد إلّا غلبه، فسدّدوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» «7» . وحديث رواه الشيخان والترمذي عن عائشة قالت: «إن

_ (1) التاج ج 4 ص 62- 64. (2) التاج ج 1 ص 24. (3) المصدر نفسه ص 28 و 37 و 42. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه. (6) المصدر نفسه، نفهت: أي سئمت وكلت. اسم إنّ ضمير الشأن وجملة لنفسك حق خبرها. (7) المصدر نفسه.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 46 إلى 49]

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل أيّ العمل أحبّ إلى الله؟ قال: أدومه وإن قلّ» «1» . وحديث رواه الخمسة عن ابن عمر قال: «كنّا نبايع رسول الله على السمع والطاعة ويلقّننا فيما استطعتم» «2» . وحديث رواه النسائي والترمذي عن أميمة بنت رقيقة قالت: «كنّا نبايع رسول الله على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيك في معروف فقال فيما استطعتنّ وأطقتنّ فقلنا الله ورسوله أرحم بنا» «3» . وحديث رواه ابن ماجه عن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنّ الله قد وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» «4» . [سورة الأعراف (7) : الآيات 46 الى 49] وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) . (1) حجاب: ستار أو حاجز أو سور. (2) الأعراف: جمع عرف. وهو كل مرتفع ومنه عرف الديك وعرف الفرس لارتفاع ريش رأس الديك وشعر الفرس وهو هنا بمعنى شرفة السور العالية. (3) سيماهم: علاماتهم المميزة. ذكر المفسرون قولين في ضمير وَبَيْنَهُما. أحدهما أنه عائد إلى أهل الجنة وأهل النار. وثانيهما أنه عائد إلى الجنة والنار. وكلا القولين وارد لأن الجنة والنار وأهلهما ذكروا في الآيات السابقة. وذكر المفسرون أن الحجاب هو سور مضروب

_ (1) المصدر السابق نفسه. (2) التاج ج 3 ص 38 و 39. (3) المصدر نفسه. (4) التاج ج 1 ص 29. [.....] الجزء الثاني من التفسير الحديث 26

بين الجنة والنار وأهلهما والأعراف هي شرفاته. وعلى كل حال فالآيات معطوفة على ما سبقها واستمرار في السياق كما هو المتبادر. ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل في ماهية أصحاب الأعراف وفي الذين تحكي الآيتان [46 و 47] مواقفهم وأقوالهم. وقد رويت أحاديث نبوية في صدد ذلك أيضا. منها حديث رواه الطبري يذكر «أن رجلا من بني النضير أخبر عن رجل من بني هلال أن أباه أخبره أنه سأل رسول الله عن أصحاب الأعراف فقال هم قوم غزوا في سبيل الله عصاة لآبائهم فقتلوا فأعتقهم الله من النار بقتلهم في سبيله وحبسوا عن الجنة بمعصية آبائهم فهم آخر من يدخل الجنة» . وقد أورد ابن كثير من طرق أخرى حديثين بصيغتين مقاربتين للحديث الذي رواه الطبري. وروى حديثا آخر عن جابر بن عبد الله: «أن رسول الله سئل عمن استوت حسناته وسيئاته فقال أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون» . أما الأقوال التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل مثل ابن عباس والسدي ومجاهد والضحاك وأبي مجلز فمنها أن أصحاب الأعراف هم أطفال المشركين أو أطفال المؤمنين، أو أهل الفترة، أو أناس استوت حسناتهم وسيئاتهم، أو أناس تجاوزت بهم حسناتهم عن النار وقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة. وهم آخر من يغفر الله لهم ويؤذن لهم بدخول الجنة. بعد أن يأمرهم بالاغتسال والتطهّر من نهر الحياة حتى تتلألأ أبدانهم. ومنها أنهم جماعة العلماء والفقهاء من الأمم يطلعون على الناس ويخاطبونهم. ومنها أنهم الأنبياء أو خزنة الجنة والنار أو كتّاب أعمال الناس من الملائكة. ورووا في مدى جملة يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ أن سيما المؤمنين تكون نضرة وبياضا وسيما الكافرين سواد بشرة ووجوه وزرقة عيون. وروى الطبرسي المفسّر الشيعي عن أحد الأئمة الاثني عشر أبي جعفر أن أصحاب الأعراف هم آل محمد. لا يدخل الجنة إلّا من عرفهم وعرفوه. ولا يدخل النار إلّا من أنكرهم وأنكروه. وروى إلى هذا أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه نفسه وهم قسيم الجنة والنار وأورد في ذلك حديثا جاء فيه: «أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لعلي يا عليّ كأني بك يوم القيامة وبيدك عصا عوسج تسوق قوما

إلى الجنة وآخرين إلى النار» . وحديثا ثانيا جاء فيه: «أن ابن الكواء سأل عليا رضي الله عنه عن أصحاب الأعراف فقال له ويحك يا ابن الكواء هم نحن. نقف يوم القيامة بين الجنة والنار فمن نصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنة ومن أبغضنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النار» ورواية أخرى بصيغة و «قيل إن الأعراف موضع عال على الصراط عليه حمزة والعباس وعليّ وجعفر يعرفون محبّيهم ببياض الوجوه ومبغضيهم بسواد الوجوه» ثم عزا هذا إلى الضحاك عن ابن عباس وقال رواه الثعلبي بالإسناد إلى تفسيره. وقد روى الطبري هذه الروايات بالإضافة إلى روايات أخرى مماثلة للروايات السابقة. وليس من شيء من هذه الروايات والأحاديث واردا في كتب الأحاديث الصحيحة. وقد أخذ الطبري وتابعه آخرون بالأحاديث النبوية التي تذكر أنهم جماعة غزوا وعصوا آباءهم برغم عدم اتصافها بالصحة وغرابة طرقها. وهذا في حين أن عبارة الآيات تلهم بقوة أن أصحاب الأعراف يعرفون جميع الخلق وأنهم في موقف الشهود العدول عليهم الذين يقولون للمؤمنين ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون. وكون ذلك من مهمتهم. وهذا يقتضي أن يكونوا الأنبياء أو الملائكة كتّاب أعمال الناس. وفي القرآن آيات عديدة يمكن أن يكون فيها تأييد لذلك. نكتفي بما جاء في سورة الزمر منها: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) . وتبعا لترجيحنا يكون الضمير في الآية [47] عائد إلى أهل الجنة الذين تلهم

[سورة الأعراف (7) : الآيات 50 إلى 53]

العبارة أنهم منتظرون أمر الله بدخولها وهم طامعون آملون في ذلك. وقد ذكرنا ما ذكرناه من قبيل التعليق على الروايات واستلهام العبارة القرآنية دون قصد إلى شرح المشاهد الأخروية التي نقول في صددها إن الإيمان بما احتوته الآيات من ذلك واجب تبعا لوجوبه بالنسبة لكل المشاهد والصور التي يذكرها القرآن مع وجوب الوقوف عند ما ذكره القرآن دون تخمين ولا تزيد ما دام ليس هناك أحاديث نبوية صحيحة. وهي وحدها التي يمكن أن يستند إليها في المسائل المغيّبة التي منها المشاهد الأخروية. ويتبادر لنا من فحوى الآيات ومقامها وروحها أنها هدفت أيضا إلى بثّ الطمأنينة والغبطة في نفوس المؤمنين الصالحين والفزع والخوف في نفوس الكافرين الآثمين مع تبكيتهم. وأنها جاءت مطلقة لتكون عامة البشرى والإنذار والتنويه والتبكيت ومستمرة التلقين أيضا. وفي الآية [49] صورة لما كان ينظر الكفار وخاصة زعماءهم من نظرة الاستكبار والاستهانة إلى الذين استجابوا للدعوة النبوية. وهو ما حكته آيات السورة السابقة وآيات عديدة أخرى أوردنا أمثلة منها في سياق السورة المذكورة. ونقول تعليقا على الروايات التي ينفرد بها الطبرسي إن طابع الهوى والوضع الشيعي بارز عليها. وإن هذا ديدن رواة الشيعة ومفسريهم الذين يروون الروايات المماثلة في سياق آيات كثيرة جدا بسبيل تأييد أهوائهم دون أسناد صحيحة ووثيقة ودون مبالاة بعدم التساوق الذي يكون ظاهرا بكل قوة بين الروايات والآيات نصا وروحا وسياقا على ما سوف ننبه عليه في مناسباته. ويلحظ هذا في الروايات المروية هنا. فالآيات في صدد جميع أهل الجنة وجميع أهل النار. ومع ذلك فهي تحصر الموقف على محبّي علي وأبنائه وذريته ومبغضيهم وتجعل الجنة والنار رهنا به وتجعل عليا وبعض ذريته أصحاب القول الفصل فمن أحبّهم أدخلوه الجنة ومن أبغضهم أدخلوه النار! وننبّه على أن الطبرسي من أكثرهم اعتدالا ... [سورة الأعراف (7) : الآيات 50 الى 53] وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53)

(1) ينظرون: ينتظرون. (2) تأويله: أصل اشتقاق الكلمة من آل يؤول بمعنى صار أمره أو عاقبته إلى كذا. وقد جاءت في القرآن بمعان عديدة ولكنها لا تخرج عن نطاق معنى آل. حيث جاءت بمعنى مصداق الشيء الذي ظهر أو تحقيقه أو عاقبته أو تفسيره أو مصيره أو تعبيره أو مداه أو بيان ما استتر من سحره أو كونه أحسن عاقبة. وهي هنا بمعنى مصداقه أو تحقيقه أو عاقبته. وتستعمل الكلمة في صدد تفسير القرآن. والفرق بينها وبين التفسير أن التفسير هو للغة والألفاظ والتأويل هو للمعاني المحتملة التي يقدم قرينة ما على أنها أكثر ورودا من معنى اللفظ اللغوي. الآيات معطوفة على ما سبقها واستمرار للسياق كما هو المتبادر. وفيها مشهد مما سوف يكون دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. وتعقيب تبكيتي للكافرين الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا واغترّوا بالحياة الدنيا. برغم ما جاءهم من كتاب فيه الهدى والرحمة لمن حسنت نيته وآمن. ثم صورة لما سيكون من ندمهم واعترافهم وتمنّيهم الرجوع ويأسهم من شفعائهم. وهي قوية لاذعة. ونقول هنا ما قلناه في صدد الآيات السابقة إن من الواجب الإيمان بما احتوته من مشهد. وإن من المتبادر أن من الحكمة المتوخاة فيها إثارة الفزع والخوف والندم في السامعين الكفار وحملهم على الارعواء قبل أن تصدمهم حقيقة

[سورة الأعراف (7) : الآيات 54 إلى 58]

الآخرة ومصيرهم الرهيب فيها ويندموا ولات ساعة مندم. وقد جاءت مطلقة لتكون مستمرة المدى والتلقين. والآية [51] بخاصة احتوت تلقينا جليلا بتقبيح الذين يتخذون الدين هزؤا ولعبا ويغترون بما يكونون عليه من مال وقوة في الحياة فيسوقهم هذا إلى عدم المبالاة بالعواقب واقتراف الإثم والبغي والاستكبار وعدم الانصياع إلى دعوة الحق وكلمة الحق. والآية [52] وهي تقرر أن كتاب الله هو رحمة وهدى للمؤمنين تقرر ضمنا أن الاستكبار عن دعوة الله وجحودها إنما يأتيان من أناس خبثت نواياهم وساءت طواياهم، وتغلّب الهوى والعناد عليهم فأعميا بصائرهم، وأن هؤلاء هم الذين لا يرون في كتاب الله الهدى وطريق الحق، في حين أن الذين طابت سرائرهم ورغبوا في الحق وبرئوا من الهوى والعناد يؤمنون ويرون في كتاب الله رحمة وهدى. وفي هذا وذاك تنديد بالكافرين من جهة وتنويه بالمؤمنين من جهة وعزو الاهتداء والضلال لحسن النية وصدق الرغبة وخبث الطوية وتغلّب الهوى وكونهما مظهرا لذلك من جهة أخرى. وفي هذا ما فيه من التلقين المستمر المدى. هذا، ولقد قال المفسرون في جملة فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا إن الله لا يشذّ عنه شيء ولا يتّصف بالنسيان وإن المقصد أن الله يعاملهم كالمنسيّ أو يتركهم في العذاب لا يسمع لهم استغاثة ولا يتداركهم برحمة. ومع وجاهة هذا التخريج فيمكن أن يقال أيضا إن العبارة أسلوبية لمقابلة العمل بمثله مما تكرر كثيرا ومنه وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [آل عمران: 54] . [سورة الأعراف (7) : الآيات 54 الى 58] إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)

(1) يغشى الليل النهار: يغطي بالليل النهار ويدخله عليه. (2) يطلبه حثيثا: حثيثا بمعنى سريعا أو متواليا ويطلبه أي يجري وراءه ليدركه. (3) تضرعا: تذللا. (4) خفية: سرا وبدون إعلان. (5) المعتدين: هنا بمعنى المتجاوزين الحد. (6) أقلت: حملت. (7) نكدا: النكد العسر الممتنع عن إعطاء الخير. الآيات استمرار للسياق السابق ومتصلة به على ما هو المتبادر وقد جاءت بعد بيان مصائر المؤمنين والكافرين في الآخرة لتخاطب الناس عودا على بدء وتلفت نظرهم إلى مظاهر ربوبية الله في الكون العظيم ومطلق تصرفه، وتذكرهم بنعمة الله، وتبشّر المحسنين الصالحين برحمته الواسعة، وتدلّل على استحقاقه وحده للعبودية والخضوع والدعاء وتبرهن على قدرته على إحياء الناس بعد الموت. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وأسلوبها تقريري رصين موجّه إلى العقول والقلوب معا. ومع أن ضمير الجمع المخاطب عائد إلى السامعين فإنه عام التوجيه. وقد احتوت تلقينات جليلة مستمرة المدى. سواء في تعليمها آداب دعاء الله وعبادته تضرعا وخفية وخوفا وطمعا بدون إعلان ولا صخب، أم في نهيها

عن الفساد في الأرض، أم في تأميلها المحسنين الذين يقومون بواجباتهم، أم في التفكير في آلاء الله وعظمة كونه والاستشعار بعظيم قدرته ومطلق تصرفه، وتحرير النفس من كل ما عداه. وسامعو القرآن كانوا يعرفون ويعترفون بأن الله تعالى هو الذي خلق السموات والأرض وما بينهما وما فيهما والمدبّر للأكوان والمتصرّف فيها على ما حكته عنهم آيات عديدة منها آية سورة الزخرف هذه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) وآية سورة يونس هذه: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) وآيات سورة المؤمنون هذه: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) بحيث تستحكم الحجة على السامعين بما أرادته الآيات من التدليل على استحقاق الله وحده للخضوع والدعاء وقدرته على إحياء الناس بعد الموت. والمتبادر أن تعبير وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها هو تعبير أسلوبي إذ الفساد ليس أصلا وإنما يكون طارئا ومستأنفا. والجملة بسبيل تشديد خطر البغي والفساد فإذا كان الفساد في أصله قبيحا محظورا فهو بعد الصلاح أشدّ قبحا وآكد خطرا لأنه هدم للصلاح القائم وإقامة الفساد مكانه. ولعلّ الجملة تتضمن التنويه بالرسالة النبوية التي جاءت بالإصلاح بعد الفساد والتنديد بالذين يقفون منها موقف الهادم لها وإتاحة الاستمرار للفساد أو استئنافه. وتبدأ بعد هذه الآيات سلسلة طويلة في قصص الأنبياء مع أقوامهم. وهكذا تكون هذه الآيات وبخاصة الأخيرة منها قد جاءت خاتمة قوية للفصل الطويل الذي ابتدأ من أول السورة.

تعليق على الآية ادعوا ربكم تضرعا وخفية إلخ وما فيها من تلقين واستطراد إلى موضوع الدعاء في القرآن والحديث وما في ذلك من دلالة على إعارة الكتاب والسنة لهذا الأمر من عناية ومدى هذه العناية

تعليق على الآية ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إلخ وما فيها من تلقين واستطراد إلى موضوع الدعاء في القرآن والحديث وما في ذلك من دلالة على إعارة الكتاب والسنّة لهذا الأمر من عناية ومدى هذه العناية والأمر بالدعاء خفية قد تكرر في القرآن كما جاء في آية سورة الأعراف هذه أيضا: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) وآية سورة الإسراء هذه: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا (110) . وواضح أن هذا هو بسبيل التهذيب النفسي وتقرير كونه أدلّ على الإخلاص لله في الدعاء والعبادة وأبعد عن تهمة المظاهرة والرياء. ولقد أورد ابن كثير حديثا ورد في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: «رفع الناس أصواتهم بالدعاء فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيّها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمّ ولا غائب. إن الذي تدعون سميع قريب» . وروى الترمذي حديثا عن أبي أمامة قال: «قيل يا رسول الله أيّ الدعاء أسمع قال جوف الليل الأخير ودبر الصلوات المكتوبة» . وفي الحديثين تساوق مع التلقين القرآني شأن سائر الأمور. استطراد إلى موضوع الدعاء لله ومداه ونستطرد إلى ذكر الدعاء لله بصورة عامة فنقول إن في القرآن آيات كثيرة في الحثّ على الدعاء لله تعالى وفي كل ظرف وفي التنويه به، ووعد رباني بالاستجابة لمن يدعوه. وإيذان بأنه قريب إليه كما ترى في الآيات التالية: 1- وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة: 186] .

2- وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الكهف: 28] . 3- إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ [الأنبياء: 90] . 4- أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ [النمل: 62] . 5- تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [السجدة: 16] . 6- فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ [غافر: 14] . 7- وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر: 60] . حيث يبدو من هذه الأمثلة ما اقتضته حكمة التنزيل من إعارة العناية لهذا الأمر. وإذا لاحظنا أن الدعاء في الإنسان يكاد يكون فطريا لأنه لا يكاد يجد نفسه في مأزق أو ضيق أو كرب أو أمام صعوبة إلّا وسارع إلى دعاء الله، تبينت لنا تلك الحكمة حيث ينطوي فيها علاج روحي لكثير من مشاكل النفس والحياة. فإذا ما أفضى الإنسان المحزون والمكروب والذي يواجه المشاق والمصاعب إلى ربّه ما يعانيه وطلب منه العون فإنه يشعر بطمأنينة ونفحة روحية تنشله مما هو فيه أو تخفّف عنه وتبثّ فيه الأمل والرجاء إذا كان ذلك مترافقا مع الإيمان والاعتقاد بأن الله سامع له قريب إليه مجيب لدعائه. وهذا فضلا عما ينطوي في الدعاء لله من وسيلة إلى ذكر الله ثم في إثارة الشعور بتقوى الله بصالح الأعمال واجتناب السيئات. وفي هذا ما فيه من وسيلة إلى تقويم أخلاق المسلم. وهناك أحاديث نبوية عديدة في هذا الموضوع منها حديث رواه الترمذي

والإمام أحمد والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء» «1» . وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من لم يسأل الله يغضب عليه» «2» . وحديث رواه الترمذي عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الدعاء مخّ العبادة» «3» . وحديث رواه الترمذي عن عبادة بن الصامت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلّا آتاه الله إيّاها أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم فقال رجل من القوم إذا نكثر قال الله أكثر» «4» . وعن ابن عمر قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة وما سئل الله شيئا يعطى أحبّ إليه من أن يسأل العافية» «5» . وعن ابن عمر أيضا قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم عباد الله بالدعاء» «6» . وعن سلمان قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يردّ القضاء إلّا الدعاء ولا يزيد في العمر إلّا البرّ» «7» . وعن عبد الله قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم سلوا الله من فضله فإنّ الله عزّ وجلّ يحبّ أن يسأل وأفضل العبادة انتظار الفرج» «8» . وحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقلنّ أحدكم اللهمّ اغفر لي إن شئت اللهمّ ارحمني إن شئت. ليعزم المسألة فإنّه لا مكره له» «9» . وحديث رواه البخاري ومسلم أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل. يقول دعوت فلم يستجب لي» «10» . وحديث رواه

_ (1) التاج ج 5 ص 100. (2) انظر المصدر نفسه. (3) انظر المصدر نفسه. (4) انظر المصدر نفسه ص 100- 101. (5) انظر المصدر نفسه. (6) انظر المصدر نفسه. (7) انظر المصدر نفسه. (8) انظر المصدر نفسه. (9) انظر المصدر نفسه ص 103- 104. (10) انظر المصدر نفسه.

تعليق على الآية إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش

الترمذي والحاكم عن أبي هريرة كذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة. واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه» «1» . وحديث رواه الترمذي ومسلم عن أبي هريرة جاء فيه: «الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمدّ يده إلى السماء يا ربّ يا ربّ ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذّي بالحرام فأنّى يستجاب لذلك» «2» . وينطوي في الأحاديث تلقينات نبوية متساوقة مع التلقين القرآني وتأديب نبوي في صدد الدعاء بوجه عام. وهناك صيغ كثيرة في الدعاء في مختلف الظروف مأثورة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم نكتفي بواحدة منها وصفت بأنها من جوامع الدعاء رواها الثلاثة عن أنس قال: «كان أكثر دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم اللهمّ ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار» » . تعليق على الآية إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ إن جملة خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ تأتي هنا لثاني مرة. وقد جاءت للمرة الأولى في سورة (ق) التي مرّ تفسيرها وعلّقنا عليها بما يغني عن التكرار. وكلمة الْعَرْشِ وردت في السور التي سبق تفسيرها أكثر من مرة. وعلّقنا على مدى الكلمة في سورة التكوير بما يغني عن التكرار كذلك. أما جملة ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ فإنها تأتي هنا للمرة الأولى. وقد تكررت

_ (1) التاج ج 5 ص 103- 104. (2) التاج ج 4 ص 163. (3) التاج ج 5 ص 108. وانظر الصيغ الأخرى في الصفحات 103 وما بعدها.

بعد ذلك. وقد تعددت الأقوال في مداها فممّا قاله البغوي أن المعتزلة أوّلت الاستواء بالاستيلاء وأن أهل السنة قالوا إن الاستواء على العرش سنّة لله تعالى بلا كيف ويجب على المسلم الإيمان به ويكل العلم فيه إلى الله عزّ وجلّ. وروى أن رجلا سأل الإمام مالك بن أنس عن الجملة فأطرق رأسه مليا وعلاه الرجفاء ثم قال له الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة. وما أظنك إلّا ضالا ثم أمر به فأخرج. ومما قاله ابن كثير إن للناس في هذا الأمر مقالات كثيرة جدا. وإن خير مسلك هو مذهب السلف الصالح مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا وهو إمرار الجملة كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه، ولا تعطيل. وأن الظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله تعالى فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه ولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. وإن بعض الأئمة ومنهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري قالوا من شبه الله بخلقه كفر ومن جحد ما وصف الله به نفسه كفر وليس فيما وصف الله به نفسه تشبيه، ومن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة على الوجه الذي يليق بجلال الله ونفى عنه النقائص فقد سلك سبيل الهدى. وهذا يفيد أن من المقالات ما كان يذهب أصحابه إلى أخذ العبارة بظاهرها بدون تأويل ولو أدّى ذلك إلى اعتبار الله تعالى وعرشه مادة وكون الله تعالى يجلس على عرشه كجلوس الملوك على الأسرة والعروش المادية. وروى الطبرسي عن الحسن أن استوى بمعنى استقرّ ملكه واستقام بعد خلقه السموات والأرض. وقال إن ذلك هو على المتعارف من كلام العرب حيث يقولون استوى الملك على عرشه إذا انتظمت أمور مملكته وشلّ عرشه إذا اختلّت. ومما قاله السيد رشيد رضا إن حقيقة الاستواء في اللغة التساوي واستقامة الشيء أو اعتداله. ويستعمل على الأكثر في المجاز فيقال استوى على الدابة وعلى السرير وعلى الفراش ويكون بمعنى التملّك. ثم استطرد إلى القول إن أحدا من أصحاب رسول الله لم يشتبه في معنى استواء الله على العرش على علمهم بتنزّهه سبحانه عن صفات البشر وغيرهم من الخلق إذ كانوا يفهمون أن استواءه على عرشه عبارة عن استقامة أمر ملك السموات

والأرض له وانفراده بتدبيره. وإن عقيدة التنزيه القطعية الثابتة بالنقل والعقل مانعة لكل منهم أن يتوهم أن في التعبير بالاستواء على العرش شبهة تشبيه للخالق بالمخلوق. وفي تفسير القاسمي فصل طويل جدا بلغت صفحاته خمسا وخمسين ولعلّه أطول فصل عقده على أي موضوع. وفي هذا الفصل أقوال ومذاهب مختلف الجماعات والفرق الإسلامية من أهل السنّة والجماعة والسلف الصالح والمعتزلة والمشبّهة والظاهرية. ومناقشات وردود على هؤلاء خاصة منه ومن علماء وأئمة أهل السنّة والجماعة والسلف الصالح الذين يلتزم أقوالهم التي لخصها ابن كثير والبغوي ورشيد رضا وأوردناها قبل قليل بسبيل تفنيد ما يمكن أن تؤدي إليه أقوالهم من مناقضة لما ينبغي أن يكون لله من صفات مبرأة من شوائب الجسمانية والمشابهة لخلقه أو الحلول أو التحديد في جهة ما. واهتم فيما اهتم لتفنيد تفسير المعتزلة لكلمة اسْتَوى بمعنى استولى من حيث أن ذلك يؤدي إلى معنى استيلاء الله على عرشه بعد أن لم يكن مستوليا عليه مما هو مناف لأزليته وأزلية صفاته التي منها ملك كل شيء مع أن المتبادر لنا أن مقصودهم هو نفي الاستواء المادي على العرش المادي وصرف الكلمة إلى معنى مجازي. ولا يعقل أن يكونوا أرادوا القول إن الله استولى على العرش بعد أن لم يكن مستوليا عليه بالمعنى الحرفي. وإن من الممكن أن لا تكون ثُمَّ في مقام الترتيب الزمني ويمكن أن تكون في مقام العطف فيكون معنى الجملة إن الله هو الذي خلق السموات والأرض وإنه استوى على العرش. ويبدو من الإمعان في ما نقلناه عن البغوي وابن كثير والطبرسي ورشيد رضا واتجاه جمال القاسمي أنهم متساوقون فيما قالوه واستندوا إليه وأن ذلك هو مذهب السلف الصالح وأهل السنّة والجماعة. وملخّصه أن من الواجب الإيمان بما جاء في القرآن والتفويض لعلم الله في ما أراده من التعبير مع تنزيهه عن الحدود والحلول والجسمانية والمشابهة. ونحن نرى في هذا الوجاهة والسداد. وننوّه بخاصة بوجاهة ما ذكره رشيد رضا من أن أحدا من أصحاب رسول الله لم يشتبه في معنى استواء الربّ تعالى على العرش على علمهم بتنزهه سبحانه عن صفات البشر

تعليق على دلالة الآية والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا

وغيرهم من الخلق وأنهم كانوا يفهمون أن استواءه تعالى على عرشه عبارة عن استقامة أمر ملك السموات والأرض له وانفراده هو بتدبيره. وإذا كان من شيء يصحّ قوله بالإضافة إلى هو فهو وجوب ملاحظة كون العبارة القرآنية هنا وفي أي مكان آخر في القرآن قد جاءت في معرض التدليل على عظمة الله وشمول قدرته وملكه وتقرير كونه الخالق المدبّر المتصرّف الوحيد فيه واستحقاقه بسبب ذلك وحده للعبادة والخضوع. وإن ما شغله هذا الموضوع من حيز ليس بسبب العبارة ولكن بسبب ما لمح من مساسها بالصفات الإلهية التي كانت من أهم أسباب تعدد المذاهب الكلامية في الإسلام تأثرا بالفلسفة اليونانية التي أخذت تنتشر في القرن الثاني وبعده وأساليبها وبما كان من انقسامات وخلافات سياسية على ما ألمعنا إليه في تعليقنا على موضوع القدر في سياق تفسير سورة (ق) وعلى ما يدلّ عليه عدم انشغال أصحاب رسول الله بهذه المسألة وأمثالها. والله تعالى أعلم. تعليق على دلالة الآية وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً وقد روى الطبري وغيره عن ابن عباس وغيره أن الآية [58] تنطوي على مثل ضربه الله للمؤمن والكافر فشبه المؤمن بالأرض الطيبة التي تؤتي ثمرا طيبا والكافر بالأرض السبخة الرديئة التي يكون ثمرها رديئا. والاستنباط سديد وجيه. وفي الآية على ضوئه تنويه بالمؤمنين الذين استجابوا لدعوة الله ورغبوا في الحق والهدى وتنديد بالكافرين الذين ناوأوها وتصامموا عن صوت الحق وتعاموا عن النور والهدى عنادا ومكابرة. وروح الآية تتحمل تعديلا للتشبيه وهو تشبيه ذوي النفوس الطيبة بالأرض الطيبة وذوي النفوس الخبيثة بالأرض الخبيثة. وبهذا التعديل يمكن تعليل كل موقف لكل فئة وفرد من الهدى والحق إذا ظهرت معالمهما واضحة في كل وقت ومكان وعلى كل مدى ويكون المثل القرآني به من الحكم العامة المستمرة المدى. وهذا ما أردناه حينما نعلل آيات الضلال والهدى والكفر والإيمان بأن الناس الذين يصرون على كفرهم وعنادهم وضلالهم رغم ظهور معالم

[سورة الأعراف (7) : الآيات 59 إلى 64]

الحق والهدى إنما يصدرون عن سوء نية وخبث طوية فيؤذن الله بأنه لن يسعدهم ولن يهديهم ولن يوفقهم وأنهم حقّت عليهم الضلالة وباؤوا بخزي الله ونقمته وسخطه. وإن الذين ينضوون إلى الحق والهدى ويصدقونهما إنما يصدرون عن حسن نية وطيب طوية ورغبة في الإيمان والهدى والحق. فيؤذن الله بأنه كتب لهم السعادة والنجاة واستحقوا رحمته ورضوانه مما تكرر بيانه في مناسبات سابقة. والله أعلم. ولقد أورد البغوي وابن كثير في سياق هذه الآية حديثا عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصاب منها طائفة أخرى هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» «1» . والحديث متساوق مع الاستنباط وموضح للمثل القرآني كما هو المتبادر. [سورة الأعراف (7) : الآيات 59 الى 64] لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64) . (1) الملأ: الأشراف والسادة. وقيل الرجال دون النساء وقيل إن معنى

_ (1) روى البغوي هذا الحديث بطرقه وهو من أئمة الحديث وعزا ابن كثير الحديث إلى مسلم والنسائي. [.....]

الكلمة جمهور الناس أو معظمهم. وروح الآية هنا وفي آيات أخرى تلهم أن المقصود من الكلمة زعماء القوم وكبراؤهم. (2) ضلالة: هنا بمعنى الشذوذ والبعد عن المنطق والعقل. (3) عمين: قيل إنها جمع أعمى كما قيل إنها جمع عم والفرق أن الأعمى أعمى البصر والعمي هو أعمى البصيرة. هذه حلقة من سلسلة طويلة استغرقت أكثر من نصف السورة وقد جاءت عقب فصول احتوت إنذارا وتنديدا بالكفار وتنويها وثناء على المؤمنين وصورا لمصائر الفريقين وبراهين على عظمة الله وقدرته وشمول ملكه ودعوة إليه وحده، جريا على الأسلوب القرآني في إيراد القصص بعد مثل هذا السياق على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. فالسلسلة والحالة هذه متصلة بما سبقها اتصال تعقيب واستطراد وتمثيل وتذكير وعظة. ولقد أشير إلى تكذيب الأقوام الذين ذكرتهم حلقات السلسلة إشارة خاطفة في سورة «ص» السابقة لهذه السورة، حيث يمكن أن يقال إن حكمة التنزيل اقتضت الإسهاب الذي جاءت عليه القصص هنا بعد تلك الإشارة الخاطفة. إما لتوكيد الإنذار والتمثيل والتذكير وإما بناء على تحدّ أو استزادة من السامعين. ومن الممكن والحال هذه أن يكون ذلك من قرائن صحة ترتيب نزول سورة الأعراف بعد سورة «ص» . ولقد ذكرنا في سياق تفسير سورة القلم الحكمة الربانية في تكرار القصص في كل مناسبة مماثلة وبأساليب متنوعة حسب اقتضاء حكمة التنزيل. وتكرار القصص هنا متصل بتلك الحكمة. ولقد احتوت هذه الحلقة قصة رسالة نوح عليه السلام إلى قومه. وعبارتها واضحة. ولقد ذكرت قصة نوح في السور السابقة وعلقنا عليها بما اقتضى وليس في الحلقة جديد يستدعي تعليقا جديدا. وسنعلّق في آخر السلسلة تعليقا عاما على ما تضمنته من مقاصد وتلقينات وعبر. الجزء الثاني من التفسير الحديث 27

[سورة الأعراف (7) : الآيات 65 إلى 72]

[سورة الأعراف (7) : الآيات 65 الى 72] وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72) . (1) سفاهة: هنا بمعنى الجهل أو لوثة العقل. (2) ذكر: تذكير وبلاغ ودعوة. (3) آلاء الله: نعم الله. (4) نذر: نترك أو نتخلى. (5) رجس: جاءت الكلمة في القرآن بمعان عديدة منها النجس المادي أو المعنوي والخزي والضلالة والغواية والانحراف وانغلاق الذهن والصد عن الهدى والغضب أو العذاب الرباني. وهنا بأحد المعنيين الأخيرين. (6) وقطعنا دابر القوم: بمعنى استأصلناهم. وهذه حلقة ثانية من السلسلة احتوت قصة رسالة هود عليه السلام إلى قوم عاد. وعبارتها واضحة. وقد أشير إليها في سور سابقة وذكرنا في مناسباتها ما اقتضى من تعريف بهود عليه السلام وقومه عاد. ولقد تكررت في سور آتية مرارا وفيها بيانات أخرى غير ما ورد في هذه الحلقة. وفي الطبري والبغوي وغيرهما

سياق طويل عنهم على هامش هذه الحلقة معزو إلى السدي وابن زيد وابن وهب وغيرهم من علماء الصدر الأول حيث يفيد هذا أن سامعي القرآن من أهل بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم كانوا يتداولون أخبارهم جيلا عن جيل. ومما ذكروه أنهم كان لهم صنم اسمه صداء أو صمود وصنم آخر اسمه الهباء. وأن السماء أمسكت عنهم بسبب كفرهم حتى جهدوا وذهبوا إلى الاستغاثة عند الكعبة ثم رجعوا فظهرت لهم سحابة ظنوها الغيث وإذا فيها العذاب الذي جاءهم كريح شديدة مدمرة أهلكتهم ونجى الله هودا والذين آمنوا معه. ومما ذكروه أن بلادهم هي أرض الشجر من بلاد اليمن مما يلي حضرموت إلى عمان أو أنها الأحقاف التي هي أيضا في القسم الجنوبي الشرقي من جزيرة العرب والأحقاف ذكرت في القرآن في سورة الأحقاف وفيها آيات تذكر ما وقع عليهم من عذاب وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) وفَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) . ولم نر ضرورة لإيراد ما أورده المفسرون من بيانات مسهبة أخرى لا تخلو من مبالغة وخيال لأن ذلك غير متصل بأهداف القصة. ومن جملة ذلك مثلا ما يفيد أن عادا كانوا يتكلمون باللغة العربية الفصحى مع أن هذه اللغة إنما استقرّت على شكلها قبل البعثة بمدة غير طويلة وعاد إنما كانوا ألفين أو أكثر من السنين. ولقد تعددت رواياتهم في صدد معنى ومدى جملة وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً منها أنها بمعنى زادكم من نعمه من بين خلقه. ومنها أنه زادهم على غيرهم نسبيّا في طول الأجسام وقوتها. ومنها أن قاماتهم كانت طويلة جدا حتى كان منهم من هو في مائة ذراع أو سبعين أو ستين وأقصرهم في اثنتي عشرة ذراعا. والمتبادر أن التعبير متصل بالهدف القرآني فهو من جهة حكاية لتذكير هود قومه بنعمة الله عليهم دعما لدعوته. ومن جهة تنبيه لسامعي القرآن إلى أن من

[سورة الأعراف (7) : الآيات 73 إلى 79]

الذين كانوا قبلهم من كان أعظم منهم أجساما وأشدّ قوة فأخذهم الله بكفرهم وإنهم لن يعجزوه. وقد تكرر هذا في آيات عديدة مثل آية سورة غافر هذه: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) وآية سورة «ق» هذه: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) . ولقد تكون زيادة بسطة أجسام عاد مما كان متداولا بين سامعي القرآن فذكر ذلك لتدعيم الموعظة والهدف القرآني. غير أن الجملة القرآنية لا تقتضي أن تكون أجسام قوم عاد خارقة للعادة. ولقد استعمل التعبير في القرآن في صدد وصف طالوت الذي اختاره نبي بني إسرائيل ملكا في آية سورة البقرة هذه: وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247) ولقد ذكرت قصة اصطفاء النبي لطالوت في سفر صموئيل الأول «1» ووصف طالوت (شاؤول) بأنه من كتفه فما فوق كان أطول من كل الشعب. وليس هذا خارقا للعادة. وهذا كله يجعل أحد القولين الأولين عن مدى الجملة هو الأكثر ورودا واتساقا مع حقائق الأمور. [سورة الأعراف (7) : الآيات 73 الى 79] وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)

_ (1) الإصحاحان الثامن والتاسع.

(1) فذروها: دعوها واتركوها. (2) بوأكم: منحكم وأنعم عليكم ومكنكم. (3) عتوا: تمردوا. (4) الرجفة: كناية عن الزلزلة. والرجفان هو الحركة والاضطراب. وهذه حلقة ثالثة احتوت قصة رسالة صالح عليه السلام إلى قومه ثمود. وعبارتها واضحة. وقد ورد ذكر قصة ثمود ونبيهم في سور سابقة. وذكر فيما ذكر في هذه السور ما جاء في هذه الحلقة من أمر الناقة وعقرها. وعلقنا على ذلك بما اقتضى. وقد تكرر ورودها مرارا في سور أخرى بعد هذه السورة وفيها بعض بيانات لم ترد في هذه الحلقة. وفي الطبري والبغوي وغيرهما بيانات كثيرة عن صالح عليه السلام وقومه وناقته وتآمرهم عليهما وعقرهم للناقة وما حلّ فيهم من عذاب الله معزوة إلى علماء الصدر الإسلامي الأول فيها كثير من المبالغة والخيال فلم نر ضرورة إلى إيرادها لأنها غير متصلة بالهدف القرآني. ولكن فيها دلالة على ما قلناه قبل من أن سامعي القرآن من أهل بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم كانوا يتداولون أخبارهم جيلا عن جيل. والمشهور الذي تؤيده الآثار الباقية إلى اليوم أن قوم ثمود كانوا ينزلون في الجهات المعروفة اليوم بمدائن صالح أو في جهات العلاء في طريق قوافل تجّار العرب والحجاز إلى بلاد الشام وهي أقرب إليهم منها إلى هذه البلاد. فكان العرب

[سورة الأعراف (7) : الآيات 80 إلى 84]

من أهل عصر النبي وبيئته قبل البعثة بالإضافة إلى ما يسمعونه من أخبارهم جيلا عن جيل كانوا يعرفون بلاد ثمود وآثارها معرفة عيانية وكانوا يرون فيها فيما يرون آثار تدمير رباني. على ما تفيده آية سورة العنكبوت هذه: وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) ولا تزال آثار هذه البلاد المدمّرة باقية إلى اليوم. وفيها آثار بيوت ومقابر منحوتة في الجبال وعليها نقوش بلغة ثمود التي كانت لهجة عربية قديمة بعيدة عن الفصحى. وهذا مما يظهر ما في البيانات التي يرويها المفسرون من خيال حيث رووا فيما رووا أن لغتهم كانت عربية فصحى. ونحت ثمود بيوتا في الصخور والجبال تكرر ذكره في سور سابقة وآتية. أما اتخاذهم من السهول قصورا فهو هنا جديد وللمرة الوحيدة. وبلاد ثمود ليست جبلية صخرية كلها ففيها أيضا سهول ومنبسطات. وفي العبارة القرآنية توضيح لصورة واقعية كان السامعون يعرفونها سماعا ومشاهدة كما هو المتبادر. وعلى كل حال فالمتبادر أن الكلام هو بسبيل تذكير قوم صالح عليه السلام بما أنعم الله عليهم من قوة وتمكين ونشاط وعمران. [سورة الأعراف (7) : الآيات 80 الى 84] وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) . (1) مسرفون: موغلون في الاعوجاج. (2) الغابرين: الذاهبين الهالكين. وهذه حلقة رابعة من السلسلة احتوت قصة لوط عليه السلام وقومه وقد

ذكرت في سور سابقة وعلقنا عليها بما اقتضى. والجديد فيها صراحة إقبال قوم لوط على إتيان الذكور وخبر إهلاك زوجته مع الهالكين. وقد تكرر ذلك في السور التي ذكرت القصة بعد هذه السورة. ولقد ذكرت القصة بما فيها الخبران في سفر التكوين على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة. والمتبادر أن سامعي القرآن يعرفون ذلك عن طريق اليهود. وعبارة السفر المذكور عن زوجة لوط أنها التفتت إلى ورائها فصارت قضيب ملح. وفي آية سورة هود عبارة إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ [81] وفي آية سورة النمل عبارة: إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (75) وفي آية سورة التحريم [10] نسبت إليها خيانة زوجها. وليس بين ما ورد في القرآن وفي سفر التكوين تعارض أو تغاير في المدى العام. ونعتقد أن ما ذكر في القرآن كان متداولا بين اليهود وواردا في بعض قراطيسهم. وفي ذكر هلاك هذه الزوجة مع الهالكين الذين استحقوا الهلاك بسبب بغيهم وانحرافهم عظة قرآنية بليغة ومستمرة التلقين وهي أن القرابة وصلة الدم مهما اشتدّت لا يمكن أن تغني الإنسان شيئا إذا كان سيء العمل والتصرف وأن أحدا لا يغني عن أحد وكل نفس رهينة بما كسبت. وهذا المعنى قد تكرر في آيات كثيرة مرت أمثلة عديدة منها بحيث يصحّ أن يقال إنه من المبادئ القرآنية المحكمة. وفي آية سورة التحريم المذكورة آنفا صراحة بالنسبة لزوجة لوط. وقد نزلت لتكون مثلا وهذا نصها: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) . وعذاب قوم لوط المعبّر عنه هنا بجملة وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً عبر عنه في سورة القمر التي مرّ تفسيرها بجملة إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً وفي سورة هود بهذه الآية: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) وقد ورد في الإصحاح (19) من سفر التكوين هذه العبارة: (وأمطر الربّ على سدوم وعمورة كبريتا ونارا من السماء وقلب تلك المدن وكل البقعة

استطراد إلى جريمة اللواط

وجميع سكان المدن ونبت الأرض) مما فيه تساوق وتوافق. استطراد إلى جريمة اللواط ولقد استطرد المفسرون «1» إلى جريمة اللواط في الإسلام في سياق هذه الآيات التي يشار فيها إليها لأول مرة بصراحة فذكروا أن العلماء مجمعون على تحريمها وأوجبوا عقوبة الزنا على الفاعل والمفعول به وأوردوا أحاديث نبوية في ذلك منها حديث رواه أصحاب السنن عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» «2» . وحديث رواه الترمذي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط» «3» . ويلحظ أن الحديث الأول رتّب العقوبة متساوية على الفاعل والمفعول به بدون تفريق بين محصن وغير محصن للفاعل الذي يكون هذا واردا بالنسبة إليه. وقد يكون مردّ الحكمة النبوية في ذلك إلى بشاعة الجريمة وغير طبيعتها وإنسانيتها والله أعلم. على أن هناك أقوالا أخرى في صدد هذه الجريمة وعقوبتها وردت في كتب التفسير. من ذلك عن علي أن اللوطي يقتل ثم يحرق لعظم المعصية. وعن عمرو بن عثمان أنه يلقى عليه حائط. وعن ابن عباس أنه يلقى من أعلى بناء في البلد. وهذه الأقوال في معنى القتل الوارد في الحديث النبوي. ومن ذلك قول يروى عن الشافعي وآخرين أن عقوبة اللواط هي نفس عقوبة الزنا فإن كان الفاعل محصنا رجم وإن كان غير محصن جلد مائة جلدة على ما سوف يأتي شرحه مسهبا في سياق تفسير الآية الثانية من سورة النور. ولم يذكر الراوي رأي هؤلاء في عقوبة المفعول به إذا لم يكن مكرها. والمتبادر أنه يجلد لأن مسألة الإحصان وغير

_ (1) انظر تفسير ابن كثير ورشيد رضا مثلا. (2) التاج ج 3 ص 25. (3) المصدر نفسه.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 85 إلى 93]

الإحصان لا ترد بالنسبة إليه. ولقد ذكر رشيد رضا في تفسيره أن الحديث النبوي الذي يحدد عقوبة اللواط بقتل الفاعل والمفعول به ضعيف الإسناد حيث يبدو أن الشافعي وغيره الذين رتبوا عقوبة الزنا على اللواط لم يثبت الحديث عندهم. هذا، وهناك أحاديث أخرى في صدد إتيان النساء من أدبارهن مما هو في مدى جريمة اللواط. وقد أوردها المفسرون وعلّقوا عليها في سياق آية البقرة [223] نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وقد أرجأنا بدورنا الكلام على ذلك إلى هذه الآية. [سورة الأعراف (7) : الآيات 85 الى 93] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93)

تلقينات القصص وما فيها من نقاط بارزة متصلة بالهدف القرآني

(1) لا تبخسوا الناس أشياءهم: لا تنقصوا من قيمتها. (2) لا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا: لا تقعدوا في الطرقات لتمنعوا الناس عن الإيمان وتصدّوا عنه الذين آمنوا وتتوعدوهم بالأذى وتحاولون بذلك عرقلة سبيل الله. (3) ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق: ربنا اقض بيننا وبين قومنا بالحق. (4) كأن لم يغنوا فيها: كأنهم لم يقيموا فيها. (5) فكيف آسى: فكيف أحزن. وهذه حلقة خامسة من السلسلة احتوت قصة رسالة شعيب عليه السلام إلى مدين وعبارتها واضحة. وهذه القصة تأتي هنا مسهبة لأول مرة، وقد أشير إليها إشارة خاطفة في جملة وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ في سورة «ق» ثم في سورة «ص» وقد ذكرنا ما فيه الكفاية من التعريف بهم وبشعيب عليه السلام في سياق ورود ذكرهم لأول مرة في سورة «ق» ورجحنا هناك استئناسا بالنصوص القرآنية أن أصحاب الأيكة هم أهل مدين وقوم شعيب ونبهنا كذلك إلى معرفة سامعي القرآن لقصتهم حيث تستحكم بذلك العظة القرآنية القصصية. وفي كتب التفسير بيانات كثيرة عن شعيب عليه السلام وقومه أيضا معزوّة إلى علماء الصدر الإسلامي الأول لا تخلو هي الأخرى من مبالغة وخيال. ولم نر طائلا في إيرادها لأنها غير متصلة بالهدف القرآني. وفيها مع ذلك دلالة على أن سامعي القرآن كانوا يعرفون هذه القصة كما كانوا يعرفون القصص الأخرى. تلقينات القصص وما فيها من نقاط بارزة متصلة بالهدف القرآني ولقد احتوت مضامين السلسلة القصصية نقاطا هامة تتصل بهدف القصص

القرآنية ننبّه إليها فيما يلي: 1- إبراز كون أسس الدعوة التي دعا إليها أنبياء الله صلوات الله عليهم هي نفس الأسس التي دعا إليها سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، نابعة من مصدر واحد وهادفة إلى هدف واحد وهي الدعوة إلى الله وحده وتقرير استحقاقه وحده للعبادة والخضوع وإيجاب نبذ كل ما سواه والتنديد بالشرك بأي شكل ونوع. والحضّ على مكارم الأخلاق والفضائل والأعمال الصالحة النافعة وتقبيح الفواحش والآثام والبغي والعدوان والصدّ عن سبيل الله. 2- بيان اشتراك كثير من الناس في مختلف العصور في موقف الاستغراب من اختصاص الله بشرا منهم ومثلهم للرسالة الربانية وما كان من ردود الأنبياء السابقين عليهم بأن هذا ليس فيه ما يوجب الاستغراب، وأن اختصاص بعض البشر من آن لآخر واصطفائهم لحمل مهمة إرشاد البشر هو المعقول لأن ذلك أدعى إلى التفاهم معهم ومخاطبتهم بلسانهم والمصاولة والمجاولة معهم بنفس طرائقهم وأساليبهم وإيجاد القدوة منهم والأسوة فيهم. وكأنما أريد بهذه القصة وتلك إبراز كون النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم لم يكن بدعا ولم يدع إلى بدع. وهو ما نبّهت إليه آيات خاصة في بعض المناسبات مثل آية الأحقاف هذه: قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) ومثل آية الشورى هذه: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) . 3- بيان المسلك المشترك بين كفّار العرب وكفار الأمم السابقة من حيث وقوف الأكثرية وبخاصة الزعماء والأغنياء موقف الإنكار والجحود والعناد والمكابرة ومن حيث اقتصار الإجابة على فئة قليلة أكثرها ضعفاء وفقراء، ومن حيث صدّ الكفار عنها وتضييقهم على المجيبين إليها وأذيتهم وتوعّدهم بالطرد

والإخراج كأنما أريد بهذا تطمين النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين وتسليتهم ودعوتهم إلى التأسي بمن قبلهم من أمثالهم الذين صبروا وصمدوا وثبتوا فنالوا رضاء الله ورعايته. 4- تطمين النبي صلّى الله عليه وسلّم وتثبيته. فما يلقاه هو ما لقيه الأنبياء السابقون. وإذا كان أكثر قومه لم يؤمنوا وإذا كان الذين آمنوا قليلين وجلّهم مستضعفون فهذا هو الشأن في دعوة الأنبياء والسابقين وسيرتهم أيضا. 5- تطمين الذين آمنوا وتسليتهم وتثبيتهم أيضا. فالله ناصرهم ومؤيدهم ومنجيهم، ومهلك الكفار ومنكّل بهم وقاطع دابرهم في النهاية مهما كانوا أقوياء وأغنياء وكثيرين ومتمكنين كما كان الشأن في الأقوام السابقين. ولقد وردت آيات عديدة ينبّه فيها إلى النقط الثلاث المذكورة مثل آية سورة الأنعام هذه: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) وآيات سورة الأنعام هذه أيضا: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وآية سورة التوبة هذه: أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وآيات سورة يونس هذه: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وآية سورة النور هذه: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55) .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 94 إلى 102]

6- تذكير الكفار الذين لم يكونوا يجهلون قصص الأقوام المذكورة ومصائرهم والذين يعرفون آثار التدمير الرباني في مساكنهم وحملهم على الارعواء والازدجار. فلن يعجزوا الله سبحانه الذي أهلك من هم أشدّ منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا. والرسالة النبوية إنما هي لخيرهم وسعادتهم. فلا ينبغي لهم أن يغتروا فيما هم فيه وينسوا المصائر والعواقب التي صار إليها كفار الأمم السابقة. وكل ما احتوته السلسلة من عبر وعظات مستمر التلقين بطبيعة الحال. سواء أفي تنديدها بالصدّ عن الحق والعناد والمكابرة واللجاج فيه وأذية الداعين إليه، أم في الضغط على الضعفاء واحتقارهم، أم في الفساد في الأرض، أم في التمسك بالتقاليد الموروثة السخيفة والضارّة، أم في تثبيت الذين هم على الحق وتطمينهم بالفوز والعلو في النهاية. وقد نبهنا إلى ما فيه معاقبة زوجة لوط من عظة بالغة في سياق شرح آيات قصته. فنكتفي بهذه الإشارة لتتم السلسلة. هذا ونقول في صدد ما ورد في حلقات السلسلة من المعجزات التي أظهرها الله على أيدي رسله أو في صورة عذاب سلّطه الله على الجاحدين بهم إن ذلك جزء من القصة. ومع ذلك فهو في نطاق قدرة الله تعالى. وإن الإيمان به واجب على المسلم مع وجوب الوقوف عند ما وقف عنده القرآن. [سورة الأعراف (7) : الآيات 94 الى 102] وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102)

تلقين الآيات التي جاءت عقب السلسلة القصصية

(1) القرية: جاءت في القرآن بمعنى المدينة. والقرية والقرى هنا بمعنى البلاد وأهل البلاد. (2) يضرعون: يتذللون إلى الله. (3) عفوا: نموا وكثروا وازدادوا ثروة وقوّة. (4) الضرّاء والسرّاء: الضراء مصدر الضرّ والسراء مصدر السرور، ومعنى الكلمتين في مقامهما ضيق العيش والرزق ويسرهما. (5) أو لم يهد: هنا بمعنى أو لم يتبين أو أو لم تجعلهم قدرة الله على بيّنة من أن الله قادر على إهلاكهم. (6) نطبع على قلوبهم: نختم على قلوبهم، والمعنى نغلق أذهانهم ونقسّي قلوبهم بسبب ذنوبهم وكفرهم فلا يسمعون ولا يدركون. (7) فاسقين: الفسق هو العصيان والتمرّد. تلقين الآيات التي جاءت عقب السلسلة القصصية عبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وقد جاءت كما يتبادر منها معقبة على السلسلة القصصية وموضحة وداعمة لأهدافها بأسلوب قوي رصين موجّه إلى القلوب والعقول معا. ومن شأنه أن ينفذ إلى أعماق النفوس ويحمل السامعين وبخاصة إذا كانوا راغبين في الحق سليمي النيّة والطويّة على التفكّر

تعليق على عبارة يطبع الله على قلوب الكافرين

والتدبّر والتروّي وحسبان العواقب والاعتبار بالسوابق. وفيها في ذات الوقت تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم. فشأن الجاحدين شأن أمثالهم السابقين. جاءتهم أنبياؤهم فجحدوا وتمردوا. وامتحنهم الله بالضيق ثم باليسر فغفلوا عن مغزى هذا الامتحان وظنوا أن ما وقع عليهم هو عادات الدهر التي تتراوح بين الشدّة والفرج. فلما بلغ البغي منهم أوجه أخذهم الله أخذا قويّا بما كسبت أيديهم في حين أنهم لو آمنوا بالله واتقوه بصالح العمل لفتح الله عليهم بركات السماء والأرض. ولكنهم لم يرعووا وقست قلوبهم فحلّ نكال الله بهم. وإنه لأجدر بالسامعين الجاحدين أن يتعظوا بأنباء من سبقهم وأحداثهم ويذكروا أن الله قادر على أن يصيبهم بذنوبهم، وأن لا يطمئنوا إلى ما هم فيه ويظنوا أنهم في أمن ويغفلوا عن بأس الله ونقمته. فإن المطمئن الغافل هو الخاسر حتما. ولقد بدا أنهم ساروا في طريق أمثالهم ولم يتعظوا وكذبوا نبيهم ولم يف أكثرهم بعهد الله وتمردوا عليه وقست قلوبهم وانسدّت آذانهم وكانوا فاسقين. والأسلوب التقريري القوي الذي جاءت عليه الآيات مطلق التوجيه بحيث يتناول في عظمته وشموله وما فيه من تقرير عادة الله ونواميسه وطبائع أكثر الناس في جميع الأجيال. وما احتواه من تلقين جليل مستمر المدى بطبيعة الحال تبعا لذلك. تعليق على عبارة يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ وفي الآيتين الأخيرتين ورد مقطعان عن طبع الله على قلوب الكافرين. وهذا التعبير قد تكرر في مواضع عديدة ومناسبات مماثلة. وكان من أسباب التشاد بين علماء الكلام حيث رآه فريق دليلا على أن أعمال الناس ومصائرهم مقدرة محتمة منذ الأزل، وأوّله فريق آخر رأى في رأي هذا الفريق ما يناقض عدل الله وحكمته في إرسال الرسل، وما يتناقض مع تقريرات قرآنية متنوعة. والذي يلهمه سياق الآيات هنا وسياق الآيات الأخرى التي ورد فيها هذا

التعبير أنه ليس في معنى أن الله قد قسّى قلوب أناس بأعيانهم سلفا وأغلق أذهانهم وصرفهم عن الاستجابة إلى دعوة الله كقضاء أزلي. وفحوى الآيات هنا وفي غير مكان لا يمكن أن يساعد على ذلك لأنها تحتوي في الوقت نفسه لوما وتنديدا وإنذارا وتعنيفا للكافرين على جحودهم وانحرافهم. وإنما هو بسبيل وصف شدّة قسوة قلوبهم بسبب سوء طويتهم وخبث نيتهم حيث يؤدي ذلك إلى انغلاق أذهانهم، أو بسبيل تقرير ما يصيرون إليه من ذلك نتيجة لمواقف المكابرة والعناد التي يقفونها حتى يبدو أنه أصيل فيهم. ومما يلحظ أن هذا التعبير يأتي دائما مع وصف الكفر والجحود والفسق والخسران مع التنديد والتقريع بالكافرين الجاحدين الفاسقين حيث يبدو أن الآيات في الحقيقة إنما تقرر أن الكفر والفسق وعدم الاستجابة لدعوة الحق ونقض العهد كل ذلك قد وجد في الكافرين فنعتوا بهذا النعت واستحقوا من أجله التنديد والتقريع والتعنيف. وفي الآيات يبدو هذا قويا بارزا. ولعلّ من أهداف هذا التعبير وأمثاله تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين، وكأنما يقال لهم إنه لا موجب للحزن والأسى إذا لم تلن قلوب الكافرين والجاحدين فإن الله قد طبع عليها بما بيّتوه من نيّة الكفر وانطبعوا عليه من خبث وفساد وفسق. ولقد ثبت يقينا أن كثيرين من الذين وصفوا بوصف الكافرين والفاسقين والظالمين والذين تقرّر الآيات أن الله يطبع على قلوبهم وأن كلمة الله حقّت عليهم بأنهم لا يؤمنون من السامعين للقرآن من عرب وغير عرب ومن مشركين وكتابيين قد آمنوا بالرسالة المحمدية والقرآن ونالوا رضاء الله بعد نزول هذه الآيات وتابوا وتاب الله عليهم حيث يصحّ القول إن هذه الآيات وأمثالها الكثيرة في القرآن مما مرّ ويأتي قد انطوت على تسجيل للواقع عند نزولها وعلى تأييد لما شرحناه به آنفا. وإن ما احتوته من إنذار وتنديد إنما يظلّ واردا بالنسبة للذين يصرون على الكفر والفسق والظلم ويموتون على ذلك ويبقى الوصف ملازما لهم. وفي القرآن آيات كثيرة تؤيد ذلك منها آيات سورة البقرة هذه: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ

تعليق على كلمة (نبى) ومدى الفرق بينها وبين كلمة (رسول)

وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) «1» . تعليق على كلمة (نبى) ومدى الفرق بينها وبين كلمة (رسول) وكلمة (نبى) تأتي هنا لأول مرة. وهي مشتقّة من نبأ بمعنى صات أو ظهر أو أخبر. وكلمة (النبي) بمعنى المنبّأ أي الذي يأتيه النبأ أو الخبر من الله تعالى. ولقد وردت بعض الأسماء في القرآن بالوصفين معا مثل النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم في آية في هذه السورة ستأتي بعد قليل ومثل موسى وإسماعيل في آيتي سورة مريم [51 و 54] ووردت بعض الأسماء بوصف النبي فقط مثل إبراهيم وإسحق ويعقوب وهرون وإدريس في آيات سورة مريم [41 و 49 و 53 و 57] . مع أن منهم من كان رسولا يقينا مثل إبراهيم وهرون ومع أن المفسرين والعلماء فرّقوا بين كلمتي النبي والرسول وقالوا إن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا «2» . فإن آية سورة الحج هذه: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) قد جمعت بين الكلمتين من جهة واستعملت كلمة الإرسال للنبي والرسول معا من جهة ثانية. وقد خاطب القرآن النبي صلّى الله عليه وسلّم أحيانا بصفة النبي كما جاء في آية سورة التحريم هذه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) وأحيانا بصفة الرسول كما جاء في آية سورة المائدة هذه: يا أَيُّهَا

_ (1) اقرأ أيضا آيات البقرة [217] والنساء [17] وآل عمران [91] ومحمد [34] والتوبة [85 و 156] . (2) انظر تفسير آيات الأعراف [156- 157] في تفسير المنار مثلا. الجز الثاني من التفسير الحديث 28

تعليق على تعبير مكر الله

الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67) وقد اجتمعت صفتا الرسول والنبي في النبي صلّى الله عليه وسلّم في آيات سورة الأعراف هذه: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) . وآيات المائدة والتحريم تسوغ القول أنهما مترادفتان. وآيات الحج والأعراف التي جمعت الكلمتين معا قد تدلّ على أن هناك فرقا بينهما إن لم نستطع إدراكه فهو على كل حال ليس من نوع الفرق الذي يراه المفسرون والعلماء فيما هو المتبادر لنا. وفحوى آية سورة الحج بخاصة يدعم قولنا. تعليق على تعبير مَكْرَ اللَّهِ وبمناسبة ورود هذا التعبير لأول مرة في الآيات نقول إن نسبة المكر إلى الله تعالى قد تكررت في القرآن، ومن ذلك ما جاء في مقابلة مكر الكفار من الأقوام السابقة والعرب مثل آيات سورة النمل هذه: وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) بالنسبة لقوم صالح وآية آل عمران هذه: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) بالنسبة لبني إسرائيل تجاه عيسى عليه السلام وآية سورة الأنفال هذه: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) بالنسبة لكفار مكة.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 103 إلى 137]

والمكر هو الخداع والختال والتآمر على السوء وإيقاعه حين سنوح الفرصة. ولما كان كل هذا مما يتنزّه الله عنه وهو في غنى عنه فالأولى أن يؤخذ التعبير على أنه أسلوبي لأجل بيان كون الله عزّ وجلّ أقوى منهم وأقدر عليهم مهما بدا منهم من خداع وتحايل وسوء نيّة وقصد. وأن الله مقابلهم عليه بالإحباط والعذاب والتدمير ونصر رسله وأن عاقبته السيئة ترتدّ عليهم في النتيجة. [سورة الأعراف (7) : الآيات 103 الى 137] ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137)

(1) فظلموا بها: انحرفوا عنها أو تمرّدوا عليها. (2) حقيق على أن لا أقول على الله إلّا الحق: جدير بي أو واجب عليّ ألّا أقول على الله إلّا الحق. (3) نزع يده: أخرجها. (4) أرجه: من الإرجاء أي الإمهال. (5) حاشرين: محضرين وسواقين. (6) استرهبوهم: أثاروا فيهم الرهبة والخوف.

تعليق على الحلقة الأولى من قصة موسى وفرعون وبني إسرائيل وتلقيناتها

(7) تلقف: تبتلع. (8) يأفكون: يكذبون ويزورون. (9) مكر مكرتموه: كيد دبرتموه. (10) لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف: يطلق تعبير من خلاف في مثل هذا المقام على المخالفة في القطع، فإذا قطعت اليد اليمنى تقطع الرجل اليسرى. (11) وما تنقم منا: وما تحقد علينا وتغضب منّا. (12) بالسنين: بالقحط والجدب. (13) يطيروا: يتشاءموا. (14) طائرهم: شؤمهم وأسباب نحسهم. (15) القمل: القراد. (16) الرجز: العذاب أو البلاء. (17) ينكثون: ينقضون عهدهم ووعدهم. (18) اليمّ: البحر. (19) يعرشون: كناية عن رفع البناء أو التبسّط بالعمران. تعليق على الحلقة الأولى من قصة موسى وفرعون وبني إسرائيل وتلقيناتها هذه الآيات حلقة من سلسلة طويلة من قصص موسى عليه السلام وفرعون وبني إسرائيل. والسلسلة كما هو المتبادر استمرار للسلسلة القصصية السابقة وحلقة من حلقاتها. والآيات التي جاءت بعد نهاية السلسلة السابقة جاءت استطرادية للتعقيب على ما سبق. وقد احتوت الحلقة قصة ما كان بين موسى عليه السلام وفرعون من حوار وما ظهر على يد موسى عليه السلام من معجزات وما كان من مشهد السحر وانتهائه بفوزه وما كان من سلسلة البلاء الذي سلّطه الله على فرعون وقومه وما انتهى إليه

أمرهم من الغرق ونجاة بني إسرائيل وإفضال الله عليهم بسبب استجابتهم إلى دعوة الله وصبرهم. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. والهدف الذي استهدفته هو نفس الهدف الذي استهدفته حلقات السلسلة السابقة وهو العظة والتذكير وضرب المثل والتثبيت كما هو واضح من خلال مقاطعها. ورسالة موسى عليه السلام إلى فرعون وموقف فرعون منها وهلاكه قد أشير إليها إشارات خاطفة في السور السابقة. ومن المحتمل أن يكون بعض المسلمين أو غيرهم تطلعوا إلى المزيد من البيان عن ذلك ثم عن سيرة بني إسرائيل فاقتضت حكمة التنزيل إيراد هذه السلسلة التي هي أطول سلسلة قصصية سواء أكان في موضوعها أم في القصص القرآنية عامة باستثناء قصة يوسف عليه السلام. ومع ذلك فقد تكررت قصص موسى وفرعون وبني إسرائيل في سور أخرى بعد هذه السورة مكية ومدنية أيضا حسب ما اقتضته تلك الحكمة. ويلحظ أن السور الأخرى التي جاءت فيها هذه القصص احتوت بعض بيانات لم تحتوها هذه السلسلة حيث يبدو أن تلك الحكمة هدفت بذلك إلى استكمال الصورة. وقصة رسالة موسى عليه السلام إلى فرعون وبني إسرائيل واردة في أسفار الخروج والعدد والتثنية من أسفار العهد القديم المتداولة اليوم. وما ورد في الحلقة متسق إجمالا مع ما ورد في هذه الأسفار التي كانت متداولة بين أيدي بني إسرائيل في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم على ما نعتقد. وتدل عليه المقارنات بينها وبين الإشارات القرآنية وهذا ما يسوغ القول بشيء من الجزم أن سامعي القرآن من العرب كانوا يعرفون ذلك لأنهم كانوا على صلة باليهود. وبذلك تستحكم العظة القرآنية في الحلقة. وفي سورة القصص آيات فيها دلالة قاطعة على ذلك وهي: وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى [47- 48] .

وفي الأسفار المذكورة إسهاب كثير في قصص موسى وفرعون وبني إسرائيل أضعاف أضعاف ما ورد في القرآن. والمتبادر أن ما ورد في القرآن الكريم في هذه السورة وغيرها من ذلك هو ما اقتضت حكمة التنزيل إيراده بالقدر والأسلوب اللذين يتحقق بهما الهدف القرآني. وقد يكون بين ما ورد في القرآن وما ورد في الأسفار المتداولة اليوم بعض المباينة أو يكون في الأسفار ما ليس في الآيات أو العكس. ومن ذلك مثلا إيمان السحرة وسجودهم والمحاورة بينهم وبين فرعون والمحاورة بين فرعون وقومه. وقول فرعون سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم بعد ظهور موسى ورسالته وانتصاره على السحرة. وما تفيده العبارة القرآنية من كون السحرة من جماعة موسى وأن إيمانهم به كان تآمرا بينهم وبين موسى وكون موسى داعيا في الوقت نفسه فرعون وقومه إلى الإيمان برسالته بالإضافة إلى طلبه منهم إرسال بني إسرائيل معه إلخ. إلخ. وننبّه على أن خبر قتل فرعون لأبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم قد ورد في الإصحاح الأول من سفر الخروج بهذه العبارة: (كلّم ملك مصر قابلتي العبرانيات وقال لهما إذا استولدتما العبرانيات فانظرا عند الكرسي فإن كان ذكرا فاقتلوه وإن كان أنثى فاستبقياها) غير أن هذا كما هو واضح غير العبارة الواردة في الآيات. لأن ذلك عائد إلى ما قبل ظهور موسى ورسالته. وقد ورد مما ورد في الإصحاح المذكور في سورة القصص بهذه الصيغة: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وسياق هذه الآية يفيد أن ذلك كان قبل ولادة وظهور موسى. وقد ورد هذا بهذه الدلالة في سور مدنية ومكية أخرى. ونحن نعتقد أن ما جاء في الآيات كان متداولا وواردا في أسفار وقراطيس أخرى كانت في يد اليهود وضاعت. وليس لذلك تعليل آخر لأن هذا هو المتسق مع ما ذكرناه من فكرة التدعيم والعظة في القصص ولا سيما أن القرآن كان يتلى

علنا ويسمعه اليهود ولا يمكن أن يكون ما جاء في القرآن جزافا. ولقد أورد المفسرون «1» بيانات كثيرة في سياق هذه الحلقة وأحداثها ومعجزاتها. فيها ما هو متسق مع ما ورد في أسفار العهد القديم المتداولة ومنها ما ليس كذلك. وفي بعضها ما يبلغ حدّ المبالغة والإغراب، وهي معزوّة إلى بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم وعلماء الأخبار من عرب ويهود ومسلمين ولم نر طائلا في إيرادها لأن ذلك لا يتصل بالهدف القرآني الذي هو التذكير والموعظة بما يعرفه السامعون والاكتفاء بما اقتضت حكمة التنزيل إيراده منها بدون تعليق وتحشية. على أن ما احتوته كتب التفسير من ذلك قد يكون دالا على أن ما احتوته الحلقة مما كان متداولا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم. هذا، وما قلناه عقب السلسلة القصصية السابقة في صدد المعجزات الربانية وكونها جزءا من القصص وكونها مع ذلك في نطاق قدرة الله وواجب الإيمان بها يصحّ قوله بالنسبة للمعجزات التي أظهرها الله على يد موسى عليه السلام. ومن مواضع العبرة في هذه الحلقة وصف موقف فرعون وملأه من دعوة الله وآياته وما كان من بغيهم على بني إسرائيل واستكبارهم ومقابلتهم آيات الله بالسخرية والاستخفاف وما كان من انتقام الله منهم: أولا: وما كان من مشهد السحر والتنديد به وانتصار موسى عليه السلام فيه وعدم إصرار السحرة على باطلهم وإيمانهم برسول الله حينما رأوا برهانه ساطعا. ثانيا: وما كان من إنقاذ بني إسرائيل وقضاء الله بأن يورثهم الأرض التي باركها جزاء إيمانهم وصبرهم في أول الأمر. ثالثا: ففي كل ذلك تذكرة وموعظة وضرب مثل وتنبيه للسامعين وإنذار للكفار منهم وتسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين وتثبيت لهم وردّ قاطع على كفار العرب الذين كانوا ينسبون السحر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم.

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري وابن كثير والخازن والطبرسي والسيد رشيد رضا.

تعليق على آية وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها ... إلخ

تعليق على آية وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها ... إلخ هذا، وننبّه إلى وجوب الحذر من مخادعة اليهود لبسطاء المسلمين ودعواهم أن القرآن سجّل أن الله عزّ وجلّ جعل فلسطين إرثا لهم وكتبها لهم استنادا إلى هذه الآية وما يماثلها مثل آية سورة المائدة هذه: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) فما جاء في هذه الآيات هو خاص بالزمن الذي تمّ فيه ذلك ونتيجة لما كان من استجابتهم لكلام الله وصبرهم على ما ذكرته الآية التي نحن في صددها بصراحة. وعلى ما هو متفق عليه عند المؤولين والمفسرين بدون خلاف. وبعبارة أخرى إن هذه العبارات القرآنية هي إيذان أو حكاية لموقف رباني مقابل موقف بني إسرائيل وهو الصبر. ولقد احتوى القرآن آيات بل فصولا كثيرة كثرة تغني عن التمثيل فيها إيذان رباني بتغير موقف الله إزاء بني إسرائيل بسبب تغير موقفهم. منها ما هو في صدد مواقفهم قبل النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي زمن موسى عليه السلام وبعده. ومنها ما هو في صدد مواقفهم إزاء الرسالة النبوية «1» حيث يتبادر من ذلك أن الموقف الذي حكاه الله تعالى وآذنه في هذه العبارات ليس على سبيل التأبيد وأنه كان منوطا بموقف بني إسرائيل وأنه تغير بتغير هذا الموقف. وقد جاء هذا المعنى في آيات سورة إبراهيم هذه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ

_ (1) اقرأ آيات سورة البقرة [41- 146] وآل عمران [71- 120] والنساء [43- 56 و 157- 161] والمائدة [12- 33 و 41- 45 و 51- 72] والأنعام [146] والأعراف [148- 153 و 161- 169] والصف [5] والجمعة [5- 8] واقرأ كتابنا «القرآن واليهود» أيضا.

رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) ولقد احتوى الإصحاح السادس والعشرين من سفر الأحبار أو اللاويين المتداول اليوم إنذارا ربانيا رهيبا لبني إسرائيل إذا هم انحرفوا عن وصايا الله وحدوده بالتدمير والتحطيم وسلب كل ما منحهم الله إياه وتشتيتهم في الأرض وتسليط الأمم عليهم هذا نصه: (وإن لم تسمعوا إليّ ولم تعملوا بجميع الوصايا فنبذتم رسومي وعافت أنفسكم أحكامي فلم تعملوا بجميع وصاياي ونقضتم عهدي فأنا أيضا أصنع بكم هذا. أسلّط عليكم رعبا وسلا وحمى تفني العينين وتتلف النفس. وتزرعون زرعكم باطلا فيأكله أعداؤكم. وأجعل وجهي ضدكم فتهزمون من وجوه أعدائكم. ويتسلّط عليكم مبغضوكم. وتفرون ولا طالب لكم. ثم إن لم تطيعوني بعد هذا زدتكم تأديبا على خطاياكم سبعة أضعاف، فأحطم تماشخ عزكم. وأجعل سماءكم كالحديد. وأرضكم كالنحاس وتفرغ قواكم عبثا. ولا تخرج أرضكم إثاءها وشجر الأرض لا يخرج ثمره. وإن جربتم معي بالخلاف ولم تشاؤوا أن تسمعوا إليّ زدتكم سبعة أضعاف من الضربات على خطاياكم. وأطلقت عليكم وحش الصحراء فتثكلكم وتهلك بهائمكم وتقللكم فتوحش طرقكم. وإن لم تتأدبوا بهذا وجريتم بالخلاف جريت أنا أيضا معكم بالخلاف. وضربتكم سبعة أضعاف على خطاياكم. فأجلب عليكم سيفا منتقما نقمة العهد فتتجمعون إلى مدنكم وأبعث الوباء فيما بينكم وتسلمون إلى أيدي العدو. وإن لم تخضعوا لي بذلك وجريتم معي بالخلاف جريت أنا أيضا معكم بالخلاف ساخطا وأدبتكم سبعة أضعاف على خطاياكم فتأكلون لحوم بنيكم وبلحم بناتكم تقتاتون. وأدكّ مشارفكم وأحطم تماثيل شموسكم. وألقي جثثكم على جثث أوثانكم وتكرهكم نفسي. وأجعل مدنكم قفرا، ومقادسكم موحشة، ولا أشتمّ رائحة رضى منكم. وأترك الأرض بلقعا فينذهل لها أعداؤكم الذين يسكنونها وأبددكم فيما بين الأمم. وأجرّد وراءكم سيفا فتصير أرضكم خرابا ومدنكم قفرا وتسقطون ولا طالب. ويعثر الواحد بأخيه كمن يهرب من أمام السيف ولا طالب. ولا يكون لكم ثبات في وجوه أعدائكم وتبادون بين الأمم. وتأكلكم أرض أعدائكم) .

تعليق على جملة رب العالمين في الآيات

ولقد انحرفوا انحرافات خطيرة جدا في العقيدة والسلوك والأخلاق في زمن موسى عليه السلام وبعده فنفذ الله وعيده فيهم وسلّط عليهم من ضربهم الضربات القاصمة واستولى على بلادهم ودمّر مدنهم ومعابدهم وشتتهم في أنحاء الأرض عبيدا أذلة على ما ذكرته أسفارهم وكتب التاريخ القديمة ثم آيات قرآنية عديدة في سور البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأعراف والجمعة. ولقد ظلّ انحرافهم مستمرا إلى زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم. وكانت منهم تجاهه مواقف وتصرفات كثيرة فيها انحراف ديني وأخلاقي واجتماعي خطير على ما حكته آيات قرآنية كثيرة في السور المذكورة فكان نتيجة لذلك أن ضرب الله عليهم الذلّة والمسكنة وأن باءوا بغضبه وأن آلى على نفسه أن يبعث عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب على ما جاء في آيات عديدة في السور المذكورة. ومن واجب المسلمين أن يعتقدوا أن الله محقق وعيده فيهم. وأنهم فقدوا ما منحهم الله إياه وكتبه لهم مما جاء في الآيات بسبب ذلك الانحراف وأن ما جاء في الآيات قد كان والحالة هذه لزمن مضى وانقضى. ونحن نعرف أن اليهود يتمسكون أيضا بما ورد في سفر التكوين وغيره من الأسفار من وعد الله بتمليك إبراهيم وإسحق ويعقوب وأنسالهم هذه الأرض إلى الأبد. وهذه الأسفار ليست هي المنزلة من الله تعالى وقد كتبت بعد موسى عليه السلام بمدة ما بأقلام مختلفة. وطرأ عليها كثير من التحريف والتشويه. وتأثرت بالوقائع التي جرت لبني إسرائيل بعد موسى على ما سوف يأتي شرحه بعد قليل فلا تكون حجة يستطيع أن يحاجّ اليهود بها المسلمين بل وغيرهم. تعليق على جملة رَبِّ الْعالَمِينَ في الآيات وهذه الجملة الواردة في هذه الحلقة مرة بلسان موسى عليه السلام ومرة بلسان بني إسرائيل في الآيتين [104 و 121] تتحمل تعليقا هاما. فالأسفار المتداولة اليوم التي كانت متداولة في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم والمكتوبة بأقلام كتّاب

مختلفين متعددين بعد موسى عليه السلام على ما سوف نشرحه بعد قليل وصفت الله عزّ وجلّ بربّ إسرائيل وإله إسرائيل ووصفت بني إسرائيل بأنهم شعب الله المختار الذي وعدهم بأن يجعل غيرهم من الشعوب عبيدا لهم وأباح لهم دماءهم وأموالهم وبلادهم وأمرهم بإبادتهم تعالى الله وتنزّه عن ذلك حتى أنهم رفضوا أن يشاركهم جماعة دانت بالدين اليهودي من غير جنسهم في بناء معبد أورشليم حينما سمح لهم كورش ملك الفرس بذلك وقالوا هذا معبد ربنا ونحن الذين نبنيه وحدنا. فالمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت أن تأتي الجملة في مقامها عن لسانهم وعن لسان موسى عليه السلام لتكون تصحيحا لتحريف لا شك فيه أدّى إلى رسوخ ذلك في أذهان بني إسرائيل وتقريرا لحقيقة الأمر بكون الله تعالى رب العالمين جميعا وليس ربّ إسرائيل وإلههم وحسب «1» . اتساقا مع الوصف الذي ما فتئ القرآن يصف به الله تعالى منذ أوّله على ما شرحناه في سياق سورة الفاتحة. والذي نعتقده أن وصف الله تعالى بربّ العالمين هو الذي لا بد من أن يكون موسى وهارون قد ذكراه لفرعون وقومهم وأن هذا الوصف لا بد من أن يكون واردا في سفر الشريعة الذي كتبه موسى عليه السلام ووضعه في تابوت العهد والذي احتوى ما أوحاه الله إليه من مبادئ وأحكام وشرائع ووصايا والذي انفقد ولم يصل إلينا. وأن الديدن الإسرائيلي المتمثل بوصف الله تعالى بربّ إسرائيل وإله إسرائيل وبوصف بني إسرائيل بأنهم شعب الله المختار الذي يقف دائما معهم ضدّ شعوب الأرض هو تحريف متصل بسيرتهم وجبلتهم. وفي سورة النساء آيتان مهمتان في هذا الباب وهما: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) حيث كانوا يقولون على ما رواه الرواة في سياق الآيتين إنهم أحباب الله وشعبه المختار ويمحو ما يرتكبونه من ذنوب وإنهم أولياء الله.

_ (1) انظر مثلا الإصحاح (34) من سفر الخروج والإصحاحات (14 و 31) من سفر العدد والإصحاحات (7 و 20) من سفر التثنية والإصحاح (4) من سفر عزرا.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 138 إلى 162]

وهذا مما حكته عنهم آيات أخرى مثل آية البقرة هذه: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وآية سورة الجمعة هذه: قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وآية سورة المائدة هذه: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ [18] وكانوا ينسبون ذلك إلى الله عزّ وجلّ فجاءت آيات النساء تعلن كذبهم وافتراءهم على الله في ذلك. [سورة الأعراف (7) : الآيات 138 الى 162] وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162)

(1) يعكفون: يقيمون ويواظبون: والكلمة في جملتها بمعنى يتعبدون. (2) تجهلون: بمعنى تخطئون ولا تعملون الحق والصواب. (3) متبر: خاسر وهالك. (4) يسومونكم: يذيقونكم. (5) يستحيون نساءكم: يبقون نساءكم أحياء دون الذكور. (6) ليمقاتنا: لموعدنا الذي وقّتنا له وقته. (7) صعقا: مصعوقا أو مغمى عليه. (8) سبيل الغي: سبيل الغواية والضلال. (9) حبطت: بطلت وضاعت. (10) خوار: صوت البقر. (11) لما سقط في أيديهم: لما شعروا بالندم بسبب ذنبهم. (12) أسفا: حزينا أو مشتدّ الغضب. (13) يرهبون: يخشون ويخافون. (14) اختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا: تأويلها اختار موسى من قومه

سبعين رجلا لميقات مضروب من الله لهم. (15) السفهاء: هنا بمعنى الجاهلين أو قليلي الفهم والعقل. (16) فتنتك: امتحانك وابتلاؤك. (17) هدنا إليك: رجعنا وتبنا إليك. (18) الأمي: نسبة إلى أمة في قول وإلى أمّ في قول على ما جاء في كتب التفسير واللغة. وقد استعمل جمعها (الأميين) في القرآن حكاية بني إسرائيل في معنى غيرهم من الأمم كما جاء في آية سورة آل عمران هذه: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [75] واستعمل جمعها في معنى غير أهل الكتاب كما جاء في آية سورة آل عمران هذه: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ [20] واستعمل جمعها للدلالة على عدم إحسان الكتابة والقراءة كما جاء في آية سورة البقرة هذه: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [78] واستعمل جمعها للدلالة على العرب كما جاء في آية سورة الجمعة هذه: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [2] والمتبادر أن الكلمة هنا هي من هذا المعنى الأخير. وربما أطلق هذا المعنى على العرب لأنهم غير أهل الكتاب. (19) الخبائث: ضد كل ما هو طيب حلال. (20) إصرهم: الشدّة التي تثقلهم. (21) الأغلال: القيود. (22) عزّروه: وقّروه وأيدوه. (23) يعدلون: يسلكون سبيل العدل فيعطون الحق ولا يأخذون إلّا الحق. (24) قطعناهم: قسمناهم أو فرقناهم. (25) أسباطا: جمع سبط. والسبط في اللغة الشجر. ويطلق على الجماعة التي من أب واحد أو شجرة واحدة في النسب. والكلمة في مقامها تعني القبائل

تعليق على محتويات الحلقة الثانية من السلسلة وما فيها من تلقينات

المنحدرة من أبناء يعقوب الاثني عشر وهم على ما جاء في الإصحاح (46) من سفر التكوين: راؤيين البكر ثم شمعون ولاوي ويهوذا ويساكر وزبولون وجاد ودان وأشير ونفتالي ويوسف وبنيامين. وقد صارت ذرية كل واحد منهم سبطا تسمى باسمه فيقال سبط راؤيين وسبط شمعون وهكذا على ما هو مبثوث في أسفار عديدة من أسفار العهد القديم المتداولة. (26) إذ استسقاه: إذ طلبوا منه الماء. (27) انبجست: انفجرت. (28) المنّ: صمغ نباتي حلو المذاق، والسلوى: نوع من الطير، على ما وصف في سفر الخروج. (29) وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون: بمعنى أنهم بأعمالهم الأثيمة وتبديلهم كلام الله لم يضرونا ولكن أضرّوا بأنفسهم وظلموها. (30) قولوا حطّة: أوّلها المؤولون في قولين: منهما أنها بمعنى اطلبوا من الله حطّ ذنوبكم أو اخضعوا لله وطأطئوا له. (31) ادخلوا الباب سجدا: كناية عن الأمر بالاستشعار بالذلة والخضوع إلى الله والسجود له مقابل ما أفاضه عليهم من نعم. تعليق على محتويات الحلقة الثانية من السلسلة وما فيها من تلقينات وهذه حلقة ثانية من السلسلة. احتوت ما كان بين موسى عليه السلام وبني إسرائيل من مواقف وأحداث وما كان من مناجاة موسى عليه السلام مع ربّه وتنزيل الألواح عليه وتجلّيه له في الجبل وما كان من معجزات له ولإسرائيل وما كان من هؤلاء في حياته من انحراف وتعجيز وتبديل لكلام الله وما كان من نقمة الله وغضبه عليهم. وقصد العظة والتذكير وضرب المثل واضح في هذه الحلقة وضوحها في الجز الثاني من التفسير الحديث 29

سابقتها وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. ومعظم ما جاء فيها متسق إجمالا مع ما ترويه أسفار الخروج والعدد والتثنية من أسفار العهد القديم التي تؤرخ حقبة موسى وما بلّغه موسى عن ربّه لبني إسرائيل وسيرة بني إسرائيل في عهده. بما في ذلك ما ورد إجمالا في الآيات من ميقات موسى أربعين يوما وطلب موسى من ربّه أن يراه وقول الله له إنه لا يستطيع رؤيته وتجلّي الله على جبل سيناء وارتجافه ارتجافا شديدا وإنزال الله على موسى الألواح والشرائع والوصايا واتخاذ قوم موسى العجل وغضب موسى وإلقائه الألواح حتى انكسرت ومعاتبة موسى لهرون وضرب الله الشعب لاتخاذهم العجل وتظليل الغمام عليهم في النهار لوقايتهم من الشمس. وإنزال المنّ والسلوى والأول مثل بزر الكزبرة ولونه كلون المقل وطعمه بعد الطبخ كطعم قطائف بزيت، والثاني نوع من الطير لأنهم تذمروا من المنّ وحده وطلبوا لحما. وتفجير عيون الماء بضرب العصا ومحاولتهم رؤية الله ونهيه لهم عن ذلك واختيار موسى سبعين رجلا وأخذهم معه إلى الجبل وإنزال الله على طائفة من بني إسرائيل عذابا من السماء ... والمتبادر أن سامعي القرآن كانوا أو كان منهم من يعرف أشياء كثيرة مما احتوته الأسفار في صدد هذه الحلقة أيضا فكان ذلك مما دعم هذا القصد أيضا. وكما فعل المفسرون في سياق الحلقة السابقة فعلوا في سياق هذه الحلقة حيث أوردوا روايات فيها تفصيلات كثيرة في صدد ما جاء فيها من أحداث ومعجزات وصور ومواقف، معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم وعلماء الأخبار من عرب ويهود مسلمين. منها ما هو متطابق ومتسق مع ما ورد في أسفار العهد القديم ومنها ما ليس كذلك وفي بعضها ما فيه مبالغة وإغراب. وتدلّ على كل حال على أن محتويات هذه الحلقة أيضا مما كان متداولا في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم مع الحواشي والشروح. ولم نر ضرورة إلى إيراد شيء مما ذكروه أو التعليق على ما في الحلقة من أحداث لذاتها، لأن ذلك لا يتّصل بهدف القصة القرآنية الذي هو التذكير والتمثيل بما يعرفه السامعون. وهو ما فعلناه في سياق الحلقة السابقة حيث رأينا ذلك هو الأولى والأصوب.

وقد يكون مباينة بين ما جاء في آيات هذه الحلقة وما جاء في الأسفار المتداولة وقد يكون بعض ما جاء في الآيات لم يرد فيها مثل المحاورة المحكية بين موسى وقومه حين ما أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم ومثل القرية التي أمروا بسكناها ودخول بابها ساجدين وقولهم حطة. وما قلناه في هذا الصدد في سياق الحلقة السابقة يصح قوله هنا. وكذلك ما قلناه في سياق تلك الحلقة في صدد المعجزات التي ذكرت فيها يصح قوله هنا أيضا فلا حاجة إلى التكرار. وبعض المفسرين رووا في سياق الآيتين [58- 59] في سورة البقرة المشابهتين تقريبا للآيتين [161- 162] أن القرية التي أمر بنو إسرائيل بسكناها هي أريحا أو قرية في جانب بيت المقدس. وأن الباب الذي أمروا أن يدخلوه سجّدا وأن يقولوا حطّة عند دخوله هو الباب المسمّى اليوم بباب حطة من أبواب حرم المسجد الأقصى. وليس لهذا سند وثيق. وليس من ضرورة للتكلّف. ولا بد من أن ذلك كان مفهوما واضحا في أذهان بني إسرائيل الذين يسمعون القرآن وواردا في أسفار كانت عندهم. ولقد أورد المفسرون في سياق آيات سورة البقرة التي تأتي في كتبهم مقدمة على سورة الأعراف أحاديث وروايات في مدى ما كان من تبديل بني إسرائيل لأوامر الله ومدى الرجز الذي أنزله الله عليهم. منها المعزوّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومنها المعزو إلى بعض أصحابه وتابعيهم. منها حديث في مدى التبديل رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجّدا وقولوا حطّة فدخلوا يزحفون على أستاههم فبدّلوا وقالوا حطّة حبّة في شعرة» «1» . ومنها حديث عن ابن مسعود بدون عزو إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم أنهم قالوا: (هطا سمعاتا أزبة مزبا) «2» وترجمتها بالعربية حبة حنطة حمراء مثقوبة فيها شعرة سوداء.

_ (1) التاج ج 4 ص 35. (2) النصان من تفسير ابن كثير. وقد ورد النص الأول بفرق يسير في كتب التفسير الأخرى.

ومنها قول آخر عن ابن مسعود أنهم قيل لهم قولوا حطة فقالوا حنطة حبة حمراء فيها شعيرة «1» . وقد روى المفسرون ما رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة وعن النبي عن بعض التابعين بدون عزو إلى النبي مع زيادة في البيان وهو أنهم قالوا ذلك من قبيل التمرّد والاستهزاء. ورووا عن بعض التابعين أن الرجز هو طاعون سلّطه الله عليهم فأهلك منهم خلقا عظيما. ولقد أورد رشيد رضا هذه الروايات وتوقف في الحديث الذي رواه أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لأن الأحاديث التي تروى في البيان والتفسير عن رسول الله وبخاصة في الأمور المغيّبة هي التي يصحّ أن تكون المعتمدة في هذه الأمور دون غيرها. ومما قاله فيه إن أبا هريرة لم يصرّح أنه سمع الحديث من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولذلك يعدّ مرفوعا وإن من رواته همام بن منبه وهو مثل أخيه وهب من أصحاب الغرائب في الإسرائيليات. والحق إن في الحديث شيئا غريبا وبخاصة هذا التوافق في الألفاظ العربية وهو قولهم حنطة مقابل أمرهم بأن يقولوا حطة. وبنو إسرائيل إنما كانوا يتكلمون العبرانية في زمن موسى الذي يحكي عنهم هذه المخالفة. وعلى كل حال فالآيات صريحة الدلالة على أن الله أمرهم أمرا ففعلوا خلافه فأنزل عليهم رجزه جزاء على مخالفتهم وتمردهم. ولا نشك في أن ماهية الأمر والمخالفة والرجز مما كان متداولا بين بني إسرائيل في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم وواردا في بعض قراطيسهم وأن هذا مما تسرّب منهم إلى أهل بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم. والله تعالى أعلم. ومن مواضع العبرة في هذه الحلقة ما كان من انحراف بني إسرائيل منذ أوائل خروجهم من مصر مع موسى عليه السلام عن التوحيد إلى عبادة الأصنام والعجل وما كان من تعجيزهم له ونكثهم لعهد الله ومخالفتهم لوصاياه وتبديلهم أوامره بعكسها استهزاء وما كان من غضب الله عليهم وإنزاله عليهم الرجز حيث ينطوي في

_ (1) النصان من تفسير ابن كثير. وقد ورد النص الأول بفرق يسير في كتب التفسير الأخرى.

تعليق على جملة فضلكم على العالمين

هذا تقرير كون الله تعالى قد تفضّل عليهم لما صبروا وغضب عليهم لما انحرفوا وبدّلوا ودعوة للمسلمين إلى الاعتبار بهم. تعليق على جملة فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ وهذه الجملة الواردة في الآية [140] تتحمل تعليقا وتنبيها كذلك. فالمتبادر الذي عليه جمهور المفسرين أن كلمة الْعالَمِينَ هنا تعني الزمن أو الظرف الذي خاطبهم موسى فيه بذلك في سياق تحذيرهم من الانحراف. وأن التفضيل هو ما كان من عناية الله تعالى بهم وإرساله موسى عليه السلام لهدايتهم وإنقاذهم. وصيرورتهم بذلك أفضل من غيرهم الذين كانوا منحرفين عن طريق الحق والهدى. ولقد انحرفوا بعد ذلك عن هذا الطريق ففقدوا هذه المزيّة التي كانت سبب تفضيلهم واستحقوا غضب الله ولعنته ونكاله على ما شرحناه في التعليق على آية وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا. ونذكر في مناسبة الآية إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ في السلسلة أن مفسري الشيعة يشبهون الذين بايعوا أبا بكر رضي الله عنه في السقيفة بأصحاب العجل ويقولون إنهم سينالهم غضب الله بسبب افترائهم وافتئاتهم على حقّ علي في الإمامة كما وعد الله أصحاب العجل بمثل ذلك «1» والعياذ بالله من هذا الكفر البواح الذي يؤدي إليه الهوى الحزبي. تعليق على جملة لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي ولقد وقف المفسرون عند هذه الجملة وساقوا الكلام حول إمكان وعدم

_ (1) التفسير والمفسرون للذهبي ج 2 ص 74.

إمكان رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة وأوردوا أقوال المذاهب الإسلامية في ذلك. ولقد علّقنا على هذا الموضوع بما فيه الكفاية في سياق سورة القيامة فلا نرى ضرورة للإعادة. وإذا كان من شيء يمكن قوله هنا فهو إن العبارة حكاية لمحاورة بين الله تعالى وموسى وقد وردت في الإصحاح (33) من سفر الخروج. وقد ورد خبر تجلّي الله على جبل سيناء وارتجافه رجفانا شديدا في الإصحاح (19) من هذا السفر. وإن في أخذها مستقلة وبناء حكم عليها إثباتا ونفيا تجوّزا وإخراجا لها من مقامها. والله أعلم. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية [164] من سورة النساء حديثا أخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما كلّم الله موسى كان يبصر دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء» . وحديثا أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس قال: «إنّ الله ناجى موسى بمائة ألف كلمة وأربعين ألف كلمة في ثلاثة أيام وصايا كلها. فلما سمع موسى كلام الآدميين مقتهم مما وقع في مسامعه من كلام الربّ عزّ وجلّ» . وحديثا أخرجه كذلك ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: «إن الله لما كلّم موسى يوم الطور كلّمه بغير الكلام الذي كلّمه يوم ناداه فقال له موسى يا ربّ هذا كلامك الذي كلمتني به قال لا يا موسى إنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان. ولي قوة الألسنة كلها وأنا أقوى من ذلك. فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا يا موسى صف لنا كلام الرحمن قال لا أستطيعه قالوا فشبه لنا قال ألم تسمعوا إلى صوت الصواعق فإنه قريب منه وليس به» . وحديثا أخرجه عبد الرزاق عن كعب قال: «إن الله لما كلّم موسى كلّمه بالألسنة كلّها سوى كلامه فقال موسى يا ربّ هذا كلامك قال لا ولو كلمتك بكلامي لم تستقم له. قال يا ربّ فهل من خلقك يشبه كلامك قال لا وأشدّ خلقي شبها بكلامي أشدّ ما تسمعون من الصواعق» . وقد نبّه ابن كثير على ضعف أسناد هذه الأحاديث وقال بالنسبة للأخير إنها مما يحكى عن الكتب المتقدمة المشتملة على أخبار بني إسرائيل وفيها الغثّ والسمين. ويتبادر لنا أن هذا القول يصحّ أن يقال بالنسبة للأحاديث الأخرى حيث نرجح أنها من روايات مسلمي اليهود. والله تعالى أعلم.

تعليق على الآيتين سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ... إلخ وتلقيناتهما

تعليق على الآيتين سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ... إلخ وتلقيناتهما في السلسلة آيتان تبدوان من جهة غير متصلتين بموضوع السلسلة ومن جهة منسجمتين في نظمهما وهما الآيتان [146 و 147] ولقد روى المفسرون وقالوا إنهما تتمة لكلام الله تعالى لموسى عليه السلام كما رووا وقالوا إنهما خطاب لسامعي القرآن. والاحتمالان واردان وقد رجّح الطبري القول الثاني. وعلى هذا الترجيح تكونان استطراديتين ليكون فيهما بالمناسبة إنذار لسامعي القرآن. على أن إطلاق العبارة فيهما تجعل هذا الإنذار للسامعين واردا سواء أصحّ القول الثاني أم الأول. والإنذار في الآيتين شديد عنيف للذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ويقفون مواقف الفساد والعناد والبغي والصدّ عن آيات الله. والذين يرون الحق واضحا فلا يعترفون به ويرون سبيل الرشد بيّنا فلا يسيرون فيه. ثم يسيرون في سبيل الغيّ والضلال عن علم وقصد. وإطلاق العبارة يجعل محتوى الآيتين شاملا لكل من يتّصف بهذه الصفات ويقف مثل هذا الموقف في كل ظرف ومكان وكونهم لا يمكن أن يكونوا موضع رضاء الله وتوفيقه. وبذلك تكونان مستمد تلقين بليغ مستمر المدى. ولقد تكررت الآيات المكيّة والمدنيّة في ذمّ المستكبرين والتنديد بهم على ما سوف يأتي بعد حيث ينطوي في هذا مظهر من مظاهر عناية حكمة التنزيل بتوكيد التنبيه على هذا الأمر بسبيل حمل المسلمين على تجنّب هذا الخلق المذموم. وهناك أحاديث نبوية يتساوق تلقينها مع التلقين القرآني في صدد ذمّ الكبر والمستكبرين والتحذير من ذلك رأينا إيرادها في هذه المناسبة. منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن حارثة بن وهب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا أخبركم بأهل الجنة. كلّ ضعيف متضاعف لو أقسم على الله لأبرّه. ألا أخبركم بأهل النار كلّ

عتلّ جوّاظ مستكبر» «1» . وحديث رواه أبو داود ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله تعالى الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما قذفته في النار» «2» . وحديث رواه مسلم والترمذي عن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة خردل من كبرياء» «3» . وحديث رواه الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يحشر المتكبّرون يوم القيامة أمثال الذرّ في صور الرجال يغشاهم الذلّ من كلّ مكان» «4» . هذا، والشطر الثاني من الآية الأولى يزيل ما يمكن أن يرد من توهّم في كون عبارة سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الواردة في شطرها الأول تعني أن الله عزّ وجلّ يسدّ الباب دون اهتداء الناس بآياته. فهو قد أنزل آياته ليتدبّرها الناس ويهتدوا بها فلا يصحّ فرض عكس ذلك. والعبارة هي بسبيل التنديد بالمتكبرين المنحرفين وإعلان كونهم سيكونون محرومين من رضاء الله بسبب تكبرهم وانحرافهم. ومن قبيل وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ إلخ في آيات البقرة هذه: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27) ومن قبيل عبارة وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ في آية سورة إبراهيم هذه: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27) وعبارة وَالظَّالِمُونَ ما

_ (1) التاج ج 5 ص 29- 30. [.....] (2) انظر المصدر نفسه. (3) انظر المصدر نفسه. (4) انظر المصدر نفسه.

تعليق على جملة إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء

لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ في آية سورة الشورى هذه: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8) . تعليق على جملة إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ هذه الجملة جاءت في سياق ما كان من أخذ الله بعض رؤساء بني إسرائيل بالرجفة على لسان موسى عليه السلام. ومع أنها كما هو ظاهر حكاية لقول موسى فإن بعضهم وقفوا عندها وتوهموا أن فيها ما يفيد أن الله تعالى يضع الناس في مواقف لا مناص لهم منها ثم يؤاخذهم عليها ويعاقبهم بها كما جاء في بيت الشعر الذي يكرّر في كثير من المناسبات المماثلة: ألقاه في اليمّ مكتوفا وقال له ... إيّاك إيّاك أن تبتلّ بالماء وقد اعتاد بعضهم أن يسوقوا الجملة في الاحتجاج بها على تقدير الله الأزلي على أناس بأعيانهم الهدى والضلال بزعمهم وبدون ما سبب منهم. ولقد علّقنا على هذا المعنى في مناسبات سابقة بما فيه المقنع في رأينا وتنزيه الله عزّ وجلّ عن العبث ونقض حكمته في دعوة الناس إليه بواسطة رسله وترتيب الثواب والعقاب عليهم حسب مواقفهم من هذه الدعوة وسلوكهم نحو الله والناس. ونقول هنا بمناسبة العبارة إن الإمعان فيها يجعل التوهم الذي يرد منها في غير محله. فهي أولا: حكاية لقول موسى كما قلنا وليست تقريرا قرآنيا مباشرا. وثانيا: إن معنى فِتْنَتُكَ وبخاصة في مقامها ليس هو الإغواء والإضلال والافتتان وإنما هو الاختبار والامتحان. وهذا ما قرّره الطبري وغيره. فالله يختبر إيمان الناس وأخلاقهم ببعض الأمور فيأمرهم بأشياء وينهاهم عن أشياء ويكلفهم بأشياء. فمن كان ضعيف الإيمان والصبر ضلّ وغوى. ومن كان قويا في ذلك ظلّ على هداه ونفذ أوامر الله. وهذا المعنى ملموح في آيات سورتي البقرة وإبراهيم التي أوردناها في التعليق السابق. والعبارة قد وردت على لسان موسى عليه السلام

تعليق على جملة قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء إلخ من الآية [156]

في هذا المعنى. فالوفد الإسرائيلي الذي سمع كلام الله تعالى طمع، فقال لموسى عليه السلام: أرنا الله جهرة كما ذكر ذلك في آية سورة البقرة هذه التي ذكرت أن الله أخذهم بالصاعقة: وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) وهذا نفس الشيء الذي حكته الآية التي جاءت فيها العبارة- وليس بين الصاعقة والرجفة تناقض- لأنهم أظهروا ضعفهم أمام الاختبار الرباني وتجاوزوا الحدود في طلبهم وطمعهم. على أن في الآية التي وردت فيها هذه العبارة بالذات ما يزيل أي توهم حيث احتوت تقريرا ربانيا بأن الله سيكتب رحمته التي وسعت كل شيء للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآيات ربهم يؤمنون. حيث ينطوي في ذلك أن الضلال والهدى إنما يجري بسنّة الله عزّ وجلّ على الناس حسب مكتسباتهم واختيارهم وسجاياهم. تعليق على جملة قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ إلخ من الآية [156] وهذه الجملة تتحمل تعليقا خاصا. والمتبادر من نظم الكلام أنها جواب من الله عزّ وجلّ إلى موسى الذي حكى أول الآية مناجاته لله وطلبه أن يكتب له ولقومه في الدنيا حسنة وفي الآخرة وإعلانه أنهم هادوا إليه. غير أنها شاملة المدى كما يبدو من التمعّن فيها لقوم موسى ومن بعدهم وهي بسبيل تقرير وعد الله تعالى بأن يتغمّد برحمته التي وسعت كل شيء الذين يتّصفون بالصفات المذكورة فيها التي فيها جميع أسباب الصلاح والنجاة في الدنيا والآخرة. وينطوي في الآية دعوة الناس جميعهم إلى الاتصاف بها لينالوا رحمة الله الواسعة وتوفيقه وعنايته. وفي الشطر الثاني تخصيص لما جاء مطلقا في الشطر الأول. فرحمة الله إنما ينالها المتّصفون بتلك الصفات وحسب. وهذا الشطر يزيل ما يمكن أن يتبادر إلى الوهم من عبارة عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ بكون الله تعالى يصيب بعذابه من يشاء من الناس بدون سبب منهم حيث يقتضي من الجواب الرباني أن يكون العذاب

من نصيب الذين لا يتّصفون بالصفات المذكورة. وهذا هو المتّسق مع التقريرات القرآنية التي مرّت أمثلة عديدة منها. وهذا وذاك يجعل الاتكاء على هذه الآية بسبيل تأييد المذاهب والخلافات الكلامية بين الجبر والاختيار في غير محله. ويجعل أيضا ما يفعله بعض المسلمين من اقتطاع جملة وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ والتبشير بها إطلاقا غير سليم لأنها جزء من آية بل من سياق يفيد أن الله إنما يكتب رحمته للذين يتّصفون بالصفات المذكورة فيها. ويفعل هذا بعض المسلمين في غير هذه الجملة أيضا. والحق يوجب على المسلم أن يستوعب كل الآية بتمامها ومع السياق السابق واللاحق لها حتى لا يحمّل العبارات القرآنية غير ما تحمله أو أكثر مما تحمله. ولقد أورد ابن كثير بضعة أحاديث نبوية رواها الإمام أحمد في سياق هذه الآية. منها حديث عن جندب بن عبد الله البجلي قال: «جاء أعرابي فأناخ راحلته ثم عقلها ثم صلّى خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبعد ذلك أتى راحلته فأطلق عقالها ثم ركبها ثم نادى اللهمّ ارحمني ومحمدا ولا تشرك في رحمتنا أحدا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أتقولون هذا أضلّ أم بعيره؟ ألم تسمعوا ما قال؟ قالوا: بلى، قال: لقد حظرت رحمة واسعة. إن الله عزّ وجلّ خلق مائة رحمة فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جنّها وإنسها وبهائمها. وأخّر عنده تسعا وتسعين رحمة. أتقولون هو أضلّ أم بعيره» . وحديث عن سلمان عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ لله عزّ وجلّ مائة رحمة فمنها رحمة يتراحم بها الخلق. وبها تعطف الوحوش على أولادها وأخّر تسعا وتسعين إلى يوم القيامة» . ولقد روى شيئا من هذه الأحاديث الشيخان والترمذي بشيء من الفرق حيث رووا عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين وأنزل في الأرض جزءا واحدا فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه» «1» . ورووا عنه أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة

_ (1) التاج ج 5 ص 143.

تعليق على ذكر الزكاة في الآية [156]

واحدة بين الجنّ والإنس والبهائم والهوام فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطف الوحش على ولدها وأخّر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة» «1» . ومن الحكمة الملموحة في الأحاديث التبشير والتطمين بسعة رحمة الله لخلقه في الدنيا والآخرة. تعليق على ذكر الزَّكاةَ في الآية [156] وهذه هي المرة الأولى التي ترد فيها كلمة الزَّكاةَ بصيغتها الاصطلاحية في آية مكيّة. وقد وردت قبل بهذه الصيغة في آية مدنية وهي الآية الأخيرة من سورة المزمل. ووردت بصيغة مَنْ تَزَكَّى في إحدى آيات سورة الأعلى. ولقد علّقنا على الموضوع بما يغني عن التكرار. وكل ما يمكن أن يقال هنا أن صيغة الآية قد تفيد معنى الحثّ على إيتاء الزكاة والتنويه بمن يؤتونها. وقد تفيد معنى أن أناسا من الذين آمنوا كانوا يؤتون الزكاة فعلا. ونحن نرجّح أن الآية احتوت المعنيين. ونرى فيها تدعيما لما قلناه في التعليق الذي كتبناه في تفسير سورة المزمل من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد فرض على الميسورين من المسلمين أداء شيء من أموالهم باسم زكاة منذ عهد مبكر. والله أعلم. تعليق على الآية الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ والآية التالية لها وما فيهما من خطورة ودلالة في صدد الرسالة المحمدية وفي هذه الحلقة آيتان في صدد الدعوة إلى تصديق النبي صلّى الله عليه وسلّم واتباعه وشمول دعوته وتنويه بالذين اتبعوه وهما الآيتان [157- 158] .

_ (1) التاج ج 5 ص 143.

ولقد روى الطبري عن قتادة والهذلي من علماء التابعين أنه لما نزلت عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ وهي الآية السابقة للآيتين، قال إبليس: أنا من ذلك الشيء، فأنزل الله: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ فقال النصارى واليهود نحن نتقي ونؤتي الزكاة ونؤمن بآيات الله وتمنوا أن تكون الآية فيهم فأنزل الله: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ إلخ الآية. وروى كذلك عن نوف البكالي وهو يهودي الأصل أن موسى لما انطلق بوفد بني إسرائيل كلّمه الله فقال إني بسطت لهم الأرض طهورا ومساجد يصلّون فيها حيث أدركتهم الصلاة إلّا عند مرحاض أو قبر أو حمام. وجعلت السكينة في قلوبهم وجعلتهم يقرأون التوراة عن ظهر ألسنتهم، فذكر موسى ذلك لبني إسرائيل فقالوا لا نستطيع أن نحمل السكينة في قلوبنا فاجعلها لنا في التابوت ولا نستطيع أن نقرأ التوراة إلّا نظرا. ولا نصلي إلّا في الكنيسة فقال الله فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة حتى بلغ أولئك هم المفلحون. فقال موسى عليه السلام: يا ربّ اجعلني نبيهم، قال: نبيهم منهم. قال: اجعلني منهم، قال: لن تدركهم. والتفكك والغرابة باديتان على الروايتين. وينقض الأخيرة منها نصّ الآية الثانية التي تأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالهتاف بالناس بأنه رسول الله إليهم جميعا. وليس شيء منها واردا في كتب الأحاديث المعتبرة. والذي يتبادر لنا أن الآيتين قد جاءتا استطرادا بعد الآية السابقة لتبين الأولى منهما هوية الذين وعدتهم الآية السابقة برحمة الله الواسعة أو لتكون بدلا بيانيا عنها وهم اليهود والنصارى الذين يتبعون الرسول النبي الذي يجدون صفاته في التوراة والإنجيل الذي من صفاته ورسالته أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وإباحة الطيبات لهم وتحريم الخبائث عنهم وتحريرهم من القيود والتكاليف الشديدة التي كانت مفروضة عليهم ولم تعد حكمة الله تقتضي دوامها في عهد هذا النبي. ولتأمر الثانية النبي صلّى الله عليه وسلّم بالهتاف بأنه رسول الله إلى الناس جميعا وأنه مؤمن بالله وبكلماته

أي كتبه المنزلة السابقة، وأنه يدعوهم إلى اتباعه، كأنما أريد بهذا توجيه الخطاب لأهل التوراة والإنجيل بخاصة وإعلانهم بأن رسالته ليست خاصة بالعرب الأميين (غير الكتابيين) الذين هو منهم، وإنما هي شاملة لهم ولغيرهم من جميع الأجناس والألوان والأديان. وتعدّ الآيتان بما احتوتاه من أهمّ جوامع الكلم القرآنية كما تعدّ الأهداف التي تقررانها جماع أهداف الدين الإسلامي ومبادئه، وخير ما يمكن أن تستهدفه الشرائع والأديان لتحقيق السعادة والفوز والنجاح في الدنيا والآخرة. وقد جاءتا في ذات الوقت لتمهد السبيل لإقبال اليهود والنصارى على الإيمان بالرسالة المحمدية ولفتح الباب على مصراعيه لتكوين وحدة أخوية إنسانية عامة في دين واحد يحتوي أسس الأديان السماوية ويعترف بكتبها وأنبيائها ويرفع الإصر والأغلال عن الناس ويزيل من بينهم المبهمات والمشكلات والخلافات، ويقوم على أساس الأمر بكل ما عرف أنه خير وصلاح والنهي عن كل ما عرف أنه منكر وفساد وإباحة كل ما عرف أنه طيب وتحريم كل ما عرف أنه خبيث. ولما كانت هذه الآيات مكية ومبكرة في النزول فإن فيها دلالة على أن الرسالة المحمدية حملت منذ بدئها المهام العظمى التي ذكرتها الآية الأولى، وعلى أن صفات النبي صلّى الله عليه وسلّم كانت موجودة في التوراة والإنجيل يجدها اليهود والنصارى فيهما. وعلى أن فريقا منهم اعترفوا بمطابقة صفاته على ما في أيديهم من الكتب وآمنوا به في وقت مبكر من العهد المكي. وعلى أن هذه الرسالة كانت منذ البدء رسالة عامة لجميع الناس والملل، وردا على الذين يزعمون غير ذلك استدلالا من بعض آيات وجهت للعرب خاصة، وغير مدركين ما يمكن أن يكون في ذلك من حكمة وخصوصية اقتضتها ظروف الخطاب والدعوة والأساليب مما سوف نشرحه في مناسباته. وهذا التعميم قد أكّدته إشارات وآيات عديدة منها ما سبق ونبهنا عليه فضلا عمّا في القرآن المدني من مؤيداته الكثيرة.

ولقد كان ما احتوته الآية [157] من إشارة إلى أن اليهود والنصارى يجدون صفات النبي صلّى الله عليه وسلّم وأهداف دعوته فيما بين أيديهم من التوراة والإنجيل موضوع جدل وتشادّ في مجال الإنكار والإثبات بين المسلمين وأهل الكتاب. ونقول إن الآية تقول هذا بصراحة وتوجه الخطاب بخاصة إلى اليهود والنصارى، ومنهم من كان يسمعه وجاها ومنهم من آمن به نتيجة لذلك. فليس مما يعقل- ونقول هذا من باب المساجلة- أن يكون ما تقوله الآية جزافا لا يستند إلى حقيقة ما أو أساس ما فيما كان في أيدي اليهود والنصارى من أسفار في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم. ولا يستطيع أحد أن ينفي ذلك أو يجزم بأن ما كان في أيديهم في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم هو نفسه الذي يتداولونه اليوم بدون نقص أو زيادة في النصوص وأسماء الأسفار. والتوراة والإنجيل اللذان تذكرهما الآية هما كتابان منزلان من الله عزّ وجلّ على موسى وعيسى عليهما السلام. وهذا هو المقصود بهما على ما تفيده آيات كثيرة سيأتي إيرادها في تعليق آخر يأتي بعد هذا على التوراة والإنجيل. والمتداول في أيدي اليهود والنصارى اليوم أسفار كثيرة العدد كتبت بعد موسى وعيسى بأقلام بشرية شابها كثير من المبالغة والمناقضة والإغراب. وفي القرآن دلائل تفيد أنه كان في أيدي اليهود والنصارى في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم توراة وإنجيل يصحّ عليهما وصف القرآن على ما سوف نورده في التعليق الآتي. وفي أسفار العدد والخروج والتثنية والملوك وعزرا من أسفار العهد القديم ما يفيد أن كتابا باسم التوراة كتبه موسى بيده وفيه ما تلقّاه عن الله من وصايا وتعاليم وشرائع. والمتبادر من العبارة القرآنية أن هذا هو الذي كان فيه صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم. وهو مفقود. وهناك إنجيل معروف باسم إنجيل برنابا أحد الرسل الذين حملوا راية التبشير عقب وفاة عيسى عليه السلام «1» فيه نصوص متفقة مع نصوص القرآن عن عيسى عليه السلام وولادته وحياته ورسالة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وصفاته. ومهما تكن المآخذ التي يوجهها رجال الدين النصراني إلى هذا الإنجيل فإن نصوص القرآن الذي لا يشك أحد في

_ (1) اقرأ سفر أعمال الرسل حيث يذكر برنابا ونشاطه في الدعوة والتبشير.

أنه يرجع تاريخيا إلى أربعة عشر قرنا دليل قاطع على أن في ما كان متداولا في أيدي اليهود والنصارى من أسفار إشارات إلى صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم ورسالته. فقد جاء في سورة الصف مثلا: وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [6] وهناك آيات تذكر أن أهل الكتاب كانوا يعرفون النبي صلّى الله عليه وسلّم كما يعرفون أبناءهم ويعرفون أن الكتاب المنزل عليه هو حقّ من الله وأن ما أنزل إليه هو حق كما يعرفون أبناءهم مثل آية سورة البقرة هذه: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) وآية سورة الأنعام هذه: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وهذه أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) مما لا يمكن أن يكون إلّا بسبب ما رأوه من مطابقة تامة بين صفاته وبين ما في أيديهم من كتب. على أن في أسفار العهد القديم والعهد الجديد المتداولة اليوم إشارات عديدة يمكن أن تكون من جملة ما يدلّ على بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم وصفاته. ومن ذلك مثلا عبارة مجيء المعزى بعد انطلاق عيسى عليه السلام حيث جاء في الإصحاح الخامس عشر من إنجيل يوحنا هذه العبارة: (ومتى جاء المعزى «1» الذي أرسله إليكم من عند الآب روح الحق الذي من الآب ينبثق فهو يشهد لي) . وفي الإصحاح السادس عشر هذه العبارة: (إن في انطلاقي خيرا لكم لأني إن لم أنطلق لم يأتكم المعزى ولكني إذا مضيت أرسلته إليكم. ومتى جاء يبكت العالم على الخطيئة وعلى البرّ وعلى الدينونة) . وقد أوردنا العبارة على علّاتها ونعتقد أن السيد المسيح الذي ورد في القرآن عن لسانه أنه عبد الله ورسوله لا يمكن أن يقول قولا يشتمّ منه أنه غير ذلك. وفي إنجيل برنابا نصوص كثيرة تماثل ما ذكره القرآن عن

_ (1) هذه العبارة مأخوذة من النسخة الكاثوليكية وقد جاء بدلها في النسخة البروتستانتية (كلمة البارقليط) .

عيسى وأقواله عن بعثة النبي ومن جملتها: (ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) . وإنكار النصارى له لا يقدّم ولا يؤخّر لأن هذه الحقائق قد ذكرت في القرآن الذي ذكر أن من أهل الكتاب اليهود والنصارى من آمن بالنبي وصدّق بالقرآن وأعلن أنه مطابق لما عندهم من الحق. مما سوف نورد نصوصه بعد. وبعض المبشرين يقولون إن البارقليط أو المعزى هو روح القدس. وروح القدس هو جزء من الله في عقائدهم والعبارة الإنجيلية تفيد أن الذي سيأتي هو شخص مرسل من الله لينذر ويبكت ويأمر بالبرّ والتقوى. وكل هذا صفات رسول إلهي وليست صفات الله ... ولقد عقد رشيد رضا في الجزء التاسع من تفسيره في سياق تفسير سورة الأعراف وهذه الآيات فصلا طويلا على هذا الأمر نبّه فيه إلى أمور عديدة ليثبت أنه لا يمكن إلّا أن يكون الأنبياء السابقون للنبي صلّى الله عليه وسلّم قد نبهوا إلى رسالته وظهوره وأن يكون ذلك مذكورا في ما نزل عليهم من كتب الله وعلى أن عدم ذكر ذلك بصراحة لا ينفي هذا وإنما يثبت التحريف والإخفاء ثم أورد بعد ذلك ثاني عشرة بشارة مستمدة من نصوص أسفار العهد القديم والأناجيل وناقش الشبهات التي يوردها بخاصة المبشرون. وأورد من الحجج والأقوال ما فيه المقنع لراغبي الحق والحقيقة والهدى بصواب استنتاجاته وقوّة حججه وبعدم قيام شبهات المشتبهين على أسس صحيحة. ومما يدعم هذا ما احتواه القرآن من مشاهد وإشارات تدلّ على أن من أهل الكتاب في مكة والمدينة أو وفودهم- وفيهم الأحبار والرهبان والقسس والراسخون في العلم- من آمنوا بالرسالة النبوية وصدّقوا بما جاء في القرآن وقرروا أنه متطابق مع ما عندهم كما جاء في الآية التي نحن في صددها ثم في آيتي آل عمران هذه: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ الجزء الثاني من التفسير الحديث 30

وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وآية سورة آل عمران هذه أيضا: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) وآية سورة النساء هذه: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) وآيات سورة المائدة هذه: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) . وآية سورة الأنعام هذه: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وهذه: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وآية سورة الرعد هذه: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وآيات سورة الإسراء هذه: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) وآيتي سورة القصص هذه: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) . وآية سورة الأحقاف هذه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وآية سورة العنكبوت هذه: وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ

وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ (47) . وفي كل هذا شواهد عيانية مكية ومدنية حاسمة لا يسع منصفا أن يكابر فيه حتى من الكتابيين أنفسهم فيما نعتقد. ويروي المفسرون بعض الأحاديث في سياق الآيتين، منها ما ورد في الكتب الخمسة، وفيها كذلك شواهد عيانية منها حديث أورده ابن كثير ورواه الإمام أحمد عن أبي صخر العقيلي عن رجل من الأعراب قال: (جلبت جلوبة إلى المدينة في حياة رسول الله فلما فرغت من بيعي قلت لألقينّ هذا الرجل فلأسمعن منه قال فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون فتبعتهم حتى أتوا على رجل من اليهود ناشر التوراة يقرؤها، يعزّي بها نفسه عن ابن له في الموت كأجمل الفتيان وأحسنها فقال رسول الله أنشدك الله بالذي أنزل التوراة هل تجد في كتابك هذا صفتي ومخرجي فقال برأسه هكذا أي لا، فقال ابنه إي والذي أنزل التوراة إنّا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك وإني أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنك رسول الله فقال رسول الله أقيموا اليهودي عن أخيكم. ثم ولي كفنه والصلاة عليه) . وقد قال ابن كثير هذا حديث جيد قوي له شاهد في الصحيح عن أنس. وأورد ابن كثير حديثا طويلا رواه الحاكم في المستدرك عن هشام بن العاص خلاصته أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعثه مع رفيق له إلى هرقل لدعوته إلى الإسلام وإن هرقل سأله عن صفات رسول الله وعاداته ودعوته ثم صدّق أنه هو النبي الموعود وقال أما والله إن نفسي طابت بالخروج من ملكي وإني كنت عبدا له أشركه في ملكي ثم ما لبث أن مات. وهناك حديث طويل آخر يرويه البخاري ومسلم عن أبي سفيان خلاصته أن النبي بعث مع دحية الكلبي إلى هرقل كتابا بالدعوة إلى الإسلام فأحبّ هرقل أن يعرف أحوال النبي وأخباره فأمر بالبحث عن جماعة من مكة فأتي له بأبي سفيان فسأله عن أحوال النبي وأخباره وعاداته فصدقه في كل جواب عن كل سؤال سأله إياه فقال له إن يك ما تقوله حقا فإنه نبي وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن

أظنه منكم ولو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه وليبلغن ملكه ما تحت قدمي «1» . وأورد الطبري حديثا متسلسلا عن عطاء بن يسار قال: «لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت أخبرني عن صفة رسول الله في التوراة؟ قال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة كصفته في القرآن. يا أيها النبي إنّا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا. وحرزا للأميين. أنت عبدي ورسولي اسمك المتوكّل ليس بفظ ولا غليظ. ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلّا الله ويفتح به قلوبا غلفا. وآذانا صما وأعينا عميا. قال عطاء: ثم لقيت كعبا فسألته فما أخلف حرفا وزاد بعد قوله ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح» . وهناك آيات تندّد باليهود لأنهم كفروا برسالة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن مع أنهم كانوا يعرفون أنهما حق ويستفتحون أي يزهون ويتفاخرون بهما على العرب قبل الإسلام حيث كانوا يقولون لهم إنهم سيكونون معه حزبا واحدا. وكان ذلك حسدا وغيظا مما حسبوه تهديدا لمراكزهم ومصالحهم مثل ما جاء في آيات سورة البقرة هذه: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) حيث ينطوي في الآيات شاهد قرآني صريح على أن اليهود كانوا يعرفون صفات النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم. ولقد روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به

_ (1) التاج ج 4 ص 67- 68. وسنورد نصّ الحديث في سياق تفسير الآية [64] من سورة آل عمران لأن الحديث روي في مناسبتها.

إلّا كان من أصحاب النار» «1» . حيث ينطوي في الحديث تساوق مع القرآن الذي يقرّر أن رسالته لجميع الناس بما فيهم اليهود والنصارى وكون النبي صلّى الله عليه وسلّم موقنا أعمق يقين بأن أسفارهم قد وصفته وبشّرت به وأنهم مأمورون فيها بالإيمان برسالته حين يبعثه الله وأنهم يظلون ملزمين بذلك إلى أبد الدهر. وآيات سورة البيّنة وبخاصة الآية السادسة منها وهي: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) صريحة بأن القرآن يصف كل جاحد لرسالة النبي من أهل الكتاب بعد أن بلغتهم كافرين مستحقين للنار وخالدين فيها كذلك. ومن الجدير بالذكر أن الإسلام ظلّ ينشد في اليهود والنصارى بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم أيضا. فقد كان في بلاد الشام ومصر طوائف كبيرة من اليهود فتضاءل عددها لإقبال الكثير منهم على الإسلام. ولقد كانت النصرانية سائدة في هذه البلاد وفي العراق العربي أيضا فلم يكد ينتهي القرن الهجري الأول حتى دان أكثرية النصارى الكبرى في هذه البلاد بالإسلام. ولقد كانت هذه الأكثرية على مذهب اليعاقبة والنساطرة الذي يقول بوحدة طبيعة المسيح وكونها مزيجا من اللاهوتية والناسوتية. ولقد كانت الدولة الرومانية صاحبة السلطان في بلاد الشام ومصر على مذهب آخر يعرف بالملكاني ويقول بثنائية طبيعة المسيح وكونه إلها كاملا وإنسانا كاملا. وكان بين أهل هذا المذهب وأهل المذهب الأول نزاع وشقاق وقتال. وتعرّض هؤلاء لاضطهاد الدولة التي كانت تدين بالمذهب الثاني، فمن المحتمل كثيرا أن يكون أصحاب المذهب الأول وجدوا تطابقا ما بين مذهبهم وتقريرات القرآن عن المسيح التي منها أنه إنسان وأنه كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه كما جاء في آية سورة النساء [171] فأقبلوا على الإسلام ووجدوا فيه منقذا روحيا وسياسيا لهم في آن واحد. وبعض الأغيار يزعمون أن الذين آمنوا من اليهود والنصارى بعد النبي إنما أسلموا بقوة السيف. وهذا افتراء محض يكذبه إيمان من آمن منهم في حياة

_ (1) التاج ج 1 ص 30.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وخطورة ما احتوته الآية الأولى من مهام الرسالة المحمدية العظمى وبخاصة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستحق أن يكون موضوع تعليق خاص

النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد أن رأوا صدق أعلام نبوته وصدق القرآن ويكذبه احتفاظ فريق من اليهود والنصارى في هذه البلاد عبر الأحقاب الطويلة التي كانت فيه تحت السلطان الإسلامي «1» . الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وخطورة ما احتوته الآية الأولى من مهام الرسالة المحمدية العظمى وبخاصة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستحق أن يكون موضوع تعليق خاص ولقد تكرر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القرآن المكي والمدني بأساليب متنوعة. منها ما هو في صيغة الأمر من الله عزّ وجلّ للمؤمنين كما جاء في آية سورة آل عمران هذه: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) ومنها ما هو في صيغة التنويه بالمؤمنين لأنهم يفعلون ذلك كما جاء في آية أخرى من سورة آل عمران أيضا وهي: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [110] وآيات سورة التوبة هذه: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) والتَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) ومنها بصيغة تفيد أن ذلك سيكون شأن المؤمنين حينما يمكّنهم الله في الأرض كما جاء في آية سورة الحج هذه: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) ومنها بصيغة

_ (1) هناك إيضاحات وتعليقات أخرى في صدد المسيح عليه السلام ستأتي في تفسير سور آل عمران والنساء والمائدة ومريم والزخرف.

التنديد بالمنافقين لأنهم يفعلون عكس ذلك كما جاء في آية سورة التوبة هذه: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) ومنها بصيغة التحذير من اتباع خطوات الشيطان الذي يأمر بالمنكر كما جاء في آية سورة النور هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [21] . ويبدو من هذه الآيات عناية حكمة التنزيل بهذا الأمر وكونه: أولا: من المبادئ القرآنية المحكمة المفروضة على المسلمين في كل ظرف ومكان. ثانيا: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الصفات والخصائص التي يجب أن تتحقق بالمسلمين الصادقين أو تكون مظهرا من مظاهر سلوكهم الناتج عن صدق إسلامهم وإيمانهم وفي هذا ما فيه من روعة وجلال. ولقد روى الترمذي عن أبي هريرة حديثا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم» «1» . مما فيه توكيد لهذا الواجب المفروض على المسلمين بأسلوب آخر وإنذارهم إذا قصّروا فيه. واستنادا إلى القرآن والسنّة يجمع العلماء على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على المسلمين بمختلف الفئات التي يتألفون منها رجالا ونساء وهيئات وحكومات. وإذا لم يقم به من له القدرة والاستطاعة والمجال أثم جميعهم لتقصيرهم في واجب من أهمّ واجبات الشريعة الإسلامية. والكلمتان عامتا المدى. ويمكن أن يقال إن المعروف هو كل ما ورد في القرآن والسنّة النبوية من صفات وأخلاق وأفعال حسنة يجب التزامها والتحلّي بها

_ (1) التاج ج 5 ص 205.

وعملها. وكل ما تعارف المجتمع الإسلامي على أنه حقّ وخير وعدل وبرّ وصالح ونافع وطيب وكرامة. والمنكر هو كل ما ورد في القرآن والسنّة النبوية من صفات وأخلاق وأفعال سيئة يجب اجتنابها وكل ما تعارف المجتمع الإسلامي على أنه شرّ وظلم وباطل وفاسد وضارّ وخبيث ومهانة بحيث يقال بناء على ذلك إن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أجل المبادئ القرآنية الاجتماعية التي من شأنها إصلاح المجتمع وإسعاد الإنسانية وبثّ روح الحق والعدل والخير والبرّ فيه وتقويم ما يكون فيه شذوذ وانحراف واعوجاج وفساد وظلم. وإن عموم الكلمتين ينطوي على حكمة عظيمة الشأن وهو مسايرة هذا المبدأ لجميع الظروف واحتمالات التبدّل والتطوّر فيما يكون خيرا وعدلا وصالحا وشرا وظلما وفسادا وباطلا في كل ظرف ومكان فيما لا يكون فيه نصّ صريح من قرآن وسنّة أو إجماع وتواتر بين المسلمين منذ الصدر الإسلامي الأول. وهذا من مرشحات تعاليم القرآن للخلود. ويتبادر لنا من روح الآيات والحديث النبوي أن هذا الواجب مترتّب على المسلمين جميعهم على اختلاف مراكزهم في المجتمع، مع ملاحظة هامة في صدد ذلك وهي أنه بالنسبة للأمور العامة التي لها صلة بحياة المجتمع والجماعات والتي لا يكفل النجاح فيها إلّا بتضامن الجماعات والتي تحتاج إلى حسن تقدير لما يجب وما لا يجب وما يجوز وما لا يجوز ثم إلى ما يحتاج إلى حسن الاضطلاع بالواجب والمضي فيه يترتّب واجب الأمور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيها على الجماعات والمنظمات الاجتماعية. وبالنسبة للأمور التي لا بدّ لها من الهيمنة والتنفيذ والقوّة للحيلولة دون الشغب والفوضى والعيث في الأرض فسادا أو حمل الناس على العمل النافع الذي فيه مصلحة عامة وردعهم عن العمل الضارّ يترتب هذا الواجب على من بيده السلطان. أما بالنسبة للأمور الأخلاقية والخاصة الواضحة التي لا يخفى وجه الصواب والحق والعرف الصالح والنفع والخير والخطأ والباطل والضرر والشرّ فيها ولا ينجم عن القيام بالواجب نحوها من قبل الأفراد فوضى ولا مفسدة عامة فهي مجال الأفراد أيضا بالإضافة إلى الجماعات والسلطان. فكثير من الأفراد يهملون الالتزام بالآداب العامة والأخلاق والأفعال

والصفات الكريمة والواجبات الاجتماعية الإسلامية. بل ويتعمدون إهمالها والإتيان بما يناقضها. وقد لا يكون أمرهم مكشوفا للجماعات والسلطان وقد لا يكون أمرهم في حاجة إلى جماعات وسلطان. ثم قد يكون هناك مطالب وشؤون متعارف على معروفيتها ومنكريتها ولا تحتاج إلى جماعات وسلطان للحضّ عليها والنهي عنها. ففي مثل هذه الحالة يترتب من دون ريب على الأفراد القادرين على الاضطلاع بالواجب ويكونون آثمين في التنصير فيه. وليس الحديث النبوي الذي أوردناه هو كل ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من أحاديث في هذا الأمر الخطير. فقد روى أبو داود والترمذي عن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحلّ لك ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده. فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة: 78- 79] ثم قال: والله لتأمرن بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر ولتأخذن على يديّ الظالم ولتأطرنّه على الحق أطرا ولتقصرنّه على الحق قصرا أو ليضربنّ الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعننكم كما لعنهم» «1» . وحديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» «2» . وحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن أسامة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرّحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى

_ (1) التاج ج 5 ص 204. (2) المصدر نفسه ص 202- 203.

كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه» «1» . وحديث أورده ابن كثير في سياق تفسير الآية [110] من سورة الأعراف رواه الإمام أحمد والنسائي والحاكم جاء فيه: «قام رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو على المنبر، فقال: يا رسول الله أي الناس خير؟ قال: خير الناس أقرأهم وأتقاهم لله وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرحم» . وفي الأحاديث تشديد على وجوب القيام بهذا الواجب وتنويه بالقائمين به وإنذار للمقصّرين والمدلّسين فيه. وهناك أحاديث أخرى متصلة بالموضوع وإن لم يكن فيها (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) حرفيا يحسن أن تساق في هذا المقام، من ذلك حديث رواه مسلم عن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من نبيّ بعثه الله في أمّة قبلي إلّا كان له من أمّته حواريّون وأصحاب يأخذون بسنّته ويتقيّدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» «2» . وحديث رواه أصحاب السنن عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر أو أمير جائر» «3» . وحديث رواه أصحاب السنن أيضا عن أبي بكر قال: «يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ وتضعونها في غير مواضعها وإنّا سمعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب» » . وحديث رواه أبو داود عن جرير قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه فلا يغيروا إلّا أصابهم الله بعقاب من

_ (1) التاج ج 5 ص 202- 203. [.....] (2) انظر المصدر نفسه. (3) انظر المصدر نفسه. (4) انظر المصدر نفسه.

تعليق على حل الطيبات وتحريم الخبائث ورفع الإصر والأغلال الواردة في الآية الأولى

قبل أن يموتوا» «1» . وحديث رواه أبو داود أيضا عن العرس الكندي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها» «2» . وفي هذه المجموعة من الأحاديث حثّ للمسلمين على الجرأة على كلمة الحقّ للظالم وبذل الجهد في تغيير المنكر وإنكار المعاصي ونهي عن السكوت عليها وإنذار المقصّرين فيه ثم إنذار للمجتمع الذي يكون فيه هذا التقصير من باب ما جاء في آية الأنفال هذه: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [25] . وهكذا يبدو تساوق تام في التلقين بهذا الواجب على مختلف صوره بين كتاب الله وسنّة رسوله كما هو في كل أمر. تعليق على حلّ الطيبات وتحريم الخبائث ورفع الإصر والأغلال الواردة في الآية الأولى هذا، ولقد مرّ في هذه السورة تعليقات حول موضوع حلّ الطيبات وتحريم الخبائث وموضوع عدم تكليف الله المسلمين ما ليس في وسعهم كما مرّ في سور سابقة تعليقات على مدى العقيدة الإسلامية في وحدانية الله تعالى وكمال صفاته وتنزّهه عن كل شائبة وتأويل ومساعدة. وهذه المواضيع الثلاثة من المهمات العظمى التي ندب لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ما ذكرته الآية الأولى التي نحن في صددها فنكتفي بهذا التنبيه دون تكرار وإعادة. ونقول في صدد جملة وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ إن الذي يتمعن في التشريعات والأحكام التعبديّة وغير التعبدية التي وردت حكايتها في أسفار الخروج والعدد واللاويين والتثنية ثم في التشريعات والأحكام التعبدية وغير التعبدية في القرآن والسنّة يدرك

_ (1) التاج ج 5 ص 202- 203. (2) انظر المصدر نفسه.

تعليق على كلمتي التوراة والإنجيل وتمحيص في صدد ما كان متداولا وما هو متداول اليوم في أيدي اليهود والنصارى من أسفار

مدى ما كان في الشريعة الموسوية من شدّة عبّر عنها بالإصر والأغلال وما رفعته الشريعة الإسلامية من ذلك. ولقد عبّر عن هذا في حديث نبوي جاء فيه: «بعثت بالحنيفية السمحة» «1» بالإضافة إلى أحاديث نبوية أخرى في صدد التبشير والتيسير وعدم التنفير والتزمّت أوردناها في تعليقنا على جملة لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها في هذه السورة. وإذا نحن قلنا الشريعة الموسوية فإن هذا ينسحب على النصارى الذين انطوى ذكرهم في الآية أيضا من حيث إن المسيح عليه السلام جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة كما حكته آيات قرآنية عديدة وحكي عنه في الأناجيل قوله: (ما جئت لأنقض الناموس) بقطع النظر عن تقيدهم وعدم تقيدهم بها وعن ما يمكن أن يكون السيد المسيح خففه من تلك التشريعات والأحكام. ولم نر ضرورة إلى إيراد أمثلة من التكاليف الشاقة التعبدية وغير التعبدية الواردة في أسفار العهد القديم لأنها كثيرة ويسهل مراجعتها في هذه الأسفار. تعليق على كلمتي التوراة والإنجيل وتمحيص في صدد ما كان متداولا وما هو متداول اليوم في أيدي اليهود والنصارى من أسفار وبمناسبة ورود كلمتي التوراة والإنجيل في السلسلة نقول بالنسبة للتوراة: إن الكلمة عبرانية بمعنى التعليم والشريعة. وهي معرّبة على صيغة عربية فصحى «2» . والمتبادر أن التعريب سابق للقرآن وأن اللفظ القرآني

_ (1) انظر تفسير الآية في تفسير رشيد رضا. وننبّه على أننا لم نطّلع على هذه الصيغة في ما في أيدينا من مصادر. وقد قرأنا في التاج حديثا رواه البخاري جاء فيه: «أحبّ الدين إلى الله الحنيفية السمحة» ج 1 ص 28. (2) بعض المفسرين ومنهم الطبرسي يحاولون جعل التوراة من جذر عربي هو (وري) من ورى الزند بمعنى إظهار ناره لأن التوراة أظهرت الشريعة. وقد قال الزمخشري إن إرجاعها إلى جذر عربي تكلّف وإنها أعجمية وهو الصواب مع القول إنها معرّبة في صيغة عربية.

جاء كما كان مستعملا قبل نزوله. ولقد وردت الكلمة في القرآن ثماني عشرة مرة. واحدة في سورة مكية ونعني ما جاء في الآية [157] من سورة الأعراف وباقيها في سور مدنيّة. ومنها ما فيه الدلالة الصريحة على أن القصد منها هو كتاب الشريعة الموسوية المنزلة من الله تعالى كما جاء في هذه الآيات: 1- كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [آل عمران: 93] . 2- وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة: 43- 45] . ومنها ما جاء مطلقا وتقريريا كما جاء في آية سورة آل عمران هذه: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ [4] . وننبّه على أن التوراة لم تأت مقرونة بموسى عليه السلام في القرآن. وإن ما جاء مقرونا به هو ألفاظ الكتاب والألواح كما ترى في هذه الآيات: 1- وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ [البقرة: 87] .

2- وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً [هود: 17] . وواضح من الآيات أن المقصود القرآني من الكلمة هو الكتاب المنزل من الله على موسى المحتوي للمبادئ والتعليمات والتشريعات والحدود الربانية. واستعمال اللفظ مفردا يسوغ القول إنه كتاب واحد وإن كان لا يمنع هذا من أن يكون ذا فصول عديدة. هذا في حين أن المتداول بين الأيدي اليوم والذي يسمى (التوراة) ويسمى أيضا باسم (العهد القديم) هو مجموعة ضخمة من أسفار عديدة منفصل بعضها عن بعض بأسماء متنوعة وعددها عند فريق من الكتابيين (الطبعة البروتستانتية) تسعة وثلاثون وعند فريق آخر (الطبعة الكاثوليكية) ستة وأربعون. وهي عائدة إلى حقب عديدة بدءا من تاريخ خلق الكون وآدم وحواء ونوح وطوفانه وأولاده وأفسالهم إلى إبراهيم وذريته إلى موسى وبعده إلى أوائل عصر عيسى عليهم السلام. وأولها (سفر التكوين) هو الذي يحتوي خبر خلق الكون وآدم ونوح وإبراهيم وأولادهم. وليس فيه دلالة على أنه من وحي الله وإن كان فيه حكاية كلام منسوب إلى الله وحكاية لما كان من اتصالات بين الله والأنبياء المذكورين فيه. وليس فيه دلالة على أنه من تبليغ موسى أو إملائه أو تبليغ وإملاء شخص آخر. وفيه ما قد يفيد أنه كتب بعد موسى وبأسلوب الحكاية وبأقلام عديدة لما فيه من تناقض وأشياء منسوبة إلى الله وأنبيائه يتنزهون عنها ومن أحداث حدثت في زمن موسى وبعده حينما طرأ بنو إسرائيل بقيادة موسى وخلفائه على سيناء وشرق الأردن وغربه في نحو القرن الثالث عشر قبل الميلاد وبعده. وفيه ما قد يكون أساطير قديمة كانت متداولة. وفيه مبالغات ومفارقات كثيرة. وكل ذلك يسوغ القول إن هذا السفر كتب بعد ذلك وتأثر به وإن ما فيه مما يعود إلى قبل موسى هو ذكريات كانت متداولة فيها الغثّ والسمين والخيال والحقيقة. ولا يبعد أن تكون واردة في مخطوطات قديمة كلها أو بعضها.

ومن الأدلة القوية على أن السفر كتب بعد طروء بني إسرائيل على فلسطين وتأثره بأحداثهم فيها أن الوعود المعزوّة فيه إلى الله عزّ وجلّ يجعل الأرض لإبراهيم ونسله ثم لإسحق ونسله ثم ليعقوب ونسله فطورت حسب مجرى الأحداث. ولقد دوّن كتاب السفر وعودا متناقضة لإبراهيم ونسله ثم استدركوا فجعلوا هذه الوعود لإسحق فقط دون أولاد إبراهيم الآخرين من زوجتيه هاجر أم إسماعيل وقطورية أم أولاد عديدين آخرين. لأنهم أرادوا أن يثبتوا حق الجدّ الإسرائيلي فقط وهو إسحق. ثم استدركوا فجعلوا هذه الوعود ليعقوب فقط دون عيسو ابن إسحق الآخر لأنهم أرادوا أن يثبتوا حق الجد الإسرائيلي فقط وهو يعقوب ... كذلك من الأدلة القويّة حكاية لعن نوح لكنعان في الإصحاح التاسع من السفر. حيث يحكي الإصحاح أن نوحا تكشّف في خبائه فظهرت عورته فرآها ابنه الصغير حام فأخبر أخويه يافث وسام بذلك فدخل هذان للخباء وغطوا عورة أبيهما. ولما أفاق وعلم بما فعل ابنه الصغير هتف قائلا: (ملعون كنعان عبدا يكون لعبيد إخوته. تبارك إله سام. وليكن كنعان عبدا له. ليرحب الله بيافث وليكن كنعان عبدا له) وكنعان هو ابن حام كما جاء في الإصحاح العاشر ولكنه ليس ابنه الوحيد بل هو رابع أولاده. ولم يكن قد ولد حينما رأى حام عورة أبيه وأخبر أخويه بذلك. فإذا كان ذنب يستحقّ لعنته فهو ذنب حام ولم يكن كنعان مذنبا. ولكن العداء الذي نشب بين بني إسرائيل والكنعانيين أهل أرض غرب الأردن واستمرّ شديدا دمويا مدة طويلة أوحى لكتّاب السفر بتسجيل ما سجلوا دون أن ينتبهوا إلى الخطأ الذي يقعون فيه وهو لعن ولد لم يولد بسبب ذنب اقترفه أبوه بزعمهم. وتسجيل كون نسل هذا الولد مكرسا ليكون عبدا لأبناء سام الذي من ذريته إبراهيم ثم إسحق ثم يعقوب ثم بنو إسرائيل كما جاء في الإصحاح الحادي عشر وما بعده ويأتي في الترتيب بعده أسفار (الخروج) و (الأحبار) الذي يسمى أيضا بسفر (اللاويين) و (العدد) و (تثنية الاشتراع) وهي عائدة إلى حقبة حياة موسى وتتضمن حكاية أحداث هذه الحقبة مع كثير من التشريعات والتعليمات

والوصايا الربانية الطقسية والأخلاقية والاجتماعية والقضائية والمعاشية والصحية والإنذارات والتبشيرات بأسلوب الحكاية أيضا. وسفر الأحبار وحده قاصر على التشريعات والتعليمات والوصايا والإنذارات والتبشيرات المذكورة. والأخرى مزيجة من ذلك ومن التاريخ. وليس فيها ما يفيد أنها من إملاء موسى أو أنها كتبت في عهده بل فيها ما يفيد أنها كتبت بعده وبأقلام عديدة وفي أزمنة مختلفة وتأثرت بالوقائع والأحداث التي حدثت بعد موسى واختلطت الحقائق فيها بالخيال والمبالغات والمفارقات. ونسب فيها إلى الله ورسله ما يتنزّهون عنه. ولقد جاء بعض ما فيها مكررا للبعض الآخر مع كثير من التباين أحيانا زيادة ونقصا وعبارة وموضوعا مما فيه الدلالة الحاسمة على أنها كتبت بأقلام عديدة وفي أزمنة مختلفة واستقاها كتّابها من مصادر مختلفة. ولقد جاء في سفر (تثنية الاشتراع) مثلا ذكر موت موسى ودفنه في الوادي في أرض مؤاب ثم أعقب الكاتب ذلك بقوله: (ولم يعرف قبره إلى يومنا هذا) حيث يفيد أن كتابة الجملة وبالتالي كتابة السفر إنما كانت بعد وفاة موسى بمدة طويلة. ولقد ورد في سفري الأحبار والتثنية مثلا إنذار بما وقع فعلا على بني إسرائيل بعد موسى بمدة طويلة من غزوات وضربات خارجية ومن انحرافات دينية وأخلاقية ارتكس فيها بنو إسرائيل ومن إجلاء وتشتيت شمل لهم بين الأمم ثم وعد بتحنين قلب الربّ وإرجاعهم مرة أخرى وجمع شملهم بعد التبديد والتشتيت وهو ما كان فعلا مما لا يعقل أن يذكر إلّا بعد وقوعه. ويأتي بعد الأسفار الخمسة مما سمته التاريخية غالبة أسفار يشوع والقضاة وراعوث وصموئيل الأول وصموئيل الثاني (والأخيران يسميان في الطبعة الكاثوليكية بسفري الملوك الأول والملوك الثاني) والملوك الأول والملوك الثاني (وهذان يسميان في الطبعة المذكورة بسفري الملوك الثالث والملوك الرابع) وأخبار الأيام الأول وأخبار الأيام الثاني وعزرا ونحميا واستير وطوبيا ويهوديت (والأخيران من زوائد الكاثوليكية وترتيبها قبل سفر استير) وسفر المكابيين الأول وسفر المكابيين الثاني (وهذان من زوائد الكاثوليكية وهما في الترتيب آخر أسفار العهد القديم) . وتؤرخ هذه الأسفار سيرة بني إسرائيل من بعد موسى إلى ما بعد سبي

بابل إلى زمن الحكم اليوناني قبل الميلاد المسيحي. وقلنا إن السمة التاريخية غالبة عليها لأنها لا تخلو بدورها من سمة دينية وعظيّة وإنذارية. ومن نشاط أنبياء وتبليغاتهم عن الله إلخ إلخ. وتمتزج الحقائق فيها بالخيال والمبالغات والمفارقات. وفيها دلالات كثيرة على أنها كتبت بعد مدة من الأحداث والوقائع المذكورة فيها وأنها تأثرت بها. وأنها كتبت بأقلام متعددة في أزمنة مختلفة. ولقد جاءت حكاية الأحداث في بعضها مباينة لما جاء في بعض آخر أو مناقضة له أو زائدة عليه أو ناقصة فيه مما يدلّ على ذلك. بل وفي بعضها ما ذكر في أسفار التكوين والخروج والعدد مع نقص وزيادة ومباينة. ولقد جاء في الإصحاح الثالث من أخبار الأيام الأول مثلا سلسلة ملوك يهوذا إلى آخر صدقيا الذي قتله نبوخذنصر. وفي الإصحاح التاسع منه هذه الجملة بما فعله نبوخذنصر: (وسبى يهوذا إلى بابل لأجل خيانتهم) وفي الإصحاح السادس والثلاثين من سفر أخبار الأيام الثاني هذه الجملة: (وفي السنة الأولى لكورش ملك فارس نبّه الربّ روح كورش فأطلق نداء في كل مملكته قائلا إن الربّ أعطاني جميع ممالك الأرض وأوصاني أن أبني له بيتا في أورشليم التي في يهوذا) مما فيه دلالة على أن سفر أخبار الأيام الأول كتب في نهاية دولة يهوذا والثاني بعد السبي. ولقد ذكر سفر الملوك الثاني- الرابع في الكاثوليكية- سيرة ملوك دولتي إسرائيل ويهوذا إلى نهايتها بما في ذلك نسف نبوخذنصر لدولة يهوذا وسبي اليهود إلى بابل كما ذكر بعض أحداث جرت بعد السبي أو عقبه مما فيه دلالة قاطعة على أنه كتب بعد نهاية دولة يهوذا بل وبعد السبي. ولما كان هذا السفر هو استمرار لسيرة ملوك دولتي يهوذا وإسرائيل التي بدأ بها في السفر الأول فالكلام المذكور ينسحب على هذا السفر أيضا كما هو المتبادر. ولا تخلو الأسفار الأخرى من التي تؤرخ بعض أحداث ما قبل السبي من دلائل وقرائن مماثلة تسوغ القول إنها كتبت بعد السبي مثلها. وإلى جانب هذه الأسفار أسفار عديدة أخرى تعود كذلك إلى حقبة ما بعد موسى إلى ما بعد السبي إلى عصر المسيح عليه السلام تغلب عليها السمة الدينية الجز الثاني من التفسير الحديث 31

بأسلوب الابتهالات والتسبيحات والحكم والمواعظ والإنذار والترهيب والتبشير والترغيب والتنبؤ والرؤى على ألسنة أصحابها الذين يغلب أن يكونوا أنبياء وهي: المزامير والأمثال والجامعة ونشيد الأنشاد ونبوءة أشعيا وأرميا ومراثي أرميا ونبوءة بارول (وهذا من زوائد الكاثوليكية) ونبوءة حزقيال ونبوءة دانيال ونبوءة هوشع ونبوءة يوئيل ونبوءة عاموس ونبوءة عوبيديا ونبوءة ميخا ونبوءة تحوم ونبوءة حبقوق ونبوءة صقنا ونبوءة حجاي ونبوءة زكريا ونبوءة ملاخي. ومع سمتها الغالبة المذكورة فإنها تمثّل ناحية هامة من تاريخ وحياة بني إسرائيل السياسية والاجتماعية والأخلاقية. وعبارة بعضها كالنار شدّة وقسوة. وفي بعضها ندب وعويل على ما حلّ في بني إسرائيل وتنديد بأخلاقهم وانحرافاتهم بأسلوب قارع. وتبشير مع ذلك برحمة الله بهم وإنذار قاصم للأمم والبلدان الأخرى. وفيها ما يدلّ على أنها كتبت بعد موت أصحابها بمدة طويلة من ذكريات ومسموعات ومحفوظات متداولة. ولقد ورد مثلا في الإصحاح (45) من سفر نبوءة أشعيا الذي يستفاد من عباراته أنه عاش في عهد ملوك يهوذا (عزيا ويوثام وأحاز وحزقيا) اسم كورش ملك الفرس الذي تغلّب على مملكة بابل وفيه هذه الجملة خطابا لسبي اليهود في بابل الذين سباهم نبوخذنصر: (اخرجوا من بابل واهربوا من أرض الكلدانيين) مما فيه الدلالة على أن هذا السفر كتب بعد السبي وبالتالي بعد وفاة أشعيا المنسوب إليه بمدة طويلة. ومن بين الأسفار العائدة إلى ما بعد موسى سفران لا يبدو لهما صلة بتاريخ وحياة بني إسرائيل. وهما سفرا (أيوب) و (نبؤة يونان) . الأول يتضمن سيرة النبي أيوب المذكورة في القرآن «1» بإشارات خاطفة ولكن متطابقة. وقد قال عنه السفر إنه كان في أرض عوص. والثاني هو سيرة يونان بن أمتاي في نينوى وهو على الأرجح النبي يونس المذكورة سيرته في القرآن بإشارات خاطفة ومتطابقة إجمالا مع ما جاء في هذا السفر.

_ (1) انظر سور الأنبياء وص بالنسبة للنبي أيوب وسور الصافات والقلم والأنبياء بالنسبة للنبي يونس.

وهناك سفران آخران فيهما مواعظ وحكم وهما (الحكمة) و (يشوع بن شيراخ) وهما من زوائد الكاثوليكية. ولا يبدو فيهما ما يدلّ على أن لهما صلة بحياة وتاريخ بني إسرائيل. وواضح من كل ما تقدم أن اسم (التوراة) المذكورة في القرآن والتي يلتزم المسلمون بالإيمان بأنها من كتب الله أو الكتاب الذي أنزله الله على موسى لا يمكن أن يصدق على مجموعة أسفار العهد القديم وعلى أي سفر منها. ولقد جاء في الإصحاح (24) من سفر الخروج أول الأسفار الأربعة العائدة إلى حقبة حياة موسى الذي فيه خبر رسالة موسى عليه السلام إلى فرعون وخروج بني إسرائيل من مصر وحياتهم في سيناء هذه العبارة (فجاء موسى- بعد استماعه كلام الله في الطور- وقصّ على الشعب جميع كلام الربّ وجميع الأحكام فأجابه الشعب بصوت واحد وقالوا جميع ما تكلم به الربّ نعمل به. فكتب موسى جميع كلام الربّ وبكّر في الغداة وبنى مذبحا في أسفل الجبل ونصب اثني عشر نصبا لاثني عشر سبط إسرائيل وبعث فتيان بني إسرائيل فأصعدوا محرمات وذبحوا ذبائح سلامة من العجول للربّ. فأخذ موسى نصف الدم وجعله في طسوت ورشّ النصف الآخر على المذبح وأخذ العهد فتلا على مسامع الشعب فقالوا كل ما تكلم الربّ به نفعله ونأتمر به فأخذ موسى الدم ورشّه على الشعب وقال هو ذا دم العهد الذي عاهدكم الربّ به على جميع هذه الأقوال. ولقد جاء في الإصحاح (31) من سفر تثنية الاشتراع وهو رابع أسفار حقبة موسى وفيه تكرار لكثير مما جاء في الأسفار السابقة ولا سيما مسيرة بني إسرائيل للتذكير مع الإنذار والتبشير هذه العبارة: (وكتب موسى هذه التوراة ودفعها إلى الكهنة بني لاوى حاملي تابوت العهد) وهذه العبارة: (ولما فرغ موسى من رقم كلام هذه التوراة في سفر بتمامها أمر اللاويين حاملي تابوت عهد الربّ قائلا خذوا هذا السفر واجعلوه إلى جانب عهد الربّ إلهكم في التابوت فيكون ثم عليكم شاهدا لأني أعلم تمردكم وقسوة قلوبكم. فإنكم وأنا في الحياة معكم اليوم قد تمردتم على الربّ فكيف بعد

موتي) . وهذه النصوص تفيد قطعا أن موسى كتب تبليغات الله ووصاياه وتعاليمه في كتاب اسمه التوراة وسلّمه للكهنة ليضعوه في تابوت العهد. وهو صندوق كان يحفظ فيه الآثار المقدسة ويوضع في قدس أقداس المعبد. وعهد الربّ المذكور آنفا في عبارة السفر يمكن أن يكون ألواح الحجارة التي كتب الله عليها بعض وصاياه. وقد وصفت في سفر الخروج بوصف (كلام العهد الكلمات العشر) فقد جاء في الإصحاح (24) من هذا السفر بعد العبارة التي أوردناها قبل هذه العبارة: (قال الربّ لموسى اصعد إلى الجبل وأقم هنا حتى أعطيك لوحي الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعليمهم) . وفي الإصحاح (32) من السفر نفسه هذه العبارة: (ثم انثنى موسى ونزل من الجبل ولوحا الشهادة في يده. لوحان مكتوبان على جانبيهما. من هنا ومن هناك كانا مكتوبين. واللوحان هما صنعة الله والكتابة هي كتابة الله منقوشة على اللوحين) . ثم يذكر الإصحاح خبر غضب موسى حينما رأى العجل الذي صنعه بنو إسرائيل في غيابه ورميه اللوحين وكسرهما في أسفل الجبل. وفي الإصحاح (34) خبر أمر الله لموسى بأن ينحت لوحين كالأولين الذين كسرهما ففعل وصعد إلى الجبل وأقام عند الربّ أربعين يوما وأربعين ليلة لم يأكل خبزا ولم يشرب ماء فكتب على اللوحين كلام العهد الكلمات العشر ونزل وهما في يده. والمتبادر من العبارة أن موسى سلّم اللوحين إلى الكهنة من بني لاوى ليضعوهما في تابوت العهد وسلّمهم سفر التوراة ليضعوه إلى جانبهما في التابوت. ولقد ذكر في الإصحاح الثامن من سفر الملوك الأول- الثالث في الكاثوليكية- ما يفيد أن سفر التوراة قد فقد حيث ذكر أنه لم يكن في تابوت العهد الذي نقله سليمان من مدينة داود إلى المعبد الجديد الذي أنشأه إلّا اللوحان الحجريان. ومع ذلك فإن الإصحاح (22) من سفر الملوك الثاني- الرابع في الكاثوليكية- ذكر خبر العثور على سفر التوراة عليه في بيت الربّ أثناء ترميمه في زمن يوشيا ملك يهوذا فأثار ذلك بني إسرائيل وجعلهم يقيمون الاحتفالات والأفراح العظيمة. ولقد ذكر في الإصحاح الثامن من سفر نحميا الذي يؤرخ بعض أحداث حقبة بعد السبي وبعد عودة جماعة من المسبيين من بابل إلى أورشليم في

زمن الحكم الفارسي أي حوالي القرن الخامس قبل الميلاد أن الشعب العائد اجتمع في ساحة المعبد الذي أعادوا بناءه بعد تدميره من قبل نبوخذنصر وطلب من عزرا إحضار سفر توراة موسى فأحضره وأخذ يتلوه أمام الجماعة حيث يفيد هذا أن هذا السفر ظلّ متداولا في أيديهم إلى ما بعد السبي. وآيات سورة آل عمران [98] وسورة المائدة [43- 45 و 65 و 66 و 68] التي أوردناها قبل تسوغ القول إن هذا السفر ظلّ متداولا إلى زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنه هو الذي كان يعنيه القرآن في الآيات. ولم يصل إلى عهدنا حيث يكون قد فقد أثناء ما كان يقع على اليهود من ضربات وتشريدات. ولقد قلنا قبل إن في أسفار الخروج والعدد والتثنية تبليغات ووصايا كثيرة متنوعة مبلغة من الله تعالى لموسى وإن سفر الأحبار قاصر على ذلك وإن كلها أو جلّها جاء بأسلوب الحكاية وبينها تباين وتناقض وزيادة ونقص وتكرار واختلاف في العبارات والأساليب. وفيها أقوال وأفعال منسوبة إلى الله ورسوله يتنزّهان عنها بحيث يمكن القول إن كتّابها قد استقوا ما كتبوه من مصادر متنوعة وإن كل واحد كتب ما كتبه مستقلا عن الآخر وفي ظرف وزمن غير الآخر وأنهم لم ينقلوا ما فيه من تبليغات الله من سفر التوراة مباشرة. وبحيث يمكن القول إن ما جاء فيها مما يجوز أن يكون من هذا السفر قد سجله كتّابها من روايات ومحفوظات أو مدونات شيبت بما ذكرناه من تباين وتناقض واختلاف وتحريف ولا يمكن والحالة هذه اعتبارها بديلة عن سفر توراة موسى المفقود فضلا عن إطلاق اسم التوراة عليها ويكون في هذا الإطلاق المتداول تجوّز كبير فضلا عن التجوّز الأكبر في إطلاق ذلك على مجموعة أسفار العهد القديم. ونستطرد إلى القول إن في القرآن قرائن عديدة تساعد على القول إن الأسفار الخمسة الأولى من أسفار العهد القديم وبعض الأسفار العائدة إلى تاريخ بني إسرائيل وأنبيائهم بعد موسى المتداولة اليوم كانت في أيدي اليهود في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى جانب سفر التوراة. ومن هذه القرائن التوافق أو التشابه بين ما ورد

في القرآن من قصص خلق آدم وحواء وخروجهما من الجنة وابني آدم ونوح وإبراهيم ولوط ويعقوب ويوسف وإخوته وبين ما ورد من ذلك في سفر التكوين وبين ما ورد في القرآن من قصص موسى وفرعون وسيرة بني إسرائيل في حياة موسى وبعض الشرائع الموسوية وبين ما ورد في أسفار الخروج والأحبار والعدد والتثنية. وبين ما ورد في القرآن من قصص أيوب ويونس وما ورد من ذلك في سفري أيوب ويونان وبين ما ورد في القرآن من قصص طالوت وجالوت وداود وسليمان وحروب بني إسرائيل مع جالوت وقومه وقصة الخصمين مع داود وملك سليمان وزيارة ملكة سبأ ورسالة النبي إلياس في صدد عبادة البعل والإشارة إلى تدمير دولتي اليهود وبين ما ورد من ذلك في أسفار صموئيل والملوك وأخبار الأيام. وليس ما يمنع أن تكون الأسفار الأخرى المتداولة اليوم مما كان في أيديهم بطبيعة الحال ويمكن القول بجزم إن مزامير داود كانت من جملة ذلك لأن القرآن قد ذكرها بوصفها الزبور. على أن هناك أشياء كثيرة وردت في القرآن من هذه القصص ولم ترد في الأسفار المتداولة ومنها ما ورد في القرآن والأسفار متغايرا في الجزئيات بل وفي الصور المهمة. فليس في سفر التكوين مثلا ما ورد في القرآن من أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم وعصيان إبليس والموسوس لآدم وحواء في السفر هو الحية في حين أنه في القرآن إبليس. وليس في السفر ما في القرآن من قصص إبراهيم مع قومه وتخريبه لأصنامهم وتظن في النجوم وحجاجه مع قومه ومحاولتهم إحراقه في النار وإسكان بعض ذريته عند بيت الله المحرّم أي مكة واشتراك إبراهيم وإسماعيل في بناء الكعبة وليس في السفر ما في القرآن من محاورة بين نوح وابنه الكافر وعدم ركوبه في السفينة وغرقه ومحاورة نوح مع الله تعالى في ذلك. وليس في السفر مما في القرآن من تمزيق امرأة العزيز قميص يوسف ولا كلام النسوة ودعوة امرأة العزيز إياهن وتقطيعهن أيديهن. وليس في أسفار الخروج والعدد والتثنية التي فيها قصص موسى وفرعون وبني إسرائيل بعد خروجهم من مصر وحياتهم في سيناء ما في القرآن من خبر سحرة فرعون والتقاف الثعبان لحبالهم وعصيهم وسجودهم وإيمانهم ومحاورتهم مع فرعون، ولا غرق فرعون

وجنوده حينما خرجوا لمطاردة بني إسرائيل. والقرآن يذكر أن الذي صنع العجل لبني إسرائيل هو السامري في حين أن سفر الخروج يذكر أنه هرون. وليس في هذه الأسفار ما ورد في القرآن من خبر أمر موسى قومه بذبح البقرة ومحاورته معهم ولا أمر الله لهم بدخول الباب سجدا وقولهم حطة ومخالفتهم لهذا الأمر ولا خبر عدوانهم في السبت ومسخهم قردة. وليس في الأسفار التي تذكر قصص داود وسليمان ما ورد في القرآن من تسخير الله الشجر والطير والحديد لداود وتسخير الريح والجن والطير لسليمان. ولا قصة الهدهد. ورسالة سليمان لملكة سبأ وإسلامها وإحضار عرشها بلمحة البصر من قبل الذي عنده علم من الكتاب. ويلمح بعض الفروق في جزئيات ما ورد في القرآن وما ورد في سفري يونان وأيوب أيضا. وفي القرآن إشارات عديدة إلى ما كان من تكذيب اليهود لأنبيائهم وقتلهم إياهم. وليس في الأسفار المتداولة شيء صريح بذلك. ونذكر هذه الأمثال من قبيل التمثيل لا الاستقصاء فهناك أمور كثيرة أخرى في صدد آدم وابنيه ونوح وإبراهيم ولوط ويوسف وإخوته وموسى وفرعون وبني إسرائيل وداود وسليمان وردت في القرآن ولم ترد في الأسفار أو وردت في القرآن مباينة قليلا أو كثيرا لما ورد في الأسفار. ونحن نعتقد أن ما ورد في القرآن ولم يرد في الأسفار المتداولة أو ورد فيها مباينا لما ورد فيه قد ورد في أسفار أخرى كانت متداولة بين أيدي اليهود لم تصل إلينا. وهذه ظاهرة تثبتها الأسفار المتداولة التي ورد فيها أسماء أسفار عديدة ليست بين الأسفار المتداولة. ففي الإصحاح (12) من أخبار الأيام الأول مثلا هذه الجملة: (وأمور رحبعام الأولى والأخيرة أما هي مكتوبة في أخبار شمعيا النبي وعدو الرائي) وفي الإصحاح العاشر من سفر يشوع هذه الجملة: (فدامت الشمس ووقف القمر حتى انتقم الشعب من أعدائه. أليس هذا مكتوبا في سفر ياشر) . وفي سفر الملوك الأول «1» هذه الجملة: (وأمور سليمان وكل ما صنع وحكمته أما هي في سفر أمور

_ (1) أو الثالث في النسخة الكاثوليكية.

سليمان) وفي الإصحاح التاسع من أخبار الأيام الثاني هذه الجملة: (وبقية أخبار سليمان الأولى والأخيرة مكتوبة في كلام ناثان النبي ونبوة أخيا الشيلوتي وزؤي عدو الرائي) وفي الإصحاح (27) من أخبار الأيام الأولى هذه الجملة: (ولم يدوّن العدد في سفر أخبار الأيام للملك داود) . فأسفار شمعيا وعدو وياشر وأمور سليمان وناثان وأخيا وأخبار الأيام للملك داود ليست بين الأسفار المتداولة اليوم. يضاف إلى هذا أنه كثيرا ما جاء في أسفار الملوك هذه الجملة: (وبقية أمور الملك فلان إما هي مكتوبة في سفر أخبار الأيام لملوك يهوذا أو لملوك إسرائيل) وليس بين الأسفار ما يحمل هذه العناوين وليس في أسفار أخبار الأيام المتداولة شيء مما أريد إرجاع الكلام إليه. والعبارة قد تفيد أنه كان لكل من ملوك إسرائيل ويهوذا- دولتي اليهود بعد سليمان- أسفار باسم أسفار ملوك إسرائيل وأسفار باسم أخبار الأيام لملوك إسرائيل وأسفار باسم أسفار ملوك يهوذا وأسفار باسم أخبار الأيام لملوك يهوذا. وفي كتاب ضخم كتبه الأستاذ الحداد بعنوان «دروس قرآنية» استعرض فيه جميع سور القرآن وفيه تنبيهات كثيرة إلى أن ما ورد في القرآن مما لم يرد في الأسفار المتداولة أو ورد فيه مباينا لما ورد فيها قد ورد في كتاب التلمود أو في أجزاء تفسير اليهود للتلمود والأسفار المعروفة باسم مدراش كما ورد في القرآن. ونعرف يقينا أن التلمود كتب بعد الميلاد المسيحي قبل زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم والكتب الأخرى منها ما كتب في هذه الحقبة ومنها ما كتب بعدها. وعلى كل حال فالمتبادر أن يكون كتابها قد استقوا ما أوردوه مما هو متطابق مع القرآن من أسفار وقراطيس قديمة لم تصل إلينا. ولقد كان القرآن يتلى علنا ويسمعه اليهود. ولم يرو أحد أنهم اعترضوا أو كذبوا ما ورد في القرآن مما لم يرد في الأسفار المتداولة اليوم التي كانت متداولة أو ورد فيها مباينا لما ورد في القرآن مما فيه قرينة أو دلالة على أنهم يسمعون أمورا متداولة بينهم، بل وفي القرآن شهادة لهم صراحة ولأهل الكتاب والعلم الذين هم من عدادهم بصحة القرآن وكونه منزلا من الله وفرحهم به وإيمان من استطاع أن يتفلّت من عقده ومآربه منهم كما جاء في هذه الآيات:

1- وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ [آل عمران: 199] . 2- لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ «1» وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً [النساء: 162] . 3- الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ [الأنعام: 20] . 4- أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [الأنعام: 114] . 5- الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الأعراف: 157] . 6- وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الرعد: 36] . 7- قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [الإسراء: 107- 109] . 8- الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) [القصص: 52- 53] . 9- وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [العنكبوت: 47] . وفي الآيات فضلا عن الدلالة التي أردناها دلالة على أن الكتّاب الذين منهم

_ (1) السلسلة في حقّ اليهود.

اليهود سمعوا من القرآن ما يتطابق مع عقائدهم وكونه يدعوهم إلى الإيمان به وبالرسول الذي أنزل عليه فاستجابوا وآمنوا ... ولقد تعرّض الأستاذ الحداد في كتبه بأساليب ومناسبات عديدة ومتنوعة بدءا من الكتاب الأول رقم (1) المعنون بعنوان «الإنجيل في القرآن» لمسألة التحريف والتبديل في التوراة «1» ليردّ بذلك على الذين يقولون إن اليهود حرّفوا وبدّلوا وأسقطوا وأخفوا وكتموا فيها استنادا إلى آيات قرآنية عديدة منها ما يلي: 1- أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 75] . 2- فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [البقرة: 79] . 3- إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ [البقرة: 174] . 4- وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران: 78] . 5- مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ [النساء: 46] . 6- فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة: 13] .

_ (1) كلام الحداد شمل التوراة والإنجيل. وقد اقتصرنا في الكلام هنا على التوراة لأنها هي موضوع البحث في هذه النبذة.

7- يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [المائدة: 15] . 8- يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ [المائدة: 41] . 9- وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً [الأنعام: 91] . وقال كلاما طويلا خلاصته أن التوراة كلام الله والقرآن صريح بأن كلام الله لا يبدّل حيث جاء في سورة الأنعام هذه الجملة: وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ في الآية [34] وهذه الجملة وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ في الآية [115] وفي سورة الكهف هذه الآية: وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ في الآية [27] فيكون التبديل فيها مستحيلا بنصّ القرآن. وإن القرآن قد نوّه بالتوراة وبالذين يتلونها حقّ تلاوتها تنويها يدلّ على أنها كانت في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم كما أنزلها بدون تحريف وتبديل. وقد جاء هذا في آية سورة البقرة هذه الآية الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [121] وفي آيات سورة المائدة [42 و 43 و 66 و 68] التي أوردناها في مطلع البحث. ثم صرف كلمة التحريف المنسوب إلى اليهود إلى معنى تحويل وتأويل الآيات القرآنية بغير قصدها الصحيح. وتعليقا على ذلك نقول: 1- إن لِكَلِماتِ اللَّهِ التي في آيات الأنعام [34 و 115] والكهف [27] لا تعني كلام الله في الكتب الإلهية وإنما تعني تقدير الله وحكمه وقضاءه. وقد كنّا

نظن أن هذا لا يصحّ أن يغيب عن الأستاذ الحداد. 2- إن البشر هم الذين يكتبون ألفاظ كتب الله على الورق ويحفظونها في صدورهم. ولا يمكن أن يكابر عاقل في جواز وقوعهم في الخطأ حين يكتبونها على الورق ويقرؤونها من حفظهم فيبدلوا ويغيروا فيها سواء أكان ذلك بقصد أم بغير قصد. وهذا ما يقع لكل الناس في كل وقت من مسلمين ونصارى ويهود. وقد وقع لنا على كثرة ما قرأنا القرآن وكتبناه. ولا بد من أنه وقع للأستاذ حداد. وكنا نظن أن هذا لا يفوته. ولا يخلّ هذا في حقيقة بقاء كلام الله المنزل على رسله في كتبه محتفظا بصحته حكما ولو أخطأ الناس في كتابة ألفاظه على الورق وتلاوته من ذاكرتهم وبدّلوا أو غيروا فيها. 3- إن كلمة التحريف في أصلها تعني تغيير وتبديل الحروف والألفاظ. ومع ذلك فمن الممكن التسليم بصواب القول إنها قد تكون في معنى صرف الكلام وتأويله بغير المقصد الحق الصحيح. غير أن هذا ليس ذا جدوى في الصدد الذي يساق فيه بعد الواقع المشروح في الفقرة السابقة التي لا يمكن أن يكابر فيه عاقل والذي يسوغ التقرير حتما بأن كلمات التوراة يمكن أن يخطئ كاتبوها حينما يكتبونها على الورق وقراؤها حينما يتلونها من ذاكرتهم فيغيّروا ويبدّلوا. 4- ولقد استدللنا في ما سبق بالآيات القرآنية على أن التوراة التي احتوت ما بلّغه الله لموسى من وصايا وتشريعات كانت موجودة في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقد نوّه بها القرآن ووصفها بأن فيها نورا وهدى. وطالب بالاحتكام إليها وطالب اليهود بإقامتها والتزام ما فيها. ونوّه بالذين يتلونها حقّ تلاوتها حيث يمكن أن يفيد ذلك أنها كانت كما أنزلها الله بدون تحريف وتبديل. ونحن في هذا متفقون مع الأستاذ الحداد الذي يذكره في معرض التدليل. غير أن هذا ليس من شأنه أن يمنع أن يكون اليهود في زمن النبي وقبله وبعده كانوا حينما ينسخونها من الأصل وحين يتلونها من ذاكرتهم يخطئون في كلمات كثيرة أو ينسونها أو يخفونها أو يكتمونها. على أن هذه التوراة هي مفقودة. فيكون الكلام في أمرها في صدد شيء لم

يعد موجودا مهما كان من أمر. ولم يعد إثبات صحتها بالتالي وعدم تحريفها وتبديلها موضوع نظر وجدل. 5- ومن الحق أن ننبّه على أن هذا لا ينقض ما قلناه قبل من احتمال تغيير وتبديل وتناقض وتباين وسقوط وإهمال في ما هو وارد في أسفار الخروج والأحبار والعدد وتثنية الاشتراع من حكاية تبليغات الله ووصاياه لموسى عليه السلام على ما شرحناه قبل. ولقد تساءل الأستاذ عمّا إذا كان هناك تحريف وتبديل في الكتاب المقدّس. وهذا الاصطلاح يطلق على مجموعة أسفار العهد القديم. ومجموعة أسفار العهد الجديد معا المتداولتين بين الأيدي اليوم وهو إطلاق مستحدث وحاول أن يسحب ما قاله من استحالة التحريف والتبديل في التوراة التي كانت موجودة في زمن النبي على الكتاب المقدس الذي منه مجموعة أسفار العهد القديم أيضا وكرر ما قاله بسبيل إثبات عدم تحريف التوراة في صدد ذلك. وكلامه يفيد أنه يقصد الأسفار المتداولة. وقد زاد على ذلك قوله- وهذا يؤيد هذا القصد- إن هذه الأسفار كانت مكتوبة على رقوق قديمة قبل النبي صلّى الله عليه وسلّم بمدة طويلة. وأنها قد طبعت نقلا عن هذه الرقوق طبقا لأصلها فلا يمكن أن يكون قد طرأ عليها تبديل أو تحريف أو تحوير أو زيادة أو نقص في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم وقبله وبعده. وجميع نسخها التي وصلت إلينا متماثلة وهذا مما يدعم ذلك. وهذا الكلام ليس من شأنه أن ينفي أن في الرقوق الأصلية ما نبهنا على ما في المتداول من نسخها الآن من مباينات ومناقضات ومبالغات ومفارقات وخيالات. وليس من شأنه أن يمنع أن يكون كتّابها الأوّلون كتبوها على ما فيها من كل ذلك. وليس من شأنه أن يمنع أن يكون هناك قراطيس وكتب لم تصل إلينا- وهو ما يقوم الدليل عليه من نصوص الأسفار على ما مرّ شرحه- بينها وبين هذه الرقوق تباين وتغاير. وليس من شأنه أن يمنع أنه كانت نسخ عديدة للرقوق بينها تباين وتغاير فتدوولت جميعها على ما فيها من ذلك ثم ضاع بعضها أو انطمر أو أبيد قصدا فظلّ

ما وصل إلينا منها إلى زمن الطباعة فطبع طبقا للأصل الذي وصل إلينا مكتوبا على رقوقه القديمة على علّاته وثغراته. وتداول نسخ عديدة لكتاب واحد في زمن الخط قبل الطباعة ووقوع أخطاء من النسّاخ طفيفة وكبيرة وسقوط أقسام منها وضياعه أمر عادي طبيعي. والأمثلة لا تحصى من ذلك في المخطوطات العربية وغير العربية. ولقد عثر أخيرا على مخطوطات قديمة في أحد كهوف منطقة البحر الميت فيها بعض فصول من سفر أشعيا قال الخبراء الذين قارنوها مع فصول السفر المتداول المطبوع إن بينها فروقا كثيرة. وكل ما يثبته قول الأستاذ هو أن الأسفار المتداولة أقدم من زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم بمدة طويلة وأنها كانت مكتوبة على رقوق وأنها طبعت نقلا عنها دون تحريف لذلك الأصل. وهذا ليس موضوع الجدل. ويتبادر لنا أن آيات البقرة [75 و 78] وآل عمران [78] والنساء [45] والمائدة [14 و 15] والأنعام [91] التي أوردناها قبل قليل ثم هذه الآيات: 1- إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ «1» [البقرة: 159] . 2- إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ «2» [البقرة: 174- 176] . 3- كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ

_ (1) الآيات بعد سياق طويل عن اليهود. (2) انظر الهامش السابق.

يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة: 213] . 4- تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ [البقرة: 253] . 5- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً [النساء: 49- 50] . 6- وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [يونس: 93] . 7- وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [هود: 110] . 8- يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [المؤمنون: 51- 53] . 9- إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [النمل: 76- 77] . 10- شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [الشورى: 13- 14] . نقول إن هذه الآيات جميعها تعكس ما كان في نصوص الأسفار التي كان

اليهود يتداولونها من تباين وتناقض وما دخل عليها من تحريف وما كان بينهم نتيجة لذلك من اختلاف في التأويل وتشادّ وشكوك وتعدّد مذاهب وتنازع يصل إلى حدّ القتال. وما كان من تلاعبهم فيها بحيث يخفون ما يشاؤون ويظهرون ما يشاؤون وينكرون ما يشاؤون وفقا لأهوائهم. ويحاولون تقديمها بصفتها كتب الله ولم تكن كذلك. ولا يمكن إلّا أن تكون هذه الآيات صورة صادقة عيانية لما كان عليه أمر الأسفار التي كان يتداولها اليهود. ويؤول الأستاذ الحداد عبارات التحريف في الآيات القرآنية بمعنى صرف نصوص الكتاب عن مقصدها الحق الصحيح وليس بمعنى تغيير وتبديل ألفاظها. والكلمة في أصلها بمعنى تغيير وتبديل الحروف والألفاظ. ومع ذلك فإن وصف اليهود بها بالمعنى الذي يؤوله يعني فيما يعنيه أنهم كانوا يكابرون في فهم النصوص ويحاولون تأويلها تأويلا ليس فيه حق وصواب. وقد يصحّ أن يقال إنهم كانوا يدونون هذه التأويلات المنحرفة في قراطيس وأسفار ويتداولونها. ومع ذلك ففي الآيات الأخرى صراحة كافية فقد كانوا على ما تفيده مختلفين في النصوص وفيما بين أيديهم من أسفار وكانوا في شك كبير منها وكانوا يخفون منها ما يشاؤون ويبدون ما يشاؤون ويكتمون ما يشاؤون وفق أهوائهم. وآيات سورتي البقرة [79] وآل عمران [78] جديرة بلفت النظر حيث ينطوي فيها صورة واقعية عيانية في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما كانوا يقدمونه من كتب مكتوبة بأقلامهم على أنها كتب الله كذبا وخداعا. وهو ما ينطبق على معظم الأسفار المتداولة اليوم بما فيها من علّات وثغرات. ومن طرائف الأستاذ الحداد وصفه كتّاب الأسفار المتداولة بكتّاب الوحي! والمتبادر أنه اقتبس هذا من تاريخ الوحي النبوي المحمدي الذي يذكر أنه كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم كتّاب وحي يكتبون ما يوحى إليه من قرآن فور نزوله. وفي الاقتباس مفارقة عجيبة ومقارنة متهافتة، فكتّاب الأسفار الخمسة الأولى كتبوها بعد موسى عليه السلام بمدة طويلة. وليست من إملائه وكتاب الأسفار الأخرى كتبوا معظمها بل كلها بعد الأحداث التي تضمنتها والأشخاص المنسوبة إليهم بمدة ما كذلك.

تعليق على الألواح التي ذكرت في الآية [145] من السلسلة

وقد سجلوها من محفوظات الناس ومسموعاتهم وربما من قراطيس أخرى وصلت إليهم ولم تصل إلينا وشيبت بالمفارقات والخيالات والمتناقضات والاختلافات فكيف يصحّ لعاقل أن يصفهم بأنهم كتّاب الوحي قياسا على كتّاب وحي النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم. تعليق على الألواح التي ذكرت في الآية [145] من السلسلة إن الآية ذكرت الألواح بصيغة الجمع وذكرت أن الله تعالى كتب لموسى فيها من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء. ولقد ذكرنا قبل أن سفر الخروج ذكر الألواح بأنها لوحان من حجر كتب عليهما عهد الربّ الكلمات العشر وأن الكتابة بإصبع الله وعلى وجهي اللوحين. وليس في الأسفار تحديد لعهد الربّ الكلمات العشر المكتوبة على الألواح وإنما فيها حكاية أوامر ونواه ربانية اشتهرت بأنها الوصايا العشر أو الكلمات العشر. جاءت مقتضبة نوعا ما في سفري الخروج وتثنية الاشتراع ومسهبة في سفر الأحبار. وهي بالإيجاز: 1- عدم اتخاذ آلهة غير الله. 2- عدم صنع تمثال للربّ والسجود له. 3- عدم الحلف بالله كذبا. 4- حفظ يوم السبت. 5- إكرام الوالدين. 6- لا تقتل. 7- لا تزن. 8- لا تسرق. 9- لا تشهد الزور على قريبك. 10- لا تشته شيئا مما لقريبك. وقد يكون هذا أضيق مما احتوته الآية مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا

لِكُلِّ شَيْءٍ فضلا عن ما هناك من فرق بين (الألواح) في الآية و (اللوحين) في الأسفار. وفضلا عن تنزّه الله تعالى عن حصره النهي عن شهادة الزور واشتهاء ما للغير بالقريب. ومهما يكن من أمر فإن الآيات التي فيها إشارة إلى التوراة والكتاب الذي آتاه الله موسى والتي فيها ما يفيد أن التوراة كانت قراطيس عديدة والتي أوردناها قبل يمكن أن تلهم بقوّة أن الألواح هي غير التوراة والله تعالى أعلم. وفي كتب التفسير روايات وأقوال متنوعة في صدد الألواح. فبالنسبة للعدد تراوحت الأقوال والروايات بين اثنين إلى عشرة. ومما روي أنها كانت ستة فلما ألقاها موسى حين غضبه على قومه رفع منها اثنان وبقي أربعة. وبالنسبة للنوع روي أنها خشب من سدر الجنة كما روي أنها من زبرجدة خضراء أو من ياقوتة حمراء أو من زمرد أو من حجر. وبالنسبة لحجمها روي أن طولها عشرة أذرع أو اثني عشر ذراعا، وبعضهم قال إنها التوراة نفسها ثم قال إنها كانت وقر سبعين بعيرا وأن الجزء منها كان يقرأ في سنة. وإنه لم يقرأها جميعها إلّا أربعة نفر وهم موسى ويوشع والعزير وعيسى عليهم السلام وليس شيء من ذلك واردا في كتب الأحاديث الصحيحة. والتوقف إزاءه أولى. وفي كتابي تفسير ابن كثير والبغوي حديث يرويه ابن كثير عن قتادة ويرويه البغوي عن كعب الأحبار. فيه حكاية عن مناجاة بين موسى وربّه يقول الأول ربّ إني أجد في الألواح أمّة خير أمة، أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله وبالكتاب الأول وبالكتاب الآخر ويقاتلون أهل الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الدجال. ربّ اجعلهم أمتي قال هي أمة محمد يا موسى. فقال ربّ إني أجد أمة هم الحمادون لله على كل حال رعاة الشمس المحكمون إذا أرادوا أمرا قالوا نفعل إن شاء الله فاجعلهم أمتي قال هي أمة محمد. فقال رب إني أجد أمة يأكلون كفاراتهم وصدقاتهم وكان الأولون يحرقون صدقاتهم بالنار وهم المستجيبون والمستجاب لهم الشافعون المشفوع لهم فاجعلهم أمتي. ويستمر

الحوار في بضع صفات محببة أخرى حتى يقول يا ليتني من أصحاب محمد وفي صيغة ابن كثير حتى ينبذ الألواح ويقول اللهم اجعلني من أمة محمد. والتوقف إزاء هذا الحديث هو الأولى كذلك. وبالنسبة للإنجيل نقول: 1- إن الكلمة يونانية معرّبة ومعناها البشارة «1» . والمتبادر أن التعريب والاستعمال للدلالة على كتاب النصارى المقدّس كانا سابقين لنزول القرآن. 2- إن الإنجيل ذكر في القرآن عشر مرات جميعها في سور مدنية. وقد جاء ذكره مقرونا بعيسى عليه السلام في بعضها. وفي الآيات التي ذكر فيها مقرونا باسمه صراحة بأن الله تعالى آتاه إياه وعلّمه إياه كما ترى في الآيات التالية: أ- وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ [آل عمران: 48- 49] . ب- وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [المائدة: 46] . ت- إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [المائدة: 110] .

_ (1) بعض المفسرين ومنهم الطبري يحاول إرجاع الكلمة إلى جذر عربي هو نجل بمعنى الابن أو الفرع بحجة أن الإنجيل فرع عن التوراة وأنه وسع على بني إسرائيل ما كان مضيّقا عليهم. وقد قال الزمخشري إن إرجاعها إلى جذر عربي تكلّف وإنها كلمة أعجمية وهو الصواب. [.....]

وفي سورة آل عمران آيات ذكر فيها أن الإنجيل أنزل ولم يذكر اسم عيسى معه وهي: أ- نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ [3- 4] . ب- يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [65] . وفي سورة المائدة نسب الإنجيل إلى أهله كما ترى في الآيات التالية: أ- وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [47] . ب- وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [65- 66] . ج- قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [68] . وفي سورة مريم ذكر الْكِتابَ [30] الذي آتاه الله عيسى كما ترى في ما يلي: قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا [30] . ومقتضى هذه النصوص أن الإنجيل كتاب واحد أو قراطيس لكتاب واحد أنزله الله أو أوحى به أو علّمه وآتاه لنبيه عيسى عليه السلام فيه تبليغات وأحكام ووصايا ربانية. هذا في حين أن النصارى اليوم يعترفون ويتداولون أربعة أناجيل هي أناجيل متى ومرقس ولوقا ويوحنا. ويسمون المجلد الذي يضمها أربع عشرة رسالة من القديس بولس ورسائل من القديسين يعقوب وبطرس ويوحنا ويهوذا مع

اختلاف في عددها عند الكاثوليك والبروتستانت ورسالة فيها رؤيا القديس يوحنا باسم العهد الجديد. مع اعترافهم بأسفار العهد القديم على اختلاف في بعضها عند الكاثوليك والبروتستانت وضمهم إياها مع العهد الجديد باسم جامع هو (الكتاب المقدّس) . والأناجيل الأربعة صريحة بأنها كتبت بعد عيسى واحتوت قصة حياته ورسالته وتعاليمه ومعجزاته ونهايته في الدنيا، وقد كتبت بعد وفاة عيسى ورفعه بمدة ما وفي خلال القرن الأول بعد ميلاده. وهناك من يؤرخ عام 37 بعد الميلاد لكتابة أوّلها وعام 98 لكتابة رابعها. ويلمح فرق بينها وبين ما يسمى (التوراة) فليس هناك سفر بين أسفار العهد القديم المتداولة اسمه التوراة في حين أن اسم الإنجيل هو المطلق المتداول. وفي بعض الأناجيل ذكر نصا. وبحثنا يتناول هذا الاسم مباشرة دون سائر أسفار العهد الجديد الأخرى لأنه هو المذكور في القرآن والموجود في الواقع. ولذلك سوف نقتصر عليه. وبين الأناجيل الأربعة تطابق في كثير من أقوال عيسى وتعاليمه وسيرة حياته ومعجزاته مع اختلاف في الصيغة والأساليب والعبارات. وفي بعضها من هذه الأقوال والتعاليم والسيرة والمعجزات ما ليس في البعض الآخر. وفي بعضها مباينات وتناقضات أيضا مع ما في بعضها الآخر. حيث يبدو من هذا أن كتّابها سجلوا ما كتبوه عن مصادر مختلفة ومن الروايات والمسموعات والمحفوظات التي يقع عادة فيها مباينات ومناقضات وزيادة ونقص. وليس فيها أية دلالة على أن شيئا مما فيها من إملاء عيسى عليه السلام أو أنه كتب في حياته وعلمه. وهناك روايات تذكر أن عدد الأناجيل كثير ويتراوح بين العشرين والسبعين. ويؤيد هذه الكثرة جملة وردت في بدء إنجيل لوقا تفيد أن كثيرين كتبوا قصة عيسى. ومن الأناجيل التي رأيناها غير الأربعة إنجيل برنابا. ومن الأناجيل التي قرأنا خبرها أناجيل الطفولة والولادة والأم.

والنصارى يقولون عن غير الأناجيل الأربعة منحولة ودخيلة ومزوّرة. والذي قرأناه من أقوالهم عن إنجيل برنابا أنه مزوّر في زمن الإسلام. ولم نطلع على أقوالهم عن زمن الأناجيل الأخرى التي يصفونها بتلك الأوصاف. وفي القرآن عن عيسى أمور ليست واردة في الأناجيل الأربعة على ما سوف نشرحه بعد نعتقد أنها كانت واردة في أناجيل أخرى حيث يمكن القول إن من تلك الأناجيل ما كتب قبل الإسلام. ولقد قرأنا في بعض كتب الأستاذ الحداد أن من جملة الأناجيل المنحولة إنجيل آخر لمتّى فيه مباينات كثيرة لإنجيله المعترف به حيث يبدو أنه كان للأناجيل المعترف بها أيضا نسخ عديدة فيها مباينات لنسخ أخرى منها وبخاصة للمعترف بها التي استقرّت العقائد والمسلّمات النصرانية العامة عليها. ومن المحتمل أن يكون للأناجيل الأخرى مثل ذلك. وواضح من كل ما تقدم أن الأناجيل الأربعة المعترف بها لا يمكن أن يصدق عليها تسمية الإنجيل القرآنية والوصف الذي وصف القرآن الإنجيل به. على أن آيات سورة المائدة [46 و 47 و 65 و 67] قد تفيد أن الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى وآتاه وعلمه إيّاه وفيه أحكامه وتعاليمه ووصاياه كان موجودا في أيدي النصارى حين نزول القرآن. وما دام أنه لا يوجد الآن إنجيل يصدق عليه وصف القرآن فلا مناص من الاعتقاد بأنه فقد في ظرف ما. ولقد يكون في الأناجيل المتداولة المعترف بها أشياء مما تلقاه عيسى من ربّه أو احتواه الإنجيل الذي أنزل عليه وآتاه إياه وعلّمه إياه. غير أنها لا يمكن أن تكون من وجهة نظر القرآن والمنطق والواقع بديلة عنه لأن فيها ما لا يمكن أن يكون من ذلك الإنجيل المنزل. ومن ذلك على سبيل المثال سيرة عيسى عليه السلام منذ ولادته إلى نهايته. وليس فيها إلى ذلك أشياء كثيرة وردت في القرآن ويقتضي أن تكون في ذلك الإنجيل. ومن ذلك على سبيل المثال عدم ورود أوصاف محمد صلّى الله عليه وسلّم بصراحة قاطعة في أي منها وهو ما ذكره القرآن في آية سورة الأعراف هذه: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ

وَالْإِنْجِيلِ [157] . ومن ذلك ما ذكر في القرآن بصراحة قاطعة من أن عيسى عبد الله ونبي من أنبيائه وأنه جاء مبشّرا برسول من بعده اسمه أحمد كما جاء في هذه الآيات: 1- لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [المائدة: 72] . 2- قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم: 30- 33] . 3- وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ [الزخرف: 63- 64] . 4- وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ [الصف: 6] . وقد يكون في الأناجيل المتداولة عبارات يمكن تأويلها بما يتفق مع هذه التقريرات القرآنية. غير أنها ليست صريحة صراحة قاطعة. والنصارى يؤولونها تأويلا يجعلها لا تتفق مع هذه التقريرات. وفي القرآن قرائن تدلّ على أن الأناجيل المتداولة اليوم والمعترف بها كانت موجودة في أيدي النصارى بالإضافة إلى الإنجيل المنزل من الله على عيسى والذي آتاه وعلّمه إياه. ومن ذلك قصة بشارة زكريا ومريم بيحيى وعيسى التي وردت في إنجيل لوقا دون غيره والمطابقة لما ورد من ذلك في سورتي آل عمران ومريم مطابقة تكاد تكون تامة. ومن ذلك معجزات إحياء الموتى وشفاء العمي والبرص الواردة في الأناجيل جميعها والمذكورة في سورتي آل عمران والمائدة واستجابة

الحواريين لدعوته المذكورة في سور آل عمران والمائدة والصف. ومن ذلك عشرات الآيات الواردة في أناجيل متى ومرقس ولوقا ويوحنا التي تحكي أقوالا عن لسان عيسى متطابقة إجمالا وصراحة حينا وضمنا حينا مع ما حكته عن لسان آيات عديدة مكية ومدنية برغم ما يحاول النصارى صرفها عن معانيها المتطابقة مع روح الآيات القرآنية وتأويلها بما يتطابق مع عقائدهم ومسلّماتهم المستقرّة نتيجة لقرارات المجامع المقدّسة التي أخذت تنعقد من حين لآخر منذ أواسط القرن الرابع بعد الميلاد والتي كانت تنعقد بالدرجة الأولى لبحث الاختلاف في تأويل الأناجيل في شخصية عيسى الذي كان ينجح بين علمائهم. وفي القرآن تقريرات وأقوال عديدة عن عيسى وحياته ومعجزاته ليست واردة في الأناجيل المتداولة المعترف بها كما قلنا قبل. وبعضها وارد في إنجيل برنابا الذي يقول النصارى إنه مزوّر. فإذا سلمنا جدلا بزعمهم هذا تبقى تلك التقريرات والأقوال واردة لأنها وردت في القرآن الذي لا يمكن لأحد أن يزعم أنه لم يبلغ من النبي ولم يكن معروفا في عهده. ومن ذلك طلب الحواريين من عيسى أن يلتمس من الله إنزال مائدة من السماء والمحاورة التي جرت بينه وبينهم وحكتها آيات سورة المائدة [114 و 115] ومن ذلك كيفية إلجاء المخاض مريم إلى جذع النخلة وما كان من شكواها ومخاطبة وليدها من تحتها لها وتطمينه وقوله إذا رأت أحدا أن تقول لهم إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا. ومخاطبة قومها لها متعجبين من ولادتها بدون زوج ومخاطبة عيسى لهم بأنه عبد الله آتاه الكتاب وجعله نبيا في آيات سورة مريم [23- 33] ومن ذلك ما حكي عن لسانه بأنه مبشّر برسول يأتي من بعده اسمه أحمد في آية سورة الصف [6] وما حكي عن لسانه من التنديد بكل من يشرك مع الله غيره في عبادة، ودعوته لبني إسرائيل إلى عبادة الله وحده ربه وربهم في سياق إعلان كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم في آية سورة المائدة [71] ثم في آية سورة الزخرف [64] ومن ذلك نفي القرآن لقتل اليهود لعيسى وصلبه وما قرره من شكّ واختلاف في الأمرين الناس

والنصارى في آيات سورة النساء [156 و 157] «1» . ومن ذلك ما ذكر في آية سورة الأعراف [157] من أن النصارى كانوا يجدون في الإنجيل صفات النبي محمد الرسول الأمي. وفي سورة آل عمران آيات تذكر نذر أم مريم لما في بطنها لله وتكفّل زكريا لمريم بعد ولادتها نتيجة لعملية قرعة بين المختصمين عليها عبّر عنها بإلقاء الأقلام وما كان زكريا يجده عندها من رزق وسؤاله وجوابها وهي الآيات [35- 44] . فهذه الآيات كانت تتلى جهرة على الناس ويسمعها النصارى وقد آمن فريق منهم بالنبي والقرآن وفرحوا به واعترفوا أنه الحق واتّبعوه كما جاء في آيات عديدة من القرآن. منها ما ذكر فيه النصارى صراحة ومنها ما ذكر فيه أهل الكتاب والعلم الذين يدخل فيهم النصارى كما ترى في الآيات التالية: 1- وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ [آل عمران: 199] . 2- وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سَمِعُوا ما

_ (1) رأينا الأستاذ الحداد يحاول تأويل الآيات بما يتفق مع العقائد النصرانية وما جاء في الأناجيل المتداولة من تثبيت الصلب حيث يقول ما خلاصته إن الآيات إنما تنفي كون اليهود قتلوه بمعنى أعدموا وجوده بالمرّة وإن هذا ما تخيلوه وشبّه لهم في حين أنهم لم يقتلوه بذلك المعنى يقينا. ونحن نرى هذا غير سليم والآية هي في صدد توكيد نفي القتل والصلب الفعليين. ونرى أن الجملة وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ في الآية [النساء: 157] تفيد أن هذا الأمر كان مشكوكا فيه بين طوائف من الناس وأن ما يقولون من قتله وصلبه هو من قبيل الظن. ونعتقد أن هذا الاختلاف كان واردا في بعض الأناجيل التي أبيدت لأنها لم تعد منسجمة مع المسلمات والعقائد النصرانية المستقرّة نتيجة لاجتماعات وقرارات المجامع المقدّسة.

أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ [المائدة: 82- 85] . 3- الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 20] . 4- أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [الأنعام: 114] . 5- الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 157] . 6- وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الرعد: 36] . 7- قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا «1» (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [الإسراء: 107- 109] . ونعتقد أن تلك التقريرات التي احتوتها آيات المائدة [71 و 112- 115] والنساء [156 و 157] والأعراف [157] ومريم [23- 33] والزخرف [64]

_ (1) يتبادر لنا أن هذه الجملة بسبيل تقرير أهل العلم بأن الله قد وفى بوعده فأرسل محمدا الذي يجدونه مكتوبا عندهم والذي بشرّهم به عيسى وأنزل عليه القرآن فكان منهم هذا الموقف الرائع الإيماني الخشوعي حينما كانوا يسمعونه.

والصف [6] قد وردت في أناجيل أخرى كانت متداولة في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم فأهملت وفقدت أو أبيدت لأن فيها ما هو متطابق مع التقريرات القرآنية بصراحة قطعية لا تتحمل التأويل فلم تصل إلينا برغم وصف النصارى لغير الأناجيل الأربعة التي يعترفون بها بأنها دخيلة أو متحوّلة أو مزوّرة. ولقد ورد في آخر إنجيل يوحنا رابع الأناجيل المعترف بها هذه العبارة: (وأشياء أخر كثيرة صنعها يسوع لو أنها كتبت واحدة فواحدة لما ظننت أن العالم نفسه يسع الصحف المكتوبة) التي تفيد أنه فات كاتب هذا الإنجيل أشياء كثيرة جدا من أقوال وأحداث ومعجزات وتبليغات عيسى عليه السلام. وليس ما يمنع أن يكون من هذه الأشياء ما هو مدوّن في أناجيل وقراطيس أخرى فقدت أو أبيدت. والمتبادر أن النصارى رأوا أن يستقروا على الأناجيل الأربعة لأنهم رأوها الأكثر انسجاما مع المسلّمات والعقائد التي استقرّوا عليها نتيجة للمجامع المقدسة ويهملوا ويبيدوا ما استطاعوا مما يصفونه بالدخيل والمتحول والمزوّر وما كان فيه مطابقة لما جاء صراحة في القرآن عن عبودية عيسى لله وكونه نبيا من أنبيائه وكونه إنّما دعا إلى الله ربّه وربّ الناس، وعن تبشيره من بعده برسول اسمه أحمد وعن صفات هذا الرسول الصريحة. ولقد طبّق الأستاذ الحداد ما قاله وأوردناه في سياق بحث التوراة من كون التوراة كلام الله ويستحيل تبديلها بنصّ القرآن على الإنجيل المنزل على عيسى الذي كان موجودا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم. ولقد قلنا قبل إن آيات المائدة [46 و 47 و 65 و 67] قد تفيد حقا إن هذا الإنجيل كان موجودا. ولقد علقنا على قوله تعليقا فيه الكفاية في سياق ذلك البحث فلا نرى ضرورة لإعادته وما قلناه هناك يرد هنا بتمامه. ولقد طبّق قوله الذي أوردناه في سياق البحث السابق وهو أن كتّاب الأسفار هم كتّاب وحي الله على كتاب الأناجيل الأربعة. كما طبق قوله إن الأسفار كانت مكتوبة على رقوق قديمة قبل النبي وأن المطبوع المتداول اليوم هو طبقا لهذه

الرقوق بدون تغيير وتبديل وعدم احتمال ذلك على الأناجيل الأربعة أيضا. وما علقنا به على هذه الأقوال في البحث السابق يرد هنا بتمامه كذلك فلا حاجة للإعادة. وفي سورة المائدة بالنسبة للنصارى بالإضافة إلى ما بين الأناجيل المتداولة ونصوص القرآن من مباينات متنوعة آية تفيد أنهم لم يحافظوا على كل ما ذكرهم الله به أو نزل إليهم وهي هذه: وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ [14] . وفي سورتي مريم والزخرف هذه الآيات التي جاءت في سياق الكلام عن رسالة عيسى عليه السلام والتي تذكر ما كان من اختلاف الناس وأحزابهم فيها مما يمكن أن يكون مرجعه اختلاف المصادر والنصوص التي سجّلها الكتّاب عن سيرة عيسى ورسالته من بعده: 1- قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) «1» [30- 37] .

_ (1) قال الحداد عن هذه الآيات إنها مقحمة على السياق لأنها مخالفة للقافية. وهذا ليس سببا صحيحا لأن مثل هذا وارد في سور أخرى. ومع ذلك فلو فرضنا أنها نزلت منفصلة ثم وضعت في مكانها للمناسبة فإنما يكون ذلك بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم وليس فيه تغيير وإخلال للموضوع والمقصد. وإذا كان قصده من كلمة مقحمة هو أنها مزيدة لأنه يزعم مثل هذا في شأن آيات أخرى فإن نصّ آيات الزخرف التالية مطابقة لها وتقرر ما تقرّره. وهذا فضلا عن أن هناك آيات عديدة تقرر ما تقرره مثل آيات سورة آل عمران هذه: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) ومثل آية المائدة هذه: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [72] وبهذا تسقط الحجة والزعم الزائفان.

2- وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [الزخرف: 57- 65] . وفي سور البقرة والمائدة والمؤمنون والشورى آيات تشير إلى اختلاف أهل الكتاب ومنازعاتهم إلى حد القتال وتفرقهم وتعدّد مذاهبهم وإخفائهم كثيرا مما في أيديهم من الكتاب. وتشمل النصارى بطبيعة الحال وهي هذه: 1- كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) البقرة [213] . 2- تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253) البقرة [253] . 3- يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا

كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة: 15- 16] . 4- يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [المؤمنون: 51- 53] «1» . 5- شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [الشورى: 13- 14] . فهذه الآيات تعكس من دون شكّ كما هو المتبادر ما كان في نصوص الأناجيل التي كتبها البشر سواء منها التي يعترف بها النصارى وحدها اليوم أم جميعها مما كان موجودا في زمن النبي وضاع أو أبيد من تباين وتناقض واختلاف وما كان بينهم من اختلاف وتشاد وشكوك وتعدّد مذاهب وعقائد وأحزاب وقتال نتيجة لذلك وما كان من إخفائهم كثيرا من قراطيس الكتاب المنزل من الله. ولا يمكن أن تكون هذه الآيات إلّا صورة صادقة لما كان عليه أمر النصارى والأناجيل

_ (1) يزعم الحداد أن الآيات في صدد أحزاب المشركين والكلام فيها عائد لما بعدها. ومطلعها ينقض هذا الزعم فضلا عن أنها جاءت بعد ذكر نوح وهود وموسى وابن مريم وأمه ورسل آخرين أرسلوا تترى إلى أقوامهم (اقرأ الآيات 23- 50) حيث تفيد الآيات أن فيها إشارة إلى ما كان من تفرّق الناس بعد أولئك الرسل إلى أحزاب وهذا يصدق على أهل الكتاب كما يصدق على غيرهم بطبيعة الحال.

التي كانوا يتداولونها سواء منها التي وصلت إليها أم التي فقدت أو أبيدت. واختلاف النصارى منذ القرون الأولى للنصرانية واستمرار ذلك وتعدّد مذاهبهم وتنوّع عقائدهم وما كان من تناحر وقتال بينهم نتيجة لذلك من الحقائق التاريخية التي لا تزال مستمرة والتي لا يمكن لأحد أن يكابر فيها. ولقد قرأنا في ملحق جريدة «النهار» البيروتية المؤرخ في 1/ 1/ 1965، بحثا بتوقيع الأب يوسف دره ينطوي على زعم طريف. وقرأنا تفصيلا أوسع لهذا الزعم في الكتاب رقم (2) (الكتاب والقرآن) من كتب الحداد «1» وهو خاص بالأناجيل، وفاقع الطرافة جدا. وفيه من المفارقة أشدّ مما في اقتباس اصطلاح (كتاب الوحي) وإطلاقه على كتّاب الأسفار والأناجيل. فقد أورد الحداد بعض الأحاديث المرويّة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم التي فيها أن القرآن أنزل على سبعة أحرف. وأورد أقوال المفسرين وعلماء القرآن الكثيرة التي لا يستند كثير منها بل أكثرها إلى أسناد وثيقة متصلة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم أو علماء أصحابه وتابعيهم ولا تعدو أن تكون من باب الاجتهاد والتي من جملتها أن المسلمين اختلفوا في كتابة المصحف في زمن عثمان ثم اتفقوا على كتابته على حرف واحد وإهمال ما عداه فيمسك بهذا القول على غموضه وترك الأقوال الموضحة له ثم حمله ما لم يحمله وقال لا فضّ فوه إنهم بذلك أضاعوا علينا معرفة ما كان في الحروف الأخرى من مباينات وتناقضات واختلافات بالنسبة للحرف الذي أثبتوه واقتصروا عليه في حين أن الإنجيل نزل على أربعة أحرف تمثّلت في أناجيل متى ومرقس ولوقا ويوحنا ولم يكن فيها ما يخشاه النصارى من تناقض وتباين فاحتفظوا بها كما نزلت كشهادات متعدّدة على صحة الإنجيل ووحدة جوهره واتفاق معانيه على اختلاف ألفاظه. والشرع العالمي والديني والمدني لا يقوم على صحة شهادة واحدة. وهكذا

_ (1) اسم الأستاذ الحداد هو الأب يوسف. ولا ندري هل هو نفسه صاحب مقال ملحق النهار وإن كنا نرجح ذلك لأن ما جاء في كتاب الحداد تفصيل لما جاء في الملحق.

تكون لصحة الإنجيل أربع شهادات بينما ليس للقرآن إلّا شهادة واحدة «1» . وهكذا تجري المفارقة في القياس إلى الزعم صراحة أو ضمنا أنه كان للقرآن سبع نسخ مختلفة في العبارات والترتيب والتبويب والسياق والسور والألفاظ مثل الأناجيل الأربعة. وينسيه الهوى أن هذه الأناجيل ليست إلّا ترجمة لحياة عيسى كتبها أناس بعده سماعا ورواية وليس فيها ما يدلّ على أن فيها شيئا من إملائه مثل القرآن الذي هو من إملاء النبي صلّى الله عليه وسلّم مباشرة، وأنها ليست أربعة بل أضعاف أضعاف هذا العدد وأن هناك من الدلائل ما يدل على كونها أكثر من أربعة بصورة قاطعة لأن في القرآن أشياء كثيرة ذكرت عن لسان عيسى وحياته ليست في الأناجيل الأربعة فضلا عن ما في هذه الأناجيل من ثغرات عديدة على ما نبهنا عليه قبل بحيث يكون في ذلك الزعم سخرية بالعقل والحقيقة وجرأة على الحق والمنطق. وهذا فضلا عن أنه لم يقل أحد من المسلمين أن معنى نزول القرآن على سبعة أحرف اختلاف وتعدد في النصوص، والذي أجمع عليه أئمتهم أن ذلك كان لتيسير قراءته بأهمية متعددة وإملاء مختلف لسبب اختلاف اللهجات والأداء وأن كبار أصحاب رسول الله رأوا أن يكتبوه بهجاء ولهجة وإملاء لغة قريش لأنها لغة النبي الذي نزل القرآن عليه بتأييد آية سورة إبراهيم هذه: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [4] . ونصّ الأحاديث المروية يؤيد كون القصد من الأحرف السبعة هو تيسير قراءة القرآن حسب استطاعة القارئ ما دام لا يغير كلمة بضدها حيث جاء في أحدها الذي رواه مسلم وأبو داود عن أبي بن كعب قال: «أتى جبريل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال له إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإنّ أمتي لا تطيق ذلك. ثم أتاه الثانية فقال له إنّ الله يأمرك أن تقرأ أمتك على حرفين

_ (1) العبارة الأخيرة جاءت في ملحق النهار.

فقال أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك. ثم جاءه الثالثة فقال إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف فقال أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك. ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف فأيما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا» . وفي رواية للترمذي: «إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال يا جبريل بعثت إلى أمة أمّيين منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتابا قطّ. قال يا محمد إن القرآن أنزل على سبعة أحرف ... » وهناك أحاديث فيها أحداث تطبيقية تدعم ذلك المعنى. منها حديث رواه مسلم عن أبيّ بن كعب قال: «كنت في المسجد فدخل رجل يصلّي فقرأ قراءة أنكرتها. ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه. فلما قضيا الصلاة دخلنا جميعا على النبيّ فقلت إنّ هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه. ودخل هذا فقرأ سوى قراءة صاحبه فأمرهما رسول الله فقرأا فحسّن النبي شأنهما فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية. فلما رآه رسول الله قد غشيني ضرب في صدري ففضت عرقا وكأنما أنظر إلى الله عزّ وجلّ فرقا فقال لي يا أبيّ أرسل إليّ أن اقرأ القرآن على حرف فرددت إليه أن هوّن على أمتي فردّ إليّ الثانية اقرأه على حرفين فرددت إليه أن هوّن على أمتي فردّ إليّ الثالثة اقرأه على سبعة أحرف» . وهناك أحاديث أقلّ رتبة فيها بعض زيادات ولكن ليس فيها كذلك ذلك المعنى الذي تخيّله الأب يوسف الحداد أو يوسف دره. منها حديث رواه الإمام أحمد عن عمرو بن العاص أن رسول الله قال: «أنزل القرآن على سبعة أحرف على أي حرف قرأتم أصبتم. فلا تماروا فإنّ المراء فيه كفر» . وحديث رواه الإمام نفسه عن أبي طلحة قال: «قرأ رجل عند عمر فغيّر عليه فقال قرأت على رسول الله فلم يغيّر عليّ قال فاجتمعا عند رسول الله فقرأ أحدهما على النبي فقال له أحسنت، قال فكأن عمر قد وجد في نفسه من ذلك فقال له النبي إن القرآن كلّه صواب ما لم تجعل مغفرة عذابا أو عذابا مغفرة» . وحديث رواه أبو يعلى عن المنهال قال: «بلغنا أن عثمان قال يوما وهو على المنبر أذكر الله رجلا سمع النبي قال أنزل القرآن على سبعة أحرف كلّها شاف كاف إلّا قام فقاموا حتى لم يحصوا فشهدوا أنّ رسول الله قال ذلك فقال عثمان وأنا الجزء الثاني من التفسير الحديث 33

أشهد معهم» . وحديث رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: «قال النبي أنزل القرآن على سبعة أحرف المراء في القرآن كفر. ثلاث مرات فما علمتم فادخلوا به وما جهلتم فردّوه إلى عالمه» وفي رواية: «أنزل القرآن على سبعة أحرف. عليما حليما. غفورا رحيما» وكل ما يرجعه الحديث الأخير أن يخطئ القارئ فيقول عليما بدل حليما وغفورا بدل رحيما. وهو مع ذلك حديث لا يمكن الاستيثاق منه فلم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة ورواته ليسوا موثقين مثل رواة هذه الأحاديث. ومن يقرأ كتاب الإتقان للسيوطي الذي جمع الأقوال في صدد ومدى هذه الأحاديث ونقلها عنه الحداد يجد أن في بعضها ما ينفي أن يرجح على بعض آخر لأنه المتّسق مع روح الأحاديث. ومن ذلك «إنه ليس المراد بالسبعة حقيقة العدد بل التيسير والتسهيل. ولفظ السبعة يطلق على إرادة الكثرة في الآحاد كما يطلق لفظ السبعين على إرادة الكثرة في العشرات والسبعمائة على إرادة الكثرة في المئات» وهو ما قصده القرآن في هذه الألفاظ على ما يستلهم من روح الآيات التي وردت فيها «1» ومن ذلك: (أن المراد وجوه قراءات الكلمة التي تتحمل كتابتها قراءات عديدة مثل كلمة (عبد الطاغوت) التي يمكن أن تقرأ (عابد الطاغوت) و (عبدة الطاغوت) و (عبيد الطاغوت) ومثل كلمة (كتب) التي يمكن أن تقرأ (كتاب) ومثل كلمة (علم) التي يمكن أن تقرأ (عالم) وكلمة (بعد) التي يمكن أن تقرأ (باعد) وكلمة (يستيئس) التي يمكن أن تقرأ (يتبين) وأمثالها لأن الحروف لم تكن تنقط حين ذاك) . ومن ذلك: (إجازة تقديم وتأخير في الجملة مثل وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [ق: 19] فيجوز قراءتها (وجاءت سكرة الحق بالموت) ومثل إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ [الزمر: 3] فيجوز قراءتها (من هو

_ (1) مثلا مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ [البقرة: 261] واسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة: 80] فالمراد من هذا هو إرادة الكثرة والله أعلم.

كافر كذاب) ومثل يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [غافر: 35] فيجوز قراءتها (على قلب كل متكبر جبار) ومن ذلك: (إن الرخصة قد وقعت في ذلك الزمن لأن أكثر الناس لم يكونوا يكتبون ويقرأون ولم يكونوا يعرفون رسم الحروف ومخارجها) . ومن ذلك: (ما يقع من اختلاف في قراءة الإفراد والتثنية والتذكير والتأنيث وتصريف الأفعال من حاضر ومضارع ومخاطب وغائب واختلاف الإعراب باختلاف المواقع) . ومن ذلك: (إن المقصود من الرخصة أداء الكلمة الصوتي من إمالة وترقيق وتفخيم وإدغام وإظهار وإشباع ومدّ وقصر وتشديد وتخصيص وتليين دون تغيير في المعنى واللفظ والصورة) . ومنها (إن المقصود هو ترخيص قراءة الكلمة على وجهين أو ثلاثة أو سبعة تيسيرا وتهوينا) . ومنها: (إن المسلمين أجمعوا على تحريم إبدال آية بآية) ومنها (أن جماهير العلماء من السلف والخلف وأئمة المسلمين قالوا إن المصاحف العثمانية مشتملة على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة وأنها جامعة للعرضة الأخيرة التي عرضها النبي صلّى الله عليه وسلّم على جبريل متضمنة لها لم تترك حرفا منها) . ومنها (أن أصحاب رسول الله لما رأوا أن الناس يختلفون في قراءة الكلمات أجمعوا على كتابتها على ما جاء في المصحف العثماني وعلى ما تحققوا أنه القرآن المستقر في العرضة الأخيرة وتركوا ما سوى ذلك. وإن ما يقرأه المسلمون فيه هو الذي كان يقرأ في العام الذي قبض النبي فيه وإن زيد بن ثابت الذي كتب مصحف أبي بكر كان كاتب وحي رسول الله وإنه شهد العرضة الأخيرة وكتبها لرسول الله وقرأها عليه وكان يقرئ الناس بها حتى مات. ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في تدوينه وجمعه وولّاه عثمان كتابة المصاحف التي كانت طبقا لمصحف أبي بكر وترتيبه) . ومن الجدير بالتنبيه أن الأحاديث المروية وأقوال جمهرة علماء المسلمين هي في صدد تلاوة القرآن وليست في صدد كتابته من حيث الأصل والمدى بحيث يمكن القول إنه لم يكن هناك مصاحف مكتوبة بكتابات مختلفة وهذا ما يؤيد كون القرآن لم يكن متعدد الصيغ والألفاظ كما يريد الحداد دره أن يوهمه وكل ما هنالك اختلاف في القراءة وبسبب احتمال كتابة الكلمات لهذا الاختلاف.

ونحن نعرف أن هناك روايات كثيرة تذكر أن آيات وسورا كانت تتلى ولم تكتب في مصحف عثمان وأنه كان لبعض أصحاب رسول الله مصاحف مغايرة في ترتيب سورها لترتيب هذا المصحف وأنه كان لبعض أصحاب رسول الله مصاحف خلت من المعوذتين والفاتحة أو فيها زيادة سورتين اسمهما الحفد والخلع أو فيهما كلمات مباينة في مبناها دون معناها لما في هذا المصحف وإن النبي توفي ولم تكن الآيات مرتبة في السور، والسور مرتبة في المصحف وإن كل هذا قد تمّ بعده في زمن أبي بكر ثم عثمان. وأن آيات لم تكن موجودة زيدت وآيات كانت موجودة رفعت لأغراض سياسية. ولقد اهتم الحداد لإبراز ذلك والاتكاء عليه وعلى الأقوال المرجوحة الأخرى ليدعم نظريته في حين أن كل تلك الروايات والأقوال لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة بل ولا الأقل رتبة من هذه الكتب. وهي روايات مرسلة لا يمكن التعويل عليها. وهناك روايات أوثق منها تنفيها وتثبت أن القرآن كان يكتب فور نزوله. وأن آياته رتبت في سورها وسوره رتبت في المصحف حسب المتداول بأمر النبي ووحي ربّه. وإن أبا بكر وكبار أصحاب رسول الله إنما حرروا نسخة تامة بعد انقطاع الوحي القرآني بموت النبي لكل ما تركه النبي قرآنا مستقرا غير منسوخ لتكون مصحفا يرجع إليه. وإن مصحف عثمان قد كان مطابقا لهذا المصحف ونقل عنه وكل ما كان من أمر هو كتابة الكلمات التي يمكن الاختلاف في قراءتها برسم وإملاء وتهجئة لغة قريش فصار ذلك هو المصحف العثماني وأبيد ما سواه لئلا يظلّ المسلمون يختلفون في قراءة القرآن من المصاحف التي كانت مكتوبة برسم وإملاء وتهجئة مختلفة قليلا أو كثيرا عن رسم وإملاء وتهجئة لغة قريش. وهناك دلالات قرآنية وأحاديث معتبرة تؤيد كل ذلك تأييدا قويا. ولقد أوردنا كل ذلك وعلّقنا عليه في كتابنا «القرآن المجيد» وانتهينا منه إلى حقيقة كون القرآن كان مكتوبا ومرتبا حسب ترتيبه المتداول في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم. ومن العجيب أن الحداد ينقل عن كتابنا ما أوردناه من الروايات المرجوحة دون المرجّحة والوثيقة ولا يورد تعليقاتنا التي فنّدنا بها الروايات المرجوحة وأثبتنا بها إلى تلك الحقيقة. لأن ذلك لا يوافق هواه الذي يحاول إبرازه والتركيز عليه.

تعليق على ما يرويه الشيعة في صدد جملة وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون في الآية 160 من السلسلة

ولم يكتف بما ورد في الروايات المرجوحة. حيث سمح لهواه أن يملي عليه مزاعم أخرى في كون بعض آيات أقحمت أو دسّت أو زيدت على القرآن تحكما وتعسفا ودون أي سند وسبب معقول. وهو يفعل هذا كل ما رأى في مثل هذه الآيات ما يفحمه ويدحض مزاعمه التي يسوقها لتأييد هواه. وقد أشرنا إلى شيء من ذلك فيما سبق. تعليق على ما يرويه الشيعة في صدد جملة وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ في الآية 160 من السلسلة وجمهور المفسرين على أن معنى هذه الجملة هي أنهم بما خالفوا أوامر الله واقترفوه من أعمال منحرفة عن وصاياه لم يضروا به الله وإنما أضروا به أنفسهم وظلموها بما استحقوه من غضب الله. غير أن مفسري الشيعة أوّلوا الجملة على هواهم حيث ذكر حسين الذهبي في كتابه «التفسير والمفسرون» أن المفسّر الشيعي الكارزاني روى عن أبي جعفر أحد الأئمة الاثني عشر جوابا على سؤال عن هذه الجملة جاء فيه (إن الله أعظم وأعزّ من أن يظلم ولكن خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمه وولايتنا ولايته حيث يقول إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا يعني الأئمة منا) . وفي هذا من الشطط والتجور والهوى ما نحب أن ننزّه أبا جعفر عنه ونرجّح أنه منحول له من كتّاب الشيعة ورواتهم الذين لا يكادون يتركون آية في القرآن إلّا ويؤولونها تأويلا متسقا مع هواهم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 163 الى 171] وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)

(1) حاضرة البحر: ثغر البحر أو الميناء. (2) يعدون في السبت: يعتدون على حرمة السبت. (3) حيتانهم: أنواع السمك. (4) شرعا: ظاهرة أو كثيرة. (5) يوم لا يسبتون: يوم لا يكون سبت ينقطعون فيه عن العمل. (6) نبلوهم: نمتحنهم. (7) بئيس: شديد. (8) فلما عتوا: فلما تمردوا. (9) خاسئين: صاغرين أذلّة. (10) وإذ تأذن: آلى على نفسه، أو أعلم وآذن. (11) عرض هذا الأدنى: عرض الحياة الدنيا الحقير الفاني. (12) درسوا ما فيه: قرأوا وفهموا ما فيه. (13) يمسكون: يتمسكون.

(14) نتقنا: قلبنا أو رفعنا أو اقتلعنا. (15) كأنه ظلّة: كأنه صار يظلّهم من فوقهم. (16) وظنّوا: هنا بمعنى تيقّنوا. وهذه حلقة ثالثة وهي الأخيرة من سلسلة قصص بني إسرائيل احتوت إشارة موجزة إلى بعض ما كان من بعضهم من بعد موسى عليه السلام من انحراف وما كان من احتيالهم على شريعة السبت وما كان من إنذارهم بلسان بعض الصالحين وعدم ارعوائهم ونكال الله بهم وجعله إياهم قردة وتنجيته الذين ينهون عن السوء، وإصرارهم مع ذلك على التمرّد وتعلّقهم بمتاع الدنيا وأعراضها وبيعهم دينهم وكتاب الله بسبيل ذلك رغم العهد الذي أخذه عليهم يوم نتق الله فوقهم الجبل حتى اعتقدوا أنه واقع عليهم بأن يتمسكوا بما أنزله لهم من أحكام ومبادئ بقوة ويتذكروها دائما حتى يتقوا بذلك غضب الله وعواقب سخطه. وما كان من تشتيت الله لهم في الأرض وإيلائه على نفسه بأن يبعث عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة عقوبة لهم مع تنويه بمن يظلّ متمسكا بكتاب الله تعالى ووعده بعدم تضييع وبخس أجر المصلحين. ونتق الجبل فوقهم كأنه ظلة ورد في سورتي البقرة والنساء بصيغة أخرى حيث جاء في سورة البقرة: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [93] وفي سورة النساء: وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ [154] والمتبادر أن هذا من قبيل الخوارق والمعجزات التي أجراها الله لبني إسرائيل وقد أشير إلى ذلك بصيغة غامضة في سفري الخروج والعدد من أسفار العهد القديم. ونعتقد أنه كان صريحا متطابقا مع ما جاء في القرآن في أسفار أخرى. وأسلوب الآية التذكيري يدعم ذلك لأنه يذكّر بأمر كان واضحا معلوما للسامعين من بني إسرائيل والله تعالى أعلم.

تعليق على رواية مدنية الآيات [163 - 170] وسئلهم عن القرية ... إلخ

تعليق على رواية مدنية الآيات [163- 170] وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ ... إلخ والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن معظم آيات الحلقة أي من الآية [163 إلى الآية 170] مدنية. وفحواها وأسلوبها مماثلان للآيات المدنية الكثيرة في حقّ اليهود مما يؤيد صحة الرواية. ومما يؤيد ذلك الخطاب في وَسْئَلْهُمْ الموجّه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث كان ما جرى بين النبي وبينهم من حجاج وما كان منهم من مواقف في عهد النبي المدني. وقد ربطت بين أخلاق الآباء والأبناء وفسادهم، وهذا مما جرى عليه القرآن المدني في أمرهم ونحن نرجّح أن الآية [171] أيضا من السياق نفسه وغير منفصلة عنه وتكون والحالة هذه مدنية مثل الآيات السابقة لها. والمتبادر أن الآيات قد وضعت في السلسلة المكية لحكمة موضوعية غير خافية. ومن شواهد هذه الحكمة أنها جاءت في أعقاب الآية التي حكت ما كان من تبديل فريق من بني إسرائيل لكلام الله وما كان من إرسال الله عليهم رجزا من السماء جزاء ظلمهم وإجرامهم وانحرافهم. تعليق على حادث السبت وتلقيناته وحادث السبت لم يرد في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم. ونعتقد أنه كان واردا فيما كان بين أيدي اليهود في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم من كتب وأسفار ذهبت بها أيدي الزمن. وعبارة الآية تفيد بقوة أن السؤال الذي أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بتوجيهه إلى اليهود قد ورد بأسلوب تقريري يدلّ على أنه موجّه إلى من يعرف الحادث المسئول عنه ويذكره. وفي كتب التفسير روايات عن ابن عباس وغيره من علماء الصدر الإسلامي عن هذا الحادث فيها دلالة على أنه كان معروفا في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم وليس لذلك

مصدر إلّا بنو إسرائيل فيها. وخلاصة هذه الروايات «1» المختلفة في الصيغ والمتفقة في المعنى أنه كان لليهود مدنية على ساحل البحر بين مدين والطور اختلف في اسمها ولكن أكثر الروايات تذكر أنها الأيلة وهي ميناء على خليج العقبة جددها اليهود المغتصبون في الوقت الحاضر وأطلق عليها اسم إيلات. وقد شاء الله أن يمتحن قوّة إيمانهم وتمسّكهم بشرائعهم فصار يرسل السمك إلى ساحلهم بكثرة يوم السبت الذي يحرّم العمل فيه عليهم ويمنعه سائر الأيام فاحتال فريق منهم على ذلك فحفر أحواضا على الساحل أو وضع شباكا فصار السمك الذي يأتي يوم السبت يقع فيها وصار هذا الفريق يأتي بعد هذا اليوم فيستولي على السمك. ورأى فريق آخر أن هذا حيلة على الشريعة فأنكره وسكت عليه فريق آخر مع عدم اشتراكه فيه. ولم يرعو المحتالون رغما عن ما سلّط عليهم من آلام فنجّى الله المنكرين ومسخ المحتالين قردة أو قردة وخنازير أو مسخ شبابهم قردة وشيوخهم خنازير ليكونوا عبرة لغيرهم حتى لقد كانوا يتمسحون بالناجين لأنهم كانوا يعرفونهم. ولم تذكر الروايات مصير الساكتين. وإنما تروي أن ابن عباس كان يحسب أنهم أيضا كانوا موضع عقوبة الله ولكنها أخفّ من عقوبة المحتالين. والخلاصة على كل حال متوافقة مع نصّ الآيات وروحها التي جاءت على سبيل التذكير. ولقد أشير إلى هذا الحادث في ثلاثة أماكن أخرى من القرآن واحد في هذه الآية من سورة البقرة: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) وواحد في هذه الآية من سورة النساء: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) وواحد في آية سورة المائدة هذه: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60) والآيات الثلاث

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن وغيرهم.

جاءت في السور الثلاث في سياق في حقّ اليهود. وأسلوبها صريح الدلالة على أن اليهود الذين كانوا يسمعون القرآن في المدينة كانوا يذكرون بحادث يتداولون خبره بل ونعتقد أنه كان واردا في بعض قراطيسهم في سياق التنديد بهم وإنذارهم بسبب مواقفهم من الرسالة المحمدية المناوئة الماكرة المنكرة. ومع ذلك فهناك من ذهب إلى أن المسخ لم يقع فعلا وإنما عبّر بذلك عن مسخ أخلاقهم ونفوسهم فكانوا كالقردة في طيشها وشرّها وبعبارة ثانية إنما مسخت قلوبهم مع التنبيه على أن الجمهور قد أخذ بظاهر الآية والروايات المروية وقال إن المسخ البدني هو الذي وقع «1» . وقد يكون في الأساليب الخطابية المألوفة ما يساعد على التأويل الثاني حيث اعتاد الناس أن يشبّهوا بعضهم بالقردة والخنازير حينما يريدون وصفهم بصفات سيئة وينسبون إليهم بعض الأخلاق والعادات الوضيعة. وقد يكون في ورود كلمة القردة هنا والخنازير في آية المائدة والاكتفاء بذكر لعنة أصحاب السبت في آية النساء قرينة على وجاهة هذا التأويل. على أننا لا نرى طائلا في إطالة البحث والتخريج في هذه النقطة ولا سيما إن العبارة هي جزء من حكاية حادث تاريخي يعرفه ويتداوله بنو إسرائيل على سبيل التذكير والإنذار. هذا مع التنبيه على أن الحادث في ذاته ليس خارجا عن نطاق قدرة الله تعالى وليس هو إلّا من قبيل المعجزات الكثيرة التي حكاها القرآن عن الأنبياء الأولين وأقوامهم والواجب الإيمان بها وبكونها في نطاق قدرة الله. ونذكّر بالحديث الذي رواه أبو هريرة عن رسول الله وأوردناه في سياق التعليق على ما اعتاده بعضهم من الحيل لإبطال أوامر الله وتكاليفه ونصّه: «لا ترتكبوا ما ارتكبه بنو إسرائيل فتستحلّوا محارم الله بأدنى الحيل» ونقول إن في الحديث تأييدا لما قلناه من أن الآيات تنطوي على تلقينات مستمرة المدى على المسلمين أن يستوحوها إزاء أوامر الله ونواهيه وحرماته.

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير رشيد رضا.

تعليق خاص على الآية وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ... والتي بعدها وما فيهما من تلقين وإعجاز قرآني

ومع خصوصية الآيات بالنسبة لليهود وحملتها على أخلاقهم فإن فيها تلقينات بليغة مستمرة المدى مما هو جوهري في جميع القصص القرآنية. ففيها تقبيح للحيل التي يراد بها التخلّص من حدود الله ومحظوراته، وتقرير أن الله حينما يأمر بواجب أو ينهى عن محظور لا يمكن أن يرضى بالحيلة للتخلص مما أمر ونهى، وردّ قاطع ومباشر على الذين يسوّغون الحيل ويبيحونها وخاصة في صدد أحكام الدين وأركانه والتفلّت من العهود والعقود وفيها تصوير لما في ذلك من بشاعة وفسق وافتراء على الله وإنذار قاصم لمن يجرؤ على ذلك. ثم فيها بشرى وتثبيت للذين ينهون عن السوء والفحشاء والعدوان على حدود الله وحثّ على النهي عن ذلك. فهذا واجب المتّقين. والله ضامن لمن يقوم به النجاة والفوز. تعليق خاص على الآية وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ ... والتي بعدها وما فيهما من تلقين وإعجاز قرآني ولقد احتوت هاتان الآيتان تلقينا بليغا آخر في إيلاء الله تعالى على نفسه بأن يبعث على اليهود من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة بسبب ما ارتكسوا فيه من انحرافات دينية وأخلاقية واجتماعية، واقترفوه من آثام ونقضوه من مبادئ ووصايا، واستغرقوا فيه من أعراض الحياة الدنيا وبيعهم دينهم وكتابهم بالدنيا. ففي ذلك عظة وذكرى وإنذار للمسلمين ودعوة للاعتبار والازدجار. وهذا عدا ما في الآيات من تقرير لواقع ما صار اليهود إليه من شتات في الأرض وذلّة ومسكنة وازدراء واضطهاد في مختلف الأنحاء التي تشتتوا فيها. حيث كان في ذلك مصداق إعجازي لعهد الله فيهم. ومهما بدا في سياق حوادث فلسطين في زمننا وما نالوه من نجاح بمساعدة طواغيت الاستعمار فإن تجهم البشر لهم وازورارهم عنهم ونقمتهم عليهم بسبب

تعليق على آية والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين

الأخلاق السيئة التي غدت جبلّة مميّزة لهم يتوارثها الأبناء عن الآباء عامّان في كل مكان. وجميع الظواهر تدلّ على أن ذلك سيبقى مع دوام شتاتهم في الأرض على مدى الدهر مصداقا لعهد الله تعالى وميثاقه. ونحن مؤمنون أعمق الإيمان بأن الله عزّ وجلّ سيطبق عهده عليهم بالنسبة لما أحرزوه من نجاح في فلسطين قد يكون امتحانا للمسلمين وأنهم سوف يرتدّون عنها خائبين خاسرين. هذا، وآية وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ ... إلخ حماسة قاطعة بنسف كل ما سجّله القرآن من مزايا لليهود ومن إيذان بأن الله كتب لهم الأرض المقدّسة وأورثهم إياها مما يتخذونه وسيلة إلى استغفال المسلمين حيث كان ذلك بالنسبة لزمن قديم مضى وانقضى ثم كان من أخلاقهم وانحرافاتهم ومناوأتهم لدعوة الله ورسله ما استحقوا عليه هذا العهد الرباني واستمراره إلى يوم القيامة. تعليق على آية وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ هذه الآية التي جاءت في خاتمة سلسلة قصص بني إسرائيل إما أن تكون في مقام الاستثناء أو الالتفات للفريق الذي ظلّ مستقيما متمسكا بكتاب الله ووصاياه من اليهود الذين حكت الآيات السابقة لها انحرافهم وبيعهم كتابهم ودينهم بأعراض الدنيا. وإما أن تكون استطرادا أو استدراكا تنويهيا بكل من يتمسك بكتاب الله ووصاياه ويؤدي له حقّ العبادة ولا ينحرف عن ذلك بسبيل مآرب الدنيا وأعراضها التافهة. وليس ما يمنع أن تكون قد تضمنت الأمرين معا. ولقد احتوى القرآن حملات قارعة على اليهود بسبب انحرافهم الديني والأخلاقي ومكائدهم ضدّ الدعوة الإسلامية وصاحبها، وإنكارهم أو كتمهم ما عندهم من بشائر وما يعرفون من حقائق بسبيل ذلك، غيظا وبغيا وخشية على مصالحهم الدنيوية مما سوف يأتي في مناسباته وكان يأتي أحيانا عقب هذه الحملات استثناءات تنويهية لفريق منهم ظلّ مستقيما في أخلاقه ودينه، مثل هذه

الآيات من سورة آل عمران: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) ولَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) ووَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) ومثل هذه الآيات في سورة المائدة: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) ووَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66) . ويتجلّى في هذه التقريرات روح الإنصاف القرآنية الرائعة في تسجيل حسنات المحسنين والتنويه بهم. على أن من الواجب أن نسجل أن التقريرات التنويهية القرآنية لم تتناول إلّا قلّة منهم في حين كانت أكثريتهم العظمى وعلى رأسهم أكثر أحبارهم وربانييهم منحرفين عن الحق موغلين في الكيد والتآمر، على ما تفيده بعض هذه الآيات ثم الفصول القرآنية المدنية، حتى لقد وصل الأمر ببعضهم إلى إظهار إيمانهم بالجبت والطاغوت نفاقا لزعماء مشركي مكة وقولهم لهم إنهم أهدى من النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه على ما حكته آيات سورة النساء هذه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ

آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) . وعلى كل حال فالآية التي نحن في صددها تتضمن تنويها بالذين يتمسكون بكتاب الله ووصاياه ويؤدون له حقه من العبادة، وبشارة وتطمينا بأن الله لا يضيع أجرهم، حيث ينطوي في ذلك تلقين بليغ مستمر المدى يستوحيه المسلمون أيضا في التزامهم كتاب الله وما فيه من أوامر ونواه وحدود ومبادئ وأحكام وحلال وحرام. ولقد جاء في سورة الأنعام هذه الآية: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) حيث يوجه الخطاب فيها إلى سامعي القرآن مباشرة بسبيل الحثّ على اتّباع كتاب الله وابتغاء رحمة الله ورضوانه بذلك. وفي سورة العنكبوت هذه الآية: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) . حيث يوجّه الخطاب فيها كذلك إلى سامعي القرآن بسبيل التنويه بما في كتاب الله من تذكير ورحمة لمن يؤمن به. وهذا المعنى قد تكرر كثيرا وبخاصة في مطالع معظم السور التي تبتدئ بالحروف المتقطعة. مثل آية البقرة هذه: الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) وآيات سورة النمل هذه طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) وآيات سورة لقمان هذه: الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) . وفي حديث طويل رواه مسلم والترمذي عن جابر بن عبد الله عن حجة رسول الله الوداعية ذكر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال فيما قال في خطبته: «وقد تركت فيكم ما لم تضلّوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله» «1» . حيث انطوى في هذا حثّ المسلمين على التمسّك بكتاب الله. وهناك حديث رواه الترمذي عن الحارث الأعور قال: «مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث، فدخلت على عليّ فقلت: يا أمير المؤمنين ألا ترى أنّ الناس قد خاضوا في الأحاديث؟ قال: وقد فعلوها؟ قلت: نعم، قال: أما إني قد سمعت

_ (1) التاج ج 3 ص 144.

تعليق على الإسهاب في قصص بني إسرائيل

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «ألا إنها ستكون فتنة. فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله فإنّ فيه نبأ ما كان قبلكم وخبر ما بعدكم. وحكم ما بينكم. هو الفصل ليس بالهزل. من تركه من جبّار قصمه الله. ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله. وهو حبل الله المتين. وهو الذكر الحكيم. وهو الصراط المستقيم. هو الذي لا تزيغ به الأهواء. ولا تلتبس به الألسنة. ولا يشبع منه العلماء. ولا يخلق على كثرة الردّ. ولا تنقضي عجائبه. هو الذي لم تنته الجنّ إذ سمعته حتى قالوا إنّا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد. من قال به صدق. ومن عمل به أجر. ومن حكم به عدل. ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم» «1» . حيث ينطوي في هذا الحديث أيضا حثّ قويّ على التمسّك بكتاب الله مع التنويه بما فيه من هدى ورحمة. وحيث يتساوق كل هذا مع التلقين القرآني. تعليق على الإسهاب في قصص بني إسرائيل هذا، ويلحظ بصورة عامة أن قصص موسى وفرعون وبني إسرائيل قد جاءت مسهبة أكثر من القصص الأخرى. وليس هذا في هذه السورة بل في السور الأخرى أيضا. ويتبادر لنا أن الحكمة في ذلك هي أن بني إسرائيل لم يبيدوا كما باد الأقوام الأولون، وأنه كان لهم دوي عظيم في مجالات الدين والدنيا وظلّ مستمرا لم ينقطع في البلاد التي تتصل بجزيرة العرب، وأنه كان منهم فريق كبير في بلاد الحجاز. ويضاف إلى هذا أن أحداث موسى وفرعون وبني إسرائيل كانت مدوّنة في أسفار العهد القديم بإسهاب كبير وكانت متداولة بمقياس أوسع من قصص الأنبياء وأقوامهم الآخرين نتيجة لذلك. فحكمة التنزيل القرآني ماشت هذه الوقائع والحقائق في صدد قصص موسى وفرعون وبني إسرائيل.

_ (1) التاج ج 4 ص 7.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 172 إلى 174]

[سورة الأعراف (7) : الآيات 172 الى 174] وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) . (1) أن تقولوا: لئلا تقولوا. (2) ذريّة: تكررت كثيرا في القرآن بمعنى أبناء الآباء وهي من ذرأ بمعنى خلق ونمّى. ومكانها هنا وفي غير مكان يفيد أنها تعني الجيل الذي يخلف الجيل السابق والذي هو من أبنائه وأنها تعني الآباء والأولاد من الجيل الحاضر صغارا كانوا أم كبارا. المتبادر أن هذا الفصل وما بعده قد جاء معقبا على السلسلة القصصية السابقة له كما جاءت الآيات [94- 102] معقبة على السلسلة القصصية السابقة لها، وأنها والحال هذه متصلة بالسياق. وهذا ما جرى عليه أسلوب النظم القرآني من التعقيب على القصص بسبيل تركيز الإنذار والتنديد والحجة. وقد احتوت الآيات إعذارا ربانيا للناس حتى لا يكون لهم حجة عليه إذا ما أخذ المشركين والمجرمين بذنوبهم، فقررت بأسلوب التذكير أن الله قد أخذ العهد عليهم بالاعتراف بربوبيته وأشهدهم على أنفسهم بذلك حتى لا يقولوا إننا لم نعرف الحدود والواجبات، وأن آباءنا كانوا مشركين مبطلين قبلنا فورثنا دينهم وتقاليدهم وباطلهم وسرنا على طريقتهم كما هو معتاد الناس جيلا بعد جيل، فلا ينبغي أن نعاقب ونهلك على عمل لم نقترفه وإنما ورثناه ولم يكن لنا مندوحة عنه. وقد انتهت الآيات بالدعوة إلى الاعتبار، فالله يفصّل الآيات لعلّ الناس يرعوون ويرجعون ويسيرون في طريق الحق والهدى.

تعليق على الآية وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم والآيتين التاليتين لها وتلقيناتها

تعليق على الآية وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ والآيتين التاليتين لها وتلقيناتها لقد شغلت هذه الآيات وما ورد فيها من أحاديث وروايات حيزا واسعا في كتب التفسير «1» حتى لقد استغرقت ثماني صفحات كبيرة من تفسير الطبري الذي روى أحاديث وروايات كثيرة مختلفة في الصيغ والطرق والرواة متّفقة في النتيجة معظمها عن ابن عباس. ومن ذلك رواية عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: (أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان- يعني عرفه- فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم فقال أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ. منها عن ابن عباس فقط قال: «مسح ربّك ظهر آدم فخرجت كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة فأخذ مواثيقهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى» . ومنها عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم قال أخذوا من ظهره لما يؤخذ بالمشط من الرأس فقال لهم ألست بربكم قالوا بلى. قالت الملائكة شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنّا كنا عن هذا غافلين» . ومنها عن ابن عباس: «إن الله بعد أن استخرج من ظهر آدم ذريته وأشهدهم على أنفسهم أعادهم إلى صلبه» . وفي تفسير الطبري أمثال عديدة أخرى لهذه الأحاديث فاكتفينا بما تقدم. وفيه أحاديث أخرى تمزج بين استخراج الذرية من ظهر آدم وإشهادها وبين تقدير أرزاقها وآجالها وتقدير الجنة أو النار لها. ومنها ما لا يذكر فيه الإشهاد الرباني وجواب الذرية. من ذلك عن ابن عباس قال: «لما خلق الله آدم أخذ ذرّيته من ظهره مثل الذرّ فقبض قبضتين فقال لأصحاب اليمين ادخلوا الجنة بسلام وقال للآخرين ادخلوا النار لا

_ (1) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي ورشيد رضا والقاسمي والزمخشري. الجزء الثاني من التفسير الحديث 34

أبالي» . وفي رواية عنه: «أخذ كل طيب بيمينه وكل خبيث بالأخرى» وفي رواية عنه «كتب آجالهم وأرزاقهم ومصائبهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى» ومنها حديث عن يسار الجهني جاء فيه: «سئل عمر بن الخطاب عن هذه الآية فقال سمعت رسول الله يقول: إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريّة فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره واستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون. فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل قال إنّ الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من عمل أهل الجنة فيدخله الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من عمل النار فيدخله النار» . وفي تفسير ابن كثير بعض هذه الأحاديث وأحاديث غيرها أخرى منها حديث رواه الإمام أحمد عن أنس بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به قال فيقول نعم فيقول قد أردت منك أهون من ذلك قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلّا أن تشرك بي» . وعقب ابن كثير على هذا الحديث قائلا أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة. ومنها حديث عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما خلق الله الخلق وقضى القضية أخذ أهل اليمين بيمينه وأهل الشمال بشماله فقال يا أصحاب اليمين فقالوا لبيك وسعديك قال ألست بربّكم قالوا بلى قال يا أصحاب الشمال قالوا لبيك وسعديك قال ألست بربّكم قالوا بلى ثم خلط بينهم فقال قائل له يا ربّ لم خلطت بينهم قال لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. ثم ردّهم في صلب آدم» . وفي تفسير ابن كثير نصوص عديدة أخرى مقاربة. وكذلك في كتب تفسير البغوي والخازن والطبرسي ورشيد رضا والقاسمي فاكتفينا بما تقدم لأنها إجمالا من باب واحد. وحديث عمر بن الخطاب الذي يرويه يسار الجهني هو فقط ما أورده مؤلف

التاج رواية عن الترمذي وأبي داود «1» . وهناك حديث آخر أورده هذا المؤلف في فصل التفسير الذي أورد فيه الحديث الأول رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لما خلق آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كلّ نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة. وجعل بين عيني كلّ إنسان منهم وبيصا من نور ثم عرضهم على آدم فقال أي ربّ من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذرّيتك إلخ ... » «2» . ولقد انقسم المفسرون والمؤولون في تأويل العبارة القرآنية. فمنهم من أخذ بظاهرها مستأنسا بالأحاديث النبويّة التي تتوافق مع هذا الظاهر دون توسّع في التخريج على طريقة السلف الإسلامي الأول. ومنهم الطبري الذي قال إن أولى الأقوال بالصواب ما روي عن رسول الله إن كان صحيحا ولا أعلمه صحيحا وإن لم يكن صحيحا فهو خبر من الله. ومنهم من علّل الأحاديث وقال إن بعضها موقوف وبعضها مرفوع وبعضها ضعيف. وإن فيها ما يخالف القرآن. فقد ذكر القرآن بني آدم وذكرت الأحاديث آدم وذكر الذرية والظهور بالجمع ومقتضى الأحاديث أن تكون مفردة. والقرآن أخبر أن الله فعل ذلك لئلا يقولوا إنهم كانوا غافلين ويعتذروا بشرك آبائهم مع أن مقتضى العبارة أن آباءهم قد شهدوا أيضا إلخ ... وجنحوا بعد ذلك إلى التخريج فقالوا إن العبارة القرآنية هي في مقام التمثيل ولسان الحال وأوردوا بعض الآيات القرآنية للتدليل على ذلك. ومن هؤلاء الزمخشري الذي قال إن العبارة من باب التمثيل والتخييل وإن معناها أن الله نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى. فكأنه أشهدهم بذلك على أنفسهم وقررهم وقال لهم ألست بربكم وكأنهم قالوا بلى أنت ربنا شهدنا على أنفسنا وأقررنا بوحدانيتك وإن باب التمثيل واسع في كلام الله تعالى ورسوله وفي كلام العرب. ونظيره قوله تعالى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40] ومعلوم أنه لا قول

_ (1) التاج ج 4 ص 105- 106. (2) المصدر نفسه. [.....]

ثمّ وإنما هو تمثيل وتصوير للمعنى. ومنهم الطبرسي الذي قال إن بعض الأحاديث المروية موقوفة وبعضها مرفوعة وإن المحققين لم يأخذوا بها لأن ظاهر القرآن يشهد بخلاف التأويل الذي انطوى فيها لأن الله تعالى قال وإذ أخذ ربك من بني آدم ولم يقل آدم وقال من ظهورهم ولم يقل من ظهره وقال ذريتهم ولم يقل ذريته ثم أخبر أنه فعل ذلك لئلا يقولوا إنهم كانوا عن ذلك غافلين ويعتذروا بشرك آبائهم وهذا يقتضي أن يكون لهم آباء مشركون فلا يتناول الظاهر ولد آدم لصلبه. ثم إن الذرية المستخرجة لا تخلو إما أن تكون عقلاء أو غير عقلاء. فإن كانوا غير عقلاء فلا يصح أن يعرفوا التوحيد ويفهموا خطاب الله وإن كانوا عقلاء وأخذ عليهم الميثاق فلا يصحّ أن ينسوه لأن الحجة لا تكون إلّا لذاكر ولا يصح أن ينسى الجمع الكثير والجمّ الغفير من العقلاء شيئا كانوا عرفوه وميّزوه. وإن العبارة في معنى أن الله أقام الدليل في عقولهم وخلقهم على ربوبيته حتى صار ذلك عندهم مسلّما به بالفطرة وتعذّر امتناعهم عنه فصاروا في منزلة المعترف المقر. ولم يكن هناك إشهاد صورة وحقيقة ونظير ذلك قوله تعالى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11] . ولم يكن منه سبحانه قول ولا منهما جواب. وشيء من هذا قاله ابن كثير الذي نبّه على ما في الأحاديث من علل. ومما قاله إن الشهادة تارة تكون بالقول وتارة تكون بلسان الحال كما جاء في الآية: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [التوبة: 17] . وإن مما يدلّ على أن المراد بهذا أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك. فلو كان وقع كما قال من قال لكان كل يذكره ليكون حجة عليه. ومنهم البيضاوي الذي نحا منحى الاثنين باقتضاب. ومنهم ابن كثير الذي تردّد بين القولين مع جنوح إلى الثاني. ومما قاله إن المراد بالإشهاد هو ما فطرهم الله عليه من التوحيد وأن الشهادة تكون تارة بالقول وتارة بلسان الحال. وإن مما يمكن أن يكون دليلا على ذلك جعل الإشهاد حجة عليهم في الشرك فلو كان قد وقع هذا كما قال مكان كل أحد يذكره ليكون حجة عليه. وقد نحا رشيد رضا والقاسمي اللذان أوردا كلاما كثيرا منحى ابن كثير وأوردا فيما

أورداه الحديث النبوي المشهور: «ما من مولود إلّا يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجسانه» «1» . كتدعيم لهذا التأويل وقالا إن الله تعالى في كلمته هذه أراد أن ينبّه السامعين إلى أنه خلقهم على فطرة التوحيد فلا يقبل اعتذار أحد عن الانحراف عنه بأي عذر وحجة. وقد تكون طريقة السلف التي أخذ بها الطبري في الأسلوب الذي أخذ الله به العهد من بني آدم أسلم. ففي القرآن عبارات كثيرة مثل هذه لا يمكن معرفة مراد الله تعالى بها معرفة ذاتية مثل الاستواء على العرش ولا يكون هناك حديث نبوي ثابت في تفسيرها. ففي مثل هذه الحالة تكون تلك الطريقة أسلم ويكتفى بشرح مدلول الآيات التي فيها العبارة شرحا عاما كما فعلنا في صدد العبارة والآيات التي وردت معها. على أن هذا لا يمنعنا من القول إننا نرى وجاهة وسدادا في الأقوال والتأويلات الأخرى. وبخاصة في القول إن الله أراد أن ينبّه السامعين إلى أنه خلقهم على فطرة التوحيد فلا يقبل اعتذارهم بشرك آبائهم من قبلهم أو بأية حجة أخرى. والله تعالى أعلم. والآيات فيما احتوته من تحذير عن السير على ما سار عليه الآباء بقطع النظر عن ضلالهم وسخفهم والاحتجاج بذلك والغفلة عما يقوم على صوابه وفضله البرهان وتعطيل العقل من التدبّر والاختيار قوية العظة وبليغة التلقين المستمر كما هو المتبادر. وقد تكرر هذا التلقين في مناسبات عديدة مرت أمثلة منها، مما يصح أن يكون طابعا عظيم الخطورة للدعوة الإسلامية القرآنية التي تندّد باتباع التقاليد القديمة لقدمها وتعطيل العقل إزاءها، والتي تحثّ على الأخذ بما هو الأفضل والأصوب والأصحّ والأصلح بقطع النظر عن القدم والجدة. هذا، وما جاء في بعض الأحاديث عن تقدير أعمال الناس وأرزاقهم وآجالهم وتخصيص فريق منهم للجنة وآخر للنار من الأزل هو متصل بموضوع القدر الذي شرحناه في سياق سورة القمر فنكتفي بهذه الإشارة.

_ (1) هذا الحديث رواه الأربعة انظر التاج ج 5 ص 176.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 175 إلى 177]

[سورة الأعراف (7) : الآيات 175 الى 177] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177) . (1) انسلخ منها: هنا بمعنى انحرف عنها أو نبذها أو تخلّى عنها أو كفر بها. (2) الغاوين: الضالين أو الهالكين. (3) أخلد إلى الأرض: لصق بها أو انحط إليها، والجملة بمعنى اختار الانحطاط على الارتفاع، أو الشر على الخير، أو الضلال على الهدى، أو أعراض الدنيا وشهواتها. لم يرو المفسرون مناسبة خاصة لنزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة بالسياق، واستمرار في التعقيب كالفصل السابق على السلسلة القصصية وتركيز لما انطوى فيها من إنذار وتنديد وعظة وتلقين. وقد احتوت أمرا للنبي صلّى الله عليه وسلّم بقصّ القصص على الناس لعلّهم يتدبرون ويرعوون. والمماثلة قائمة بينها وبين الفصل السابق الذي انتهى بتقرير كون الله يفصل الآيات للناس لعلهم يرجعون كما هو واضح. تعليق على آية وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها وتلقينها وفي الآيات خبر شخص آتاه الله آياته فلم يقم بحقها قياما يرتفع شأنه بها عند الله، بل انحط واتبع هواه واستغرق في الحياة الدنيا وشهواتها حتى صار كالكلب الذي لا يكلّ عن اللهث سواء أحملت عليه وزجرته أم لم تفعل. وقد احتوت الآيات بعد ذلك تنبيها إلى أن هذا المثل هو مثل القوم الذين جاءتهم آيات الله فكذّبوا بها، وساء هذا مثلا لمثل هؤلاء الذين بتكذيبهم آيات الله إنما يظلمون

أنفسهم، وأمرا للنبي صلّى الله عليه وسلّم بقصّ هذه القصة على الناس لعلهم يتفكرون ويعتبرون. وقد أوّل المفسرون «1» مثل الكلب بأن حالة الكافر أو المنسلخ كحالته لا يترك ضلاله وكفره سواء أوعظ وأنذر أو لم يوعظ وينذر. وهو وجيه سديد. وقد روى المفسرون روايات في اسم الشخص الذي عنته الآيات «2» فروي أنه أمية بن الصلت الشاعر الذي كان موحدا ويظن نفسه على ملّة إبراهيم عليه السلام، فلما بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم حسده على اختصاصه بالنبوّة من دونه فجحد. وروي أنه أبو عامر الراهب المتنسّك الذي كان على ملّة إبراهيم عليه السلام فحسد النبي صلّى الله عليه وسلّم أيضا وتنصّر وآلى على نفسه محاربته وكان يتآمر مع المنافقين عليه. وروى الطبري أنه رجل من بني إسرائيل تآمر مع الجبابرة على قومه وحرّضهم عليهم وهوّن لهم من شأنهم. كما روى أنه نبي أو كاهن أو نبي من الكنعانيين أو المؤابيين اسمه بلعام بن باعوراء. وأن ملكه أمره بلعن بني إسرائيل حينما وفدوا على بلاده بعد خروجهم من مصر بقيادة موسى عليه السلام فأوحى الله إليه بمباركتهم بدلا من لعنهم. فلما ضايقه الملك أشار عليه بتسليط بنات البلاد على شباب بني إسرائيل ليورطنهم في الزنا بهم وعبادة معبودهم البعل. وأن رأيه هذا هو الانسلاخ من آيات الله الذي عنته الآية. كو في الإصحاح الثاني والعشرين وما بعده في سفر العدد من أسفار العهد القديم ذكرت قصة بلعام بن باعوراء وأمر الملك إيّاه بلعنة بني إسرائيل ومباركته إياهم بدلا من ذلك. كما ذكر فيها خبر ارتكاس شباب بني إسرائيل في الزنا ببنات مؤاب وعبادة معبودهم البعل ولكن لم يذكر فيها أن هذا كان برأي بلعام. وعلى كل حال فإن اكتفاء الآية بالإشارة إلى الشخص دون تفصيل قد يلهم أنه شخص معروف عند سامعي القرآن بعلمه واطلاعه على كتب الله، وأنه انحرف عن طريق الحق والهدى بتأثير السجيّة الفاسدة ووسوسة الشيطان ومتاع الحياة الدنيا وشهواتها، فاستحكم بذلك ما قصدته الآيات من العظة والتذكير والعبرة.

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والطبرسي والبغوي. (2) انظر المصدر نفسه.

ويتبادر لنا أنها استهدفت بنوع خاص التنديد بأذكياء الكفّار ونبهائهم الذين كان لهم من رجاحة العقل وسعة المعارف ما يجعلهم يدركون بيسر ما في دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم من صدق وسموّ وروحانية وحقّ، فأصروا مع ذلك عن قصد وهوى على مواقف العناد والمكابرة. ولعلّ فيها تعليلا لموقفهم من الدعوة وتسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين. وهذه الطبقة كانت موجودة. وقد اهتدى منها من اهتدى من الرعيل الأول المؤمنين واستكبر الآخرون وكابروا. وقد احتوى القرآن إشارات عديدة إليهم ووصفهم بأنهم اتخذوا هواهم آلهة لهم عن علم ونيّة كما جاء في آية سورة الجاثية هذه: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) وآية سورة الفرقان هذه: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) وقد كان فريق من هذه الطبقة يتمنون أن يبعث الله فيهم نذيرا منهم ويقسمون على اتباعه والاهتداء بهديه ثم استكبروا ونكثوا استكبارا ومكر السيئ كما جاء في آيات سورة فاطر هذه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) وكان من هذه الطبقة من يتحدّى النبي صلّى الله عليه وسلّم ويقولون له لو شئنا لقلنا مثل ما تقول كما جاء في آية سورة الأنفال هذه: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) . ومن مقاصد المثل على ما هو المتبادر تقرير كون سلامة النيّة والقلب وصدق الرغبة في الاهتداء هو الجوهري ولا عبرة بالعلم والاطلاع إذا كانت النيّة خبيثة والسجيّة فاسدة والنفس دنيئة الرغبات والمطالب، خاضعة للهوى والمآرب. وصاحب هذه الصفات لا يرتفع إذا ما أوتي العلم إلى المقام الرفيع الذي يجدر أن يرتفع إليه بعلمه ويظلّ ينحطّ ويرتكس دون أن ينفعه علم ولا عظة ولا عبرة.

تعليق على جملة ولو شئنا لرفعناه بها

وفي ما احتواه المثل من تنديد وتقريع لاذعين تلقين بليغ مستمر المدى من دون ريب. لأنه صورة قوية كثيرا ما تتكرر في المجتمعات سواء أفي التنديد بالطبقة التي تكون نيرة في عقولها وسعة معارفها ومنحطة في مطالبها وأهوائها وشهواتها، أم في التحذير من الانخداع بأفرادها، أم في تقبيح هذه الصفات المكروهة الضارّة بالمجتمع. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات حديثا رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده عن حذيفة بن اليمان قال، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ مما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن حتى إذا رؤيت بهجته عليه وكان ردء الإسلام أعزّه إلى ما شاء الله انسلخ منه ونبذه وراء ظهره وسعى على جاره بالسيف ورماه بالشرك. قال حذيفة قلت يا نبي الله أيّهما أولى بالشرك المرميّ أو الرامي قال بل الرامي» . وهذا الحديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة وصحته محتملة وقد قال ابن كثير إن إسناده جيد وإن الإمام أحمد ويحيى بن معين وغيرهما قد وثقوه. وفي هذه الكتب أحاديث من بابه منها حديث رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن أبي سعيد قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وعملكم مع عملهم. يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم. يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» «1» . والحكمة الملموحة في الحديث تحذير المسلمين من الضالّين المنحرفين عن علم. ويتساوق تلقينه مع تلقين الآيات. تعليق على جملة وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وقد توهم جملة وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها أن الله سبحانه وتعالى هو الذي شاء للرجل عدم الارتفاع فأخلد إلى الأرض وغوي، غير أن في الآية التي وردت فيها الجملة ما يزيل هذا الوهم حيث وصف الرجل بأنه رضخ لوسوسة الشيطان واتّبع

_ (1) التاج ج 1 ص 10.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 178 إلى 180]

هواه وغوي وأنه من أجل ذلك ظالم لنفسه ولم يظلمه الله. والوجه في تأويل العبارة على ما يتبادر لنا هو أن الله قادر على رفعه بالآيات التي آتاه إياها ولكنه تركه لاختياره وقابليته التي أودعها فيه فساقه ذلك إلى ما هو متّسق مع سجيته الفاسدة ونيته الخبيثة مما انطوى تقريره في آية سورة الإسراء هذه: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا (84) وقد أوّلها الزمخشري بأن الله أراد أن يقول إن الرجل لو لزم العمل بالآيات ولم ينسلخ منها لرفعناه بها. وقد أوّلها السيد رشيد رضا بأن الله لو أراد رفعه بها لخلق له الهداية وحمله عليها ولكنه لم يفعل لأنه مخالف لسنّته. وقد أوّلها الطبرسي بأن الله يقول لو شئنا لحلنا بينه وبين الانسلاخ فارتفع شأنه ولكنّا تركناه لاختياره وقابليته. ولم نر في كتب المفسرين الأخرى التي بين أيدينا ما يتعارض مع هذه التأويلات التي فيها وجاهة وسداد أيضا. [سورة الأعراف (7) : الآيات 178 الى 180] مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180) . (1) ذرأنا: خلقنا أو جعلنا. (2) لحد: ولحد بمعنى مال وانحرف عن الحق. والكلمة في مقامها تعني ما كان المشركون يخلطونه من أسماء شركائهم بأسماء الله عزّ وجلّ. لم يرو المفسرون مناسبة خاصة في نزول هذا الفصل والمتبادر أنه متصل بالسياق كذلك. وقد جاء معقبا على ما قبله. وفيه ما في سابقيه من تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين وتثبيت لهم. فمن يهده الله اهتدى ونجا ومن يضلله خسر. وفي الجنّ

تعليق على جملة من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون

والإنس كثير لا ينتفعون بما لهم من قلوب ولا أعين ولا آذان ليتدبروا ويروا الحق والهدى، فهم غافلون عنهما وهم كالأنعام بل أضلّ، وأن لله أحسن الأسماء وأشرفها. فعلى النبي صلّى الله عليه وسلّم والذين آمنوا أن يدعوه بها وألّا يعبأوا بالذين يلحدون ويخلطون في أسمائه ويذروهم له فهو الكفيل بجزائهم على ما يفعلون. تعليق على جملة مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وقد توهم الآية الأولى أنها قصدت تقرير كون الله تعالى هو الذي يحتم الهدى والضلال على الناس بأعيانهم. غير أن في جملة فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ في الآية ثم في الآية التالية لها ما يزيل هذا الوهم، حيث ينطوي فيها تقرير كون الله قد أودع في البشر من العقل وقوّة التمييز والاختيار ما هو جدير بأن يهديهم إلى الحق ويبيّن لهم طريق الهدى وطريق الضلال. فالذين يختارون سبيل الله فهم المهتدون والذين يختارون الضلال فهم الخاسرون. وبناء على هذا اقتضت حكمة الله أن يكون بعث أخروي وحساب وثواب وعقاب وخلق للجنة وخلق لجهنّم. فأصحاب جهنم هم أولئك الذين فسدت أخلاقهم وخبثت سرائرهم فرضخوا للهوى والمآرب الدنيئة فتعطلت قلوبهم عن فهم الحق وعيونهم عن رؤية معالمه، وآذانهم عن سماع نذره وحججه وغدوا كالأنعام بل أضلّ لأن الأنعام تسير بغرائزها فلا تضلّ عما ينفعها ولا تقبل على ما يضرّها. وهذا الشرح المستلهم من فحوى الآيات وروحها مؤيد بالتقريرات القرآنية المحكمة التي مرّت أمثلة عديدة منها. ومؤيد كذلك بالآيات التي تقيد الإطلاق الذي جاءت عليه الجملة ذاتها مثل آيات سورة البقرة هذه: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27) .

تعليق على جملة الذين يلحدون في أسمائه واستطراد إلى ذكر أسماء الله الحسنى

وللسيد رشيد رضا في سياق تفسير هذه الآية كلام صائب ووجيه متّسق بنتيجته مع شرحنا. ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا قال إنه ورد في صحيح مسلم عن عائشة قالت: «دعي النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى جنازة صبيّ من الأنصار فقلت يا رسول الله طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل سوءا ولم يدركه. فقال رسول الله أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم» . وأورد حديثا قال إنه ورد في الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مفاده أن الله يبعث ملكا حين ولادة المولود فيؤمر بأربع كلمات فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد» . وأشار إلى ما أورده وأوردناه من أحاديث في سياق جملة وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ فيها أن الله قدّر على الناس وهم في أصلاب آدم أرزاقهم وآجالهم وأنهم سعداء أو أشقياء. وهذا الموضوع متصل بموضوع القدر الذي شرحناه في سياق سورة القمر شرحا يغني عن التكرار. ونقول هنا بمناسبة الآيات وإيراد الأحاديث في سياقها إن الآيات تلهم بقوة أن الذين ذرأهم الله لجهنّم هم الذين استحقّوها بانحرافهم وشذوذهم وغفلتهم عن آيات الله ونوره. وإن الأولى أن تحمل الأحاديث الصحيحة على قصد تقرير علم الله تعالى بذلك منذ الأزل. والله أعلم. تعليق على جملة الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ واستطراد إلى ذكر أسماء الله الحسنى ولقد روى الطبري وغيره أن المراد بجملة الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ ما كان المشركون يطلقونه على شركائهم من أسماء «الرحمن» و «الربّ» و «الإله» و «العزّى» - مؤنث العزيز- وغيرها من الأسماء والصفات التي لا تليق إلّا بالله ربّ العالمين وهو تأويل وجيه. وقد وضعت الآية الأمر في نصابه حيث قررت أن

الأسماء الحسنى والصفات الكاملة إنما تليق بالله وحده ربّ كل شيء وخالق كل شيء. ومع أن تعبير الْأَسْماءُ الْحُسْنى يفيد معنى أحسن الأسماء إطلاقا فقد اعتاد المسلمون أن يحصروا أسماء الله في تسعة وتسعين اسما وصفة وهي ما ورد في القرآن من أسماء الله وصفاته سبحانه وتعالى وأن يصطلحوا على تسميتها بهذا التعبير. ولقد روى الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن لله تسعة وتسعين اسما من حفظها دخل الجنة وإن الله وتر يحب الوتر» «1» ، وروى الترمذي وابن حبان والحاكم عن أبي هريرة أيضا قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة: هو الله الّذي لا إله إلّا هو الرّحمن الرّحيم. الملك القدوس السّلام المؤمن المهيمن العزيز الجبّار المتكبّر الخالق البارئ المصوّر الغفّار القهّار الوهّاب الرّزاق الفتّاح العليم القابض الباسط الخافض الرّافع المذلّ المعزّ السّميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشّكور العليّ الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القويّ المتين الوليّ الحميد المحصي المبدئ المعيد المحيي المميت الحيّ القيّوم الواجد الماجد الواحد الصّمد القادر المقتدر المقدّم المؤخّر الأوّل الآخر الظّاهر الباطن الوالي المتعالي البرّ التوّاب المنتقم العفوّ الرّؤوف مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغنيّ المغني المانع الضّار النّافع النّور الهادي البديع الباقي الوارث الرّشيد الصّبور» «2» . وجميع هذه الأسماء مما ورد في القرآن. ولقد أورد ابن كثير هذه الأحاديث أيضا. وذكر في سياق الحديث الطويل أن

_ (1) التاج ج 5 ص 84- 88. (2) المصدر نفسه.

الترمذي رواية قال هذا حديث غريب. ثم عقّب على ذلك قائلا: وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة ورواه ابن حبان في صحيحه وابن ماجه في سننه. ثم قال وليعلم أن الأسماء الحسنى غير منحصرة في تسعة وتسعين بدليل ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن ابن مسعود عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما أصاب أحدا قطّ همّ ولا حزن فقال اللهمّ إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك. ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك. عدل فيّ قضاؤك. أسألك بكلّ اسم هو لك سمّيت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علّمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همّي. إلّا أذهب الله حزنه وهمّه وأبدل مكانه فرحا. فقيل يا رسول الله أفلا نتعلّمها؟ فقال بلى ينبغي لكلّ من سمعها أن يتعلّمها» . وعقّب ابن كثير على هذا الحديث قائلا: «أخرجه الإمام أبو حاتم بن حبّان البستي في صحيحه وإن الفقيه الإمام أبو بكر بن العربي أحد أئمة المالكية ذكر في كتابه «الأحوذي في شرح الترمذي» أن بعضهم جمع من الكتاب والسنّة من أسماء الله ألف اسم فالله أعلم» . ولقد قال بعض العلماء: إن صيغة حديث الترمذي لا تعني انحصار الأسماء بما ورد فيها ولا تمنع أن يكون الله تعالى أسماء أخرى في القرآن والحديث. والقول وجيه يزول به الإشكال الذي يمكن أن يتبادر من صيغة الحديث مع وجود أسماء أخرى في القرآن غير ما ورد فيه. هذا، ولقد روى الطبري عن ابن زيد في سياق جملة وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ أنها منسوخة بآيات القتال وهذا ما يتكرر من بعض أهل التأويل في سياق كل آية مماثلة فيها تعبير أو إمهال أو أمر بذلك. وقد قال الطبري إنه لا معنى لذلك لأن الجملة ليست أمرا من الله لنبيه بترك المشركين أن يقولوا ذلك حتى يأذن له بقتالهم وإنما هو تهديد من الله للملحدين بأسمائهم ووعيد منه ومثله قوله تعالى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر: 3] ولِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [النحل: 55] . وقول الطبري سديد

[سورة الأعراف (7) : الآيات 181 إلى 186]

وجيه. ولقد تطرّقنا إلى هذا الموضوع في سياق سورة (الكافرون) وانتهى بنا البحث استنادا إلى الدلائل التي أوردناها أن القتال إنما يكون للكفار الأعداء المعتدين على الإسلام والمسلمين بأي أسلوب من أساليب الاعتداء بما في ذلك الصدّ عنه والطعن فيه وأذيّة معتنقيه. فنكتفي بهذا التنبيه في هذا المقام. [سورة الأعراف (7) : الآيات 181 الى 186] وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) . (1) يعدلون: هنا بمعنى يعملون أو يقضون. (2) سنستدرجهم: انظر شرحها في تفسير سورة القلم. (3) وأملى لهم إن كيدي متين: انظر شرحها أيضا في السورة المذكورة. (4) صاحبهم: كناية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. (5) جنّة: هنا بمعنى الجنون. (6) ملكوت السموات والأرض: كناية عن الكون جميعه. (7) يعمهون: يعمون عن الحق أو يستغرقون في التعامي. ومما قيل إن العمه هو عمى القلب والعمى هو عمى البصر. لا يذكر المفسرون رواية في مناسبة نزول الفصل. والمتبادر أنه استمرار للسياق السابق أيضا. وقد جاء معقبا بنوع خاص على الآيات السابقة له مباشرة لتوكيد ما تضمنته من تطمين وتثبيت وتنديد. وهي قوية في إنذارها وتنديدها وتطمينها:

فليس كل الناس ضالين ومنحرفين ومكذّبين وغافلين ومن نصيب جهنم. فإن منهم من يدعون إلى الحق ويهدون إليه ويعملون به. ولا يغترّن الذين يكذبون بآيات الله بما هم فيه من عافية ونعمة. فإن ذلك استدراج وإمهال واختبار. وليعلموا أن بأس الله ونقمته شديدان قاصمان. والأجدر بهم أن يترووا في موقفهم ويتفكّروا ويتدبّروا فيما يسمعونه وحينئذ يرون أن النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي يبلغهم ما يبلغهم من آيات الله هو منذر ومحذّر ولا يمكن أن يكون مجنونا. والأولى بهم أن يتفكّروا في عظمة كون الله وما خلقه من كائنات فيروا أن الله سبحانه لا يمكن أن يكون في ذلك عابثا. والأفضل لهم أن يتذكروا أنهم ميتون حتما وأن الموت قد يكون قريبا جدا منهم. وأنهم إذا لم يؤمنوا بهذا الذي يبلّغهم إيّاه النبي صلّى الله عليه وسلّم فليس هناك حديث ومحدّث آخر يمكنهم أن يؤمنوا به. وقد يفوتهم الوقت والفرصة فيندمون ولات ساعة مندم. ومن أصرّ بعد هذا الإنذار واختار الضلال على الهدى فهو وشأنه حيث يذره الله مرتكسا في ضلاله وطغيانه حتى يستحق ما أعدّه الله له يوم القيامة من المصير الرهيب. وما قلناه في سياق الفصول السابقة نقوله هنا. فإن مضمون الآيات وبخاصة ما فيها من نسبة التكفير والنظر والإيمان وقابلية الاهتداء يزيل ما يمكن أن يتبادر إلى الوهم من مضمون الآية الأخيرة ويجعل الوجه فيها هو ما وجهناه في سياق شرح الفصول الثلاثة جملة. والفصل يحتوي تلقينا مستمر المدى أيضا كسابقيه. ففيه تنويه بالدعاة إلى الحق والعاملين به وبالدعوة إليه والحثّ على العمل به. وفيه تنديد بالاستغراق في الغواية وعدم التدبّر والتروي في الأمور والمكابرة في الحق وعدم المبالاة بالعواقب وبمن يرتكس في ذلك. هذا، ومضمون الآية [184] وأسلوبها يلهمان أن نفي الجنون عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ليس بسبيل الردّ على تهمة الكفار إيّاه بالجنون وإنما هو بسبيل الإنذار وتوكيد صدق الدعوة وجدّها.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 187 إلى 188]

ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأولى حديثا عزاه إلى الصحيحين عن معاوية بن أبي سفيان قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحقّ لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة. وفي رواية حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك وفي رواية وهم بالشام» » . والمفسّر أورد الحديث للمناسبة الموضوعية. وقد جاريناه لأن فيه بشرى ربانية للأمة الإسلامية وتثبيت لمن يكون منهم على الحق حتى لا يبالوا بخلاف وخذلان من غيرهم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 187 الى 188] يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) . (1) الساعة: في مقامها كناية عن وقت انتهاء الحياة الدنيا وقيام القيامة. وقد وردت في القرآن في معنى الساعة الزمنيّة كما جاء في آية سورة الأحقاف: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ ... [35] . (2) مرساها: قيل بمعنى منتهاها أي منتهى الحياة الدنيا التي تقوم الساعة عنده وقيل بمعنى قيامها وهذا مثل ذاك في النتيجة. (3) لا يجليها: لا يظهرها أو يكشفها. (4) ثقلت في السموات والأرض: قيل بمعنى ثقل وقعها وهولها في السموات والأرض أو بمعنى اشتدّ اختفاء وقت وقوعها أو بمعنى ثقل خبرها بحيث لا يعلمه أحد في السموات والأرض. وقد رجّح الطبري المعنى الأخير. (5) يسألونك كأنك حفي عنها: بمعنى يسألونك عنها وكأنك صديق حفيّ

_ (1) أورد مؤلف التاج هذا الحديث مرويا عن ثوبان عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بهذا النصّ: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من يخذلهم حتى يأتي أمر الله» . التاج ج 5 ص 313. الجزء الثاني من التفسير الحديث 35.

تعليق على السؤال عن موعد القيامة وما في الجواب من دلالة بليغة

بهم أو كأنهم يظنونك مولعا خبيرا بعلمها، والحفيّ بمعنى الملحف في السؤال أو بمعنى المبالغ في إكرام الغير أو المهتمّ به. احتوت الآية الأولى حكاية سؤال وجّهه بعضهم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن وقت قيام القيامة وإلحاحهم عليه بذلك وأمرا له بإعلان انحصار علمها في الله سبحانه وتعالى الذي جعل لها موعدا معينا في علمه لا يعلمه غيره وكونها لا تأتي الناس إلّا بغتة، وكونها عظيمة الخطر في السموات والأرض لما سوف يترتّب على حلولها من أمور عظيمة وأهوال جسيمة. واحتوت الآية الثانية أمرا للنبي صلّى الله عليه وسلّم بإعلان كونه لا يعلم الغيب ولا يملك لنفسه نفعا ولا ضرّا إلّا ما شاء الله وأنه لو كان أمره غير هذا لمنع عن نفسه الضرّ ولاستكثر لنفسه الخير، وأنه ليس إلّا نذيرا وبشيرا لمن يرغب في الهداية والإيمان. والمتبادر أن الآية الثانية استمرار للجواب الذي أمر الله سبحانه النبي صلّى الله عليه وسلّم بإعلانه للناس على سؤالهم عن موعد قيام الساعة. والآيتان ليستا منفصلتين عن السياق على ما يتبادر منهما وإن كان من المحتمل أنهما نزلتا لحدّتهما، وبدتا كفصل مستقلّ مستأنف. فالآيات السابقة أنذرت الناس بالآخرة وحسابها وثوابها وعقابها فأخذ الناس يسألون النبي صلّى الله عليه وسلّم عن موعدها فنزلت الآيات جوابا على ذلك. وليس هناك رواية صريحة عن هويّة السائلين. وقد تراوح تخمين المفسرين بين أن يكونوا يهودا أو عربا. وقد قال ابن كثير إن الأشبه أن يكونوا عربا لأن الآيات مكية. وهذا هو الأوجه والأرجح لأن احتكاك اليهود بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وتوجيههم الأسئلة إليه إنما كان في العهد المدني. تعليق على السؤال عن موعد القيامة وما في الجواب من دلالة بليغة وهذه المرة الأولى التي يرد فيها هذا السؤال ثم تكرر كثيرا فيما بعد.

فالإنذار بيوم القيامة وأهوالها وحسابها قد تكرر كثيرا بل هو أكثر موضوع تكرر بأساليب متنوعة في القرآن وكان من أشدّ مواضيع الحجاج بين الكفار والنبي وأكثرها. وكان من أشدّ دعائم الدعوة والإنذار والتبشير. فمن الطبيعي أن يتكرر السؤال عنه. وكان السؤال على الأعمّ الأغلب يأتي من كفّار العرب. وأكثر ما كان أسلوب سؤالهم أسلوب إنكار وتحدّ وسخرية مثل ما جاء في آية سورة يونس هذه: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) وقد تكرر السؤال بنفس الصيغة في آية سورة الأنبياء [38] وفي آية سورة النمل [71] حيث لم يكونوا يؤمنون بالقيامة ويسخرون من الإنذار والتبشير بها على ما ورد في آيات عديدة مرّ بعضها ومن ذلك آيات سورة المؤمنون هذه: قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) ومثل آية سورة هود هذه: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) . على أن أسلوب الآية الأولى يلهم أن السؤال فيها ليس من هذا الباب وإنما هو سؤال المستعلم المستقصي، حتى ليخطر بالبال أنه من غير الكفار وقد روى الطبري فيما روى أن قريشا قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم إن بيننا وبينك قرابة فأسرّ إلينا متى الساعة. وقد جاء الجواب بنفي ما يمكن أن يكون قد قام في أذهان السائلين من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم يعلم الغيب ويعلم علم الساعة أو أنه يدّعي ذلك بأسلوب قويّ حاسم تتجلّي فيه صورة رائعة من الصميمية النبويّة بتبليغ كل ما يوحى إليه به، ومن جملة ذلك أنه بشر مثل سائر البشر يمسّه من السوء مثل ما يمسّهم ويحرم من وسائل الخير المادية مثل ما يحرمون ولا يعلم الغيب ولا يملك لنفسه نفعا ولا ضرّا إلا ما شاء الله، وليس هو إلّا نذير وبشير وهاد لمن يريد أن يتّعظ ويؤمن ويهتدي. وقد تكررت هذه الصورة بأساليب ومناسبات عديدة مرّ منها بعض الأمثلة. ولقد أورد البغوي حديثا رواه بطرقه عن أبي هريرة في سياق جملة لا

[سورة الأعراف (7) : الآيات 189 إلى 198]

تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لتقومنّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه. ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه. ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقى فيه. ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها» والحديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة ولكن صحته محتملة وهو بسبيل بيان قيام الساعة بغتة. ولعل من الحكمة المنطوية فيه حث الناس على الاستعداد دائما للرحيل عن الدنيا بآجالهم أم بانتهاء أجل الدنيا وقد اتقوا الله وعملوا بما أمر ونهى وحدد وحكم ولم يشذوا ولم ينحرفوا حتى يلقوا الله وهو راض عنهم. وهذا منطو في حكمة تعمية وقتها والإيذان بأنها لا تأتي إلّا بغتة في هذه الآيات وأمثالها. وهناك أحاديث نبوية في أشراط الساعة أرجأنا إيرادها لمناسبة أكثر ملاءمة. غير أننا ننبه هنا إلى أمر هام وهو أن هذه الآيات وأمثالها صريحة بأن الله تعالى غيب علم وقوعها على جميع خلقه وأذن أنها لا تأتي إلّا بغتة مع توكيد مجيئها. فيجب الإيمان بكل ما جاء عنها في القرآن أو في الأحاديث الصحيحة والوقوف عندها بدون تزيد. [سورة الأعراف (7) : الآيات 189 الى 198] هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198)

(1) فلما تغشّاها: كناية عن المضاجعة. (2) حملت حملا خفيفا: كناية عن دور الحمل الأول. (3) فلما أثقلت: كناية عن دور الحمل الثاني. (4) عباد أمثالكم: مخلوقات من مخلوقات الله مثلكم. (5) كيدوني: أنزلوا بي الأذى أو نيلوني بكيدكم إذا قدرتم. (6) فلا تنظروني: فلا تمهلوني. لم يرو المفسرون مناسبة خاصة لنزول الآيات. والمتبادر أنها استمرار في السياق مع التفات في الخطاب للسامعين. وفيها تنديد بالجاحدين لنعمة الله والناقضين لعهودهم معه والمشركين به، وتهوين لشأن الشركاء الذين يتخذونهم من دون الله والذين لا يملكون لهم ولا لأنفسهم نصرا ولا يخلقون شيئا ولا يسمعون ولا يبصرون، وتحد لهم في صدّهم وسخرية بهم، وإعلان بلسان النبي صلّى الله عليه وسلّم أن وليّه الله الذي نزّل الكتاب وأنه وليّ كل مؤمن صالح. وعبارتها واضحة. وأسلوبها قوي نافذ شديد الإفحام من شأنه أن يسدّ منفذ أي منطق للمشركين ويحبط أي حجّة لهم في إشراك أي شيء من موجودات الكون وقواه مع الله في الدعاء والعبادة والاتجاه والشكر، وفي أمل جلب الخير لهم ودفع الشرّ عنهم ونصرهم في الملمات، وقوة الإفحام مستحكمة بنوع خاص بسبب ما احتوته الآية الأولى من حكاية اعترافهم بالله على أنه ربّهم الأكبر خالقهم ورازقهم ومدبّر الأكوان. وقد احتوت تحدّيا لاذعا وتبكيتا قارعا يزيدان في قوّة الإفحام أيضا. فالذين يشركونهم مع الله مخلوقون كسائر مخلوقات الله وعاجزون عن خلق أي شيء كما أنهم عاجزون عن حماية أنفسهم من أي طارئ فضلا عن عجزهم عن نصر الذين يتخذونهم شركاء. كذلك في أسلوب الآيات القويّ المتحدّي اللاذع ما يبعث الثقة والطمأنينة في نفس النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين لأنه أسلوب الواثق بقوّة موقفه المستعلي على مجادله. وهذا

تعليق على الآية هو الذي خلقكم من نفس واحدة والآيات التسع التالية لها وما فيها من صور وتلقين

مما استهدفته الآيات فيما هو المتبادر أيضا. تعليق على الآية هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ والآيات التسع التالية لها وما فيها من صور وتلقين لقد روى الطبري وغيره عن أهل التأويل روايات مختلفة الصيغ متفقة المدى تفيد أن جملة نَفْسٍ واحِدَةٍ تعني آدم الذي كان أول من خلقه الله من البشر وجملة وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها تعني حواء التي خلقها الله منه وأنهما كان يسميان أولادهما بأسماء منسوبة إلى الله مثل عبد الرحمن وعبد الله فيموتون فوسوس لهما إبليس بتسميتهم بأسماء غير منسوبة إلى الله مثل عبد الحرث ففعلا فعاشوا. وهناك حديث رواه الترمذي والحاكم وصححه عن سمرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لما حملت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال سمّيه عبد الحرث فسمّته عبد الحرث فعاش وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره» «1» . غير أن هناك من توقف في هذه الروايات وفي الحديث ونعته بالمرفوع أو الموقوف بل وهناك من قال إنه مروي عن إسرائيليين ولا يجوز الأخذ به «2» . وروي عن الحسن أن الآيات هي في صدد رجل وامرأة من كفّار بني آدم ومشركيهم «3» وهناك من روى أنها في صدد عربي وعربية من قريش من ولد قصي «4» . ولقد قال الذين تمسكوا بصحة الحديث إن الكلام في الآية الأولى فقط في صدد آدم وحواء. واستشكلوا في نسبة الشرك إليهما فقالوا إنه ليس شرك عبادة وإنما هو شرك طاعة. لأن هناك قاعدة عند أهل السنّة من المفسرين وهي التقيّد بالحديث النبوي إذا صحّ عندهم في تفسير الآيات.

_ (1) التاج ج 4 ص 107. (2) انظر تفسير رشيد رضا والقاسمي وابن كثير. (3) انظر هذه الكتب وانظر الطبري والبغوي. (4) انظر الزمخشري.

وهذا حق. غير أن الحالة هنا هي غير ذلك لأن الحديث ليس مجمعا عليه بل ومتوقفا فيه. وإذا أمعنّا في الآيات نراها أولا وحدة تامة منسجمة برغم انتقال الضمائر فيها من الجمع الغائب إلى الجمع المخاطب الذي هو مألوف في النظم القرآني «1» ونراها ثانيا مصبوبة على المشركين وأوثانهم وفيها تنديد بهم وتحدّ لهم. ونرى في صرفها أو صرف بعضها إلى آدم وحواء مشكلا وفي ما حاولوه من صرف نسبة الشرك إليهما تكلفا. وضمير الجمع المخاطب الذي انتقل إليه الكلام يجعلنا نرى القول إنها في صدد مشركين عرب هو الأوجه. بل وإنها موجهة إلى المشركين السامعين. ولقد قال المؤولون والمفسرون الذين صرفوها إلى المشركين العرب إن ما عنته الآية الأولى هو ما كانوا يطلقونه على أولادهم من أسماء معبوداتهم مثل عبد اللاة وعبد مناة وعبد العزى وعبد يغوث وعبد ودّ. ومع احتمال الصواب في هذا ووجاهته فإنه يتبادر لنا أن الإشارة أعمّ شمولا وأنها تعني أيضا تسفيه عقيدتهم في كون شركائهم ذوي أثر فيما يتّم لهم من نعمة الولد وسلامته. وفيما يأخذون به من إشراك شركائهم مع الله بالشكر والدعاء والاتجاه. وفي الآيات كما هو المتبادر صورة أوضح مما سبق لعقيدة الشرك عند العرب قبل الإسلام وشمولها وهدفها الدنيوي. ولقد علّقنا على هذه العقيدة وهدفها في سياق تفسير سورة المدثّر فلا نرى ضرورة للإعادة. والوصف الذي احتوته الآيات للشركاء قد يدلّ على أن موضوع الكلام هو الأوثان الجامدة التي كان العرب يتخذونها رموزا لآلهتهم السماوية وبخاصة للملائكة ويقيمون عندها طقوسهم ويقربون قرابينهم على ما شرحناه في سياق سورة (النجم) ، وفي الآية [198] بخاصة دليل أو قرينة على أن هذه الأوثان كانت

_ (1) من أمثلة ذلك آية سورة يونس هذه: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 199 إلى 202]

مخلّقة. أي على صورة إنسان أو حيوان له عينان ولكن لا تبصران وأذنان ولكن لا تسمعان. ويبدو من الوصف مع ذلك أن المشركين كانوا يعتقدون أن للأوثان تأثيرا مباشرا في جلب النافع ودفع الضارّ عنهم أيضا. ومن هنا تبدو قوة التبكيت اللاذع الذي احتوته الآيات. هذا، ونقف عند الآية الأولى لنقول إنها في ما قررته من كون الذكر والأنثى من نفس واحدة يلمح كون الجنسين زوجا واحدا جعل كل منهما مكملا للآخر وكونهما بناء على ذلك في مرتبة واحدة من حيث الحياة الإنسانية ووظائفها. وكل ما في الأمر أن لكل منهما وظيفة تناسلية مختلفة عن وظيفة الآخر وحسب. وفي هذا تدعيم لما نبهنا عليه من مبدأ التساوي بين الذكر والأنثى في سياق تفسير سورة الليل. [سورة الأعراف (7) : الآيات 199 الى 202] خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202) . (1) العفو: جاءت الكلمة في القرآن بمعنى التجاوز عن السيئات وبمعنى الزائد من المال والميسور للصدقات منه. وقال المفسرون إنها هنا بهذا المعنى كما قالوا إنها بمعنى قبول ظواهر الناس وأعذارهم والتسامح والمياسرة معهم. (2) العرف: المعروف. وكل ما تعورف على أنه خير وبرّ وصلاح ومباح وإحسان وكل ما فيه ذلك داخل في معنى الكلمة. (3) الجاهلين: جاءت في القرآن بمعنى ضدّ العالمين وجاءت بمعنى الغافلين والجاحدين والسفهاء. وهنا هي بالمعنى الأخير. ومن المفسرين من قال

شرح الآية خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين والآيات الثلاث التي بعدها وتلقيناتها

إنها بمعنى ذوي المزاج الحديد الذي يهتاج لأقلّ سبب. (4) نزغ: وسوسة. وقيل إن معنى الكلمة في مقامها ثورة من غضب. (5) طائف: وسوسة أو خطرة من خطرات النفس السيئة أو ثورة غضب أو من شيطان أو اقتراف ذنب على اختلاف الأقوال. وأصل معنى الطائف الإلمام أو المسّ أو الطارئ. (6) وإخوانهم: الضمير في الكلمة عائد إلى الجاهلين على أوجه الأقوال. شرح الآية خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ والآيات الثلاث التي بعدها وتلقيناتها الخطاب في الفصل موجّه إلى مخاطب قريب. وفحوى الآية الأولى منه يدلّ على أنه موجّه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقد احتوى بعض التعليمات والتنبيهات والتنديدات. ولا تبدو صلة ظاهرة تربطه بالسياق السابق حتى ليكاد يبدو مستقلا. ومع ذلك فليس فيه موضوع مناقض أو مغاير أو بعيد عمّا احتواه السياق. ولم يرو المفسرون رواية خاصة في مناسبة نزوله إلّا رواية رواها الطبري ليس فيها مناسبة أصلية وإنما فيها مناسبة فرعية وسنوردها بعد قليل. ولعل حكمة التنزيل اقتضت بإيحائه عقب الفصول السابقة ليتصرف النبي صلّى الله عليه وسلّم وفق ما احتواه. أو لعلّه أنزل لمناسبة أزعجت نفس النبي صلّى الله عليه وسلّم وأثارته عقب نزول الفصول السابقة فدوّن في سياق واحد معها. وقد أوجبت الآية الأولى على النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يتسامح مع الناس ويقبل ميسورهم وظواهرهم وإعذارهم دون تشدّد ولا تزمّت. وأن يأمر بكل ما فيه الخير والصلاح وألّا يساجل الجاهلين في جهلهم وطيشهم وأن يعرض عنهم. ويغضي عمّا قد يسوؤه منهم. ونبهته الآية الثانية إلى الرجوع إلى الله عزّ وجلّ والعياذ به كلما حاول شيطان

أن يمسّه بنزغة من نزغاته ويلقي إليه بوسوسة من وساوسه. أما الآيتان الثالثة والرابعة فقد احتوتا استطرادا فيه تنويه بالمؤمنين المتقين وتنديد بالجاهلين الكافرين. فالأولون كلما ألمّ بهم شيء من ذلك تذكروا الله وعظمته وأوامره ونواهيه فتنبهوا واستقاموا وتخلصوا، في حين أن الآخرين يخضعون لنزغات إخوانهم الشياطين الذين يظلون يوسوسون لهم ويورطونهم دون كلل أو تقصير. وقد يكون نزغ الشيطان المذكور في الآية الثانية مطلقا وقد يكون في صدد ما أمر النبي به من خطة في الآية الأولى. ولقد روى الطبري عن ابن زيد أنه لما نزلت الآية الأولى قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: فكيف بالغضب يا ربّ فنزلت الآية التي بعدها. فإذا صحت الرواية ولا مانع من صحتها فتكون الآية الأولى هي عمود الفصل وتكون الآيات تفريعا تنبيهيا لها ويستأنس بها على رجحان الاحتمال الثاني. على أن هذا وارد سواء أصحّت أم لم تصحّ. ولئن وجّه الخطاب في الآيتين الأوليين للنبي صلّى الله عليه وسلّم لتحتويا على خطة له لمعالجة ما اقتضته ظروف الدعوة من شؤون ومواقف وحالات. فإن الاستطراد الذي نوّه فيه بالمتقين وندّد فيه بالجاهلين تسوغ القول إن الآيات الأربع قد انطوت على تلقينات جليلة مستمرة المدى سلوكية ونفسية وتثبيتية وتنديدية في آن واحد لتكون مستمد إلهام وتلقين لكل مسلم وبخاصة للذين يتولون القيادة في حركات النضال والدعوة والإصلاح. لأنهم بطبيعة مهمتهم مضطرون إلى الاحتكاك بمختلف طبقات الناس ومعرضون لكثير من المواقف والمشاهد والانفعالات والحالات التي يجب مواجهتها بمثل الخطة الحكيمة البليغة التي احتوتها الآية الأولى. وتلقين الآيتين الثالثة والرابعة قوي بليغ، فالذين يتّقون الله ويبتغون رضاءه يسارعون حالا إلى كظم غيظهم والانتباه إلى ما أوشكوا أن يتورطوا فيه من الانفعالات ووساوس النفس ونزغات الشيطان ويعوذون بالله لتصفو نفوسهم وتهدأ انفعالاتهم وتنخسئ عنهم وساوس الشياطين ويعودون إلى ما هو الأولى بهم من السكون ورباطة الجأش والتجلّد والتزام الخطة المرسومة في الآية الأولى بعكس أضدادهم الذين فقدوا الإيمان والوازع الديني فيقعون تحت تأثير

تعليق على الأمر بالاستعاذة من نزغات الشيطان ومدى هذه النزغات في النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الناس

الوساوس والنزغات دائما ويرتكسون نتيجة لذلك في مختلف الانحرافات والآثام. ولقد أورد الطبري في سياق الآية الأولى حديثا عن سفيان بن عيينة عن رجل سمّاه قال: «لما نزلت هذه الآية خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا جبريل ما هذا؟ قال ما أدري حتى أسأل العالم قال ثم قال جبريل يا محمد إن الله يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك» وروى الطبري هذا بطريق آخر عن أبيّ أيضا. والحديث لم يرد في كتب الأحاديث المعتبرة. ولكن صحته محتملة وفيه توضيح وتساوق مع تلقين الآية القرآنية كما هو واضح. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الثانية حديثا جاء فيه: «إنّ رجلين تسابّا بحضرة النبي صلّى الله عليه وسلّم فغضب أحدهما حتى جعل أنفه يتمرّغ غضبا، فقال رسول الله إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» . وقد روى هذا الحديث البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود بصيغة مقاربة عن سليمان بن صرد قال: «استبّ رجلان عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فجعل أحدهما تحمرّ عيناه وتنتفخ أوداجه فقال رسول الله إني لأعرف كلمة لو قالها لذهب عنه الذي يجد. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. فقال وهل ترى بي من جنون» «1» . حيث ينطوي في الحديث تعليم نبوي متساوق مع التعليم القرآني. تعليق على الأمر بالاستعاذة من نزغات الشيطان ومدى هذه النزغات في النبي صلّى الله عليه وسلّم وسائر الناس والتعليم بالاستعاذة من نزغات الشيطان ووساوسه يأتي هنا للمرة الثانية. والمرة الأولى جاءت في سورة الناس وقد ذكر فيها الجنة بدلا من الشيطان هنا.

_ (1) التاج ج 5 ص 47.

ولقد شرحنا هدف التعليم بالاستعاذة وما تبثّه في النفس من سكينة وطمأنينة. وأوردنا طائفة من الآيات والأحاديث في سياق تفسير سورة الفلق فنكتفي بهذا التنبيه بالنسبة للاستعاذة. غير أن صيغة الآية [200] التي نحن في صددها مختلفة نوعا ما. حيث تأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالاستعاذة من الشيطان إذ أن نزغه منه الذي فسّره الجمهور على أنه الغضب. وهذه الصيغة تكررت في آية سورة فصلت هذه: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وجاءت بصيغة أخرى في آيات سورة المؤمنون هذه: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) وقد كانت هذه الآيات موضوع بحث كلامي عما إذا كان يمكن أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم عرضة لنزغات وهمزات ووساوس الشياطين وتأثيرهم كسائر الناس وبما إذا كان هذا مما يخلّ في عصمته. وبما إذا كان هذا مما يصحّ أن يشمل ما يصدر عنه من أوامر وتعليمات وما يبلغه من وحي الله وقرآنه. وقد تطرق المفسّر الخازن إلى هذا الأمر في سياق تفسير آية الأعراف التي نحن في صددها فقال إن الآية بسبيل التعليم وليست بسبيل تقرير أمر وقع. أو أنها من باب لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] والنبي صلّى الله عليه وسلّم بريء من الشرك البتة. وإن الشيطان لو حاول الوسوسة له فإن الله عاصمه عن قبولها والتأثّر بها. وأورد بسبيل ذلك حديثا رواه ابن مسعود قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما منكم من أحد إلّا وقد وكّل به قرينه من الجنّ وقرينه من الملائكة قالوا وإياك يا رسول الله قال وإيّاي إلّا أنّ الله أعانني عليه فأسلم من شرّه وفتنته» «1» . تطرق رشيد رضا في تفسيره لآية سورة الأعراف التي نحن في صددها إلى هذا الموضوع أيضا. وفنّد أي احتمال لتأثّر النبي صلّى الله عليه وسلّم بوسوسة الشيطان وأورد الحديث وقال إنه وارد في صحيح مسلم.

_ (1) انظر تفسير الآيات في الخازن. [.....]

تعليق على رواية نسخ آية خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين

والمتبادر أن أسلوب الآيات ومداها لا يتحمل هذا البحث. وأن الآية الثانية من الآيات التي نحن في صددها ليست إلّا بسبيل التنبيه على ما يمكن أن يطرأ على نفس النبي صلّى الله عليه وسلّم من انفعالات وأزمات تجاه المواقف والحالات المثيرة وبسبيل تهدئته مما هو متصل بطبيعة البشر التي قرر القرآن أن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها مثل سائر البشر. على أن من المحتمل أن يكون الخطاب للسامع المسلم إطلاقا وهذا من أساليب القرآن المألوفة والمتكررة، ويمكن أن يضاف إلى هذا وذاك أن القرآن قرر أنه ليس للشيطان سلطان على الذين آمنوا وعلى ربّهم يتوكلون كما جاء في آية سورة النحل [99] وأنه لا سبيل له على عباد الله المخلصين كما جاء في آيات سورة الحجر [40- 42] وهذا ضابط من ضوابط القرآن المحكمة. والنبي صلّى الله عليه وسلّم أول عباد الله المؤمنين الذين لا يمكن أن يكون للشيطان سبيل إليهم ولا سلطان عليهم. بل إن هذا المعنى مندمج في الآيات التي نحن في صددها كما يظهر للمتمعن فيها، فإذا ما حاول الشيطان أن يمسّ المؤمنين المخلصين بنزغة من نزغاته تذكروا في الحال فنجوا منها. تعليق على رواية نسخ آية خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ هذا، وقد قال بعض المفسرين إن الآية الأولى نسخت بالآيات التي تأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بقتال الكفار والمنافقين والإغلاظ لهم وهذا القول يتكرر في كل مناسبة مماثلة على ما نبهنا عليه قبل. ولسنا نرى هذا في محله. فالآية احتوت خطة ربانية للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين إزاء الناس جميعهم الذين يدخل فيهم المسلمون. وهذه الخطة مؤيدة بآيات عديدة مدنية ومكية مثل آية سورة آل عمران هذه: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وآية سورة النساء هذه: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً (63) وآية سورة

فصلت هذه: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وآية سورة الإسراء هذه: وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) وآية سورة آل عمران هذه: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) بحيث يمكن أن يقال إن ما احتوته الآية من حثّ على أخذ الناس بالعفو من أخلاقهم وقبول الميسور منهم والتسامح في معاشرتهم والإغضاء عن طيش جاهليهم من مبادئ القرآن المحكمة. وليس من تعارض بين هذا وبين معاملة من يستحق الشدّة والغلظة والقتال بما يستحق بطبيعة الحال حتى يصحّ القول بنسخ الآية. وقد قال الطبري الذي روى رواية النسخ عن بعض أهل التأويل من الصدر الإسلامي إنه ليس لديه دليل على نسخها، وإن المراد منها تأديب النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين جميعا وأمرهم بأخذ عفو أخلاق الناس. وتعليمهم صفة عشرة بعضهم بعضا وعشرة من لم يجب أخذه بالغلظة والشدّة. ولقد أورد البغوي حديثا رواه بطرقه في سياق هذه الآية عن عائشة قالت: «لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاحشا ولا متفحّشا ولا صخّابا في الأسواق. ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح» . وحديثا آخر عن جابر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن الله بعثني لإتمام مكارم الأخلاق وإتمام محاسن الأفعال» . ولم نطلع على هذين الحديثين في كتاب التاج الذي جمع أحاديث أئمة الحديث الصحيح الخمسة. وهذا لا ينفي صحتهما ولقد روى مؤلف التاج حديثا مقاربا للحديث الأول مرويا عن أنس قال: «لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاحشا ولا لعانا ولا سبّابا» «1» . وروى عن الترمذي وأبي داود حديثا عن أبي الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن. وإن الله ليبغض الفاحش البذيء» .

_ (1) التاج ج 5 ص 33.

[سورة الأعراف (7) : آية 203]

وروى عن الترمذي حديثا عن أبي ذرّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن» «1» . وروى عن الترمذي ومسلم والبخاري حديثا عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «خياركم أحاسنكم أخلاقا» وفي رواية: «إنّ من أخيركم أحسنكم خلقا» «2» . حيث ينطوي في الأحاديث صورة من أخلاق رسول الله واهتمامه بالحثّ على مكارم الأخلاق مما له صلة بالتأديب القرآني الذي تحتوي عليه الآية. وكفى ثناء على أخلاق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آية سورة القلم وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) . وكان ذلك من أسباب اصطفاء الله إياه لرسالته العظمى اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ كما جاء في آية سورة الأنعام [124] . [سورة الأعراف (7) : آية 203] وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) . (1) آية: قال ابن كثير إن المقصود من الآية في هذه الآية معجزة، غير أن معظم المفسرين أوّلوها بآية قرآنية. وهذا أوجه وفي الآية قرينة على وجاهة هذا التأويل والآية القرآنية بمعنى جملة قرآنية. (2) لولا: جاءت في القرآن كثيرا بمعنى هلا للتحدي وهي هنا بهذا المعنى. (3) اجتبيتها: قال المفسرون إنها هنا بمعنى اختلقتها أو تقوّلتها. والاجتباء في الأصل الاصطفاء وهي من جبى بمعنى أخذ. في الآية حكاية لبعض مواقف الكفار حيث كانوا يقترحون على النبي صلّى الله عليه وسلّم الإتيان بآية. وحينما لا يلبيهم يلمزونه قائلين هلا اختلقت ما نطلب منك. وقد أمرت النبي صلّى الله عليه وسلّم بالردّ عليهم بأنه إنما يتبع ما يوحى إليه به من ربّه وليس له إلّا التزام

_ (1) التاج ج 5 ص 57. (2) المصدر نفسه.

تعليق على جملة إنما أتبع ما يوحى إلي

حدود ذلك وإن ما يبلغه ليس تقوّلا على الله وإنما هو وحي رباني يوحيه الله ليكون هدى ورحمة للذين صدقت رغبتهم في الحق والإيمان والتبصّر. ولم يذكر المفسرون رواية في نزول هذه الآية لمناسبة خاصة. ويتبادر لنا أن لها صلة بالفصل السابق. وضمير الجمع الغائب يمكن أن يكون قرينة على هذه الصلة لأنه يربط بينها وبين الآية الأخيرة السابقة التي تذكر إخوان الشياطين. ولا يبعد أن يكون الموقف الساخر الذي حكته الآية بقولهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم: (هلا اختلقتها) هو الذي أثار انفعال النبي صلّى الله عليه وسلّم فتقدمت الآيات السابقة بالخطة الحكيمة والتنويه والتنبيه والتنديد بين يديّ الباعث عليها. وفحوى الآية يلهم أن الكفار قد طلبوا آية قرآنية وليس آية خارقة أي معجزة. فلما لم يجبهم إلى طلبهم وقال لهم إن القرآن وحي من الله يبلغه حينما يوحي الله به إليه غمزوه بما غمزوه وأثاروا انفعاله. وهكذا تكون الآية قد احتوت صورة جديدة من صور مواقف تحدّي الكفار. وقد تكرر هذا منهم وتكرر نفس الجواب لهم على ما حكته آية سورة يونس هذه: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) . تعليق على جملة إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَ وفي هتاف النبي صلّى الله عليه وسلّم بأمر الله بأنه إنما يتبع ما يوحى إليه من الله وليس له إلّا تبليغه وبأن القرآن ليس ارتجالا وليس هو رهن الطلب والاقتراح وبسبيل الجدال والمماحكة وإنما هو بصائر وهدى ورحمة لمن صدقت نيته ورغبته في الإيمان والهدى تتجلّى صميميته الرائعة بإعلان الحق والحقيقة والتزام حدود الله ويتجلّى عمق إيمانه برسالته وصلته بالله واستغراقه فيهما. وفي الآية بعد تنويه جميل

[سورة الأعراف (7) : آية 204]

بأصحاب النيات الحسنة والرغبات الصادقة لأنهم لا يكابرون إزاء الحق والصدق ولا يمارون فيهما ويتلقونهما بالقبول والإذعان. [سورة الأعراف (7) : آية 204] وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) . تعليق على الآية وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ روى الطبري أن الآية نزلت في فتى من الأنصار كان كلّما قرأ النبي شيئا من القرآن قرأه. وروى عن أبي هريرة أنها نزلت في صدد رفع المسلمين أصواتهم وهم خلف رسول الله في الصلاة. وهذا روي بطرق عديدة عن أشخاص عديدين. وروي كذلك إلى أن الآية في صدد الإنصات للإمام وخطبة الجمعة وحسب. وهناك حديث يرويه الطبري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «إذا قرأ الإمام فأنصتوا» وهذا الحديث لم يرد في الكتب المعتبرة. ولكن هناك أحاديث من بابها في هذه الكتب حيث روى الترمذي وأبو داود حديثا عن عبادة قال: «صلّى بنا رسول الله الصبح فثقلت عليه القراءة فلما انصرف قال إني أراكم تقرءون وراء إمامكم قلنا يا رسول الله إي والله قال لا تفعلوا إلّا بأمّ القرآن فإنّه لا صلاة لمن لا يقرأها وفي رواية فلا تقرءوا بشيء من القرآن إذا جهرت به إلّا بأمّ القرآن» «1» . وإلى هذا فقد روى الطبري وغيره عن بعض أهل التأويل أنها عامة في الصلاة وغيرها وليس من تعارض في هذا كما هو المتبادر. والرواية التي تذكر أنها نزلت في فتى الأنصار غير واردة في الكتب المعتبرة. ونلمح الاتصال بينها وبين سابقاتها التي ذكر فيها القرآن وما فيه من بصائر وهدى ربانيين لقوم يؤمنون حيث يسوغ القول إن الآية لم تنزل لحادث معين وإنما نزلت للمناسبة السابقة أو معها بسبيل تعليم المؤمنين عامة آداب الاستماع للقرآن حينما

_ (1) انظر تفسير الآية في تفسير القاسمي. الجزء الثاني من التفسير الحديث 36

يتلى في الصلاة وفي غير الصلاة لما فيه من أسباب الهدى والتذكير والرحمة الربانية. ولقد قال الزمخشري والطبرسي إن الأمر بالاستماع يعني الطاعة للقرآن والتزام ما فيه من أوامر ونواه وحدود. وهذا الواجب هو من قبيل تحصيل الحاصل. غير أن كلمة (وأنصتوا) قد تكون مرجحة لكون الأمر بالاستماع في هذا المقام هو في إيجاب الاهتمام لسماعه والإنصات له. وواضح أن التعليم والتأديب اللذين احتوتهما الآية عام شامل. وفيهما إيجاب للسير عليه في كل ظرف ومكان. وفي مخالفتهما انحراف عن أمر الله وإساءة أدب إزاء كتابه الكريم المستحقّ لكل توقير وتكريم من جهة والواجب تدبر آياته للانتفاع بها واستحقاق رحمة الله من جهة أخرى وهذا لا يتمّ إلا بحسن الإنصات والاستماع. واستلهاما من روح الآية يمكن أن يقال إن هذا الأدب يجب أن يترافق بأدب آخر وهو تكريم القرآن وتنزيهه عن المجالس والمواقف المبتذلة حيث يجب أن يصان كلام الله فلا يتلى إلّا في المواقف والمجالس التي تساعد على الإنصات والاستماع والخشوع والتدبّر. وعدم تلاوته في المجالس المبتذلة غير اللائقة أو على قارعة الطريق حيث يكون الناس متبذلين وغادين ورائحين ومنصرفين عنه إلى شؤونهم العادية مما يتناقض مع هذا الأدب القرآني السامي. ولقد روى رشيد رضا في سياق تفسير الآية قولا لابن المنذر بأن هناك إجماعا على عدم وجوب الاستماع والإنصات في غير الصلاة والخطبة. لأن في ذلك حرجا عظيما حيث يقتضي أن يترك كل ذي شغل شغله فيترك العالم علمه والحاكم حكمه والتاجر تجارته إلخ. ولم نطلع في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي من المفسرين القدماء على مثل هذا القول. وقد يكون القول في ذاته وجيها بقطع النظر عن زعم الإجماع فيه إذا كانت القراءة في المجالس والمناسبات غير الملائمة أو غير اللائقة أو على قارعة الطريق كما قلنا والله أعلم.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 205 إلى 206]

ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآية حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من استمع إلى آية من كتاب الله كتبت له حسنة مضاعفة» . وهذا الحديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة. ولكن صحته محتملة. وفيه حثّ للمؤمنين على حسن استماع القرآن تساوقا مع التلقين القرآني. هذا، وهناك آثار مروية في كيفية تلاوة القرآن وترتيله أرجأناها إلى مناسبة أكثر ملاءمة. [سورة الأعراف (7) : الآيات 205 الى 206] وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) . (1) الغدوّ: هو وقت أول النهار. (2) الآصال: جمع أصيل هو وقت آخر النهار إلى قبيل الغروب. في الآية الأولى أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالاستمرار في ذكر الله في الصباح والمساء وفي حالة الخضوع والخشوع والاستشعار بالخوف والهيبة وبغير تظاهر ولا استعلان وألّا يغفل عن ذلك مع الغافلين. وفي الثانية تقرير تذكيري بأن الذين عند الله لا يستكبرون عن عبادته وهم في تسبيح وسجود دائمين له. والمقصودون في الآية الثانية هم الملائكة حيث ورد وصف حالتهم المماثلة مع ذكرهم الصريح في آيات قرآنية أخرى مثل آية سورة الزمر هذه: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75) وآية سورة الشورى هذه: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) .

تعليق على الآية واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال إلخ وتنبيه على ما أعاره القرآن لذكر الله من عناية وما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث في ذلك وما في كل هذا من تلقين

ولم يرو المفسرون رواية خاصة في نزول الآيتين. وإنما ذهب الطبري إلى أن الآية الأولى منهما موجهة إلى الذين وجهت إليهم الآية السابقة لها لتأمرهم بذكر الله حينما يستمعون للقرآن على صورة التضرّع والتخشّع ودون الجهر بالقول. وقد أنكر ابن كثير ذلك وقال إنه مناقض على كل حال لأمر الإنصات الوارد في الآية السابقة. وأن الأمر في الآية الأولى من الآيتين عام على سبيل التعليم والتأديب وهذا القول في محله. ونضيف إليه إن اختلاف صيغة الضمائر في الآية الأولى من الآيتين والآية السابقة لها تجعل القول إن في الآية الأولى أمرا جديدا غير الأمر الوارد في الآية السابقة لها هو الأوجه في نطاق ما شرحنا به الآية. ويدعم هذا الآية الثانية التي احتوت صورة عن إخلاص الملائكة لله وتسبيحهم وسجودهم لهم وعدم استكبارهم. وعلى كل حال فالآيتان متصلتان مدى وفحوى بالآيات السابقة لها. وعليهما طابع الختام الذي يلمح في سور عديدة. تعليق على الآية وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ إلخ وتنبيه على ما أعاره القرآن لذكر الله من عناية وما أثر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من أحاديث في ذلك وما في كل هذا من تلقين وضمير المفرد المخاطب في الآية الأولى وإن كان من المحتمل أنه يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم على سبيل التسكين والتطمين فإن التعليم والتأديب اللذين انطويا فيها مما يصح أن يكون شاملا للمسلمين. وفيه تلقين مستمر المدى. فالاستمرار في ذكر الله تعالى مما يمدّ المسلم دائما بالخشية والتقوى والطمأنينة ويجنبه المزالق ويبعد عنه الوساوس. وفي مجانبة الإعلان والتظاهر في عبادة الله وذكره دلالة على الإخلاص وبعد عن شائبة الرياء ونزغاته. ولقد كثرت الآيات القرآنية التي تحثّ على ذكر الله وتنبّه إلى ما في ذلك من

واجب وما يبعثه من هدوء وطمأنينة وما يحفّز عليه من ملاحظة الله وخشيته وعبادته والتقرّب إليه وتنفيذ أوامره واجتناب ما نهى عنه من أخلاق وأفعال والتي تندد بالذين لا يذكرون الله وما يؤدي إليه ذلك من قسوة القلب وظلمة النفس وعدم التورع عن الجحود واقتراف المنكرات والآثام حتى لتبلغ الأربعين. وهذا خلاف ما استعمل فيه فعل الذكر لمقاصد أخرى. نورد من ذلك الأمثلة التالية على سبيل التمثيل لا الحصر: 1- فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة: 152] . 2- الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ [آل عمران: 191] . 3- فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ [النساء: 103] . 4- إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: 91] . 5- الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: 2] . 6- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال: 45] . 7- الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) [الرعد: 28] . 8- وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى [طه: 124] . 9- رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ [النور: 37] .

10- اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ [العنكبوت: 45] . 11- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب: 41- 42] . 12- أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الزمر: 22- 23] . 13- أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ [الحديد: 16] . 14- اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ [المجادلة: 19] . 15- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [المنافقون: 9] . حيث يبدو من هذه الآيات وأمثالها الكثيرة ما اقتضته حكمة التنزيل من إعارة هذا الأمر عناية بالغة لما ينطوي فيه من أهداف سامية دنيوية وأخروية معا. ولقد أثرت أحاديث نبوية عديدة في ذكر الله وفوائده والحثّ عليه. منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول الله عزّ وجلّ أنا عند ظنّ عبدي بي وأنا معه حين يذكرني. فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه وإن اقترب إليّ شبرا تقرّبت إليه.

ذراعا وإن اقترب إليّ ذراعا اقتربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» «1» . وحديث ثان رواه الشيخان عن أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحيّ والميّت» «2» . وحديث ثالث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يقعد قوم يذكرون الله عزّ وجلّ إلّا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده» «3» . وحديث رابع رواه الترمذي عن جابر: «قال رجل يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ فأخبرني بشيء أتشبّث به قال لا يزال لسانك رطبا بذكر الله» «4» . حيث يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الأمر شأنه في كل أمر. [تم بتوفيق الله الجزء الثاني ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثالث وأوله تفسير سورة الجنّ]

_ (1) التاج ج 5 ص 78- 80، وفي كتاب الأذكار والأدعية الذي نقلناه عنه هذه الأحاديث من هذا الجزء أحاديث عديدة أخرى فاكتفينا بما أوردناه. (2) انظر المصدر نفسه ص 78- 80. (3) انظر المصدر نفسه. (4) انظر المصدر نفسه.

فهرس محتويات الجزء الثاني

فهرس محتويات الجزء الثاني تفسير سورة العاديات 7 مغزى القسم القرآني بالخيل 9 تعليق على مدنية السورة 9 تفسير سورة الكوثر 11 تفسير سورة التكاثر 15 تفسير سورة الماعون 18 مدى وتلقينات آيات السورة 21 تفسير سورة الكافرون 25 مبدأ حرية التدين في النظام الإسلامي 27 تفسير سورة الفيل 41 تفسير سورة الفلق 45 طائفة من الآيات والأحاديث في الاستعاذة 48 تعليق على ما روي في صدد نزول السورة 51 تفسير سورة الناس 59 تعليق على موضوع الجن 62 تفسير سورة الإخلاص 68 تعليق على مدى تقرير وحدة الله في هذه السورة 71 تفسير سورة النجم 74

تعليق على مدى متناول آيات وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى والعصمة النبوية 78 تعليق على روايات الإسراء والمعراج 81 تعليق على ما ورد في كتب التفسير من مسألة رؤية النبي ربّه عز وجل 97 شرح عقائد العرب في اللاة والعزى ومناة والملائكة وتعليقات في صدد ذلك 100 تعليق على تعبير الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ. 106 تعليق على مبدأ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ومبدأ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى 113 تفسير سورة عبس 121 مدى العتاب الرباني للنبي صلّى الله عليه وسلّم 122 تفسير سورة القدر 129 تعليق على ما روي في صدد نزول السورة 130 تعليق على روايات نزول القرآن جملة واحدة 132 تعليق على ليلة القدر 133 تعليق على كلمة الروح 136 تفسير سورة الشمس 138 تعليق على جملة وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها 140 تعليق على جملة فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها 140 تعليق على ناقة ثمود 141 تفسير سورة البروج 143 تعليق على ذكر البروج 145 تعليق على محنة فتنة المسلمين الأولين 147 المرأة المسلمة في هذه المحنة وفي دور الفتنة 150 تعليق على موضوع التوبة 151 تعليق على اللوح 160

تفسير سورة التين 163 تفسير سورة قريش 167 تعليق على قريش والبيت والرحلات التجارية 168 تفسير سورة القارعة 182 تعليق على الموازين وثقلها وخفتها في الآخرة 183 تلقينات السورة جملة 187 تفسير سورة القيامة 188 تعليق على محاولة ربط البنان بعلم بصمات الأصابع الحديث 190 تعليق على ما تفيده ظواهر الآيات من بعث الناس بأجسادهم 192 تعليق على دلالة آيات لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ وأخواتها 196 تعليق على موضوع رؤية الله عز وجل 198 تفسير سورة الهمزة 205 تفسير سورة المرسلات 207 تعليق على عبارة انفراج السماء وانطماس النجوم 210 تنبيه إلى أن الدعوة الإسلامية قائمة على الإقناع 213 تعليق على ما يمكن أن يتوهم من تناقض في حكاية حال الكفار يوم القيامة 214 تعليق على مدى التنويه بالمحسنين والإحسان 216 تفسير سورة ق 220 تعليق على ذكر القرآن والقسم به 221 تعليق على حكاية تعجب الكفار من مجيء رسول إليهم منهم وإنذاره بالآخرة 222 صورة من الأسلوب القرآني في مخاطبة العقل والقلب والحس في البرهنة على قدرة الله 225 تعليق توضيحي لأهل الرس والأيكة وتبّع 227

تعليق على موضوع الملائكة الكاتبين على أيمان الناس 231 تعليق على جملة وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ 233 ما في التنديد بمنع الخير من تلقين 237 تعليق على تعبير وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ 238 تنبيه إلى مدى عقيدة الشرك عند العرب 239 تعليق على ما حكته بعض الآيات من حوار بين الله وبين قرناء الإنسان 239 تعليق على ما روي عن مفسري الشيعة 240 وجوب تلازم الإيمان مع التقوى والعمل الصالح 241 تعليق على مدى جملة وَلَدَيْنا مَزِيدٌ 242 كثرة الآيات المتضمنة تطمينا للنبي عليه السلام وحكمتها 245 تعليق على موضوع خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام 246 تعليق على مدى العبارات القرآنية في تعيين أوقات الصلوات 250 تعليق على ما يمده ذكر الله وتسبيحه وعبادته للمؤمن من قوة معنوية تساعده على مواجهة الملمات 251 معنى توالي السور التي احتوت توكيد البعث والحساب 252 خبر عن تلاوة رسول الله هذه السورة 252 تفسير سورة البلد 253 تعليق على عبارة لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ 255 تعليق على جملة وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ 256 تعليق على جملة أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ 256 تلقينات آيات سورة البلد الأولى 257 التلازم بين العمل الصالح والإيمان أيضا 259 تعليق على موضوع الرقيق وموقف القرآن منه 259 تعليق على إعطاء الناس يوم القيامة كتب أعمالهم 264 تفسير سورة الطارق 267 تفسير سورة القمر 271 تعليق على انشقاق القمر 273 تعليق على موضوع اقتراب الساعة 277 تعليق على كلمة الحكمة ومعانيها في القرآن 278

تعليق توضيحي للأقوام الذين ذكروا في السلسلة القصصية 283 تعليق على الآية إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ 287 تفسير سورة ص 298 تعليق على مدى ما انطوى في جملة أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ 301 تعليق على سلسلة قصص الأنبياء وهدفها 305 تعليق على قصة الخصم الذي تقاضى أمام داود وتلقيناتها 307 تعليق على ما احتوته الآية يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ ... 309 تعليق على تسخير الجبال والطير ليسبحن مع داود 312 تلقينات آية وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا إلخ 313 تعليق على كلمة الكتاب 314 تعليق على آية كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ إلخ 315 تعليق على ما روي في سياق قصة سليمان 322 التلقينات المنطوية في قصة أيوب 325 تعليق على توسع بعض الفقهاء في تأويل تحلة اليمين التي يسرها الله لأيوب 326 تعريف بالأسماء المذكورة في الآيات 329 تعليق على عدم وصف إسماعيل واليسع وذي الكفل بوصف عبادنا وعدم قرن إسماعيل مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب 332 تعليق على جنات عدن 334 تعليق على ما في آيات قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وما بعدها من دلالة ومدى 339 استطراد إلى حديث نبوي مروي في سياق الآية ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ ... 340 تعليق على قصة آدم وسجود الملائكة له وتمرد إبليس وتلقيناتها 342 تعليق على تعبير وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي 354 تعليق على ما سجله الله تعالى في القرآن من كرامة بني آدم في هذه القصة 355 التلقين المنطوي في جملة وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ 359 تعليق على جملة وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ 359 تفسير سورة الأعراف 361 تعليق على قصة آدم وإبليس في هذه السورة 367 تعليق على التلقين القرآني بالشكر لله ومداه 369 تعليق على جملة إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ 371

تعليق على جملة إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ 373 تعليق على جملة وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً 376 تعليق على جملة فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ 377 تعليق على مسجد 378 تعليق على الآيات الثلاث يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ وما بعدها 384 أحاديث في ستر العورة 386 التلقين الذي انطوى في حكاية تلاوم الأجيال في جهنم 395 تعليق على مدى جملة لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها 398 تعليق على الآية ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً ... 409 استطراد إلى موضوع الدعاء لله ومداه 409 تعليق على الآية إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ ... 412 تعليق على دلالة جملة وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ إلخ 415 استطراد إلى جريمة اللواط 424 تلقينات القصص وما فيها من نقاط بارزة متصلة بالهدف القرآني 426 تلقين الآيات التي جاءت معقبة على فصل القصص 430 تعليق على عبارة يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ 431 تعليق على كلمة (نبي) 433 تعليق على تعبير مَكْرَ اللَّهِ 434 تعليق على الحلقة الأولى من قصة موسى وفرعون وبني إسرائيل وتلقيناتها 437 تعليق على آية وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها إلخ 441 تعليق على جملة رَبِّ الْعالَمِينَ 443 تلقينات الحلقة الثانية من قصص «بني إسرائيل» 449 تعليق على جملة فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ 453 تعليق على جملة لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ ... 453 تعليق على الآيتين سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ ... 455 تعليق على عبارة إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ 457 تعليق على جملة قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ ... 458 تعليق على ذكر الزكاة في الآية [156] 460

تعليق على الآية الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ ... 460 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 470 تعليق على حلّ الطيبات وتحريم الخبائث 475 تعليق على كلمتي التوراة والإنجيل 476 تعليق على الألواح التي ذكرت في الآية [145] 497 تعليق على ما يرويه الشيعة في صدد جملة وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ 517 تعليق على رواية مدنية الآيات [163- 170] 520 تعليق على حادث السبت وتلقيناته 520 تعليق على ما في آية وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ من تلقين وإعجاز قرآني 523 تعليق على آية وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ إلخ 524 تعليق على الإسهاب في قصص بني إسرائيل 527 تعليق على جملة وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ 529 تعليق على آية وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها وتلقينها 534 تعليق على جملة وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها 537 تعليق على جملة مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ 539 تعليق على جملة الذين يلحدون في أسمائه 540 تعليق على القصص عن موعد القيامة وما في الجواب من دلالة بليغة 546 تعليق على آيات هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها إلخ وتلقيناتها 550 تلقين آيات خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وما بعدها 553 تعليق على مدى نزغات الشيطان في النبي والناس 555 تعليق على رواية نسخ آية خُذِ الْعَفْوَ 557 تعليق على جملة إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ 560 تلقين آية وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا 561 تلقين آية وَاذْكُرْ رَبَّكَ إلخ 564

الجزء الثالث السور المفسرة في هذا الجزء «1» 1- الجنّ. 2- يس. 3- الفرقان. 4- فاطر. 5- مريم. 6- طه. 7- الواقعة. 8- الشعراء. 9- النمل. 10- القصص. 11- الإسراء. 12- يونس. 13- هود.

_ (1) انظر الفهرست المفصل في آخر الجزء.

سورة الجن

سورة الجنّ في السورة حكاية لقصة استماع نفر من الجن للقرآن وأثرها ومواعظ ومبادئ قرآنية بمناسبتها. وأسلوب الآيات يدلّ على تساوق فصليها ووحدة نزولها أو نزولهما الواحد بعد الآخر تتابعا. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 15] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) . (1) جد ربنا: عظمة ربنا. (2) صاحبة: كناية عن الزوجة.

شرح الفصل الأول من السورة والتعليق على مدى محتوياته

(3) سفيهنا: جاهلنا. (4) شططا: بعيدا عن الحق. (5) يعوذون: يستجيرون ويلتجئون. (6) رهقا: قال الزمخشري أصل معنى الرهق غشيان المحارم والمتبادر من فحوى الآيات أن الكلمة الواردة في الآية [6] بمعنى زادوهم كفرا وضلالا والواردة في الآية [13] بمعنى ظلما وحيفا. (7) شهبا: جمع شهاب وهو في الأصل النور أو الشيء المضيء. وقد جاء في القرآن على الأكثر للكناية عن الشهب المنقضة من السماء نحو الأرض. (8) رصدا: مترصدا ومترقبا. (9) طرائق قددا: مذاهب متفرقة. (10) ظننا: هنا بمعنى تيقنا. (11) بخسا: ظلما أو انتقاصا. (12) القاسطون: هنا بمعنى المنحرفين أو الجائرين. شرح الفصل الأول من السورة والتعليق على مدى محتوياته هذه الآيات هي الفصل الأول من الفصلين اللذين تتألف منهما السورة. وفيها أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يخبر الناس بأن الله تعالى أوحى إليه بأنه استمع نفر من الجن للقرآن فعظّموا شأنه وشأن ربّهم العظيم وآمنوا به ونزّهوه عن اتخاذ زوجة وولد وأنهم تذاكروا مع بعضهم أمورا متنوعة مما كانت عليه أحوالهم وعقائدهم وظنونهم وموقف جماعات من الإنس إزاءهم وما بوغتوا به بخاصة من تكاثر الشهب المنقضة من السماء في هذا الظرف وما أثار ذلك فيهم من خوف وتساؤل على النحو الوارد في الآيات والواضح العبارة. ولقد روى البخاري والترمذي عن ابن عباس حديثا جاء فيه: «انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ. وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء. وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين فقالوا ما لكم قالوا

حيل بيننا وبين خبر السماء. وأرسلت علينا الشهب. قالوا ما حال بينكم وبين خبر السماء إلّا ما حدث. فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حدث فانطلقوا ينظرون. فالذين توجّهوا نحو تهامة سمعوا قراءة رسول الله وهو يصلّي الفجر بأصحابه بنخلة! فتسمّعوا له فقالوا هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء. فرجعوا إلى قومهم فقالوا يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربّنا أحدا. وأنزل الله تعالى قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ. وإنما أوحي إليه قول الجن» «1» . ولقد أورد الطبري هذا الحديث وأعقبه بكلام يفيد أن حادث استماع الجنّ للقرآن المذكور في هذه السورة وحادث استماعهم المذكور في آيات سورة الأحقاف هذه: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) واحد. مع أن الذي نرجّحه بل المستفاد من روح مجموعتي السورتين والفترة الطويلة بين نزول السورتين وحديث آخر مروي في سياق نزول مجموعة الأحقاف أنهما حادثان على ما سوف نزيده شرحا في سياق تفسير سورة الأحقاف. والعبارة القرآنية قطعية الدلالة على حدوث هذا الحادث الغيبي. ومن واجب المسلم الإيمان به كما هو الشأن في الإيمان بوجود الجنّ على ما شرحناه في سياق سورة الناس. والآيات مع الحديث تساعد على تسجيل الملاحظات التالية: 1- إن الآية الأولى تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير نفر الجن ولم يسمع أقوالهم وأن ذلك كان أمرا مغيبا عنه أخبر وبه بوحي رباني قرآني. وقد روى المفسرون حديثا عن ابن عباس جاء فيه فيما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قرأ على الجنّ ولا رآهم وإنما أوحي إليه قولهم «2» .

_ (1) التاج ج 4 ص 246. ونخلة موضع قريب إلى سوق عكاظ بين مكة وسوق عكاظ. (2) انظر تفسير ابن كثير لآيات الأحقاف وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ إلخ مثلا. وهذا المعنى وارد في الحديث المروي آنفا أيضا.

2- إن الآيات تقرّر بصراحة وجود الجنّ وأنهم طوائف ومذاهب وأن منهم الصالحين وغير الصالحين والمسلمين والقاسطين والمنحرفين والعقلاء الراشدين، والسفهاء الضالين. 3- إن الآية السادسة تحتوي صورة لما كانت عليه عقائد العرب في الجنّ حيث كانوا يعتقدون بوجودهم وبما هم عليه من قوة وتأثير. وكانوا يخشون شرّهم ويستعيذون بهم. 4- إن ما جاء في صدد قعود الجنّ مقاعد للسمع في السماء وما كان من تبدّل الموقف وابتلاء السماء بالشهب والحرس وأن من يحاول منهم الاستماع كما كان يفعل سابقا يجد شهابا مترصّدا له هو حكاية عن الجنّ وليس تقريرا قرآنيا مباشرا. غير أن أسلوب الآيات يلهم أنهم يقولون أمورا واقعة لا ينفيها القرآن. وقد أيّدها في آيات عديدة في سور أخرى مثل آيات سورة الحجر هذه: وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) وآيات سورة الصافات هذه: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10) وآية سورة الملك هذه: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5) . 5- إن الآية الرابعة قد تلهم أن النفر المستمعين كانوا يدينون بأن الله سبحانه اتخذ زوجة وكان له منها ولد. ونرجّح أن هذا يمتّ إلى عقيدة النصارى أكثر من عقيدة العرب الذين كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله لأنه ليس في عقائد العرب أن لله زوجة. ولقد علقنا فى كلمة الجن بما فيه الكفاية في سياق تفسير سورة الناس ونقول هنا إن وجود الجنّ وأخوالهم وماهية استراقهم السمع من السماء من الأمور

المغيبة التي يقررها القرآن، فيجب الإيمان بها ولو لم تدركها الحواس البشرية أو يتسق مع ما عرفه الناس من نواميس ونظم كونية كسائر الحقائق المغيبة التي قررها القرآن والوقوف منها عند ما وقف عنده القرآن دون تزيد وتمحل. فالعقل البشري كان وما يزال عاجزا عن إدراك كنه كثير من أسرار الكون وقواه. ولقد أورد المفسرون أحاديث عديدة في سياق تفسير آيات سورة الحجر فيها تفصيلات عن استراق الشياطين للسمع وإيصال الأخبار إلى السحرة والكهان لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. ولكنها متساوقة مع ما جاء في حديث البخاري وآيات سورة الجن وسور الحجر والصافات والملك. منها حديث عن ابن عباس قال: «تصعد الشياطين أفواجا تسترق السمع فينفرد المارد فيها فيعلو فيرمى بالشهاب فيصيب جبهته أو جنبه أو حيث شاء الله منه فيلتهب فيأتي أصحابه وهو يلتهب فيقول إنه كان من الأمر كذا وكذا فيذهب أولئك إلى إخوانهم من الكهنة فيزيدون عليه أضعافه من الكذب فيخبرونهم به فإذا رأوا شيئا مما قالوا قد كان صدقوهم بما جاؤوهم به من الكذب» . وحديث أورده البغوي في سياق الآيات المذكورة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا قرّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترقوا السمع ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض فيسمع أحدهم الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربّما ألقاها قبل. أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء» . ومنها حديث رواه البغوي عن عائشة في سياق الآيات نفسها جاء فيه: «إنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الملائكة تنزل في العنان وهو السّحاب فتذكر الأمر الذي قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهّان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم» . ونرجّح بل نجزم بأن ما ورد في هذه الأحاديث كان مما يتداوله العرب قبل

الإسلام. ولقد روى الطبري في سياق آيات سورة الصافات عن الزهري أن انقضاض الشهب قد تزايد كثيرا إبّان ظهور النبي صلى الله عليه وسلم. فمن المحتمل أن يكون ذلك قد لفت نظر العرب وجعلهم يكثرون من التحدث عنه. ويحسبون أن لبعثة النبي صلى الله عليه وسلم صلة ما بذلك حيث كانوا ينعتونه بالساحر والشاعر والكاهن الذين كانوا يعتقدون أن الشياطين تنزل إليهم بأخبار السماء على ما حكته آيات عديدة عنهم مثل آيات سورة الطور هذه: فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) وآيات سورة الحاقة هذه: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وآيات سورة الذاريات هذه: كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وآية سورة ص هذه: وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) فاقتضت حكمة التنزيل ذكر مسألة استراق الشياطين للسمع في الآيات القرآنية لإعلامهم أن الشياطين قد منعوا من أخبار السماء وأن الله تعالى قد حفظها منهم وأعدّ لهم فيها شهبا راجمة وأن الجن قد يئسوا من ذلك ثم بيان كون الشياطين إنما كانت تنزل على الكاذبين الأفاكين الآثمين. وكون القرآن الصادق الداعي إلى الله وحده والمبشّر بأسمى المبادئ لا يمكن أن تنزل به شياطين وكون الرسول الذي يبلغ هذا القرآن لا يمكن أن يكون له صلة بالشياطين وإنما صلته بالله تعالى كما جاء في آيات سورة الشعراء هذه: 1- وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) . 2- وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (213) .

3- هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) . وإن الذي ينزل عليه بالقرآن ملك رسول من الله تعالى وليس شيطانا كما جاء في آيات سورة التكوير هذه: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) . ولقد كانوا يكررون أقوالهم على ما حكته الآيات فاقتضت حكمة التنزيل تكرار الكلام عن الموضوع بسبيل الردّ والتكذيب. ولقد توهم بعضهم أن محاولات البشر في هذه الحقبة في الطيران إلى الأجواء العالية بواسطة الصواريخ الهائلة السرعة واحتمال وصولهم إلى القمر والنجوم ونزولهم فيها مما يتعارض مع ما جاء في الآيات التي نحن في صددها وأمثالها في السور الأخرى على ما فهمناه من سؤال ورد علينا من جماعة الإرشاد الإسلامي في مدينة شيبرون من مدن جاوا الأندينوسية. وليس لهذا التوهم محلّ في مجال الآيات ومقامها ومداها على ضوء الشرح المتقدم. وهذا الوهم آت من فكرة محاولة تطبيق النظريات الفنية على الآيات القرآنية أو استنباط النظريات الفنية من هذه الآيات وهي فكرة لا طائل من ورائها ولا سواغ لها على ما نبهنا عليه في تفسير سورة القيامة. مع التنبيه على أنه ليس في القرآن نصوص تتعارض مع محاولات البشر المذكورة بل إن فيه حضّا على ذلك وإن كان غير مباشر من حيث أن الله آذن البشر في القرآن بأنه سخّر لهم ما في السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم وإن ذلك يوجب عليهم بذل الجهد في الانتفاع بما سخره لهم بمختلف الوسائل وعلى مختلف المستويات «1» والله تعالى أعلم.

_ (1) اقرأ مثلا آيات سورة النحل [9- 16] ولقمان [19] .

هذا، ومما يتبادر من روح الآيات التي نحن في صددها أن حكاية موقف النفر الذي استمع القرآن وأقواله ليست مقصودة لذات قصتها وإنما قصدت في الدرجة الأولى إلى الموعظة والحكمة والتأثير على سامعي القرآن. فسامعو القرآن وهم العرب في الدرجة الأولى والمباشرة كانوا يعتقدون بوجود الجن وقوتهم وتأثيرهم وصعودهم إلى السماء واستراقهم السمع منها واتصالهم بالكهّان والسحرة والشعراء اتصال تلقين وإلهام وتعليم وإخبار. وكانوا يخشون شرهم ويدافعون عن هذا الشر بالاستعاذة بهم وإشراكهم مع الله في التذلّل والتقرّب- وهذا مما أخبر به القرآن كما جاء في آية سورة سبأ هذه: قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) - فاقتضت حكمة التنزيل حكاية هذا الحادث الغيبي ليرى الكفار من السامعين أن من هؤلاء الذين يتصورونهم أقوياء بطاشين جريئين على السماء والذين يتخذونهم معبودات ويتقرّبون إليهم بالعبادة والاستعاذة من رأى أعلام النبوّة المحمدية وآمن بها حينما استمع إلى القرآن الذي يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم واعترف بما فيه من هدى ورشد وإدراك ما كانوا عليه من سخف وضلال في إنكار البعث ونسبة الولد والزوجة إلى الله، وأمل الإفلات من حسابه وعقابه وسنّة المشتطين المنحرفين. ومما يجعل هذا التوجيه قويّا ما جاء في آخر آية من السورة السابقة من تقرير كون الذين عند الله- وهم الملائكة على ما شرحناه في مناسبتها- لا يستكبرون عن عبادته ويسبّحونه ويسجدون له. فللملائكة في أذهان العرب صورة قوية كما كان للجنّ على ما شرحناه في سياق تفسير سورة المدثّر، وكلاهما شغلا حيزا كبيرا في أفكارهم وعقائدهم وتقاليدهم فذكر الملائكة بما ذكروا به في آخر السورة السابقة وذكر نفر الجنّ بما ذكروا به في السورة التي تلتها لهما معناهما من الترابط والتساوق في الإشارات والمقاصد القرآنية في صدد موقف هذين الخلقين الغيبيين العظيمين من الله والإخلاص له، وفي دعوة العرب الذين لهما في أذهانهم ما لهما إلى الاقتداء والتأسي بهما. وهذا التساوق بين آخر

[سورة الجن (72) : الآيات 16 إلى 27]

السورة السابقة وهذه السورة قد يحتوي قرينة على صحة ترتيب نزول هذه السورة عقب تلك. ولقد تكررت هذه الإشارات في مواضع أخرى من القرآن بأسلوب يسوغ الترجيح أنها إنما جاءت في صدد توكيد هذا المعنى الذي نقرره على ما سوف نشرحه في مناسباتها. كذلك يمكن القول إن هذه الإشارات والتقريرات تحتوي هدفا إيجابيا بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من جهة والكفار من جهة أخرى. فمن الجهة الأولى فيها تسلية بأن الملائكة وبعض طوائف الجنّ يقفون وإياهم في موقف واحد من الإيمان بالله ورسالته والإخلاص له وإدراك حقيقة ربوبيته وشمولها ووحدتها والسير في طريق الحق والسداد. ومن الجهة الثانية فيها ترغيب وترهيب للكفار حيث تقصّ عليهم هذه القصص ليكون لهم عبرة ومزدجر، وليقتدوا بهذين الخلقين العظيمين اللذين يشغلان في نفوسهم ذلك الحيز الكبير. وهذا قد يقوي وجوب الوقوف في ذاتية الموضوع عند الحدّ الذي وقف عنده القرآن والثابت من الأحاديث النبوية بدون تزيّد وتوسّع لا طائل من ورائهما مع اليقين بأن ما ورد فيهما إنما ورد لحكمة متصلة بأهداف الدعوة الإسلامية والرسالة النبوية من مثل ما ذكرناه. والله أعلم. [سورة الجن (72) : الآيات 16 الى 27] وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27)

(1) الطريقة: هنا كناية عن طريق الحق والخير. (2) غدقا: كثيرا مستمرا. (3) لنفتنهم: لنختبرهم. (4) المساجد: هنا بمعنى السجود والصلاة. (5) عبد الله: كناية عن النبي صلى الله عليه وسلم. (6) لبدا: متزاحمين أو متكتلين أو متألبين. (7) ملتحدا: ملجأ. (8) ولن أجد من دونه ملتحدا إلّا بلاغا من الله ورسالاته: أوجه ما قيل في تأويلها أني لن أجد ملجأ من الله إلّا بإبلاغ وحيه ورسالاته أو أن كل مهمته إبلاغ رسالة الله. هذا هو الفصل الثاني من السورة، وقد احتوى: 1- تقريرا ربانيا بأن الناس لو اتّبعوا الطريق القويم واستقاموا عليه لأسقاهم الله ماء غدقا يكثر به رزقهم اختبارا لشكرهم واعترافهم بفضل الله، أما الذين يستكبرون ويبطرون ويعرضون عن ذكر ربهم وشكره يسلّط الله عليهم البلاء الشديد. 2- ودعوة ربانية بأن لا يدعو أحد مع الله أحدا ولا يشركوا معه في سجودهم وخضوعهم أحدا معه. 3- وإشارة إلى ما كان من مقابلة الناس للدعوة النبوية من تكتل وتآمر وتألب ومعارضة وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم: إن دعوتي لله وإني لا أشرك معه أحدا. كأنما يراد بهذا أن يقال لهم أيضا إن هذه المقابلة منكم عدوان وبغي لأنني لا أدعو إلى منكر وإنما أدعو إلى الخير والحق.

تعليق على مفهوم آيات الفصل ودلالته وتلقيناته

4- وأوامر ربانية أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم بإبلاغ الناس بأنه لا يستطيع أن يضر أحدا ولا ينفعه، وأنه لا يجيره من الله تعالى إلّا إبلاغ رسالته ووحيه، وأن من يعص الله ورسوله فمصيره الخلود في جهنّم حيث يدرك العصاة حينما يرون مصداق ما يوعدون من هو الأضعف والأقل، كأنما يراد بهذا تحدّي الكفار وإنذارهم بأن عصيانهم على الله ورسوله هو منتهى السخف والضلال والجرأة، لأنهم أعجز من أن يستطيعوا الانتصار على الله، وأنهم مخدوعون إذا قاسوا وقائع الحياة الدنيا على الآخرة واغترّوا بقوّتهم وكثرتهم لأن ذلك لن يغني عنهم من الله شيئا. 5- وأمرا ربانيا للنبي صلى الله عليه وسلم بإبلاغ الناس كذلك بأنه لا يدري وقت تحقيق ما يوعدون به أيطول أم يقصر. فالله لا يظهر على غيبه أحدا إلّا ما شاء ممن ارتضى من الرسل الذين يجعلهم تحت حفظه ومراقبته للتحقق من قيامهم بمهمتهم وتبليغ رسالاته التي انتدبهم إليها، ويحيط بكل أمر من أمورهم وهو المحيط بكل أمر والمحصي لكل شيء. تعليق على مفهوم آيات الفصل ودلالته وتلقيناته ولقد تعددت الأقوال والروايات التي يرويها المفسرون عزوا إلى ابن عباس وعلماء التابعين في مدى الآيات الثلاث الأولى «1» . من ذلك أنها من جملة كلام الجن المحكي في الفصل الأول «2» . ومن ذلك أنها مع بقية الفصل كلام مستقل عن الجن. وتقرير قرآني مباشر. ومن ذلك أنها عنت الإنس والجن معا. ومن ذلك أنها عنت الكفار فقط.

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والزمخشري والطبرسي. (2) في الحديث الذي رواه البخاري والترمذي عن ابن عباس وأوردناه قبل زيادة مروية للترمذي وهي: (لما رأى الجنّ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يصلّون بصلاته ويسجدون بسجوده فعجبوا من طواعية أصحابه له وقالوا لقومهم لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا) ويبدو أن الذين قالوا إن الآيات تقرير مباشر أو من أقوال الكفار أو في صددهم لم تثبت عندهم هذه الزيادة. [.....]

والمتبادر المستلهم من روح الآيات أنها مع سائر آيات الفصل الثاني كلام مستقلّ وأن المقصود بالآيات الثلاث كفار العرب. وأن هذا الفصل قد جاء تعقيبا التفاتيا للفصل السابق له. ويوثق ذلك تماثل الضمير في جمل وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا وكادُوا يَكُونُونَ وحَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ وواوات العطف المستمرة في جميع آيات الفصلين. ولعل في الآية [24] صورة لما كان في نفس زعماء الكفار من استصغار لشأن النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه لما كانوا عليه من قلّة وضعف. وقد احتوت الآية ردا عليهم منددة بسخفهم متوعدة إياهم باليوم الآخر الذي يظهر فيه القوي من الضعيف والقليل من الكثير حيث لا ينفع مال ولا بنون إلّا من أتى الله بقلب سليم. وفي هذا كما هو المتبادر تسلية وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين. ويستلهم من الآية [25] أنها جواب على تساؤل الناس عن موعد قيام القيامة حيث أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان عدم علمه به ثم عقبت الآية [26] على هذا بأن ذلك من خصائص الله الذي لا يطلع على غيبه أحدا إلّا من ارتضى من رسول. وفي هذا تماثل لموقف حكته آيات السورة السابقة [186- 187] مع فرق الاستثناء هنا. على أن روح الآيات هنا تلهم أنها ليست بسبيل استثناء علم ذلك الموعد. وتكرر السؤال والجواب يدلّ على أن أفكار الناس ظلّت تشتغل بالآخرة وموعدها بين مستعلم وساخر مما هو تجاوب طبيعي لكثرة ورود الوعد والوعيد بها. وقد يدل تماثل السؤال والجواب في هذه السورة وسابقتها على صحة ترتيبها في النزول. وآيات هذا الفصل مصدر إلهام وتلقين جليل مستمر المدى. سواء أفيما احتواه من عادة الله في اختبار الناس بنعمه وتذكيرهم بواجب شكره، أم في تنزيه النفس عن الدعاء والصلاة لغير الله في كل حال، أم في نفي أي نفع وضرر من أحد على أحد إلّا الله، أم في التنديد بالمغترين بقوتهم وعددهم. أم في تذكير الناس بإحاطة الله بكل شيء ووجوب مراقبته وابتغاء رضائه والبعد عن موجبات سخطه وغضبه.

تعليق على جملة ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم

وتتجلى صميمية النبي صلى الله عليه وسلم الرائعة واستغراقه في مهمته في إعلانه ما جاء في الآيات [20- 22] من أنه إنما يدعو إلى الله وحده وأنه لا يملك لأحد ضرّا ولا رشدا وأنه لن يجيره من الله أحد إذا تهاون في أداء المهمة التي انتدبه إليها كما تجلّت في سياق إعلان الآية [187] من السورة السابقة. تعليق على جملة لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وبمناسبة ورود هذه الجملة في الآية الأخيرة نقول إن مثل هذه الجملة وما في معناها قد تكرر في مواضع كثيرة مثل لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً [الكهف: 12] ووَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ [سبأ: 21] وأَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ [التوبة: 16] ووَ ما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا [آل عمران: 166- 167] . ولما كان علم الله تعالى محيطا وشاملا لكل ما كان ويكون ولكلّ ماض وحاضر ومستقبل ولكلّ سرّ وعلن ولكلّ ما في صدور الناس وليس من شيء من كونه وخلقه غير معلوم عنده مما قررته آيات مكية ومدنية كثيرة جدا تغني كثرتها عن التمثيل فمن واجب المؤمن أن يؤمن بذلك وأن يعتبر مثل هذا التعبير أسلوبيا بمعنى (ليظهر) و (ليتبين) و (لينكشف) ما هو خاف على الناس من أحداث وأفعال وصور. وهذا هو ما عليه جمهور المؤولين. وهو من المألوفات الخطابية والله تعالى أعلم.

سورة يس

سورة يس في السورة توكيد لرسالة النبي صلى الله عليه وسلم وصدقها وتنويه بالقرآن. وتقريع للكفار وتنديد بعقائدهم وشدّة غفلتهم وعنادهم. وفيها قصة من القصص المسيحية كما فيها تنويه بنعم الله وبعض مشاهد الكون، وإنذار وتبشير بيوم القيامة وبعض مشاهده ومصائر المؤمنين والكافرين فيه. وفصول السورة منسجمة ومترابطة تسوغ القول إنها نزلت جملة واحدة أو متلاحقة وقد روي أن الآية [45] مدنية وانسجامها في سياقها يحمل على التوقف في الرواية. ولقد روى الترمذي والبيهقي عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنّ لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس ومن قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات» «1» . وروى الإمام أحمد عن معقل بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قلب القرآن يس. لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة إلّا غفر الله له. اقرؤوها على موتاكم» «2» . وروى الإمام مالك والبيهقي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه الله غفر له» «3» . حيث ينطوي في الأحاديث تنويه نبوي بهذه السورة لعلّ من حكمته ما فيها من مواعظ وأمثال. وفي الأحاديث دلالة على أن السور القرآنية كانت مرتّبة معروفة بأسمائها المتواترة تواترا لا ينقطع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.

_ (1) التاج ج 4 ص 18. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه.

[سورة يس (36) : الآيات 1 إلى 12]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة يس (36) : الآيات 1 الى 12] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12) . (1) الحكيم: المحكم الذي لا يأتيه باطل، أو الذي ليس فيه باطل. (2) مقمحون: من الإقماح، وهو رفع الرأس. ومعنى الآية التي جاءت فيها أنهم رافعوا رؤوسهم لا يستطيعون تحريك أعناقهم من الأغلال التي فيها. (3) أغشيناهم: حجبنا عنهم أو غطينا على أبصارهم. (4) اتّبع الذكر: صدق بالقرآن وآمن به واتبعه. (5) خشي الرحمن بالغيب: خاف الله مما أنذر به من المصير الأخروي المغيّب أو خاف الله الذي آمن به وبالحقائق المغيبة التي لا تدركها حواسه أو خاف الله حينما يخلو لنفسه. (6) ونكتب ما قدموا وآثارهم: نكتب ما فعلوه في حياتهم وما تركوه بعدهم من سنن وتقاليد وتبعات أو تحصى أعمالهم حتى آثار خطاهم. (7) إمام مبين: قيل إن الجملة تعني (أمّ الكتاب) الذي سجل فيه أعمال الناس. ويتبادر لنا من روح الجملة والسياق أنها كناية عن علم الله الشامل الذي يحصي على الناس أعمالهم إحصاء دقيقا.

تعددت الأقوال المروية عن التابعين في تأويل معنى يس (1) «1» فقيل إنها اسم من أسماء الله أو اسم من أسماء القرآن أو اسم من أسماء النبي وقيل إنها من اللغة الحبشية بمعنى يا إنسان أو إنها كذلك في لهجة طي. وإنها في أصلها انيسين ثم صارت ياسين. وقيل إنها من نوع الحروف المنفردة التي جاءت في مطالع السور العديدة الأخرى. وهذا ما نرجحه بدليل أنه أعقب الحرفين قسم بالقرآن. وهو الأسلوب الذي جرى عليه النظم القرآني في معظم السور التي بدأت بالحروف المنفردة. وتكون والحالة هذه مثلها للتنبيه والاسترعاء. والله أعلم. أما الآيات فقد احتوت: 1- توكيدا للنبي صلى الله عليه وسلم بصدق رسالته وصحة نسبة التنزيل القرآني إلى الله وقوة إحكامه، وكونه على الطريق القويم لينذر قوما غافلين لم ينذر آباؤهم. 2- وحملة شديدة على معظم القوم الذين لم ينتفعوا بالإنذار ووقفوا من الدعوة موقف الجحود والعناد حتى كأنما ضرب عليهم سدّ حجب عنهم رؤية الحق. وكأنما قيّدت رؤوسهم بالأغلال فعجزوا عن تحريكها يمنة أو يسرة لاستبانة طريق الهدى. 3- وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. فهو إنما أرسل لينذر الناس وينتفع بإنذاره الذين حسنت نياتهم وصدقت رغباتهم في الحق، واستشعروا بخوف ربهم فآمنوا به واتبعوا قرآنه ورسوله فاستحقوا مغفرته وأجره الكريم. 4- وتقريرا ربانيا بأن الله سوف يحيي الناس بعد موتهم وأنه يسجل عليهم جميع ما فعلوه في حياتهم وخلفوه من تبعات بعد موتهم تسجيلا دقيقا وواضحا. ولقد روى الطبري والبغوي عن ابن عباس وأبي سعيد الخدري أن الآية الأخيرة نزلت في بني سلمة من الأنصار الذين كانت محلتهم بعيدة عن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فأرادوا الانتقال إلى قرية فنزلت لتبشرهم وتطمئنهم بأن خطاهم تحسب

_ (1) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.

تعليق على آيات إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا ...

لهم فثبتوا في محلّتهم. ومقتضى الرواية أن تكون الآية مدنية دون غيرها مع أنها منسجمة مع السياق ولم يرو أحد أنها مدنيّة. ولقد روى الحديث الشيخان والترمذي دون ذكر كون الآية نزلت بسبب رغبة بني سلمة في الانتقال إلى قرب المسجد وجاء في صيغة الشيخين والترمذي: «إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: إن آثاركم تكتب فلم ينتقلوا» «1» حيث ينطوي في هذا إيعاز تطبيقي وتطميني وحسب. وروى ابن كثير والطبرسي أن الآيات نزلت في مناسبة محاولة أبي جهل وبعض قومه البطش بالنبي صلى الله عليه وسلم ونثره التراب عليهم أو رؤيتهم مشهدا مفزعا جعلهم ينكصون أو يغشى على أبصارهم. ولقد أوردنا رواية فيها شيء من مثل ذلك عن أبي جهل في سياق سورة العلق. وعلى كل حال فالآيات بسبيل تطمين النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته إزاء ما كان يلقاه من قومه من عناد وجحود ومناوأة. وأسلوبها قوي نافذ. والراجح أنها نزلت في ظرف كان لهم أو لبعضهم موقف شديد من ذلك أثار النبي صلى الله عليه وسلم وآلمه فاقتضت حكمة التنزيل الإيحاء بها للتطمين والتثبيت من جهة والتنديد والتقريع والإنذار من جهة أخرى. تعليق على آيات إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا ... إلخ والآيات [7- 9] قد توهم أن الكفار قد وقفوا موقف الجحود والعناد بتحتيم رباني لم يكن لهم منه مناص. غير أن التروّي فيها وفيما قبلها وما بعدها يؤيد التأويل الذي أوّلناها به. فالآية [10] تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما عليه إنذار من اتّبع الذكر وخشي الرحمن وبعبارة أخرى من صدقت رغبته في اتّباع الحق. وهذا يعني أيضا أن الكفار إنما وقفوا موقفهم لخبث نيّتهم وعزوفهم عن الحق فحقّ عليهم القول. فهي من باب وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ في الآية [27] من سورة إبراهيم

_ (1) التاج ج 4 ص 194.

ووَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ في الآية [26] من سورة البقرة ووَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ في الآية [155] من سورة النساء وكَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ في الآية [35] من سورة غافر. وهذا التأويل هو الأكثر انسجاما مع حكمة الله تعالى في إرسال الرسل ودعوة الناس وإنذارهم وتبشيرهم وبيان طرق الهدى والضلال لهم وتعيين مصائرهم الأخروية وفق سلوكهم. وهو الأكثر اتساقا مع الحملة الشديدة التي احتوتها الآيات على الكفار والمناوئين على ما شرحناه في مناسبات سابقة. وهذا التأويل المستلهم من العبارة القرآنية وسياقها وروحها هنا وفي المواضع المماثلة يجعل التشاد الكلامي بين أصحاب المذاهب الكلامية الجبريين والقدريين حول هذه العبارة وأمثالها ويجعل الاتكاء عليها بسبيل تأييد مذهب على مذهب في غير محله كما هو المتبادر. وإلى هذا فإنه يتبادر لنا أن أسلوب الآيات قد جاء أيضا بسبيل تسجيل واقع أمر الكفار حين نزولها وحسب وليس على سبيل تأييد عدم إيمانهم سواء أنذروا أم لم ينذروا بدليل يقيني هو أن كثيرا منهم قد آمنوا فيما بعد وحسن إيمانهم ونالوا رضاء الله على ما نبهنا عليه في التعليق الذي كتبناه على موضوع التوبة في سورة البروج والتعليق الذي كتبناه على الآية [101] من سورة الأعراف المشابهة للآيات التي نحن في صددها. وفي الآية [6] إشارة صريحة إلى مهمة النبي صلى الله عليه وسلم وهي الإنذار كما فيها تعليل لموقفهم وغفلتهم. وهذا مما يوثق التأويل، كما أن الآية [12] التي تنسب الأعمال إلى أصحابها وتنذر بإحصاء الله لها لمحاسبتهم عليها من الدلائل القريبة الموثقة. ولقد قلنا إن المتبادر أن الآيات نزلت بسبيل تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتطمينه وخمّنّا أن ذلك قد كان لحادث آلم نفسه وأثارها. فالآيات قد وردت بهذا الأسلوب لتكون أبلغ في التطمين والتثبيت. وفي توجيه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في الآيات التي قبلها وما فيها من عطف وتأييد وثناء وما في الآية التي بعدها من إيعاز له بأنه إنما ينذر ذوي النفوس الطيبة

تلقين الآيات الأولى من السورة

والرغبات والصادقة، وأن له فيهم الغناء والعزاء- قرائن قوية على ذلك أيضا. تلقين الآيات الأولى من السورة والآيات مصدر إلهام وتلقين مستمر المدى. سواء أفيما احتوته من ثناء وبشرى لذوي النفوس الطيبة والرغبات الصادقة أم في ما احتوته من حملة تنديدية شديدة على ذوي السرائر الخبيثة الذين يكون ديدنهم المكابرة في الحق والإيغال في الباطل أم في ما احتوته من تثبيت وتطمين يلهمان الدعاة والقادة والزعماء والمصلحين قوة يتغلبون بها على ما يلقونه في طريقهم من عقبات ومصاعب. [سورة يس (36) : الآيات 13 الى 29] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) . (1) عززنا: أيدنا. (2) أئن ذكرتم: سؤال استنكاري فيه ردّ على قولهم إنّا تطيرنا أي تشاءمنا بكم وبسبيل نفي كون التذكير بالله هو الذي جاء إليهم بالشؤم والنحس. (3) مسرفون: متجاوزو الحد في البغي والعناد.

(4) فطرني: تكررت اشتقاقات فطر كثيرا في القرآن. وأكثر ما جاءت في معنى الإيجاد والخلق بدءا ولأول مرة. وهي هنا بهذا المعنى. وأصل معناها اللغوي شقّ وجاء بعض اشتقاقاتها بمعنى التشقق والتصدّع والشقوق. ومعنى شقّ لا يبعد كثيرا عن معنى الخلق والإيجاد لأول مرة. الآيات معطوفة على سابقاتها والضمير في وَاضْرِبْ لَهُمْ عائد إلى الكفار الذين حكت الآيات السابقة موقفهم من الدعوة كما هو المتبادر. وهكذا يكون هذا الفصل قد جاء معقبا على سابقه تعقيب تمثيل وتذكير، وفيه توثيق للتأويل الذي أوّلناه للآيات التي حكت موقف الجاحدين والتخمين الذي خمّنّاه بنزول الفصل السابق في ظرف أزمة من أزمات النبي صلى الله عليه وسلم النفسية لموقف مثير وقفه الكفار. وعبارة الآيات واضحة لا تقتضي أداء آخر. وقد احتوت قصة رسل أرسلهم الله إلى إحدى المدن وموقف أهلها الجحودي منهم، سيقت لسامعي القرآن أو الكافرين منهم على ما هو المتبادر للتمثيل والتذكير. ومما رواه المفسرون عزوا إلى علماء التابعين في صدد قصة الرسل التي حكتها الآيات أن المدينة التي أشير إليها باسم القرية هي أنطاكية الثغر الشامي في شمال سورية وأن الرسل هم يوحنا وبولس وشمعون من حواريي عيسى عليه السلام أرسلهم للدعوة والتبشير، وأن الرجل المؤمن هو حبيب النجار. وقد أوردوا بيانات كثيرة عن رسالة الرسل ومحاولاتهم مع الوثنيين في المدينة ومعجزاتهم في إحياء الموتى وخلق الطير من الطين وإبراء الأكمه والأبرص، وقتل الوثنيين حبيبا وعنادهم مع الرسل إلخ «1» . وأسلوب الآية الأولى وفحواها يلهمان أن المثل الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بضربه ليس غريبا عن السامعين وأنهم أو أن منهم من كان يعرف القصة المذكورة فيه. ولقد ورد في سفر أعمال الرسل من الأسفار الملحقة بالأناجيل أشياء كثيرة

_ (1) انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري وابن كثير والطبرسي والزمخشري والخازن مثلا.

تلقينات ودلالة مثل أصحاب القرية وآياته

عن نشاط تلامذة المسيح عليه السلام وحوارييه من بعده في أنطاكية وغيرها. فمن المحتمل جدّا أن تكون القصة مما كان يتداوله النصارى الذين كان منهم أفراد كثيرون في مكة، ولعلها كانت مكتوبة في أسفار عندهم فعرفها العرب منهم. وأسلوب الآيات صريح في أن المقصود منها المثل والتذكير والعبرة وهذا هو الهدف العام لكل القصص القرآنية الذي يكون محكما مؤثرا حينما تكون القصة المساقة مما يعرفه السامعون. وفيما أورده المفسرون دلالة على ذلك كما هو المتبادر. تلقينات ودلالة مثل أصحاب القرية وآياته ومما يلحظ أن في حكاية الحوار بين رسل الله وأهل القرية ثم بين أهل القرية والمؤمن تشابها مع حالة الكفار العرب سواء أفي ما كان من سخفهم وضلالهم في اتخاذ آلهة غير الله أم في موقفهم من النبي صلى الله عليه وسلم وأقوالهم له في معرض التكذيب والجحود أم في تهديدهم لرسلهم بالعذاب والأذى إذا لم يكفوا عن دعوتهم بحيث تبدو في هذه الملحوظات حكمة المثل وهدفه وهو تذكير الكفار العرب بأنهم ليسوا المتفردين في مواقفهم وأقوالهم وباطل عقائدهم، وتبكيتهم على ما هم فيه من سخف وضلال وعناد، وإنذارهم بعذاب الله الذي أصاب أمثالهم فجعلهم خامدين دون ما حاجة إلى جنود تنزل وحرب تنشب، وتطمين النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ليس المتفرّد فيما لقي من كفار قومه وأن له الأسوة بمن تقدمه من الرسل في الأزمنة القديمة أو الحديثة بالنسبة لزمنه فلا يحزن ولا يغتمّ وأنه ليس عليه إلّا التبليغ والتذكير مثلهم. وأسلوب حكاية موقف المؤمن وأقواله لقومه قوي أخاذ. سواء أفي تبكيته وتسفيهه للمعاندين أم في إغرائه وتشويقه على الإيمان بالله وتصديق رسله ومن شأن ذلك أن يحدث أثرا نافذا في السامعين. وهذا ما استهدفته الحكاية على ما هو المتبادر. ولعلّ من أثرها ما روته روايات السيرة من تفاني الرعيل الأول من المسلمين في مكة في نصرة وتأييد النبي صلى الله عليه وسلم والذبّ عنه والتعرّض بسبب ذلك

[سورة يس (36) : الآيات 30 إلى 32]

لصنوف الأذى. وفيها أسوة وحافز على نصرة الحق والداعين إليه في كل موقف وزمان. [سورة يس (36) : الآيات 30 الى 32] يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32) . الآيات متصلة بالسياق السابق اتصالا تعقيبيا كما هو المتبادر. وهو ما جرى عليه النظم القرآني عقب القصص. وقد احتوت تنديدا بالناس الذين لا تؤثر فيهم المواعظ والأمثال وما كان من إهلاك الله للأقوام السابقة فيقفون من رسل الله كلما جاء رسول موقف الاستهزاء والتكذيب. وتوكيدا بأن الناس جميعهم محضرون أمام الله ومجزيون عن أعمالهم. والتعقيب مؤثر نافذ كما هو واضح. [سورة يس (36) : الآيات 33 الى 44] وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44) . (1) وما عملته أيديهم: ولم تعمله أيديهم.

(2) الأزواج: الأنواع المتشاكلة من النبات والحيوانات ومنها الإنسان. (3) نسلخ: ننزع أو نخرج. (4) لمستقر لها: إلى أن يحين وقت استقرارها ووقوفها وقرئت الكلمة بلفظ «لا مستقر لها» بمعنى أنها دائمة الجري. ومعنى التأويلين للكلمة متساوق. (5) العرجون: هو عرق النخلة فإذا قدم رقّ وتقوّس واصفر. والكلمة في معرض تشبيه القمر في أواخر الشهر. (6) تدرك: تلحق. (7) الفلك: الأولى بفتح الفاء واللام بمعنى مدار السماء حيث تجري الشمس والقمر والنجوم وأصل معناه الشكل الدائري. والثانية بضم الفاء واللام وهو مركب البحر. (8) حملنا ذريتهم في الفلك المشحون: قال المفسرون إن المقصود بذلك الإشارة إلى سفينة نوح وآباء البشر الذين ركبوها «1» . (9) من مثله: من مثل ذلك الفلك المشحون. (10) فلا صريح لهم: لا ناصر ولا مغيث لهم. والآيات استمرار للسياق أيضا. وجملة وَآيَةٌ لَهُمُ موصلة بين الفصل الأول السابق للقصة وبين هذا الفصل كما هو المتبادر. وقد احتوت تنبيها إلى مشاهد كون الله ونواميسه ونعمه على خلقه، وتنديدا بالذين لا يشكرون ولا يرتدعون عن مواقف المكابرة. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وقد جاءت كما يلهمه أسلوبها وفحواها في معرض البرهنة على قدرة الله على ما يعد الناس ويتوعدهم والتنبيه على أفضال الله عليهم ورحمته بهم، في الأرض والسماء والبحار، والتنديد بالذين لا يشكرونه ولا يرتدعون عن مواقف المكابرة والجحود، وإنذارهم بأنه لو شاء لأهلكهم ومنع عنهم خيره وبرّه فلا يجدون لهم مغيثا ولا ناصرا، وبأنه إذا لم يفعل

_ (1) انظر تفسير ابن كثير مثلا.

ذلك فلا يكون إلّا من قبيل الإمهال إلى حين كأنما يهيب بهم إلى اغتنام الفرصة السانحة قبل نفاد صبره وإنزال عذابه فيهم. والآيات قوية نافذة. موجهة إلى القلب والعقل بسبيل ما جاءت من أجله من التذكير والعظة والبرهنة والإنذار. ومع وجوب الإيمان بحقيقة ما احتوته الآيات من تقريرات متنوعة فإن أسلوبها وفحواها وجملة وَآيَةٌ لَهُمُ التي بدأت بها وتكررت في مقاطعها قد يفيد أن السامعين كانوا يعرفون ويحسون ويتصورون ما احتوته من مشاهد كونية وأرضية وسماوية وفق ما ذكر فيها. وبهذا تبدو الحكمة في ذلك وتكون الحجة القرآنية مستحكمة في السامعين. ولقد روى الطبري والبغوي في سياق جملة وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها حديثا عن أبي ذرّ الغفاري قال: «كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد فلما غربت الشمس قال يا أبا ذرّ هل تدري أين تذهب الشمس قلت الله ورسوله أعلم قال فإنها تذهب فتسجد بين يدي ربّها ثم تستأذن بالرجوع فيؤذن لها وكأنّها قد قيل لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مكانها وذلك مستقرّها» . وما جاء في الحديث أمر مغيّب فيجب الوقوف عنده إذا صحّ «1» مع وجوب

_ (1) في التاج نصّ آخر فيه زيادة رواه البخاري والترمذي عن أبي ذرّ وهو: «قال أبو ذرّ كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد عند غروب الشمس فقال يا أبا ذرّ أتدري أين تغرب الشمس؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها. ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها فيقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» (التاج ج 4 ص 194) والزيادة متصلة بآية من آيات قيام الساعة وهي طلوع الشمس من مغربها حيث جاء في حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن حذيفة الغفاري عن النبي صلى الله عليه وسلم في علامات الساعة ومنها طلوع الشمس من مغربها (التاج ج 5 ص 304) ونرجّح أن حديث أبي ذرّ واحد روى بعضه راو وروى جميعه راو آخر. وطلوع الشمس من مغربها كعلامة من علامات الساعة مماثل لما ذكرته آيات عديدة في سور المزمل والتكوير والقيامة والمرسلات من تبدّل مشاهد الكون عند ما تأزفّ الساعة وتخرب الدنيا. وكل هذا مغيّب يجب الإيمان به والوقوف عنده وإيكال حكمته إلى الله تعالى. وليس معرفة كنهه والمماراة فيه من ضروريات الدين. والله تعالى أعلم.

تعليق آخر على ما اعتاده بعضهم من محاولة استنباط النظريات العلمية من آيات القرآن

الإيمان بأنه لا بدّ من أن يكون لصدوره من النبي صلى الله عليه وسلم حكمة كشأن حكمة الله في الآيات. ولعلّ من هذه الحكمة قصد التنبيه على إحاطة الله تعالى وتصرفه المطلق في الكون وفي الشمس التي هي من أعظم مظاهر ومشاهد هذا الكون. والله تعالى أعلم. تعليق آخر على ما اعتاده بعضهم من محاولة استنباط النظريات العلمية من آيات القرآن لقد علّقنا في سياق تفسير سورة القيامة على ربط بعضهم بين الآية بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4) وبين فنّ بصمات الأصابع الحديث. ونعود إلى التعليق مرة ثانية بمناسبة الآيات التي نحن في صددها والتي يقف بعضهم عندها وعند أمثالها لاستنباط قواعد فنية كونية منها أو تطبيق نظريات علمية عليها وبخاصة في صدد حركات الشمس والقمر وتعاقب الليل والنهار، والإدلاء بآراء متنوعة هي أدخل في نطاق التكلّف والتزيد بل والغلوّ أكثر منها في نطاق الحقيقة في حين أن الآيات في مجموعها وأسلوبها وروحها تحمل الدليل على أن القصد منها هو لفت نظر الناس جميعا بأسلوب يفهمونه إلى ما يشاهدونه من مظاهر قدرة الله وكونه بقطع النظر عما أقام الله سبحانه الكون عليه من نواميس ونسب وقواعد دقيقة محكمة النظام مطردة السير والجريان. ونحن نرى في مثل هذه المحاولات إخراجا للقرآن الكريم عن هدفه الوعظي والتذكيري وتعريضا له للتعديل والجرح اللذين يرافقان عادة الأبحاث العلمية على غير طائل ولا ضرورة. ولقد جاء في سورة يونس في صدد منازل القمر آية تفيد أن الله قدّر القمر منازل ليعلم الناس عدد السنين والحساب وهي: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً

تعليق على تعبير ذلك تقدير العزيز العليم ...

وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) فإذا لحظنا أن منازل القمر أو دوراته اليومية التي تتبدّل بها صوره كانت هي الوسيلة الممكنة المشاهدة لمعرفة حساب الأيام والأشهر والسنين بالنسبة للسامعين رغم كونها ليست دقيقة تبين لنا أن حكمة التنزيل إنما اقتضت أن يكون الخطاب كما جاء بسبيل تنبيه السامعين إلى نواميس كون الله وإثبات وجوده وقدرته على ما هو ملموح بقوة من فحوى السلسلة التي نحن في صددها وسياق آية سورة يونس المذكورة وأمثالها لأنه كان هو المفهوم من قبل السامعين بمداه ومعناه. وتبين لنا مدى ما في تجاوز هذا النطاق إلى استخراج النظريات الفنية من القرآن أو تطبيقها على الآيات القرآنية من تجوّز وتمحّل وخروج بالقرآن عن نطاق حكمة تنزيله. ونعود إلى التنبيه مرة أخرى في هذه المناسبة إلى أن ما قلناه لا يعني حظر دراسة أسرار الكون على المسلمين بمختلف الوسائل وعلى مختلف المستويات. فهذا شيء وذاك شيء آخر. بل إن إيذان الله تعالى للبشر ومن جملتهم المسلمين أن الله سخّر لهم ما في السموات وما في الأرض ليوجب عليهم ذلك لأن الانتفاع بما سخّره لهم الله لا يتمّ إلّا به. والله تعالى أعلم. تعليق على تعبير ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ... وبمناسبة ورود تعبير ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ نقول إن كثيرا من المسلمين يسوقون هذا التعبير في معرض عقيدة القضاء والقدر وكمستند لها به في حين أنه قد جاء في معرض بيان أن حركة الشمس والقمر وتعاقب الليل والنهار كل ذلك يجري ضمن حساب رباني مقدّر على أحسن أسلوب وأدقّ ترتيب. وبكلمة أخرى إن كلمة «تقدير» هنا تعني الحساب الدقيق وليس لها صلة بعقيدة القدر ولا يصحّ سوقها في معرض ذلك.

نموذج آخر للتفسيرات الصوفية

نموذج آخر للتفسيرات الصوفية لقد قلنا في تعليقنا على هذه التفسيرات في سياق سورة الفجر إن منها ما ليس فيه شذوذ فاحش. وهذا نموذج من ذلك حيث يفسر التستري الآية الأولى من هذه السلسلة بقوله: «القلوب الميتة بالغفلة أحييناها بالتيقّظ والاعتبار والموعظة وأخرجنا منها حبا معرفة صافية يضيء أنوارها على الظاهر والباطن» «1» . [سورة يس (36) : الآيات 45 الى 50] وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) . (1) اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون: اتقوا غضب الله في حياتكم وبعد مماتكم لعلّ الله يرحمكم، ويلحظ أن الجواب على هذا غير موجود في الآيات. وقد قال المفسرون إنه محذوف مقدّر وهو الإعراض وعدم الاستماع. والآية التالية تحتوي جوابا غير مباشر أيضا مما يوثق وجاهة القول. (2) ينظرون: ينتظرون. (3) يخصمون: يختصمون أي تأخذهم الصيحة بغتة أثناء استغراقهم في أشغالهم ولهوهم وخصوماتهم. الآيات متصلة بالسياق واستمرار له كما هو المتبادر. وفي ضمير لَهُمُ هنا دلالة على هذا الاتصال والترابط كما هو كذلك في الآيات السابقة. وعبارتها واضحة. وقد احتوت الآيات الأربع الأولى تقريرات عن واقع أمر الكفار ومبلغ مكابرتهم وجحودهم وغلظ قلوبهم. فهم يؤمرون باتقاء غضب الله في الدنيا

_ (1) التفسير والمفسرون للذهبي ج 3 ص 31.

تعليق على حث القرآن على البر بالفقراء وموقف الأغنياء من ذلك وآثاره

والآخرة فلا يبالون. وتأتيهم آيات الله فيعرضون عنها. ويقال لهم أنفقوا مما رزقكم الله فيجيبون ساخرين: إن الله لو شاء أن يرزق الفقراء ويطعمهم لما قتّر عليهم وحرمهم، وإنكم في طلبكم هذا منّا في ضلال مبين ثم يتساءلون تساؤل الساخر المتحدي عن موعد العذاب الذي يوعدون به إن كان ذلك صدقا وحقا. وقد احتوت الآيتان الأخيرتان ردّا إنذاريا. فالموعد آت لا ريب فيه. وستأتيهم الصيحة بغتة وهم لاهون في أشغالهم وخصوماتهم فيهلكون حيث هم فلا يرجعون إلى أهلهم ولا يجدون الفرصة لوصية يوصون بها. تعليق على حثّ القرآن على البرّ بالفقراء وموقف الأغنياء من ذلك وآثاره والآيات قوية التقرير والتنديد والإنذار. وقد احتوت صورا متنوعة لمواقف الكفار من دعوة الله وآياته ونبيه. والآية [47] بخاصة تدلّ على أنه كان يقع جدل بين المؤمنين والكفّار في صدد المبادئ التي بشّرت بها الدعوة وآمن بها المؤمنون وأن هؤلاء كانوا يدعون أولئك في جملة ما يدعونهم إليه ويحاجونهم فيه إلى البرّ بالفقراء ويذكرونهم بأن ما في أيديهم من مال إنما هو من رزق الله فلا يجوز أن يضنّوا به على المحتاجين من عباده وأن الكفار كانوا يجيبونهم على هذا بخاصة بجواب حجاجي ساخر وطريف يتهربون به مما يطلب منهم. وفي هذا صورة لما كان من تأثر المؤمنين بالدعوة ومبادئها وخاصة البرّ بالفقراء والمعوزين والجهد في نشرها والدعوة إليها ثم صورة لما كان من تأثير ذلك في أغنياء الكفار، وقد كان هذا الموضوع من أبكر ما بشّر به القرآن ومن أبكر ما أثار حقد الأغنياء والزعماء وحفّزهم إلى التكتل والمعارضة وظلّ كذلك قويا إلى أن أدخله القرآن في نظام الدولة وميزانيتها على ما تلهم آيات أخرى بالإضافة إلى تكراره وتوكيده في مختلف المناسبات والأساليب. وقد مرّ بعض الأمثلة من ذلك وعلقنا عليها. وستأتي تعليقات متنوعة أخرى في صدده في مناسبات آتية. غير أننا نرى هنا أن ننوّه بالمعنى الجليل الذي انطوى في تعبير أَنْفِقُوا مِمَّا

[سورة يس (36) : الآيات 51 إلى 65]

رَزَقَكُمُ اللَّهُ وننبه على أن هذا قد تكرر كثيرا في سور مكية ومدنية بأساليب متنوعة. وجاء في بعضها بقوة وصراحة أكثر حيث يبدو من هذا حكمة التنزيل في التوكيد عليه لإقراره في الأذهان. من ذلك آية سورة الرعد هذه: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) وآية سورة إبراهيم هذه: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) وآية سورة البقرة هذه: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وآية سورة آل عمران هذه: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ ... [180] وآية سورة النساء هذه: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) وآية سورة النور هذه: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ ... [33] وآية سورة الحديد هذه: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) . ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآية [45] مدنية في حين أنها منسجمة في السياق ونظمه انسجاما تاما وليس لها خصوصية مدنية. والخطاب فيها في صدد الذين سبق الكلام عنهم حيث عبّر عنهم بكلمة (لهم) مما تكرر في السياق. ولذلك فإننا نشك في صحة الرواية. [سورة يس (36) : الآيات 51 الى 65] وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65)

(1) الأجداث: القبور. (2) ينسلون: يسرعون في الخروج. (3) مرقدنا: منامنا ومضجعنا. (4) فاكهون: فرحون أو متلذذون. (5) الأرائك: السرر والمقاعد العالية. (6) يدّعون: يطلبون. (7) امتازوا: تميزوا وانفصلوا. (8) ألم أعهد: ألم آخذ عليكم عهدا أو ألم أنبهكم. (9) جبلا: خلقا أو أجيالا. (10) اصلوها: اكتووا بنارها. الآيات استمرار للسياق السابق كما هو المتبادر حيث جاءت لتصوير الحالة في اليوم الموعود الذي حكت الآيات السابقة سؤال الكفار عنه وردّت عليهم مؤكدة منذرة، وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وقد احتوت صورة للبعث الأخروي وما يكون فيه من مصير المؤمنين والكفار جزاء لما كسبه كل منهم في الحياة الدنيا، وما سوف يشعر الكفّار به من حقيقة ما وعدوا وصدق الرسل الذين أنذروا به وما سوف يخاطب الله به المجرمين من خطاب فيه تنديد وتبكيت. وأسلوب الآيات قوي أخّاذ كسابقاتها، من شأنه إثارة الخوف والرعب في

[سورة يس (36) : الآيات 66 إلى 68]

الكفار وبعث الطمأنينة والرضى في المؤمنين وهو مما استهدفته من دون ريب. ولقد أورد ابن كثير في سياق جملة الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ حديثا أخرجه ابن أبي حاتم عن أنس بن مالك قال: «كنّا عند النبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه ثم قال: أتدرون مم أضحك؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مجادلة العبد ربّه يوم القيامة، يقول ربّ ألم تجرني من الظلم فيقول بلى فيقول لا أجيز عليّ إلّا شاهدا من نفسي فيقول كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا وبالكرام الكاتبين شهودا. فيختم على فيه ويقال لأركانه انطقي فتنطق بعمله ثم يخلّي بينه وبين الكلام فيقول بعدا لكنّ وسحقا فعنكنّ كنت أناضل» ثم قال ابن كثير إن مسلما والنسائي رويا هذا الحديث أيضا. وفي الحديث تفسير توضيحي للصورة التي احتوتها الآية قد يزول به ما يمكن أن يقوم من وهم التناقض بينها وبين آيات أخرى حكيت فيها أقوال يقولها الكفار يوم القيامة من قبيل الاعتذار مثل آية سورة المؤمنون هذه: قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) . وآية سورة السجدة هذه: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) . وليس في الحديث بعد ما يخلّ بما قلناه من استهداف الآيات لإثارة الخوف والرعب في الكفّار كما هو واضح. [سورة يس (36) : الآيات 66 الى 68] وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68) . (1) طمسنا: مسحنا وغطينا. (2) مسخناهم على مكانتهم: غيرنا خلقتهم أو شوهناها حتى يتعذّر عليهم

[سورة يس (36) : الآيات 69 إلى 70]

استخدام أعضائهم وحواسّهم كما يستخدمونها في حالتهم العادية. (3) ننكسه: ننتقص من قوته ونرجعه إلى الوراء. الآيات على ما هو ظاهر متصلة بالسياق السابق اتصال تعقيب وتنديد وتنبيه، ولعلها انطوت على تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أيضا. حيث احتوت تقريرات ربانية بأن الله لو شاء لطمس على أعين الكفار فلا يستطيعون أن يبصروا الصراط المستقيم ويسيروا فيه، أو لو شاء لمسخهم فبدّل من صورهم وأفقدهم قابلية الحركة والنشاط المعتادة وأن في ما يرونه من آثار قدرة الله وناموسه في تبديل خلق الإنسان وقواه وإرجاعه حين شيخوخته إلى الضعف وسوء الحال لدليلا على ذلك لو عقلوا. وقد قال بعض المفسرين «1» إن ما احتوته الآيات هو من صور الحياة الأخروية والبرهنة على قدرة الله على البعث. ولكن روحها بل ومضمونها يلهمان وجاهة التأويل الذي أوّلناها به والذي قال به غير واحد من المفسرين أيضا «2» . والمتبادر لنا أنه أريد بما قررته الآيات تقرير كون الله لم يفعل بهم ذلك إلا ليكون لهم من مواهبهم وحواسهم المعتادة التي زودهم بها وسيلة للإدراك والتمييز والحركة والنشاط حتى لا تضيع الفرصة عليهم ويستحقوا ما يستحقونه من المصير عدلا وحقا إذ عطلوا ما زودهم الله به وأضاعوا الفرصة ولم يسيروا في طريق الهدى والحق. وينطوي في هذا إعذار وإنذار ربانيان للكفار، وحكمة ربانية سامية مستمرة الإلهام والتلقين وهي الدعوة إلى الانتفاع بالمواهب التي أودعها الله في الناس بالاستدلال على سبيل الحق والهدى والخير والسير فيها وعدم تعطيلها. [سورة يس (36) : الآيات 69 الى 70] وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70) . (1) حيّا: هنا بمعنى العاقل المتأمل الحي البصيرة والقلب.

_ (1) انظر تفسير الخازن ثم ابن كثير والطبرسي والزمخشري والطبري. (2) انظر المصدر نفسه.

تعليق على نسبة العرب الشعر والشاعرية للنبي والقرآن

والآية الأولى تنفي عن النبي صلى الله عليه وسلم الشاعرية علما وترفعا وتقرر أن القرآن ليس إلّا تذكيرا للناس وقرآنا مبينا واضحا. والآية الثانية تعلن أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أرسل وأنزل عليه القرآن لينذر الناس فينتفع بذلك من كان ذا عقل متأمل وقلب حيّ سليم ويحق القول وتقوم الحجة على الجاحدين. وبرغم ما يبدو من استقلال الآيتين بموضوع منفصل عما قبلهما فإن ما جاء بعدهما هو استمرار للسياق الأول في التنديد بالكفار وحكاية أقوالهم ومواقفهم بحيث يمكن أن يقال إنهما متصلتان بالسياق السابق واللاحق أيضا وإنهما جاءتا بمثابة تقرير لمهمة النبي صلى الله عليه وسلم وهدف ما يوحيه الله إليه من قرآن. وهذا الأسلوب النظمي قد تكرر في القرآن. ويبدو أن حكمة هذا الأسلوب هنا هي تقرير أن ما يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم من آيات الإنذار والوعيد والتقريرات عن عظمة الله ووصف مشاهد الآخرة ومصائر الناس فيها ليس من قبيل الشعر وإنما هو قرآن رباني فيه كل الحق والحقيقة. تعليق على نسبة العرب الشعر والشاعرية للنبي والقرآن على أن الآيتين احتوتا موضوعا جديدا ذاتيا أيضا. وهو نفي شاعرية النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن. فلقد رأى الكفار النبي صلى الله عليه وسلم يتلو الآيات البليغة القوية النافذة إلى أعماق النفوس والمؤثرة في العواطف والمشاعر فظنوا ذلك من قبيل الشعر البليغ الذي اعتادوا سماعه والتأثّر به والتحمّس له. ولم يرد في السور السابقة حكاية عن نسبة الشعر إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قبل الكفار. غير أن الآيتين تلهمان بقوة أن هذا مما كانوا يقولونه قبل نزولهما. ولقد حكته عنهم آيات عديدة في سور أخرى بعد هذه السورة حيث اقتضت حكمة التنزيل ذلك. منها آية سورة الأنبياء هذه: بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) وآية سورة الطور هذه: أَمْ يَقُولُونَ

شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) . وفي نفي شاعرية النبي صلى الله عليه وسلم وتقرير خطورة مهمته في عبارة وَما يَنْبَغِي لَهُ وكذلك في تقرير كون القرآن ذكرا وإنذارا قصد آخر على ما يتبادر لنا وهو توكيد سموّ المصدر القرآني وعلوّ أهدافه وتجرّده عن المبالغات والأكاذيب والاندفاع في العاطفة والخيال، شأن الشعراء وما يصدر عنهم، ولفت نظر السامعين إلى أن ما يتلوه هو ذكر وقرآن رباني فيه الصدق والحقيقة وفيه الهدى والموعظة وفيه الدعوة الخالصة إلى الله وصراط المستقيم وفيه أسمى مبادئ الخير والصلاح وفضائل الأخلاق والنظم وفيه الإنذار والتبشير والحرص على هداية الناس وتحرير نفوسهم وقواهم وعقولهم والتسامي بها إلى مراتب الكمال الخلقي والاجتماعي والإنساني. وكل هذا هو من مهمات النبوّة وأعلامها ومظاهرها وليس فيه شيء يمتّ إلى الشعر والشعراء. ولقد زعم الكفار بالإضافة إلى أنه شاعر أنه يتلقى شعره من شياطين الجنّ على ما كانوا يعتقدونه بالنسبة لنوابغ الشعراء وعباقرتهم فأنزل الله آيات عديدة في سورة الشعراء في هذا الصدد منها: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) ومنها: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) ومنها: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) حيث انطوى في هذه الآيات تقرير قوي في تزييف الشعر والشعراء ونفي لشاعرية النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن ومقارنة رائعة بين الشعر والقرآن وبين الشعراء والنبي صلى الله عليه وسلم. فالشياطين إنما تنزل بالشعر على الشعراء لا على الأنبياء، ومعظم الشعراء كاذبون أفّاكون أثيمون وفي كل واد يهيمون ويقولون ما لا يفعلون ولا يتبعهم إلّا الغاوون الضالون في حين أن النبي صلى الله عليه وسلم معروف بكل خلق كريم

ويدعو إلى الله وحده وإلى مكارم الأخلاق وفضائل الآداب والحقّ والهدى وينهى عن الشرك والإثم والفواحش. ويتبعه طائفة عرفت بكرم الأخلاق والصفات فلا يمكن أن يكون النبي شاعرا ولا يمكن أن يكون القرآن شعرا من نوع الشعر الذي يقوله الشعراء وتتنزل به الشياطين. وإنما أنزله الله عزّ وجلّ، ودليل ذلك أنه متسق مع كتب الله الأولى التي أنزلها على أنبيائه الأولين والتي يعرف العرب السامعون خبرها من أهل الكتاب الذين هم بين ظهرانيهم. هذا، ومن الممكن أن يستدلّ من الآيات على أن العرب كانوا يرون في القرآن نمطا من أنماط الشعر، وأن الشعر عندهم لم يكن محصور المفهوم في ما يكون منظوما موزونا مقفّى، فقد قالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم شاعر في حين أن القرآن ليس شعرا حسب تعريف الشعر العربي المعتاد. ولو لم يسمعوا ما يصح أن يطلق عليه في نظرهم اسم الشعر لما قالوا إنه شاعر، ولعلّهم رأوا في السور والفصول القرآنية المتوازنة المقفّاة مثل النجم والأعلى والليل والشمس والقارعة إلخ ما برّر لهم إطلاق الشعر على القرآن والشاعر على النبي صلى الله عليه وسلم. ولقد أوّل البغوي جملة وَما يَنْبَغِي لَهُ بمعنى لا يتسهّل له. واستدلّ على صحة التأويل بما روي من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تمثّل ببيت شعر جرى على لسانه مكسورا. ومن ذلك أنه كان يقول: (كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا) في مقام شطر من بيت صحيحه (كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا) ويقول: (ويأتيك من لم تزود بالأخبار) في مقام شطر من بيت صحيحه: (ويأتيك بالأخبار من لم تزود) وإن أبا بكر راجعه فقال له: (إني لست بشاعر ولا ينبغي لي) . وهذه الأحاديث لم ترد في مساند الأحاديث الصحيحة في حين أن هناك حديثا صحيحا رواه الترمذي في سياق تفسير سورة النجم عن ابن عباس فيه بيت من الشعر صحيح قاله النبي صلى الله عليه وسلم في سياق آية سورة النجم: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [32] وهو: إن تغفر اللهم تغفر جمّا ... وأيّ عبد لك لا ألمّا «1»

_ (1) التاج ج 4 ص 222.

وحديثين صحيحين آخرين رواهما الشيخان في سياق وقعة الخندق أو الأحزاب جاء في أحدهما عن أنس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم فلمّا رأى ما بهم من النّصب والجوع قال: اللهمّ إنّ العيش عيش الآخره ... فاغفر للأنصار والمهاجرة» «1» وجاء في ثانيهما للبراء: «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان ينقل معنا التراب ولقد وارى التراب بياض بطنه وهو يقول: والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدّقنا ولا صلّينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبّت الأقدام إن لاقينا إن الألى قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا ورفع بها صوته: أبينا ... أبينا» «2» . وإن كتب السيرة القديمة روت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرتجز يوم حنين وهو على بغلته قائلا: أنا النبيّ لا كذب ... أنا ابن عبد المطّلب «3» وإن ابن كثير روى في سياق الآيات التي نحن في صددها حديثا جاء فيه: «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم جرحت يده فقال: هل أنت إلّا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت وكل هذا شعر موزون على نمط الشعر العربي المتواتر. والذي يتبادر لنا أنه لا منافاة بين أن يتمثّل النبي صلى الله عليه وسلم ببعض الشعر بوزنه

_ (1) التاج ج 4 ص 374- 375. (2) انظر المصدر نفسه. [.....] (3) طبقات ابن سعد ج 3 ص 201.

[سورة يس (36) : الآيات 71 إلى 73]

الصحيح بل وأن يحفظ أكثر من بيت من شعر شعراء العرب الذي يجري على لسانه بعض أبيات على نمط الشعر المتواتر وبين مدى الجملة القرآنية. وأن نفي ذلك عنه غير متّسق مع طبيعة الأشياء من حيث إن النبي كان يعيش حياة العرب التي كان للشعر فيها حيّز كبير. وإن المدى الأوجه والأصح للجملة على ضوء ما تلهمه آيات سورة الشعراء التي أوردناها وشرحناها قبل قليل هو أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صرف عن معاطاة الشعر وأن ذلك لا يتناسب مع مهمة وجلال النبوّة. ولقد أورد البغوي في سياق تفسير آيات سورة الشعراء [221- 227] حديثا رواه بطرقه عن أبي هريرة جاء فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا يريه خير من أن يمتلئ شعرا» . وإذا صحّ هذا الحديث فهو متّصل بما يتصف به شعر معظم الشعراء من كذب وبعد عن محجة العقل والحق فيما هو المتبادر. [سورة يس (36) : الآيات 71 الى 73] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73) . (1) الأنعام: تطلق على الإبل والبقر والغنم. (2) ذلّلناها: سخرناها أو أخضعناها. في الآيات تذكير استنكاري للسامعين بالأنعام التي سخّرها الله لهم لينتفعوا بها في مختلف وجوه النفع من ركوب وأكل وشرب ولبس، وتنديد بهم لعدم شكرهم على نعمه والاعتراف بفضله وربوبيته. وفي الآيات عود على بدء في التنديد بالكافرين والمكذّبين وربط للسياق، كأنما فصول مشهد الآخرة وما بعدها جاءت استطرادية. وهكذا تتصل فصول السورة ببعضها وتبدو صورة رائعة من صور التساوق في النظم القرآني. ولقد كانت الأنعام من أهمّ ما ينتفع به العرب. فجاء التذكير بنعمة الله عليهم

[سورة يس (36) : الآيات 74 إلى 75]

بها قوي الاستحكام. وفي هذا مظهر من مظاهر التساوق بين الأساليب القرآنية وأذهان السامعين مما تكرر كثيرا في مناسبات وصيغ متنوعة. وقد يقال إن الله خلق الأنعام كما خلق غيرها من الدواب النافعة والمؤذية بمقتضى الناموس العام. وإن في القول بأن الله قد خلقها للناس إشكالا، والذي يتبادر لنا أن المقصد من ما جاء في الآيات وأمثالها المتكررة في القرآن هو تذكير السامعين بما أقدرهم الله عليه من تسخير الأنعام والانتفاع بها شتى المنافع التي فيها قوام حياتهم وبما يوجبه ذلك عليهم من الإخلاص له وشكره وبما في الاتجاه نحو غيره أو إشراك غيره معه انحراف وشذوذ. وفي الآيات نفسها وما يليها من الآيات ما يؤيد هذا التوجيه. [سورة يس (36) : الآيات 74 الى 75] وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) . والآيتان استمرار في السياق والتنديد بالكافرين على اتخاذهم آلهة غير الله رجاء أن ينصروهم في حين أنهم عاجزون عن ذلك. وقد أوّل المفسرون «1» الفقرة الأخيرة من الآية الثانية تأويلات متعددة. منها أن الكفّار يتخذون الأصنام آلهة لهم مع أنهم هم جند لهم يحمونهم ويدفعون عنهم الأذى والعدوان. ومنها أن الآلهة سوف يكونون مع الكفار يوم القيامة جندا واحدا ولكنهم لن يستطيعوا لهم نصرا حيث يطرحون جميعا في النار. وكلا التأويلين وجيه وإن كنا نرجح الأول. وكلاهما منطو على السخرية بالكافرين والتسفيه لعقولهم وبقصد الإفحام والتدعيم كما هو المتبادر. [سورة يس (36) : آية 76] فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76) . (1) يسرون: يكتمون ويخفون.

_ (1) انظر الطبري وابن كثير والطبرسي مثلا.

[سورة يس (36) : الآيات 77 إلى 83]

في الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وقد جاءت معترضة في السياق. وقد أوردناها لحدتها لأن من المحتمل أن تكون التسلية في صدد ما يثير نفس النبي صلى الله عليه وسلم من اتخاذ الكفار آلهة لهم غير الله والاستنصار بهم، أو في صدد نعتهم إياه بالشاعرية وتكذيبهم القرآن أو في صدد ما حكته الآيات التالية من تحدي بعض زعماء الكفار ومكابرتهم وتكذيبهم البعث الأخروي بعد أن يصبحوا رميما. وقد تكرر مثل ذلك حيث اقتضته حكمة التنزيل بسبيل تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتقويته إزاء ما كان يلقاه من قومه من مواقف ويسمعه من نعوت كانت تثيره وتحزنه. [سورة يس (36) : الآيات 77 الى 83] أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) . (1) خصيم مبين: مجادل عنيد. (2) رميم: بال. (3) يقول له كن فيكون: هذا التعبير أسلوبي أو مجازي بمعنى أن الله فيما يريد أن يتمّ ظهور شيء يتمّ فورا بمجرد تعلق إرادته به. (4) ملكوت: بمعنى الملك المطلق التام. تساءلت الآية الأولى تساءل المستنكر المندد عما إذا كان الإنسان لم يعرف أن الله إنما خلقه من نطفة حتى ينقلب خصما عنيدا له. وحكت الثانية موقف هذا الإنسان الذي نسي كيفية نشوئه وخلقه المذكورة فتساءل عمن يمكن أن يحيي

العظام بعد أن تصبح رميما فتاتا متحدّيا بذلك ربّه العظيم الذي خلقه من تلك النطفة ومتجاهلا قدرته. واحتوت الآيات التالية أمرا ربانيا للنبي بالردّ على هذا الإنسان السائل المتحدي المتجاهل ردّا قويا فيه تنديد لاذع بعبارة واضحة موجهة إلى العقل والقلب وفيه تدليل هنا على قدرة الله على إعادة الخلق وعظمته بما لا يمكن المكابرة فيه مما يقع تحت المشاهدة. وقد روى المفسرون «1» أن أبيّ بن خلف أو العاص بن وائل من زعماء الكفار أخذ في موقف جدل بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عظمة بالية وفتتها ثم قال له كيف تزعم أن ربّك يبعث الناس وقد صارت عظامهم رميما!. والرواية محتملة الصحة. غير أننا نلاحظ أن السياق كلّه أي هذه الآيات وما قبلها منسجم يدلّ على الوحدة التقريرية والإلزامية والتنديدية. والذي يتبادر لنا من ذلك أن حكاية هذا الموقف قد جاءت كإشارة عرضية إلى بعض أسئلة الكفار ومواقفهم الساخرة بسبيل الردّ والتنديد مما تكرر كثيرا في النظم القرآني. وأسلوب الآيات قويّ من شأنه أن يفحم المجادل المكابر وأن يقطع عليه نفس الكلام والمكابرة. وفيه من الإفحام ما يظلّ مستمد إلهام وقوة في صدد التدليل على قدرة الله عزّ وجلّ وعظمته كما هو المتبادر. ولقد كان السائلون يعترفون بالله عزّ وجلّ وكونه خالق الأكوان ومدبّرها ومالك كل شيء ومرجع كل شيء على ما نبهنا عليه وأوردنا شواهده القرآنية في مناسبات سابقة ومن هنا يأتي الإفحام لهم قويا ملزما. غير أن هذا يظلّ كذلك دائما لأن دلائل وجود الله وقدرته مائلة في كل شيء لا يكابر فيها إلّا مكابر أو جاهل.

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري وابن كثير والطبرسي والخازن.

سورة الفرقان

سورة الفرقان في السورة صور عديدة لمواقف الكفار من النبي صلى الله عليه وسلم وأقوالهم وتعجيزاتهم. وحملة تقريعية وإنذارية عليهم. وردود مفحمة ببراهين على قدرة الله وعظمته وربوبيته. وتذكير ببعض الأمم السابقة ومصائرهم. وتنويه بالمؤمنين الصالحين وأخلاقهم وحسن عاقبتهم. وبين موضوعاتها وموضوعات السورة السابقة شيء غير يسير من التشابه والتساوق مما يمكن أن يكون قرينة على صحة ترتيب نزولها بعدها. ونظم السورة مسجع وموزون أكثر منه مرسلا. وفصولها مترابطة. وهذا وذاك مما يسوغ القول بوحدة نزولها أو تلاحق فصولها في النزول. وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات [68- 70] مدنيات. وانسجامها مع السياق والأسلوب وبروز الطابع المكي عليها مما يحمل على الشك في الرواية. وقد روى الطبري تفنيدا للرواية وتوكيدا بمكية الآيات. وهناك حديث رواه مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس سنورده في ما بعد جاء فيه أن الآية [70] مكية وهذه الآية جزء لا يتجزأ من الآيتين السابقتين لها حيث يؤيد كل هذا شكّنا في الرواية. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الفرقان (25) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3) . (1) تبارك: تزايد خيره وعظمت بركته. (2) الفرقان: معناها اللغوي الفارق. وهي مصدر فرق بمعنى فصل. ووردت في القرآن بمعان عديدة حيث وردت بمعنى التفريق بين الحقّ والباطل وبمعنى المبين للحق وبمعنى نصر الله وتأييده وللكناية عن القرآن والإشارة إليه وللكناية عن كتب الله مطلقا وعن كتب موسى عليه السلام وهي هنا للكناية عن القرآن. وقيل فيما قيل عن كنايتها للقرآن إنها تأتي أحيانا بمعنى المفرّق ضد المجموع للدلالة على نزوله مفرقا وليس جملة واحدة. (3) عبده: كناية عن النبي صلى الله عليه وسلم. (4) قدّره تقديرا: خلقه بحساب وإحكام دقيقين. (5) نشورا: هنا بمعنى البعث بعد الموت. بدأت السورة بالثناء على الله تعالى. وهذا المطلع من مطالع السورة المتكررة على اختلاف في الصيغ. وقد أعقب الثناء في الآية الأولى والثانية تقرير كون الله تعالى هو الذي أرسل عبده صلى الله عليه وسلم لينذر العالم أجمع ويبيّن لهم طريق الحق والهدى ويدعوهم إليه، وتقرير كون الله تعالى هو ملك السموات والأرض وليس له شريك فيه ولم يتخذ ولدا، وأنه خلق كل شيء على أدقّ ترتيب وحساب. أما الآية الثالثة فقد احتوت تنديدا بالكافرين الجاحدين الذين يتخذون آلهة من دونه لا يخلقون شيئا وهم أنفسهم مخلوقون ولا يملكون لأنفسهم- فضلا عن غيرهم- ضرّا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا حيث انطوى فيها تسفيه للمشركين والجاحدين بعبادتهم مثل هذه الآلهة دون الله تعالى مالك كل شيء وخالق كل شيء دون ما شريك. ويبدو من الآيات التي جاءت بعد هذه الآيات أن هذه الآيات جاءت مقدمة لحكاية مواقف جحودية واستهزائية وتعجيزية وقفها الكفار والمشركون. وهي قوية

[سورة الفرقان (25) : الآيات 4 إلى 6]

نافذة فيما احتوته من تقرير وتنديد وتسفيه. وفي الآية الأولى تقرير جديد بكون الله عزّ وجلّ إنما أنزل القرآن ليكون نذيرا للعالمين في كل زمان ومكان. وقد سبق تقرير كون القرآن ذكرا للعالمين في سورتي القلم وص كما سبق أمر الله في سورة الأعراف للنبي صلى الله عليه وسلم بإعلان كونه رسول الله إلى الناس جميعا حيث يتلاحق تقرير هذا الأمر منذ أوّل العهد النبوي فينطوي في ذلك ردّ قاطع متكرر على من يزعم خلاف ذلك. [سورة الفرقان (25) : الآيات 4 الى 6] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) . (1) إفك: كذب. (2) افتراه: اخترعه. (3) أساطير: انظر شرحها في سورة القلم. (4) اكتتبها: بمعنى استكتبها على ما جاء في كشاف الزمخشري. (5) تملى: تتلى وتقرأ. في الآيات حكاية لما كان يقوله كفار العرب حيث كانوا يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يخترع القرآن وينسبه إلى الله افتراء، وإن هناك أناسا يساعدونه على ذلك، وإن القرآن مستمدّ من كتب الأولين وأساطيرهم وقصصهم، وإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستكتبها ويكلّف من يتلوها عليه صباحا ومساء حتى يستظهرها. وقد ردّت عليهم الآية الرابعة ردّا قويا فوصفت أقوالهم بالظلم والزور وأمرت النبي صلى الله عليه وسلم بالتوكيد بأن القرآن وحي أنزله عليه الله الغفور الرحيم الذي يعلم سرّ كل شيء في السموات والأرض.

تعليق على زعم الكفار بأن أناسا يعاونون النبي صلى الله عليه وسلم على القرآن

والآيات معطوفة على سابقاتها والسياق متّصل ببعضه. وقد انطوى فيها وفي الآيات السابقة تقرير كون الكفار في حين يسخفون ويتخذون من دون الله آلهة لا يخلقون شيئا ولا ينفعون ولا يضرون يتواقحون فيقولون عن القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم هذه الأقوال الجريئة. وهكذا تستحكم الحجة ويأتي الكلام قويا لاذعا. والمتبادر من جملة إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً في هذا المقام أنها أريد بها تقرير كون الله تعالى باتّصافه بالغفران لعباده والرحمة بهم أرسل عبده لينذرهم ويهديهم وأن ذلك جعله يمهل الكفار على ما يقولونه من أقوال ويقفونه من مواقف ولا يعجل بعذابهم. وقد قال بعض المفسرين إن في الجملة دعوة للكفار إلى التوبة إلى الله عن قولهم والرجوع إلى الحق. ولا يخلو هذا من الوجاهة وقد تكررت مثل هذه الدعوة في مختلف المواقف والمناسبات المكيّة والمدنيّة. تعليق على زعم الكفار بأن أناسا يعاونون النبي صلى الله عليه وسلم على القرآن ويعزو المفسرون الأقوال الواردة في الآيات إلى النضر بن الحرث بن عبد الدار وأصحابه من مشركي قريش ويروون أنهم كانوا يقولون إن محمدا صلى الله عليه وسلم كان يتعلّم من اليهود أو من بعض أفراد النصارى في مكة كانوا أرقاء وصناعا مثل جبرا ويسار الروميين وعبيد بن الحصر الحبشي الكاهن، ويستكتب ما عندهم من أسفار «1» . وفي الردّ الذي احتوته الآيات على أقوال الكفار إفحام قوي، فالوحي الرباني يسجّل أقوالهم في آيات تتلى على الناس جهرة ويردّ عليها ردّا فيه تكذيب لهم وتنديد بهم ونسبة الظلم والزور إليهم ويتلى كذلك على الناس جهرة فيسمع الكفار هذا وذاك ويسمعهما معهم الذين ينسب الكفار إليهم معاونة النبي صلى الله عليه وسلم.

_ (1) انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري وابن كثير والطبرسي والزمخشري والخازن مثلا.

وفي سورة النحل آية تفيد أن الكفار عادوا مرة أخرى فزعموا أن شخصا معينا يعلّم النبي صلى الله عليه وسلم. وهي هذه: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) وقد ذكر المفسرون «1» أسماء جبرا ويسار أيضا في سياق هذه الآية، ولقد احتوت الآية ردّا قويا مفحما مثل الردّ الأول حيث حكت قول الكفار وكذّبته علنا على سمعهم وسمع الشخص الذي كانوا يذكرونه في معرض تعليم النبي صلى الله عليه وسلم، مع زيادة مهمة هي ذكر هوية الشخص وكونه أعجمي اللسان وأنه ليس هناك أي احتمال لتعلّم النبي صلى الله عليه وسلم منه ما يتلوه من قرآن عربي مبين. وقد يقال إن الكفار لم يكونوا ليقولوا ما قالوه لو لم يشاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم يجتمع إلى أفراد من غير أهل مكة متنورين مثقفين مطلعين على الكتب الأولى، وقد يكون هذا واردا. وفي القرآن المكي آيات عديدة نوّهت بالذين أوتوا العلم والكتاب واستشهدت بهم وذكرت فرحهم بما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وشهادتهم بأنه حق وتصديقهم به وبرسالة النبي صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه مثل آيات سورة القصص هذه: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) وآيات سورة الإسراء هذه: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) وآية العنكبوت هذه: وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ (47) وآية سورة الأنعام هذه: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وآية

_ (1) انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري وابن كثير والطبرسي والزمخشري والخازن مثلا.

سورة الرعد هذه: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [36] ومن الممكن أن يكون من هؤلاء من اتصل به النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته أيضا. بل لقد روي أنه كان فعلا يمرّ على بعض الذين يقرأون الكتب الأولى ويسمع منهم «1» . غير أن ذلك لا يجعل للقول الذي يمكن أن يقال أهمية إيجابية في معرض دعوى الكفار بل ومن شأنه أن يحبطه. فإن جلّ الذين استشهد بهم وشهدوا بصدق القرآن والرسالة والذين من المحتمل أن يكون الكفار قد عنوهم أو عنوا بعضهم كمعلمين للنبي صلى الله عليه وسلم بل كلهم قد انضووا إليه وآمنوا وصدقوا وخشعوا وفرحوا واستبشروا على ما ذكرته الآيات نفسها. وهذا يعني أن هؤلاء قد رأوا من صدق أعلام النبوّة ما جعلهم يؤمنون ويصدقون. ولقد يقال أيضا إن الكفار دعموا ما قالوه بما رأوه من تشابه في المبادئ والأخبار بين القرآن والكتب الأولى فقالوا عنه إنه أساطير الأولين اكتتبها كما جاء في الآيات التي نحن في صددها وكرروا ذلك أكثر من مرة كما حكته عنهم آيات عديدة مرّ بعضها. وليس في هذا ما يمكن أن يكون نقضا لتكذيب القرآن لهم وردّه عليهم. حتى مع التسليم بأن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع أو استمع لمحتويات ما كان يتداوله اليهود والنصارى من الأسفار. ففصول القرآن ليست سردا لتاريخ وقصدا إلى تدوين وقائع وتكرارا آليا لشرائع ومبادئ. وإنما هي دعوة حية جياشة إلى الله والعمل الصالح، متحدة في جوهرها مع دعوة الأنبياء الأولين وصادرة مثلها عن واجب الوجوب ووحيه كما نبهت إليه آيات سورة النساء هذه إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً

_ (1) انظر تفسير آية النحل [103] في تفسير الخازن مثلا.

تعليق على نسبة المتعصبين من الكتابيين

حَكِيماً (165) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) وآية سورة الشورى هذه شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) ومدعومة بما اقتضته حكمة التنزيل من دعائم ووسائل تمثيلية وتذكيرية ووعظية وإنذارية وتبشيرية في قصص الأولين وأخبارهم ومشاهدهم مما كان معروفا ومتداولا لدى سامعي القرآن أو في المشاهد والصور والأحداث القائمة والجارية في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته. تعليق على نسبة المتعصبين من الكتابيين في العصور المتأخرة الافتراء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وموقفهم من رسالته العلوية ومن العجيب أن المتعصبين من الكتابيين في العصور المتأخرة لم يتأثروا ولم يكتفوا بما كان من نسبة الكفار إلى النبي صلى الله عليه وسلم افتراء القرآن أو تلقيه من أناس آخرين وكتبهم مواجهة وبردّ القرآن عليهم بردوده القوية المفحمة النافذة إلى أعماق الضمير والتي منها الآيات التي نحن في صددها ثم آية سورة الأحقاف هذه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) وآية سورة الشورى هذه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24) وآية سورة النساء هذه: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) وآية سورة الأنعام هذه: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ... [19] وآية سورة الأنعام هذه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ ... [93] فكرروا ما قاله كفّار العرب مثيرين إشكالات ثانوية لا تمسّ بالجوهر ولا تثبت على التمحيص.

ولقد رأوا في القرآن تطابقا مع بعض ما جاء في الأسفار المتداولة في أيديهم فزعموا أنه مقتبس منها بل تواقحوا بدون وازع من منطق وضمير وحياء وواقع فقالوا إن الإسلام صورة ممسوخة أو نسخة مشوهة من اليهودية والنصرانية متجاهلين ما جاء عليه من نقاء وصفاء وانطوى فيه من علوية وروحانية وأتى به من تصحيح لكل انحراف وتحريف عقائدي وأخلاقي ارتكس فيه اليهود والنصارى وأهل الملل الأخرى. ومن مبادئ وتشريعات وأحكام وتلقينات فيها حلّ لكل مشكلة إيمانية واستجابة لكل مطلب حياتي في كل ظرف فجاء فريدا في صفائه ونقائه وروحانيته وعلويته وكماله لينفذ إلى كل ضمير وقلب وعقل وليترشح بذلك ليكون دين الإنسانية العام. وقد فات عنهم بل تعاموا عن قصد أن الكفار هم الذين زعموا هذا حين كانوا يقولون أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان: 5] فردّه القرآن عليهم ردّا قويا شرحناه آنفا بل وتعاموا عن قصد كذلك أن القرآن إلى هذا قد أعلن ذلك التطابق لا على اعتبار أنه مقتبس ولكن على اعتبار أنه وحي منزل من الله كما كان ينزل على النبيين من قبل حيث يقول بأسلوب قوي نافذ: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً [النساء: 163- 166] ووَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [المائدة: 48]

ووَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ [الأنعام: 92] وشَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ [الشورى: 13] مع إشارات تنديدية بما كانت عليه اليهودية والنصرانية وأتباعهما من نقض وانحراف وتحريف واختلاف وشقاق وإيذان رباني بأن الله تعالى قد أرسل له وأنزل عليه القرآن ليبين لهم ذلك وليخرجهم من الظلمات إلى النور في آيات سورة المائدة هذه: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) ويا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة: 19] ووَ ما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ

بَعْدِهِمْ «1» لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [الشورى: 14- 15] ووَ لَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [الزخرف: 63- 65] . وهذه الآيات وأمثالها التي تضع الأمر في نصابه الحقّ من وحي القرآن الرباني ورسالة الإسلام السامية النقية المصححة المتممة والتي من شأنها أن تستولي على قلب وضمير كل عاقل منصف بريء من الهوى وقصد المكابرة والعناد، تظهر عظيم التجنّي والوقاحة والكذب في الأقوال التي يتقوّلها المغرضون من المستشرقين والمبشرين. ولقد اتكئوا على المباينة بين ما جاء في القرآن في الظاهر لما هو معروف اليوم من وقائع التاريخ القديم فقالوا إنه ملفق من الحكايات المتداولة المشوبة بالخيال والتحريف متجاهلين أن ذلك من الشؤون الوسائلية التي لا تمسّ جوهر الرسالة العلوي الروحاني ولا تخلّ بمدى الوحي القرآني في حال وأن القرآن في قصصه لا يهدف إلى تأريخ الأحداث والوقائع لذاتها وإنما إلى الموعظة والعبرة والتذكير والتمثيل وأن هذا الهدف إنما يتحقق إذا كانت القصص والوقائع معروفة عند السامعين، وليس هناك أي دليل على عكس ذلك. وفي القرآن آيات عديدة تؤيد ذلك مثل آية العنكبوت هذه: وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وآية سورة الفرقان هذه: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ

_ (1) أي بعد الأنبياء نوح وإبراهيم وموسى وعيسى الذين ذكروا في الآية [13] من سورة الشورى التي أوردناها قبل قليل.

السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40) وآية سورة الروم هذه: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) وآيات سورة الفجر هذه: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) . واتكئوا على ما بين القرآن والأسفار من مباينة في الوقائع فقالوا إنه محرّف مع أنه لا يستطيع أحد أن ينفي احتمال ورود ما ورد في القرآن في أسفار وقراطيس أخرى كانت موجودة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وضاعت كما لا ينفي احتمال طروء تحريف على ما في الأيدي اليوم من الأسفار. ونحن نعتقد ذلك. وقد نبهنا في سياق سورة الأعراف إلى ما كان مفقودا من أسفار ذكرت أسماؤها في الأسفار المتداولة وإلى ما هو ملموح في الأسفار المتداولة من تحريف وتغاير وتناقض. وكما وقع هذا وذاك يمكن أن يكون وقع مثله بطبيعة الحال. ونقول من قبيل المساجلة إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعقل أن يكون اخترع هذا وذاك لأنه ليس من ضرورة فنية إلى ذلك، والسياق القرآني يظلّ مستقيما بدونه. ومما قالوه إن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قام برحلات عديدة فانطبع بذاكرته كثير من الشؤون مع ما انطبع فيها مما سمعه من محتويات الأسفار فألّف القرآن من ذلك. وهذا كلام متهافت لأن القرآن كما قلنا قبل قليل لم يقصد إلى سرد الوقائع والصور والمشاهد وإنما هو دعوة إلى الله تعالى والعمل الصالح متّحدة في جوهرها مع دعوة الأنبياء الأولين ومتممة لها وصادرة مثلها عن الوحي الرباني ومصححة لما وقع فيها من تحريف وانحراف واختلاف ولا يمكن أن يتناقض هذا أو يخلّ به ما هو مسلّم به من إلمام النبي صلى الله عليه وسلم بأحوال وأحداث وقصص العرب والأمم الأخرى ومدوناتها بطبيعة الحال، وما اقتضت حكمة الله بوحيه منها بالأسلوب الذي جاء به هذا للتدعيم والتذكير والعبرة والإنذار والموعظة.

وكل ما قالوه تمحّك ومصوّب على الفصول الثانوية والوسائلية دون الجوهري في الرسالة المحمدية القرآنية فضلا عن تهافته. ولقد نبّه القرآن إلى أن الذين يتمحكون بالمتشابهات التي منها القصص والصور والمشاهد ويعمون عن النور الذي يشعّ من خلال المبادئ القرآنية المحكمة إنما يبغون الفتنة ويتلبسون بالنية السيئة والمكابرة كما جاء في آية سورة آل عمران هذه: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ ... [7] . ومن العجيب أن الذين يقولون هذه الأقوال التي قال معظمها كفّار العرب للنبي صلى الله عليه وسلم يزعمون أنهم يعتقدون بنبوّة الأنبياء ومهمتهم، ووحي الله إليهم ثم يناقضون أنفسهم بإنكار ذلك على النبي العربي مع أن دعوته مثل دعوة الأنبياء من قبله إلى وحدة الله وتنزيهه عن كل شائبة ثم إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعدل والحق والإحسان والبرّ والتعاون والصدق والرحمة ومساعدة المعوزين والمحبة والسلام والنهي عن الفواحش والخبائث والمنكرات، ومع أن ما أخبر به عن وحي الله إليه مماثل لما كان من وحي الله إلى الأنبياء السابقين الذين يعترف القرآن بهم وبكتبهم ويأمر بالاعتراف والإيمان بهم. والمحكم من القرآن الذي كان يقصد به في بدء الأمر من تعبير (القرآن) على ما شرحناه في مناسبات سابقة وبخاصة في سياق تفسير سورة (ص) يدور على ذلك. ولا يسع أي شخص واع من غير المسلمين إذا تجرّد عن الهوى والغرض والتعصّب والمكابرة أن ينكر أنّ ما احتواه من مبادئ وأسس هي علوية لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها تنزيل من حكيم حميد. وقد تجاهلوا كذلك أن القرآن استشهد بالكتابيين الذين رأوا النبي صلى الله عليه وسلم واستمعوا إلى القرآن في العهدين النبويين المكي والمدني. وقد شهد الذين حسنت نواياهم وطابت سرائرهم وتجرّدوا من الغرض والتعصّب والمكابرة والعناد بصدقهما وآمنوا بهما ولم يتمحّكوا بالمتشابهات. وليس هناك أي احتمال لتهمة

الضغط والإكراه لعدم إمكان ذلك في تلك الظروف وإنما كان استنادا إلى ما رأوه من صدق أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وسمعوه من الحق ثم إلى صفات محمد صلى الله عليه وسلم المطابقة لما في كتبهم على ما ذكرته آية الأعراف هذه: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ [157] التي أوردنا من الشواهد ما يوضح ما احتوته في سياق تفسيرها وقد سجلت آيات الإسراء [107- 109] والقصص [51- 52] والأحقاف [10] والعنكبوت [47] والأنعام [114] والرعد [36] التي أوردنا نصوصها قبل قليل حركة إيمان وتصديق الكتابيين في مكة وسجلت آيات عديدة مدنية مثل هذه الحركة في المدينة أيضا مثل آية آل عمران هذه: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) وآية سورة النساء هذه: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) وآيات سورة المائدة هذه: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) . وإذا كان حقّا قد ظل فريق من أهل الكتاب في الحجاز وبخاصة اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يجحدون نبوته والقرآن الذي أنزل عليه فقد كان ذلك بتأثير من أحبارهم ورهبانهم الذين لم يستطيعوا كبت جماح هواهم والتجرد من أنانياتهم ومآربهم وحسدهم، وعموا عن رؤية الحق والهدى واتباعهما على ما ذكرته آيات عديدة هي تسجيل في نفس الوقت لواقع أمرهم، مثل آيات سورة البقرة هذه وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى

الَّذِينَ كَفَرُوا «1» فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) وهذه وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) وهذه وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ... [109] ومثل آيات سورة آل عمران هذه وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وآيات سورة التوبة هذه اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.... [31- 34] . ومثل آيات سورة النساء هذه التي تنطوي على أبشع وأفسق وأكفر وأخبث موقف لليهود من رسالة الله وقرآنه وهداه نتيجة لما كان من حسدهم وغيظهم:

_ (1) كان اليهود يقولون للعرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إنهم يجدون في كتبهم أنه سيبعث قريبا نبي عربي وأنهم سيكونون معه حزبا واحدا، وكانوا يقولون ذلك على سبيل الزهو والاعتزاز على العرب. انظر تفسير الآية في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والمنار والطبرسي.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) وأَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ «1» [51- 54] . ونريد أن ننبه إلى أمر مهم في المسألة وهو أن القرآن إنما يقصد بجملة مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ [آل عمران: 3] الواردة بنصّها أو قريبا منها في الآيات هو التطابق في الأسس والمبادئ ووحدة المصدر مما تضمّنت تقريره آيات سورة النساء [163] وسورة الشورى [13] التي أوردنا نصّها آنفا. فإذا كان هناك تباين بين ما جاء في القرآن وما جاء في الأسفار فمردّ ذلك إلى ما طرأ على هذه الأسفار من تحريف وتبديل وما كان من علماء الكتابيين الدينيين من سوء تأويل وشذوذ وخلاف وشقاق ونزاع، وما كانوا يخفونه مما في أيديهم من كتب مما نبهت إليه آيات قرآنية عديدة مثل آيات سورة البقرة هذه: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما

_ (1) ذهب وفد يهودي إلى مكة لتحريض أهلها على النبي والمسلمين والتحالف معهم على استئصال شأفتهم وأخذهم المشركون إلى أوثانهم فتباركوا بها وحلفوا عندها وسألوهم أهم أهدى من محمد فحلفوا لهم أنهم هم أهدى ... (انظر ابن هشام ج 3 ص 235 وما بعدها وابن سعد ج 3 ص 108 وما بعدها) .

يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وهذه: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وهذه: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253) وهذه: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) ومثل آيات سورة آل عمران هذه: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20) وهذه: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) ومثل آيات سورة المائدة [13- 16] وآيات سورة الشورى [14- 15] وآيات سورة الزخرف [63- 65] التي أوردناها آنفا. ومن هنا تبدو حكمة الله ورحمته أن بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا للناس جميعا كتابيين وأمّيين وأنزل عليه القرآن ليكمّل به للإنسانية دينها ويصبح الإسلام بذلك دين الإنسانية العام كما جاء في آيات كثيرة منها آيات سورة التوبة هذه:

دلالة تعبيري اكتتبها وتملى عليه

يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) وليصحح ما طرأ على المبادئ التي تضمنتها الكتب الأولى من تحريف وتبديل وسوء تأويل وليكون عليها مهيمنا ولتلك المبادئ مرجعا كما ذكر ذلك في آيات عديدة أوردنا كثيرا منها آنفا، ومنها آية سورة المائدة هذه: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) وآية سورة المائدة أيضا هذه: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ [48] وآيات سورة النمل هذه: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) ويتمثل في ذلك كله فحوى ومدى آية سورة الأنبياء هذه: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) . دلالة تعبيري اكْتَتَبَها وتُمْلى عَلَيْهِ هذا، وتعبيرا اكْتَتَبَها وتُمْلى عَلَيْهِ الواردان في الآية الخامسة ينطويان على دلالة قرآنية على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقرأ ويكتب كما هو المتبادر. وهذه الدلالة صريحة أكثر في آية سورة العنكبوت هذه: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) . [سورة الفرقان (25) : الآيات 7 الى 10] وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10)

(1) لولا: هنا بمعنى هلّا للتحدي. (2) فلا يستطيعون سبيلا: فلا يجدون طريقا أو حجة إلى إبطال أمر النبي صلى الله عليه وسلم بما يضربونه من أمثال، أو يوردونه من تعجيزات أو يقولونه من أقوال، أو إنهم ضلّوا عن الحق فلا يستطيعون تبيّنه بمثل تلك الأمثال. في الآيات حكاية لأقوال أخرى كان الكفار يقولونها حيث كانوا يبدون دهشتهم لدعوى النبي صلى الله عليه وسلم برسالة الله تعالى ويقولون كيف يكون رسولا من الله تعالى ثم هو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق كما يفعل سائر الناس، وحيث كانوا يطلبون ما يدعم دعواه هذه ويتحدّونه بإنزال ملك يؤيده أو إلقاء كنز عليه ينفق منه أو خلق جنة يأكل منها، وحيث كانوا يقولون للمصدقين المؤمنين إنكم إنما تتّبعون رجلا يقول ما يقول ويدعو إلى ما يدعو تحت تأثير السحر. وقد احتوت الآيتان الأخيرتان ردّا تسفيهيا فيه خطاب تطميني للنبي صلى الله عليه وسلم في الوقت ذاته، فإنهم بمثل هذه الأقوال والتحدّيات قد ضلّوا عن طريق الحق والهدى فلن يستطيعوا تبيّنها، وإن الله قادر لو شاء أن يجعل له من القصور والجنات أفضلها وأعظمها فهو خالق الأكوان ولا يعجزه شيء من ذلك بطبيعة الحال. ولقد روى الطبري أن الآيتين الأولى والثانية نزلتا في مناسبة اجتماع تمّ بين زعماء المشركين والنبي صلى الله عليه وسلم جادلوه وتحدّوه بمطالب متعددة. والذي يتبادر لنا من انسجام المجموعة وعطفها على ما سبقها أن تحدّي الكفّار قد كان قبل نزول هذه الآيات والتي قبلها وأن المجموعتين نزلتا معا أو واحدة بعد أخرى لتحكي أقوالهم وتردّ عليهم وتندّد بهم وتقرّر حقيقة الرسالة النبويّة وهدفها وتثبّت النبي وتؤيده في موقفه معهم.

تعليق على تحدي الكفار باستنزال ملك لتأييد النبي صلى الله عليه وسلم

تعليق على تحدّي الكفار باستنزال ملك لتأييد النبي صلى الله عليه وسلم وحكاية طلب الكفار باستنزال ملك يؤيد النبي صلى الله عليه وسلم ويكون معه نذيرا تحكى عنهم هنا لأول مرة. وقد تكررت حكاية ذلك عنهم في هذه السورة وفي سور أخرى حيث يبدو أن هذا كان من مظاهر تحدّيهم التي رأوها هامة ورأوا تكرارها من آن لآخر. وحيث يؤيد هذا ما نبهنا عليه في سورتي المدثّر والنجم من اعتقادهم بوجودهم وصلتهم بالله تعالى وحظوتهم لديه. وقيامهم بخدمات متنوعة له حتى اعتقدوا أنهم بناته وعبدوهم على سبيل الاستشفاع بهم. تعليق على ما يفرضه العرب من طبيعة للنبي تغاير طبيعة البشر والآية السابعة تشير إلى ما كان يفرضه العرب في «النبي» من طبيعة غير طبيعة البشر ومن قوّة ومواهب فوق قوى البشر ومواهبهم، ثم إلى سبب من أسباب وقوفهم من النبي صلى الله عليه وسلم موقف المكذّب المرتاب وهو طبيعته البشرية التي لم يكن فيها أي فارق عن سائر الناس فكان هذا مما جعلهم يطلبون المؤيدات لدعواه الصلة بالله تعالى، وقد تكرر هذا منهم في آيات ومواقف عديدة أوردناها في سياق تفسير سورة المدثر. وكانت الآيات تردّ عليهم ردّا مماثلا لما احتوته الآيات التي نحن في صددها دون إجابة إلى تحدّيهم لأن الدعوة إلى الله ومكارم الأخلاق لا تحتاج إلى مؤيدات خارقة لمن يدعو إليها مع ترديدها تقرير بشرية النبي صلى الله عليه وسلم في كل شيء وكونه لا يملك لأحد ضرّا ولا رشدا وكونه لا يجيره من الله أحد وكونه لا يعلم الغيب ولا يستطيع دفع ضرر عن نفسه وجلب خير له إلّا ما شاء الله كما جاء في آيات سورة الأعراف [188] وسورة الجن [21- 22] اللتين سبقتا هذه السورة وآية سورة الكهف هذه: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110) وأمثالها.

تعليق على تعبير انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا

تعليق على تعبير انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا والآية التاسعة في تقريرها ضلال الكفار فيما يبدو منهم من أقوال ويضربونه من أمثال ويتحدونه من تحدّيات قد تضمنت تقرير كون مواقفهم هذه هي مواقف عناد ومكابرة وليست صادرة عن نيّة حسنة ورغبة في الحق، وتقرير كون من كانت مواقفه ناشئة عن ذلك لا يستطيع أن يتبيّن الحق والهدى فيما يسمع ويشاهد. واستعمال كلمة فَضَلُّوا قد تفيد بالإضافة إلى ما قلناه أن إنكار الكفار ومكابرتهم وتساؤلهم وتحدّياتهم ناتجة عن ضعف إدراكهم الذي أدّى بهم إلى الظنّ بأن الرسل يجب أن يكونوا من غير البشر أو أن تكون لهم مواهب تفوق مواهب البشر. وهذا المعنى جاء بصراحة في آيات أخرى منها آيات سورة الإسراء هذه: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا (93) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا (94) . وقد يفيد كذلك أن من الضلال أن يظنّ أن دعوة الناس إلى دين الله وطريق الحق تقتضي أن يقوم بها شخص فوق البشر في حين أن الخصائص التي يقتضي أن يمتاز بها الرسول ليست مما يخرجه من الطبيعة البشرية وإنما هي في الخلق والنفس والروح والعقل. وفي كل ما تفيده الآية تلقينات جليلة مستمرة المدى في تقبيح المكابرة والشذوذ وعدم تدبّر الأمور، والانحراف عن مقتضى الحق والمنطق وعدم التسليم بهما عند ظهور حجتهما والتحمّل في ما لا طائل من ورائه بسبيل هذا الانحراف.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 11 إلى 14]

[سورة الفرقان (25) : الآيات 11 الى 14] بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) . (1) أعتدنا: أعددنا وهيأنا. (2) تغيظا: هياجا وغليانا شديدين. (3) زفيرا: كناية عن الصفير الذي يخرج من النار إذا اشتدّ ضرامها واستعارها. (4) مقرنين: مقرون بعضهم إلى بعض أو مقيدون بالقيود. (5) ثبورا: هلاكا ومعنى دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً تمنوا الهلاك وطلبوه. في الآية الأولى تقرير لواقع أمر الكفار وبواعث مكابرتهم وعنادهم وهو تكذيبهم اليوم الآخر حيث أدّى ذلك إلى عدم مبالاتهم بما ينذرون ويوعدون وإنذار لهم ولأمثالهم المكذبين المنكرين بالنار التي أعدّها الله لهم. أما الآيات التالية لها فقد جاءت استطرادية لتصف هذه النار وما يلقى المكذّبون المنكرون فيها. فلسوف تكون شديدة الاستعار والالتهاب والهياج، ولسوف يكون لها من الزفير المدوي ما تهلع له القلوب. ولسوف يساقون إليها مقيدين بالأغلال ويحشرون فيها حشرا من شدّة الضيق والزحام ولسوف يتمنون الموت والهلاك ويطلبونه لشدّة ما يلقون من عذاب فلا ينالونه بل يقال لهم على سبيل السخرية إنكم لسوف تطلبونه كثيرا. ووصف عذاب المكذبين رهيب وأسلوب الآية الأخيرة لاذع ومن شأن ذلك إثارة الرعب في السامعين وبخاصة للمكذبين وهو مما استهدفته الآيات كما هو المتبادر. وواضح أن الآيات متصلة بالسياق السابق واستمرار له.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 15 إلى 16]

[سورة الفرقان (25) : الآيات 15 الى 16] قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16) . (1) الخلد: قيل إنها علم على جنة خاصة من جنات الآخرة كما قيل إنها صفة للجنة الأخروية بمعنى الخالدة. في هذه الآيات استطراد بأسلوب الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بسؤال الناس عمّا إذا كان المصير الرهيب الذي سيكون للمكذبين خيرا أم جنة الخلد التي وعد بها المؤمنون المتقون بعملهم الصالح والتي يكون لهم فيها ما يشاءون من النعيم الخالد. وفي السؤال ينطوي جواب إيجابي بأن جنة الخلد هي الأفضل وأن الإيمان والتقوى هما اللذان يستحق بهما أصحابهما هذا النعيم الخالد. وينطوي فيه كذلك معنى تبكيتي لمن يسخف فيختار بتكذيبه وكفره وفجوره السعير على جنة الخلد. والصلة بين هذه الآيات وسابقاتها قائمة واضحة. وقد استهدفت فيما استهدفته ترهيب المكذبين ليرعووا عن ضلالهم وترغيب المؤمنين المتّقين ليطمئنوا ويثبتوا على طريق الحق والهدى الذي اختاروه وسلكوا فيه. تعليق على تعبير كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا وتعبير كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا من التعابير القرآنية الحاسمة التي تقرّر أن جزاء الآخرة ونعيمها وعذابها هو رهن بأعمال الناس وسلوكهم واختيارهم. فقد وعد الله من آمن واتّقى بالنعيم الخالد ومن كذّب وفجر بالسعير وهو موف وعده. وهذا التعبير من التعابير التي يتشادّ عليها أصحاب المذاهب الكلامية حيث يقول المعتزلة إن تعذيب الكفار ونعيم المؤمنين المتّقين قرّره الله تعالى وقطعه على نفسه وعدا وحيث يستبشع الأشاعرة هذا القول ويقررون أن الله تعالى ليس عليه

[سورة الفرقان (25) : الآيات 17 إلى 19]

واجب. ولا شك أن في القول بشاعة إذا قصد به أن الله ملزم بالمعنى الذي يكون فيه انتقاص من واجب الاعتقاد بمطلق تصرفه في كونه وخلقه سبحانه وتعالى. ونحن نستبعد أن يكون مقصد المعتزلة ذلك. فهم مؤمنون مخلصون يعظمون الله وينزّهونه في كل قول لهم. [سورة الفرقان (25) : الآيات 17 الى 19] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19) . (1) بورا: هالكين بضلالهم. (2) صرفا: بمعنى دفعا للعذاب. (3) نصرا: بمعنى انتصارا على الله في مواجهته لهم. (4) ومن يظلم: بمعنى ومن يجرم ويتمرّد. في الآيات أسلوب آخر في صدد إفحام المكذبين المشركين وتسفيههم وإنذارهم. فالله تعالى سيحشرهم يوم القيامة مع معبوداتهم التي اتخذوها من دون الله فيسأل المعبودات عما إذا كانوا هم الذين أضلوا عباده وزينوا لهم عبادتهم أم هم الذين ضلوا عن طريق الحق وزاغوا باختيارهم فيجيبونه متنصلين مقررين أنهم لا يمكنهم أن يجرأوا على ذلك ويتخذوا أولياء من دونه أو يفرضوا عبادتهم على الغير ولكن الضالين استغرقوا في متع الحياة وشهواتها هم وآباؤهم من قبلهم حتى نسوا ذكر الله تعالى واختاروا الضلال على الهدى. وحينئذ يوجه الخطاب الرباني إلى الكفار بأسلوب تبكيتي بأن الذين اتخذوهم معبودات من دون الله قد تنصلوا منهم وكذبوهم، وبأنهم في حالة العجز واليأس من دفع العذاب عن أنفسهم أو

الانتصار في الموقف العصيب الذي يواجهونه. وانتهت الآية الأخيرة بإنذار عام للناس بأن من يظلم نفسه وينحرف عن طريق الحق يصير إلى شر مصير ويذوق العذاب الأليم. والآيات استمرار للسياق ومتصلة به كما هو المتبادر وليس في الآيات تصريح بهوية المعبودات المقصودة. وقد قال المفسرون إنهم الملائكة أو المسيح عليه السلام أو العزيز ومنهم من قال إنهم الأصنام يأتي بهم الله فينطقهم «1» . والذي نرجّحه أنهم الملائكة. وفي سورة سبأ آيات مشابهات للآية [17] احتوت تصريحا بالملائكة مما يؤيد هذا الترجيح وهي: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) . ومشركو العرب إنما كانوا يعبدون الملائكة ويتّخذونهم شفعاء عند الله على ما حكته آيات عديدة أوردنا نصوصها في سياق سورة المدثر وسورة النجم. وهذا مما يقوي ترجيحنا. والحوار الذي احتوته الآيات إنما أريد به تصوير ما سوف يكون في الآخرة أو حكاية مسبقة له. وفيه معنى تبكيتي وتسفيهي وإنذاري. واستهدف فيما استهدفه تقرير عجز المعبودات عن تحقيق ما يؤمّله المشركون فيهم وكونهم هم أنفسهم عباد الله الذين يخضعون له كل الخضوع ويخافونه كل الخوف مما يتضمن تدعيم ذلك المعنى. وقد استهدف كذلك فيما استهدف حمل المشركين على الارعواء عن الضلال والسخف وإثارة الخوف في نفوسهم. وفي الآيات بيان سبب من أسباب ضلال الناس وانصرافهم عن واجباتهم وعن التدبّر في آيات الله وحكمته يضاف إلى السبب الذي ذكرته الآيات السابقة أي إنكار الآخرة وهو استغراقهم في متع الحياة الدنيا وشهواتها استغراقا يميت

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري وابن كثير والكشاف والطبرسي والخازن.

تعليق على تعبير متعتهم وآباءهم

ضمائرهم ويعمي أبصارهم وينسيهم ذكر الله وواجباتهم نحوه ونحو الناس. وينطوي في هذا تحذير من ذلك بطبيعة الحال. تعليق على تعبير مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ وقد توهم عبارة مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ في جواب المعبودات أنها توجه المسئولية في ضلال الناس إلى الله سبحانه وتعالى بما يسهّله لهم من متع الحياة حتى يستغرقوا فيها. وفي الآيات ما يزيل هذا الوهم. فهي في صدد تصويري لتنصّل المعبودات من عابديهم وإظهار خضوعهم لله. والإشارة إلى استغراق الناس، ذلك الاستغراق الذي ينسيهم ربّهم وواجباتهم هي بسبيل التنديد بعقيدة المشركين وإسرافهم في الاستغراق. ويمكن أن يقال في هذا المقام إن في تمكّن الناس من المتع الدنيوية مظهرا من مظاهر الانطباق على النواميس التي أودعها الله في كونه وخلقه. ومن هذه النواميس أن يكون الناس متمتعين بجميع مشاعرهم وقابلياتهم وقواهم ليكونوا أحرارا في اختيار ما يختارون وترك ما يتركون فيستحقوا جزاءهم وفق اختيارهم. وفي الآية الأخيرة قرينة على هذا المعنى حيث احتوت وعيدا لمن (يظلم) ولا يتحقق معنى هذه الكلمة إلّا في من كان في قدرته أن يظلم. والإسراف وسوء القصد في الاختيار والانحراف عن طريق الحق والهدى ظلم، ولذلك أوعد الله سبحانه وتعالى صاحبه بالعذاب الأليم. وهذه الآية بهذا المعنى مزيلة للوهم الذي يمكن أن يتبادر إلى الذهن من العبارة والله أعلم. تعليق على ما في قرآن من تكرار التنديد بالظالمين ووعيدهم وإنذارهم والظلم في الآية الأخيرة يعني على ما يتبادر من مقامها الإجرام والبغي والانحراف عن الحق. ونفس المعنى مندمج في الكلمة التي جاءت في الآية الثامنة من هذه السورة. وبهذه المناسبة نقول إن هذه الكلمة ومشتقاتها قد وردت في

القرآن نيفا وثلاثمائة مرة حيث يدلّ هذا على ما أوّلته حكمة التنزيل من اهتمام عظيم لمعالجة ما انطوى في هذه الكلمة التي تتجسّد فيها معان عديدة على ما تفيده وتلهمه الآيات التي وردت فيها كالجور الذي هو ضدّ العدل والانحراف عن طريق الحقّ والجناية على النفس والإضرار بالنفس والغير والعدوان على حريّات الناس وحقوقهم وأموالهم ودمائهم وبخاصة الضعفاء واستغلالهم والتحكّم فيهم والاستكبار عن دين الله وسبيله والصدّ عنهما ومناوأة رسل الله ودعاة الإصلاح والهدى والكيد لهم واقتراف الآثام وبخس الحق. وبكلمة واحدة كل المنكرات والفواحش. ومعظم الآيات التي جاءت فيها والتي تغني كثرتها وإثباتها في معظم السور عن التمثيل لها هي بسبيل التنديد بالظلم والظالمين على اختلاف مدلول الكلمة والحملة عليهم ولعنتهم وبيان ما سوف يلقونه من الخزي وانفصال وسوء العاقبة والمنقلب في الدنيا والآخرة. والتعريض بهم والتحريض عليهم وإيجاب مكافحتهم ومقاومتهم بكل وسيلة. وعدم الإذعان لهم والسكوت عنهم وتلقين ما في ذلك من عزّة وكرامة وحق ونصر لدين الله ومصلحة المسلمين العامة وطمأنينة المجتمع وتلقين ما في مخالفة ذلك من إثم ومنكر وذلّ ومهانة وتشجيع على الظلم واستشرائه. وفي كل ذلك ينطوي هتاف قرآني داو ضدّ الظلم والظالمين ودعوة داوية إلى اجتنابه ومقاومته. وهذا وذاك بقوته وشموله من الخصوصيات التي انفرد بها القرآن. وهناك آيات عديدة تذكر أن الله يأخذ القرى أيضا إذا كانت ظالمة وأن الله لا يهلك التي تظلم إذا كان أهلها مصلحين وأن الله قد يهمل الظالمين أمدا ولكنه لا بدّ من أن يأخذهم بعذابه وبأسه مثل الآيات التالية: 1- وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102] . 2- وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ [هود: 117] .

3- وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ [الحج: 48] «1» . وإذا لوحظ أنه لا يكون عادة جميع أهل القرى ظالمين أو صالحين وإنما يكون ذلك حالة بعضهم فيكون قد انطوى في الآيات سنّة ربانية وهي شمول البلاء أو الرحمة إذا ما كانت حالة الظلم أو حالة الصلاح هي الغالبة. وقد أمر الله المسلمين بالاتقاء من الفتن التي إذا حدثت لا ينحصر شرّها في الذين اقترفوها بل يعمّ كما جاء في آية سورة الأنفال هذه: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25) . وفي سورة الإسراء آية من هذا الباب تفيد أن سيطرة المترفين الفاسقين على قرية تكون سببا لتدميرها وهي: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16) . ولما كان هناك آيات كثيرة تقرر أن الله لا يظلم أحد فينبغي أن يفرض أن غير الظالمين رضوا أو سكتوا عن ظلم الظالمين فعمهم الله ببلائه. وآية سورة الأنفال قويّة التأييد لذلك لأنها تأمر باتقاء الفتنة حتى لا يصيب بلاؤها الجميع واتقاؤها هو بالتضامن على منعها وضرب مثيريها. ولقد أثرت أحاديث نبوية عديدة في مثل ذلك منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الظلم ظلمات يوم القيامة» «2» . وحديث رواه الشيخان وأحمد عن ابن عمر كذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أخذ من الأرض شبرا بغير حقّ خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين» «3» ، وفي رواية «من أخذ شبرا

_ (1) هناك آيات كثيرة من باب هذه الآيات مدنية ومكية فاكتفينا بما أوردناه للتمثيل. (2) التاج الجامع، ج 5 ص 18. (3) انظر المصدر نفسه.

من الأرض ظلما فإنه يطوّقه يوم القيامة من سبع أرضين» . وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلّله منه اليوم قبل ألّا يكون دينار ولا درهم. إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيّئات صاحبه فحمل عليه» «1» . وحديث رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه» «2» . وحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى هاهنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئ من الشرّ أن يحقر أخاه المسلم. كلّ المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه» «3» . وحديث رواه أبو داود عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منّا من دعا إلى عصبيّة وليس منّا من قاتل على عصبيّة وليس منّا من مات على عصبيّة. عن واثلة بن الأسقع قال قلت يا رسول الله ما العصبية؟ قال: أن تعين قومك على الظلم» «4» . وحديث رواه الشيخان والترمذي عن جابر: «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما إن كان ظالما فلينهه فإنه له نصر وإن كان مظلوما فلينصره» «5» . وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله ليملي للظالم حتّى إذا أخذه لم يفلته» «6» . وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن أبي بكر قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنّ الناس إذا رأوا ظالما فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب» «7» . وحديث رواه مسلم عن أبي ذرّ عن رسول

_ (1) التاج الجامع، ج 5 ص 19. [.....] (2) انظر المصدر نفسه. (3) انظر المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه ص 42- 48 و 64. (5) انظر المصدر نفسه. (6) انظر المصدر نفسه. (7) التاج ج 4 ص 95.

[سورة الفرقان (25) : آية 20]

الله صلى الله عليه وسلم: «أنّ الله تعالى يقول إني حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرّما فلا تظالموا يا عبادي إنّما هي أعمالكم أحصيها لكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلّا نفسه» «1» . وهناك أحاديث صحيحة أخرى بوجوب الضرب على يد الظالم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتنويه بمن يقول كلمة حقّ أمام سلطان جائر واعتبار ذلك من أفضل الجهاد أوردناها في سياق تعليقنا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في سورة الأعراف وتصحّ أن تورد في هذا السياق أيضا بحيث يبدو التساوق في التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الأمر كما هو في كلّ أمر. [سورة الفرقان (25) : آية 20] وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20) . (1) فتنة: ابتلاء واختبارا. (2) أتصبرون: أي لنرى من منكم الصابر على ابتلاء الله واختباره. أو هل تصبرون على ابتلاء الله واختباره. الآية متّصلة بالسياق. وقد احتوت ردّا آخر على تساؤل الكفار الذي حكته إحدى الآيات السابقة حيث قررت أن مماثلة النبي صلى الله عليه وسلم في طبيعته البشرية للناس ليست بدعا وأن الله تعالى لم يرسل من قبله إلّا بشرا مثله يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق كسائر الناس. ثم قررت أن الله سبحانه وتعالى جرت عادته على ابتلاء الناس واختبارهم ببعضهم ليرى مقدار صبرهم على ذلك وهو البصير بكل شيء.

_ (1) تفسير القاسمي ج 8 ص 3017.

تعليق على جملة وجعلنا بعضكم لبعض فتنة

تعليق على جملة وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً ولقد تعددت الأقوال والتأويلات في جملة وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ منها أن الله ابتلى المرسلين بالمرسل إليهم وبمناصبتهم العداء ونيلهم بأنواع الأذى وطلب منهم الصبر الجميل، وسيق لتأييد هذا القول حديث ورد في صحيح مسلم جاء فيه: «يقول الله تعالى إنّي مبتليك ومبتل بك» ومنها أن الله جعل الأغنياء فتنة للفقراء، أو الزعماء فتنة للضعفاء لينظر هل يصبر الناس على حكمته في إغناء أناس وإفقار أناس أو جعل أناس أقوياء وآخرين ضعفاء. ومنها أن الجملة نزلت في أبي جهل وأصحاب له من زعماء قريش إذ قالوا حينما رأوا أن الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم من الفقراء والأرقّاء ساخرين: كيف نؤمن بمحمد ونجلس معه مع هؤلاء، أو انظروا إلى هؤلاء الذين اتّبعوا محمدا وهم موالينا وأراذلنا «1» . وعلى كل حال فالجملة احتوت تقريرا لحكمة من حكم الله وهي جعله بعض الناس وسيلة لامتحان واختبار البعض الآخر ليرى من منهم الصابر على الابتلاء، الناجح عند الاختبار وينطوي في ذلك تقرير كون الله سبحانه وتعالى يفعل ذلك لاختبار الناس في صبرهم على الابتلاء واستعمال قابلياتهم للتمييز بين الخير والشرّ والهدى والضلال والطيب والخبيث لتقوم الحجة عليهم من أعمالهم واختيارهم. [سورة الفرقان (25) : الآيات 21 الى 29] وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29)

_ (1) انظر تفسير الآيات في ابن كثير والخازن والطبرسي والطبري والزمخشري.

(1) لا يرجون لقاءنا: هنا بمعنى لا يعتقدون بالبعث ولا يخافونه. (2) عتوا: تمردوا. (3) حجرا محجورا: أصل كلمة الحجر السدّ أو المنع أو التحريم. والجملة من تعابير العرب ومعناها حراما محرما. وكانوا يقولونها إذا لقي أحد منهم غريمه في الأشهر الحرم يعنون أن دمهم محرّم فيها. ومعنى الآية التي فيها التعبير أن الكافرين يوم يرون الملائكة لا يسمعون بشرى منهم ويقولون لهم إن البشرى والجنة عليكم حرام محرم أو أنهم حينما لا يسمعون بشرى وترحيبا من الملائكة يقولون الجملة بقصد الاستعاذة بهم وطلب الامتناع عن سوقهم إلى العذاب. (4) مقيلا: منزلا أو مقاما. (5) تشقّق السماء بالغمام ونزّل الملائكة تنزيلا: تتشقق وتنفرج عن الغمام فينزل الملائكة. في الآيات حكاية لأقوال ومواقف أخرى للكفار وردود ووعيد رباني، وتصوير لما سوف يلقونه يوم القيامة. وهي متصلة بالسياق السابق واستمرار له كما هو واضح. وأسلوب الآية الأولى يلهم أن اقتراح الكفار- الذين ينكرون البعث- استنزال الملائكة أو تمكينهم من رؤية الله كان من باب التحدي والتعجيز مع الإنكار والاستهزاء. والآيات التالية ردّ مقابل لذلك، فإنهم سوف يرون الملائكة حيث يتشقّق عنهم الغمام فينزلون من السماء ولكن يوم نزولهم ورؤياهم لهم يكون هو اليوم الموعود الذي يكون فيه المجرمون في شرّ حال بينما يكون المؤمنون أصحاب الجنة في خير حال. ولن يكون للمجرمين فيه بشرى ولا أمل، ويهتف

بهم الملائكة أن كل ذلك حرام عليكم، وسيرون الله قد أحبط جميع أعمالهم في الدنيا فذهبت هباء منثورا لا فائدة لهم منها. وسيتحققون حينئذ أن الملك الحق لله وحده سبحانه وسيلقى الظالم من شدة ذلك اليوم وعسره ما يجعله يعضّ بنان الندم ويتمنى أن لو استجاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ووصل نفسه به وقدّم معه اليد التي تنفعه أو لو لم يكن اتخذ فلانا خليلا حيث أضلّه عن الحق وجعله يغفل عن ذكر الله ويتصامم عن الدعوة إليه. وقد انتهت الآيات بتذكير رباني بأن الشيطان إنما شأنه أن يخذل الإنسان ويتنصل منه بعد أن يكون قد أضلّه وأغواه. والآيات قوية التصوير والوعيد. من شأنها أن تثير الهلع في المكذبين والرهبة في السامعين وتحملهم على الارعواء والتدبّر وهم في متسع من الوقت وفيها في الوقت ذاته بشرى وتطمين للمسلمين. وكلّ هذا مما استهدفته على ما هو المتبادر. وقد روى المفسرون «1» أن آية وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ إلخ نزلت في عقبة بن أبي معيط الذي أسلم فلما أنّبه أميّة بن خلف وهدّده ارتدّ واشتدّ في أذى النبي صلى الله عليه وسلم حتى إنه ألقى روثا عليه وهو يصلّي، وأن (فلانا) المذكور في الآية التي بعدها عنت أمية. وقد يكون وقوع الحادث صحيحا، غير أن انسجام الآيات وتسلسلها يلهمان أنها بسبيل وعيد الكفار المكذبين بالبعث والتنديد بهم بصورة عامة، ومن المحتمل أنها نزلت في الظرف الذي وقع فيه الحادث المذكور آنفا فروى الرواة أنها نزلت بسببه. وتعبير الشَّيْطانُ يطلق على إبليس كما يطلق على البغاة العتاة المضلّين من الناس على ما تفيده آية الأنعام هذه: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112) والكلمة في الآية الأخيرة تحتمل أن يكون المقصود فيها إبليس كما تحتمل أن يكون المقصود هو الشخص المضلّ الذي اتّخذه الضالّ خليلا فأضلّه

_ (1) انظر تفسيرها في تفسير الطبري.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 30 إلى 31]

عن ذكر ربّه. ونرجّح مع ذلك أن القصد من الجملة هو التنبيه إلى وجوب التروي وعدم الاستماع إلى وساوس الموسوسين الذين لن ينفعوا ولن ينصروا من يضلّونهم بل لن يلبثوا أن يخذلوهم ويتنصلوا منهم، وفي هذا تلقين بليغ مستمر المدى. ولقد أورد ابن كثير حديثين عن ابن عباس في سياق الآية [25] فيهما أشياء عجيبة عن تجمّع الخلائق يوم القيامة من إنس وجنّ وبهائم وسباع وطير وتشقّق السموات واحدة بعد أخرى ونزول أفواج الملائكة منها أفواجا بعد أفواج وإحاطتها بالخلائق إلخ. ولما كانت الأخبار الغيبية والأخروية لا تصحّ إلّا إذا كانت واردة في القرآن أو صادرة بسند وثيق عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم نر طائلا في إيراد نصّ الحديثين. ولا سيما أن المتبادر من نصّ الآية وروحها ثم نصّ وروح الآيات جملة أنها بسبيل الرّد على الكفّار وإنذارهم على ما شرحناه آنفا. [سورة الفرقان (25) : الآيات 30 الى 31] وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31) . (1) مهجورا: متروكا أو مهملا. والقصد هنا إعراضهم عن القرآن وعدم تصديقه. في الآية الأولى حكاية نفثة من نفثات النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان يرى قومه معرضين عن القرآن ولا يستجيبون للدعوة فيتألم ويحزن، وفي الآية الثانية تقرير رباني من باب التطمين والتسلية له بأنه ليس المنفرد في هذا وأنه كان لكلّ نبي من قبله أعداء من المجرمين يقفون منهم مثل هذا الموقف، وأنه يحسن أن يجعل اعتماده على الله الذي هو نعم الهادي والنصير. والآيتان ليستا غريبتين عن السياق. فالمواقف التي حكتها الآيات السابقة من شأنها أن تثير ألم النبي صلى الله عليه وسلم وتجعله يرسل ما أرسله من نفثة وزفرة فنزلت الآيات مع السياق تحكي ذلك للتطمين والتسلية، وفي هذا صورة من صور التنزيل القرآني

تعليق على جملة جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين

كما هو المتبادر، ولقد جاء ذكر القرآن في الآية التالية وحكاية لتحدّي الكافرين في صدده وقد يكون ذلك هو المناسبة القريبة للآيتين. تعليق على جملة جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وتعبير وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ قد يوهم أن الله هو الذي جعل المجرمين يقفون من أنبيائه موقف العداء. وقد تكرر مثل هذا التعبير وما يدخل في بابه كثيرا في سياقات ومناسبات مماثلة. وقد مرّ مثل منه في آية سورة الأعراف [27] وعلّقنا عليها بما يزيل الوهم من فحواها وفحوى ما قبلها وبعدها. وما قيل هناك يقال هنا، إجمالا والتعبير أسلوبي. والمتبادر أنه قصد به تقرير واقع أمر النظام الذي أقام الله المجتمع البشري عليه من أنه لا بد من أن يقف في وجه الأنبياء فريق من المنحرفين المجرمين على سبيل تطمين النبي صلى الله عليه وسلم وتسليته بكون ما يراه من قومه ليس بدعا. ولا يمكن أن يكون قصد به معناه الحرفي لأن في ذلك تناقضا يتنزّه الله سبحانه وتعالى عنه وما جاء في الآية التي ورد فيها التعبير من نعت الكفار بالمجرمين وبأعداء الأنبياء قرينة على هذا التوجيه كما أن في ما احتوته الآيات السابقة واللاحقة من تحميل تبعة الإجرام والكفر على أصحابهما ونعت الكفار بأنهم قد ضلّوا السبيل قرائن قوية على صوابه. ولقد رأى بعضهم «1» في شكوى النبي صلى الله عليه وسلم من قومه لإعراضهم عن القرآن تحذيرا للمسلمين عن الإعراض عنه وعدم التمسّك بأحكامه وتدبّره والاستهانة به عند تلاوته. وهذا وجيه بل بدهي لأن كل هذا واجب لازب على كل مسلم. [سورة الفرقان (25) : الآيات 32 الى 34] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34)

_ (1) انظر تفسيرها في تفسير القاسمي.

(1) لولا: هنا بمعنى هلّا للتحدي. (2) رتلناه ترتيلا: جعلناه رتلا بعد رتل أي قسما بعد قسم وقيل فصّلناه تفصيلا أو بينّاه تبيينا. والتأويل الأول هو الأوجه والمتّسق مع مضمون الآية. (3) أحسن تفسيرا: هنا بمعنى أحسن بيانا وجوابا على ما يورده الكفار من أسئلة وتعجيزات وتحدّيات. وكلمة تفسير من جذر فسّر بمعنى وضح وبان وتعبير (تفسير القرآن) هي في أصله كشف وتوضيح النواحي اللغوية. أما التوسع في مدى التعبير فقد صار بالممارسة إن صحّ التعبير حيث صار يطلق على كشف وتوضيح معاني الكلمات والجمل القرآنية. احتوت الآيات حكاية قول آخر من أقوال الكفار حيث قالوا على سبيل التحدّي: هلا أنزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم دفعة واحدة وقد ردّت عليهم ردّا قويّا فيه تثبيت وتوضيح وإنذار. فالله تعالى إنما أنزل القرآن مرتّلا قسما بعد قسم لتثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته وجعل الناس يحسنون استيعابه، وإن الكفار لا يأتون بمثل أو حجة يظنون فيها تعجيزا أو إشكالا أو إحراجا إلّا أنزل الله في صدده ما فيه الحق والتفسير الأفضل والحجة الدامغة المفحمة، وأن الذين يظلون في كفرهم ومكابرتهم بعد ذلك سيحشرون إلى جهنّم على وجوههم وسيعلمون حينئذ أنهم الأضل سبيلا والأسوأ مصيرا. والزيادة التي ذكرناها في صدد تنزيل القرآن مقسما مستمدة من آية الإسراء هذه: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (106) . والآيات استمرار في السياق الذي احتوى منذ أول السورة فصولا مماثلة من حيث حكاية مواقف الكفار وأقوالهم والردّ عليهم وإنذارهم. ولقد روى الشيخان عن أنس في سياق تفسير الآية [34] حديثا جاء فيه: «إنّ رجلا قال يا نبيّ الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ فقال: أليس الذي

تعليق على تحدي الكفار بإنزال القرآن جملة واحدة

أمشاه على الرجلين في الدنيا قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟ قال قتادة: بلى وعزّة ربنا» «1» . تعليق على تحدّي الكفار بإنزال القرآن جملة واحدة وقد قال المفسرون في سياق الآيات إن الكفار كانوا يتحدّون النبي صلى الله عليه وسلم بإنزال القرآن جملة واحدة كما أنزلت الكتب السماوية التوراة والإنجيل والزبور جملة واحدة. وعلّلوا نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم مفرقا بأنه كان أميا لا يقرأ ولا يكتب فكان لا بد له من التلقين والحفظ اللذين يقتضيان إنزال القرآن مفرّقا في حين كان الأنبياء الأولون يقرأون ويكتبون فنزلت عليهم جملة واحدة ومكتوبة «2» . وقد يكون ما قاله المفسرون عن سبب تحدّي الكفار صحيحا، وأن يكون هؤلاء سمعوا من الكتابيين أن التوراة والإنجيل والزبور نزلت على موسى وعيسى وداود عليهم السلام جملة واحدة. غير أننا لا نستطيع موافقتهم على أخذهم ذلك كقضية مسلّم بها وتعليلهم إياه بأمّية النبي صلى الله عليه وسلم. فباستثناء الألواح التي ذكرت آية الأعراف [145] أن الله أنزلها مكتوبة على موسى لم يرد في القرآن صراحة أن الله أنزل الكتب الأخرى مكتوبة ودفعة واحدة. والأسفار المنسوبة إلى موسى والعائدة إلى عهده وحياته والمتداولة اليوم تذكر أن الله إنما أمر موسى بإحضار لوحين وتكرر كذلك أن موسى كتب كلام الربّ في سفر وسلّمه للاويين لحفظه في تابوت العهد في بيت الربّ وتفيد أن معظم ما احتوته من تعليمات وتشريعات نزل مفرّقا وفي فترات ومناسبات عديدة وفق سير الظروف بالنسبة لموسى عليه السلام وبالنسبة لبني إسرائيل «3» . والزبور الذي هو على الأرجح سفر المزامير مقاطع متتالية فيها

_ (1) التاج ج 4 ص 172. (2) انظر تفسير البغوي والطبرسي والخازن وابن كثير. (3) انظر أسفار الخروج والأحبار والعدد وارجع إلى تمحيصنا في شأن التوراة والإنجيل في سورة الأعراف.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 35 إلى 40]

تسبيح وتقديس وابتهال بلسان داود عليه السلام. ويتبادر منها أنها لم توح إلى داود مرة واحدة. وليس في اليد إنجيل منسوب إلى عيسى عليه السلام ولم يرو أحد أنه اطّلع على مثل ذلك. والأناجيل المتداولة هي ترجمة لحياته تضمّنت كثيرا من أقواله وتعاليمه التي عليها سمة الوحي. غير أنها كانت تمثل وقائع ومجالس مختلفة فلا يمكن أن تكون نزلت دفعة واحدة. وكل هذا هو شأن القرآن بطبيعة الحال. ولقد عاد بعض المفسّرين «1» إلى القول في سياق هذه الآية إن الله تعالى قد أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا وأنه صار ينزل منجما على النبي من هذه السماء حسب الوقائع والحوادث. ولقد أوردنا هذا في سياق سورة القدر وعلّقنا عليه بما يغني عن التكرار. هذا، ومع أن تعبير (القرآن) أصبح علما على جميع ما أوحى الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم من الفصول والمجموعات القرآنية المحكمة والمتشابهة فإن هذه الآية وأمثالها مما تكرر في القرآن ومن ذلك الآية السابقة [30] تؤيد ما قلناه في سياق تفسير سورة المزمل من أن أصل مفهوم القرآن هو السور والفصول المحكمة التي احتوت مبادئ الدعوة وتدعيماتها الرئيسية كما تؤيد أن هذا هو الذي فهمه العرب وأن ما جاء في سياق التدعيم والتأييد من قصص وأمثال وحجج وجدل وردود وحملات وحكاية أقوال الكفّار وتحدّياتهم ومشاهد الآخرة مما يصحّ أن يسمّى من المتشابهات لم يكن في الأصل مما عناه التعبير وفهمه العرب وأن شمول التعبير لكل ما احتواه المصحف من ذلك أيضا إنما كان بسبب أنه من وحي الله وتنزيله مثل ذلك الأصل وهو ما عنته آية آل عمران هذه: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [7] . [سورة الفرقان (25) : الآيات 35 الى 40] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40)

_ (1) انظر تفسير ابن كثير مثلا. [.....]

(1) وزيرا: مؤازرا وعضدا. (2) دمرنا: حطمنا أو هدمنا. (3) تبّرنا: أهلكنا. (4) القرية التي أمطرت مطر السوء: كناية عن مساكن قوم لوط التي أرسل الله عليها رجوما وحاصبا وجعل عاليها سافلها كما وصف ذلك في آيات أخرى مرّت أمثلة منها. (5) نشورا: هنا أيضا بمعنى البعث بعد الموت. احتوت الآيات إشارات مقتضبة إلى ما كان من إرسال الله الرسل إلى أقوامهم وإلى مواقف هذه الأقوام التكذيبية. وما كان من تدمير الله ونكاله فيهم بسبب هذه المواقف. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. والأسماء التي ذكرت فيها قد ذكرت في مناسبات سابقة وعرّفناها بما لا حاجة إلى تكراره هنا. وقد جاء هذا الفصل جريا على أسلوب النظم والتنزيل القرآني حيث يعقب حكاية مواقف كفّار العرب تذكير بما كان من أخبار الأمم السابقة استهدافا للارعواء والاعتبار والاتعاظ والإنذار. والآيات على هذا متصلة بالسياق وغير منفصلة عنه. والضمير في وَلَقَدْ أَتَوْا عائد إلى الكفار السامعين، وفيه توكيد لهذا الاتصال بالآيات السابقة فهي تعني مساكن قوم لوط. وقد ذكرت آيات في سورة الصافات أن العرب كانوا يمرون ببلاد قوم لوط المدمّرة وهي هذه: وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) .

[سورة الفرقان (25) : الآيات 41 إلى 44]

وقد انتهت الآيات بتقرير كون الكفار إنما يقفون مواقفهم الإنكارية والعنادية لأنهم لا يصدقون بالبعث الأخروي وأنهم مطمئنون بأنهم لن يصيبهم الشرّ والعذاب. وهذا التقرير قد تكرر في هذه السورة وغيرها كثيرا. وتكراره يظهرنا على الحكمة في التوكيد المستمرّ بالبعث وبالبرهنة على قدرة الله عليه كما هو المتبادر. [سورة الفرقان (25) : الآيات 41 الى 44] وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44) . (1) اتخذ إلهه هواه: جعل هواه إلها له. في هذه الآيات حكاية لموقف وقول آخر من مواقف الكفار وأقوالهم، حيث كانوا يتخذون النبي صلى الله عليه وسلم حينما يرونه موضوع هزء واستخفاف ويتساءلون تساؤل الهازئ المستخفّ قائلين: هل هذا الذي بعثه الله رسولا ثم يأخذون يتفاخرون بما أبدوه من صبر وثبات على عقائدهم ومعبوداتهم وتمسك بتقاليدهم ويقولون إنه كاد أن يضلّنا عنها لكثرة ما يبذله من جهد ويبديه من نشاط لو لم نبد ما أبديناه من صبر وتمسّك. وقد ردّت عليهم الآيات منذرة منددة مسفّهة. فلسوف يلقون عذاب الله على أقوالهم ومواقفهم ولسوف يعلمون حينئذ من هو الضالّ عن سبيل الحقّ. ثم وجهت الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم متسائلة تساؤل المقرّر عما إذا كان يريد أن يجعل نفسه وكيلا ومسؤولا عمّن اتخذ هواه إلها له وعما إذا كان يظن أن أكثر الكفار يسمعون أو يعقلون، ومقررة أنهم في حالتهم التي هم عليها كالأنعام بل هم أضلّ سبيلا لأن الأنعام تعرف بالغريزة ما يضرّها فتحذره وما ينفعها فتقبل عليه. وقد روى بعض المفسرين أن قائل الأقوال وفاعل الأفعال التي ذكرت في

تلقين الآيتين [43 و 44] أرأيت من اتخذ إلهه هواه وما بعدهما

الآيات هو أبو جهل «1» . ومع احتمال أن أبا جهل كان يفعل ذلك ويقوله فالآيات تلهم أن آخرين غيره كانوا يفعلون ويقولون ذلك وأن الحكاية قد جاءت في معرض التنديد والتقريع ببغاة الكفار وإنذارهم مطلقا. ولا سيما أنها فصل من فصول متسلسلة متماثلة وليست مستقلّة تحكي موقفا خاصا مستقلا. ويكاد الزمخشري ينفرد في الرواية فإننا لم نرها في الطبري وغيره من قدماء المفسرين. ويتبادر من أسلوب الآية الأولى ومضمونها أنها لا تفيد أن الكفار كانوا يحتقرون النبي صلى الله عليه وسلم وينتقصون من قدره وأخلاقه، وإنما تقصد تصوير موقفهم الاستخفافي بدعوته. وفيها بالإضافة إلى ذلك قرينة على ما كان يداخلهم من خوف من نجاح دعوته. ودليل على عظم ما بذله النبي صلى الله عليه وسلم من جهد بدون كلل أو فتور وما كان من استغراقه الشديد في الدعوة. وفي الآيتين [43- 44] ينطوي معنى التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم على ما يلقاه من مواقف الكفار وعنادهم وعلى ما يبذله من جهد عظيم ضائع معهم فكأنما أريد أن يقال له إن من يتخذ إلهه هواه لا يكون هو مسؤولا عنه ولا وكيلا ولا مطلوبا منه أن يبذل المستحيل لتغييره عمّا هو عليه. فهم لا يسمعون ولا يعقلون وأضلّ من الأنعام فلا ينبغي أن يغتمّ من مواقفهم وعنادهم. وهذا ما تكرر كثيرا. وقد علّلناه في سياق سورة (ق) بما يغني عن الإعادة. وفي عبارة اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ تقريع لاذع للكفار وتقرير بأن ما هم عليه ليس ناتجا عن تدبّر وتعقل وإنما هو تعصب أعمى لعقائد باطلة وتمسك بالهوى دون الحق. ونفس التقريع اللاذع منطو في الآية الأخيرة التي تصفهم بأنهم كالأنعام بل أضلّ. تلقين الآيتين [43 و 44] أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وما بعدهما والوصف الذي احتوته الآيتان هو وصف لحالة مألوفة في كثير من الناس في

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير كشاف الزمخشري مثلا.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 45 إلى 49]

كلّ زمن ومكان حيث يتعصبون لأفكارهم وعاداتهم وتقاليدهم تعصّبا أعمى قائما على الهوى والأنانية فلا يطيقون أن يسمعوا كلاما ضدّها ولا يتدبّرون فيما هو موجه إليها من نقد وتجريح وحجّة دامغة، وفي الآيات والحال هذه تلقين قرآني جليل مستمر المدى ضدّ هذه الحالة وتقبيحها وإهابة بالمسلمين بألّا يتّصفوا بها. [سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 49] أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49) . (1) الظلّ: معظم المفسرين يؤولون الظلّ هنا من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس أي يعتبرونه وقتا من أوقات النهار ويروون ذلك عن ابن عباس وابن عمر ومسروق ومجاهد وسعيد بن جبير وغيرهم من علماء الصحابة والتابعين فحيث كان هذا الوقت من النهار الذي لا شمس فيه اعتبر ظلا على ما هو المتبادر. وقد رأينا الزمخشري يؤوله بالظلّ المعتاد أي المكان الذي يكون فيه ظل في أثناء النهار والشمس ساطعة. (2) ساكنا: أوّلها معظم المفسرين بمعنى دائم لا يزول. وهذا تبعا للتأويل الأول للظلّ، والذين أوّلوا الظلّ بالتأويل الأول هم الذين أوّلوا كلمة ساكن بذلك، أما الزمخشري فأوّل الكلمة بمعناها المعتاد تبعا لتأويله الظلّ. (3) ثم جعلنا الشمس عليه دليلا: قال الذين أوّلوا كلمتي الظلّ وساكن بالتأويل الأول في تأويل هذه الجملة إن الشمس حينما تشرق يزول الظلّ وهو شيء لا يدرك إلّا بضدّه. ومن هنا كانت الشمس عليه دليلا. أما الزمخشري فقد قال إن الناس يستدلّون على أحوال الظلّ وكونه زائلا من مكان ومتقلصا أو واسعا أو

موجودا في مكان من مسير الشمس. ولذلك تكون الشمس عليه دليلا. (4) ثم قبضناه إلينا قبضنا يسيرا: في تأويل الأولين الضمير في قبضنا عائد إلى الشمس ومعنى الجملة إننا نقبض الشمس فيعود الظلّ والفيء ثانية. وكلمة يَسِيراً في تأويلهم بمعنى شيء بعد شيء أي إن القبض لا يكون دفعة واحدة ولكن متدرجا. أما الزمخشري فقد جعل الضمير عائدا إلى الظلّ وأوّل الجملة بأن الله لو أزال الظّل دفعة واحدة لتعطلت مصالح الناس ولكنه أزاله على مهل. (5) جعل الليل لباسا: من باب تشبيه الظلام الذي لا ترى فيه الأشياء باللباس الذي يستر الأجسام حتى لا ترى، أي جعل الليل ستارا حاجبا للناس. (6) سباتا: راحة وانقطاعا عن العمل. (7) نشورا: بمعنى الانتشار حيث يكون النهار مجال انتشار الناس ونشاطهم. (8) طهورا: الماء الطهور في اصطلاح الفقهاء هو الطاهر بنفسه المطهّر لغيره. جاءت هذه الآيات تعقيبا على أقوال الكفار ومكابرتهم في ربوبية الله تعالى والدعوة إليه ومناوأة رسوله وتعجيزه وإنكار البعث والحساب جريا على أسلوب النظم القرآني للبرهنة على وجود الله تعالى وعظمته وقدرته بما في نواميس الكون من إتقان وإبداع ومنافع. فهي متصلة بالسياق أيضا. وقد احتوت تنبيها إلى النواميس التي جعلها الله في حركة الشمس والظلّ والليل والنهار مما فيه مصالح ومنافع متنوعة للناس ثم إلى إرساله الرياح مبشّرة برحمته وإنزاله الماء الطهور الذي يحيي الأرض الميتة والذي يشرب منه الناس والأنعام الذين خلقهم. وبرغم اختلاف المفسرين في تأويل الظلّ والسكون في الآيتين الأوليين فإن الذي نرجحه أن سامعي القرآن العرب قد فهموا المقصد منهما بقرينة الصيغة الاستفهامية التي فيها معنى التقرير ولفت النظر لأمر أو مشهد مسلّم به على سبيل الاستشهاد والاستدلال على قدرة الله.

[سورة الفرقان (25) : آية 50]

والليل والنهار والشمس والظلّ والرياح والمطر وانتشار الناس في النهار وانقطاعهم عن العمل في الليل وما في ذلك من إحكام واطراد ومنافع متنوعة هي أمور تحت مشاهدة الناس ومتناولهم ونفعهم جميعهم فاختصّت بالذكر هنا للفت نظرهم إلى عظمة الله تعالى والبرهنة على رحمته وقدرته. وقد ذكر غيرها من مظاهر الكون في آيات وفصول أخرى للقصد نفسه. وليس من محل للظن بأنها تنطوي على قصد تقريري لأمور فنية كونية، كما أنه ليس من طائل من وراء التمحّل لاستنباط أمور فنية كونية منها أو تطبيقها عليها على ما نبهنا عليه في مناسبة مماثلة في سورة (يس) . [سورة الفرقان (25) : آية 50] وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50) . قال معظم المفسرين «1» إن الضمير في صَرَّفْناهُ عائد إلى المطر وحينئذ تكون الآية متصلة بسابقتها مباشرة ويكون معناها لفت نظر السامعين إلى حكمة الله في تصريفه الأمطار وإنزالها في مكان دون مكان وكثيرة في مكان قليلة في مكان. ليدبروها ويشكروا الله على نعمه. ومع ذلك فإن أكثر الناس لا يفعلون ذلك بل ويكفرون ويجحدون. وقال بعض المفسرين «2» إن الضمير عائد إلى القرآن، وحينئذ تكون الآية متصلة بالسياق كله اتصال تعقيب وتقريع. ويكون معناها إن الله ينزل الآيات القرآنية وفيها تفسير حكم الله وبيانها وتنويع الكلام فيها حتى يتذكر السامعون ويتدبروا. ومع ذلك فأكثر الناس يأبون إلّا الكفر بآيات الله ونعمائه رغم ما فيها من براهين شاهدة على ربوبيته واستحقاقه للعبادة والخضوع والشكر، ويكون من مقاصد الآية التنديد بهم وتقريعهم. وهذا الاختلاف في صرف الضمير جعلنا نورد الآية لحدّتها. ونحن نرجّح القول الثاني على الأول. وفي الآيات التالية قرينة مؤيدة لهذا الترجيح.

_ (1) انظر تفسيرها في الطبري وابن كثير والبغوي والنيشابوري والطبرسي والخازن. (2) الزمخشري في الكشاف.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 51 إلى 52]

[سورة الفرقان (25) : الآيات 51 الى 52] وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) . (1) جاهدهم به: أي ابذل الجهد في حجاجهم وإنذارهم. وضمير بِهِ عائد إلى القرآن على ما روي عن ابن عباس. والمفسرون الذين صرفوا الضمير في جملة صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ قالوا إن ضمير بِهِ عائد إلى القرآن أيضا وهذا ما جعلنا نرجّح انصراف الضمير في صَرَّفْناهُ إلى القرآن أيضا. وتفيد أقوال معظم المفسرين «1» في تأويل الآية الأولى أنها من قبيل تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته في مهمته والتنويه بقدره، فالله لو شاء لأرسل إلى كل قرية ومدينة رسولا فخفّف عنه العبء وكفاه مؤونة الجهد العظيم الذي حمّله إيّاه لإبلاغ الرسالة إلى جميع العالم، ولكنه اختصّه بذلك لعظم منزلته ورفعة شأنه عنده، وقالوا «2» في تأويل الآية الثانية ما يفيد أنها استمرار لما في الآية الأولى من مقصد حيث تهيب بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد حمّله الله الرسالة العظمى العامة أن يجاهد بالقرآن جهادا كبيرا متواصلا وألّا يطيع الكافرين أو يتهاون معهم. وهذا التأويل يجعل الصلة قائمة بين هذه الآيات والآيات السابقة لها كما هو المتبادر. على أنه تبادر لنا من الآية الأولى أنها جواب على سؤال أو تحدّ صدر عن الكفار حيث تساءلوا عن سبب عدم إرسال الله تعالى رسلا إلى المدن الأخرى، وقد تضمّن الجواب أنّ ذلك في نطاق قدرة الله وإنه إذا لم يفعله فلأن النبي الذي اصطفاه وأرسله هو أهل للاضطلاع بالمهمة على أوسع شمولها، وقد تبادر لنا كذلك من الآية الثانية أنها في صدد عروض عرضها الكفار على النبي صلى الله عليه وسلم من مسايرة أو مداهنة مما تكرر صدوره منهم وتكررت الإشارات القرآنية إليه على ما

_ (1) انظر تفسير الآيتين في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والطبرسي والخازن والكشاف. (2) انظر المصدر نفسه.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 53 إلى 55]

شرحناه في سياق تفسير سورة القلم، وقد تضمنت الآية هنا كما تضمنت في المناسبات المماثلة تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وشحذ همته في الدعوة وإبلاغ القرآن وإقامة الحجة به على الكفّار وعدم الاستماع إليهم في ما يعرضونه. وهذا التأويل لا يقطع صلة السياق حيث احتوت الآيتان في حال صوابه صورا من مواقف الكفار وأقوالهم وتحدياتهم كسابقاتها، ولا يقتضي أن يكون ما يتبادر من سؤال الكفار وعروضهم في الآيتين أن ذلك حدث طارئ نزلت الآيات بمناسبته بل يمكن أن يكون ذلك سابقا لنزولها ومن جملة ما كان الكفار يقولونه فجاءت الإشارة إلى ذلك في السلسلة. وننبّه إلى أن ما يتبادر لنا في تأويل الآيتين لا يقلل من وجاهة تأويل المفسرين السابق لهما. [سورة الفرقان (25) : الآيات 53 الى 55] وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) . (1) مرج: خلط. (2) عذب: ضد الملوحة والمرارة. (3) فرات: شديد العذوبة. (4) ملح أجاج: مالح شديد الملوحة إلى درجة المرارة. (5) برزخا: حاجزا. (6) حجرا محجورا: منع أحدهما من الطغيان على الثاني. (7) ظهيرا: مظاهرا أو عونا ومعنى الجملة التي وردت فيها الكلمة أن الكافر بكفره قد وقف ضدّ ربه كأنما يظاهر عليه غيره.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 56 إلى 59]

في الآيتين الأوليين عود إلى التذكير بآيات الله وقدرته ونواميسه في كونه، ومنافع الناس منها مما يمكن أن يقال إن الآيات الثلاث التي قبلها جاءت كجملة استطرادية، إما لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتقويته والتنويه به كما قال المفسرون وإما لذكر أقوال ومواقف أخرى للكفار كما تبادر لنا. وعلى كل حال فالصلة قائمة بين هذه الآيات والسياق السابق. وقد احتوت الآيتان الأولى والثانية إشارة إلى مخالطة الماء الحلو بالماء المالح عند ملتقى البحرين أي البحر والنهر وعدم طغيان المالح على الحلو مع ذلك كأن بينهما برزخا وسدّا، وإلى خلق الله تعالى البشر من نطف مائية فكان منهم النسل الذي منه النسيب ومنه الصهر مما فيه البرهان على قدرة الله تعالى واستحقاقه وحده للعبودية والخضوع. أما الآية الثالثة فقد نحت باللائمة على الكفار وسخفهم. فهم لا يتدبرون في عظمة الله وحكمه ونعمه فيعبدون غيره ما لا ينفعهم ولا يضرهم فيكونون في ذلك مظاهرين على ربهم الحقيقي وواقفين ضده. [سورة الفرقان (25) : الآيات 56 الى 59] وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59) . في الآيات تسلية وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم إزاء ما يلقاه من قومه من مناوأة وتحدّ وتعجيز احتوت الفصول السابقة صورا عديدة منه حيث تقول إن الله تعالى لم يرسله إلّا مبشرا ونذيرا وليس هو مسؤولا عن عنادهم وإيمانهم وكفرهم وليس عليه إلّا الدعوة إلى الله ومجاهدة الناس بالقرآن دون تهاون ولا تراخ، وعليه أن يقول للناس إني لا أطلب منكم ولا أنتظر أجرا ولا مكافأة وكل ما أريده أن يهتدي من كان صادق الرغبة في الحق والهدى ويسير في سبيل الله ورضائه، وعليه بعد ذلك أن يجعل اعتماده وتوكله على الله الحي الذي لا يموت وأن يسبّح بحمده فهو الذي

تعليق على الأمر بالتوكل على الله

خلق السموات والأرض وما بينهما الملك المسيطر على كونه العظيم الخبير المحيط بذنوب عباده وتصرّفهم والقادر عليهم والكافي لهم. والآيات متصلة بالسياق واستمرار له كما هو المتبادر. ومحتواها وما فيها من قصد التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم قد تكرر كثيرا، لأن ظروف الدعوة وسيرها كانت تقتضي ذلك على ما شرحناه في سياق سورة (ق) . وتعبير فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً الذي انتهت به الآيات من تعابير العرب الأسلوبية في صدد توكيد صحة ما يصدر من القائل والمتكلم. وقد جاء هنا لمثل هذا التوكيد. ولقد سبق القول في موضوع استواء الله على العرش وخلقه السموات والأرض في ستة أيام في سياق تفسير سورتي (ق والأعراف) بما فيه الكفاية. والآية هنا كما هي في السور الأخرى في صدد التنويه بقدره الله وعظمته وسعة كونه وعلمه وشمول ملكه. على ما يلهمه مضمونها وسياقها. وهو المقصد الجوهري فيما احتوته هنا وفي الأماكن الأخرى. ولعلّ ورود هذه الآيات التي تنفي طلب النبي صلى الله عليه وسلم أجرا بعد الآيات السابقة التي تأمره بعدم طاعة الكفار ومجاهدتهم بالقرآن مما يؤيد صحة ما تبادر لنا من الآيتين والله أعلم. وقد قال المفسرون «1» في صدد جملة إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا إنها بسبيل تقرير أن ما يدعو النبي صلى الله عليه وسلم إليه من الإنفاق والزكاة إنما هو في سبيل القربى إلى الله وليس له خاصة. والتأويل الذي أوّلنا به الجملة هو الأكثر اتساقا مع روح الآيات وظرف نزولها وصلتها مع الفصول السابقة كما هو المتبادر. تعليق على الأمر بالتوكل على الله وبمناسبة الأمر الوارد في الآية للنبي صلى الله عليه وسلم بالتوكل على الله تعالى نقول إن في القرآن آيات كثيرة مكية ومدنية يبلغ عددها نحو سبعين فيها تكرار لمثل هذا الأمر

_ (1) انظر تفسيرها في الطبري وابن كثير والخازن والطبرسي والبغوي والزمخشري.

للنبي وللمؤمنين وحكاية لقول الأنبياء بأنهم يتوكلون على الله وإيذان بأن التوكّل على الله هو من شأن عباد الله المؤمنين وبأن من شأن ذلك أن يحقّق الله أمل المتوكّل عليه وبأن الله هو وحده الأهل للتوكل عليه وهو حسب من يتوكل عليه وبأن الله يحب المتوكلين عليه حيث يدلّ هذا على ما أسبغته حكمة التنزيل على هذا الأمر من حفاوة. وفيما يلي طائفة من الآيات على سبيل المثال: 1- إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران: 122] . 2- فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران: 159] . 3- الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران: [173- 174] . 4- وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا [النساء: 81] . 5- قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [التوبة: 51] . 6- فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة: 129] . 7- وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل: 41- 42] . 8- إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل: 99- 100] .

9- فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [النمل: 79] . 10- وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً [الطلاق: 3] . وما احتوته الآيات وأمثالها من تقرير وحثّ هو حقّ. ويجب على المؤمن بالله أن لا يجعل اعتماده في كل أمر وموقف على غير الله وأن يكون توجهه في كل شيء إليه وحده وأن يؤمن بأن الله تعالى يساعد المتوكّل عليه ويحقّق له أمله في دفع الضرّ وجلب النفع المشروع كما جاء في الآيات. وبالإضافة إلى هذا فإن روح الآيات وسياقها يلهمان أنها أيضا بسبيل بثّ الروح والقوّة في عباد الله الصالحين وبخاصة في المواقف العصيبة التي تحزّ بهم والمصاعب التي يواجهونها وبمعنى آخر فيها معالجة روحية للمؤمن. وهو ما انطوى في كثير من الآيات مما مرّ منه أمثلة عديدة ويأتي منه أمثلة عديدة أخرى. وهناك أحاديث نبوية تتساوق في تلقينها مع الآيات شأن كل أمر. من ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب هم الذين لا يسترقون ولا يتطيّرون وعلى ربّهم يتوكلون» «1» . وحديث رواه الترمذي وأحمد والحاكم عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أنكم توكّلتم على الله حقّ توكّله لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا» «2» . وحديث رواه الترمذي عن أبي معبد الجهني قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تعلّق شيئا وكل إليه» «3» . وهناك من يتوهم أن فكرة التوكل في الإسلام تشلّ حيوية المسلم ونشاطه أو تجعله قليل الحذر والاستعداد لمواجهة مصاعب الحياة. وروح الآيات والأحاديث التي أوردناها بل وفحواها تجعل هذه الفكرة غير واردة وتبرز أن هدفها هو بثّ

_ (1) التاج ج 5 ص 187 أي لا يطلبون من الناس أن يرقوهم ولا يتطيرون ولا يتشاءمون. (2) المصدر نفسه والصفحة نفسها. (3) التاج ج 3 ص 203.

الأمل والاعتماد على الله وحده ومواجهة الأحداث بذلك. ويلفت النظر إلى آية آل عمران [159] ففيها ما ينفي ذلك بصراحة وقوة حيث تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمشاورة المسلمين واتخاذ الرأي الأفضل ثم العزيمة على السير به والاتكال على الله في تحقيقه. وفي حديث عمر أيضا نفي صريح حيث يذكر أن الطير لا يقعد عن الحركة في سبيل الرزق بل يسعى إليه فييسره الله له. وهذا يكون شأن المسلم الذي يتوكّل على الله حقّ توكله. وهناك حديثان مؤيدان لذلك أيضا. واحد رواه الترمذي عن أنس جاء فيه: «إن رجلا قال يا رسول الله أعقلها وأ توكل أو أطلقها وأ توكل؟ قال: اعقلها وتوكّل» «1» . وحديث رواه الأربعة عن علي قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا ذات يوم وفي يده عود ينكت به فرفع رأسه فقال ما منكم من نفس إلّا وقد علم بمنزلها من الجنّة والنار. قالوا يا رسول الله فلم العمل. أفلا نتّوكل قال اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له. ثم قرأ فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى [الليل: 5- 10] » «2» . وهذا أمر طبيعي لا يتحمل إسهابا. والآيات والأحاديث التي لا تحصى كثرة شاهدة عليه فقد أودع الله في الناس العقل والتمييز وجعل فيهم قابلية النشاط والعمل والكسب وأمرهم به والسعي إليه وقرر أنه خلقهم ليبلوهم أيهم أحسن عملا وأمرهم بالتسابق في الخيرات. وحثهم على العمل الصالح مطلقا وهو يعلم أنهم يطيقونه وحذّرهم من العمل السيء مطلقا وهو يعلم أنهم يطيقون اجتنابه بما أودعه فيهم من قابلية العمل والتمييز والاختيار وجعل كل نفس رهينة بما كسبت وكل هذا أيضا ينفي ذلك الوهم كما هو المتبادر ويجعل مدى التوكل في نطاق ما شرحناه. والله أعلم.

_ (1) التاج ج 5 ص 187 و 173. (2) المصدر نفسه.

[سورة الفرقان (25) : آية 60]

[سورة الفرقان (25) : آية 60] وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60) . المتبادر أن هذه الآية جاءت استطرادية. فقد وصف الله تعالى نفسه بالرحمن في الآية السابقة لها مباشرة. فاستطردت هذه إلى التنديد بالكفّار الذين إذا قيل لهم اسجدوا للرحمن تساءلوا تساؤل المنكر المستكبر عن هذا الرحمن وقالوا بأسلوب المتهكم: كيف نسجد لما تأمرنا وازدادوا نفورا وانصرافا عن الدعوة. تعليق على اسم الرحمن ولقد ذكر المفسرون «1» في سياق هذه الآية أن مسيلمة النبي الكذّاب الذي ظهر في أواخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم في اليمامة كان يتسمّى باسم الرحمن، وأنه أنشأ حديقة سمّاها حديقة الرحمن، أو أنه كان له صنم يسميه بهذا الاسم أقامه في الحديقة، وأن تساؤل الكفار متّصل بذلك حيث التبس عليهم الأمر فظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم بالسجود له. وفي سورة الرعد آية متصلة بهذا المعنى وهي: كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30) حيث ينطوي فيها حكاية موقف آخر للمشركين إزاء اسم الرحمن. وقد روى المفسرون في صدد هذه الآية أن أبا جهل سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول يا رحمن فقال إن محمدا يدعو إلها آخر اسمه الرحمن ولا نعرف الرحمن إلّا رحمن اليمامة «2» . ومهما يكن من أمر هذه الروايات فإن أسلوب الآيتين قد يدلّ على أن المشركين كانوا يقفون موقفا خاصا عند ذكر القرآن والنبي لهذا الاسم لسبب ما. وهذا الاسم هو أكثر أسماء الله الحسنى ورودا في القرآن بعد اسم الجلالة

_ (1) انظر تفسير الآية في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والطبرسي والخازن. (2) انظر تفسير الخازن والبغوي وابن كثير لسورة الرعد.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 61 إلى 62]

(الله) ويتضمّن معنى صفة جليلة تتصل بخلق الله وشمول رحمته لهم عامة بقطع النظر عن مواقفهم وسلوكهم. ولعل حكمة كثرة ورود هذا الاسم متصلة بذلك الموقف بقصد تقرير كون الله عزّ وجلّ هو وحده اللائق به هذه الصفة الجليلة والله أعلم. [سورة الفرقان (25) : الآيات 61 الى 62] تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62) . (1) خلفة: بمعنى متعاقبة أي الشيء وراء الشيء. (2) يذكر: يتذكر. في الآيتين عود آخر إلى التذكير بعظمة الله في ما يشاهد من مشاهد الكون ونواميسه وهذا متسق مع نظم فصول السورة. وبذلك تتصل الآيتان بالسياق. وقد احتوتا ثناء على الله تعالى وتنويها بنواميس السماء وبعض مشاهدها حيث جعل الله تعالى فيها بروجا تدور في نطاقها النجوم وجعل فيها الشمس سراجا والقمر منيرا وجعل الليل والنهار متعاقبين يخلف أحدهما الآخر نتيجة لذلك. وفي هذا ما فيه من البرهان القوي على إبداع الله تعالى وقدرته ونعم الله على عباده يدركه ويقنع به من أراد أن يتدبّر ويتذكر ويشكر. والفقرة الأخيرة تتضمن تنديدا بالذين لا يقنعون بهذا البرهان القوي ولا يعترفون لله بالربوبية والقدرة ولا يشكرونه على نعمه، كما أنها من الجمل القرآنية الحاسمة في تقرير الإرادة والاختبار وقوة التمييز للإنسان كما هو المتبادر. والآيتان مما تكرر ورود مضمونهما بشيء من اختلاف في الصيغ كما جاء في آية سورة الملك هذه: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5) وآية سورة الحجر هذه: وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) .

[سورة الفرقان (25) : الآيات 63 إلى 76]

وفي القرآن غير هذه الآيات آيات كثيرة تنبّه الناس إلى السماء ونجومها وشمسها وقمرها وتسخير الله لها وما في ذلك من دلائل عظمة الله وقدرته. فهذا من أكثر ما يفكر الناس فيه ويرون فيه أعظم مشاهد كون الله ويجعلهم يشعرون تجاهه بالرهبة والذهول. والآيات القرآنية استهدفت ذلك فيما استهدفته لأن الشعور به عام عند جميع الناس في كل زمان ومكان. ومن الواجب الوقوف في ذلك عند هذا الهدف دون توسع ولا تزيد. [سورة الفرقان (25) : الآيات 63 الى 76] وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) . (1) هونا: بالتواضع والسكينة والوقار ومما روي في معناها عدم التكبّر والتجبّر والظلم والفساد.

(2) الجاهلون: السفهاء والأشرار ويمكن أن يكون عني بها الكفار. (3) غراما: متداركا وملما وغير مفارق. والكلمة تعني شدّة العذاب واستمراره. (4) وكان ذلك قواما: وسطا لا إسراف ولا تقتير. (5) أثاما: عقوبة وجزاء. (6) تاب: أصل معنى الكلمة رجع، وصارت تطلق على من كفّ عن الخطأ والإثم. (7) لا يشهدون الزور: معنى الزور الكذب والافتراء، وقد أوّل المفسرون الجملة بمعنى شهادة الزور المعتادة وبمعنى شهود مجالس الباطل والشرك والمعصية. (8) وإذا مروا باللغو مروا كراما: اللغو هو الكلام التافه أو الباطل أو الذي لا نفع ولا فائدة منه. وقد أوّل المفسرون الجملة بأنهم إذا سمعوا باطلا وقيلا وقالا أو إذا رأوا معصية أو أمرا مستقبحا نزّهوا أنفسهم وانصرفوا عنه ولم يشاركوا فيه. (9) خرّ: وقع وطأطأ وأكبّ. (10) قرّة أعين: يقال للعين التي تدمع دمعا باردا قريرة من القرّ، وهذا الدمع لا يأتي إلّا في حالة السرور والرضاء، وتستعمل الجملة للدلالة على هذه الحالة، ومن مشتقاتها أقرّ الله عينك. (11) إماما: مقتدى به. (12) الغرفة: العليّة أو المسكن العالي. روى الشيخان والترمذي عن عبد الله قال: «سألت أو سأل رسول الله أيّ الذنب عند الله أكبر قال أن تجعل لله ندّا وهو خلقك. قلت ثم أيّ؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك، قال ونزلت هذه الآية تصديقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ» «1» .

_ (1) التاج ج 4 ص 172- 174. [.....]

وروى البخاري وأبو داود عن ابن عباس قال: «لما نزلت وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إلى آخر الآية قال أهل مكة قد عدّلنا بالله وقتلنا النفس التي حرّم الله وأتينا الفواحش. فأنزل الله: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً إلى آخر الآية» «1» . ومقتضى هذين الحديثين أن الآيتين نزلتا لحدّتهما ولمناسبات طارئة. مع أن المتبادر المستلهم من روح الآيات جميعها أنها فصل واحد منسجم مع بعضه أشدّ الانسجام. وأنها جاءت بمثابة استطراد لوصف من أراد أن يتذكر أو أراد شكورا الذي ورد في الفقرة الأخيرة من الآيات السابقة. وفيها في ذات الوقت تعقيب على ما حكته الآيات السابقة من تمرّد الكفّار عن السجود للرحمن بحيث يصحّ القول إنها استمرار للسياق السابق. وإزاء الصحة التي يتّسم بها الحديثان يمكن القول إن ما جاء فيهما قد كان قبل نزول السياق فاقتضت حكمة التنزيل أن يكون في هذه الآيات جواب في سياق ما اقتضته من وصف عباد الرحمن الاستطرادي. ولقد احتوت الآيات تقرير ما يلي: إذا كان الكفّار يتمرّدون على الرحمن ويتصاممون عن الدعوة إليه ولا يشكرونه على نعمه ولا يتدبرون في آياته فإن للرحمن عبادا إذا مشوا على الأرض مشوا متواضعين في سكينة ووقار من غير تكبّر ولا تجبّر ولا ظلم. وإذا اعترضهم السفهاء والجاهلون ردّوا عليهم بالتي هي أحسن وقالوا نحن نريد السلام، وهم دائمو السجود والقيام لربهم متضرعين إليه بأن يقيهم عذاب جهنم الشديد الرهيب، وهم إذا أنفقوا اعتدلوا فلا يسرفون ولا يقترون، وهم لا يشركون مع الله في الدعاء والعبادة أحدا ولا يقتلون النفس التي حرّم الله باستثناء ما يكون قد حقّ القتل عليه قصاصا، ولا يزنون لأنّ من يفعل ذلك يستحقّ العقاب والإهانة ويضاعف له

_ (1) التاج ج 4 ص 172- 174.

تعليق على روعة سلسلة عباد الرحمن وتلقيناتها

العذاب يوم القيامة ويخلّد فيه، ويبتعدون عن الزور والإفك والبغي قولا وعملا وشهودا، وإذا سمعوا كلاما باطلا لا خير فيه أو فيه أذيّة ومعصية كرموا أنفسهم وانصرفوا عنه، وهم إذا ذكّروا بآيات الله ونعمه لا يتلقون ذلك تلقي الأعمى والأصم، بل تلقي الواعي المعتبر والشاكر المتذكّر، ويتمنون على الله أن يسرهم ويقرّ أعينهم في أزواجهم وذرياتهم بأن يكونوا على غرارهم في طاعة الله ومرضاته، كما يدعون الله بأن يجعلهم خير قدوة وأحسن أسوة للمتقين. فهؤلاء يجزيهم الله الغرف العالية في الجنة على ما ساروا عليه من سبيل الحق والهدى والخير وصبروا وثبتوا فيه، ويجدون فيها من الله التكريم والترحيب والتحية والسلام وتكون لهم نعم المستقرّ والمقام. وقد تخلّل الآيات آيتان جاءتا معترضتين فيهما ذكر للتوبة بعد ذكر استحقاق الذين يدعون مع الله إلها آخر ويقتلون النفس التي حرّم الله ويزنون لعذاب الله وسخطه حيث استثنى فيهما الذين يتوبون إلى الله ويؤمنون به ويعملون الصالحات، وحيث قرر فيهما أن الله يبدّل سيئات هؤلاء التائبين حسنات لأنه غفور رحيم، ولأن الذي يتوب ويعمل صالحا فإنه يكون قد اعتراف بما كان منه من إثم وندم عليه ورجع إلى الله رجوعا تاما. تعليق على روعة سلسلة عباد الرحمن وتلقيناتها ويتبادر لنا أن الآيات احتوت- بالإضافة إلى ما احتوته من وصف عباد الله الصالحين وصفا مطلقا- صورة لما كان عليه المسلمون السابقون في مكة من فضائل وأخلاق مستحبة ونقاء قلب وسريرة وإنابة تامة إلى الله، ثم لما كان يقفه الكفار منهم من مواقف البغي والأذى ويوجهونه إليهم من قارص الكلام وعبارات السخرية، ولما كان من محاولات المسلمين من تجنّب الاشتباك مع الكفار والدخول معهم في نزاع ومهاترات حيث كانوا يلتزمون الوقار والسكينة والتواضع، ويدفعون السفهاء بالتي هي أحسن، ويكرمون أنفسهم عن سماع اللغو والباطل والاندماج فيهما. وكل هذا من دون ريب أثر من آثار الهدى القرآني والنبوي رضوان الله عليهم.

وبالإضافة إلى هذا وذاك مما فيه صور من السيرة النبوية وظروف الدعوة في العهد المكي فإن إطلاق العبارة في الآيات يجعلها شاملة مستمرة التلقين، وفي ما احتوته من التنويه بفضائل الأخلاق مثل التواضع وحبّ السلام والابتعاد عن التجبّر والتكبّر والمشاتمات والمهاترات وتكريم النفس عن مستوى الجهلاء والأشرار والتزام الاعتدال وعدم العدوان على دماء الناس وأعراضهم وعدم الاندماج في الزور والباطل قولا وعملا وحضورا وعدم التدخل فيما لا يعني، وتوجيه أفراد الأسرة زوجة وأولادا إلى كل ما فيه الخير والفضيلة، وتحلّي المسلم إجمالا بكل ما يجعله قدوة صالحة وأسوة حسنة للناس- تلقينات أخلاقية واجتماعية جليلة رائعة من شأنها أن توجّه المسلم إلى أقوم سبل الخير والحق، وأفضل الأخلاق والسلوك في بيته ومجتمعه وخصوصياته وعمومياته. ولذلك فإن السلسلة من أروع الكلم القرآنية المحكمة. ويتبادر لنا من فحوى وروح الآيتين [70- 71] ومجيئهما بعد الإنذار الرهيب الموجّه لكل من يشرك بالله ويزني ويقتل أنهما عامتا الخطاب لكل مشرك ومجرم. وأنهما أسلوب من أساليب الدعوة ودعامة لها حيث تؤذنان السامعين على اختلافهم أن الإيمان بالله والتوبة إليه يطهران فاعلهما من الأدران والخبائث ويوجهانه في طريق عباد الله الصالحين ويخلّقانه بأخلاقهم. وأن ما اقترفوه ليس مانعا لهم من الرجوع إلى الله والتوبة إليه حيث يجدونه غفورا رحيما وحيث تتبدل بسلوكه الجديد سيئاته بحسنات. وفي هذا ما فيه من روعة وقوّة تلقين. ولقد شرحنا موضوع التوبة شرحا وافيا في سياق سورة البروج فنكتفي بهذه الإشارة في هذا المقام. ولقد روى مسلم عن سعيد بن جبير قال: «قلت لابن عباس ألمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة؟ قال: لا. فتلوت عليه آية الفرقان إِلَّا مَنْ تابَ فقال هذه الآية مكيّة نسختها آية مدنية وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً [النساء: 93] الآية» «1» .

_ (1) التاج ج 4 ص 173.

[سورة الفرقان (25) : آية 77]

ولقد ذكرنا هذا وتوقفنا في التسليم به وعلّقنا عليه في سياق شرح موضوع التوبة في سورة البروج بما يغني عن التكرار. ولقد تعددت روايات المفسرين وأقوالهم في تأويل جملة يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ في الآية [70] فهناك من قال إن معناها: «إن الذين يتوبون إلى الله ويؤمنون ويعملون العمل الصالح يكونون بذلك قد تبدّلت أعمالهم السيئة التي كانوا يمارسونها بالأعمال الحسنة التي صاروا يمارسونها، وأن الله يبدّلهم بقبائح أعمالهم في الشرك ومحاسن الأعمال في الإسلام» . وهناك من قال: «إن معناها أن الله يمحو السيئات التي اقترفوها قبل الإيمان والتوبة ويثبت لهم بدلها حسنات» . وهناك من خرّج ذلك: «بأن التائب من الذنوب التي عملها قد قارن كل ذنب منها ندما عليه وكفّ نفسه عنه وعزم على ترك معاودته، وهذه حسنات بلا ريب وقد محت التوبة أثر الذنب وخلفه هذا الندم والعزم وهو حسنة، وبهذا تبدّلت السيئة بالحسنة» «1» وكل من هذه الأقوال وجيه. [سورة الفرقان (25) : آية 77] قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77) . (1) ما يعبأ بكم ربي: يعبأ بمعنى يهيئ أو يكترث. وقد أوّل بعض المفسرين الجملة بمعنى (ما الذي يصنعه ربي لكم ويهيئه لكم بعد تكذيبكم) وأوّلها بعضهم بمعنى (لا يكترث ربي بكم ولا يبالي بعد تكذيبكم) . (2) لزاما: لازما لا بدّ منه. وأكثر المفسرين على أن جملة فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77) بمعنى سوف يكون عذابكم واقعا ولا زما لكم لا بدّ منه. جاءت الآية خاتمة للسورة، والمتبادر من روحها ومضمونها أنها عود على بدء بسبيل إنذار الكفار وتقريعهم، وأنها ليست استمرارا للآيات السابقة لها مباشرة

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري وابن كثير والطبرسي والقاسمي.

تعليق على تعبير لولا دعاؤكم

التي تضمنت وصف عباد الرحمن والثناء عليهم، فبعد أن انتهت تلك الآيات جاءت هذه الآية تلتفت ثانية إلى الكفار الذين كانوا موضوع الكلام السابق وتأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم: إن الله لم يكن ليعتدّ بكم ويهتم لأمركم لولا دعاؤكم، وبالرغم من ذلك فقد كذّبتم بما جاءكم فاستحققتم العذاب وصار لازما عليكم لا معدى لكم عنه. تعليق على تعبير لَوْلا دُعاؤُكُمْ وأكثر المفسرين أوّلوا جملة لَوْلا دُعاؤُكُمْ بما يفيد أن الله تعالى ما كان ليكترث بكم ويهتم لأمركم لولا حرصه على دعوتكم إليه وإيمانكم به وعبادتكم له، وهو تأويل وجيه «1» . ومن المفسرين من أرجع ضمير المخاطب في دُعاؤُكُمْ إلى عباد الرحمن وأرجع الضمائر الأخرى في الآية إلى الكفار وهو غريب «2» . ومما يتبادر لنا أن جملة لَوْلا دُعاؤُكُمْ هي بسبيل الإشارة إلى اعتراف المشركين بالله الخالق البارئ ربّ الأكوان ودعائهم إيّاه وحده حينما يصيبهم الضرّ مما حكته آيات عديدة مثل آية سورة الزخرف هذه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) وآية الزخرف هذه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وآيات سورة النحل هذه: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) وآية سورة العنكبوت هذه: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) أو بسبيل الإشارة إلى ما كانوا يتمنونه على الله ويدعونه بإرسال نذير بكتاب عربي ليؤمنوا به ويسيروا على هواه مما

_ (1) انظر تفسير الآية في الطبري وابن كثير والخازن والطبرسي. (2) انظر تفسيرها في تفسير ابن كثير والزمخشري.

حكته آية سورة فاطر هذه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (42) وآيات سورة الأنعام هذه: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ «1» فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157) ، وكون هذا وذاك هو الذي جعل الله سبحانه يعبأ بهم ويرسل إليهم رسولا وينزل عليه كتابا بلغتهم ليسيروا على هداه، وكأن الآية تقول لهم إنكم بعد أن كذّبتم بما جاءكم وتمرّدتم على الله وتصاممتم عن دعوته وناوأتم رسوله بعد أن تمنيتم ذلك وطلبتموه فقد صار العذاب لزاما عليكم، وكأنها تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم ذلك مشهدا عليهم أنفسهم مخلصا لهم الإعذار والإنذار. ولما كانت الفصول السابقة التي حكت أقوال الكفار ومواقفهم وردّت عليهم مقرعة مكذّبة منذرة من جهة، ومبرهنة على ربوبية الله عزّ وجلّ واستحقاقه وحده للعبادة من جهة، ومثنية على الذين استجابوا للدعوة واصفة ما كان من أثر ذلك في أخلاقهم من جهة هي بمثابة فصول حجاجية بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الكفار فتكون الآية قد جاءت إنهاء قويّا لهذه الفصول.

_ (1) لئلا تقولوا إننا لا نعرف لغة الكتب التي أنزلت على الطائفتين ولم ندرسها وإنه لو أنزل علينا كتاب بلغتنا لكنّا أهدى منهم حيث كانوا يرونهم في شقاق وخلاف وقتال شيعا وأحزابا.

سورة فاطر

سورة فاطر في السورة إنذار للناس ودعوة إلى الحق. ولفت نظر إلى الكون ونواميسه للبرهنة على ربوبية الله تعالى واستحقاقه وحده للعبادة. وتنويه بالمؤمنين المخلصين وتنديد بالكافرين وبيان مصير كل منهم. وإشارة إلى تمني العرب بعثة رسول فيهم والأسباب التي جعلتهم يناوئون النبي صلى الله عليه وسلم حينما بعثه الله، وقد تكررت في السورة تسلية النبي صلى الله عليه وسلم مما يلقاه من تكذيب قومه مما يدل على أنها نزلت في ظروف كان النبي صلى الله عليه وسلم فيها حزينا شديد الحسرة. والسورة شطران أحدهما عام التوجيه، وثانيهما موجه للكفار السامعين. وآيات كل من الشطرين منسجمة، كما أنه ليس بينهما انفصال وتغاير بحيث بسوغ القول أن فصول السورة نزلت متلاحقة حتى تمت. ويسميها بعض المفسرين بسورة الملائكة «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة فاطر (35) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) (1) فاطر: خالق ومنشئ. (2) مثنى وثلاث ورباع: اثنين معا وثلاثة معا وأربعة معا. أي إن من

_ (1) انظر تفسير الطبري وتفسير ابن عباس مثلا.

الملائكة ما كان له جناحان ومنهم ما كان له ثلاثة ومنهم ما كان له أربعة. (3) ممسك: مانع. (4) مرسل: معط. بدأت السورة بتقرير استحقاق الله تعالى للحمد والثناء وأعقبها في بقية الآيتين تعداد بعض مظاهر عظمته وبراهينها في خلق الملائكة وإرسالهم رسلا لعباده ومن قدرته التامة على منح من يريد من رحمته ومنع من يريد دون أن يستطيع أحد منع ما منح ومنح ما منع، وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. ومطلع السورة يشبه بعض الشيء مطلع السورة السابقة مما قد يكون فيه قرينة على ترتيب نزولها بعد سابقتها. والمتبادر من الفصول التالية أن الآيتين مقدمة لما بعدهما، كما كان شأن مطلع سورة الفرقان. والمقدمة هنا قوية نافذة كتلك. وأسلوب الآية الأولى يلهم أن ذكر الملائكة ورسالاتهم وأجنحتهم لم يكن مقصودا لذاته وإنما أريد به الإشارة إلى مظهر من مظاهر قدرة الله وعظمته في الدرجة الأولى. على أن ذكر ذلك يدل على أن الملائكة وأجنحتهم ورسالاتهم بين الله تعالى وعباده كانوا في أذهان الناس من أهم مظاهر قدرة الله وعظمته، ومن مواضيع تساؤلهم وذهولهم فاحتوت الآية هذا التقرير عنهم بالأسلوب الذي جاء به ليكون في نفس الوقت وسيلة من وسائل التنويه والتذكير بعظمة الله وقدرته. وأجنحة الملائكة ورسالاتهم إلى أنبياء الله مما ورد في أسفار العهد القديم والجديد المتداولة إلى اليوم بحيث يمكن أن يقال إن هذا الأمر لم يكن غريبا على أذهان العرب السامعين بالإضافة إلى ما كان من عقيدتهم بوجودهم وصلتهم بالله تعالى وحظوتهم لديه وقيامهم بخدمات متنوعة له. على ما شرحناه في سورة المدثر وسور أخرى سابقة حيث يكون في الآيات تنويه بأمر يسلّمون به. ونكرر هنا ما قلناه سابقا من أن الملائكة وماهيتهم ومهماتهم وكيفية اتصالهم بالله وبالرسل من الحقائق الإيمانية المغيبة التي يجب الإيمان بها مع الوقوف منها

[سورة فاطر (35) : الآيات 3 إلى 6]

عند نصوص القرآن والثابت من الأحاديث النبوية وتجنب كل تمحل وتزيد لا طائل من ورائهما. [سورة فاطر (35) : الآيات 3 الى 6] يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) (1) فأنى تؤفكون: فأنى تذهبون أو أين تنصرفون. (2) الغرور: الذي يغر بما يزينه لغيره وبما فيه من زينة تأخذ اللب فيغتر وينخدع. وأكثر المفسرين على أن الكلمة تعني «الشيطان» وورود اسم الشيطان عقبها مما يقوم قرينة أو دليلا. وقد قرأ بعضهم الكلمة بضم الغين وفي هذه الحال يصبح المعنى الاغترار والاعتداد بالنفس. وهذا المعنى مما تتحمله الآية أيضا. بعد تلك المقدمة جاءت هذه الآيات تذكر الناس بنعم الله عليهم وتحذرهم من الاغترار بالدنيا والاستماع إلى وساوس الشيطان عدوهم الذي هو وحزبه في النار. فالصلة بين هذه الآيات والمقدمة قائمة. وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر أيضا. وهي نافذة الأسلوب كالمقدمة. وقد جاءت الآيات الثانية معترضة، وجّه الخطاب فيها للنبي صلى الله عليه وسلم ثم استؤنف الخطاب للناس. والمتبادر أنها بسبيل تطمين النبي صلى الله عليه وسلم وتسليته فإذا كان قومه كذبوه فقد كذبت رسل من قبله أيضا. والأمور راجعة إلى الله الكفيل بمقابلة الناس على أعمالهم فلا ينبغي أن يحزن ويغتم. والآية الأخيرة دامغة الحجة. فالشيطان عدوّ للناس بإغرائهم بالكفر وتزيينه الشهوات والآثام لهم. وهو يقود من يستمع له ويصبح من حزبه إلى العذاب،

تعليق على الأمر بعدم الاغترار بالدنيا

فعلى الناس أن يحذروه وأن يتخذوه عدوا ليتقوا شرّه. والمتبادر أن ينطوي في هذا تقرير كون السامعين يعرفون أن الإغواء والإغراء وتزيين الشهوات من وساوس الشيطان وهو ما قررته عنهم آيات عديدة مرت أمثلة منها وما شرحناه شرحا وافيا بخاصة في سياق تفسير سورتي التكوير وصّ. تعليق على الأمر بعدم الاغترار بالدنيا وليس من محل للتوهم بأن الآية الأولى في صدد دعوة الناس إلى نفض أيديهم من الحياة الدنيا. فالقرآن احتوى آيات كثيرة تبيح للناس الاستمتاع بالحياة وطيباتها وزينتها وابتغاء فضل الله ورزقه والسعي إليه، وقد مرّت أمثلة قوية صريحة من ذلك في سورة الأعراف، وإنما هي في صدد التحذير من الاغترار والانشغال بها اغترارا وانشغالا ينسيان صاحبهما واجباته نحو الله ونحو الناس ويدفعانه إلى الاستغراق في المتع والشهوات بدون تورع من إثم وإسراف. [سورة فاطر (35) : الآيات 7 الى 8] الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) (1) فلا تذهب نفسك عليهم حسرات: فلا تهلك نفسك من الحسرة عليهم. تقرر الآية الأولى مصير الكافرين والمؤمنين الصالحين حيث يكون مصير الأولين العذاب الشديد والآخرين مغفرة الله وأجره الكبير كنتيجة لما تقدم من خطاب الناس وتحذيرهم. أما الآية الثانية ففحوى الشطر الأول منها يدل على أنه أريد المقايسة بين الفريقين وتقرير الأفضل منهما، واكتفى بذكر الفريق الثاني منهما بأسلوب استنكاري يدل على تفضيل الفريق الأول واستحالة أن يكون سواء مع الفريق الثاني

تعليق على تعبير فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء

الذي زين له سوء عمله فانخدع ورآه حسنا. وفي هذا معنى جليل وتلقين بليغ مستمر المدى وهو أن عمل الإنسان إنما يحكم عليه بأثره في المجتمع وبما يكون فيه من حقّ وهدى ونفع، لا بإعجاب صاحبه به. أما فحوى الشطر الثاني من الآية الثانية فيلهم أنه أريد به تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتهوين موقف الكفار وتكذيبهم. فسوء عملهم وخبث طويتهم يجعلانهم غير مأسوف عليهم إذ انصرفوا عن الدعوة، والله أعلم بحقيقة ما هم عليه وما يصدر منهم، وأنهم لا يستحقون أن يكونوا سببا لإهلاك نفسه حسرة وغمّا عليهم، فالله يهدي من يشاء ويضلّ من يشاء فليس من محل لحزنه واكتئابه. ولقد روى البغوي عن سعيد بن جبير أن الآية [8] نزلت في أصحاب الأهواء والبدع. وعن قتادة أنها في الخوارج الذين كانوا يستحلون دماء المسلمين الذين لا يذهبون مذاهبهم وأموالهم. والتجوز في هذا واضح، لأن مضمون الآية وسياقها صريحان بأنها في صدد الذين كفروا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يعتدّون بما هم عليه. وكل ما يمكن أن تكون هذه الأقوال قيلت على سبيل التطبيق وبوحي الأحداث التي وقعت في صدر الإسلام. على أنه يصح القول من ناحية أخرى أن التنديد المنطوي فيها عام مطلق يتناول كل من يرتكس في الأعمال المنكرة السيئة ويصر عليها رغم ما يظهر من ضررها وبعدها عن الحق. تعليق على تعبير فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ والشرح الذي شرحنا به الآيات والمستمد من روحها وأسلوبها ومقامها ومن فحوى آيات عديدة أخرى أوردناها في سياق آية مماثلة في سورة المدثر يزيل ما قد يرد من وهم بأن العبارة بسبيل تقرير تحتيم الله الهدى والضلال على أناس بأعيانهم تحتيما لا تبديل فيه، والآيات التي قبل الآية التي تقرر استحقاق الكافر للعذاب والمؤمن للأجر والمغفرة والتي تتضمن تقرير قابلية الاختيار للإنسان قرينة واضحة

[سورة فاطر (35) : الآيات 9 إلى 14]

على ذلك. كما أن معنى التسلية في الآية واضح نصّا وروحا. وقد أشبعنا الكلام على ذلك في سياق سورة المدثر. [سورة فاطر (35) : الآيات 9 الى 14] وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) (1) تثير: تحرك. (2) يبور: يفسد ويهلك ويحبط. (3) أزواجا: أصنافا أو ذكرانا وإناثا أو أزواجا وزوجات. (4) سائغ: مريء سهل التقبل. (5) حلية: الأحجار والمعادن الكريمة التي يتزين بها والمقصود هنا ما يستخرج من البحار من مرجان ولؤلؤ. (6) قطمير: قشرة النواة. الآيات: استمرار استطرادي للسياق السابق بسبيل التدليل على قدرة الله في

مظاهر الكون وآياته ونواميسه، وتوكيد ربوبيته واستحقاقه للخضوع والذكر والشكر وحده، وتقريع الكفار وتسفيههم. فقدرة الله تعالى وعظمته ماثلتان في الريح وما تحركه من سحاب وما ينزل من هذا السحاب من ماء على الأرض التي تكون ميتة فإذا هي بعد ذلك تعجّ بالحياة، مما فيه دليل على قدرة الله على بعث الناس ونشرهم بعد الموت، وفي خلق الناس من تراب ثم من نطفة ثم صيرورتهم أزواجا مما فيه دليل على يسر إحاطة علمه بكل شأن من شؤونهم من حمل ووضع وطول عمر وقصره. وفي البحار وما بينها من فروق في الطعم وما فيها للناس من منافع عظيمة من لحم طري يأكلونه وأحجار كريمة يتحلون بها وفلك تجري فيها فتيسر لهم أسباب الرزق. وفي حركة الشمس والقمر وتعاقب الليل والنهار في نطاق دقيق محكم فيه منافع عظيمة للناس. ففي كل هذا دلائل باهرة على أن الله هو الرب الحقيقي للناس الذي له الملك والحكم وحده في الأكوان، والذي يستحق وحده الخضوع والعبادة والذكر والشكر، أما الذين يشركهم المشركون في الدعاء معه ويدعونهم من دونه من الآلهة والأرباب فإنهم لا يملكون من هذا الكون العظيم شيئا حتى ولا قشرة نواة، وهم لا يسمعون دعاء الداعين، وليس في استطاعتهم أن يستجيبوا لشيء من مطالبهم حتى لو سمعوا دعاءهم، ولسوف يتبرأون يوم القيامة من مشركيهم، وهذا هو الحق الذي لا يتحمل مراء لأنه صادر من خبير عليم. والكلمة الحق هي ما كان صادرا من خبير عليم. وقد تخلل الآيات التي قررت ما شرحناه تقريرات متصلة بالدعوة وأهدافها، ومحتوية تقريعات وإنذارات للكفار كنتيجة لما هدفت إليه الآيات. فالعزة الحقيقية لله جميعا لا يشاركه فيها مشارك. وعلى من أراد الوصول إلى الكرامة والرضاء الرباني أن يسلك سبيله فيقول الحق ويعمل الخير، أما الذين يمكرون ويتآمرون على السوء ويدبرون المكائد والأذى للناس فلهم العذاب الشديد، والله تعالى كفيل بإحباط مكرهم وإفساد مكائدهم.

تعليق على جملة وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب

والآيات من روائع المجموعات القرآنية التي يخاطب بها العقل والقلب معا والتي تستمد براهينها من مشاهدات الناس وواقع أمورهم في كل زمن ومكان. وهي قوية نافذة في أسلوبها وما استهدفته من تدعيم للدعوة وأهدافها ومبادئها، وهي مستمرة المدى والتلقين بنفس القوة والنفوذ. وقد تكرر مثلها تبعا لتكرر المواقف والمناسبات. ولقد أورد البغوي عن ابن مسعود قال «إذا حدثتكم حديثا أنبأتكم بمصداقه من كتاب الله عز وجل. ما من عبد مسلم يقول خمس كلمات: «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وتبارك الله» إلا أخذهن ملك فجعلهن تحت جناحه ثم صعد بهن فلا يمرّ بهن على جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن حتى يجيء بها وجه ربّ العالمين. ومصداق ذلك من كتاب الله عز وجل قوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ... [10] » . وهذا الحديث لم يرد في الصحاح. ومع ذلك فالمتبادر أن الصحابي الجليل لم يقصد بقوله إذا صح عنه أن هذه الكلمات كل الكلم الطيب الذي يصعد إلى الله. وأن هذا التعبير شامل لكل كلم طيب فيه تسبيح وفيه إصلاح وفيه دعوة إلى الخير وفيه أمر بالمعروف وفيه نهي عن المنكر. ولقد عقب البغوي على الحديث فقال إن من ذكر الله بلسانه ولم يؤد فرائضه رد كلامه على عمله. وإن الإيمان ليس بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأفعال وهذا غاية السداد. تعليق على جملة وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ ولقد توقف المفسرون عند هذه الجملة فرووا عن أهل التأويل تأويلات متعددة حسب تلقي حرف (الهاء) في (عمره) ، حيث تلقاه بعضهم للإنسان مطلقا سواء أكان طويل العمر أو قصيره، فقال إن أعمار الناس من قصر وطول مقدرة

[سورة فاطر (35) : الآيات 15 إلى 26]

معلومة عند الله، فمن قدر له طول العمر لا ينقص عما قدر له، ومن قدر له قصره لا يزيد عما قدر له. وحيث تلقاه بعضهم للمعمر فقط فقال إن الأعمار تتبع الأسباب فتنقص وتزيد بحسبها وهي معلومة مقدرة عند الله. وحيث تلقاه بعضهم للمدة التي تمرّ من عمر الإنسان سنة بعد سنة أو شهرا بعد شهر أو يوما بعد يوم فقال إن الجملة تعني أن ما يمر من عمر الإنسان محصي عند الله تعالى. والعبارة تتحمل هذه التأويلات جميعها. ومحصلها على كل حال تقرير علم الله وإحاطته بأعمار الناس أسوة بعلمه وإحاطته بكل شؤون كونه وخلقه. ولقد رجح الطبري وابن كثير التأويل الأول. وقد يكون هذا هو الأوجه. ولقد أورد ابن كثير حديثين نبويين لهما صلة بالجملة وفيهما تلقين وتوضيح. أحدهما رواه البخاري عن أنس بن مالك جاء فيه «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من سرّه أن يبسط الله له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه» . وثانيهما أخرجه ابن أبي حاتم مرويّا عن أبي الدرداء قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ الله تعالى لا يؤخّر نفسا إذا جاء أجلها. وإنّما زيادة العمر بالذّرية الصّالحة يرزقها العبد فيدعون له بعده فيلحقه دعاؤهم في قبره» . [سورة فاطر (35) : الآيات 15 الى 26] يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26)

(1) الغني: غير المحتاج إلى الغير. (2) الحميد: المحمود أو الحامد، وروح الآية يلهم أن المعنى الثاني هو المقصود. (3) تزر: تحمل. (4) وازرة: حاملة. (5) وزر: حمل. وجملة وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى بمعنى لا يحمل إنسان مسؤولية وتبعة أعمال إنسان آخر. وكل يحمل مسؤولية عمله فقط. (6) وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذاقربى: وإذا طلب صاحب حمل أو ذنب من غيره ولو كان قريبا له أن يحمل شيئا من ذلك لا يحمل، ومثقلة بمعنى ثقيلة الحمل تنوء بحملها وحدها. (7) تزكى: الراجح المتبادر من روح الآية أنها هنا ليست من زكاة المال وإنما هي من تطهير النفس بالإيمان والتقوى والعمل الصالح. ومعظم المفسرين على ذلك. (8) الحرور: الجوّ المتوهج بالحرارة. (9) الزبر: الكتب أو الصحف. (10) نكيري: هنا بمعنى إنكاري عليهم وشدة عقوبتي لهم. الآيات استمرار في السياق، وفيها عود على بدء في توجيه الخطاب للناس كما فيها توكيد إنذاري وتبشيري للمؤمنين والكافرين وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. فقد هتفت بالناس بأن الله ليس في حاجة إليهم، وإنما هم الفقراء إليه وإنه لغني عن المنصرفين عنه حميد للمستجيبين إليه. وأنذرتهم بقدرة الله على إبادة الموجودين منهم والإتيان بغيرهم، وهو أمر يسير عليه لأنه الخالق المبدع القادر على كل شيء. وسلّت النبي صلى الله عليه وسلم وثبت فيه المصير والسكينة. فليس عليه إلّا

الاهتمام للذين آمنوا بربهم وخافوه ولو لم يروه وأقاموا الصلاة ورغبوا في الخير والهدى، وإن الذي يفعل ذلك إنما يطهر نفسه ويفعل ما فيه خيره وسعادته، وقررت أن كل امرئ مؤاخذ عن عمله وليس لأحد أن يحمل ذنب أحد ولو وصلت بينهما روابط القربى. وأهابت بالناس أنه جدير بهم أن يفرقوا بين الأعمى والبصير والظلمات والنور، والظل والحرور، والأحياء والأموات وأن لا تكون هذه المتضادات في نظرهم سواء لأن ذلك غير ممكن، ولأن الذين يدركون استحالة ذلك ويفرقون بين الأضداد ويلتزمون ما هو الأفضل منها هم الذين يكونون قد اهتدوا بهدي الله واستجابوا إلى دعوته ولأن الذين لا يدركون ذلك هم في الحقيقة كالأموات في القبور. وعادت إلى تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته حيث وجهت الخطاب إليه بأنه ليس عليه أن يسمع من في القبور، وما عليه إلّا أن ينذر الناس ويبين لهم الحق، وأن الله لم يرسله إلّا بشيرا ونذيرا كما كان الأمر في من سبقه من الرسل وأن الكفار إذا كانوا يقفون منه موقف المكذب فقد وقف من قبلهم مثل هذا الموقف حينما جاءتهم رسل الله بالبينات والكتب والآيات النافذة الواضحة. ولقد أخذهم الله أخذا قويّا، وترك من آثار ذلك ما فيه العبرة لمن بعدهم ليروا كيف كان أخذ الله وعذابه للكافرين به المكذبين لرسله. والسلسلة كسابقتها قوية رائعة نافذة في أسلوبها وروحها ومضمونها وخطابها للعقل والقلب، واستمدادها من مشاهدات الناس وواقع أمورهم وما استهدفته من أهداف وقررته من تقريرات، وفيها كتلك تلقينات قوية مستمرة المدى أيضا. ولقد شبه الكفار بالأموات بسبب عدم استماعهم لكلمة الحق، وعدم رؤيتهم الحقيقة الساطعة وعدم الاستجابة إلى داعيهما وهو تشبيه قوي لاذع. ولقد قصد بذكر التضاد بين الأعمى والبصير، والظلمات والنور، والظل والحرور، والأموات والأحياء بيان الفرق الواضح بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والاستقامة والانحراف، وذوي النوايا الحسنة والقلوب السليمة والعقول الواعية الراغبة في الحق وبين ذوي النوايا الخبيثة والقلوب المريضة والعقول

مغزى تكرر تسلية النبي صلى الله عليه وسلم في آيات السورة

السقيمة العنيدة المكابرة، وعدم إمكان وجواز التسوية بين كل ضدّ وضدّ. وفي هذا ما هو واضح من التلقين الجليل. ولعلّ في الآية [18] إشارة إلى ما كان عليه التضامن القبلي والأسروي في المجتمع العربي من قوة، فالعربي كان يتحمل مسؤولية ما اقترف قريبه من جرائم ويشترك في غراماتها، والمتبادر أنه استهدف بذكرها تصوير هول القيامة واضطرار كل امرئ للانشغال بنفسه دون غيره، وعدم حمل أحد مسؤولية أحد مهما كانت الصلة التي تجمع بينهما، وهذا المعنى تكرر مرة بعد مرة لأنه مستمد من واقع حال السامعين. وقد سبق بأسلوب قوي في آيات سورتي عبس والفجر. مغزى تكرر تسلية النبي صلى الله عليه وسلم في آيات السورة ويلحظ تكرر الآيات التي احتوت تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته والتخفيف عنه وتنوع أساليبها في فصول هذه السورة، مما يمكن أن يدل على أنها نزلت في ظرف كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحزن والحسرة مما يواجهه من مواقف العناد والتكذيب والصد والمكر، ومضامين فصول السورة- فضلا عن الآيات الخاصة في هذا الصدد- تؤيد ذلك أيضا. ولقد تكرر هذا كثيرا في أكثر السور المكية وشرحنا ما تبادر من أسبابه وحكمته في سياق سورة (ق) . تعليق على جملة وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ مع أن الجملة قد قصد بها في مقامها تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته على ما قلناه في الشرح. فإن هناك من أبعد في التأويل فقال إن كلمة (أمة) تشمل كل حيّ من بني آدم وسائر الحيوانات من دوابّ وطيور وزواحف وحشرات إلخ. وقد يكون القائل استأنس باية سورة الأنعام هذه وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ [38] وتعليقا على ذلك نقول إنه لا يصح فيما نعتقد الاستئناس بآية سورة الأنعام هذه لأنها في صدد تقرير كون الدواب والطيور التي خلقها الله أنواعا مثل

بني آدم. وجملة إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ مما يدعم عدم صحة الاستئناس لأن في القرآن آيات لا تحصى متنوعة الصيغ تفيد أن التكليف محصور ببني آدم، فيكون نذر الله محصورين بهم تبعا لذلك. من ذلك ما احتوى تقرير الله قد شاءت كلمة أن يكون بنو آدم خلفاء الله في الأرض كما يستفاد من آيات سورة البقرة [30 و 38 و 39] وقد انطوى في الآيات بتقرير كون بني آدم هم موضوع التكليف حصرا. ومن ذلك ما انطوى فيه كون الله أراد منذ البدء خلق بني آدم ليبلوهم أيهم أحسن عملا، كما جاء في آيات سورة هود [7] والملك [2] وغيرها. ومن ذلك ما انطوى فيه تقرير كون الله ينزل آياته للناس ليفكر بها ويتدبرها ويعقلها أولو الألباب. وكل هذا شأن بني آدم خاصة. والآيات في هذا كثيرة كثرة تغني عن التمثيل. وفي سورة الأحزاب آية قطعية الدلالة على أن الإنسان هو المكلف وحده وهي إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ.. [72] . وفي سورة النحل هذه الآية وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [36] التي تنطوي على شيء من المماثلة للجملة التي نحن في صددها قوية الصراحة في كون المقصودين من الجملة وكلمة (الأمة) هم بنو آدم. ومثل هذه الصراحة منطو في آيات سورة الإسراء [13- 15] ولكل من هذه الآيات أمثال عديدة أخرى. وفي الجملة نقطة أخرى تتحمل تعليقا. وهي تقريرها أن الله تعالى قد بعث في كل أمة سابقة من أمم الأرض من بني آدم نذيرا. وهذا التقرير منطو في آية سورة النحل [36] التي أوردناها آنفا مع زيادة كون دعوة رسل الله ونذره جميعا هي توحيد الله واجتناب الأوثان كمبدأ جوهري ورئيسي. والرسل الذين قصّ القرآن سيرتهم وأممهم بالأسماء قليلون جدا. وقد استدركت هذا المعنى آية سورة غافر هذه وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [78] .

[سورة فاطر (35) : الآيات 27 إلى 28]

ومهما تكن الوثنية وطابعها طاغيين على عقائد الأمم السابقة والموجودة على اختلاف الأجناس والألوان والأقطار فإنه يلمح فيها دائما فكرة الاعتقاد بإله أعظم وراء الكون والاتجاه إليه بصورة ما. ومع احتمال أن يكون ذلك فطرة الله التي فطر الناس عليها كما جاء في آية سورة الروم هذه فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ.. [30] بعد أن شاءت حكمة الله أن يكون بنو آدم متميزين عن سائر خلقه بالعقل والتفكير وقابلية التمييز بين الخير والشر والهدى والضلال، وقابلية الاختبار، فإن احتمال كون ذلك، من أثر دعوة نذر الله ورسله أيضا واردا. وعلى كل حال فمن الواجب على المسلم الإيمان بما جاء في الآيات القرآنية من ذلك، والله تعالى أعلم. [سورة فاطر (35) : الآيات 27 الى 28] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) (1) جدد: مفرده جدة، وكلمة جدد تعني طرائق أو خطوط أو قطع. (2) غرابيب سود: الغرابيب جمع غربيب وهو الشديد السواد. في الآية لفت نظر إلى بعض مظاهر خلق الله ونواميس كونه. فالله ينزل من السماء ماء فيخرج به نباتا مختلف الألوان والأنواع والأشكال. وقد خلق الجبال فيها الطرائق المختلفة الألوان كذلك من حمر وبيض وسود وهذا التنوع في الخلق مشهود أيضا في الناس والأنعام والدواب، وفي كل ذلك دلائل على قدرته وعظمته وبديع صنعته من شأنها أن تثير الخشية في القلوب منه وخاصة قلوب العلماء الذين هم أكثر من غيرهم إدراكا لهذه الدلائل. وقد انتهت بتقرير صفتي العزة والغفران لله

تعليق على جملة إنما يخشى الله من عباده العلماء وتلقينها

تعالى، فهو العزيز القوي الذي لا يعجزه شيء ولا يناله نائل، وهو مع ذلك الغفور للناس إذا ما تابوا إليه وأنابوا. والآيتان ليستا منقطعتي الصلة بالسياق، وهما فصل مماثل للفصول السابقة التي احتوت تقريرات عن مشاهد قدرة الله وعظمة كونه، وتخللها دعوة وعظة وتدعيم. ويلحظ بالإضافة إلى ما قلناه أن الآيات تنطوي على تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم فجميع ما خلق الله متنوع مختلف، ومن ذلك الناس، فلا غرو أن يكون بينهم الجاهل والأحمق والمعاند والمكابر والمستكبر والعالم والواعي والراضخ للحق والمستجيب إلى دعوة الهدى، ولا موجب- والحال هذه- لغمه وحزنه من موقف الأولين، وفي موقف الآخرين الذين استجابوا إليه الغناء، فالعلماء الواعون هم الذين يدركون معاني دعوته ويستجيبون إليها ويخشون الله عز وجل. وفي الآيات التالية ما يؤيد ذلك. تعليق على جملة إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ وتلقينها وجملة إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ تتضمن بذاتها تنويها بالعلماء ودعوة إلى اتخاذهم قدوة وأسوة. وتتضمن بالإضافة إلى ذلك تحميلهم من التبعات والمسئوليات الخاصة والعامة ما لا تتحمله الطبقات الأخرى، وتنبيههم إلى ما عليهم من واجبات وتبعات خاصة وعامة أيضا. ومن جملة ذلك إدراك الحقيقة الإلهية الكبرى وخشيتها وتقواها والتبشير بها أكثر من غيرهم. ومضاعفة مسؤولياتهم عن التقصير في ذلك. وفي كل هذا تلقين جليل وخطير مستمر المدى على مدى الأجيال كما هو واضح. ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن التنويه الذي تضمنته الجملة بالعلماء مصروف بنوع خاص إلى الذين يؤديهم علمهم وإدراكهم إلى معرفة الله تعالى وخشيته وتقواه.

ولقد أورد المفسرون أقوالا عديدة في تأويل كلمة (العلماء) منها أنهم الذين يعرفون أن الله على كل شيء قدير، ويعرفون ما أحلّه وما حرّمه. ومنها أن العلم ليس بكثرة الرواية-، وإنما هو نور يجعله الله في القلب. ومنها أن العالم من صدق قوله فعله. ومنها أن العلماء ثلاثة، عالم بالله عالم بأمر الله، وعالم بالله ليس بعالم بأمر الله. وعالم بأمر الله ليس بعالم بالله. وإن المقصود في الآية هو الأول. ويتبادر لنا أن هذه التعريفات غير كافية، وغير محكمة. فالكلمة في الجملة مطلقة وهي في معرض التنبيه إلى مظاهر خلق الله ونواميس كونه وما فيها من دقة وإبداع ونظام وتنوع، بحيث يمكن أن تشمل كل من يتصف بعلم يساعده على إدراك ذلك ودلالة على وجود الله وقدرته. ويدخل في ذلك طبقة العلماء في العلوم الدينية والدنيوية على السواء. بل ويمكن أن يدخل فيه طبقة العقلاء والنبهاء والمستنيرين والواعين، ولو لم يكن أفرادها متعمقين في العلم، فإن جميع هؤلاء من الذين في قدرتهم إدراك ذلك سواء أمن ناحية القابلية العقلية أم من ناحية الوقوف والاطلاع، أم من ناحية القدرة على إعمال الفكر والقياس والنفوذ إلى الحقائق المشاهدة وآثارها والقائمة براهينها في مختلف مظاهر الكون فيدركون من خلال ذلك الحقيقة الإلهية الكبرى ويخشعون لها ويؤمنون بها ويتقونها. ولقد تكرر في القرآن أولا الإشارة إلى العلماء وما يؤهلهم علمهم له من إدراك تلك الحقائق ومشاهد قدرة الله في الكون وحكمة الأمثال التي يضربها الله في القرآن كما ترى في الأمثلة التالية: 1- وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ.. العنكبوت [43] . 2- وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ.. الروم [22] . ولقد تكرر ثانيا جملة آيات لقوم يتفكرون ويعقلون ويسمعون ويتذكرون ويتدبرون ويعلمون في معرض ذكر آيات الله ومشاهد قدرته وإبداعه في الكون.

[سورة فاطر (35) : الآيات 29 إلى 35]

وهذا كثير جدا وتغني كثرته عن التمثيل «1» . حيث ينطوي في كل هذا تساوق مع ما انطوى في سياق الجملة التي نحن في صددها، وتدعيم للتقرير الذي قررناه في مداها، والتلقين الخطير المستمر الذي ينطوي فيها. وهناك أحاديث نبوية صحيحة عديدة فيها تنويه بالعلم وحثّ عليه وتنويه بالعلماء وفضلهم ومسؤولياتهم، يصح أن يساق في هذا المقام، من ذلك حديث رواه البخاري ومسلم عن معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدّين» . وحديث رواه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة جاء فيه «ومن سلك طريقا يلتمس فيها علما سهل الله له طريقا إلى الجنة» وحديث رواه أبو داود والترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها رضاء لطالب العلم. وإنّ العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض. وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإنّ العلماء ورثة الأنبياء. إن الأنبياء لم يورّثوا دينارا ولا درهما وإنما ورّثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظّ وافر» «2» . [سورة فاطر (35) : الآيات 29 الى 35] إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35)

_ (1) اقرأ مثلا: آيات الرعد [2 و 3] والنحل [11 و 12] والنمل [59- 65] والروم [21- 25] . (2) انظر التاج ج 1 ص 53- 54 وهناك أحاديث أخرى في هذه الصفحات فاكتفينا بما أوردناه.

(1) لن تبور: لن تكسد. (2) ظالم لنفسه: جان ومجرم في حق نفسه ومهلكها بإثمه وكفره وعصيانه. (3) مقتصد: كناية عن الذين يكتفون باليسير من الطاعات ولا يجتهدون فيها اجتهادا كبيرا. (4) الحزن: هنا بمعنى خوف العاقبة وشرّ المصير. (5) دار المقامة: دار الإقامة والخلود. (6) نصب ولغوب: النصب بمعنى التعب بفتح النون وضمها. واللغوب بمعنى الإعياء من التعب. عبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وهي متصلة بالسياق كما هو المتبادر وصلتها بالآية السابقة لها خاصة واضحة في التناسب بين العلماء وبين الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا، فكأنّما جاءت لتنوّه بالعلماء الذين هم جديرون بخوف الله، وتذكر أعمالهم الناتجة عن ذلك. والآيات قوية نافذة فيما احتوته من تنويه وبشرى، من شأنهما أن يستوليا على النفس ويغمراها بأقوى الاغتباط ويدفعاها إلى التزام الفضائل. ومما يتبادر أن تكون الآيتان الأولى والثانية في صدد وصف الذين استجابوا للدعوة النبوية واستغرقوا في واجباتهم نحو الله. وبهذا يمكن أن يقوى معنى التسلية الذي نبهنا إليه في سياق الآيات السابقة ويتأيد. كذلك فإن في الآية [31] هدفا ملحوظا في التسلية والتثبيت حيث احتوت توكيدا موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن ما أنزل إليه من الكتاب هو الحق وهو مصدّق لما قبله من كتب منزلة ومتطابق معها. وفي هذا ما يطمئن نفسه ويجعله لا يعبأ بمواقف

تعليق على جملة أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا وتلقينها

المكذبين والجاحدين، ويكل أمرهم إلى الله الذي هو الخبير البصير بعباده، القادر على مقابلتهم بما يستحقون. تعليق على جملة أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا وتلقينها وأكثر المفسرين على أن جملة أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا تعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن جملة ظالِمٌ لِنَفْسِهِ تحتمل أن يكون المقصود بها المنافق أو الذي لم يستجب إلى الدعوة أو الذي اجترح السيئات من المسلمين. وأن جملة مُقْتَصِدٌ تعني الذي لا يجتهد اجتهادا كبيرا في الطاعات والأعمال الصالحة، ويكتفي باليسير منها. وأن جملة سابِقٌ بِالْخَيْراتِ هم أقوياء الإيمان المجتهدون اجتهادا كبيرا في الطاعات والأعمال الصالحة. وقال بعض المفسرين إن الطبقات الثلاث هي نفس ما عنتها آيات سورة الواقعة وهي وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ. وأن المقتصدين هم أصحاب الميمنة، الذين هم يدخلون الجنة وتكون درجتهم دون درجة السابقين. وأن أصحاب المشأمة هم الكفار «1» . وروح الآيات تلهم رجحان قول من قال: إن تعبير ظالِمٌ لِنَفْسِهِ يعني المسلمين الذين يجترحون السيئات لأن جملة الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا تشملهم جميعا كما هو المتبادر. ولقد ذكر وَالَّذِينَ كَفَرُوا في الآية [36] التي تأتي بعد هذه الآيات حيث ينطوي في ذلك قرينة على صحة ما قلناه وضرورة استبعاد (الكافرين) بالنسبة لجملة فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ. وهناك أحاديث يرويها المفسرون مؤيدة لهذا أيضا. منها حديث يرويه الطبري بطرقه عن أبي الدرداء قال «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر هذه الآية فيقول فأما السابق بالخيرات فيدخلها بغير حساب، وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا. وأما الظالم نفسه فيصيبه في ذلك المكان من الغمّ والحزن فذلك قوله حكاية على

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والطبرسي والخازن.

لسان السابقين الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [34] . وقد روى البغوي هذا الحديث بفرق في آخره وهو «وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام حتى يدخله الهمّ، ثم يدخل الجنة فيقول الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور» . ومنها حديث يرويه الطبري بطرقه عن أبي سعيد الخدري قال: «إن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية فقال هؤلاء كلهم في الجنة» . وحديث يرويه البغوي وابن كثير عن أسامة بن زيد قال: «تلا رسول الله الآية فقال كلهم من هذه الأمة» . وحديث يرويه البغوي عن أبي عثمان النهدي قال: «سمعت عمر بن الخطاب قرأ على المنبر هذه الآية فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقنا سابق ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له» . ويلحظ أن مصير الظالم لنفسه ومصير المقتصد ظل مسكوتا عنهما في الآيات. ويتبادر إلى الذهن أن حكمة ذلك قصد تركيز الثناء والتنويه بالسابقين في الخيرات، وإفهام الناس وبخاصة المسلمين أنه لا ينبغي لمسلم أن يكون مقتصدا في القيام بواجباته نحو الله والناس، فضلا عن أنه لا يجوز لمسلم أن يجترح السيئات، وأن الخير كل الخير والفضل كل الفضل في السابقين في الخيرات الذين يجتهدون في القيام بواجباتهم على أحسن وجه وأوسعه وأفضله. وفي هذا ما فيه من تلقين جليل مستمر المدى. على أن في شمول جملة الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا للصنفين الآخرين على ما ذكرنا وذكره غيرنا من المفسرين استلهاما من فحوى الآية يظل الباب مفتوحا لهما، لكيفّ الظالم لنفسه عن سيئاته ويتوب إلى الله تعالى، ويبدل المقتصد خطته، ويبذل الصنفان جهدهما للّحوق بالسابقين. والبشرى والتنويه اللذان انطويا في الآية بالنسبة للسابقين مما يثير في الصنفين ذلك. ولعل ذلك مما استهدفته الجملة القرآنية. وجملة ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا تنطوي على تنويه عظيم بالأمة الإسلامية، وأذان بأنها قد استقر عليها الاصطفاء، وإرث كتاب الله

[سورة فاطر (35) : الآيات 36 إلى 37]

نهائيّا، وأن دينها قد أصبح الدين الحق للناس جميعا، وأن القرآن قد أصبح هو المستقر والمرجع والهادي العام لجميع البشر وقد أيدت هذا آيات عديدة منها آية سورة الفتح هذه هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً [28] ومنها آية سورة النور هذه وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [55] وآيات سورة المائدة هذه يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) وآية سورة المائدة هذه وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ... «1» [48] . وفي كل ذلك ما فيه من تلقين وحضّ وتنبيه وتحميل تبعات جسام، كما هو واضح. [سورة فاطر (35) : الآيات 36 الى 37] وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) (1) يصطرخون: بمعنى يستغيثون. (2) نعمّركم: نطيل من أعماركم.

_ (1) أوّل المفسرون كلمة المهيمن بالرقيب والشهيد والحاكم والقائم بالأمر.

في هذه الآيات ذكر لمصير الكافرين بالمقابلة لذكر المؤمنين في الآيات السابقة، جريا على الأسلوب القرآني. فهي والحال هذه استمرار للسياق. وفيها قرينة على أن الطبقات الثلاث التي ذكرت في الآيات السابقة هي من المؤمنين. وقد احتوت وصفا لما سوف يكون الكفار فيه من عذاب شديد دائم لا يموتون منه فيستريحون ولا يخفف منه شيء ولما سوف يشعرون به من الندم على ما فرطوا، ويتمنون على الله ويستغيثون به ليخرجهم منها، ويعيدهم ثانية إلى الدنيا ليصلحوا حالهم فيقال لهم: لقد منحتم الفرصة الكافية بطول العمر ودعوة الرسل وإنذارهم فأضعتموها فليس للظالمين أمثالكم من مهرب ولا نصير. والآيات في بابها قوية نافذة كسابقاتها، من شأنها أن تثير الخوف والفزع في النفوس وتحمل السامعين على الارعواء، وهو مما استهدفته على ما هو المتبادر. ولقد وقف المفسرون عند جملة أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وأوردوا بعض الأقوال والأحاديث في مدى ذلك. منها أنها خطاب موجه لكل من بلغ العشرين من عمره أو الأربعين أو الستين. ومن ذلك حديث رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العمر الذي أعذر الله تعالى فيه إلى ابن آدم ستون سنة» . وفي رواية «من عمّره الله ستين سنة فقد أعذر إليه في العمر» . وفي رواية «لقد أعذر الله إلى صاحب الستين والسبعين» . وعلّل الذين قالوا أربعين سنة بأن عقل الإنسان يصل إلى نهاية نضجه فيها. والأحاديث المعزوة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم ترد في الصحاح. ويتبادر لنا بالنسبة لأسلوب الآية أنها تضمنت معنى التبكيت والتنديد لأن الكفار قد أضاعوا الفرصة التي سنحت لهم في الدنيا ليتذكروا ويرعووا. أما بالنسبة لمسألة العمر الذي يكون فيه الإعذار الرباني ملزما فهو بلوغ الإنسان سنّ الرشد الذي يستطيع فيه التمييز بين الحقّ والباطل والهدى والضلال، وتبلغه معالم ذلك بواسطة رسول من الله أو كتاب رباني وسنة نبوية، ثم لا يتبع الحق والهدى. والله تعالى أعلم.

[سورة فاطر (35) : الآيات 38 إلى 39]

[سورة فاطر (35) : الآيات 38 الى 39] إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39) (1) خلائف: قيل إن الكلمة جمع خليفة وإنها إما بمعنى كون الله جعل آدم وذريته خلفاء في الأرض، كما جاء في آية سورة البقرة [30] وما بعدها. وإما بمعنى أن أمة تخلف أمة وجيلا يخلف جيلا بالتوالي. (2) مقتا: غضبا وسخطا وبعدا. المتبادر أن الآيات جاءت تعقيبية على سابقاتها حيث وجه الخطاب فيها للناس جميعا. فالله يعلم كل سرّ وجهر في السموات والأرض ويعلم كل خطرة من خطرات النفوس ومكنونات الصدور. وجعل السامعين للقرآن خلائف لمن سبقهم من الأجيال مما هو سنة من سنن الكون في جعل البشر خلائف يخلف بعضهم بعضا. فمن كفر منهم فإثم كفره وتبعته عليه وحسب، والكفر إنما يؤدي بصاحبه إلى زيادة من مقت الله وزيادة من الخسران. تعليق على جملة فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ والفصل على هذا استمرار للسياق. وهو قوي نافذ الأسلوب كالفصول التي سبقته. وهو من الفصول الصريحة في تقرير كون الإنسان إنما يكفر باختياره، وإن ما يصيبه من شرّ وخسارة ومقت إنما هو بسبب اختياره الكفر ونتيجة له، واختيار الكافر الكفر واختيار المؤمن الإيمان إنما يقعان بما أودعه الله في الإنسان من العقل وقوة التمييز بين الكفر والإيمان، والإقدار على اختيار أحدهما. وبهذا يصبح الجدل الكلامي في أثر إرادة الله تعالى ومشيئته في مفردات أعمال الناس وعدمه في غير محله، فإرادة الله وحكمته اقتضتا أن يكون الإنسان قادرا على التمييز والاختيار

[سورة فاطر (35) : الآيات 40 إلى 41]

بصورة عامة، فاختياره للهدى والضلال والخير والشرّ والحقّ والباطل هو من كسبه ونتيجة للحكمة والإرادة الربانية، وإذا كان هناك آيات يمكن أن تورد على هذا الرأي أو ذاك فالحق هو تأويلها في نطاق ما نقرره لأنه هو المتسق مع روح القرآن عامة ومع حكمة إرسال الرسل وتبشير المؤمنين وإثابتهم، وإنذار الكافرين والمجرمين وتعذيبهم ولا يصح أن يستنبط من القرآن ما يكون متناقضا. والمتدبر في القرآن يرى أنه ما من آية قد تثير إشكالا وجدلا إلّا يمكن أن يوجد لها تأويل في آية أخرى يزيل ذلك الإشكال ويجعل مبادئ القرآن وتقريراته متساوقة. [سورة فاطر (35) : الآيات 40 الى 41] قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41) . (1) إن يعد: بمعنى لا يعد. (2) أن تزولا: لئلا تزولا وتسقطا. (3) ولئن زالتا: بمعنى ولو زالتا. (4) إن أمسكهما: بمعنى لا يمسكهما. في الآية الأولى أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بسؤال المشركين عما خلقه شركاؤهم من الأرض، وعن أي شيء لهم شركة في السموات، وعما إذا كان لديهم كتاب منزل من الله فيه دليل على صحة ما هم عليه من دين وعقائد يجعلهم على ثقة وبينة من أمرهم. ثم تنتهي بتقرير أن كل ما هم عليه وكل ما يقوله بعضهم لبعض ليس إلّا كذبا وخداعا وتغريرا. وهذه النهاية بمثابة جواب على السؤال وبيان حقيقة الأمر في حال المشركين. وأسلوب الآية قوي لاذع في تحدي المشركين وإفحامهم وتسفيههم وتقرير الواقع من أمرهم.

تلقين جملة إنه كان حليما غفورا في مقامها

أما الآية الثانية فقد قررت أن الله وحده هو الذي يمسك السموات والأرض من الزوال والسقوط والفناء، وحينما يريد ذلك لن يستطيع أحد أن يحول دونه. وإنه مع ذلك يحلم على عباده فلا يعجل عليهم بالنقمة رغما عمّا يصدر منهم من موجباتها، وإنه لغفور تتسع مغفرته لذنوبهم إذا ما استغفروه وتابوا إليه. والمتبادر أن الآية الثانية تتمّة للأولى في صدد ما احتوته من تحدّ للمشركين لتوكيد تصرف الله عز وجل المطلق في السموات والأرض خلقا وإبقاء وزوالا دون ما شريك ولا معارض ولا مانع. ولم يرو المفسرون مناسبة خاصة لهاتين الآيتين اللتين وجه الخطاب في أولاهما إلى المشركين بصيغة الضمير المخاطب مما يسوغ القول إن الأمر بسؤال النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين وتحديهم كان أسلوبيا لحكاية حال المشركين وتوكيد وهن موقفهم، وليس في صدد موقف حجاجي وجاهي كما قد يوهم الضمير المخاطب. وقد تكرر هذا الأسلوب في مواضع كثيرة من القرآن. والجملة التي جاءت بمثابة جواب في الآية الأولى نفسها قد تدل على ذلك. وقد ورد الضمير فيها بصيغة الغائب. وعلى هذا فإن الآيتين متصلتان بما سبقهما، وبخاصة بالسابقات القريبات التي احتوت وصف سوء مصير الكفار وإنذارهم وما ينالهم من مقت وخسارة من جرّاء كفرهم. تلقين جملة إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً في مقامها ولقد احتوت الفقرات الأخيرة من الآية الثانية تلقينا جليلا فيما انطوى في صفتي الحلم والغفران الربانيتين من المعنى العظيم، وبخاصة في مقام ورودهما على ما شرحناه. ولقد تكرر هذا في مناسبات كثيرة وبأساليب متنوعة منها ما سبق ونبهنا إليه مما يؤكد ويؤيد ما شرحناه في سياق سورة البروج من أن منح فرصة الصلاح والإصلاح والإنابة إلى الله تعالى للمذنب والمقصر والجاحد بالتوبة من

[سورة فاطر (35) : الآيات 42 إلى 43]

المبادئ المحكمة التي شغلت حيزا مهمّا في التنزيل القرآني والدعوة الإسلامية. [سورة فاطر (35) : الآيات 42 الى 43] وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) احتوت الآيات حكاية الأيمان المغلظة التي كان المشركون يحلفونها قبل البعثة النبوية بأنهم لو جاءهم نذير لا تبعوه، ولكانوا به أهدى من الأمم الأخرى، وما كان من أمرهم حينما جاءهم النذير وهو محمد صلى الله عليه وسلم حيث ازدادوا كفرا ونفورا. وذكرت أن سبب الموقف الناكث الذي وقفوه هو استكبارهم عن اتباع النذير الذي جاءهم، ورغبة في معاكسته والكيد له ثم عقبت على ذلك منددة منذرة. فالمكر السيء لن يضر غير أصحابه. وإن الناكثين الماكرين في موقفهم كأنما ينتظرون ويستعجلون سنة الله التي قد خلت في الأولين بإهلاك المكذبين لرسل الله الماكرين بهم مكر السوء وإن سنة الله لن تتبدل معهم ولن تتحول عنهم. ولا يروي المفسرون رواية ما عن مناسبة نزول الآيتين. وهما معطوفتان على ما سبقهما. والمتبادر أن ضمير الغائب فيهما عائد إلى الكافرين والمشركين موضوع الكلام في الآيات السابقة، بحيث يمكن القول إن الآيتين غير منفصلتين عن السياق. وإنهما احتوتا تذكيرا بالأيمان التي كان هؤلاء يحلفونها، وتنديدا بموقفهم الذي وقفوه حينما جاءهم النذير الذي كانوا يتمنون مجيئه. تعليق على جملة وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ وما بعدها في الآيتين [42 و 43] وما يتصل بذلك من صور وملابسات والمتبادر أن جملة إِحْدَى الْأُمَمِ في الآية الأولى هم اليهود والنصارى

على ما تلهمه آيات سورة الأنعام هذه وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا «1» إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157) . ويفهم من الآية الأولى من آيتي فاطر اللتين نحن في صددهما أن العرب أو الفريق المستنير منهم مكانوا يرون ما عليه اليهود والنصارى من خلاف ونزاع وتشادّ وتكذيب بعض لبعض بل وقتال، فيعجبون من ذلك ويقسمون بأنهم لو جاءهم نذير أو بعث فيهم نبي مثل ما جاء هؤلاء لاتبعوه واهتدوا بهداه وغدوا أهدى من أي منهما. وفي القرآن آيات عديدة تحكي واقع خلاف الطوائف اليهودية والنصرانية وتشادّها وقتالها قبل البعثة الإسلامية وفي أثنائها. من ذلك آية سورة البقرة هذه وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وآية سورة البقرة هذه تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253) ومنها آية آل عمران هذه: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) ومنها آيات سورة المائدة هذه: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُ

_ (1) لئلا تقولوا.

الْمُحْسِنِينَ «1» (13) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14) . وليس من ريب في أن العرب أو فريقا منهم من أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره وفي ظرف بعثته كانوا يعرفون ما حكته الآيات عن حالة اليهود والنصارى. لأنهم كانوا على صلة وثيقة بهم من حيث كان منهم جماعات في مكة والمدينة. وكانوا يلتقون بكثير منهم أيضا في بلاد الشام والعراق ومصر واليمن التي كانوا يصلون إليها في رحلاتهم الصيفية والشتوية. وأن ذلك كان يثير في أنفسهم العجب. وهذا ما يفسره ما حكته آيات الأنعام التي أوردناها آنفا والتي تتضمن ما كان من اعتذارهم من أن الكتب السماوية المنزلة على طائفتين من قبلهم أي اليهود والنصارى كانت بلغة غير لغتهم، فلم يتسن لهم دراستها. ومن أنهم لو أنزل عليهم كتاب بلغتهم لكانوا أهدى منهم. وما حكته آية فاطر التي نحن في صددها من حلفهم الأيمان المؤكدة بأنهم لو جاءهم نذير منهم ليكونن أهدى منهم بأسلوب فيه معنى التعجب والانتقاد. وواضح أن هذا يدل على أن فريقا من مستكبري العرب قد وصلوا إلى طور شعروا فيه بأن ما عليه العرب من عقائد وتقاليد دينية باطل وضلال فأنفوا منها ونزّهوا أنفسهم عنها، وأنفوا من النصرانية واليهودية لما كان عليه أهلهما من نزاع وخلاف وتهاتر وقتال وشيع وأحزاب، فأدّاهم ذلك إلى ما حكته الآيات عنهم. وهناك روايات عديدة تذكر أسماء عدد غير يسير من هؤلاء المستنيرين وأنفتهم من عقائد وتقاليد قومهم وانصرافهم عنها، وتنصّر بعضهم وتهوّد بعضهم وأنفة بعضهم عن التهود والتنصر أيضا، وبحثهم عن ملة إبراهيم الحنيفية التوحيدية الخالصة وادعاء بعضهم أنهم عليها «2» . كما أن هناك روايات تفيد أن اليهود كانوا

_ (1) هذه الآية في حق اليهود كما تدل عليه الآية التي قبلها. (2) انظر كتابنا عصر النبي عليه السلام وبيئته قبل البعثة ص 396- 434. [.....]

يذكرون للعرب أن نبيا عربيا سيبعث وكتابا عربيا سينزل وأنهم سيكونون حزبه «1» ، مما انطوى على ذلك قرينة قوية في آية سورة البقرة هذه وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) وهذه وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) «2» بل ومما انطوى على ذلك قرينة قوية في آية سورة الأعراف هذه الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) التي يمكن أن تلهم أن اليهود والنصارى معا في الحجاز ومكة كانوا يتحدثون عن نبي عربي أمّيّ يبعث، ويذكرون صفاته التي يجدونها في التوراة والإنجيل، فكان العرب أو الفريق المستنير منهم ينتظرون تحقق ذلك ويقسمون بأنهم سيكونون حينئذ أهدى به من النصارى واليهود. والآيات التي تذكر إيمان من آمن من اليهود والنصارى وفرحهم بما نزل من القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم وشهادتهم بأنه منزل بالحق من الله تعالى وكونهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، والتي أوردناها في سياق تفسير آية سورة الأعراف المذكورة آنفا مما يدعم ذلك. وبذلك كله استحكمت حجة آيات سورتي فاطر والأنعام الدامغة القوية على كفار العرب وبخاصة الفريق المستنير الذي كان يقود حركة الصدّ والمناوأة للنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته لأن ما كانوا ينتظرونه ويتمنونه قد تحقق، وحقّ عليهم التنديد القوي الذي احتوته لأنهم نكثوا أيمانهم وخالفوا أقوالهم ووقفوا مواقف الظلم والبغي.

_ (1) المصدر السابق نفسه. (2) انظر تفسير الآيتين أيضا في الطبري وابن كثير ورشيد رضا وغيرهم حيث روى المفسرون في سياقهما روايات تطابق ما ذكرناه.

سبب وقوف زعماء قريش موقف المعاداة والتكذيب، مع أنهم كانوا يتمنون بعثة نبي منهم بكتاب بلغتهم

سبب وقوف زعماء قريش موقف المعاداة والتكذيب، مع أنهم كانوا يتمنون بعثة نبي منهم بكتاب بلغتهم والآية الثانية من آيتي سورة فاطر التي نحن في صددها تتضمن السبب الذي حدا إلى نكث من نكث أيمانه من هذا الفريق، حينما تحقق ما انتظروا وبعث النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب عربي مبين وهو الاستكبار عن شخص النبي صلى الله عليه وسلم المبعوث فيهم الذي أداهم إلى الوقوف منه موقف التصامم والمناوأة والكيد والبغي والمكر السيء. والمتبادر أنهم من طبقة الزعماء والأغنياء، وفي ذلك الظرف قلّ أن ينبه نابه من غير هذه الطبقة، فأنفوا أن يتبعوا النبي الذي لم يكن من طبقتهم. ولعل منهم من حسد النبي صلى الله عليه وسلم لاختصاصه دونهم بالرسالة، فأعمى الهوى بصيرته، وكان مثله كمثل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين، على ما جاء في آية سورة الأعراف [175] التي روى المفسرون في سياقها اسمين من أسماء نابهي العرب الذين كبر عليهم اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم من دونهم، وهما أمية بن الصلت وأبو عامر الراهب على ما شرحناه في سياق الآية المذكورة. وفي آيات سورة ص هذه وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) . وفي سورة الزخرف آية من هذا الباب فيها صراحة أكثر بالنسبة للموضوع وهي هذه وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أي أنهم استغربوا واستكبروا أن يكون النبي الذي ينزل عليه القرآن محمدا صلى الله عليه وسلم الذي لم يكن معدودا من طبقة الزعماء، وقالوا كان ينبغي أن ينزل القرآن على عظيم من عظام مكة أو الطائف. ولقد كان بنو أمية أكثر بروزا من بني هاشم في مكة وكانت لهم قيادة الحرب فحسبوا حساب استعلاء بني هاشم عليهم إذا نجحت دعوة النبي الهاشمي فحفزهم ذلك إلى مناوأته. ولقد أثر عن عمرو بن هشام المخزومي الذي يكنى في الإسلام

بأبي جهل أن مثل هذا الحساب هو الذي جعله يقف موقف العداء والمناوأة الشديد الذي وقفه «1» . فكل هذا يفسر ما كثرت حكايته في القرآن من مواقف العناد والجدل والمكابرة والتأليب والتكذيب والتحدي والأذى والتهم الباطلة التي وقفها الزعماء والنبهاء الذين لم يكونوا أو لم يكن أكثرهم أغبياء وضعفاء الإدراك على ما تلهمه نصوص القرآن «2» ، وما كثرت حكايته كذلك من الحملات الشديدة التي نزلت فيهم مما لا تكاد تخلو منه سورة مكية، ومما مرّ منه أمثلة كثيرة في السور السابقة، وأوردنا منه كثيرا من سور أخرى في سياق تفسير هذه السور، فنكتفي بذلك دون إيراد نصوص أخرى لأن الأمثلة مبثوثة في مختلف السور القرآنية وبنوع خاص في المكية منها. وفي القرآن إلى هذا آيات تذكر ما كان من أثر تأليب الزعماء للسواد الأعظم ضد النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته حتى جعلوهم ينقبضون عنه مما كان من أسباب حكاية تلك المواقف والحملات. من ذلك آيات سورة سبأ هذه وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33) وآيات سورة الأحزاب هذه يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا

_ (1) روى ابن كثير في سياق تفسير الآيات [33- 36] من سورة الأنعام أن أبا جهل قال: «تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا. وأعطوا فأعطينا. حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منّا نبي يأتيه الوحي من السماء. فمتى ندرك هذا. والله لا نؤمن به ولا نصدقه» . (2) اقرأ الباب الثالث في حياة العرب العقلية في كتابنا عصر النبي عليه السلام وبيئته قبل البعثة ص 237- 316 .

تعليق على ما حكاه القرآن من استعجال المشركين العذاب الموعود

الرَّسُولَا (66) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) . ولقد كانت هذه المواقف الاستكبارية الناكثة الماكرة المؤذية المعجزة المتحدية المكابرة مما يحزّ في نفس النبي صلى الله عليه وسلم ويثير فيه الألم والحسرات فاقتضت حكمة التنزيل أن تتوالى الآيات التي تضمنت تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتطمينه والتهوين عليه مما مرّ منه أمثله كثيرة في هذه السورة وما قبلها. تعليق على ما حكاه القرآن من استعجال المشركين العذاب الموعود وممّا تلهمه الآية الثانية التي نحن في صددها أي الآية [43] من سورة فاطر أن المشركين كانوا يتحدون النبي صلى الله عليه وسلم بإنزال العذاب وتعجيله عليهم بأسلوب المستهر الساخر. فأكدت الآية لهم عدم تبدل سنة الله التي خلت في من قبلهم توكيد يتضمن الإنذار. والآيتان التاليتان تتضمنان تدعيما لهذا التوكيد مما ينطوي فيه صحة الاستلهام. واستعجال الكفار العذاب الموعود بالأسلوب الساخر الجاحد قد حكي عنهم في آيات كثيرة منها آيات الأنبياء هذه وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) ومنها آية سورة الحج هذه وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) ومنها آيات سورة العنكبوت هذه وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) . تلقين الآيات المستمر ضد المتكبرين عن الحق الماكرين بدعاته هذا، ومع خصوصية الموقف وزمنه فإن ما في الآيات من تنديد بالذين يستكبرون على ما يعلمون أنه الحق ويكابرون فيه ويصدون عنه وينكثون بعهدهم

[سورة فاطر (35) : الآيات 44 إلى 45]

في صدده بباعث الحسد والكبر وقصد المكر والكيد يمكن أن يكون تلقينا مستمر المدى ضد هذه الأخلاق وضد المتصفين بها كما هو المتبادر. [سورة فاطر (35) : الآيات 44 الى 45] أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45) تساءلت الآية الأولى عما إذا كان الكفار لم يطوفوا في الأرض ولم يروا آثار عذاب الله في مساكن الأقوام السابقة، ثم قررت أن أولئك الأقوام كانوا مع ذلك أشد قوة من هؤلاء الكفار فما أعجزوا الله لأنه لا يمكن أن يعجزه شيء في السموات والأرض، وهو العليم المحيط بكل شيء والقادر على كل شيء. أما الآية الثانية فقد قررت سنة من سنن الله تعالى وحكمة من حكمه. فلو أن الله تعالى آخذ الناس بكل شيء كسبوه واجترحوه مؤاخذة عاجلة لما بقي على ظهر الأرض من يدبّ عليها لأن الناس مقصّرون دائما عن القيام بواجباتهم نحوه ولا يفتأون يجترحون ما يستوجب المؤاخذة والعذاب. ولكن الله يمهلهم إلى الآجال المعينة في علمه، فإذا ما جاءت أنزل بهم ما يستحقون، وهو البصير بكل ما يستحقون، لأنه المطلع على كل أمر من أمور عباده. وصلة الآيتين بالسياق وبخاصة بالآيتين السابقتين لهما مباشرة واضحة. وفيهما توكيد وتدعيم لما احتوته الآية السابقة لهما مباشرة على ما نبهنا عليه. والمتبادر أن السؤال الذي بدأت به الآية الأولى استنكاري، وروح الآية تلهم أن المشركين قد طوفوا في مختلف البلاد، ورأوا آثار الأمم السابقة أو بعضها، وعرفوا أن ما حلّ بها كان عذابا ربانيّا بسبب انحرافاتهم وآثامهم وتكذيبهم لرسلهم. وبذلك تستحكم الحجة عليهم. وفي القرآن آيات عديدة تدل على ذلك

حكمة الله المنطوية في جملة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى وتلقينها

منها آية سورة الفرقان هذه وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40) وآية سورة العنكبوت هذه وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) . حكمة الله المنطوية في جملة وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وتلقينها ولعل مما انطوى في جملة وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى تقرير أن حكمة الله تعالى اقتضت اختبار الناس ومنحهم الفرص التي يختارون فيها ما تدفعهم إليه قابلياتهم ومواهبهم ومداركهم المودعة فيهم من طريق وعمل، وعدم التعجيل في مؤاخذتهم لتكون لهم كذلك الفرصة للصلاح والإصلاح. والآية [37] من السورة احتوت تأييدا لهذا المعنى حيث خاطب الله تعالى الظالمين الذين حكت الآية ما سوف يطلبونه من العودة لإصلاح حالهم بأنهم قد أعطوا الفرصة الكافية، وعمروا العمر الذي يمكن أن يتذكر فيه من أراد أن يتذكر ورغب في الحق والهدى. وفي هذا ما فيه من تدعيم لفكرة كون الصلاح والإصلاح من المبادئ القرآنية المحكمة التي شغلت جزءا مهمّا في القرآن. وقد شرحنا ذلك أيضا في نبذة فكرة التوبة في الإسلام في سياق تفسير سورة البروج.

سورة مريم

سورة مريم في السورة تذكير بمعجزة الله تعالى في ولادة يحيى استطرادا إلى ذكر معجزة ولادة عيسى عليهما السلام، وتسفيه القول ببنوته لله. واستطرادا إلى ذكر بعض الأنبياء والتنويه بهم والدعوة إلى التأسي بهم. وفيها فصول احتوت مواقف وأقوالا للكفار وحملة عليهم وعلى عقائدهم وإنذارا لهم وبيانا لمصيرهم ومصير المؤمنين المتقين بالمقابلة. ويبدو أن السورة قسمان. الأول إلى آخر سلسلة الأنبياء، والثاني من هنا إلى آخر السورة. وكلا القسمين متوازن ومقفى إجمالا مع اختلاف في القافية. وبينهما كذلك شيء من الترابط، وهذا من جهة، ونظم فصول السورة عامة من جهة أخرى يدلان على أنها نزلت متلاحقة حتى تمّت دون فصل. وقد روي أن الآيتين [58 و 71] مدنيتان. واتصالهما بالسياق سبكا وموضوعا يسوّغ الشك في الرواية. وفي السورة آيتان تبدوان معترضتين وتحتويان صورة من صور التنزيل القرآني وهما [64، 65] . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة مريم (19) : الآيات 1 الى 15] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)

(1) ذكر رحمة ربك عبده زكريا: ذكر هنا بمعنى خبر أو بمعنى تذكير. وتأويل الآية هو خبر أو تذكير بما كان من رحمة الله لعبده زكريا. و (عبده) منصوب برحمة التي هي مصدر. (2) نداء خفيّا: دعا ربه سرّا وخفية عن الناس أو في سرّه. (3) وهن العظم: ضعف ورقّ من الكبر. (4) اشتعل الرأس شيبا: كناية عن كثرة الشيب. والاشتعال في الأصل انتشار شعاع النار. (5) لم أكن بدعائك ربّ شقيّا: لم يخب دعائي لك أو لم يكن لي به شقاء وحرمان. (6) الموالي: هنا بمعنى الورثة. وروح الآية تلهم أن المقصود هنا الورثة الذين من غير صلب زكريا وعصبته. (7) عاقر: عقيم. (8) رضيّا: مرضيّا عنه أو رضيّ الخلق. (9) يحيى: تعريب لاسم يوحنا الذي ذكرت أسفار العهد القديم أنه ابن زكريا. والراجح أن تعريب الاسم سابق لنزول القرآن.

تعليق على قصة ولادة يحيى عليه السلام

(10) لم نجعل له من قبل سميّا: لم يسبق أن سمّي أحد بمثل اسمه. (11) عتيّا: حدّا بعيدا. وأصل الكلمة بمعنى اليبس والجفاف والنحول. (12) آية: هنا بمعنى علامة يعلم بها حمل امرأته. (13) ألّا تكلم الناس: أن ينحبس الكلام عنك فلا تستطيعه. (14) المحراب: مكان العبادة. وقد سبق ذكره في سورة ص. (15) أوحى: هنا بمعنى أشار أو أوعز بدون كلام. (16) الحكم: الفهم والحكمة أو النبوة. (17) وحنانا من لدنّا وزكاة: وجعلناه رحمة وتزكية لزكريا أو آتيناه الحنان والرحمة والطهارة. (18) برّا: بارّا. (19) جبارا: طاغيا قاسيا. بدئت السورة بأحرف خمسة متقطعة. وتعددت الأقوال فيها منها أنها رموز لأسماء الله تعالى، وقسم رباني بالأسماء التي ترمز إليها، ومنها أنها للاسترعاء والتنبيه. وهذا ما نرجحه. وقد يكون تعدد الحروف بقصد التنبيه إلى خطورة الموضوع. ومطلع السورة من المطالع القليلة التي بدأت بحروف متقطعة ولم يعقبها ذكر القرآن والكتاب. والسلسلة التي أعقبت الحروف الخمسة احتوت قصة ولادة يحيى بن زكريا عليهما السلام والمعجزة الربانية في هذه الولادة. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر حينما يستعان بمعاني المفردات والجمل التي قدمناها. وقد تضمنت تنويها بزكريا وبيحيى عليهما السلام وما كان لهما عند الله تعالى من شأن وما نالاه من عنايته وتكريمه، كما تضمنت التنويه بالمعجزة الربانية في ولادة يحيى من أب هرم وأم عاقر. تعليق على قصة ولادة يحيى عليه السلام وبما أن هذه القصة أعقبت بقصة ولادة المسيح عليه السلام الخارقة، كما أن روح الآيات التالية تلهم أن ولادة المسيح هي المقصودة بالذات لتفنيد مزاعم

[سورة مريم (19) : الآيات 16 إلى 36]

النصارى بأبوّة الله عز وجل للمسيح، وتقرير كون ولادته ليست إلّا معجزة ربانية فإنه يصح أن يقال إن ذكر قصة ولادة يحيى قبل قصة ولادة المسيح عليهما السلام هو من قبيل التمهيد والتدليل على أن ولادة المسيح قد سبقت بمعجزة ربانية من نوعها تقريبا، فلا يصح أن ينبني عليها ما قامت عليه العقيدة النصرانية بأبوّة الله للمسيح أو بنوّة المسيح لله بالمعنى الحرفي للأبوة أو البنوّة. والإعجاز الرباني في ولادة يحيى كان معروفا ومسلّما به من قبل النصارى واليهود. وقد ورد بتفصيل مطابق لما ورد في السلسلة في إنجيل لوقا (الإصحاح الأول) كما ورد في الإصحاح نفسه أن ملاك الله ذكّر به مريم حينما بشرها بحلول روح القدس عليها والحبل بعيسى عليه السلام لأنها قالت له: كيف أحبل وأنا لا أعرف رجلا؟ فقال لها: إن إليصابات نسيبتك وزوجة زكريا حبلت أيضا بابن في شيخوختها مع أنها كانت عاقرا وأنه ليس أمر غير ممكن لدى الله. وهكذا جاء التمهيد القرآني محكما ومفحما للنصارى الذين هم موضوع الحديث في ولادة عيسى عليه السلام الوارد في الآيات التالية. ولقد ذكرت ولادة يحيى الإعجازية مرتين أخريين في القرآن. مرة في سورة الأنبياء المكية الآيات [88- 91] . ومرة في سورة آل عمران المدنية الآيات [32- 51] . وكان خبر الحبل بعيسى وولادته الإعجازية يذكر بعد كل من المرتين مثل ما هو في هذه السورة. [سورة مريم (19) : الآيات 16 الى 36] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)

(1) انتبذت من أهلها: انفردت أو انعزلت عن مكان أهلها. (2) اتخذت من دونهم حجابا: احتجبت عنهم وتورات بقصد الاعتكاف والتعبد. (3) إن كنت تقيّا: إن كنت ممن يتقون الله. (4) زكيّا: طاهرا، وقال ابن عباس أريد بالكلمة نبيّا. (5) بغيّا: مومسا. (6) وكان أمرا مقضيا: تمّ أمر الله. (7) قصيّا: بعيدا. (8) أجاءها المخاض: ألجأتها أو اضطرتها أوجاع المخاض. (9) سريّا: قيل هو جدول الماء الساري الجاري. وقيل هو الشريف الرفيع،

والمعنى الأول متسق مع ذكر النخلة والرطب والأكل والشرب في الآية التالية حيث تريد الآيات أن تشير إلى معجزة أكرم الله بها مريم وابنها، فأحيا النخلة فحملت رطبا، وأجرى الماء عندها لتأكل وتشرب. (10) تساقط: تتساقط. (11) رطبا جنيّا: تمرا مجنيا صالحا للأكل. (12) نذرت: أوجبت على نفسي. (13) صوما: هنا بمعنى صمتا أو إمساكا عن الكلام والصوم في اللغة هو الامتناع والكفّ عن الشيء. (14) فريّا: شيئا عجيبا وبدعا ومختلقا. (15) يا أخت هرون: كناية عمّا كانت تعرف به مريم من التقوى وتشبيها لها بهارون أخي موسى عليهما السلام الذي كان رئيس كهنة الله. (16) يمترون: يشكون أو يجادلون. في هذه الآيات أمر رباني للنبي صلى الله عليه وسلم بذكر قصة مريم وولادة عيسى عليهما السلام. وعبارتها واضحة حينما يستعان عليها بشرح المفردات المتقدم، ولا تحتاج إلى أداء بياني آخر. وهي معطوفة على سابقاتها حيث يصح أن يقال إنها سلسلة متصلة. وقد احتوت الآيات [34- 36] التي جاءت عقب آيات القصة تقريرا تعقيبيا بأن ما جاء في القصة هو الحق والحقيقة في ولادة عيسى عليه السلام، وشخصيته التي يتمارى الناس فيها ويتجادلون، وبأن الله تعالى منزه عن اتخاذ الأولاد لأن ذلك غير لائق بعظمته وصفة ربوبيته، وبأن قدرته كافية لحصول كل ما يريد بمجرد أن تتعلق إرادته به. وقد وجّه الخطاب في الآية الأخيرة منها إلى مخاطبين سامعين أو قريبين هاتفة بهم بأن الله تعالى هو ربّ الجميع وأن عليهم أن يعبدوه وحده لأن ذلك هو الحق الذي يجب أن يتبعوه والصراط المستقيم الذي يجب أن يسيروا عليه.

تعليق على قصة ولادة عيسى وأهدافها

ولقد قال أكثر المفسرين «1» إن الآية الأخيرة أي الآية [36] استمرار لحكاية كلام عيسى عليه السلام. وهذا محتمل قياسا على مثل ذلك محكي عنه في آيات أخرى مثل آية سورة المائدة هذه لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) ومثل آيات سورة الزخرف هذه وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) ومع ذلك فمن المحتمل أن تكون الآية خطابا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتوجيهه للسامعين أيضا تعقيبا على قصة مريم وعيسى عليهما والسلام التي أمر بذكرها لهم. وقد ذكر هذا الاحتمال بعض المفسرين أيضا «2» . تعليق على قصة ولادة عيسى وأهدافها ولم نطلع على رواية تذكر سبب نزول هذه الآيات ولا التي قبلها. غير أن بدءها بالأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بذكر مريم وقصة ولادة عيسى عليهما السلام، واحتواء الآية [35] ما يدل على أن قصد إيراد القصة هو تقرير الحق فيما يمتري الناس السامعون فيه، يمكن أن يكون قرينة أو دليلا على نزول الآيات في مناسبة موقف جدلي واقعي بين النبي صلى الله عليه وسلم والعرب، أو بينه وبين النصارى، أو في مجلس كان فيه فريق من هؤلاء وفريق من هؤلاء، أو بناء على سؤال ورد على النبي صلى الله عليه وسلم عن حقيقة أمر عيسى عليه السلام وولادته، وأن حكمة التنزيل اقتضت ذكر قصة ولادة يحيى عليه السلام كتمهيد أو مقدمة تدعيمية. وقد تكرر مثل هذا ولنفس القصد ونفس التدعيم في فصل طويل جاء في سورة آل عمران الآيات [33- 68]

_ (1) انظر تفسيرها في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والكشاف مثلا. (2) انظر تفسير الآية في مجمع البيان للطبرسي.

روى المفسرون «1» أنه نزل في مناسبة مجلس مناظرة انعقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ووفد من نصارى نجران بعد الهجرة، مما يمكن أن يستأنس به بأن مثل هذا المجلس قد انعقد بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين فريق من النصارى في مكة وأن فصل سورة مريم الذي نحن في صدده قد نزل في صدد ذلك. فآيات سورة مريم وروحها والآيات العديدة الواردة في السور الأخرى في شأن عيسى وولادته وعقيدة النصارى فيه، وموقف العرب من ذلك، تدل على أن عيسى عليه السلام وشخصيته كانا موضع جدل ونقاش وأخذ ورد قبل نزول الآيات. فالعرب كانوا أو كان منهم من ينقدون اختلاف الكتابيين ونزاعهم ويقطعون على أنفسهم العهد أن يكونوا أهدى منهم لو جاءهم نذير، ونزل بلغتهم كتاب على ما حكته آيات سورة فاطر التي سبقت هذه السورة مباشرة. وكانوا أو كان منهم من يرون أن عقيدة النصارى في المسيح قائمة على منطق غير سليم كما حكت ذلك آيات سورة الزخرف هذه: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) واليهود كانوا يرمون مريم بالبهتان ويكفرون بعيسى وينعتونه بالكذب والسحر مما أشارت إليه بعض آيات القرآن مثل آيات سورة النساء هذه: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) ومثله آية سورة المائدة هذه: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ

_ (1) انظر تفسير هذه الآيات في تفسير ابن كثير مثلا.

وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) . وكان النصارى فرقا اشتد بينها الخلاف منهم من كان يعتقد أن عيسى ابن الله، أو أنه أحد أقانيم الله الثلاثة، أو أنه هو الله كما حكت آية سورة النساء هذه يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) ، وآية سورة المائدة هذه لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) ، وآية سورة المائدة أيضا هذه لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) . ومنهم من كان يعتقد أن المسيح ذو طبيعتين أو مشيئتين لاهوتية وناسوتية، وأن طبيعته اللاهوتية مساوية لطبيعة الأب الإله وهو والحالة هذه في زعمهم إله كامل وإنسان كامل. وأنه جاء إلى الدنيا بصفته الثانية. وأن ما كان من مقتضيات إنسانيته من ولادة وحياة وأكل وشرب وموت غير متناف مع صفته الأولى. ومنهم من كان يعتقد أن الطبيعتين اللاهوتية والناسوتية امتزجتا فيه فصار ذا طبيعة واحدة، وليس هو متساويا مع الله مساواة كاملة. ومنهم من لم يكن يعتقد أنه ابن الله وإنما هو بشر حلّ فيه روح الله أو روح القدس فغدا بذلك هيكل الله. وإن مريم إنما حبلت ببشر ولا يجوز أن تسمّى أم الله. ومنهم من كان يعتقد أنه إنسان ولد ولادة طبيعية من مريم ويوسف النجار وكان نبيا. ومنهم من كان يعتقد أنه إنسان ولد بمعجزة من مريم العذراء وكان نبيا وأنه كان يبشر بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأنه لم يصلب ولم يقتل ولكن شبّه به،

وهذا ما أشارت إليه بعض آيات القرآن أيضا مثل آية سورة الصف هذه وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ... [6] ، وآية سورة النساء هذه وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ... [157] ومنهم من كان يرفع مريم إلى درجة الألوهية مما أشارت إليه آيات سورة المائدة هذه وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) «1» فأنزل الله الآيات بمناسبة مجلس جدل أو استفسار في شأن المسيح لتضع الأمور في نصابها. فولادة عيسى عليه السلام تمّت بمعجزة وقد سبقت بمعجزة ربانية مقاربة وهي ولادة يحيى عليه السلام من أب هرم وأم عاقر. واليهود والنصارى يعرفون ذلك فلا يقتضي هذا أن يكون عيسى إلها أو جزءا من الإله أو ابنا لله دون يحيى، ولا أن ترمى مريم بالبهتان ولا أن ترفع إلى درجة اللاهوتية. وعيسى والحالة هذه عبد من عباد الله الصالحين ونبي من أنبيائه أرسله الله ليدعو إليه وحده ويحثّ على مكارم الأخلاق ويحذر من سيئاتها. وله من أجل ذلك حقّ التكريم ولأمّه حقّ التنزيه في نطاق عبوديتهما لله. وبهذا تهيىء الآيات الطريق أمام غلاة النصارى للرجوع عن غلوّهم وتفتح الباب لهم وللذين تتقارب عقيدتهم إلى هذه التقريرات ليدخلوا منه إلى الإسلام ويتخلصوا مما هم فيه من شكوك وخلاف ونزاع. وتسدّ على كفار العرب طريق

_ (1) في إنجيل برنابا نصوص كثيرة جدا تتطابق مع ما جاء في القرآن وفي تاريخ سورية للمطران الدبس المجلد 3 والجزء 2 ص 556- 635 والمجلد 4 الجزء 2 ص 80- 90 و 230- 239 و 261- 274 و 376- 416 و 526- 528 نبذ كثيرة عن المقالات التي ظهرت في صدد المسيح وأصحابها منذ القرن الأول إلى القرن السادس الميلادي، احتوت المذاهب التي أشرنا إليها. انظر أيضا رسالة (الشهداء الحميريون) في الوثائق السريانية نشر بطرك السريان في سورية سنة 1966 حيث جاء فيها إشارات إلى معظم هذه الصور عن المسيح وأمه، مما كان يعتقده طوائف النصارى المختلفة قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.

الاحتجاج والمماحكة، وتلزم اليهود حدّهم فيما كانوا يرسلونه من مطاعن شنيعة في عيسى وأمه عليهما السلام. ويلفت النظر إلى أن الآيات لم تكتف بوضع الأمور في نصابها الحقّ، وهي تقرر ما تقرره، بل اشتملت على تعقيب تدعيمي في الدعوة إلى الله وحده التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم للدعوة إليها سواء أفي الآية الأخيرة من السلسلة أم في ما تلاها من الآيات على ما يأتي شرحه. وهكذا يتسق هدف هذه القصة مع هدف القصص القرآني العام كما هو واضح. ومن الجدير بالذكر أنه بالإضافة إلى التقارب والتطابق بين ما جاء في القرآن وما جاء في إنجيل لوقا من قصة البشارة بيحيى وعيسى ومعجزة ولادتهما على ما أوردناه قبل قليل فإن في هذا الإنجيل والأناجيل الثلاثة الأخرى المتداولة اليوم والمعترف بها من النصارى، والتي كتبت لتكون ترجمة لحياة عيسى عليه السلام، واحتوت أقوالا وأفعالا كثيرة منسوبة إليه، ونصوصا كثيرة جدا متطابقة متقاربة لما حكي عن لسان عيسى عليه السلام، وأفعالا كثيرة منسوبة إليه ونصوصا تتطابق بصراحة لما حكى القرآن عن لسانه. ومن ذلك قوله أن الله هو الذي أرسله وأنه لا يستطيع أن يقول ويفعل شيئا إلا بأمره وأنه ابن البشر وأن الله ربّ السموات والأرض وأنه كان يصلي الله وحده ويأمر الناس أن يصلوا له وحده، ويقدسوه وحده ويطلبوا منه الغفران وحده وأنه كان يقول إن من يؤمن به فإنه في الحقيقة يؤمن بالذي أرسله. وهذا بالإضافة إلى نصوص كثيرة جدا لا تخرج عن مدى ذلك، ومن ذلك ما كان يوجهه إلى الله من نداءات وأدعية واستغاثات إلخ مما يلهم بأن الذين كانوا لا يعتقدون بألوهية المسيح أو ببنوّته لله أو بجزئيته منه أو الذين يعتقدون بناسوتيته أو ببنوّته على ما ذكرناه قبل، إنما كانوا يستندون إلى هذه الأقوال. ومما يجعل فكرة اختصاص المسيح ببنوّة الله أو ما في نطاقها أو في ألوهيته وربوبيته أو جزئيته الإلهية غير قائمة على أساس وثيق. وفي كل هذا ما فيه من إلزام، ومن إبراز كون الغلوّ في أمر عيسى عليه السلام ليس في الكتب المتداولة وإنما في عدم تأويلها تأويلا سليما، وعدم فهمها فهما صحيحا.

نقول هذا ونحن نعرف أن النصارى منذ أن استقرت عقائدهم الحاضرة في المسيح نتيجة لقرارات مجمعية متعاقبة أخذت تنعقد منذ القرن الرابع بعد الميلاد بسبب ما كان من خلاف شديد بين رجال الدين النصراني يؤولون الأقوال المروية عن لسان عيسى عليه السلام مما ذكرناه وما لم نذكره تأويلات متّسقة مع عقائدهم. ولكن التمعن والإنصاف لا يمكن إلا أن يجعل للمدى المستلهم من أقوال عيسى عليه السلام صحته ووجاهته. وإلى هذا فإن في كتب التاريخ المسيحية القديمة ما يفيد أنه كان في أيدي النصارى الأولين الذين كانوا يعتقدون بعقائد متفقة مع هذا المدى أناجيل يستندون إليها أبيدت. وأنهم كانوا يصفون الأناجيل الأخرى بالتحريف والتزوير «1» . وأنه كان في هذه الأناجيل صراحة وتطابق أكثر مع ما جاء القرآن. والدليل القطعي على ذلك ما حكته بعض آيات القرآن المكية والمدنية من إيمان أهل الكتاب وأهل العلم والنصارى ومنهم قسيسون ورهبان بنبوة النبي ورسالته وصدق القرآن وكونه منزلا من الله عز وجل مما أوردناه في سياق تفسير آية سورة الأعراف [157] . وقد جاء في بعضها أنهم آمنوا لأنهم سمعوا من النبي ما عرفوا أنه الحق. ولقد كانت محتويات الأناجيل التي كان النصارى يتداولونها في عصر النبي وما قبله معروفة لدى السامعين العرب أو نبهائهم على الأقل، لأنه كان في مكة جاليات كتابية ونصرانية تتداولها، كما كان الذين يقومون بالرحلات الصيفية والشتوية يتصلون بالكتابيين والنصارى في الأقطار التي كانت النصرانية سائدة فيها مثل بلاد الشام ومصر والعراق واليمن فيعرفونها عن طريقهم أيضا. وهكذا يتسق أسلوب القصة القرآنية مع أسلوب القرآن العام في إيراد ما هو معروف من الأحداث لتكون الحجة أقوى وألزم. وهذا في فصل سورة مريم الذي نحن في صدده أشد قوة حيث تهيب الآيات التعقيبية الأخيرة بالسامعين إلى وجوب

_ (1) انظر المجلد 4 الجزء 2 من كتاب تاريخ سورية للمطران الدبس.

تفهم ما هو معروف ومدون تفهما صحيحا وتأويله تأويلا سليما وتنبههم إلى أن ذلك هو الطريق المستقيم إلى الحق والحقيقة. ومعجزة كلام عيسى عليه السلام في طفولته المبكرة لم ترد في الأناجيل الأربعة المعترف بها. غير أننا نعتقد أنها كانت متداولة مأثورة عند النصارى أو واردة في بعض الأناجيل والقراطيس وغير مجهولة عند العرب أيضا. وليست الأناجيل الأربعة هي كل الأناجيل على ما نبهنا عليه في سياق شرح آية الأعراف [157] . وقد ذكر بعض الباحثين أنها واردة في بعض الأناجيل «1» . والقرآن كان يتلى علنا ويسمعه النصارى ومنهم من آمن فلا يمكن أن يكون ما جاء فيه إلا واقعا حقا عندهم أيضا. وهذا ما يصح أن يقال فيما يمكن أن يكون من خلاف بين ما ذكره القرآن في سياق ولادة عيسى وبين ما هو وارد في الأناجيل المتداولة. ومن ذلك أقوال المسيح لأمه عقب ولادته، وأقواله لبني إسرائيل حينما حملته أمه وقدمت به عليهم، وأقوالهم لها إلخ. ولقد أورد المفسرون بيانات وشروحا في سياق هذه الآيات عن ظروف ولادة عيسى عليه السلام ونشأته وكلامه معزوة إلى علماء السير والأخبار، منها ما هو مطابق لما ورد في الأناجيل المتداولة، ومنها ما ليس متطابقا. وليس في إيرادها طائل في صدد القصة وأهدافها «2» . وفيها قسط غير يسير من التزيّه والتخمين. غير أنها تدل على كثرة ما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره وبعده حول هذه القصة.

_ (1) ذكر ذلك فيليب حتّي في كتابه مختصر تاريخ العرب المترجم الى العربية ص 95 وذكره أيضا طاهر التنير في كتابه العقائد الوثنية في الديانة النصرانية ص 141. ومما ذكره هذا اسم إنجيلين هما إنجيل الطفولة وإنجيل ولادة يسوع. وقال إنهما ذكرا خبر كلام عيسى حين ولادته. (2) انظر تفسير الآيات وتفسير مثيلتها في سورة آل عمران في تفسير ابن كثير والطبري والطبرسي والخازن والمنار مثلا.

ولقد احتوى القرآن آيات عديدة مكية ومدنية نوهت بالذين أوتوا العلم والكتاب، وبتصديقهم بالنبي صلى الله عليه وسلم والقرآن واعتناقهم والإسلام وإعلانهم انطباق ما جاء في القرآن على ما عرفوا من الحق أوردناها في سياق تفسير آية سورة الأعراف [157] . وهذا يسوغ القول إن النصارى الذين كانوا في مكة وفي المدينة أو الذين وفدوا على مكة والمدينة من أنحاء أخرى ليستطلعوا خبر النبي صلى الله عليه وسلم ويستمعوا منه ويناظروه قد وجدوا في ما قرره القرآن عن شخصية عيسى عليه السلام تفسيرا معقولا صحيحا متطابقا لما كانوا عليه أو مقاربا، ومنقذا لهم مما هم فيه من بلبلة وخلاف وتشاد، فكان ذلك سببا في استجابتهم للدعوة باندفاع وفرح وخشوع، وتأييدهم لها على ما جاء في الآيات القرآنية. بل إن فيما قيده التاريخ من مسارعة كثير من النصارى في بلاد الشام والعراق ومصر في أدوار الفتح الإسلامي الأولى إلى اعتناق الإسلام عن طيبة خاطر، واستمرار ذلك بدون انقطاع عبر قرون التاريخ الإسلامي، ما يمكن أن يكون قرينة على هذا أيضا. والثابت تاريخا أن غالبية نصارى بلاد الشام ومصر والعراق من اليعقوبيين والنسطوريين الذين كانوا يعتقدون بأن المسيح ذو طبيعة واحدة مزيجة من الناسوتية واللاهوتية، وأنه غير متساو لذلك مع الله الأب. أو أنه إنسان حلّ فيه اللاهوت، فصار هيكلا لله، وأنه لا يجوز بسبب ذلك أن تسمى مريم أمّا لله إلخ. وكانوا موضع اضطهاد ومطاردة من السلطات الرومانية التي كانت صاحبة الحكم وكانت تدين بعقيدة ثنائية الطبيعة في المسيح. فكان التقارب بين ما يقرره القرآن وما يعتقده غالب النصارى في هذه البلاد مما سهل عليهم التحول إلى الإسلام حيث انضوى إليه أكثريتهم الساحقة خلال القرنين الأول والثاني الهجريين «1» . والدليل على أن ذلك تمّ بطيبة خاطر ورغبة وقناعة هو في احتفاظ من أراد

_ (1) انظر كتاب الدعوة إلى الإسلام تأليف أرنولد توماس وترجمة حسن إبراهيم وعبد المجيد عابدين طبعة ثانية ص 63- 153 والصحف التي ذكرناها من المجلدين 3 و 4 من تاريخ سورية للمطران الدبس وكتاب فتح مصر لبتر تعريب فريد أبو حديد ص 384، 385 وتاريخ الجنس العربي للمؤلف الجزء 2 ص 333 وما بعدها والجزء 4 ص 316 وما بعدها.

أن يحتفظ بنصرانيته من أبناء هذه النحلة ثم من أبناء النحلة الأخرى صاحبة عقيدة الطبيعتين، حيث كان لهم ما أرادوا وعاشوا في كتل صغيرة متناثرة هناك وهناك وهنالك عبر القرون العديدة التي كان السلطان الإسلامي فيها قويا وشاملا عملا بالمبدأ القرآني المحكم بأن لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ على ما شرحناه في سياق سورة (الكافرون) . وما يزعم المبشرون والمستشرقون من أنهم أسلموا بالسيف أو هربا من الجزية زيف لم يعد يأخذ به أحد أمام تلك الحقائق. وما ذكره المؤرخون المنصفون من النصارى توكيدا لها. ثم أمام حقيقة كبرى أخرى وهي أن الجزية كانت ضئيلة، وكانت تكاليف الإسلام أكثر منها أضعافا مضاعفة. وفي صدد نعت مريم عليها السلام بصفة (أخت هرون) روى المفسرون عن القرظي وهي من مسلمي اليهود أنها كانت فعلا أخت موسى وهرون «1» . وتصيّد المستشرقون هذه الرواية الإسرائيلية وغمزوا النبي، وكانوا سخفاء في غمزهم. لأن المتبادر أن يكونوا أكثر إدراكا لكون النبي صلى الله عليه وسلم- ونقول هذا من قبيل المساجلة- لا يجهل المسافة بين مريم وهرون عليهما السّلام. وهناك حديث صحيح يضع الأمر في نصاب الحق رواه الترمذي ومسلم جاء فيه «إن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل المغيرة بن شعبة إلى نجران في أمر، فقال له نصاراها كيف يزعم نبيّك أن مريم أخت هارون. فلمّا رجع أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما قالوه فقال له ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمّون بأنبيائهم والصالحين قبلهم» «2» . ونقول أخيرا إن من واجب المسلم الإيمان بما ورد في الآيات من أخبار ووقائع سواء منها المتطابق مع ما في الأناجيل المتداولة وغير المتطابق. والإيمان بأن ما فيها من خوارق للعادة هو في نطاق قدرة الله تعالى. وإيكال ما لم يدركه العقل من ذلك إلى علم الله مع الإيمان بأنه لا بد أن يكون لذكره بالأسلوب الذي ورد به من حكمة. ومن الحكمة الملموحة في ذلك وضع الأمر في شأن عيسى

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير. (2) التاج ج 4 ص 154. [.....]

عليه السلام في نصابه الحق. وهو أن ولادته هي معجزة ربانية لا تقتضي أن يكون بها إلها أو أن يسمى تسمية إلهية ما. وأنه عبد الله ورسوله أرسله للدعوة إليه وحده وإلى مكارم الأخلاق والأعمال الصالحة والتحذير من الانحراف. وقد انطوى فيما جاء متطابقا بين القرآن وبين ما في أيدي النصارى من أسفار قصد الإفحام والإلزام، وإخراجهم من الانحراف إلى صراط الله المستقيم. أما ما جاء متباينا بين ما في القرآن والأسفار فيكون من جهة النظر الإسلامية تحريفا. والله تعالى أعلم. ونقطة أخرى يحسن الإلمام بها في هذه الخاتمة وهي ما ذكر في القرآن من نفخ الله تعالى في فرج مريم من روحه ومن أن عيسى عليه السلام كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه، كما جاء في آيات النساء [171] والأنبياء [91] والتحريم [12] . ويتبادر لنا أن هذا تعبير آخر لما جاء في آيات سورة مريم التي نحن في صددها إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) وأن العبارات القرآنية من نوع المتشابهات وأنها قد قصدت إلى تقرير كون حبل مريم وهي عذراء بعيسى عليهما السلام هو معجزة ربانية. وعلى المسلم كما قلنا أن يكل تأويل ما لا يدركه عقله إلى ربّه تعالى، ويستشف الحكمة منه وهي ما تبادر لنا ونبهنا عليه، والله تعالى أعلم. ولقد وقف مبشر سمّى نفسه (الأستاذ حداد) عند الآيات [34- 36] والآيات [37- 40] التي بعدها حينما رأى الرويّ السبكي فيها مختلفا عما قبلها وبعدها فقال إنها مقحمة على السياق. ويستفاد من كتبه أنه يقصد بكلمة مقحمة أحيانا أنها مدنية وضعت في السياق المكي فيما بعد. وأحيانا أنها مزيدة بعد النبي لتدعيم الكلام. وموضوع الآيات تكرر في آيات مكية مثل آيات الزخرف [63- 65] التي أوردناها قبل. وهناك آيات عديدة مكية أخرى تنفي الولد عن الله وتدعو إلى عبادة الله وحده. وتنوع الرويّ في السور المكية ليس بدعا. وقد مرّت أمثلة عديدة منه. ومن ذلك مثلا الفصل الأخير في سورة ص. ولو سلّمنا جدلا أنها آيات مدنية

[سورة مريم (19) : الآيات 37 إلى 40]

- وليس هناك أي رواية تذكر ذلك- فمناسبتها مع السياق قائمة. ولا يغير وصفها منه في العهد المدني المدى التعقيبي المراد منها. أما إذا كان قصد المبشر هو أنها مزيدة بعد النبي للتدعيم فهو متهافت وزور معا. ففي القرآن المكي والمدني عشرات من الآيات المتساوقة مع ما في الآيات بما في ذلك الآية [36] سواء أكانت من كلام عيسى عليه السلام أو تقريرا مطلقا التي تنفي عن الله عز وجل الولد وتدعو إلى عبادة الله وحده وتهدي إلى صراطه المستقيم، وتأمر بعد الإقراء في أمر عيسى وكونه كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فكان، وتحكي كلامه بأنه عبد الله ورسوله ودعوته لبني إسرائيل بعبادة الله وحده وتنديده بالمشركين به، وتنصله من دعوى ألوهيته هو وأمه إلخ إلخ فلم يكن من ضرورة والحالة هذه لزيادة هذه الآيات بعد النبي للتدعيم. وهذا فضلا عن أن ذلك قد دعم بما سجلته آيات كثيرة مكية من إيمان النصارى بالنبي والقرآن لما سمعوه وعرفوه من الحق، وكون بعثة النبي هي تحقيق لوعد الله وبشارة عيسى ولما عاينوه من أعلام النبوة. [سورة مريم (19) : الآيات 37 الى 40] فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40) (1) الأحزاب: بمعنى الفرق والشيع والجماعات. (2) أسمع بهم وأبصر: ما أشد سمعهم وبصرهم، حين يأتون إلى الله يوم القيامة. هذه الآيات كما هو المتبادر جاءت معقبة على الآيات السابقة جريا على الأسلوب القرآني في المناسبات المماثلة. وقد احتوت إشارة إلى ما كان من اختلاف الناس شيعا وأحزابا ومذاهب في شأن عيسى عليه السلام، وإنذارا للكافرين المنحرفين عن الحق بمشهد اليوم الأخروي العظيم، وما سوف ينالهم

تعليق على جملة فاختلف الأحزاب من بينهم

فيه وذكرت في معرض التبكيت أن الظالمين الضالين إذا كانوا في ضلال مبين في الدنيا لانصرافهم عن سماع كلمة الحق والانصياع لحجته ورؤية معالمه فسوف يكونون في الآخرة أقوياء السمع والبصر، فيعرفون ذلك الحق معرفة يقينية، ولكنهم يكونون قد فوّتوا على أنفسهم الفرصة في الدنيا. وأمرت النبي صلى الله عليه وسلم بإنذارهم بهول ذلك اليوم الذي سوف يتحسرون فيه على فوات الفرصة وعدم الإيمان وعلى الغفلة التي كانوا مرتكسين فيها، وقررت في النهاية أن الله عز وجل هو الباقي الوارث للأرض ومن عليها، والمتصرف فيها والذي يرجع إليه الناس أولا وآخرا. والتعقيب والإنذار والتبكيت قوي نافذ. وقد استهدف فيما استهدف إثارة الخوف والارعواء في نفوس السامعين كما هو المتبادر. تعليق على جملة فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ وبمناسبة هذه الجملة التي تعني على الأرجح أحزاب أهل الكتاب وشيعهم وبخاصة النصارى نقول إن هذه هي المرة الأولى التي تذكر اختلاف أحزاب أهل الكتاب في صدد عيسى بخاصة وفي الشؤون الدينية بعامة. ثم تكرر ذلك مرارا في السور المكية والمدنية. وقد كان هذا تسجيلا للحقيقة التي كانت قائمة راهنة في زمن نزول القرآن ممتدة إلى ما قبل ذلك والتي كان الأمر يصل فيها إلى الاقتتال على ما سجلته أيضا آية سورة البقرة هذه تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253) وفي أكثر من مرة سجل القرآن علة الخلاف الذي كان ينشب بينهم وهي كونه نتيجة من نتائج البغي فيما بينهم الذي يعني التعمد في التنافس على المآرب الخاصة ولا يمتّ إلى الحق والحقيقة كما جاء في آيات عديدة منها آيات سورة البقرة [212] وآل عمران [19] ويونس [93] والشورى [14] والجاثية [17] .

[سورة مريم (19) : الآيات 41 إلى 58]

ونعتقد أن ذلك من أسباب ما جعل الكتابيين في مكة ينضوون إلى الإسلام تحت راية القرآن والنبي لأنهم رأوا في ذلك خلاصا مما هم مرتكسون فيه، بالإضافة إلى ما عرفوه من الحق وعاينوه من أعلام النبوة. ولا شك في أن سامعي القرآن من العرب كانوا يعلمون ويرون مصداق ما سجله القرآن. وما حكته عنهم آية سورة فاطر هذه وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ. [42] دليل على ذلك. ولعل الحكمة في ما جاء في صدد ذلك في القرآن تنبيه سامعي القرآن العرب إلى الحقيقة التي يعرفونها حتى لا يتأثروا بمواقف المكابرة والمناوأة التي قد يقفها بعضهم لرسالة النبي والقرآن ويظنوا أن ذلك منهم عن علم وحق أولا، وحتى يتعظ المؤمنون فلا يرتكسوا فيما ارتكس فيه أهل الكتاب من انحراف وشذوذ لمارب لا تمت إلى الحق والحقيقة. ولقد قلنا في سياق شرح الآيات السابقة إن المبشر الذي سمى نفسه (الأستاذ حداد) قال عن هذه الآيات أيضا إنها مقحمة لاختلاف رويها عن ما بعدها وقبلها. وقال إن الاختلاف إنما كان في العهد المدني. وقد فندنا دعوى الإقحام في سياق التعليق على الآيات السابقة ونقول في صدد دعوى الاختلاف في العهد المدني إنه يغالط في الكلام. فالاختلاف المذكور في الآية ليس هو الاختلاف الذي نشب بين النبي وأهل الكتاب وبخاصة اليهود في المدينة وإنما هو الاختلاف الذي كان بين أهل الكتاب ونحلهم فيما بينهم. وكان هذا أمرا مشهورا مشهودا ممتدا إلى ما قبل بعثة النبي. وقد تكررت الإشارة إليه في القرآن المكي كما جاء في آيات سورة يونس [93] والنحل [64 و 124] والمؤمنون [51 و 52] والنمل [76] والسجدة [25] والشورى [14] والزخرف [64 و 65] والجاثية [17] . [سورة مريم (19) : الآيات 41 الى 58] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58)

تعليق على سلسلة الأنبياء بعد قصتي يحيى وعيسى عليهما السلام

(1) أراغب أنت عن آلهتي: هل أنت منصرف عن آلهتي ومستغن عنها. (2) مليّا: زمنا طويلا أو بعدا كبيرا. (3) حفيّا: من الحفاوة أي العناية والرعاية والاهتمام والتلطف. (4) وقربناه نجيّا: أدنيناه منّا وناجيناه. (5) إسرائيل: هو اسم ثان ليعقوب عليه السلام. وقد ذكر في الإصحاح (32) من سفر التكوين. (6) اجتبينا: اصطفينا. تعليق على سلسلة الأنبياء بعد قصتي يحيى وعيسى عليهما السلام جاءت هذه السلسلة تعقيبا على الآيات السابقة لها مباشرة التي احتوت حملة على الظالمين والكافرين والمدّعين باتخاذ الله تعالى ولدا، جريا على الأسلوب

القرآني. ويتبادر لنا أنها استهدفت فيما استهدفته سلك عيسى عليه السلام في سلك غيره من الأنبياء الذين كانوا أيضا من قبله مظهر عناية الله ورحمته وحفاوته، بحيث انطوى فيها تقرير بأن عناية الله بعيسى عليه السلام ليست شيئا خاصّا به ولا بدعا. فتكون والحالة هذه متصلة بالسياق السابق. ولقد تكرر الأمر «اذكر» في قصة مريم ثم في قصص السلسلة حيث يكون هذا قرينة على ذلك فضلا عن وحدة النظم. وقد احتوت السلسلة تنويها بإبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون وإسماعيل وإدريس عليهم السلام. وعبارتها واضحة لا تحتاج هي الأخرى إلى أداء آخر. وقد عممت الآية الأخيرة التنويه بحيث شمل المذكورين وغيرهم من أنبياء الله الذين كانوا مظهر هداية الله واصطفائه. وذكرت كيف كانوا إذا تتلى عليهم آيات الله يخرّون ساجدين له، باكين من خشيته، كأنما أرادت أن تقول إن هذا الفناء في الله تعالى والإخلاص له من أسباب ما نالوه من عناية الله وتنويهه وكأنما أرادت أن تقول كذلك إن هذه الدرجة يستطيع أن ينالها عند الله تعالى من يحذون حذو هؤلاء في الفناء والإخلاص، وأن تهيب بالسامعين إلى التأسي بهم. وفي هذا ما فيه من تلقين مستمر المدى. ويلحظ أن كل حلقة في السلسلة قد احتوت إشارة إلى ما كان من إخلاص النبي الذي ذكر فيها الله تعالى. وهذا من دعائم وعلائم الهدف الذي استهدفته السلسلة والذي نبهنا عليه. ولعل في الآية الأخيرة التي جاء فيها جملة وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إشارة إلى الذين هداهم الله واجتباهم فصدّقوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم وساروا على طريقة الأنبياء السابقين وصاروا مثلهم، إذا تليت عليهم آيات الرحمن خرّوا سجدا وبكيّا. وقد سلكتهم في صف أنبياء الله. وفي هذا ما فيه من تطييب قلب وتسكين روع وتشجيع وتثبيت وتنويه كما هو واضح. ويمكن أن يلمح في السلسلة جميعها بالإضافة إلى ما قلناه قصد الإشارة إلى

تعليق على مغزى التفصيل في قصة إبراهيم عليه السلام

أنه إذا كان الكفار يقفون من النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته هذا الموقف ويغفلون عن الحق ويصرون على الضلال فإن لله عبادا صالحين إلى درجة النبوة يعبدونه ويخضعون له ويتفانون في الإخلاص له وينبذون آباءهم وأقوامهم في سبيله، وإذا تتلى عليهم آياته خرّوا ساجدين باكين من خشيته. ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآية الأخيرة [58] مدنية. ويلحظ أنها متصلة بالسياق اتصالا تامّا سبكا وموضوعا، وهذا ما يجعلنا نشكّ في الرواية. ويلحظ أن جمع إبراهيم وإسحق ويعقوب في الآيات وانفراد إسماعيل عنهم عليهم السلام جاء أقوى مما جاء في سورة ص. ومع ذلك فإن التعليل الذي خطر لنا لهذا الجمع والانفراد وأوردناه في سياق سورة ص يمكن أن يظل واردا. ولقد روى بعضهم «1» أن إسماعيل المذكور هو غير إسماعيل بن ابراهيم. غير أنه ليس هناك خبر وثيق ما عن نبّى اسمه إسماعيل غير إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام. ولذلك نعتقد أنه هو المقصود في الآيات، والله تعالى أعلم. تعليق على مغزى التفصيل في قصة إبراهيم عليه السلام ويلحظ شيء من التفصيل في موقف إبراهيم عليه السلام من أبيه. ومما هو جدير بالذكر في هذه المناسبة أن ما ورد في القرآن- هنا وفي السور الأخرى- من قصص إبراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه- وقد تكرر ذلك بأساليب متنوعة في سور عديدة- لم يرد في سفر التكوين المتداول اليوم الذي احتوى إصحاحات عديدة فيها ترجمة حياة إبراهيم وأخباره وأولاده وذريته إلى آخر عهد يعقوب

_ (1) روى هذا المفسر الشيعي الطبرسي عن أبي عبد الله في سياق يبدو عليه التكلف والهوى الحزبي. ومما جاء في الرواية أن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام مات في حياة أبيه. وسفر التكوين المتداول الذي هو أصل المعارف القديمة عن إبراهيم وحياته وذريته يذكر أن إسماعيل عاش بعد أبيه..

تعليق على شخصية إدريس عليه السلام

ويوسف عليهما السلام. ونحن نعتقد أن هذه القصص قد وردت في أسفار وقراطيس كانت متداولة بين أيدي اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وانفقدت. وفي كتب التفسير بيانات كثيرة معزوة إلى علماء الأخبار من أهل القرنين الأول والثاني في صدد ولادة إبراهيم وتوحيده ربه وتمرده على عبادة الأصنام، وما كان بينه وبين أبيه وقومه والملك نمرود من مواقف. ومفارقته لقومه قد يكون فيها بعض الإغراب، ولكنها تدل على أن قصص إبراهيم في نطاق ما جاء في القرآن ومنها ما لم يذكر في سفر التكوين مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره. ولقد ذكرنا في سياق تفسير سورة الأعلى أن العرب أو العدنانيين سكان الحجاز منهم كانوا يتداولون بينهم تقليد نسبتهم بالأبوة إلى إبراهيم عليه السلام وأن ذلك مما أشير إليه إشارة تأييدية في آيات سورة البقرة [124- 129] وآية الحج [78] التي أوردناها في ذلك السياق. فالذي يتبادر لنا أن ما جاء في هذه السلسلة والسور الأخرى من ذلك قد استهدف فيما استهدف لفت نظر السامعين من العرب إلى ما كان من استنكار أبيهم الأكبر من أبيه ما يستنكره النبي صلى الله عليه وسلم من أهله وقومه. والهتاف بهم بأن فخر الانتساب إلى إبراهيم لا يكون في محلّه إلا إذا ساروا على طريقته فنبذوا عبادة الأصنام وتصامموا عن وسوسة الشيطان. تعليق على شخصية إدريس عليه السلام وإدريس عليه السلام يذكر هنا لأول مرة. وقد ذكر مرة ثانية في سورة الأنبياء في آية واحدة مع إسماعيل وذي الكفل عليهما السلام. ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون في صدده. من ذلك أنه من أجداد نوح عليه السلام. وأن اسمه أخنوخ. وهذا الاسم ورد في الإصحاح الخامس من سفر التكوين المتداول بصفة جد من أجداد نوح. ولقد جاء عنه في هذا الإصحاح (وعاش أخنوخ خمسمائة وستين سنة. وسلك مع الله. وإن الله أخذه) وقد يكون في هذا ما يفيد أنه كان نبيا وأن الله رفعه. وبعبارة ثانية قد يكون في تطابق مع ما جاء في الآية [57] من سلسلة الآيات. ويكون ذلك مما كان

متداولا في أوساط الكتابيين، ومما كان يعرفه السامعون من العرب أو بعضهم. ومما قاله المفسرون دون عزو إلى مصدر أن أخنوخ سمي إدريسا لكثرة دراسته لكتب الله. وأنه أول من خط بالقلم وأول من خاط الثياب ولبس الثياب المخيطة. وكان الناس قبله يلبسون الجلود. وأنه أول من اتخذ السلاح وقاتل الكفار. وأول من نظر في علم النجوم والحساب، وأنه أنزل عليه ثلاثون صحيفة. ونحن نرجح أن اسم (إدريس) كان الاسم المتداول قبل الإسلام لنبي من الأنبياء. وقد يكون أخنوخ المذكور في سفر التكوين. وقد يكون ما ذكر عنه من كثرة دراسته وعلومه مما كان متداولا عنه. وكلمة (إدريس) كما يبدو عربية الجذر والصيغة وهذا ما قاله اللغوي المشهور ابن منظور في لسان العرب فيكون العرب قبل الإسلام هم الذين أطلقوا الاسم على هذا النبي بسبب ما سمعوا من صفاته. وفي صدد رفعه إلى السماء روى الطبري عن أبي هريرة وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رآه ليلة المعراج في السماء الرابعة. وروى عن ابن عباس أنه رفع إلى السماء السادسة ومات فيها. وعن مجاهد أنه رفع كما رفع عيسى ولم يمت. وقال الطبري تعقيبا على ذلك أن حياته وموته مختلف فيهما. ومع ذلك فالمفسرون يوردون أقوالا أخرى عن معنى جملة وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا منها أن المكان العلي هو في الجنة في اليوم الآخر. ومنها أن الجملة تعني علوّ الرتبة والشأن مطلقا أو في الدنيا. حيث يبدو من القائلين أنهم لم يأخذوا بما روي من أمر رفعه إلى السماء ووجوده فيها. وإلى هذا ففي الطبري في صدد رفعه إلى السماء رواية طويلة مروية عن كعب الأحبار فيها كثير من الخيال والمفارقة. فلم نر طائلا في إيرادها ولا سيما أنها لا تتصل بموضوع السلسلة وهدفها. ومهما يكن من أمر فنبوّة إدريس عليه السلام وكرامته وشفعته عند الله مما هو وارد في القرآن. واسمه مما يدل على أنه كان معروفا قبل الإسلام كنبي من أنبياء الله في أوساط العرب. وأن الهدف من ذكره في سلسلة الأنبياء هو نفس الهدف

[سورة مريم (19) : الآيات 59 إلى 63]

الذي استهدف في إيراد هذه السلسلة والذي شرحناه قبل، وأن الأولى الوقف عند ذلك بدون تزيد ولا تخمين. والله تعالى أعلم. [سورة مريم (19) : الآيات 59 الى 63] فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63) (1) يلقون غيا: بعض المؤولين أولوا الجملة بمعنى الخسران والشرّ. وروى بعضهم عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا يذكر أن (غيا) بئر في جهنّم فيه صديد. وهذا الحديث لم يرد في الصحاح «1» . (2) لا يظلمون شيئا: لا يبخسون ولا ينقص من عملهم الصالح شيء حيث يوفون جزاء جميع أعمالهم. (3) بالغيب: هذه الكلمة تكررت في القرآن في مثل هذا المقام وفي مقام التنويه بالمؤمنين الذين يؤمنون بالغيب والذين يخشون ربهم بالغيب. وقال المفسرون إن معناها في مقامها هنا (التي وعدهم الله بها وإخبارا بأمر مغيب عنهم) وإن معناها في المقام الثاني (الذين صدقوا بالأمور المغيبة عنهم التي أخبرهم بها القرآن) وكل هذا وجيه «2» . (4) إنه كان وعده مأتيا: إن وعده آت ونافذ لا ريب فيه. في الآيات إشارة تأنيبية إلى الذين خلفوا النبيين وخالفوا طريقتهم فضلّوا عن طريق الهدى وأضاعوا الصلوات واتبعوا الشهوات. ووعيد رباني لهم بأنهم سوف

_ (1) انظر تفسيرها في الطبري وابن كثير. (2) انظر تفسيرها وتفسير آية البقرة [3] وآية الأنبياء [49] في تفسير الطبري وابن كثير والطبرسي والكشاف.

تعليق على الآية فخلف من بعدهم خلف والآيات الثلاث التالية لها

يلقون سوء عاقبة ضلالهم وانحرافهم وخسرانا وعذابا. وقد استثني الذين يرعوون عن ضلالهم ويتوبون إلى الله فيؤمنون ويعملون العمل الصالح. ووعد هؤلاء بالجنة ووفاء جزاء أعمالهم لهم بدون نقص وبخس ما حيث يجري عليهم رزقهم باستمرار. ولا يسمعون فيها لغوا وكل ما يسمعونه التحية والسلام. وانتهت الآيات بتقرير كون هذه الجنة هي مصير الأتقياء من عباد الله. تعليق على الآية فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ والآيات الثلاث التالية لها روى الطبرسي أن الآية الأخيرة منها نزلت ردا على أحد زعماء المشركين الذي قال لو كانت الجنة التي يذكرها محمد حقا لكانت أولى بي من أولئك الصعاليك الذين آمنوا به. والآية معطوفة على الآيات السابقة لها ومنسجمة معها كل الانسجام. والمتبادر أن الآيات جميعها جاءت معقبة على الآيات السابقة لها وأنها متصلة بها هدفا وموضوعا. وهذا لا ينفي أن يكون صدر من الزعيم المشرك ما روي عنه. ولقد روي عن ابن عباس والسدي أن الآية الأولى عنت اليهود. وروي عن الأوزاعي أنها في حق الذين يؤخرون الصلاة عن مواقيتها أو أن هذا ما تعنيه جملة أَضاعُوا الصَّلاةَ وروي عن مجاهد أنها في حقّ جماعة في آخر الزمان يتركون الصلاة وينزون على بعضهم في الأزقة كالحيوانات «1» . ويتبادر لنا أن هذه الأقوال من قبيل الاجتهاد والتطبيق، وأن روح الآية تلهم أنها عامة الشمول وبسبيل النعي على كل من بدّل وحرّف وانحرف عن طريقة الأنبياء والصالحين من أخلافهم وقصروا في عبادة الله تعالى وأوغلوا في الشهوات وإنذارهم. والاستثناء الوارد في الآية الثانية قرينة على ذلك وهو بسبيل دعوة السامعين إلى الله تعالى، والإهابة بالمنحرفين إلى التوبة والرجوع إلى الله وعمل الصالحات وتشويقهم بأسعد مصير في الآخرة.

_ (1) انظر تفسير ابن عباس رواية الكلبي وتفسير ابن كثير.

ووصف حياة الجنة شيق جدا يبعث الاغتباط في المؤمنين الصالحين ويحفز على الرغبة فيها بالإرعواء والتوبة إلى الله وهو ما استهدفته الآيات فيما استهدفته كما هو المتبادر. وكل ذلك مستمر المدى والتلقين كما هو المتبادر أيضا. ويلفت النظر إلى التلازم بين إضاعة الصلوات واتباع الشهوات. مما يمكن أن يفيد أن اتباع الشهوات هو نتيجة لإهمال عبادة الله وذكره. وقد جاء هذا المعنى بصراحة أكثر في آية سورة العنكبوت هذه اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45) والتوبة التي ورد بها الاستثناء في الآيات تشمل على ما هو المتبادر من الكافرين والمقصرين في طاعة الله والمتبعين للشهوات معا على ما يفيده فحوى الآية. وفيها تدعيم لمبدأ التوبة المحكم الذي شرحناه ونوهنا به في سياق سورة البروج. ولقد أورد ابن كثير حديثا رواه ابن أبي حاتم والإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله يقول «يكون خلف بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا. ثم يكون خلف يقرأون القرآن لا يعدو تراقيهم. ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن ومنافق وفاجر» وروى عن أبي سعيد معقبا على الحديث «المؤمن يؤمن به والمنافق كافر به. والفاجر يأكل به» وأورد كذلك حديثا آخر عن الإمام أحمد عن عقبة بن عامر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إني أخاف على أمتي اثنتين القرآن واللين. أما اللين فيتبعون الزيف والشهوات ويتركون الصلاة وأما القرآن فيتعلمه المنافقون فيجادلون به المؤمنين» . فإن صح الحديثان فليسا تفسيرا للآية الأولى وإنما فيهما نبوءة نبوية بما يمكن أن يظهر من بين المسلمين من فئات تنطبق عليهم. وأنهما استهدفا على ما هو المتبادر التنبيه والتحذير. والله أعلم.

[سورة مريم (19) : الآيات 64 إلى 65]

[سورة مريم (19) : الآيات 64 الى 65] وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) (1) هل تعلم له سميّا: السؤال إنكاري يتضمن النفي حيث يسأل السامع سؤال من يعرف أن جوابه بالنفي عما إذا كان يعلم أو يستطيع أن يذكر مماثلا ونظيرا له بالاسم والقدرة والعظمة والربوبية الشاملة. تبدو هاتان الآيتان معترضتين في السياق. وكأنهما لا ارتباط بينهما وبين ما سبقهما وما لحقهما. ومن جهة أخرى فإن صيغتهما صيغة خطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم من غير الله كأن أشخاصا غير الله يخاطبونه. وعبارتهما واضحة. وهما في صدد تقرير انحصار الأمر والعلم والتصرف في كل شيء في الله تعالى ربّ السموات والأرض وما بينهما الذي لا مثيل له ولا نظير في عظمته وقدرته وربوبيته الشاملة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم في ثانيتهما بالثبات في عبادته والخضوع له. تعليق على آية وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لقد تعددت الأحاديث والروايات التي يرويها المفسرون في صدد هذه الآيات «1» منها حديث عن ابن عباس رواه البخاري والترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل «ما يمنعك أن تزورنا أكثر ممّا تزورنا فنزلت» ومنها حديث عن مجاهد جاء فيه «إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل لقد رثت عليّ حتّى ظنّ المشركون كلّ ظنّ. فنزلت» وحديث عن قتادة جاء فيه «إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل حينما جاء بعد انحباس ما جئت حتّى اشتقت إليك فنزلت» . ومما رواه المفسرون أن احتباس جبريل كان ثنتي

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن والطبرسي والكشاف.

عشرة ليلة وفي رواية خمسا وأربعين. كما رووا أن الاحتباس كان عند ما سأله الكفار بإيعاز من اليهود عن أصحاب الكهف وذي القرنين وعن الروح فقال النبي لهم غدا أجيبكم ولم يقل إن شاء الله. ومع كل هذه الأحاديث والروايات فكان رواية عن مسلم رواها الطبرسي أن الآيتين حكاية لقول المتقين الذين ذكروا في الآيات السابقة حينما ينزلون منازلهم وباستثناء الحديث الذي يرويه البخاري والترمذي فالأحاديث الأخرى من المراسيل. والعبارة القرآنية لا تتسق فيما يبدو مع القول بأن الآيتين حكاية لأقوال المتقين حينما ينزلون منازلهم في الجنة وهي أكثر اتساقا مع الأحاديث والروايات التي تذكر أنها حكاية لقول جبريل. مع ما يلحظ مع ذلك أن صيغة المتكلم في الآية صيغة جمع في حين أن الأحاديث والروايات تذكر جبريل وحده الذي سأله النبي صلى الله عليه وسلم ونزل عليه بالآية. ولما كان من الحقائق الإيمانية أن جميع ما في القرآن صادر من الله عز وجل وأن الملك الذي يبلغه ليس إلّا واسطة فقد خرّج المفسرون الكلام الصادر ظاهرا عن الملك بصيغة الجمع على أنه تبليغ رباني عن لسان الملك أو الملائكة. ويلحظ أن هناك آيات عديدة يكون فيها الكلام موجها من قبل النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة ولم يسبق بأمر له بقول ذلك كما جاء في آيات سورة هود هذه الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) وفي آية سورة الأنعام هذه قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وأن هناك آيات يكون الكلام فيها صادرا في الظاهر عن غير الله كما جاء في آيات سورة الصافات هذه وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وقد خرّجت هذه الآيات بمثل التخريج الذي خرجت به الآيات التي نحن في صددها. ولما كان سرّ الوحي القرآني مما لا تدرك ماهيته فالأولى أن يوقف في هذه

المسألة الإيمانية الغيبية وأمثالها عند ما وقف عنده القرآن من ناحيتها الذاتية وكنهها وأن يقال آمنّا به كل من عند ربّنا. وهذا لا يمنع من القول إن هاتين الآيتين وأمثالهما صورة من صور الوحي القرآني تبدوا أولا في صيغة الجمع وثانيا في حكاية كلام مباشر عن الملائكة حينا وعن النبي صلى الله عليه وسلم حينا. ولعل مما يمكن أن يضاف إلى هذا أن الآيات التي تجمع الروايات على أنها كانت جوابا على تساؤل من النبي صلى الله عليه وسلم قد تكون نزلت بعد نزول الآيات السابقة لها، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتدوينها فور نزولها بعدها ولو لم يكن بينها ارتباط بحيث يصح أن تشبه بآيات سورة القيامة [16- 19] من ناحية فورية النزول والتدوين والمناسبة وعدم الارتباط بما سبقها وبما لحقها على ما شرحناه في سياقها. ومما يرد على البال أن يكون ذكر الأنبياء وما حظوا به من عناية ربانية وذكر مريم وظهور الملك لها كان هو المناسبة القريبة للتساؤل عن كيفية نزول الملائكة بأوامر الله فأوحى بهاتين الآيتين عن لسانهم بعد أن تم سياق الكلام في الآيات السابقة. وإذا صح هذا فإنه يوجد ترابطا بين الآيتين وبين السياق السابق كما هو واضح، وإن كان يتناقض مع الروايات المروية عن سؤاله صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام. على أن الاختلاف في روايات النزول مما يسوغ التوقف في الروايات الواردة من حيث الأصل، والله تعالى أعلم. هذا، ويتراءى لنا فيما احتوته الآيتان من إعلان اعتراف الملائكة بحدودهم إزاء العزة الربانية وتقريرهم بإحاطة الله سبحانه بكل شيء وقدرته على كل شيء وعدم طروء ما يطروأ على البشر من غفلة ونسيان عليه، ونفي أي مشابهة له في الأسماء والصفات والقدرة الشاملة، وتوكيدهم على النبي صلى الله عليه وسلم وجوب التزام عبادته والخضوع له هدف تدعيمي للتقريرات القرآنية والدعوة الربانية في مختلف فصول القرآن في بيئة يتخذ غالب أهلها الملائكة أولياء وأربابا وشركاء قادرين على النفع والضرر. بل لعل الآيتين قد استهدفتا هذا الهدف بصورة رئيسية والله تعالى أعلم.

[سورة مريم (19) : الآيات 66 إلى 72]

[سورة مريم (19) : الآيات 66 الى 72] وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) (1) جثيّا: جاثين على ركبهم كناية عن الخضوع والذل. (2) عتيّا: تمرّدا وتكبرا وعصيانا. (3) صليّا: إصلاء بالنار وإلزاما لها. في الآية الأولى حكاية لتساؤل الإنسان تساؤل المستغرب أو المنكر عما إذا كان حقّا سيبعث حيا بعد موته؟ وفي الثانية ردّ على الجواب بصيغة التساؤل الإنكاري أيضا عما إذا كان هذا المنكر لا يذكر ولا يعترف بأن الله تعالى خلقه من العدم حتى يشك في قدرة الله على إحيائه بعد موته. أما الآيات التالية للآيتين فقد جاءت للاستطراد والتعقيب واحتوت إنذارا ووعيدا للكافرين المكذبين عامة ولأشدهم تمردا وعصيانا بصورة خاصة. فقد أقسم الله بعزته أنه سيحشرهم ومعهم شياطينهم وسيجمعهم حول جهنم أذلّاء صاغرين وأنه سيختص بالعذاب الأشد أشدهم عصيانا لله وتمردهم عليه. ولقد روى الطبرسي بدون ذكر راو أن الإنسان الذي حكت الآية الأولى قوله وردت الآية الثانية عليه هو أبيّ بن خلف أحد زعماء المشركين الأشداء في مناوأة النبي صلى الله عليه وسلم وإنكار البعث. والروايات محتملة، لأنه ليس كل إنسان يقول هذا القول، حتى تؤخذ العبارة على مداها المطلق. والإنذار في الآيات قوي رهيب، ولا سيما للفئات الأشد مناوأة للنبي صلى الله عليه وسلم وتمردا على الله تعالى، ومتناسب مع مواقفهم في معارضة الدعوة إلى الله تعالى وتعطيل رسالة رسوله فضلا عن كفرهم.

والرواية تذكر موقفا للزعيم الكافر ولا تذكر أن الآيات نزلت بسببه. ولا يذكر المفسرون الآخرون مناسبة لنزولها. ويتبادر لنا أنها ليست منفصلة عن السياق السابق. ففي هذا السياق تنديد بالذين أضاعوا الصلوات واتبعوا الشهوات فجاءت هذه الآيات لتذكر موقفا من مواقف هؤلاء الجحودين بالآخرة. على أننا نلحظ من ناحية أخرى أن الآيات الآتية احتوت حكاية بعض أقوال ومواقف الكفار مثلها بحيث يسوغ القول أيضا أن هذه الآيات بداية الشطر الثاني من السورة من حيث إن الشطر الأول تناول ذكر الأنبياء والتعقيب عليه، في حين أن هذه الآيات وما بعدها تناولت أقوال ومواقف كفار العرب والتعقيب عليها. هذا مع التنبه أولا على أننا نرجح أن هذه الآيات وما بعدها لم تنزل منفصلة عن بعضها وفور صدور كل موقف وقول حكتهما عن الكافر وإنما احتوت عرضا لهذه المواقف والأقوال جملة واحدة، لأن وحدة روي الفصول تلهم أنها نزلت متلاحقة. وثانيا: إن قولنا إن الآيات بداية لشطر ثان للسورة لا يعني أن الشطرين منفصلان عن بعضهما أيضا حيث يلمح التساوق بينهما من حيث إن الشطر الأول حكى قصص الأنبياء وأخلافهم والشطر الثاني حكى مواقف الكفار وقصصا متناسبة مع مواقف أولئك الأخلاف. ووحدة الروي إلى هذا جامعة بين الشطرين. ومع أن الإنذار الموجه لهذه الفئة بخاصة ولكفار العرب في زمن النبي بعامة فإن المتبادر أن ما احتوته الآيات من تقرير وتنديد وإنذار هو عام التوجيه مستمر المدى لكل متمرد على الله ورسالة رسوله ومناوئ لها وصادّ عنها وكافر بها. وقد استثني المتقون من المصير الرهيب المنذر به. ومع ما في هذا الاستثناء من تطمين وبشرى للذين استجابوا للدعوة النبوية في زمن النبي فهو كذلك عام مستمر المدى لكل مؤمن متّق. ونقول هنا ما قلناه في مناسبة سابقة إن الآيات تسجل واقع الكفار وزعمائهم حين نزولها. وإن الإنذار الرهيب إنما يظل قائما بالنسبة لمن أصرّ ومات على كفره وتمرده منهم.

تعليق على جملة وإن منكم إلا واردها

واختصاص الذين اتقوا بالنجاة ذو مغزى كبير سواء في تطمين هذه الفئة وبثّ الاغتباط فيها أم في الحث على التقوى التي هي أبرز مظاهر الإيمان. لأنها تجعل المؤمن مراقبا لله في جميع أعماله وتعصمه من الوقوع في الأمم على ما شرحناه في سياق سورة العلق. تعليق على جملة وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها لقد تعددت الأحاديث والروايات والتأويلات في كتب التفسير في صدد هذه الجملة. ففي معنى كلمة (الورود) إنها بمعنى الدخول وإن الضمير في كلمة (واردها) يرجع إلى جهنم. أو إنها بمعنى المرور عليها دون الدخول فيها. وفي مدى جملة وَإِنْ مِنْكُمْ إنها خطاب لجميع الناس أبرارهم وفجارهم. ومؤمنيهم وكافريهم، وقد استدل القائلون بدخول جميع الناس جهنم بالآية [72] آخر الآيات التي نحن في صددها، وبأحاديث نبوية عديدة منها حديث رواه الطبري عن حفصة قالت «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل النار أحد شهد بدرا والحديبية. قالت فقلت يا رسول الله أليس الله يقول وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها. فقال رسول الله أفلم تسمعيه يقول ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا» وهذا الحديث لم يرد في كتب الصحاح. وهناك أحاديث أخرى يوردها المفسرون من بابه لم ترد كذلك في هذه الكتب. وهناك قولان متناقضان معزوان إلى ابن عباس: واحد مؤيد للقول السابق، وواحد يفيد أن الخطاب في (منكم) للكفار ومنكري البعث. وأن المؤمنين لا يردون النار. وأورد بعض المفسرين اعتراضا على القول الأول بآية سورة الأنبياء هذه إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) وأجابوا على الاعتراض بأن القصد يمكن أن يكون ذلك وهم في الجنة أو يمكن أن يكون القصد من ذلك أن

النار تكون عليهم حينما يردونها بردا وسلاما. وهناك أحاديث عديدة نبوية تفيد أن الناس جميعهم يمرون على صراط فوق جهنّم يهوي فيها من يستحقها وينجو المتقون. من هذه الأحاديث ما لم يرد في كتب الصحاح ومنها الوارد في هذه الكتب. ومما ورد في هذه الكتب حديثان طويلان في الشفاعة، روى واحدا الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه «ثمّ يضرب الصّراط بين ظهراني جهنّم فأكون أول من يجوز من الرسل بأمّته، ولا يتكلم أحد يومئذ إلا الرسل. وكلام الرسل اللهمّ سلّم اللهمّ سلّم» «1» . وروى ثانيهما مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه «وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبي الصراط يمينا وشمالا فيمرّ أوّلكم كالبرق. ثم كمرّ الريح. ثم كمرّ الطير. وتجري بالرجال أعمالهم، حتى تعجز أعمال العباد حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفا. قال وفي حافتي الصراط كلاليب معلّقة مأمورة تأخذ من أمر الله بأخذه. فمخدوش ناج ومكدوس في النار» «2» . ولقد صوب الطبري تأويل الورود في الآية بالمرور على الصراط فوق النار فيسقط الظالمون وينجو المتقون بناء على هذه الأحاديث. والمستفاد من أحاديث الشفاعة المشار إليها أن الذين في قلوبهم إيمان لا يخلدون في النار إذا ارتكبوا آثاما. فهم يسقطون فيها عن الصراط ليقضوا مدة عذابهم ثم يخرجون إلى الجنة بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ولا يخلد في النار من الساقطين فيها إلا الكفار. ومهما يكن من أمر فالإيمان واجب بما جاء في القرآن وبما صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم من المشاهد الأخروية. مع تكرار القول أنها من المتشابهات التي يجب إيكال تأويلها إلى الله تعالى واستشفاف ما في ذكرها بالأسلوب الوارد من حكمة. والملموح من الآيات والأحاديث أن من هذه الحكمة الترهيب للكفار والآثمين

_ (1) التاج ج 5 ص 342- 350. (2) المصدر نفسه.

[سورة مريم (19) : الآيات 73 إلى 74]

والترغيب للمؤمنين المتقين وحفز الأولين على الارعواء عن كفرهم آثامهم، والآخرين على الاستكثار من الأعمال الصالحة المنجية واجتناب الآثام. ولسنا نرى هذا مانعا من القول بالنسبة للعبارة القرآنية ذاتها إن القول المعزو إلى ابن عباس بأنها خطاب للكفار لا يخلو من وجاهة. قد يؤيدها مجموع الآيات روحا ونصا. ولا سيما أن الآيات الثلاث الأخيرة قد جاءت بمثابة تعقيب استطرادي على الآيتين اللتين تحكيان قول الزعيم المشرك وتردان عليه. والله تعالى أعلم. [سورة مريم (19) : الآيات 73 الى 74] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) (1) النديّ: مجلس القوم ومجتمعهم. (2) أحسن أثاثا: أحسن متاعا. (3) رئيا: منظرا وهيئة وحالا. في الآية الأولى حكاية لموقف آخر من مواقف الكفار حيث كانوا حينما تتلى عليهم آيات القرآن يبدون استكبارا وزهوا وخيلاء على المسلمين الذين كانت غالبيتهم ضعفاء وفقراء، ويسألونهم سؤال المعتدّ المزهوّ عن الأفضل مركزا، والأحسن حياة ومقاما ومجتمعا من الفريقين. وقد ردت الآية الثانية ردّا إنذاريّا قويّا عليهم فلقد أهلك الله قبلهم كثيرا من الأمم والأجيال الذين كانوا أحسن منظرا وأكثر مالا ومتاعا منهم كأنما تريد أن تقول لهم إن الله الذي قدر على هؤلاء هو قادر عليكم وإن ما تتبجحون وتزهون به ليس برادّ عنكم قدر الله وعذابه.

[سورة مريم (19) : الآيات 75 إلى 76]

والصلة ملموحة بين هذه الآيات وسابقاتها في حكاية موقف الكفار وأقوالهم وفي وحدة السبك والروي. ولم نطّلع على رواية تذكر مناسبة نزول هذه الآيات. ونرجح مع ذلك أن الآية الأولى تحكي موقفا تجادل فيه بعض الكفار مع بعض المسلمين، فقال الكفار ما حكته الآية على سبيل التفاخر والتبجح وردت الثانية عليهم بردها القوي. وواضح من هذا أن الكفار والمؤمنين في مكة كانوا يختلطون وكان يقع بينهم نتيجة لذلك مشادّات ومناظرات ومماحكات ومفاخرات متنوعة مما حكته آيات عديدة أخرى. [سورة مريم (19) : الآيات 75 الى 76] قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) (1) فليمدد له الرحمن مدّا: فليتمتع في الحياة ما شاء الرحمن له أن يتمتع. (2) مردّا: عاقبة. الآيات استمرار للسياق كما هو المتبادر. والمتبادر كذلك أن الآية الأولى احتوت ردّا آخر على تبجح الكفار المحكي عنهم في الآيات السابقة وتحديا حيث أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم على سبيل التحدي: ليمدد الله تعالى من كان منا ومنكم في الضلالة وليجعله يتمتع بما شاء له أن يتمتع، وحينما يحل وقت تحقيق وعيد الله للضالين بالعذاب الدنيوي أو الأخروي سيرون من هو شرّ مكانا ومنزلة ومن هو أضعف جندا وناصرا. وقد تكرر هذا المعنى في آيات عديدة منها آيات سورة سبأ هذه قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25)

تعليق على جملة والباقيات الصالحات

قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) . وواضح من روح الآية أنه انطوى في التحدي يقين بأن الكفار هم الضالون الذين سوف يكونون شرّا مكانا وأضعف جندا، وأن هذا هو ما أشعرهم به التحدي حيث ينطوي في ذلك تنديد وإنذار لاذعان. أما الآية الثانية فهي تعقيب على الأولى وتوكيد لما انطوى فيها. فالكفار هم الذين ارتكسوا في الضلالة، دون المؤمنين الذين يكونون موضع رحمة الله فيزدادون بإيمانهم بآيات الله المتجددة وبأعمالهم الصالحة المتجددة هدى على هدى. وقد انطوت الفقرة الأخيرة منها على تحريض قوي على صالح الأعمال بأسلوب مطلق، كأنما تهتف بالناس جميعهم أن كل شيء إلى زوال إلا العمل الصالح، فهو الباقي كل البقاء النافع كل النفع. وفي هذا ما فيه من نداء وتلقين مستمري المدى. تعليق على جملة وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ ولقد روى المفسرون عن أهل التأويل من أصحاب رسول الله وتابعيهم أقوالا عديدة في مدى هذه الجملة «1» . منها أنها في معنى الأعمال الصالحة وطاعة الله إطلاقا، ويدخل في ذلك الحج والصلاة والزكاة والجهاد إلخ. ومنها أنها في معنى الصلوات المكتوبة وحسب. ومنها أنها ذكر الله وتسبيحه وحمده. ورووا في صدد القول الأخير أحاديث عديدة منها الوارد في كتب الصحاح ومنها غير الوارد. فمن غير الوارد في هذه الكتب حديث عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «استكثروا من الباقيات الصّالحات. قيل وما هي يا رسول الله قال التّكبير والتّهليل والتّسبيح والحمد ولا قوّة إلّا بالله» ومنها حديث عن عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إنّ قول لا إله إلّا الله والحمد لله وسبحان الله تحطّ الخطايا كما تحطّ ورق هذه الشّجرة الرّيح. خذهنّ يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهنّ. هنّ

_ (1) انظر تفسيرها وتفسير مثيلتها في سورة الكهف في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.

[سورة مريم (19) : الآيات 77 إلى 80]

الباقيات الصّالحات، وهنّ من كنوز الجنّة» «1» ومما ورد في كتب الصحاح حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي قال «أكثر من قول لا حول ولا قوّة إلّا بالله فإنّها كنز من كنوز الجنّة» «2» وننبه على أن الأحاديث الواردة في كتب الصحاح لا تذكر الصيغ التي وردت فيها أنها الباقيات الصالحات أو هي منها. ومهما يكن من أمر فإن الأسلوب المطلق الذي جاءت به الجملة يسوّغ القول إنها تعني كل عمل صالح مع القول إن تسبيح الله وحده وتكبيره من جملة ذلك. ونقول من جهة أخرى إن المتبادر على ضوء الآيات والأحاديث أن الخطايا التي يمكن أن يكفرها التسبيح والتهليل وذكر الله هي التي تكون من نوع الهفوات واللمم دون الآثام والفواحش والكبائر والبغي. وهناك حديث رواه مسلم عن عثمان بن عفان قال «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلّا كانت كفّارة لما قبلها من الذّنوب ما لم يأت كبيرة» . حيث يصح أن يكون ذلك ضابطا والله أعلم. ويتبادر لنا كذلك أن من الحكمة المنطوية في الأحاديث النبوية جعل المؤمنين يكثرون من ذكر الله تعالى لما يؤدي ذلك إليه من مراقبتهم الله ووقوفهم عند حدود أوامره ونواهيه، وابتغائهم الوسيلة إلى رضائه. وفي ذلك ما فيه من أسباب الخير والفوائد الجليلة، والله تعالى أعلم. [سورة مريم (19) : الآيات 77 الى 80] أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80) (1) أطلع الغيب: هل اطلع على الغيب وعلم علمه.

_ (1) في كتب التفسير أحاديث أخرى من باب هذه الأحاديث. (2) التاج ج 5 ص 90 وهناك أحاديث أخرى في كتب الصحاح من باب هذا الحديث.

[سورة مريم (19) : الآيات 81 إلى 87]

(2) ونرثه ما يقول: نرث ما له من مال وولد لأنه سيهلك والله هو الباقي. في الآيات صورة لموقف لأحد الكفار حيث قال بصيغة التأكيد إنه سيكون له المال والولد. فردت عليه متسائلة تساؤلا استنكاريّا عما إذا كان اطلع على الغيب أم أخذ من الله عهدا حتى يقول ما يقول ثم هتفت مكذّبة قوله بقوة وحسم، وقررت أن الله سيسجل عليه قوله ويجعل عذابه ممدودا غير منقطع. وسيهلك دون ماله وولده ويبقى الله تعالى. وسيأتي إليه يوم القيامة فردا مجردا من كل شيء. ولقد روى الشيخان والترمذي حديثا جاء فيه «قال خبّاب كنت قينا بمكة- أي حدّاد أو صانع سيوف- فعملت للعاص بن وائل سيفا فجئت أتقاضاه فقال لا أعطيك حتى تكفر بمحمد فقلت والله لا أكفر حتى يميتك الله ثم يبعثك. قال فذرني حتى أموت ثم أبعث فسوف أوتى مالا وولدا فأقضيك فنزلت الآيات» «1» . والذي يتبادر لنا أن الآيات فصل مماثل للفصول السابقة. واستمرار للسياق بسبيل حكاية مواقف الكفار وأقوالهم والتنديد بهم والرد عليهم. ويجوز أن يكون الحادث المروي قد وقع قبل نزولها فشاءت حكمة التنزيل أن يشار إليه، وقد جاء التنديد قويّا مترافقا بإنذار شديد متناسب مع القول المنسوب إلى الكافر، وجاء بأسلوب مطلق ليكون التنديد والإنذار مستمري التوجيه إلى كل جاحد متمرد على ما هو المتبادر. [سورة مريم (19) : الآيات 81 الى 87] وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87)

_ (1) التاج ج 4 ص 156 وفي تفسير الطبري أحاديث أخرى من باب هذا الحديث بعضها يذكر العاص وبعضها يذكر رجالا من المشركين بدون أسماء.

(1) ضدّا: عدوا وشرّا وبلاء أو خلافا وعونا عليهم. (2) أزّا: الأزّ هو الإزعاج والهزّ أو الإغراء بشدة. والكلمة في الآية بمعنى أن الشياطين يجرّون الكفار إليهم جرّا ويحركونهم أو يسيّرونهم أو يغرونهم بشدة ليسقطوهم في الشرك والضلال. (3) إنما نعدّ لهم عدا: بمعنى إنما نمهلهم ونحصي عليهم أعمالهم. (4) وفدا: أوّلها المؤولون بمعنى ركبانا. والمتبادر أن القصد من التعبير هو أنهم يأتون إلى الله مكرمين كما تكون الوفود التي تفد على الملوك فتحاط بالعناية والترحيب. في الآيات تقريع وتبكيت للكافرين وإنذار لهم وخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بسبيل التثبيت والتطمين: فلقد اتخذ الكفار آلهة غير الله للانتصار والاعتزاز بهم ولكنهم سوف يتنصلون منهم وينكرون عبادتهم ويقفون منهم موقف الضد والعداء والخلاف والخذلان. ولقد كان من أمرهم أن اختاروا الكفر على الإيمان والشرك على التوحيد، فتركهم الله للشياطين يجرونهم بقوة إلى الارتكاس فيما يزينونه لهم من طرق الغواية والضلال. وليس من موجب للاستعجال في أمرهم فإذا كان الله تعالى لا يعجل بعذابهم فليس ذلك عن إهمال وإنما هو إمهال يحصي خلاله عليهم أنفاسهم وأعمالهم ليحاسبهم عليها في اليوم الذي يفد فيه المتقون على الله تعالى محاطين بالرعاية والتكريم بينما يساق المجرمون فيه إلى جهنم عطاشا متعبين، وتكون لهم المقام الذي ينزلون والمنهل الذي يردون ولن تنفع الشفاعة يومئذ، إلّا الذين عاهدوا الله من قبل على الإيمان والخضوع ووفوا بعهده. والآيات غير منقطعة عن السياق السابق كما هو المتبادر، وإنما فيها انتقال من الخاص إلى العام. فالفصول السابقة حكت مواقف وأقوالا خاصة للكفار فأتبعت بهذه

تعليق على الآية ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا (83)

الآيات وما بعدها استطرادا إلى موقفهم الأصلي الذي تفرعت عنه تلك المواقف والأقوال. وفحوى الآيتين [81 و 82] يدل على أن المقصود من الآلهة هم الملائكة الذين كان العرب يشركونهم مع الله ويتخذونهم شفعاء فيكونون يوم القيامة ضدهم وخاذلين لهم. وقد جاء هذا بصراحة في آيات سورة الفرقان [17- 19] التي سبق تفسيرها. ولقد أورد الزمخشري في صدد (العهد) الذي يتخذه الإنسان عند الله الوارد في الآية [87] حديثا عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه صيغة دعاء وعهد يقطعه العبد لربّه بالطاعة والعبادة وطلب الرحمة، وفيه حثّ للمسلمين على تكرار الصيغة صبحا ومساء. والحديث ليس من الصحاح. والذي يتبادر لنا أن المقصود بالعهد هو كما قلنا في الشرح الإيمان بالله وحده وطاعته ومراقبته والتزام أوامره ونواهيه قولا وفعلا. وليس صيغة يكررها الإنسان ودعاء يدعو به. والله تعالى أعلم. ولقد أورد ابن كثير في صدد وفادة المتقين على الله المذكورة في الآية [85] حديثا عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم يذكر حالات التكريم والعناية التي سوف يلقاها المتقون يوم القيامة عند ما يخرجون من قبورهم متجهين إلى الله ثم إلى الجنة. والحديث ليس من الصحاح. ومعنى التكريم على كل حال ملموح في العبارة القرآنية بالنسبة للمتقين حين وفادتهم على الله تعالى بعد البعث. ومع واجب الإيمان بما جاء في الآيات [85 و 86] من مشهد أخروي في كيفية إحضار كل من المجرمين والمتقين، فالمتبادر أن من مقاصد ذلك بث الاغتباط في نفوس المتقين والخوف في نفوس المجرمين ليثبت الأول على تقواهم ويرعوي الآخرون عن إجرامهم. تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) وقد أوّلنا الآية [83] بما أوّلنا لأن ذلك هو المتسق مع روح الآيات ومضمونها. وقد قررت آيات سورة ص [82- 85] التي سبق تفسيرها، وآيات

[سورة مريم (19) : الآيات 88 إلى 96]

عديدة أخرى أن الشياطين إنما يتسلطون على الغاوين الذين يستحبون الضلال على الهدى دون المخلصين. وبهذا التأويل يتسق فحوى النصوص القرآنية ولا يبقى محل للتوهم فيها. وهذا التأويل مؤيد بآيات عديدة أوردناها وشرحناها في مناسبات مماثلة. فالله لا يضل إلّا الظالمين والفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، ويفسدون في الأرض، على ما جاء في آية سورة إبراهيم [27] وآيات سورة البقرة [26، 27] وكثير مثلهما. وفي سورة الزخرف آيات مؤيدة أيضا، ذكر فيها تسليط الله الشيطان على الذين يعشون عن ذكر الله وحسب، وهي هذه وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) . وهذا فضلا عما في الآية من تقريع لاذع للكفار فيه إزالة للتوهّم. فهم إنما يقفون موقفهم بتأثير الشياطين الذين لا يتسلطون إلّا على أمثالهم من فاسدي النية والخلق. وضمير المخاطب في الآية التي نحن في صددها والتالية لها عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم على الأرجح بقصد تثبيته وتطمينه. فإذا كان الكفار يندفعون في طريق الغواية فإنما هم مساقون بيد الشياطين فلا موجب للاغتمام والاستعجال، وعليه أن يوطن النفس على الصبر قليلا، وإذا كان الله لم يعجل بعذابهم فليس ذلك إهمالا وغفلة وإنما هو إمهال. وفي هذا أيضا ينطوي تصويب للشرح الذي شرحناه. [سورة مريم (19) : الآيات 88 الى 96] وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) (1) إدّا: عظيما أو شديدا أو فظيعا أو منكرا. (2) يتفطرن: يتشققن ويتصدعن. (3) تخر: تسقط. (4) ودّا: محبة وبرّا. في الآيات حكاية لعقيدة القائلين باتخاذ الله ولدا وحملة تكذيبية وتقريعية عليهم. فهذا القول منكر شديد تكاد السموات والأرض تنشقّ والجبال تنهدّ من فظاعته. لأن الله أجل وأعظم من أن ينسب إليه هذا النقص. فكل من في السموات والأرض هم عبيده الخاضعون له. قد أحاط بهم إحاطة شاملة. وسيردون عليه يوم القيامة أفرادا مجردين من كل قوة فيقضي فيهم بحكمه القضاء النافذ ويكون للمؤمنين الصالحين عنده البر والرحمة والرعاية. وتعبير «وقالوا» يلهم أن القصد من القائلين هم العرب الذين هم موضوع الكلام في الفصل السابق وما سبقه من فصول. وقد حكت آيات قرآنية عديدة أن العرب كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله على ما شرحناه في سياق سورة المدثر والنجم والفرقان. وهكذا تكون الآيات استمرارا في السياق السابق وفصلا مماثلا للفصل السابق له مباشرة. ومما ورد على البال أن يكون أريد بهذا الفصل أن يشمل في الحملة النصارى الذين اعتقدوا بنوّة المسيح لله تعالى عودا على بدء السورة حين ختامها بالإضافة إلى العرب. فإذا صح هذا ففيه صورة من صور النظم القرآني.

[سورة مريم (19) : الآيات 97 إلى 98]

هذا، والمتبادر أن الآية الأخيرة بالإضافة إلى ما تضمنته من وعد رباني برعاية الذين آمنوا وعملوا الصالحات قد تضمنت قصد التنويه بهم وبث الاغتباط في نفوسهم ليستمروا ويزدادوا فيما هم عليه. ولقد أورد ابن كثير حديثا أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا أحبّ الله عبدا نادى جبريل إنّي قد أحببت فلانا فأحبّه. فينادي في السّماء ثم ينزل له المحبة في أهل الأرض. فذلك قول الله عزّ وجلّ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) » . والحديث لم يرد في كتب الصحاح «1» . وإذا صح فيكون فيه تطبيق لمدى الآية. ولا يخلّ بالشرح الذي شرحناه آنفا من كونها بسبيل التنويه بالرعاية التي تكون للمؤمنين الصالحين يوم القيامة وبسبيل بثّ الاغتباط في نفوسهم في الدنيا. [سورة مريم (19) : الآيات 97 الى 98] فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98) (1) يسرناه بلسانك: الضمير للقرآن ومعنى الجملة جعلناه ميسور الفهم لأننا أنزلناه بلغتك التي هي لغة المخاطبين به وهي العربية كما جاء في آيات عديدة أخرى. (2) لدّا: أشداء في الخصومة والعداء. (3) ركزا: الصوت الخفي. أو الهمس والنأمة. هاتان الآيتان جاءتا معقبتين على السياق السابق جميعه وخاتمة قوية

_ (1) هناك حديث صحيح رواه الشيخان عن أبي هريرة فيه مماثلة لهذا الحديث مع بعض الزيادات. ولكنه لا يربط بين ما جاء فيه وبين الآية كما ربط ذلك حديث ابن أبي حاتم (انظر التاج ج 5 ص 72) .

للسورة. وقد تجمعت في أولاهما أهداف الرسالة المحمدية في تقريرها أن القرآن إنما أنزل بلسان النبي العربي ليكون ميسور الفهم على الذين خوطبوا به لأول مرة وهم العرب، فيبشر الذين آمنوا واتقوا حتى يهنأوا ويطمئنوا، ولينذر الذين اتخذوا الخصومة والعناد والمكابرة ديدنا حتى يرتدعوا ويندمجوا في الرعيل المؤمن الصالح المتقي. وفي الآية على ما يتبادر معنى من معاني التسلية والتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم تكرر في آيات كثيرة، وهو أنه ليس مسؤولا عن الناس وهدايتهم وليس عليه إلّا التبشير والإنذار. أما الآية الثانية فقد أريد بها تذكير الكفار بأمثالهم الكثيرين من قبلهم الذين أهلكهم الله فلم يتحرك أحد منهم بحركة ولم ينبعث من أحد منهم صوت، كأنما أرادت الآية أن تقول إن هلاكهم كان شاملا جارفا. وتلهم روح الآية أن هذا لم يكن مجهولا عند السامعين. والآية الأولى دليل من الأدلة القرآنية القاطعة على أن لغة القرآن هي لغة العرب الموجودين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وأنها كانت مألوفة ومفهومة كل الإلفة والفهم من سوادهم الأعظم وهذا هو الذي يتسق مع مهمة الرسول التي تتناول خطاب جميع الطبقات والاتصال بهم.

سورة طه

سورة طه في السورة تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتخفيف عنه. وسلسلة طويلة تحتوي قصة موسى وفرعون وبني إسرائيل وقصة آدم وإبليس في معرض التسلية وضرب المثل والعظة والإنذار. وفيها حكاية لبعض مواقف الكفار وبيان لمصيرهم ومصير المتقين. وفصول السورة مترابطة منسجمة كما أن آياتها متماثلة في التسجيع وأكثر مقاطعها متوازنة مقفاة مما يسوغ القول إنها نزلت فصولا متلاحقة. وفيها آية معترضة تعلّم النبيّ صلى الله عليه وسلم أدب تلقي القرآن. ومشابهة لآيات سورة القيامة [16- 19] . وقد روي أن الآيتين [130- 131] مدنيتان. وانسجامهما مع السياق سبكا وموضوعا يسوّغ الشك في الرواية. وفي فاتحة السورة ما يمكن أن يكون قرينة على صحة نزولها بعد سورة مريم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة طه (20) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8) (1) لتشقى: لتتعذب وتتعب. (2) الثرى: معنى الكلمة اللغوي التراب النديّ أو المبتلّ. والمتبادر من مقام

تعليق على الآيات الأولى من سورة طه

ورودها أنها بمعنى ما تحت سطح الأرض وأعماقها وباطنها. (3) وأخفى: الكلمة هنا في مقام ذكر كون علم الله تعالى لا يخفى عليه أي شيء مهما خفي واستتر. وقيل إنها حديث النفس الذي يدور في الخاطر. والسر هو الحديث أو الحادث الواقع فعلا في الخفاء. تعددت الأقوال في الحرفين اللذين بدئت بهما السورة كما هو شأن حرفي سورة يس خاصة، وسائر الحروف التي بدئت بهما السور عامة. فقيل إنهما منحوتان عن «يا هذا» أو عن «طأها» أي الأرض حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل الوقوف وهو يصلي حتى ورمت قدماه. وقيل إن معناهما يا رجل لأن «طا» بمعنى رجل في لهجة قبيلة عك أو في النبطية والسريانية. وقيل إنهما قسم رباني أو من أسماء النبي، كما قيل إنهما حروف هجائية مفردة مثل الحروف الأخرى التي بدئت بها السور الأخرى «1» ونحن نرجح أنهما جاءا للتنبيه والاسترعاء لما يأتي بعدهما. وقد وجه الخطاب في الآيات التي تلي الحرفين للنبي صلى الله عليه وسلم، فالله لم ينزل عليه القرآن ليشقى ويضنى وإنما أنزله ليكون تذكرة لمن فيه الاستعداد لخشية الله والرغبة في الإنابة إليه. وقد أنزله عليه الله عز وجل الذي خلق السموات والأرض وما بينهما وما فيهما، والذي له الحكم المطلق في الكون، والمالك لكل شيء والمحيط بكل شيء ظاهرا كان أو خفيّا، سرّا أو علنا، والمتفرد في الألوهية الذي له أحسن الأسماء وأكمل الصفات. تعليق على الآيات الأولى من سورة طه لقد روى المفسرون أن الآيات نزلت بمناسبة ما كان من إجهاد النبي صلى الله عليه وسلم نفسه في العبادة والصلاة والوقوف وقراءة القرآن حتى ورمت قدماه. وليس لهذه الرواية سند وثيق، ونحن نتوقف فيها لأنها لا تنسجم مع روح الآيات بقطع النظر

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي والخازن.

عن حقيقة جهد النبي صلى الله عليه وسلم في عبادة الله واستغراقه فيها مما حكته آية سورة المزّمل الأخيرة. ورووا كذلك أن المشركين قالوا للنبي إن القرآن أوحي إليك لشقائك فأنزل الله الآيات لتكذيبهم. والرواية كذلك ليس لها سند وثيق. ونحن نتوقف فيها. لأن مقتضاها أن يكون المشركون آمنوا بالوحي أو اعترفوا به. ورووا عن قتادة أحد علماء التابعين أن الآية الأولى بسبيل تقرير كون الله تعالى لم ينزل على رسوله القرآن ليشقي به نفسه وإنما أنزله ليكون رحمة ونورا ودليلا إلى الجنة. والذي يتبادر لنا من نصها وروحها أنها نزلت بسبيل تخفيف ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم من جهد وتعب في دعوة الناس وهدايتهم، وما يجده من غمّ وحزن وما يلقاه من عناد ومكابرة وسخرية وتعطيل، فلا ينبغي له أن يحزن ويغتم ويضني نفسه. وليس عليه إلّا التذكير. ويكفي أن ينتفع بالتذكير والدعوة أصحاب الرغبات الصادقة والنيات الحسنة. ويلحظ أن هذا المعنى قد اختتمت به السورة السابقة بعد سلسلة من صور مواقف الكفار وأقوالهم. وبدء هذه السورة به قد يدل على صحة ترتيب نزولها بعد تلك السورة كما قد يدل على أن تلك الصور كانت تثير في نفس النبي صلى الله عليه وسلم أزمات حزن وغمّ وحسرة اقتضت حكمة التنزيل موالاة تسليته وتطمينه فيها. ومما يلحظ أن هذا المعنى قد تكرر في سورة فاطر التي سبقت سورة مريم في النزول. وهذا يعني أن أزمات حزن النبي صلى الله عليه وسلم وحسرته ظلت تتوالى بسبب توالي مواقف الكفار وأقوالهم المثيرة وتصاممهم عن الدعوة إلى الله وحده. وهذه الأزمات التي كانت تتوالى على النبي صلى الله عليه وسلم هي من دون ريب نتيجة لإشفاقه على قومه والرأفة بهم والرغبة الشديدة في هدايتهم والاستغراق التام في الواجب العظيم الذي انتدب إليه، والتفاني فيه وتوطين النفس على كل مكروه في سبيله من أجل خير الناس ونجاتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة. وفي هذا مظهر

[سورة طه (20) : الآيات 9 إلى 23]

من مظاهر الأخلاق الكريمة العظيمة التي تهيأ بها محمد صلى الله عليه وسلم للاصطفاء الرباني، كما فيه القدوة الحسنة التي يجب أن يتخذها المسلمون وبخاصة زعماؤهم وأصحاب الدعوات الإصلاحية فيهم. ولقد علقنا في سياق تفسير سورة الأعراف على تعبير اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ فلا ضرورة للإعادة. وإنما ننبه إلى أن روح الآيات التي جاء فيها هنا تدل دلالة قوية على صواب ما انتهينا إليه إن شاء الله في تعليقاتنا السابقة وهو أن القصد منه تقرير شمول ملك الله لجميع الأكوان وإحاطته بها. [سورة طه (20) : الآيات 9 الى 23] وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16) وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) . (1) آنست نارا: رأيت نارا فاستأنست بها. (2) قبس: شعلة أو جزء من النار. (3) أجد على النار هدى: أجد عندها ما يساعدنا على الاهتداء في طريقنا ورحلتنا.

تعليق على مدى السلسلة القصصية عن رسالة موسى عليه السلام إلى فرعون وما بعد ذلك والحلقة الأولى من هذه السلسلة.

(4) المقدس: المبارك والمطهر. (5) طوى: تعددت الأقوال في هذه الكلمة. وأوجهها عندنا أنها اسم الوادي الذي رأى موسى على حفافيه النار. والمكان قرب جبل حوريب في طور سيناء وقد ذكر ذلك في الإصحاح الثالث من سفر الخروج ثاني أسفار العهد القديم. (6) فلا يصدّنك: فلا يصرفك ولا يلهيك. (7) تردى: إما أنها تتردى ويكون الضمير لموسى، وإما أنها تردّى ويكون الضمير للغائب الذي لا يؤمن بها واتبع هواه، وكلا المعنيين محتمل. (8) أهشّ: أسوق، وأصل الهش ضرب، ورق الشجر ليتساقط. (9) مآرب: جمع مأرب وهو الحاجة. (10) تسعى: تجري أو تمشي بسرعة. (11) سنعيدها سيرتها الأولى: سنرجعها عصا كما كانت. (12) جناحك: جانبك أو جيبك أو تحت عضدك. (13) بيضاء من غير سوء: بيضاء من غير مرض أو برص. تعليق على مدى السلسلة القصصية عن رسالة موسى عليه السلام إلى فرعون وما بعد ذلك والحلقة الأولى من هذه السلسلة. الآيات حلقة من سلسلة قصصية طويلة في رسالة موسى عليه السلام إلى فرعون. وما جرى له معه، وما كان من أمر بني إسرائيل بعد ذلك. وقد احتوت خبر مناداة الله سبحانه لموسى عليه السلام لأول مرة في وادي طوى المقدس، ومعجزتي انقلاب العصا إلى حية، وابيضاض يد موسى اللتين أظهرهما الله به في هذه المناداة. وأراد بذلك أن يريه بعض آياته الكبرى. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وحرف العطف الذي يعطف السلسلة على ما قبلها والسؤال الذي بدأت به موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسوغان القول إن السلسلة جاءت كتعقيب على الآيات السابقة

التي احتوت تسلية وتطمينا للنبي صلى الله عليه وسلم. وقد يكون من حكمة ذلك في مقامها ما احتوته السلسلة من مراحل رسالة موسى إلى فرعون وموقف فرعون، وملأه منها ليكون للنبي في ذلك الأسوة والتسلية. وبذلك يصح القول إن السلسلة كسائر القصص القرآنية لم ترد لذاتها وإنما وردت للتذكير والعبرة وضرب المثل. على أن ما تخلل السلسلة من مواعظ وتلقينات وما أعقبها من تعقيب يربط بينها وبين الرسالة المحمدية ومواقف الكفار منها يجعل السلسلة غير قاصرة على تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وحمله على التأسي بل شاملة ليكون فيها العبرة والعظة وضرب المثل للمؤمنين والكفار معا. ولقد ورد في سورة الأعراف السابقة النزول على هذه السورة سلسلة طويلة مثل هذه السلسلة في قصة رسالة موسى إلى فرعون وما كان من بني إسرائيل. غير أن في سلسلة سورة طه هذه أشياء لم ترد في تلك السلسلة حيث يمكن القول إن حكمة التنزيل التي اقتضت تكرار قصة رسالة موسى إلى فرعون وما كان من بني إسرائيل بعد ذلك لتجدد المناسبة اقتضت أن يكون في هذه السلسلة أشياء لم تكن في تلك حتى تتكامل نواحي القصة وما فيها من مواعظ وعبر. وما ورد في الآيات التي نحن في صددها والتي هي الحلقة الأولى من السلسلة هو مطابق إجمالا لما ورد في الإصحاحين الثالث والرابع من سفر الخروج ثاني أسفار العهد القديم المتداول اليوم باستثناء اسم (طوى) وموضوع (الساعة) فإن ذلك لم يرد فيهما. ونعتقد أن ذلك مما كان متداولا في أوساط اليهود وواردا في بعض أسفارهم وقراطيسهم. ولقد احتوى الإصحاحان المذكوران بيانات أوسع مما جاء في الآيات. ومن جملة ذلك أن المكان الذي رأى فيه موسى عليه السلام وناداه الله تعالى منه هو قرب جبل حوريب في البرية القريبة من مدين. والمتبادر أن ما ورد في الآيات هو ما اقتضت حكمة التنزيل إيراده من ذلك لتحقيق الهدف القرآني الذي هو الموعظة والتذكير دون السرد القصصي.

وهذا القول يطرد في كل ما جاء من قصص موسى وفرعون وبني إسرائيل وأنبيائهم. كما أنه يفسر تكرر هذه القصص وغيرها بأساليب وصيغ متنوعة في سور عديدة. وفي كتب التفسير بيانات على هامش هذه الآيات معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم من عرب ويهود مسلمين. فيها ما هو المتطابع مع ما جاء في الأسفار وما هو غير متطابق. ولم نر طائلا إلى إيرادها لأنها لا تتصل بهدف الآيات المذكورة. وإن كانت تدل على أن ما احتوته الآيات كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم. ويكون في هذا دعما للهدف المذكور كما هو المتبادر. ولقد احتوت الحلقة توكيدا لبعض المبادئ والحقائق القرآنية التي وردت مرارا في السور القرآنية منها في السور التي مر تفسيرها. مثل تقرير وحدة الله عز وجل ووجوب عبادته وحده. وحقيقة قيام الساعة وإخفاء الله لوقتها اختبارا للناس ليسعوا سعيهم فينالوا جزاءهم وفاقا له. ووجوب الإيمان بذلك وعدم الاستماع لوساوس المكذبين لها والمتبعين لأهوائهم لأن ذلك يؤدي إلى الخسران والهلاك. حيث يبدو من ذلك أن الآيات تهدف فيما تهدف إليه إلى إظهار التطابق بين هذه المبادئ والحقائق وبين ما وصّى الله به موسى عليه السلام من مثل ذلك وتوكيد وحدة المصدر الذي صدرت عنه تلك المبادئ والحقائق والوصايا. وقد تكررت الآيات التي هدفت إلى مثل هذا الهدف. ومن ذلك آية سورة الشورى هذه شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) . ونلحظ أن الآيات هنا ذكرت انقلاب العصا إلى حية. في حين أن آيات سورة الأعراف ذكرت انقلابها إلى ثعبان. غير أن هذا الانقلاب كان أمام فرعون. وانقلاب العصا إلى حية كان حين مناداة الله إياه. فالموقفان مختلفان. وقد قال الزمخشري وغيره مع ذلك إن الحية اسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير

تعليق على مدى جملة وأقم الصلاة لذكري

والكبير، وإن الثعبان هو ما عظم من الحيّات. وفي هذا توفيق أيضا. تعليق على مدى جملة وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي لقد روى الطبري في سياق هذه الجملة حديثا رواه بطرقه عن أبي هريرة جاء فيه «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسي صلاة فليصلّها لذكرها، قال الله أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي» (1) . والحديث ليس من الصحاح. ولكن هناك حديثا مقاربا له رواه الترمذي «1» . حيث ينطوي في ذلك توضيح لمدى الجملة. مع أن الطبري رجح تأويلا آخر لها وهو أنها بسبيل الأمر بإقامة الصلاة لأنها وسيلة إلى ذكر الله وهو تأويل وجيه. والجملة من جملة ما أمر الله به موسى كما هو واضح. فيكون في الأحاديث تعليم نبوي مستمدّ من الجملة القرآنية. ومثل هذا كثير في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. [سورة طه (20) : الآيات 24 الى 48] اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير مثلا. [.....]

تعليق على الحلقة الثانية من سلسلة قصص موسى عليه السلام

(1) احلل عقدة من لساني: قيل كان ثقيل النطق. (2) يفقهوا: يفهموا. (3) أزري: ظهري أو أمري. (4) مننّا: هنا بمعنى أنعمنا وتفضلنا. (5) التابوت: كناية عن القفص أو الصندوق الذي وضع فيه موسى حينما ألقته أمه في البحر. (6) اليمّ: الماء أو البحر أو النهر. (7) لتصنع على عيني: لتنشأ تحت رعايتي وعنايتي. (8) يكفله: يقوم بأوده أو يرضعه. (9) فتناك فتونا: اختبرناك اختبارا أو خلصناك من محنة بعد محنة. (10) ثم جئت على قدر: ثم جئت في الوقت المقدر لمجيئك. (11) اصطنعتك لنفسي: اخترتك أو هيأتك للقيام بالمهمة التي أردتها لك. (12) ولا تنيا: لا تتهاونا ولا تقصرا. (13) يفرط علينا: يعجل علينا بالأذى. تعليق على الحلقة الثانية من سلسلة قصص موسى عليه السلام الآيات تتمة لمناداة الله سبحانه لموسى عليه السلام في وادي طوى المقدس. وعبارتها واضحة. وقد احتوت خبر انتداب الله سبحانه لموسى للذهاب إلى فرعون

تعليق على أمر الله تعالى لموسى بملاينة الكلام مع فرعون وما في ذلك من تلقين

وإنذاره وإنقاذ بني إسرائيل وما كان من تخوف موسى من المهمة ومراجعته لله في ذلك. وما كان من تثبيت الله له وإجابته إلى ما سأله. والإشارة في سياق ذلك إلى سابق رعايته له. والخطة التي يجب أن يسير عليها هو وأخوه في مخاطبة فرعون. ومحتويات الآيات لم ترد كذلك في سلسلة سورة الأعراف. وهذه المحتويات مع بيان ما كان من رعاية الله لموسى عليه السلام واردة في الإصحاحات (2 و 3 و 4) من سفر الخروج. وبين ما ورد في القرآن وفي هذه الإصحاحات تطابق إجمالا باستثناء طلب موسى من الله أن يجعل أخاه هرون معه حيث جاء هذا بعبارة أخرى. ونعتقد أن ما جاء في القرآن هو الذي كان متداولا عند الله وواردا في بعض قراطيسهم. ولقد أورد المفسرون في سياق هذه الآيات بيانات معزوة إلى رواة الأخبار. منها ما هو متطابق مع ما ورد في سفر الخروج ومنسجم مع دلالة الآيات. ومنها ما ليس كذلك، بل وفي بعضها تزيد وإغراب لا سند لهما. ولم نر طائلا في نقل ذلك أو تلخيصه. لأن القصص القرآنية عامة ومنها هذه السلسلة لم ترد للإخبار وإنما وردت للعظة والتمثيل بالقدر الذي اقتضته حكمة التنزيل لتحقيق هذا الهدف. وهو ما يجب الوقوف عنده فيما نرى. تعليق على أمر الله تعالى لموسى بملاينة الكلام مع فرعون وما في ذلك من تلقين ولقد احتوت الآيات [43- 46] التي تضمنت الخطة الربانية المرسومة لموسى وهرون عليهما السلام في مخاطبة فرعون تلقينات جليلة في صدد الدعوة وأسلوبها وما يجب على الدعاة من اصطناع الرفق واللين والأساليب الحسنى التي يمكن الوصول بها إلى الغاية والنجاح، وفيها درس بالغ للذين يستعملون الخشونة والقسوة بل والبذاءة أحيانا من المتصدرين للزعامة والمتصدين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حيث يقرر الله تعالى أن فرعون طغى ومع ذلك يأمر رسوليه

[سورة طه (20) : الآيات 49 إلى 79]

إليه بأن يقولا له قولا لينا لعلّه يتذكر أو يخشى. ولقد تكرر مثل هذا التلقين في آية من سورة آل عمران خاطب بها الله سبحانه نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم مثنيا فيها على أخلاقه السمحة ولينه منبها إلى أنه لو لم يكن كذلك ولو كان فظّا غليظ القلب لا نفض الناس من حوله، حاثّا إياه على الاستمرار في معاملتهم بالعفو والصفح والتألّف. وهي هذه فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) ومثل هذا التلقين منطو في آية سورة الأعراف خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) على ما مرّ شرحه في سياق تفسير السورة المذكورة. ولقد روى النسائي والترمذي حديثا عن طارق بن شهاب قال «إن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقد وضع رجله في الغرز أي الجهاد أفضل قال كلمة حق عند سلطان جائر» غير أننا لا نرى تعارضا بين هذا وبين التلقين الجليل الذي احتوته العبارة القرآنية والله تعالى أعلم. [سورة طه (20) : الآيات 49 الى 79] قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79)

(1) أعطى كل شيء خلقه ثم هدى: منح كل شيء مما خلق ما اقتضاه نوعه من صفات وغرائز ونواميس وقابليات وهداه إلى استعمالها والانتفاع بها. (2) ما بال القرون الأولى: ماذا جرى للأمم المتقدمة. (3) في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى: في علم الله الذي لا يضل ولا يغفل ولا يذهل ولا ينسى شيئا. (4) مهدا: ممهدة قابلة للسير. (5) أزواجا من نبات شتى: أنواعا وأصنافا شتى. (6) مكانا سوى: مكانا مستويا أو مكانا فيه إنصاف وتسوية للطرفين.

(7) يوم الزينة: يوم العيد الذي يتزين فيه الناس. (8) يحشر: يجتمع. (9) فيسحتكم: يهلككم ويسحقكم. (10) فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى: تجادلوا وتناقشوا في الأمر في اجتماع سري. (11) إن هذان لساحران: قرئت (إن) كحرف نفي. فتكون جملة (هذان لساحران) مبتدأ وخبرا. وقرئت بتشديد النون على أنها المشبهة التي تنصب الاسم وترفع الخبر. وقرأ بعضهم (هذان) في صيغة (هذين) لتكون اسمها. ولكن قراءة الجمهور (هذان) . وقد روي عن عائشة قولها إن (هذان) من غلط الكتاب والأصح أن تكون (هذين) اسما لأنّ المشبهة. وفي القرآن آيات كثيرة ورد فيها حرف (إن) بالجزم كحرف نفي وورد بعدها مبتدأ وخبرا. ومن ذلك آية سورة إبراهيم إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [11] فتكون جملة إِنْ هذانِ لَساحِرانِ في مقام (ما هذان إلا ساحران) ونرى هذا هو الأوجه والرواية المروية عن عائشة لم ترد في كتب الصحاح. ونحن نتوقف فيها. والله أعلم. (12) طريقتكم المثلى: طريقتكم الفضلى. (13) أجمعوا كيدكم: دبروا الأمر متضامنين. (14) من استعلى: من غلب وعلا على خصمه. (15) فأوجس: فشعر وأحس. (16) تلقف: بمعنى تبتلع، ومعنى تلقف في الأصل الأخذ بسرعة. (17) لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف: من خلاف بمعنى مخالفة أي قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، أو قطع اليد اليسرى والرجل اليمنى. (18) جذوع النخل: الجذع بمعنى الساق. (19) لن نؤثرك: لن نختارك ولن نفضلك. (20) الذي فطرنا: الذي خلقنا. والجملة إما أن تكون معطوفة على «ما جاءنا» أو قسما بالذي فطرنا، وكلاهما وارد.

تعليق على الحلقة الثالثة من سلسلة قصص موسى وفرعون وبني إسرائيل

(21) فاقض ما أنت قاض: احكم بما تريد أن تحكم أو افعل ما تريد أن تفعل. (22) إنما تقضي هذه الحياة الدنيا: إن حكمك وقضاءك علينا في الحياة الدنيا، وحسب. (23) يبسا: أرضا يابسة لا بلل فيها. (24) دركا: لحاقا. تعليق على الحلقة الثالثة من سلسلة قصص موسى وفرعون وبني إسرائيل الآيات حلقة أخرى من حلقات السلسلة وقد احتوت حكاية موجزة لما كان بين موسى عليه السلام وفرعون والسحرة إلى خروج بني إسرائيل من مصر. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وبعض ما ورد فيها ورد في سورة الأعراف التي سبق تفسيرها. وما جاء فيها متطابق إجمالا مع ما جاء بإسهاب في الإصحاحات (5 إلى 15) من سفر الخروج عدا كل ما يتصل بالسحرة. ونعتقد أن ما جاء في الآيات كان متداولا بين اليهود وواردا في بعض أسفارهم وقراطيسهم. وفي كتب التفسير بيانات كثيرة في نطاق ما جاء في القرآن ومن جملة ما جاء في صدد السحرة. وفيها أشياء كثيرة غير واردة في سفر الخروج حيث يكون في ذلك دعم لما نقول. ولم نر ضرورة لإيراد ما جاء في هذه الكتب لأنها لا تتصل بأهداف القرآن في السلسلة. وفي الآيات حكاية زجر موسى عليه السلام للسحرة. وقول رباني بعدم فلاح الساحر في سياق وصدد ما جاء من سحرة فرعون الآيات [61 و 69] وفي الإصحاح (22) من سفر الخروج والإصحاح الثاني من سفر الأحبار والإصحاح (18) من سفر التثنية حكاية أوامر ربانية بإبادة السحرة ورجم أصحاب التوابع والعرافين ونهي شديد عن ذلك حيث ينطوي في هذا أن الشريعة الموسوية تشجب السحر

[سورة طه (20) : الآيات 80 إلى 98]

والسحرة وترتب عليهم عقوبات زاجرة. وحيث يكون في هذا تساوق مع ما ورد في السلسلة وفي القرآن من ذلك. ولقد احتوت الآيات نقاطا كثيرة فيها العبرة والعظة والتطابق من المبادئ والتقريرات والتدعيمات الواردة في سور أخرى، منها ما مر تفسيره ومما هو هدف جوهري في الآيات مثل المحاورة الأولى التي جرت بين موسى عليه السلام وفرعون في صور عظمة الله وقدرته الشاملة وعلمه المحيط ونعمه على خلقه، وإيداعه في كل شيء خلقه ما هو في حاجة إليه، وهدايته إلى استعمالها والانتفاع بها. ومثل الحملة على السحر والسحرة وتقرير كون ذلك كذبا وافتراء على الله، وأن الذين يتعاطون السحر لا يمكن أن يصيبوا فلاحا ونجاحا. ومثل انتصار رسول الله على السحرة باية الله. ومثل رؤيتهم الحق والهدى في جانب رسول الله، وإيمانهم وسجودهم لله، وثباتهم على ذلك رغم تهديد فرعون إياهم بقطع الأيدي والأرجل والصلب. ورجاء غفران الله ونيل رضوانه ونعيمه الأخروي الذي هو الأفضل، لأن الذي يأتي ربّه مجرما له نار جهنم لا يموت فيستريح من العذاب ولا يخرج منها فيكون له حياة أخرى، ومن يأته مؤمنا صالح العمل له الدرجات العلى وجنات النعيم. ومثل ما كان في النهاية من عناية الله تعالى بموسى عليه السلام وقومه لإخلاصهم وإيمانهم، وإنقاذهم من طغيان فرعون وغرق فرعون الذي لحق بهم مع جنوده نتيجة لمعجزة الله التي أظهرها على يد رسوله بضربه البحر بعصاه وسير موسى وقومه على الأرض اليابسة فيه وانطباقه بعد ذلك على فرعون وجنوده لأنه قاد قومه إلى الضلال دون الهدى. [سورة طه (20) : الآيات 80 الى 98] يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82) وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98)

(1) هوى: سقط وهلك. (2) ما أعجلك عن قومك: ما لذي جعلك تترك قومك وتتعجل بالمجيء. (3) على أثري: آتون من ورائي. (4) فتنّا قومك: امتحناهم. (5) أسفا: حزينا أو ساخطا. (6) لم ترقب قولي: لم تطع قولي أو لم تحفظه أو لم تنتظر إشارة مني. (7) بصرت بما لم يبصروا به: علمت ما لم يعلموه أو رأيت ما لم يروه. (8) سوّلت لي نفسي: زينت لي نفسي. (9) لننسفنه: لننثرنه أو لنذرينه.

تعليق على الآيات المتضمنة حكاية بعض ما كان من أمر بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر

تعليق على الآيات المتضمنة حكاية بعض ما كان من أمر بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر الآيات هي الحلقة الأخيرة من السلسلة. وقد احتوت حكاية موجز من سيرة بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر وأثناء مكوثهم في برية سيناء. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. ومنها ما ذكر في سلسلة سورة الأعراف التي سبق تفسيرها، ومنها ما لم يذكر قبل. وما جاء فيها متطابق إجمالا مع ما جاء بإسهاب في الإصحاحات (16 و 17 و 30) من سفر الخروج مع بعض فروق في المحاورات، باستثناء السامري وصنعه العجل. حيث ذكر الإصحاح (30) من السفر أن هارون هو الذي صنعه نتيجة تمرد وإلحاح بني إسرائيل. ونعتقد أن اسم السامري كان متداولا بين اليهود وواردا في أسفار لم تصل إلينا كصانع للعجل. والمحاورة التي جرت بين موسى وهارون وحكتها الآيات وما حكته الآيات كذلك من تأنيب هارون لبني إسرائيل على اتخاذهم العجل مؤيد لذلك من وجهة النظر القرآنية والإسلامية. فهارون من أنبياء الله ولا يصح أن يكون صانعا للعجل. ونعتقد أيضا أن ما جاء في القرآن غير ذلك مباينا لما جاء في السفر أسلوبا وعبارة كان هو أيضا متداولا في اليهود وواردا في الأسفار الضائعة. و (سامري) صيغة عربية نسبة إلى سامر الذي هو على الأرجح معرف من كلمة شامر التي كانت تطلق على منطقة في وسط فلسطين قرب نابلس اليوم. وقد ذكرت الكلمة في أسفار عديدة من أسفار العهد القديم المتداولة اليوم التي تؤرخ حقبة تاريخ بني إسرائيل قبل المسيح «1» . ولقد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم طائفة موسوية تسكن هذه المنطقة

_ (1) انظر مثلا الإصحاح (18) من أخبار الأيام الثاني و (16) من الملوك الأول في الطبعة البروتستانتية والثالث في الطبعة الكاثوليكية و (4) من سفر عزرا و (4) من سفر نحميا.

استمرارا لأمد بعيد قبله بل وقبل المسيح منسوبة إليها. ولا يزال بقية منها موجودة إلى اليوم في نابلس. وكل هذا كان معروفا متداولا بين اليهود بطبيعة الحال. ولقد أورد الطبري وغيره روايات معزوة إلى علماء الأخبار في الصدر الإسلامي الأول في صدد توضيح ما جاء في الآيات. منها ما هو متطابق مع الأسفار المتداولة اليوم، ومنها ما لا يتطابق، وكلها تدور في نطاق ما جاء في القرآن سواء أكان مباينا لما في الأسفار المتداولة أم لم يكن فيها بالمرة. حيث يدعم هذا ما قلناه. إن ما جاء في القرآن كان هو المتداول في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم. وليس من مصدر إلّا اليهود وما كان في أيديهم من أسفار وقراطيس لم تصل إلينا. ومن جملة ذلك أن السامري كان من عظماء بني إسرائيل وأنه من قبيلة اسمها سامرة. وأن الحلي التي صنع السامري منها العجل قد أخذها بنو إسرائيل من المصريين حين خروجهم وهو ما عبرت عنه الآية [87] . وفي الإصحاحات (3 و 11) من سفر الخروج خبر استعارة بني إسرائيل من المصريين جيرانهم متاعا وحليا بنية سلبها. ومما جاء في روايات المفسرين أن السامري رأى جبريل وهو قادم إلى موسى فقبض قبضة من تراب الأرض التي داستها فرسه. وأنه ألقى هذه القبضة مع الحلي في النار وقال لها كوني عجلا جسدا له خوار وهو ما عبرت عنه الآيتان [88- 89] . ولقد كان العجل من المعبودات المهمة في مصر. فالظاهر أن بني إسرائيل اندمجوا في ذلك إبّان إقامتهم في مصر. فلما ذهب موسى إلى مناجاة ربه وتأخر عنهم اضطربوا وثاروا وطالبوا بالعودة ثم ذكروا المعبود المذكور فصنعوا تمثالا له من الحلي التي كانوا سلبوها من المصريين وأخذوا يتعبدون له. ولقد كان هذا ديدن بني إسرائيل في إقامتهم في فلسطين فيما بعد حيث اعتنقوا عقائد أهلها القدماء وانحرفوا عن عبادة الله وحده. وكل هذا ما سجلته عليهم أسفارهم. ولقد كان يعقوب جد بني إسرائيل وأولاده الذين هم أجداد أسباط بني إسرائيل أقاموا ردحا في منطقة نابلس التي كان اسمها سابقا شكيم على ما ذكره

الإصحاح (33) من سفر التكوين والإصحاحات التي بعده. وقد قلنا إن هذه المنطقة هي المنطقة التي كانت تسمى سامر أو شامر. ولا ندري هل يمكن أن يكون بين هذا وبين ما رواه المفسرون من أن السامري كان من عظماء اليهود صلة ما بحيث يفرض أن بعض أبناء يعقوب أو ذريتهم نعتوا في مصر باسم السامريين نسبة إلى المنطقة التي سكنوا فيها في فلسطين قبل نزوحهم إلى مصر فظل هذا النعت متصلا إلى زمن موسى عليه السلام. وتأويل كلمة فَنَسِيَ موضوع اختلاف على ما رواه المفسرون عن أهل التأويل حيث قال بعضهم إنها من كلام السامري لبني إسرائيل بقصد القول إن الإله العجل الذي صنعه لهم هو إله موسى أيضا الذي نسيه. وحيث قال بعضهم إنها تعقيب رباني بقصد القول إن السامري في قوله هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى يكون قد نسي إيمانه بالله وحده. وقد يكون هذا هو الأوجه لأن الآية التي أعقبت الكلمة احتوت تعقيبا قرآنيا مباشرا من الله فيه تنديد بهم لأنهم اتخذوا العجل دون أن يدركوا أنه لا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم نفعا ولا ضرّا. ومما رووه عن أهل التأويل في توضيح كلمة لا مِساسَ أن موسى عليه السلام أمر السامري بعدم مخالطته للناس وأمر الناس بعدم مخالطة السامري فصار هائما لا يمسّ ولا يمسّ. ونكتفي بما تقدم مما يرويه المفسرون لتوضيح مدى الآيات لغويا وموضوعا. ولقد شرحناه ما ورد من أوصاف المنّ والسلوى في سورة الأعراف فلم نر ضرورة للتكرار. ولقد احتوت الحلقة بدورها نقاطا عديدة فيها العبرة والعظة والتذكير والتطابق مع تقريرات القرآن المتكررة، وكل هذا من أهدافها الجوهرية. من ذلك تذكير بني إسرائيل بما كان من عناية الله بهم وإنقاذهم من عدوهم وإرسال المنّ والسلوى طعاما لهم وإباحة الطيبات لهم جزاء ما كان من إيمانهم واتباعهم موسى عليه السلام وتحذيرهم من تجاوز حدود الله حتى لا يحلّ عليهم غضبه فيهلكون.

[سورة طه (20) : الآيات 99 إلى 101]

وهتاف الله عز وجل بأنه الغفار لمن تاب إليه وآمن واهتدى وعمل الصالحات، وما كان من افتتان بني إسرائيل بالعجل والتنديد بهم لأنهم اتخذوا إلها غير الله لا يملك لهم نفعا ولا ضرّا، وثوران غضب موسى عليه السلام عليهم ومعاقبته للسامري بالمقاطعة التامة. وهتافه بأن الله هو وحده إلههم الذي وسع كل شيء علما والذي لا ينبغي أن يعبد غيره. وفي قصة السامري خاصة عظة بالغة حيث انطوت على التحذير من وساوس الأشرار وإغواء شياطين الإنس، ثم على خطة المقاطعة والحرمان والاحتقار ضد الذين يحاولون تضليل مجتمعهم وإفساد ضمائرهم وتشويه الصافي من عقائدهم وتقاليدهم. [سورة طه (20) : الآيات 99 الى 101] كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (101) الآيات جاءت معقبة على السلسلة تحمل الدليل الصريح على أن القصد من القصة التي احتوتها هو التذكير والعظة: فالله تعالى أوحى لنبيه صلى الله عليه وسلم بما كان من أنباء السابقين وآتاه الذكر ليكون في هذا وذاك موعظة للناس وهدى. فمن أعرض عنه ولم ينتفع به فإنه يأتي يوم القيامة حاملا وزره وساء ذلك من وزر سوف يؤدي بصاحبه إلى الخلود في النار. [سورة طه (20) : الآيات 102 الى 113] يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113)

(1) زرقا: قيل زرقا بمعنى عميا وقيل بمعنى عطاشا وقيل إنها وصف للعيون حيث تزرق من الهلع والهول. (2) يتخافتون بينهم: يتحاورون فيما بينهم محاورة خافتة. (3) أمثلهم طريقة: أشدهم اعتدالا وأوفرهم عقلا. (4) قاعا صفصفا: سهلا منخفضا ومستويا. (5) عوجا: هنا بمعنى الانحناء أو الانخفاض أو الالتواء. (6) أمتا: بمعنى النتوء أو البروز. (7) يتبعون الداعي لا عوج له: يتبعون الداعي اتباعا تامّا ليس فيه زوغان ولا عوج ولا تلكؤ. (8) عنت: ذلت وخضعت. (9) القيوم: الدائم القيام على تدبير الكون والخلق. (10) ظلما: الكلمة في الآية [111] بمعنى اقتراف الظلم وفي الآية [112] بمعنى النقص والبخس. (11) هضما: بمعنى تضييعا. في الآيات وصف ليوم القيامة وهوله. ومصائر الناس فيه حسب أعمالهم. وعبارتها واضحة. وهي على ما هو المتبادر استمرار للايات التعقيبية السابقة التي احتوت بيان ما يكون من أمر المعرضين عن ذكر الله يوم القيامة. وبعض ما في الآيات قد جاء مثله في سور سابقة وعلقنا عليه ما فيه الكفاية. وفي الآية الأخيرة توكيد صريح لما ذكرناه غير مرة من أن من أهداف آيات الإنذار

والوعيد والبشرى والترغيب في صدد الأخيرة هو تذكير الناس بالله تعالى وحقه عليهم ودعوته إلى اتقاء ما يغضبه من عقائد منحرفة وأفعال سيئة والإقبال على ما يرضيه من إيمان به وإخلاص له من الأعمال الصالحة. وقد تخلل الآيات آيتان عن الجبال ونسفها يوم القيامة بصيغة سؤال موجه للنبي صلى الله عليه وسلم عن مصيرها. وأمر بالإجابة بأنها تنسف ويكون مكانها سهل مستولا اعوجاج فيه ولا بروز. ولقد روى البغوي عن ابن عباس أن رجلا من ثقيف سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مصير الجبال يوم القيامة فأنزل الله الآية. وتقتضي الرواية أن تكون الآيتان نزلتا لحدتهما مع أنهما منسجمتان انسجاما تاما مع الآيات السابقة واللاحقة نظما وموضوعا. على أن هذا لا يمنع أن يكون واحد سأل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في ظرف ما قبيل نزول الآيات فاقتضت حكمة التنزيل والإشارة إلى ذلك والإجابة عليه. وعلى كل حال فالجبال كانت تمثل في أذهان السامعين نموذجا من مشاهد الطبيعة العظيمة التي يحسونها ويشاهدونها والتي يمكن أن يرد لبالهم سؤال عن مصيرها ... ولقد تكررت الآيات القرآنية التي ذكر فيها مصير الجبال يوم القيامة مرّت أمثلة منها في سور المزمل والتكوير والقارعة مما يمتّ إلى ذلك. واقتصار الآية الأولى على ذكر حشر المجرمين ليس معناه قصد اقتصار البعث عليهم طبعا وإنما هو في صدد إنذار الكفار المجرمين ووصف الهول الذي يلاقونه والفزع الذي يقعون فيه وأثره فيهم. على أن الآيات لم تنس المؤمنين الصالحين حين قررت أنهم سوف ينالون جزاء أعمالهم تامة لا بخس ولا هضم فيها. وحكاية الحوار بين الكفار عن مقدار ما لبثوا في القبور انطوى فيها قصد تصوير قوة المباغتة التي سيباغتون بها وقصر موعد تحقيق الوعيد الرباني الذي يرونه مستحيلا وبعيدا للتأثير في السامعين وإثارة خوفهم وقلقهم على ما هو المتبادر. وقوة الوصف والتصوير وقوة الوعيد والإنذار والترغيب والترهيب في الآيات

تعليق على جملة وهو مؤمن في الآية [112]

بمجموعها ملموحة، من شأنها إثارة الخوف والقلق في الكفار، والطمأنينة والرضاء في المؤمنين، وهو مما استهدفته فيما استهدفته. والآية [109] وهي تذكر أن الشفاعة في ذلك اليوم لا تنفع إلا الذين رضي الله تعالى عنهم ولا تكون إلا بإذنه تنطوي على قصد قطع الطريق على المشركين الذين كانوا يشركون شركاء مع الله وخاصة الملائكة في العبادة والدعاء بقصد نيل شفاعتهم عنده. بل وعلى قصد الطريق على الناس عامة الذين اعتادوا أن يقضوا رغباتهم بالاستشفاع بغير الله من أنبياء وأولياء دون السعي والعمل والقيام بالواجب نحو الله والناس مما فيه تلقين مستمر. ومما تكرر بأساليب متنوعة بسبب امتلاء ذهن المشركين الأولين والناس عامة به. وقد مرت منه بعض الأمثلة ومن ذلك في الآيات الأخيرة من سورة مريم السابقة لهذه الآية. تعليق على جملة وَهُوَ مُؤْمِنٌ في الآية [112] وهذه الجملة في مقامها تنطوي على تنبيه مهم وهو أن العمل الصالح الذي يفيد صاحبه وينجيه من سوء المصير في الآخرة هو الذي يجب أن يكون صادرا عن إيمان بالله واليوم الآخر. والحكمة المتبادرة من هذا هي التنبيه على أن العمل الصالح الذي لا يكون صاحبه مؤمنا لا يكون خالصا من كل شائبة ومأرب. ويكون معرضا للانتكاس والانقطاع. وعلى أن الإيمان فقط هو الذي يحفز صاحبه على العمل الصالح الخالص من الشوائب والمآرب. والمبتغى به وجه الله تعالى دون انتظار جزاء ومقابلة وشكر من أحد غير الله. وفي هذا ما فيه من تلقين جليل المدى يتسامى به المؤمن عن أي جزاء دنيوي عن أعماله الصالحة. ويجعله لا يهتم إلّا برضاء الله تعالى عنه. ويقدم على التضحيات والمشاق في سبيل ذلك في كل ظرف. وقد تكرر تقرير هذا كثيرا في القرآن لما له من خطورة متصلة بحياة الإنسان والإنسانية والتربية الإسلامية السامية فضلا عن الحقيقة المنطوية فيه.

تعليق على جملة وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا

تعليق على جملة وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وهذه الجملة في الآية [113] وهي تقرر أن القرآن أنزل عربيا لا تعني طبعا أنه غير موجه إلى غير العرب. وإنما ذلك لأن العرب هم المخاطبون الأولون به. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم منهم. ولأنهم هم الذين حملوا عبء نشر رسالته بين العالمين. وعموم الرسالة المحمدية والقرآنية قد تقررت في آيات عديدة مكية ومدنية مرّت أمثلة منها بحيث يكون ذلك قضية محكمة خارجة عن نطاق الجدل والمراء. ولقد نشر العرب الرسالة الإسلامية بين غيرهم من الأمم الذين لم يعرفوا اللغة العربية. ولا ريب في أن العرب ترجموا لهم القرآن وأحاديث النبي ومبادئ الرسالة ترجمة جعلتهم يقبلون على اعتناق الدين الإسلامي ويتعلقون به ويتعلمون اللغة العربية ليقرأوا القرآن بلغته المنزلة. [سورة طه (20) : آية 114] فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) (1) يقضى إليك وحيه: أوجه الأقوال أن الجملة بمعنى حتى يتم وينتهي وحيه إليك. وهذا المعنى في آية البقرة فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ [200] بمعنى إذا انتهيتم منها. تعليق على الآية فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً الخطاب في الآية موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم على ما هو المتبادر والمتفق عليه. وقد تضمن تقرير العلوّ لله عز وجل وتوكيد كونه صاحب الملك الحقيقي المطلق ثم

أمرا بعدم الاستعجال بما يوحى إليه من القرآن قبل أن يقضي إليه وحيه. وبطلب المزيد من العلم من الله تعالى. ولقد تعددت روايات المفسرين عن أهل التأويل في جملة وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ من ذلك أنها بمعنى لا تعجل في تلاوة ما يوحى إليك وإملائه قبل أن تبان لك معانيه. أو قبل أن نبيّن لك معانيه. ومنها أن الآية مشابهة في مداها لايات سورة القيامة لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) وأشار أصحاب هذا القول إلى الحديث الذي رواه البخاري عن ابن عباس وأوردناه في سياق تفسير هذه الآيات. وقالوا: إن هذا الحادث لذلك الحادث أو هو نفسه. ومع ما يلحظ من صلة لفظية بين الآية السابقة التي ورد فيها ذكر القرآن أيضا فإننا نرجح أن تكون ما تضمنته مماثلا للحادث الذي تضمنته آيات سورة القيامة. مع القول إنه حادث ثان إذ لا تظهر الحكمة في الإشارة إليه مرة أخرى لو كان نفس الحادث. ويظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد فكرر ما كان يوحى إليه قبل تمامه خشية التفلت منه فنبه مرة أخرى في هذه الآية. والراجح أن يكون ذلك من ظرف نزول الآيات السابقة فجاءت الآية متساوقة في سبكها ونظمها معها ووضعت في سياقها والله أعلم. ولقد علقنا على مدى الحادث الذي تضمنته آيات سورة القيامة وقد مرّت الإشارة إليه. وما قلناه هناك يصح قوله هنا بتمامه فلا ضرورة للتكرار. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا رواه ابن ماجه وأخرجه الترمذي عن أبي هريرة قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول اللهم انفعني بما علّمتني وعلّمني ما ينفعني وزدني علما والحمد لله على كلّ حال» وفي الحديث تعليم نبوي رفيع. وهناك أحاديث أخرى فيها تنويه بالعلم وطلبه وبالعلماء لها صلة بمدى الآية والحديث السابق أيضا. من ذلك حديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي الدرداء قال «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من سلك طريقا يبتغي به علما سلك الله له طريقا إلى الجنّة. وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها رضاء لطالب العلم. وإنّ العالم ليستغفر له من في

[سورة طه (20) : الآيات 115 إلى 127]

السّموات ومن في الأرض حتّى الحيتان في الماء. وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب. وإنّ العلماء ورثة الأنبياء. إنّ الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورّثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظّ وافر» «1» . وحديث رواه الشيخان عن أبي مسعود قال «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لا حسد إلّا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلّطه على هلكته في الحقّ. ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلّمها» «2» . وقد يكون ويقال إن التنويه في الأحاديث هو بالنسبة للعلم المتصل بدين الله وحدوده وأحكامه. غير أن هذا لا يخرج فيما يتبادر لنا أي علم من مضمون التنويه إذا كان صاحبه مؤمنا بالله ورسوله واليوم الآخر. لأنه يزداد فيما يعلمه من علوم عقلية وكونية يقينا بالحقائق الإيمانية على ما شرحناه في سياق تفسير الآية [27] من سورة فاطر والله تعالى أعلم. [سورة طه (20) : الآيات 115 الى 127] وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127)

_ (1) التاج ج 1 ص 54. (2) المصدر نفسه.

(1) عهدنا إلى آدم: بمعنى وصيناه وأمرناه وأخذنا عليه عهدا. (2) عزما: بمعنى ثباتا وقوة عزيمة. (3) ولا تضحى: كناية عن عدم التعرض لوهج الشمس في أول النهار أو عدم التأذي به. (4) شجرة الخلد: الشجرة التي تجعلك مخلدا في الحياة. (5) لا يبلى: لا يزول ولا يفنى. (6) غوى: خالف أمر ربه أو مال إلى الغواية باستماع وسوسة الشيطان. (7) اجتباه: عطف عليه واصطفاه. (8) ضنكا: ضيقا. (9) أسرف: هنا بمعنى تجاوز الحد في الجحود والضلال. في الآيات قصة آدم وإبليس. والآية الأولى جاءت تمهيدا لها كما أن الآيات الأربع الأخيرة جاءت للتعقيب والاستطراد. وعبارتها واضحة. والمتبادر أن الآيات متصلة موضوعا وسبكا بالآيات السابقة باستثناء الآية [114] التي قد تلهم أنها جاءت معترضة تنطوي على تعليم خاص للنبي صلى الله عليه وسلم ودونت في السياق لنزولها في أثنائه. فالآية [113] ذكرت أن الله أنزل القرآن وصرف فيه الوعيد لعل الناس يتقون ويتذكرون. ثم جاءت هذه الآيات لتذكر بقصة آدم وإبليس وكيف أن الله أمر ووصى آدم عليه السلام ببعض أوامره ووصاياه فلم يثبت ونسي ما وصى به، ومن هنا تظهر الصلة قائمة بين هذه الآيات والآيات السابقة. وهدف الآية الأولى التمهيدية هو التحذير من نسيان أوامر الله ووصاياه وإيجاب الثبات عليها وعدم الاستماع لوسوسة الشيطان التي ترمي إلى حمل

الإنسان على نسيانها ونقضها، ثم جاءت الآيات التالية مذكرة بقصة آدم الذي لم يثبت على أوامر الله ونسيها بتأثير تلك الوسوسة. وهدف الآيات التعقيبية الاستطرادية هو بيان مصير الناس يوم القيامة نتيجة لاتباعهم لما أنزل الله ووصى به من الهدى وعدم اتباعه، توكيدا للتحذير التمهيدي وبقصد تنبيه السامعين وإثارة الرهبة والرغبة فيهم. ووصف مصير المعرض عن ذكر الله بخاصة مفزع رهيب. وقد يكون من حكمة ذلك التشديد في الإنذار والترهيب. وجملة فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) بالنسبة لمن اتبع هدى الله يصحّ أن تكون شاملة المدى للدنيا والآخرة معا وهو ما يتبادر لنا أن الآية قصدت إليه. من حيث إن الذي يتبع هدى الله ويلتزم حدوده يكون له من ذلك ما يضمن له العصمة من الضلال والشفاء فيهما. وفي هذا تطمين رباني قوي وحافز على اتباع هدى الله. ويتبادر لنا أن جملة فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً جاءت لمقابلة جملة فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وأنها هي الأخرى شاملة المدى مثلها للدنيا والآخرة من حيث إن الذي يعرض عن ذكر الله ودينه الحق يفقد أسباب تلك العصمة ويتعرض لسوء الحياة ونكدها في الدنيا والآخرة معا. نقول هذا مع القول إن المفسرين يروون عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الجملة تعني عذاب القبر بل رووا أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك حيث رووا عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن المعيشة الضّنك هي عذاب القبر» وهذا التفسير النبوي لم يرد في كتب الصحاح. ومع ذلك فإن الطبري استدل على صحته بالآية [127] التي فيها وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى وقال إن المعيشة الضنك لو كانت عذاب الآخرة لما كان لهذه الآية مفهوم ومعنى. غير أن هذا لا يخل بما تبادر لنا وأوردناه آنفا من الجملة بصورة عامة. والله تعالى أعلم.

تعليق على الجديد في قصة آدم وإبليس في هذه السورة

وننبه على أن هناك أحاديث عديدة في عذاب القبر سوف نوردها ونعلق عليها في مناسبة أخرى أكثر ملاءمة. تعليق على الجديد في قصة آدم وإبليس في هذه السورة ولقد علقنا على موضوع قصة آدم وإبليس بما فيه الكفاية في سياق تفسير سورتي ص والأعراف فلا حاجة إلى الإعادة. والسياق ومناسبته يفسر أن حكمة تكرار إيراد القصة حيث يقتضي ذلك تكرار المواقف وتجدد المناسبات مما هو متسق مع طبيعة محمد النبي صلى الله عليه وسلم على ما ذكرناه قبل، ومما يصح أن يورد في صدد متكررات القرآن المتنوعة الوعظية والقصصية والتدعيمية والترغيبية والترهيبية. وإذا كان من شيء نقوله هنا تعليقا على القصة فهو أن القصد في ضرب المثل والموعظة والتحذير والتنبيه أوضح. ثم إن فيها شيئا جديدا وهو الإشارة إلى توبة آدم عليه السلام وقبولها. ولعل في هذا على ما يتبادر ردّا على ما كان النصارى وما يزالون يعتقدونه من عقيدة تسلسل خطيئة آدم في ذريته من بعده، وعقيدة الفداء التي أرسل الله ابنه- تنزه وتقدس- ليقوم بها. فجميع بني آدم من لدن آدم إلى يوم صلب المسيح على ما يعتقده النصارى بما فيهم الأنبياء طبعا آثمون بخطيئة آدم ولم يخلصوا من هذا الإثم تجاه الله تعالى إلّا بصلب ابن الله الذي هو الله كما أراد الله تعالى وتقدس. وسورة طه قد نزلت بعد سورة مريم. فلعل اعتراضا أو احتجاجا أو كلاما وقع بمناسبة قصة مريم في هذا الصدد فاقتضت حكمة التنزيل تضمين هذا الأمر في السورة التي تلتها على سبيل الردّ والتوضيح. [سورة طه (20) : الآيات 128 الى 130] أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130)

(1) أفلم يهد لهم: بمعنى أولم يتبين لهم، أو أولم يظهر لهم، أو أولم يهدهم ويقنعهم. (2) أولي النهى: أولي العقل. في الآية الأولى سؤال استنكاري عما إذا لم يتبين للكافرين ويعرفوا أن الله أهلك كثيرا قبلهم من القرون نتيجة لطوافهم في الأرض ومشاهدة آثارهم ومشيهم في مساكنهم حتى يظلوا على غيهم. وإن في ذلك لايات ودلائل كافية لإقناع أولي العقول والأحلام. وفي الآية الثانية بيان رباني بأنه لو لم تقتض حكمة الله تعالى عدم الإسراع في إهلاك الكافرين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم لكفرهم كما فعل بأمثالهم السابقين وفي تأجيلهم إلى أجل معين في علم الله لكان إهلاكهم لازما جريا على السنة التي سار عليها مع الأمم السابقة حينما وقفوا من أنبيائهم موقف هؤلاء من نبيهم. وقد جاءت بالصيغة التي جاءت عليها للتساوق النظمي على ما هو المتبادر حيث يلمح فيها تقديم وتأخير، بما معناه (لولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى حدده في علمه لكان عذابهم العاجل لزاما) والله أعلم. وفي الآية الثالثة أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يسمعه من الكفار ويراه من مواقف يضيق بها صدره وتغتم لها نفسه، وبالمثابرة على تسبيح الله تعالى وحمده مؤملة إياه برضا النفس وطمأنينتها بذلك. والآيات متصلة بالسياق السابق اتصالا موضوعيا مع الالتفات فيه إلى الكفار العرب. فقد انتهت الآيات السابقة بإنذار الذين يسرفون في الإثم والجحود، ثم جاءت الآيتان الأوليان من هذه الآيات تلتفتان إلى الكفار العرب لتذكراهم وتحذّراهم وتنذراهم، أما الآية الثالثة فهي كذلك متصلة بالموضوع مع الالتفات

تعليق على مدى وتلقين الآية التي تأمر بذكر الله وتسبيحه في مختلف والأوقات

إلى النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التطمين والتثبيت والتسلية مما جرى عليه التنزيل القرآني في كثير من مناسبات وحكاية مواقف وأقوال الكفار التي كانت تثير في النبي صلى الله عليه وسلم الألم والحسرة. وفي الآية الأولى دلالة على أن سامعي القرآن الأولين وهم أهل مكة كانوا يعرفون بلاد الأمم السابقة وما حل فيها من تدمير رباني. وبذلك يأتي الإنذار مستحكما ولقد تكرر هذا في آيات سابقة وآتية. ومن السابقة الآية [4] من سورة الفرقان هذه وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها ... وقد شرحنا هذا وافيا في سياق تعليقنا على القصص القرآنية في سورة القلم. تعليق على مدى وتلقين الآية التي تأمر بذكر الله وتسبيحه في مختلف والأوقات والآية الأخيرة وإن كان الخطاب فيها قد وجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التطمين والتثبيت بسبب ما يصدر من الكفار فإن فيها تلقينا جليلا لجميع المسلمين الذين من واجبهم أن يجعلوا النبي صلى الله عليه وسلم قدوة وإماما حيث تقرر ما يمكن أن تبثه عبادة الله تعالى وذكره وتسبيحه والاتجاه إليه والتفكير في آلائه وآياته وبخاصة عند اشتداد أزمات النفس وآلامها من طمأنينة نفس وهدوء قلب وراحة ضمير وقوة على تحمل المشاق والمصاعب المادية والمعنوية والاستهانة بها. وهذه حالة روحية يدركها كل من استغرق هذا الاستغراق فشع نور الله في قلبه، ومعالجة نفسية قرآنية مضمونة النتيجة. وأي امرئ حزبته مشاكل الدنيا وآلامها فلجأ إلى الله وذكر عظمة ملكوته وسلطانه واستغرق في آياته وآلائه وقدرته، وجبروته لن يلبث أن تهون عليه هذه المشاكل والآلام مهما جلّت، بل وأن تهون في نظره الدنيا وما فيها والإنسان وجبروته وسخافاته وأن يشعر بطمأنينة النفس وقوة القلب والقدرة على التحمل والتجمّل بالصبر. ولقد تكرر مثل الأمر الوارد في الآية للنبي صلى الله عليه وسلم في أكثر من سورة لمثل

[سورة طه (20) : الآيات 131 إلى 132]

الأهداف التي انطوت في هذه الآية. وفي سورة ق آيتان مماثلتان في صيغتهما لصيغتها. ولقد ذهب بعض المفسرين «1» إلى أن الأوقات التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتسبيح فيها في الآية [130] هي أوقات الصلوات المفروضة وأن التسبيح يعني إقامة الصلوات، ومع أن الآية على ما يتبادر لنا هي بسبيل توكيد الاستمرار في ذكر الله وحمده وتسبيحه طيلة أوقات اليقظة فإن ما ذهبوا إليه قد لا يخلو من وجاهة. وقد علقنا على ذلك بما فيه الكفاية في سياق تفسير الآيتين [38، 39] من سورة ق الممائلتين في صيغتهما لهذه الآية. ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآية [130] مدنية. وأسلوبها وانسجامها مع السياق وبروز الطابع المكي عليها في ضمير «يقولون» العائد على الأرجح إلى الكفار موضوع الكلام في الآيات السابقة يسوّغ الشك في الرواية ولا سيما أن الآية التالية لها هي تتمة للموضوع، والطابع المكي بارز عليها كذلك. [سورة طه (20) : الآيات 131 الى 132] وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132) احتوت الآية الأولى أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بعدم مدّ عينيه مدّ المستغرب إلى ما يتمتع به بعض فئات من الكفار من متع الحياة الدنيا وزينتها، وتنبيها إلى أن ذلك إنما هو ابتلاء واختبار رباني، وأن رزق الله وما أعده الله له من حسن العاقبة هو خير وأبقى. واحتوت الآية الثانية أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم كذلك بالمثابرة على الصلاة وأمر أهله بالمثابرة عليها معه وعدم الاهتمام للدنيا وأمر الرزق، وتطمينا ربانيّا بأن الله سبحانه قد كفاه مؤونة ذلك وأن العاقبة مضمونة للذين يتقونه.

_ (1) انظر تفسيرها في تفسير الطبري وابن كثير والطبرسي والخازن.

وقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآية الأولى مدنية. وقد روى المفسرون أنها نزلت بمناسبة امتناع يهودي من إسلاف النبي صلى الله عليه وسلم مالا كان يريد أن ينفقه في قرى ضيف وفد عليه إلا برهن. مما حزّ في نفسه وجعله يقول لو أسلفني لأديته وإني لأمين في السماء، أمين في الأرض. ثم أرسل درعه رهنا. والرواية لم ترد في كتب الصحاح. وقد يكون الحادث المروي صحيحا. ولكنا نلحظ أن الآية منسجمة مع السياق سبكا وموضوعا. ومعطوفة على ما قبلها. وصلتها بالآية السابقة لها واضحة بحيث يبرر كل هذا الشك في رواية مدنية الآية ورواية نزولها بمناسبة ذلك الحادث. وترجيح مكيتها وصلتها بظروف سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المكي. وفي سورة الحجر آية مشابهة لهذه الآية وهي الآية [88] جاءت في سياق مماثل حيث ينطوي في هذا تدعيم لذلك الشك وهذا الترجيح والله أعلم. والمتبادر أن الآيتين معا تتمة للخطاب الموجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الآية السابقة لهما مباشرة. ويبدو أن النبي صلى الله عليه وسلم أو أن المسلمين كانوا أحيانا يتعجبون من إمداد الله زعماء الكفار وأغنياءهم بما يتمتعون به من رفاهة ونعيم وثروات مما هو طبيعي الورود على الخاطر فاقتضت حكمة التنزيل أن يكون في السياق الذي يذكر فيه مصير الكفار ويطلب فيه من النبي صلى الله عليه وسلم الصبر على ما يقولون. هاتان الآيتان لتبيين واقع الأمر من هذا الذي يتمتعون به وبث الطمأنينة والرضاء والغبطة في قلب النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بما عند الله تعالى وبالعاقبة المضمونة لهم، وتقرير كون ما يتمتع به الكفار هو من قبيل الاختبار. ولعل زعماء الكفار وأغنياءهم كانوا يتبجحون بما هم فيه من نعيم ورفاهة ويزهون على المسلمين على اعتبار أن الله لو كان ساخطا عليهم كما يقولون لما كان أدام عليهم نعمه فكان ذلك مما يحز في نفوسهم. ولقد ذكر شيء مما كان يدور في أذهان أغنياء الكفار وزعمائهم من مثل ذلك في آيات عديدة منها آيات سورة المؤمنون هذه أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56) ولقد تضمنت آية سورة مريم [73] شيئا من هذا على ما شرحناه في سياق تفسيرها قبل هذه السورة. ولقد تكرر التنبيه إلى أن ما يتمتع به الكفار هو من قبيل الاستدراج والإمهال على ما جاء في آيات سورة

تلقينات آية ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم

الأعراف [182، 183] وآيات سورة القلم [44، 45] وسبق تفسيرها. تلقينات آية وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وتنطوي الآيات على تلقينات جليلة مستمرة المدى لجميع المسلمين ولو أن الخطاب فيها موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه إمامهم وقدوتهم. فإمكانيات التمتع بالحياة الناعمة المترفة وأسبابها ليست مرتبطة بكفر وإيمان وليست نتيجة ملازمة لأية حالة منهما. والمهم في الحياة طمأنينة النفس وهدوء البال والرضى. وهذا ما يتحقق للمؤمن المتقي الذي يمنعه إيمانه وتقواه من جعل الدنيا أكبر همّه ويبث في نفسه القناعة والرضاء فيما يتيسر له من أسباب الحياة المشروعة والاعتماد على الله وحده في ذلك، ولزوم حدود الله والقيام بواجباته نحو الله والناس على أتمّ وجه. لا سيما أن الاستغراق في الحياة الدنيا وشهواتها كثيرا ما يسبب الآلام والنكبات ويثير القلق والاضطراب. وفي كل هذا الذي تلهمه الآيات ما فيه من معالجة روحية نافذة. وقد يكون من تلقيناتها وجوب قصر المسلم طمعه وطموحه عن اكتناز المال الكثير لأجل التباهي والتكاثر والاستمتاع الخاص به وحسب. وقد يؤيد هذا آيات عديدة في سور مكية ومدنية نددت باكتناز المال والاستغراق في حبه، وبخاصة إذا لم يكن لأجل نفع الغير به وإنفاقه في سبيل الله تعالى. وقد مرّ من ذلك أمثلة في سورة الفجر والتكاثر والعاديات، ومن ذلك آيات سورة التوبة هذه وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) .

تعليق على تحدي الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم بالإتيان باية وما في الرد القرآني من تلقينات

تعليق على تحدي الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم بالإتيان باية وما في الرد القرآني من تلقينات وهذه أول مرة يحكي القرآن فيها تحدي الكفار للنبي بالإتيان باية أي معجزة بنص صريح ثم تكرر هذا كثيرا. والذي يتبادر لنا من أسلوب الآية [133] أنها بسبيل حكاية واقع. وليست بسبيل تسجيل أول تحدّ. وإن أولية الحكاية لا تمنع أن يكون الكفار قد تحدوا النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك. وقد لمحنا ذلك في آية سورة المدثر بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) وعلقنا عليه وعلى تحدي الكفار بالإتيان بالمعجزات. ولقد ردت عليهم الآية متسائلة عما إذا لم يكفهم ما يرونه من تطابق وتوافق بين القرآن الذي يتلى عليهم وما في الكتب المنزلة الأولى من الله على رسله السابقين. وهذا الرد ينطوي من جهة على توكيد لما شرحناه عن موضوع تحدي الكفار بالمعجزات في سورة المدثر ومن جهة على كون الكفار لا ينكرون الله تعالى وعادته في إرسال الرسل وإنزال الكتب عليهم من جهة، ولا يجهلون أن ما في أيدي أهل الكتاب هو من ذلك من جهة. وبكلمة أخرى إنهم لا ينكرون إرسال الرسل وإنما كانوا ينكرون نبوة النبي ويطلبون البرهان على أنه مرسل من الله تعالى. وجواب القرآن هنا على أسلوب الحكيم. فهم يطلبون معجزة ودليلا والقرآن يقرر أن الدليل والمعجزة فيما احتواه من مبادئ سامية وتطابق هذه المبادئ واتحاد مصدرها مع مبادئ ومصادر الرسالات والكتب السابقة التي يسلم الكفار بها وبمصدريتها الإلهية. ويهتف بهم إن في ذلك الكفاية لمن أراد الحق والحقيقة لأن الدعوة إلى الله وحده والعمل الصالح والنهي عن الشرك والإثم والفواحش لا يحتاجان إلى معجزة. وهذا الأسلوب تكرر في القرآن كثيرا ردا على الكفار على ما شرحناه في سياق سورة المدثر. ولقد فهم هذا أصحاب رسول الله على حقيقته فكسبوا وادخروا المال وانتفعوا ونفعوا به وتمتعوا بالطيبات الحلال في الحدود المرسومة في الآيات

[سورة طه (20) : الآيات 133 إلى 135]

والأحاديث. مما استفاضت به كتب التاريخ. ولقد أراد بعضهم أن يعفّ عن الطيبات فحرّمها على نفسه فندد بهم رسول الله ثم نزلت آيات سورة المائدة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) . ولقد أثرت أحاديث صحيحة عن حياة الشظف التي كان يحياها النبي صلى الله عليه وسلم في بيوته «1» . وقد يكون هذا من أثر التوجه القرآني في الآيات التي نحن في صددها حيث اعتبرها رسول الله موجهة إليه بالدرجة الأولى على ما هو المتبادر فالتزم بهذه الحياة مما هو متصل فيما نرى بخطورة مهمته العظمى التي فرغ لها كل جهده وقواه وشغلت كل نشاطه وحياته فلم يبق لها مكان بنعم الحياة ومتعها. وفي سورة الأحزاب آيات فيها أمر رباني للنبي صلى الله عليه وسلم بتخيير زوجاته، بين الرضاء والقناعة بحياته التي يحياها وبين التسريح على ما سوف يأتي شرحه في مناسبتها مما يمتّ إلى هذا الذي نقرره بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والله تعالى أعلم. [سورة طه (20) : الآيات 133 الى 135] وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135) (1) آية: هنا بمعنى دليل أو معجزة. (2) لولا: بمعنى هلا. (3) متربص: منتظر ومترقب. (4) السوي: المستقيم الذي لا عوج فيه ولا التواء.

_ (1) انظر التاج ج 4 ص 240- 241 وج 5 ص 160 وما بعدها.

في الآية الأولى حكاية لتحدي الكفار النبيّ صلى الله عليه وسلم بالإتيان باية من ربّه تدل على صدق صلته به، وردّ عليهم بصيغة الاستنكار عما إذا لم يكن ما احتواه القرآن من التطابق في الأسس والمبادئ مع ما احتوته الكتب المنزلة الأولى دليلا كافيا تقوم به الحجة والقناعة. وفي الرد ينطوي معنى التقرير الإيجابي كما هو المتبادر. وفي الآية الثانية بيان رباني بأسباب تأجيل عذاب الكفار على ما كان من كفرهم وآثامهم، وهو ما يمكن أن يوجهوه إلى الله من احتجاج بأنه كان ينبغي أن يرسل إليهم رسولا يبلغهم آياته وحدوده حتى يتبعوها ويهتدوا بها ولا يتعرضوا للخزي والذل والنكال. وفي الآية ينطوي ردّ تقريعي لاذع فقد أرسل الله تعالى إليهم رسوله لئلا تبقى لهم عليه حجة. فإذا ما أصابهم الله بعذابه ونكاله إذا كفروا برسوله فيكونون قد استحقوهما. وروح الآية تلهم أن القرآن يقر الحجة التي يمكن أن يحتج بها الناس إذا تركوا دون إنذار ودعوة وإرشاد إلى الخير والحق فكفروا وأثموا وتنكبوا طريق الحق وقصروا في واجباتهم، كما أنها تتضمن توكيد المبدأ القرآني الذي تكرر تقريره وهو قابلية الناس للاختيار واستحقاقهم لمصائرهم وفقا لاختيارهم، وتوكيد الحكمة الربانية التي اقتضت إرسال الرسل للدعوة إلى الله وبيان طرق الخير والشر، حتى يسعد وينجو من يسعد وينجو عن بينة ويهلك ويشقى من يهلك ويشقى عن بينة. وفي آية سورة النساء هذه رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) تدعيم لما استلهمناه من روح الآية. ومثل ذلك منطو بصراحة أيضا في آية سورة الإسراء هذه مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) . أما الآية الثالثة ففيها أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بإعلان الكفار أن ينتظروا وإنه منتظر معهم. والكل متربص ومترقب، ولن يلبث الناس أن يعلموا علم اليقين من هم الذين هم على طريق الحق ومن هم المهتدون. وقد انطوى في الآية وعيد رباني

للكفار وتطمين للمسلمين. فلسوف يري الكفار أنهم هم الضالون ولسوف يري المؤمنين أنهم هم المهتدون. ولم يرو المفسرون رواية ما بمناسبة نزول الآيات والمتبادر أنها متصلة بالسياق السابق واستمرار له. والضمير في (قالوا) عائد إلى الكفار الذين هم موضوع الكلام في الآيات السابقة. وقد جاءت الآيات وخاصة الآية الأخيرة خاتمة قوية للسورة عامة وللسياق المتصل بمواقف الكفار وتحديهم بنوع خاص. فكأنما قال الكفار ما قالوه على سبيل التحدي للنبي صلى الله عليه وسلم وفي مواجهته فردت الآيات عليهم ثم أنهت ثالثتها الموقف. وقد تكرر هذا الأسلوب في خواتم بعض السور مما مرّت أمثلة منه ونبهنا عليها. وفي كتب الحديث والتفسير وبخاصة تفسير ابن كثير أحاديث كثيرة تساق في مناسبة هذه الآية. منها ما ورد في كتب الصحاح ومنها ما لم يرد وهو في نطاق ما ورد في كتب الصحاح إجمالا. ومن ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي جاء فيه «قدم أبو عبيدة بمال من البحرين وانتظر بعض الصحابة فقال رسول الله والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدّنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم» وحديث رواه البخاري عن أبي ذرّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إنّ الكثيرين هم المقلّون يوم القيامة إلّا من آتاه الله خيرا فنفح منه يمينه وشماله وبين يديه ووراءه وعمل فيه خيرا» وحديث رواه الشيخان عن أبي سعيد جاء فيه «إنّ هذا المال حلوة من أخذه بحقّه ووضعه في حقّه فنعم المعونة هو ومن أخذه بغير حقّه كان كالّذي يأكل ولا يشبع» . وحديث رواه الترمذي عن كعب بن عياض عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن لكلّ أمة فتنة وفتنة أمّتي المال» وحديث رواه الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى يا ابن آدم تفرّغ لعبادتي أملأ صدرك غنىّ وأسدّ فقرك وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسدّ فقرك» . وحديث رواه ابن ماجه عن ابن مسعود قال «سمعت نبيّكم يقول من جعل الهموم همّا واحدا همّ المعاد كفاه الله همّ دنياه. ومن تشعّبت به الهموم في أحوال الدّنيا لم يبال الله في أيّ أوديته هلك» وحديث رواه شعبة بن

عمر عن زيد بن ثابت قال «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من كانت الدّنيا همّه فرّق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدّنيا إلّا ما كتب له. ومن كانت الآخرة نيّته جمع له أمره وجعل غناه في قلبه وأتته الدّنيا راغمة» . وحديث رواه الترمذي والإمام أحمد عن كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والتّرف لدينه» . والحكمة الملموحة في الأحاديث هي تحذير المسلمين من الاستغراق في متع الحياة الدنيا ومشاغلها استغراقا يشغلهم عن واجباتهم نحو الله والناس ومن الاستكثار من جمع المال للمال وحسب. وليس فيها ولا في غيرها ولا في القرآن ما يمنع المسلمين من العمل وكسب المال وادخاره إذا كان ذلك في نطاق الاعتدال والحلال مع الإنفاق منه في سبيل الله والمحتاجين. وليس فيها ولا في غيرها ولا في القرآن ما يتعارض مع التقنين العام الذي انطوى في آيات سورة الأعراف [21- 23] التي سبق تفسيرها والتي لها أمثلة عديدة. بل وفي الأحاديث ما يتساوق مع كل ذلك.

سورة الواقعة

سورة الواقعة في السورة توكيد بحقيقة الآخرة ووصف لمنازل الناس فيها. وحكاية لأقوال المكذبين لها، وردّ وتحدّ وتقريع لهم، وبرهنة على عظمة الله وقدرته على بعث الناس ثانية كما خلقهم أولا وتنويه بالقرآن وخطورة شأنه. وآيات السورة منسجمة مترابطة متوازنة مما يدل على وحدة نزولها. وفي فاتحتها ما يمكن أن يكون قرينة على صحة نزولها بعد سورة طه. وقد روى المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآيتين [81، 82] مدنيتان. وهما منسجمتان سبكا وموضوعا مع ما قبلهما وما بعدهما مما يحمل على الشك في الرواية. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) (1) الواقعة: الكلمة وصف للحادث الخطير، وهنا كناية عن يوم القيامة. (2) كاذبة: إما بمعنى لا كذب في وقوعها، وإما بمعنى لا مكذب لها حينما تقع، وإما بمعنى لا صارف يصرفها ولا رادّ يردّها. (3) خافضة رافعة: تخفض أقواما وترفع آخرين.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 7 إلى 10]

(4) رجت: حركت أو هزت بشدة. (5) بست: فتتت. (6) هباء منبثّا: الذرات الخفيفة المنتشرة في الهواء. الآيات مقدمة تمهيدية لما يأتي بعدها. وهي بسبيل التنويه بخطورة القيامة وتوكيد وقوعها دون كذب ولا تكذيب. وسيكون من أعلامها وهولها أن تهز الأرض هزّا شديدا وتتفتت الجبال حتى تكون كالهباء المنبثّ في الهواء. وقد تكرر مثل هذه المقدمة والتوكيدات والأعلام في سور عديدة مرّت أمثلة منها. [سورة الواقعة (56) : الآيات 7 الى 10] وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) (1) أزواجا: أصنافا. (2) حرف (ما) في جملتي أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة. هو إما لأجل التنويه بالأولين والتهويل في أمر الآخرين، وإما للتعجيب في ما يكون أمرهما. الآيات هي استمرار وتعقيب على الآيات السابقة حيث تضمنت تصنيف الناس في يوم القيامة ثلاثة أصناف: أصحاب اليمين وهم المؤمنون الناجون، وأصحاب الشمال وهم الكفار المجرمون، والسابقون أصحاب الدرجات العالية من المؤمنين. وفي الآيات التالية تفصيل لحالة كل من الأصناف. [سورة الواقعة (56) : الآيات 11 الى 26] أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26) (1) ثلة: جماعة. (2) موضونة: من الوضن. وهو حبك الدرع، وأريد بالكلمة التنويه بحسن صنع الأسرّة. وقيل إن الكلمة بمعنى المحبوكة أو المنسوجة بخيوط الذهب. (3) مخلدون: دائمون على حالهم لا يتغيرون. وقيل: مزينون بالأقراط لأن «الخلدة» تأتي بمعنى القرط على ما قاله الزمخشري. (4) أكواب: جمع كوب. وهو القدح الواسع الرأس بدون خرطوم. (5) الإبريق: الإناء الذي له خرطوم وعروة. (6) الكأس: القدح الممتلئ بالشراب. (7) معين: الماء الجاري الرقراق. (8) لا يصدعون: لا يحصل لهم صداع. (9) لا ينزفون: لا تذهب عقولهم أو لا تنزف أنوفهم وأفواههم ومخارجهم مما يحصل للسكران. (10) حور عين: وصف لعيون النساء. فالحور العيون التي تبدو مكحلة أو ناصعة بياض الحدقة. والعين: ذوات العيون النجلاء الواسعة. (11) المكنون: المخبأ وغير المبتذل باللمس. (12) لغوا: باطلا وعبثا. (13) تأثيما: اللوم والتثريب والاتهام بالإثم. الآيات استمرار للسياق. وقد تضمنت وصف مصير السابقين. فهم المقربون الذين يتنعّمون في الآخرة بالنعيم العظيم المترف الذي وصف وصفا دائما أخّاذا

تعليق على والسابقون السابقون (10) أولئك المقربون (11)

واضح العبارة، والذي يبعث الغبطة والرضا في نفوس أصحابه ويثير الرغبة الشديدة في إحرازه. وهذا مما استهدفته الآيات. تعليق على وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) والكلام مطلق على هوية السابقين المقربين وفي كتب التفسير أقوال عديدة في توضيح ذلك معزوة إلى أصحاب رسول الله وتابعيهم. منها أنهم الذين أسرعوا إلى الاستجابة للدعوة النبوية. والذين وصفوا بالسابقين الأولين في آية التوبة هذه وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ.. [100] ومنها أنهم كل المسارعين إلى الإيمان حالما تبلغهم الدعوة أو المسارعة في الخيرات الذين أثنت عليهم آيات سورة المؤمنون هذه ووصفتهم بالسابقين إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61) ومنها أنهم السابقون إلى إجابة الأنبياء مطلقا. والذين قالوا هذا أردفوا قولهم بالقول إن الأمم السابقة أكثر من أمة محمد ولذلك قالت الآيتان ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) والذين قالوا إنهم السابقون للاستجابة من أمة محمد أردفوا قولهم بالقول إن الذين استحقوا هذه الدرجة من بعدهم قليل. وإن هذا ما عنته الآيتان المذكورتان. وأيدوه بالحديث النبوي الذي جاء فيه «خير النّاس قرني» وهو حديث صحيح. وإلى هذا فقد أورد ابن كثير أحاديث معزوة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تفيد أن أصحاب رسول الله فهموا أن ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) تعني الأمم السابقة وأن وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) تعني أمة محمد فحزنوا وتساءلوا وأن النبي طمأنهم بأنهم سوف يكونون نصف أهل الجنة.. والأحاديث لم ترد في كتب الصحاح. والذي يتبادر لنا أن الجملة القرآنية تتحمل أكثر الأقوال بل جميعها. غير أن

تعليق على ما جاء في الآيات من الإطناب في وصف مجلس الشراب والطعام وهدفه

هناك ما يجعلنا نرجح أن الآيات وما بعدها جاءت كتقرير تصنيفي عام يشمل الماضي والحاضر والمستقبل لمختلف الأصناف. ومن مرجحات ذلك أن السورة مكية مبكرة في النزول وكل من آمن في العهد المكي وبخاصة في أوله يعد من السابقين. في حين أن الآيات التالية ذكرت صنفا غيرهم وهم أصحاب اليمين. ثم إن الرعيل الأول من الأنصار الذين هم من السابقين الأولين لم يكونوا بعد قد آمنوا. وتعبير وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) يكون قد تضمن والحالة هذه تقرير صعوبة الوصول إلى مرتبة السابقين المقربين. هذا من ناحية مدى العبارة القرآنية. ونقول بعد هذا إن الإيمان بما جاء في القرآن من المشاهد الأخروية ومنازلها واجب مع استشفاف الحكمة من ذكر ذلك بالأسلوب الذي ذكر به. ويتبادر لنا أن من الحكمة المنطوية في وصف منازل السابقين المقربين الشائق أن يكون في ذلك حفز للمؤمنين على أن يبذلوا جهدهم في التفاني والجهاد والتزام حدود الله ليستحقوا هذه المرتبة عند الله. وفي هذا سعادة وصلاح للإنسانية والمسلمين في الدنيا بالإضافة إلى النجاة وقرة العين في الآخرة. والله تعالى أعلم. تعليق على ما جاء في الآيات من الإطناب في وصف مجلس الشراب والطعام وهدفه ويلفت النظر إلى وصف مجلس الشراب والطعام الأنيق في الآيات وخاصة وصف الخمر وكونه لا يحدث صداعا ولا نزيفا. وقد تكرر هذا الوصف في مناسبات أخرى، والمتبادر أن ذلك متصل برسوخ عادة معاطاة الخمر في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وآثارها المكروهة، وبسبيل تقرير أن ما في الجنة من لذائذ ومتع هي خالصة مما في مثيلاتها الدنيوية من نقائص ومشاهد بغيضة ومؤلمة، تقوية للترغيب وحثّا على ترك المكروه البغيض في سبيل ما هو خالص منه. مع التنبيه على وجوب

[سورة الواقعة (56) : الآيات 27 إلى 40]

الإيمان بما أخبر به القرآن من صور المشاهد الأخروية وإيكال أمر تأويلها إلى الله تعالى مع استشفاف الحكمة من ذكرها والتي يتبادر أن منها ما ذكرناه آنفا، والله أعلم. [سورة الواقعة (56) : الآيات 27 الى 40] وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) (1) سدر مخضود: سدر منزوع الشوك. والقصد وصف الجنة المعدة لأصحاب اليمين بأنها لا شوك لسدرها. والسدر هو شجر النبق. (2) طلح منضود. منضود بمعنى منضّد مصفوف، والطلح ثمر قيل إنه الموز حيث تكون أصابعه منضدة في العنقود. (3) ظل ممدود: ظل دائم لا يزول. (4) فرش مرفوعة: قيل إن الجملة كناية عن النساء اللاتي جاء وصفهن في الآيات التالية لهذه الآية، لأن المرأة يكنى عنها بالفراش «1» وقيل إنها بسبيل التنويه بارتفاع الفراش الذي يضطجع عليه أهل الجنة عن الأرض. (5) إنا أنشأناهن إنشاء: خلقناهن خلقا جديدا. والضمير عائد إلى النساء بقرينة الأوصاف التالية لهذه الآية. وجعل بعض المفسرين هذه الآية وما بعدها قرينة على كون المقصود بجملة وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) النساء. وقيل إن النساء لم يذكرن وإنما اكتفى بذكر أوصافهن لمناسبة ذكر الفرش المرفوعة التي يضطجع عليها الرجال والنساء معا. (6) عربا: جمع عريب بمعنى اللعوب المتحببة لزوجها. (7) أترابا: جمع ترب، ومعنى الكلمة في الأصل الرقيق المماثل في السنّ

_ (1) انظر تفسيرها في كشاف الزمخشري.

تعليق على منازل أصحاب اليمين

وقيل إنها هنا بمعنى الطراوة في العمر. والآيات استمرار للسياق. وقد احتوت تنويها بأصحاب اليمين ووصفا لمنازلهم وحياتهم ونعيمهم في الجنة بعبارة واضحة. تعليق على منازل أصحاب اليمين والوصف أقل روعة من الوصف الأول. والحكمة في ذلك ظاهرة متسقة مع طبائع الأشياء. فالمؤمنون في مجال العمل متفاوتون، فمنهم السابق المجلي والمستغرق المتفاني. ومنهم المقتصد المتقي بل ومنهم المقصر بعض التقصير مع حسن النية. فاقتضت حكمة التنزيل أن يعلم الناس أن لكل منهم منازل فيها رضاء الله وعطفه مع التفاوت حسب سيرهم في مجال العمل. وتعبير ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) في صدد أصحاب اليمين ينطوي على ما هو المتبادر على تقرير كون أصحاب هذه المرتبة هم السواد الأعظم من المؤمنين في جميع الأوقات. وهو المتسق مع طبائع الأمور. وفي الآيات تشجيع وتطمين لأصحاب هذه المرتبة. فالله سبحانه يقبل من عباده المؤمنين عملهم الصالح مهما كان مقداره. ويرضى عنه ويثيب أصحابه. وما قلناه في آخر تعليقنا على ما جاء في الآيات السابقة من الإطناب في وصف مجلس الشراب والطعام وهدفه نقوله هنا بتمامه فلا حاجة إلى التكرار. [سورة الواقعة (56) : الآيات 41 الى 48] وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) (1) سموم: الريح الشديدة الحرارة واللفح.

تعليق على التنديد بالترف والمترفين

(2) حميم: الماء الشديد الحرارة. (3) يحموم: الدخان الشديد السواد. (4) لا بارد ولا كريم: يقصد بذلك وصف الظل بأنه لا يمنح برودة ولا يمنع أذى ومما قيل في معنى كريم أنه العذب. (5) مترفين: مرفهين منعّمين. (6) الحنث العظيم: الحنث هو النكث بالعهد والذنب والإثم. والمقصود من الحنث العظيم الكفر والشرك. والآيات كذلك استمرار للكلام. وقد احتوت تقريعا للكافرين الجاحدين المشركين الذين هم أصحاب الشمال، ووصفا لمنازلهم وعذابهم بأسلوب هائل ورائع: فهم معرضون للريح الشديدة الحرارة واللفح، فإذا عمدوا إلى إطفاء حرهم بالماء فهو حميم شديد الحرارة أيضا، وإذا عمدوا إلى رواق يتراءى لهم كأنه ظل فهو ظل من يحموم دخان شديد السواد لا يمنح برودة ولا يمنع أذى الحر. وليس من شك في أن هذا الوصف مما يثير الفزع والرهبة في النفوس، وهو مما استهدفته الآيات على ما هو المتبادر بالإضافة إلى القول بوجوب الإيمان بما احتوته الآيات من المشاهد الأخروية. ولقد احتوت الآيات بالإضافة إلى ذلك تعليلا لمصير الكفار الرهيب. فقد كانوا مستغرقين في حياة الترف مصرين على الكفر والجحود والإثم. وتكذيب ما كانوا يوعدون به من بعثهم وآبائهم بعد أن يموتوا ويصبحوا ترابا وعظاما. والمتبادر من الآيات وخاصة الآية [45] أن الكلام منصرف في الدرجة الأولى إلى الزعماء والأغنياء. فهم الذين يكونون عادة مستغرقين في حياة الترف. وهم الذين كانوا يقودون حملة التكذيب والمناوأة لدعوة الله سبحانه. تعليق على التنديد بالترف والمترفين وقد يبدو من الكلام أن الترف من جملة الآثام التي يعاقب عليها أصحابها في الآخرة، وإنه لكذلك إذا كان فيه سرف وسفه واستغراق يحول بين صاحبه وبين

تعليق على تنوع أوصاف النعيم والعذاب في الآخرة

الإيمان والعمل الصالح والقيام بواجباته نحو الله تعالى والناس. وقد يكون في الجملة- والحال هذه- معنى من معاني الإنذار والتحذير للمسلمين بأن يلتزموا الاعتدال في حياتهم وفق الحدود التي رسمها الله لهم في آيات سورة الأعراف هذه يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33) وآية سورة الإسراء هذه وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) . تعليق على تنوع أوصاف النعيم والعذاب في الآخرة هذا، ولا بد من أن يكون تالي القرآن قد لا حظ تنوعا في وصف ثواب الآخرة وعذابها وأحداثها وأهوالها. غير أنا لا نرى في هذا ما يدعوا إلى التوهم، فمع الحقيقة الإيمانية المغيبة في البعث والحساب والثواب والعذاب ووجوب الإيمان بما أخبر به القرآن من المشاهد الأخروية فإن تكرر المواقف وتجدد المناسبات مما يقتضي أو يتحمل التنويع في أساليب الترهيب والترغيب والتبشير والإنذار حفزا للهمم ودعوة للإرعواء، ويلفت النظر إلى أن أوصاف النعيم والعذاب هي مستمدة من مألوفات الناس ومفهوماتهم في الدنيا للتقريب والتمثيل لأن الناس لا يتأثرون إلّا بما في أذهانهم من صور وما يقع تحت مشاهدتهم وحسهم وتجاربهم. وبما أن المألوفات والمفهومات في هذا الباب متنوعة فالمتبادر أن الحكمة اقتضت التنويع لتحقيق الهدف الدنيوي من الإنذار والتبشير والترهيب والترغيب. قرينة على صحة نزول هذه السورة بعد سورة طه ويلفت النظر إلى مظهر يمكن أن يكون قرينة على صحة نزول هذه السورة بعد سورة طه. وهو أن سورة طه انتهت بإيعاد الكفار وإنذارهم وإنظارهم إلى اليوم

[سورة الواقعة (56) : الآيات 49 إلى 56]

الذي يعلمون فيه علم اليقين من هو المهتدي ومن هو الضال. فجاءت هذه السورة تصف ذلك اليوم وتصف مصائر الناس فيه حسب مواقفهم وأعمالهم في الدنيا. [سورة الواقعة (56) : الآيات 49 الى 56] قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) (1) شجرة الزقوم: هي شجرة معروفة في الحجاز بكثرة شوكها ومرارة ثمرها. (2) الهيم: الإبل العطاش المريضة بداء الهيام الذي يدفعها إلى الإكثار من الشرب مع عدم الري. في الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالرد على ما حكته الآيات السابقة من أقوال الكفار التي ينكرون فيها البعث والتي هي من أسباب المصير الرهيب الذي سوف يصيرون إليه. وهي استمرار للسياق والحال هذه. وقد احتوت توكيدا ربانيّا بأن جميع الناس من جميع الأجيال سيبعثون ويجمعون إلى موعد معلوم في علم الله، واستطرادا إنذاريّا للكفار المكذبين بما سوف يلقونه من المصير الوخيم في ذلك اليوم حيث يأكلون من شجر الزقوم حتى تمتلئ بطونهم ويشربون من الحميم كما تشرب الإبل المريضة بالهيام التي تظل تشرب ولا ترتوي. وأوصاف العذاب الجديدة الواردة في هذه الآيات مستمدة هي الأخرى من مألوفات العرب ومفهوماتهم الذين كانوا أول من خوطب بالقرآن وكانوا موضوع الكلام وقد استهدف بها فيما استهدف تشديد الإنذار حيث كانت من أشد ما تعافه النفوس وتتأذى به.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 57 إلى 74]

[سورة الواقعة (56) : الآيات 57 الى 74] نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) (1) لولا: في هذه الآيات بمعنى هلا للتنديد. (2) تمنون: تنزلون المني الذي هو سبب النسل. (3) وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون: وما نحن بمسبوقين بمعنى وما نحن بعاجزين أو وما نحن بمغلوبين، أو لا يستطيع أحد أن يسبقنا ويمنعنا عن تبديل أمثالكم وأشكالكم. وإنشائكم في حالة أو أوصاف أخرى أو أماكن أخرى لا تعلمونها. (4) حطاما: هشيما مفتتا. (5) ظلتم: ظللتم. (6) تفكهون: هنا بمعنى تتعجبون مما وقع وتتحسرون وتتلهفون وتقولون. (7) إنا لمغرمون: إنا لخاسرون أتعابنا ونفقاتنا. (8) المزن: السحب ومفردها مزنة. (9) تورون: تقدحون لأجل إيقاد النار. (10) المقوين: من الإقواء وهو الخلو في الأصل، والكلمة إما بمعنى السائرين في القفر الخالي، أو الخالية بطونهم من الطعام.

الآيات استمرار للسياق. والخطاب فيها موجه للكفار المكذبين الذين كانوا موضوع الآيات السابقة. وقد احتوت تنبيهات وتقريرات وتنديدات بسبيل البرهنة على قدرة الله تعالى على البعث الذي ينكرونه ويكذبونه: فالله تعالى خلقهم فكيف لا يصدقون بأنه قادر على خلقهم مرة ثانية؟ وهل هم الذين خلقوا المني الذي هو سبب النسل! أم الله الذي قدر على الناس الموت والذي لا يستطيع أحد أن يغلبه ويسبقه ويمنعه عن تبديلهم بخلق آخر وإنشائهم على حال غير حالهم حينما يشاء وأنى شاء. ولقد عرفوا هذه القدرة الربانية واعترفوا بها فكيف نسوا ذلك ولم يتذكروه وأنكروا قدرته على بعث الخلق ثانية. وهل هم الذين ينبتون الزرع الذي يحرثون الأرض له ويبذرون بذاره أم الله تعالى القادر على أن يجعله حطاما لا غلة فيه ولا ثمر. ولو فعل هذا لما كان منهم إلّا الحسرة والندم وندب الحظ بما أصابهم من خسارة وحرمان. وهل هم الذين أنزلوا من الحساب الماء الذي يشربون أم الله تعالى القادر على إنزاله ملحا أجاجا، فكيف لا يشكرونه على نعمه ويعترفون بربوبيته وقدرته. وهل هم الذين خلقوا الشجر الذي يوقدون منه النار أم الله تعالى الذي جعله نافعا للناس جميعهم حضرهم وبدوهم وبخاصة للمقوين منهم. وقد أمرت الآية الأخيرة النبي صلى الله عليه وسلم أو السامع المؤمن إطلاقا بتقديس الله وتنزيهه عما يقوله الكفار المكذبون جريا على الأسلوب التخاطبي المألوف حينما يصدر من أحد قول أو فعل فيه افتراء على الله أو جحود لقدرته أو سوء أدب إزاءه. والآيات قوية في صدد ما نزلت لأجله ومستحكمة في الكفار لأنهم يعترفون بأن الله هو خالق السموات والأرض على ما حكته آيات القرآن التي منها آية الزخرف هذه وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) وآية سورة الزخرف هذه أيضا وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) .

[سورة الواقعة (56) : الآيات 75 إلى 80]

وأسلوب الآيات ومضامينها تؤيد ما قلناه غير مرة من استهداف ما يرد في القرآن من الإشارات إلى سنن الله في كونه الواعظة دون قصد التقريرات والنظريات العلمية والفنية وفي نطاق مألوفات الناس وما يقع تحت حسهم ومشاهداتهم. [سورة الواقعة (56) : الآيات 75 الى 80] فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) المتبادر أن الآيات جاءت استطرادية أو تعقيبية لتوكيد صلة القرآن الذي يوحى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم والذي يتضمن تقرير ما يبلغ للناس ويوعدون به بالله تعالى حيث احتوت قسما ربانيّا بمواقع النجوم وهو قسم عظيم لو يعلم الناس أسرار كون الله بأن ما يتلى عليهم من الآيات المحتوية تلك الوعود والبراهين القاطعة على قدرة الله وعظمته وحقيقة البعث والجزاء الأخروية هو قرآن كريم منزل من ربّ العالمين في كتاب محفوظ لا يمسه إلا المطهرون. ولقد روى الطبري عن ابن عباس في صدد جملة بِمَواقِعِ النُّجُومِ أنها منازل القرآن في السماء الدنيا التي نزل إليها من أعلى واستقر فيها ثم أخذ ينزل منها منجما حسب الأحداث كما روي عن الحسن وقتادة وهما من علماء التابعين أنها منازل النجوم الحقيقة ومطالعها ومساقطها. ثم رجح القول الثاني. وهو الصواب كما هو المتبادر لنا لأن القول الأول لا يستند إلى خبر قرآني وحديث نبوي وثيق ولا تفهم له حكمة، وقد يكون متناقضا مع وقائع الأمور وطبائع الأشياء من حيث إن الأحداث التي نزل بها القرآن كانت تقع وتتجدد على ما نبهنا عليه في سياق سورة القدر. والله تعالى أعلم. تعليق على آيات إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) ويلحظ أن الآيتين [77، 78] مماثلتان لآيتي سورة البروج بَلْ هُوَ قُرْآنٌ

مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) بفارق ورود كلمتي كتاب مكنون بدل من كلمتي لوح محفوظ. وقد قال بعض المفسرين إن الكلمتين هنا تعنيان اللوح المحفوظ أيضا. والذي يتبادر لنا أن كلمة كتاب هنا تؤيد ما أوّلنا به كلمة اللوح في سياق تفسير سورة البروج وهو علم الله الشامل. وقد صرف بعض المفسرين جملة لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ إلى الملائكة بسبيل تقرير طهارة الملائكة النازلين به. وصرفها آخرون إلى الناس بسبيل حظر مسّ صحف القرآن على غير الطاهرين. وصرفها بعضهم إلى الأنبياء والرسل من بني آدم والملائكة. وقال آخرون إنها تنطوي على تقرير كونه محفوظا عن غير المقربين من الملائكة دون سائرهم «1» . والأقوال الأولى واردة دون الأخير الذي يقتضي أن يكون في الملائكة طاهرين وغير طاهرين. وقد يستأنس على القول الأول بآيات سورة عبس هذه فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) وقد يستأنس على التالي بالتواتر الذي ينقطع من عهد النبي صلى الله عليه وسلم في حظر مسّ المصحف على غير الطاهرين من الحدث الأكبر (الجنابة) بالإجماع والحدث الأصغر (مفسد للصوم) بغير إجماع. وفي حالة رجحان هذا القول يكون في الآية دليل على أن فصول القرآن وسورة كانت تدوّن في صحف وتحفظ في مصحف أولا فأولا. وهو ما قامت عليه الأدلة العديدة من القرآن والسنة والروايات الوثيقة. ولقد روى الإمام مالك في الموطأ «أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم أن لا يمس القرآن إلّا طاهر» وعقب الإمام على هذا قائلا «ولا يحمل أحد المصحف بعلاقة ولا على وسادة إلّا وهو طاهر» . والحديث يؤيد ما جرى العمل عليه المتواتر منذ العهد النبوي. أما التعقيب فهو رأي اجتهادي ونراه يتحمل النظر لأن فيه مشقة على المسلمين. وقد رفع الله عنهم الحرج في الدين كما جاء في آية سورة الحج [78] . والنصّ القرآني لا يتسق مع هذا القول لأنه إنما حظر مسّ القرآن مباشرة على غير المتطهرين، والله أعلم.

_ (1) انظر هذه الأقوال في كتب تفسير ابن كثير والخازن والزمخشري والطبرسي.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 81 إلى 96]

ولقد روى الإمام مالك أن عمر بن الخطاب كان يقرأ القرآن على غير وضوء. والمتبادر أنه كان يقرأ من حفظه. وفي هذا سنة راشدية تواتر العمل بها، وليس بينها وبين النص القرآني والحديث النبوي تعارض. [سورة الواقعة (56) : الآيات 81 الى 96] أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) (1) مدهنون: مكذبون له أو مترددون فيه. (2) تجعلون رزقكم أنكم تكذبون: تجعلون واجب شكركم على ما رزقكم الله تكذيب ما يؤكد وقوعه، أو تجعلون كل حظكم من الخير أو كل همّكم تكذيب ما يؤكد الله وقوعه. (3) لولا: هنا للتنديد والتحدي بمعنى هلّا. (4) إذا بلغت الحلقوم: إذا بلغت روح المرء حلقومه، والجملة كناية عن الاحتضار. (5) غير مدينين: غير مبعوثين للجزاء، أو غير مدينين في حياتكم ومماتكم لأحد أو غير مربوبين ومملوكين لأحد، على اختلاف الأقوال. (6) ترجعونها: الضمير عائد لروح المحتضر حينما تصل إلى الحلقوم. (7) روح: هنا بمعنى الراحة أو الرحمة. الآيات استمرار للسياق. والخطاب موجه إلى الكفار المكذبين مثل الآيات السابقة.

وقد احتوى القسم الأول منها- أي الآيات [81- 87]- تقريعا وتحديا للكفار: فهل لا تزالون مترددين في تصديق قدرة الله على البعث ومصرين على تكذيبكم وجحودكم بعد الذي سمعتموه من آيات وبراهين وتوكيد، وتجعلون كل حظكم من الخير التكذيب بدلا من شكر الله على نعمه. وهل تستطيعون أن تردوا عن صاحب لكم موتا حينما تبلغ روحه الحلقوم وترجعوها إليه إذا كنتم صادقين بأنكم غير مدينين لله تعالى بحياتكم وموتكم وغير مربوبين له وغير راجعين إليه. ولقد عجزتم عن ذلك واكتفيتم بالنظر إلى صاحبكم وهو في غمرات الموت والله أقرب إليه منكم. أما القسم الباقي من الآيات فقد احتوى استطرادا إلى ذكر مصير كل ميت. فإذا كان من طبقة المقربين فله الروح والريحان والجنة. وإذا كان من طبقة أصحاب اليمين فله السلام والتكريم من أمثاله الذين يستقبلونه. أما إذا كان من المكذبين الضالين فمصيره ونزله النار والحميم. وقد انتهت الآيات بتوكيد صحة هذا المصير. فهو يقينيّ لا ريب فيه. ثم بالأمر ثانية بتقديس الله تعالى وتنزيهه عمّا يقوله المكذبون الضالون. والتنويه بعظمته. وطابع الختام بارز على هذا الفصل مما تكرر في سور أخرى، وفيه عود على بدء حيث تتشابه خاتمة السورة مع فاتحتها مما فيه صور من صور النظم القرآني كما هو المتبادر. هذا، وفصول السورة بمجموعها صورة من صور النضال الشديد الذي كان يقع بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار، وبخاصة في صدد تكذيب البعث والجزاء الأخرويين.

سورة الشعراء

سورة الشعراء في السورة تقريع للكفار وحملة عليهم وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم إزاء مواقفهم. وفيها سلسلة طويلة في قصص الأنبياء وأممهم، فيها العبرة والموعظة والمثل والإنذار والتثبيت. وفيها بعض صور السيرة النبوية وبيئة النبي عليه السلام وعهده وبعض أقوال الكفار وعقائدهم. وهي ثاني سورة من القرآن من حيث عدد الآيات. وفصولها مترابطة منسجمة وأواخر آياتها متوازنة. ومع أن أسلوبها مسجع بشكل ما فهو أقرب إلى الترسل المطلق مع التوازن. وقد لحق أكثر فصولها لازمة مكررة مما يجعلها ذات خصوصية سبكية كسورة المرسلات وجملة فصول السورة تسوغ القول إنها نزلت متلاحقة حتى تمت. وقد روى المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآيات [97 و 224- 227] مدنيات. وعدا الآية [227] الآيات الأخرى منسجمة مع سياقها سبكا وموضوعا مما يحمل على الشك في صحة الرواية. أما الآية [227] فإن مضومنها يؤيد صحة مدنيتها وقد ألحقت بالآيات [224- 226] للمناسبة والاستدراك على ما سوف يأتي شرحه. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الشعراء (26) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)

تعليقات على الآيات التسع الأولى من السورة

(1) المبين: الموضّح. (2) باخع نفسك: مهلك نفسك. وأصل البخع الذبح حتى يبلغ البخاع الذي هو عرق في العنق، على ما جاء في الكشاف. (3) محدث: جديد. (4) زوج: صنف أو نوع. تعليقات على الآيات التسع الأولى من السورة تعددت روايات المفسرين عن أهل التأويل الأولين في (طسم) منها أنها اسم للقرآن. أو اسم لله تعالى، أو قسم أقسمه الله بطوله وسنائه وملكه. وكما رجحنا بالنسبة للحروف المماثلة في مطالع السور نرجح هنا أنها جاءت لاسترعاء السمع، وقد احتوت الآية التالية إشارة إلى آيات القرآن جريا على النظم القرآني في معظم السور المماثلة. وينطوي في الإشارة معنى التوكيد بالخطورة والتنويه. ووصف المبين فيها هو بسبيل بيان ما في القرآن من إبانة وتوضيح ووضوح. وقد تكرر هذا الوصف لآيات القرآن والقرآن. والوصف يحتمل أن يكون بقصد بيان وضوح المعاني والدلالات كما يحتمل أن يكون بقصد بيان ما احتوته الآيات القرآنية من تبيين لسبل الحق والرشاد والهدى. وكلا الاحتمالين وارد وصادق. بل إن الاحتمالين واردان وصادقان. ففي الآيات القرآنية وضوح من حيث المعاني والدلالات كما فيها بيان لسبل الحق والرشاد والهدى. والآية الثالثة بسبيل تسلية النبي صلى الله عليه وسلم فيما يثيره جحود قومه في نفسه من غمّ

وحزن. وأسلوبها ينطوي على العطف والتحبب. فلا ينبغي له أن يهلك نفسه غمّا وحزنا لعدم إيمانهم واستجابتهم إلى دعوته وتصديقهم بآيات الله وقرآنه. وقد يكون في الآية قرينة على صحة نزولها بعد سورة الواقعة التي ظللت فصولها تحكي تكذيبهم وجحودهم. والآية الرابعة هي بسبيل التطمين من جهة وإنذار الكفار من جهة أخرى حيث تقرر أن الله تعالى لو أراد لأنزل عليهم آية من السماء فتظل أعناقهم خاضعة لها. ومن المفسرين من أول جملة فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4) في الآية بأن الله لو أراد لأجبرهم على الإيمان بآية ينزلها عليهم من السماء» . ومنهم من أولها بأن الله لو أراد لأنزل عليهم نازلة تذلّ لها أعناقهم «2» . ومع ما في القول الأول من وجاهة فإن الآيات التالية ترجح القول الثاني حيث احتوت وصف عناد الكفار واستهزائهم وأنذرتهم بعذاب الله وعقابه. وفي الآية الخامسة تنديد بالكفار الذين كلما جاءهم قرآن جديد من الله أعرضوا عنه وكذبوه. وقد قال المفسرون في تأويل الآية السادسة إنها بسبيل إنذار الكفار ووعيدهم بالعقاب على استهزائهم بآيات الله وتكذيبهم لها. وقد خطر لبالنا احتمال انطوائها على بشرى وتطمين من الله تعالى للنبي عليه السلام استلهاما من ألفاظها واستئناسا بآيات أخرى، حيث تقرر أن الدعوة المحمدية التي يستهزئون بها ستنتصر، ويرون أعلام ذلك ويسمعون أنباءه. ومن الآيات التي يمكن أن يستأنس بها على هذا التأويل آية سورة ص هذه قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) . وفي الآية السابعة سؤال استنكاري وتنديدي عمّا إذا كانوا لم يروا ما أنبته الله تعالى من الأرض من أصناف النباتات الكريمة مما فيه برهان على ربوبيته وعظمته واستحقاقه وحده للعبادة والخضوع.

_ (1) انظر تفسير الآيات في ابن كثير مثلا. (2) انظر تفسيرها في الطبري مثلا.

تعليق على كلمة «محدث» في الآيات

وفي الآية الثامنة تعقيب على هذا السؤال بأن في ذلك الحجة الدامغة برغم أن أكثرهم لا يؤمنون. أما الآية التاسعة فهي موجهة إلى النبي صلى الله عليه وسلم عودا على بدء بسبيل تسليته. فربّه هو العزيز القاهر الذي لا يعجزه شيء، والرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء. وكأنما انطوت على تقرير كونه قادرا على سحق الكفار وإخضاعهم غير أن حكمته ورحمته اقتضتا عدم التعجيل بذلك وإفساح رحمته لهم لعلهم يرعوون. ولقد ارعوت أكثريتهم الساحقة حقّا بعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأيده الله ونصره. وقد غدت الآيتان لازمة لمعظم فصول السورة حيث تكررتا عقب كل فصل لنفس القصد والهدف. وفي ذلك أيضا صورة من صور النظم القرآني التي تكررت في بعض سور أخرى. ولقد أورد الزمخشري في كشافه والمفسر الشيعي الطبرسي في تفسيره في سياق تفسير الآيات رواية عن ابن عباس مفادها أن بعض هذه الآيات وخاصة إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4) في بني هاشم وبني أمية حيث انطوت على البشرى للأولين ضد الآخرين، والتكلف وأثر الحزبية السياسية المتأخرة كثيرا عن عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهران في الرواية. ولا نرتاب في أنها مكذوبة على ابن عباس رضي الله عنه. ولا سيما إن الآيات نزلت قبل أن يؤمن من عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم الأقربين إلّا أفراد قلائل جدّا، كما أن أسلوبها مماثل للأساليب المتكررة في صدد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وإنذار الكفار. ومن المؤسف أن أصحاب الأهواء وخاصة شيعة العلويين ومفسريهم أكثروا من رواية مثل هذه الروايات وتأويل كثير من الآيات بما يتفق مع أهوائهم برغم ما يكون في التأويل من مفارقة ومباينة للوقائع وفحوى الآيات وسياقها ومناسبتها. تعليق على كلمة «محدث» في الآيات ويقف علماء الكلام عند كلمة (محدث) فيتخذها بعضهم دليلا على حدوث القرآن ويؤولها بعضهم بما يجعل هذا الاستدلال في غير محلّه لأنه يؤدي في رأيهم

[سورة الشعراء (26) : الآيات 10 إلى 68]

إلى القول بأن القرآن حادث ومخلوق وهو كلام الله والكلام من صفات الله القديمة بقدمه التي لا يصح عليها حدوث وخلق. والكلمة في مقامها واضحة الدلالة على أنها قصدت معنى (آيات جديدة النزول من القرآن) ولا تقتضي إثارة المعنى الذي أريد الجدل حوله. وقد أرجأنا شرح الخلاف الكلامي في صدد خلق القرآن وعدم خلقه إلى سورة التوبة التي فيها آية تفيد أن القرآن كلام الله لأن المناسبة فيها قائمة أكثر. [سورة الشعراء (26) : الآيات 10 الى 68] وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22) قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)

(1) وتلك نعمة تمنها علي أن عبّدت بني إسرائيل: أوّل بعض المفسرين الآية بأنها تعني قول موسى: هل هذه نعمة تمنها عليّ مع أنك استعبدت قومي بني إسرائيل. وأوّلها بعضهم بأنها تعني قول موسى: إن استعبادك لبني إسرائيل كان نعمة عليّ لأنه جعلني أفرّ فرعاني الله وجعلني من المرسلين. ونحن نختار الأول. (2) حاشرين: سوّاقين أو جامعين للسحرة. (3) يأفكون: يفترون. (4) لا ضير: لا نرى في ما تقول ضررا وخطرا علينا لأننا منقلبون إلى ربنا. (5) أسر بعبادي: أخرج بهم ليلا. والسرى هو السير في الليل. (6) شرذمة: جماعة قليلة.

تعليق على قصة موسى وفرعون في السورة

(7) حاذرون: بمعنى متحذرين ومتيقظين لشرهم. وقرئت حادرون بمعنى الأقوياء بجمعنا. (8) مشرقين: وقت شروق الشمس. ولعلّها بمعنى نحو الشرق لأن القصة تلهم أن بني إسرائيل ساروا في طريق الشرق. (9) مدركون: سيلحق بنا ويوصل إلينا. (10) الطود: الجبل. (11) أزلفنا: قرّبنا. وهي كناية عن «أنجينا» . تعليق على قصة موسى وفرعون في السورة الآيات أولى حلقات سلسلة طويلة في قصص الأنبياء وأقوامهم اقتضت حكمة التنزيل تكرارها في هذه السورة. وقد جاءت عقب الآيات التي نددت بالمكذبين المستهزئين وأنذرتهم، جريا على الأسلوب القرآني وبقصد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين وتثبيتهم بما كان من الأقوام السابقة تجاه أنبيائهم من مواقف مماثلة لمواقف الكفار. فهي والحال هذه متصلة بالسياق. وقد احتوت هذه الحلقة قصة إرسال الله تعالى موسى عليه السلام إلى فرعون ومعجزة العصا واليد البيضاء والمناظرة بين موسى عليه السلام والسحرة وتغلبه عليهم وخروج بني إسرائيل بقيادته ونجاتهم وإغراق فرعون. وعبارتها واضحة، ومعظم ما جاء فيها ورد في سورتي طه والأعراف مع بعض زيادة أو نقص في الأسلوب اقتضتهما حكمة التنزيل. والجديد في الآيات تخوف موسى عليه السلام من القتل لذنب صدر منه وتذكير فرعون له به. وفي سورة القصص إيضاح لذلك، حيث حكت بعض آياتها استصراخ رجل عبراني لموسى عليه السلام على عدوّ له فقتله ثم هرب إلى مدين خوفا. وقد ورد هذا في الإصحاح الثاني من سفر الخروج. ولحوق اللازمة بهذه الحلقة دليل على أنها كمثيلاتها قد نزلت للتذكير

وضرب المثل والتسلية. لأن ضمير الآية الأولى في اللازمة راجع إلى الكفار بالدعوة المحمدية. ولقد احتوت الآيات حكاية تهديد فرعون لموسى عليه السلام بالسجن ونعته إياه بالجنون. وفي هذا شيء من المماثلة بين موقف فرعون وأقواله وبين موقف كفار العرب وأقوالهم للنبي صلى الله عليه وسلم حيث انطوى في ذلك التسلية والتطمين أيضا. فقد نصر الله موسى عليه السلام على فرعون مع قوته وجبروته مع تهديده ومنعته، وأغرقه مع قومه وهو القادر على أن يفعل ذلك مع كفار العرب. ولقد أورد المفسرون على هامش هذه الحلقة بيانات كثيرة معزوة إلى علماء التابعين. منها ما هو تكرار لما أورده في سياق سورتي الأعراف وطه. ومنها ما هو متطابق مع ما جاء في أسفار العهد القديم الأربعة التي تؤرخ رسالة موسى وعهده والمتداولة اليوم. ومنها غير المتطابق ولم نر ضرورة لمجاراتهم لأننا أوردنا في السور السابقة ما رأينا فيه الكفاية والفائدة من ذلك. ولقد جاء ما أوردوه في نطاق ما احتوته الآيات حيث ينطوي في هذا تدعيم لما قلناه من أن ما جاء في القرآن من جزئيات الحلقة كان المتداول في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم. وليس لهذا مصدر إلا اليهود وما كان في أيديهم من قراطيس. ومن الجديد في الحلقة تهديد فرعون لموسى عليه السلام بالسجن ونعته إياه بالجنون. والمتبادر أن ذلك مما كان متداولا وقد استهدف ذكره ما نبهنا عليه أيضا من تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتطمينه. ومن الجديد كذلك ما جاء في الآيات [57- 59] حيث قد تفيد أن الله تعالى أورث بني إسرائيل كنوز فرعون وقومه وجناتهم ويجوز أن يكون هذا من مدى تعبير آية الأعراف التي ذكرت أن الله أورث بني إسرائيل مشارق الأرض التي بارك فيها ومغاربها. وقد كانت في نطاق سلطان فراعنة مصر قبل أن يخرج بنو إسرائيل من مصر. ولقد علقنا على هذا الإرث في سياق آية سورة الأعراف فلا حاجة إلى الإعادة. ولقد روى الحسن العسكري المفسر الشيعي في تفسيره للآيات [49- 50]

[سورة الشعراء (26) : الآيات 69 إلى 104]

من سورة البقرة في صدد اجتياز بني إسرائيل البحر رواية عجيبة غريبة تثير التعجب في قارئها لتسويغ مفسري الشيعة لصنع مثل هذه الروايات وحشو كتبهم بها ويكشف شدة استغراقهم في حزبيتهم حتى جعلتهم لا يرون في الهراء عيبا. وقد رأينا أن نوردها هنا بمناسبة هذه السلسلة التي ورد فيها خبر ذلك الاجتياز. وقد جاء في الرواية «أن موسى لما انتهى إلى البحر أوحى الله إليه أن قل لبني إسرائيل جددوا توحيدي وأسروا بقلوبكم ذكر محمد سيد عبيدي وإمائي وأعيدوا على أنفسكم الولاية لعلي أخي محمد وآله الطيبين وقولوا اللهم بجاههم جوزنا على متن هذا الماء فإن الماء يتحول لكم أرضا. وترد بنو إسرائيل في تصديق ذلك حتى جرب الأمر طالب بن يوحنا فتحقق. وحينئذ طلب بنو إسرائيل أن يكون لكل سبط طريقهم الخاص وأن تكون جدران كل طريق شفافة حتى يرى بعضهم بعضا أثناء الاجتياز فكان الله يأمر موسى بأن يقول لهم توسلوا إلي بجاههم حتى أحقق لكم مطالبكم. فكانوا يتوسلون وحقق لهم ما طلبوه «1» . [سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 104] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)

_ (1) التفسير والمفسرون للذهبي ج 3.

تعليق على قصة إبراهيم وأبيه وقومه في السورة

(1) عاكفين: مقيمين على عبادتهم. (2) حكما: فهما وحكمة. (3) ينتصرون: يدفعون عن أنفسهم أو ينقذون أنفسهم. (4) كبكبوا: من الكب بمعنى ألقوا وقذفوا. (5) يختصمون: يتجادلون. (6) إذ نسويكم: إذ نجعلكم سواء أو مساوين. (7) صديق حميم: صديق شديد الصداقة. تعليق على قصة إبراهيم وأبيه وقومه في السورة هذه حلقة ثانية من السلسلة احتوت حكاية ما كان بين إبراهيم عليه السلام وأبيه وقومه ومصيرهم في الآخرة، وعبارتها واضحة. وبعض ما جاء فيها جاء في سورة مريم التي سبق تفسيرها مع بعض زيادة ونقص في الفحوى والأسلوب اقتضتهما حكمة التنزيل التي اقتضت تكرار إيراد القصة لمناسبة جديدة. وقد علقنا على القصة وأوردنا بعض البيانات التي رواها المفسرون عن علماء الأخبار واستدللنا بها على أن قصص إبراهيم المماثلة التي لم ترد في سفر التكوين كانت متداولة في عصر النبي وبيئته. ولم يورد المفسرون في سياق هذه الحلقة بيانات جديدة يحسن إيرادها أو إيجازها. وفي القصة شيء جديد وهو أن المحاورة لم تقتصر هنا على إبراهيم عليه السلام وأبيه بل اشترك فيها قوم إبراهيم مع بيان كونهم كانوا يعبدون الأصنام. وقد

ذكر هذا أيضا في الروايات التي يرويها المفسرون عن علماء الأخبار على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة مريم. وبدء هذه الحلقة بجملة وَاتْلُ عَلَيْهِمْ التي يعود الضمير فيها إلى الكفار كما هو المتبادر وانتهاؤها باللازمة التي يعود ضميرها إلى الكفار أيضا دليل على أن القصد من إيرادها هو التذكير وضرب المثل. والآيات [90- 102] جاءت بمثابة تعقيب على قصة إبراهيم وأقواله ودعائه. موجهة لسامعي القرآن على ما هو المتبادر منها. فالجنة تهيأ للمتقين والجحيم للغاوين الذين يسألون على سبيل التحدي والتبكيت عن شركائهم الذين كانوا يعبدونهم من دون الله وعمّا إذا كانوا يمكنهم أن ينصروهم ثم يكبون جميعهم في جهنم فيأخذون بالتلاوم وإظهار الندم على ما فرط منهم والحسرة على فقدهم أي شفيع وصديق. وتمني العودة لتلافي أمرهم. وأسلوبها قوي نافذ من شأنه أن يثير الطمأنينة والغبطة في المتقين والفزع والهلع والندم في الكفار. وهو ما استهدفته كما هو المتبادر. والأسلوب الذي حكيت به قوة إخلاص إبراهيم عليه السلام لله تعالى واعتماده عليه وحده ودعواته التي وجهها إليه قوي نافذ أيضا. ولقد كان كفار العرب يتخذون لهم أصناما يعكفون عليها ويقيمون طقوسهم عندها على ما شرحناه في سياق تفسير سورة النجم. ولقد كان فريق من العرب يعتقدون أنهم يمتون بالنبوّة إلى إبراهيم عليه السلام على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأعلى. فالمتبادر أن الآيات استهدفت كما استهدفت آيات سورة مريم تذكيرهم بعقيدة التوحيد والإخلاص لله تعالى التي كان عليها جدّهم وجعله كل اعتماده على الله في كل شأن ومطلب وأمل في حياته وبعثه. وما كان من تقريعه لأبيه وقومه على عبادتهم الأصنام وتقريره عدم نفعهم وضرهم وكونه عدوا لهم بقصد إحكام الحجة عليهم وحملهم على الارعواء وسلوك طريق جدهم الذي يدعو إليه النبي صلى الله عليه وسلم. ولقد روى البخاري في سياق الآية وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ حديثا عن أبي هريرة قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ إبراهيم عليه السلام يرى أباه يوم القيامة عليه

[سورة الشعراء (26) : الآيات 105 إلى 122]

الغبرة والقترة فيقول يا ربّ إنّك وعدتني ألّا تخزني يوم يبعثون فيقول الله إنّي حرّمت الجنّة على الكافرين» وروى مسلم عن عائشة «قالت يا رسول الله ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرّحم ويطعم المسكين فهل ذاك نافعه. قال لا ينفعه. إنّه لم يقل ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدّين» «1» حيث ينطوي في الحديثين توضيح نبوي لمدى بعض الآيات التي نحن في صددها يتسق مع التقريرات القرآنية المحكمة بأن مصير الكفار النار ولا يغني عنهم عمل ولا قرابة. [سورة الشعراء (26) : الآيات 105 الى 122] كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) (1) الأرذلون: كناية عن الطبقة الدنيا من الفقراء والصعاليك. (2) افتح: بمعنى احكم أو اقض. (3) الفلك المشحون: السفينة المملوءة. تعليق على قصة نوح وهذه حلقة ثالثة من سلسلة القصص احتوت قصة رسالة نوح عليه السلام لقومه. والقصة هنا أوسع شيئا مما جاء في سورة الأعراف والقمر مما اقتضته

_ (1) التاج ج 4 ص 174 والمتبادر أن ابن جدعان ظلّ جاحدا لرسالة النبي صلى الله عليه وسلم ومات على جحوده فحبط ما عمل على ما جاء في آية سورة الكهف [105] .

[سورة الشعراء (26) : الآيات 123 إلى 140]

حكمة التنزيل. وقد علقنا على قصة نوح سابقا بما يغني عن التكرار. ومن الجديد فيها قول نوح عليه السلام لقومه إنه لا يسأل قومه على رسالته إليهم أجرا وإن أجره على ربّ العالمين، وإنه رسول أمين إليهم، ووصف قوم نوح الجماعة التي آمنت برسالته بأراذلهم وتهديدهم إياه بالرجم إن لم ينته. ولم يرد هذا في الإصحاحات (6 و 7 و 8) من سفر التكوين التي وردت فيها قصة نوح. ولكن هذا لا يمنع أن ذلك كان متداولا عن طريق اليهود في عصر النبي عليه السلام وبيئته وأن يكون واردا في أسفار وقراطيس أخرى في أيديهم، لأن العبرة إنما تتحقق بذلك. والعبرة هي التماثل بين ما قاله نوح عليه السلام لقومه وما أمر النبي صلى الله عليه وسلم من قول مثل ذلك كما جاء في آيات عديدة منها آيات سورة ص قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) والتماثل كذلك بين ما قاله قوم نوح عن المؤمنين وما قاله كفار العرب عن الذين آمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم على ما تفيده آيات عديدة منها آيات سورة الأنعام هذه وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وفي ذلك تطمين وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كما هو واضح. ولقد أورد البغوي عن الحسن البصري في صدد ورود كلمة الْمُرْسَلِينَ في هذه الحلقة والحلقات التالية مع أن الكلام عن رسول واحد أنه قال في تأويل ذلك إن الآخر جاء بما جاء به الأول فإذا كذبوا واحدا فقد كذبوا الرسل أجمعين. وعلى كل حال فالعبارة أسلوبية، لا تتحمل توقفا ولا تحتاج إلى تخريج كما هو المتبادر. [سورة الشعراء (26) : الآيات 123 الى 140] كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)

تعليق على قصة هود

(1) ريع: المكان المرتفع أو الطريق. (2) آية: هذه الكلمة بمعنى بناء ولعلها بمعنى حصن أو قلعة أو برج. (3) تعبثون: تلهون بما لا يجدي. (4) مصانع: قيل إنها بمعنى القصور وقيل إنها بمعنى صهاريج الماء والثاني هو الأرجح لاشتهار اليمن- بلاد عاد وهود- بسدود الماء الصغيرة والكبيرة. والكلمة تستعمل إلى اليوم في بلاد الشام وغيرها بمعنى بئر الماء أو حوض الماء. (5) إن هذا إلّا خلق الأولين: أوّلها بعضهم بمعنى إن ما نحن فيه هو دين الأولين وتقاليدهم. وأوّلها بعضهم بمعنى أن ما تقوله هو ما قاله أناس قبلك أو هو أساطير الأولين. تعليق على قصة هود وهذه حلقة رابعة من السلسلة احتوت قصة رسالة هود عليه السلام إلى قومه عاد. وقد ذكرت هذه القصة في سور سابقة وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار. وجاءت هنا مع بعض الاختلاف الأسلوبي الذي اقتضته حكمة التنزيل. والجديد هنا تذكير هود عليه السلام قومه بما يسّره الله لهم من أسباب الثروة والرفاه، وبما كانوا ينشئونه بسبيل ذلك من سدود ومنشات، وقوله لهم إني لا أسألكم عليه أجرا، وقول قومه له إنّ ما تقوله وتنذر به شيء مسبوق به ولن نؤمن به، فاستحقوا بذلك عذاب الله. والعبرة في هذا ما كان بين أقوال هود وقومه وأقوال النبي صلى الله عليه وسلم

[سورة الشعراء (26) : الآيات 141 إلى 159]

وكفار العرب من تماثل، حيث ينطوي في ذلك تسلية وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وإنذار للكفار. [سورة الشعراء (26) : الآيات 141 الى 159] كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) (1) طلعها هضيم: ثمرها سهل الهضم، ولعل ذلك كناية عن النضج والجودة أو الليونة. (2) فارهين: حاذقين أو معتدّين أو متبطّرين. (3) المسحّرين: المسحورين. تعليق على قصة صالح وهذه حلقة خامسة من السلسلة احتوت قصة رسالة صالح عليه السلام لقومه ثمود. وقد ذكرت القصة في سور سابقة علقنا عليها بما يغني عن التكرار. وجاءت هنا كذلك مع بعض الاختلاف الأسلوبي الذي اقتضته حكمة التنزيل. والجديد هنا قول صالح عليه السلام لقومه إنه لا يريد منهم أجرا وقولهم له إنه بشر مثلهم وإنه من المسحورين. والعبرة في ذلك ما انطوى فيه من تماثل بين هود وقومه وبين

[سورة الشعراء (26) : الآيات 160 إلى 175]

محمد صلى الله عليه وسلم وقومه مما فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وإنذار للكفار. [سورة الشعراء (26) : الآيات 160 الى 175] كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) (1) عادون: معتدون. (2) من القالين: من الهاجرين أو التاركين. مشتقة من قلا بمعنى ترك وهجر. تعليق على قصة لوط وهذه حلقة سادسة من السلسلة. وقد احتوت قصة لوط عليه السلام وقومه. وقد ذكرت هذه القصة في سور سابقة. وجاءت هنا ببعض الاختلاف الأسلوبي الذي اقتضته حكمة التنزيل. والجديد هنا قول لوط عليه السلام لقومه إنه لا يريد منهم أجرا مما فيه تماثل وعبرة كذلك. [سورة الشعراء (26) : الآيات 176 الى 191] كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)

تعليق على قصة شعيب

(1) أصحاب الأيكة: أصحاب الحرجة. (2) المخسرين: المنقصين. (3) القسطاس: الميزان. (4) المستقيم: المضبوط السليم. (5) كسفا: قطعا. (6) عذاب يوم الظلة: قال المفسرون إن الحرّ اشتد عليهم فرأوا سحابا فتسارعوا إليه فصار عليهم كالظلة فلما اجتمعوا تحته التهب بالنار فأحرقتهم «1» . تعليق على قصة شعيب وهذه حلقة سابعة من السلسلة. وقد احتوت قصة رسالة شعيب عليه السلام إلى أصحاب الأيكة. وقد ذكرت قصة شعيب مع قومه في سور سابقة. وجاءت هنا بشيء من الاختلاف اقتضته حكمة التنزيل. ولقد ورد في سورة الأعراف اسم مدين كوصف لقوم شعيب عليه السلام بينما ورد هنا اسم أصحاب الأيكة. وقد قال بعض المفسرين «2» إن أصحاب الأيكة هم قوم آخرون غير مدين، واستدلوا على ذلك بعدم وصف شعيب عليه السلام بوصف أخيهم هنا كما وصف نوح وهود وصالح لوط عليهم السلام ثم بوصف شعيب عليه السلام بأخيهم في سورة الأعراف بالنسبة لقوم مدين.

_ (1) ذكر ذلك جملة من المفسرين منهم ابن كثير الذي عزى التأويل أو التفصيل لابن عباس رضي الله عنه، انظر أيضا تفسير الكشاف وتفسير الخازن. (2) انظر تفسير البغوي.

تعليق عام على القصص

ومع أننا لا نرى طائلا في الأمر لأن القصة لم ترد للتاريخ، فإن مما يلحظ أن ما قاله شعيب لأصحاب الأيكة، هو تقريبا ما ذكر من أقواله في سورة الأعراف لقومه أهل مدين، وإن أهل مدين وأصحاب الأيكة لم يرد ذكرهما في سلسلة واحدة أو سياق واحد في القرآن، مما يلهم أنهم شيء واحد. وهذا رأي فريق من المفسرين أيضا. أما عدم وصف شعيب عليه السلام بوصف أخيهم هنا، فإن حكمته غابت عنا. ولقد أشرنا إلى ذلك في كتابنا «القرآن المجيد» واستلهمنا منه فورية تدوين الفصول القرآنية عند نزولها. والجديد في قصة شعيب عليه السلام ذكر قوله لقومه إنه لا يطلب منهم أجرا وقولهم له إنه ليس إلّا بشرا مثلهم وإنهم ليظنونه كاذبا ومسحورا، وتحديهم له بإسقاط كسف عليهم من السماء. وفي هذا تماثل بين أقوال شعيب عليه السلام وقومه وأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وقومه مما فيه تسلية وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وإنذار للكفار. تعليق عام على القصص هذا، ويلحظ بوجه عام أولا أن في تكرار حكاية أقوال الأنبياء بأنهم رسل أمناء لأقوامهم وبأنهم لا يسألونهم أجرا وإنما أجرهم على الله ومماثلة ذلك لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لقومه مرة بعد أخرى مما مرّت أمثلة منه في سور الفرقان وص والقلم ومنه آية سورة سبأ هذه قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) حجة مفحة للكفار العرب على إخلاص النبي صلى الله عليه وسلم وتجرده عن كل مطلب دنيوي كما كان شأن الأنبياء السابقين من قبله، ومما لا يصدر إلّا من الأنبياء الذين اصطفاهم الله لمهمة الدعوة إليه والإنذار والتبشير والذين امتلأت قلوبهم بالإيمان الذي أغناهم عن كل مطلب دنيوي، وجعلهم يقومون بأعظم الأعباء ويتحملون أفدح المشاق، مطمئنّة قلوبهم قريرة عيونهم، كل سعادتهم وأمانيّهم أن تنجح دعوتهم وأن يكونوا الوسيلة إلى نجاة أممهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة. وثانيا أن في تكرار تذكير العرب بقوة الأمم السابقة وكثرة أموالهم وتمكناهم تقوية لإنذار كفار العرب الذين حكت آيات عديدة تبجحهم بما

[سورة الشعراء (26) : الآيات 192 إلى 197]

لهم من قوة ومال وبنين مثل آية سورة سبأ هذه وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) ومثل آيات سورة الهمزة هذه وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) فالله الذي لم يعجزه أولئك وهم أقوى منهم وأكثر أموالا وأولادا فأهلكم لا يعجزه هؤلاء من باب أولى. وثالثا أن القصص القرآنية المتكرر ورودها تحتوي في كل مرة تفاصيل وعبر ومواعظ جديدة حيث ينطوي في هذا صورة من صور التنويع في الأسلوب والنظم القرآني في المناسبات المختلفة بسبيل استكمال نواحي المقارنة والمماثلة وإحكام الحجة وتحقيق الهدف الجوهري من القصص وهو العظة والتذكير والتمثيل والإنذار والتسلية والتطمين والتثبيت. [سورة الشعراء (26) : الآيات 192 الى 197] وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) . (1) الروح الأمين: جبريل عليه السلام على ما يجمع عليه المفسرون. (2) زبر الأولين: كتب الرسل الأولين المنزلة من الله. (3) آية: هنا بمعنى برهان أو علامة. تعليق على آيات وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ وما بعدها إلى آخر آية أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ جاءت هذه الآيات بمثابة التعقيب على سلسلة القصص وهي متصلة بالسياق من هذه الناحية. وقد احتوت توكيدا بأن القرآن الذي يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم والذي يحتوي هذه القصص وغيرها من مبادئ الدعوة والإنذار والتبشير هو تنزيل من الله تعالى أنزله على قلب نبيه بواسطة الروح الأمين لينذر به الناس، وأنه أنزله بلسان عربي

مبين واضح ومفهوم لئلا يكون حجة للعرب الذين هم أول المخاطبين به بعدم الفهم والعجز عن الإدراك، وإنه فيما احتواه من مبادئ وأهداف وتدعيمات متطابق مع ما في الكتب المنزلة الأولى. وقد انتهت الآيات بسؤال استنكاري يتضمن التقرير الإيجابي عما إذا لم يكن للكافرين برهان على أنه كذلك فيما كان من علم علماء بني إسرائيل بأمره وشهادتهم على صحته. ولقد احتوى القرآن المكي فضلا عن المدني آيات كثيرة حكت ما كان من شهادة أهل الكتاب وأهل العلم بصحة وصدق القرآن ونزوله من عند الله وإيمانهم به وصحة وصدق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وأوصافه التي يجدونها مكتوبة عندهم في التوراة والإنجيل وكونهم يعرفون ذلك كما يعرفون أبناءهم. وقد أوردنا كثيرا منها في مناسبات سابقة وخاصة في مناسبة تفسير آية سورة الأعراف [157] مما يجعل الحجة التي تضمنتها الآية الأخيرة [197] دامغة. كذلك فإن هذه الآية والآيات التي تستشهد أهل العلم وأهل الكتاب على صحة صلة القرآن بالله تعالى وصحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم مما أوردنا كثيرا منها في المناسبات السابقة تلهم أن العرب كانوا يثقون في علم أهل الكتاب وعلماء بني إسرائيل واطلاعهم فاستحكمتهم الآيات بالحجة والإفحام والتنديد حيث يظلون مكابرين معاندين بالرغم من شهادة هؤلاء الذين يزكونهم ويثقون بهم. ومن المحتمل جدّا أن يكون بعض علماء بني إسرائيل قد شهدوا شهادتهم في مجلس علني حضره فريق من المسلمين وآخر من الكفار. ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآية [197] مدنية وذكر ذلك الزمخشري في مطلع تفسير السورة أيضا. وقال المفسرون إنها تعني علماء بني إسرائيل الذين أسلموا في المدينة كعبد الله بن سلام «1» . ونلاحظ أن الآية منسجمة كل الانسجام سبكا وموضوعا وسياقا مع ما قبلها وما بعدها. ومحتوية إفحاما جدليّا إزاء عناد الكفار الذي كان مسرحه الأول مكة لا المدينة، وفي سياق آيات لا

_ (1) انظر تفسير الطبري وابن كثير والزمخشري والطبرسي والخازن. [.....]

خلاف على مكيتها. ولذلك نشك في الرواية. ونرجح أن بعض علماء بني إسرائيل اجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في مكة في مجلس من مجالسه وشهدوا على مسمع كثير من الشاهدين بصحة الرسالة النبوية والقرآن، فذكرت ذلك هذه الآية في معرض الإفحام والإثبات. وفي سورة الأحقاف آية تذكر شيئا مثل ذلك بصراحة وهي قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) «1» . وفي الآيات نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) حجة قاطعة مؤكدة للحجج الأخرى على أن القرآن كان مفهوما مألوف اللغة من العرب الذين يسمعونه، كما أن فيها دليلا على أن الوحي القرآني الذي كان ينزل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل بالألفاظ التي دونت وليس بالمعنى كما ذهب إليه بعض العلماء. وفي هذه الآيات دليل مؤيد لما ذهب إليه جمهور العلماء من عدم إجزاء قراءة القرآن في الصلاة مترجما بلغة أخرى لأن ذلك لا يمكن أن يبقى على صفة (القرآن) الواجب قراءته كركن من أركان الصلاة. خلافا لبعض من قال بجواز ذلك. والعبارة هنا قوية الدلالة على صحة الرأي الأول إلى درجة تكاد أن تكون حاسمة فيما نعتقد «2» . والله أعلم. وهناك قولان في ضمير وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ واحد بأن ضمير (وإنه) راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتكون الجملة معنى أن البشارة به وصفاته مكتوبة في كتب الله السابقة. وثان إنه راجع إلى القرآن فتكون الجملة بمعنى إن ما في القرآن متطابق في الأسس مع ما في الكتب السابقة. والقولان وجيهان. ولكنا نرجح الثاني لأنه المذكور في الآيات السابقة. والآية معطوفة عليها. وقد يكون في آية سورة طه هذه

_ (1) نعرف أن هناك رواية تذكر أن هذه الآية مدنية أيضا غير أن هذه الآية تخاطب الكفار في مكة على ما يفيده سياقها السابق واللاحق مما يجعل الشك في الرواية أقوى ولا يكاد أن يتحمل كلاما. (2) للسيد رشيد رضا في هذا الموضوع فصل طويل في سياق تفسيره سورة الأعراف الجزء التاسع من تفسير المنار فيه توثيق قوي لهذا الرأي وتفنيد قوي لخلافه.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 198 إلى 209]

وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) قرينة على هذا الترجيح. والمقصود بتعبير الروح الأمين هو جبريل عليه السلام على ما أجمع عليه المفسرون. ويؤيد هذا أن اسم جبريل ورد بصراحة في صدد نزوله بالقرآن على قلب النبي صلى الله عليه وسلم في آية سورة البقرة هذه قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) . وتعبير عَلى قَلْبِكَ يؤكد أن الوحي القرآني حادث روحاني خاص لا يدركه إلّا النبي. وقد شرحنا هذا في كتابنا القرآن المجيد «1» وفي سياق تفسير سورة القيامة فلا حاجة إلى شرح جديد هنا، ولا سيما أن المسألة من المسائل المغيبة الواجب الإيمان بها والتي لا يجوز التزيد والتخمين فيها. وإذا كان لا بد من شيء يقال هنا فهو أن هذا التعبير الذي تكرر في آية سورة النحل هذه قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) قد يلهم شيئا من الإيضاح لطريقة الوحي القرآني يستطيع أن يفهمه الذين لم يكونوا يشعرون بالوحي الذي كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهم في قربه وهي أن القرآن كان ينقذف في قلب النبي صلى الله عليه وسلم انقذافا روحانيا بواسطة روحانية غير مشعور بمادتها، ولكنها مشعورة بآثارها ومن جانب النبي صلى الله عليه وسلم بخاصة وهي ملك الله الذي سمي هنا بالروح الأمين، وسمي في سورتي النحل والبقرة بروح القدس، وذكر اسمه بصراحة في سورة البقرة. [سورة الشعراء (26) : الآيات 198 الى 209] وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209)

_ (1) انظر ص 15- 32.

(1) الأعجمين: جمع أعجم وهم غير العرب. ومعنى العجمة في الأصل عدم القدرة على الإفصاح بالكلام، ثم أصبحت تطلق على كل من هو غير عربي اللسان والجنس. (2) سلكناه: بمعنى أدخلناه. (3) منظرون: مؤخرون أو ممهلون. (4) ذكرى: هنا بمعنى التذكير. الآيات متصلة بالسياق واستمرار له كما هو المتبادر والآيتان الأوليان منها في صدد القرآن حيث تقرر أن الله تعالى لو أنزل القرآن على غير عربي فتلاه عليهم بغير اللسان العربي ما كانوا ليؤمنوا به أنفة أو لعدم فهمه، فكان تنزيله بلسان عربي مبين قطعا لحجتهم. وهذا المعنى جاء بصراحة أكثر في آيات سورة الأنعام هذه أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157) «1» . واحتوت الآيات الثمان التالية للآيتين الأوليين تبكيتا وإنذارا وإعذارا للكفار فقد بلغ بهم الإجرام وسوء النية والعناد إلى درجة جعلتهم لا يتدبرون في القرآن فيكون في آياته لهم مقنع للإيمان به وجعلتهم يعلقون إيمانهم برؤية العذاب الذي يوعدون به. وقد يأتيهم هذا العذاب بغتة دون أن يشعروا به فيندمون ويطلبون الإمهال والإنظار بعد أن كانوا يستعجلونه. ولو أمهلوا وأنظروا بضع سنين ثم

_ (1) أنزلناه قرآنا عربيا لئلا تقولوا إن الكتب الأولى نزلت على طائفتين من قبلنا ولم يكن بلغتنا ولم نعرف لغتهم، وإنا لو أنزل الكتاب بلغتنا لكنا أهدى منهم.

جاءهم فلن يكون الإمهال والإنظار مجديا لأنهم وقد انطبعوا على الإجرام والكفر لن يرتدعوا ويرعووا. وإذا كان الله تعالى قد أرسل إليهم نذيرا فتلك سنته التي جرى عليها من حيث إنه لم يهلك قرية إلا بعد أن يرسل إليها منذرين. لأنه ليس ظالما ليهلك الناس بدون إنذار وإعذار. والآيتان الأخريان جاءتا بمثابة تعقيب على ما قبلهما. وقد تكرر ذلك في مثل هذا المقام، ومن ذلك آية سورة الإسراء وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) . والآيات في الجملة قوية في إفحامها وإنذارها وإعذارها وتبكيتها وروحها وفحواها. تلهم بقوة أنها استهدفت فيما استهدفته أيضا تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عن عدم إيمان الكفار وعن مواقفهم التكذيبية. ولما كان كثير من سامعي القرآن قد آمنوا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فيمكن أن يقال إنّ الآيات تسجيل لواقع الأمر حين نزولها على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة مماثلة. ولقد قال البغوي والخازن وابن كثير إن الضمير في سَلَكْناهُ عائد إلى الكفر وإن الجملة بمعنى أننا أدخلنا الكفر في قلوب المجرمين. وإن الضمير في لا يُؤْمِنُونَ بِهِ عائد إلى القرآن. وقال الزمخشري والطبرسي إن الضمير في المقامين عائد إلى القرآن وإن معنى الكلام: إن الله تعالى ألقى القرآن على قلوبهم فلم يؤمنوا به تحديا للعذاب الذي أوعدوا به. ويتبادر لنا أن هذا هو الأوجه، لأن القرآن فقط هو المذكور، في الآيات السابقة للآيتين اللتين فيهما الكلمتان. والضمير يعود إلى الأقرب المذكور، والله يقول إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ فيتنزه عن أن يدخل الكفر في قلوب عباده والله تعالى أعلم. على أنه ليس في الآيات محل للتوهم حتى نوضح رأي المفسرين الأولين بأن الله قد أدخل الكفر إلى قلوبهم، فكلمة المجرمين في الآية قرينة قوية بل حاسمة على أن ذلك كان لأنهم مجرمون فاسدوا الأخلاق والسرائر ومن قبيل يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ (26) والله أعلم.

تعليق على استعجال الكفار عذاب الله في معرض التحدي

تعليق على استعجال الكفار عذاب الله في معرض التحدي ويبدو من الآيات أن الكفار كانوا يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان صادقا لكان نزل عليهم عذاب الله فورا كما كان شأن الأمم السابقة التي كانت تكذب أنبياءها والتي يقص النبي عليه السلام عليهم قصصها بلسان القرآن. فلما لم ينزل عليهم العذاب أخذوا يتحدونه ويستهزئون بوعيده، وقد تكرر هذا منهم كما حكته آيات عديدة منها آية سورة الأنفال هذه وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) وآية سورة الإسراء هذه أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا (92) وآية سورة الحج هذه وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) مما ينطوي فيه صور لمواقف الصد والمكابرة والتحدي التي كان يقفها الكفار فكان يثير ذلك في النبي صلى الله عليه وسلم الألم والحسرة فينزل القرآن بالتسلية والتطمين من جهة وبيان حكمة الله في تأجيل العذاب عنهم من جهة أخرى مما مرّت أمثلة منه مثل آية سورة فاطر هذه وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45) ومثل آية سورة النحل هذه وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) . تعليق على كلمة الأعجمي والأعجمين وكلمة أعجمي مما كان يطلق على غير العرب قبل الإسلام من دون شك فنزلت في القرآن للدلالة على ذلك، وهذا يعني أن سكان الدنيا في مفهوم العرب وأذهانهم كانوا فريقين عربا وعجما وأن كلمة عرب كانت تشمل كل من كان يتكلم العربية في داخل الجزيرة العربية وخارجها، وأن هذا الشمول كان مدركا من العرب، والآيات الثلاث الأولى من الآيات التي نحن بصددها وآيات الأنعام التي أوردناها قبل قليل وغيرها من الآيات التي تقرر عروبة القرآن تنطوي- والحال

عروبة النبي والقرآن لا تتعارضان مع عموم الرسالة المحمدية

هذه- على التقرير بأنه لم يكن هناك عربي في داخل الجزيرة وخارجها لا يفهم لغة القرآن أو يتكلم بلغة بينها وبين القرآن مغايرة كبيرة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا كان فيما نعتقد ممتدّا إلى ما قبل الإسلام بأمد ما، قد يختلف تقديره ومداه بالنسبة للأمكنة المختلفة التي كان ينتشر فيها العرب داخل الجزيرة وخارجها. عروبة النبي والقرآن لا تتعارضان مع عموم الرسالة المحمدية ومن تحصيل الحاصل أن نقول إن تقرير الآية [195] نزول القرآن بلسان عربي مبين ليس من شأنه أن يفسح مجالا لقول قائل غير مسلم إن الرسالة المحمدية خاصة بالعرب. فعروبة النبي صلى الله عليه وسلم وعروبة القوم الذين خوطبوا بالقرآن تقتضيان ذلك، وفي القرآن آيات كثيرة نزلت في مختلف أدوار التنزيل المكية والمدنية، ومنذ عهد مبكر من عهد النبوة تقرر عموم الرسالة المحمدية والتبليغ القرآني. وقد أوردنا كثيرا منها في مناسبات سابقة. من ذلك آية سورة الأعراف هذه قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) ومنها آية سورة الفرقان هذه تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) وهنالك آيات كثيرة أخرى في سور عديدة مكية ومدنية من هذا الباب. تعليق على آيتي وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ والآيتان وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209) وأمثالهما في القرآن مما كان موضع تشاد وجدل بين علماء الكلام حيث استدل المعتزلة بهما وبأمثالهما على أن الله سبحانه لا يفعل لعباده إلّا الأصلح أو أنه أوجب على نفسه ذلك أو أن ذلك واجب عليه وأنه لا يعذبهم ولا يثيبهم إلّا على أعمالهم وأن ذلك مقتضى العدل الواجب عليه وحيث أنكر الأشاعرة ذلك وقالوا

[سورة الشعراء (26) : الآيات 210 إلى 212]

إنه ليس على الله سبحانه واجب أو حق نحو خلقه، واستندوا في ذلك إلى آيات قرآنية أيضا مثل: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ سورة الأنبياء [23] وجملة وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ في آية سورة إبراهيم [27] إلخ. والذي يتبادر لنا أن الله سبحانه استعمل في خطابه القرآني الأساليب التي اعتادها البشر والتي تتفق مع أفهامهم، وأن هذه الآيات وأمثالها لم تورد بسبيل تقرير مبادئ عقائدية وإنما بسبيل تأييد الدعوة وتدعيمها حسب المناسبات ومن هنا جاءت متنوعة الصيغ، وأن الأولى بل الواجب أن تبقى في نطاق ذلك وألّا تحمل ما لا تحمله لأن ذلك أدى ومن شأنه أن يؤدي إلى إبراز التناقض في القرآن، تنزه الله تعالى وقرآنه عن ذلك، وقد قرر الله هذا في آية سورة النساء هذه أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) وذلك برغم أن كلتا الجماعتين المتشادتين هدفت إلى تنزيه الله سبحانه عن النقائص والنقائض، وغاية ما يمكن أن يقال في الموضوع أن الله سبحانه وتعالى فيما يفعله ويأمر به وينهى عنه ويرتب على أعمال عباده من نتائج إنما يفعل مقتضيات صفات الحكيم العادل فيه. فما دامت حكمته اقتضت أن يكون في عباده قدرة الاختيار للهدى والضلال والخير والشرّ فإنها اقتضت كذلك إرسال الرسل والمنذرين ليبين للناس بواسطتهم أعلام الهدى والضلال والخير والشرّ ونتائجها، واقتضت ترتيب النتائج وفق ما تقتضيه صفة العادل فيه. [سورة الشعراء (26) : الآيات 210 الى 212] وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) (1) معزولون: بمعنى محال بينهم وبين السمع. تعليق على آيات وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ إلى آخر إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ الآيات استمرار في موضوع القرآن وهي والحال هذه استمرار للسياق السابق.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 213 إلى 220]

ويبدو أن الكفار كانوا يقولون فيما يقولونه عن القرآن: إن الشياطين تتنزل به على النبي صلى الله عليه وسلم جريا على ما كانوا يعتقدونه من أن شياطين الجن كانوا يتصلون بالسحرة والكهنة والشعراء ويوحون إليهم أو يلقنونهم بما يقولونه، ومن أن الشياطين كانوا يسترقون أخبار السماء وينقلونها إلى الكهنة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الجن ومناسبات سابقة أخرى فأكدت الآيات [192- 195] أنه وحي رباني، وجاءت هذه الآيات لتؤكد نفي صلة الشياطين به مما قد قام في أذهان الكفار أو زعموه من وحي عقائدهم. وينطوي في الآيات وخاصة في تعبير وَما يَنْبَغِي لَهُمْ معنى جليل فيما يتبادر لنا. وهو تقرير كون الشياطين الذين هم عناصر شريرة خبيثة لا يمكن أن يصدر عنهم إلّا الأذى ووسوسة المعاني الدنيئة والإغراء والشر، ولا يمكن أن توحي بالقرآن الذي يدعوا إلى الله تعالى وفضائل الأخلاق وصالح الأعمال، وينهى عن الفواحش والخبائث والإثم والبغي والاتجاه لغير الله وإشراك غيره في العبادة والدعاء ويحذر من الشياطين ووساوسهم، ولعلّ الآيات [192- 195] وهي تقرر نزول الروح الأمين بالقرآن قد انطوت على هذا المعنى بسبيل المقارنة والإفحام والإقناع كأنما جاءت لتقرر أن مثل هذا القرآن الذي يحتوي ما يحتوي من الدعوة إلى الحق والخير والتحذير من الباطل والشر لا يمكن أن ينزل به إلّا الروح الأمين بإذن الله البرّ الرحيم العادل الحكيم وأمره. ولقد كان السامعون يعتقدون بوجود الله وصفاته السامية. وهذا مما يقوي الإفحام والإقناع اللذين استهدفتهما الآيات. وهذا المعنى مؤيد بقوة ووضوح في آيات أخرى من السورة تأتي قريبا. [سورة الشعراء (26) : الآيات 213 الى 220] فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) . (1) العشيرة: هي الوحدة الاجتماعية التي ينضوي تحتها عدد من الأسر. وهي بمعنى ما يعرف اليوم بالحمولة. الآيات تحتوي أوامر ربانية للنبي صلى الله عليه وسلم في صدد دعوته وسيرته. فعليه أن يظل متمسكا بدعوته وإخلاصه لله وعدم إشراك أحد غيره معه في الدعاء لئلا يكون في عداد المعذبين. وأن ينذر أقاربه الأدنين وأن يعامل المؤمنين الذين يتبعونه فيما يأمرهم به وينهاهم عنه باللين والعطف والتسامح، وأن يجعل اعتماده على الله وحده العزيز الرحيم الذي يراه ويراقبه ويرعاه في كل حالة من حالاته في قيامه وصلواته وخلواته ومع الساجدين معه والذي هو السميع لكل شيء العليم بكل شيء. وحرف الفاء الذي بدئت به أولى الآيات يلهم أن بين هذه الآيات وما سبقها اتصالا، والمتبادر أنها جاءت معقبة عليها كأنما أريد الالتفات إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد الآيات السابقة لتقول له إن عليه ألّا يهتمّ ولا يغتمّ لمواقف الكفار وتكذيبهم، وما عليه إلّا أن يدعوهم وينذرهم وخاصة عشيرته الأدنين وإلّا أن يستمر في إخلاصه لله سبحانه وحده ويجعل اعتماده عليه وموادّة الذين آمنوا به واتبعوه والتسامح معهم. وبعض المفسرين يصرفون الضمير في فعل عَصَوْكَ إلى أقارب النبي صلى الله عليه وسلم «1» وبعضهم إلى المؤمنين «2» . والمتبادر أن الرأي الأول هو الأوجه والأرجح والمتسق مع الظرف لأن احتمال العصيان من أقاربه هو المتوقع الأقوى. وقد أورد بعض المفسرين في صدد جملة وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ أقوالا وروايات عجيبة مفادها أنها تحتوي إشارة إلى تنقل النبي صلى الله عليه وسلم في أصلاب مؤمنين ساجدين وأرحام مؤمنات ساجدات من لدن آدم وحواء إلى أن ولدته أمه، وأن بعض أجداده كان يسمع تسبيح النبي في صلبه وتلبيته بالحج ... إلخ، أو أن

_ (1) انظر تفسيرها في الطبري والطبرسي مثلا. (2) انظر تفسير الكشاف للزمخشري.

تعليق على آية وأنذر عشيرتك الأقربين وأثر موقف أقرباء النبي من الدعوة

النبي صلى الله عليه وسلم ظل يتقلب في أصلاب الأنبياء من نبي إلى نبي إلى أن ولد «1» . ونحن نرى التوقف في ما روي. ويتبادر لنا أن الجملة واضحة. وأنها عنت أن الله تعالى يراه وهو يصلي مع الناس ويراه حين يقوم وحده أي يراه في جميع حالاته ويراقبه. وقد قال هذا غير واحد من المفسرين. ومن العجيب أن هذا مما رواه المفسرون عن ابن عباس الذي رووا عنه بعض الأقوال السابقة. ولقد أورد بعض المفسرين في هذا السياق حديثين متقاربين أحدهما رواه البخاري والترمذي عن أنس قال «أقيمت الصلاة فأقبل علينا النبي صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال أقيموا صفوفكم وتراصّوا فإني أراكم من وراء ظهري» «2» والمتبادر أنه ليس بين مدى الآية وهذا الحديث أو الحديث الآخر المقارب له صلة ما ولا سيما أن الأحاديث مدنية في مضمونها ورواتها والله تعالى أعلم. تعليق على آية وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وأثر موقف أقرباء النبي من الدعوة وقد روى المفسرون «3» روايات وأحاديث متعددة منها أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بمناسبة آية وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وبعد نزولها أقاربه إلى وليمة فأكلوا وتفرقوا فورا لأن أبا لهب قال لهم إن محمدا سيسحرهم ثم دعاهم إلى وليمة ثانية فقال لهم: يا بني عبد المطلب إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني؟ فأحجم القوم، فقال علي رضي الله عنه: أنا يا رسول الله. وتكرر الأمر ثلاث مرات فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برقبة علي وقال هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا. فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لعلي وتطيعه. ومنها نفس الرواية المتقدمة بدون ذكر ما قاله

_ (1) انظر البغوي والخازن والطبرسي. (2) التاج ج 1 ص 237. (3) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والطبرسي والخازن إلخ.

بناء الأخوة الدينية في الإسلام

النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بل قال له فيها اجلس. ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت الآية صعد على الصفا ونادى: يا بني فهر يا بني عدي- لبطون قريش- حتى اجتمعوا وأرسل الذي لم يستطع الحضور رسولا لينظر ما هو قائل لهم فقال لهم: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيّ؟ قالوا ما جرّبنا عليك كذبا، قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبّا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا، ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب بني عبد المطلب والعباس عمّه وصفية عمته وفاطمة ابنته وقال لهم لا أغني عنكم من الله شيئا.. ومهما يكن من أمر هذه الروايات فمما لا ريب فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نفذ أمر الله تعالى بوسيلة من الوسائل وأنه اختص في أحد مواقفه أقاربه الأدنين بالإنذار والدعوة. وهذا يدل على أنهم أو جلّهم ظلّوا جاحدين لنبوته إلى أواسط العهد المكي، بل لقد تواترت الروايات على أن أكثرهم ظلوا كذلك طيلة العهد المكي وردحا غير قصير من العهد المدني أيضا بالرغم من نصرتهم له بدافع العصبية العائلية، ولقد مات عمّه وحاميه أبو طالب غير مؤمن، ولقد كان عمّه العباس وابن عمّه عقيل وآخرون من بني عمومته في جملة الذين اشتركوا في وقعة بدر مع مشركي قريش. وهذا فضلا عن عمه أبي لهب الذي لم ينصره وكان من ألدّ أعدائه وأشدّ مكذّبيه. ولعل موقف أقارب النبي صلى الله عليه وسلم الأدنين من دعوته كان يؤثّر تأثيرا سلبيّا على سير الدعوة حيث كان يجعل لسائر العرب مجالا للقول إن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان صادقا لآمن به أقرب الناس إليه وأخصهم به رحما فكان هذا يحزّ في نفسه ويثير فيه الألم والحسرة، فأمره الله تعالى بأن يختصهم بالدعوة في موقف خاص لإبراء ذمته منهم، وهوّن عليه أمرهم حيث وصّاه بأن يجعل اعتماده عليه وحده وأن يهتم للذين آمنوا وانضووا إليه. بناء الأخوة الدينية في الإسلام ومن الممكن أن يلمح في أمر الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم بمعالنة أقاربه البراءة من

أعمالهم وكفرهم إذا عصوه ولم يستجيبوا إليه بعد الإنذار الخاص، وبخفض جناحه للذين اتبعوه من المؤمنين خطة قرآنية مستمرة التلقين في تقرير وجوب التضامن بين المؤمنين بقطع النظر عن عدم اتصالهم بوشائج الرحم والقربى بدلا من التضامن العائلي الذي كان قويّا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره. وهكذا يصح أن يوصف الموقف الذي ترتب على هذه الآيات من المواقف الحاسمة في بناء الأخوة الدينية في الإسلام ومن الضربات الشديدة التي وجهت إلى بنيان العصبية العائلية والقبلية الضيقة. وقد جاءت آيات مدنية أخرى فأيدت هذه المعاني. من ذلك آية سورة المجادلة هذه لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) ومنها آيات سورة الممتحنة هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) ومنها آيات سورة التوبة هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24) ومنها آية سورة الحجرات هذه إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) «1» .

_ (1) يحسن أن ننبه في هذه المناسبة إلى أن الآيات تنهى عن اتخاذ الكفار أولياء وحلفاء من دون المؤمنين، وإلى أن هناك آيات في سورة الممتحنة احتوت خطة محكمة في معاملة المسلمين لغير المسلمين أقارب وغير أقارب وهي عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) .

ما في معالنة النبي لأقاربه بالبراءة من دلالة رائعة

ما في معالنة النبي لأقاربه بالبراءة من دلالة رائعة وإذا لوحظ أن هذا الموقف الذي ترتب على الآيات التي نحن في صددها قد كان في ظرف كان النبي صلى الله عليه وسلم فيه ضعيفا والمسلمون فيه قليلين وأكثرهم ضعفاء وفقراء، وكانت الحاجة إلى نصرة العصبية شديدة فإنه يلمح فيه جانب جدير بالإجلال والإعظام من جوانب عظمة السيد الرسول صلوات الله عليه وسيرته وقوة نفسه وشخصيته وبخاصة في إعلان ما أوحى الله تعالى به إليه من إنذار الكافرين من عشيرته الأقربين بالبراءة إذا عصوه وفي إعلان تضامنه مع الذين آمنوا معه على ما كانوا عليه من ضعف وقلّة، ولقد كان لإيمان النبي صلى الله عليه وسلم العميق برسالته وبنصرة الله تعالى أثر قوي في ذلك من دون ريب. وفي كل هذا ما فيه من تلقين وأسوة وقدوة. تلقين جملة وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وفي الآية التي تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بخفض جناحه للمؤمنين تعليم قرآني جليل، فالمؤمنون الأولون قد آمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم واتبعوه والتفوا حوله وأيدوه وتحملوا في سبيل ذلك الأذى والضرر والقطيعة ووطنوا النفس على عداء أهلهم وحرمانهم من الحماية العائلية التي كان لها تلك الخطورة. فكل هذا جعلهم جديرين بأن يكونوا وحدة متضامنة تقوم على أسس الحق والخير والعدل ومكارم الأخلاق، وتحل محل تلك الوحدة العائلية الضيقة. وكل هذا من شأنه أن يجعلهم جديرين برعاية الله تعالى ثم ببرّ نبيه ورأفته وسعة صدره وحبه وتفضيله إياهم على أسرته الخاصة وعشيرته الأقربين ومن شأن ذلك أن يزيدهم قوة وتحملا وتضامنا وتفانيا.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 221 إلى 223]

ولقد ظل القرآن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستمرار في توجيه كل رعايته وعنايته وعطفه وتفضيله للمؤمنين بقطع النظر عن مراكزهم الاجتماعية مما انطوى في آيات سورة عبس الأولى التي سبق تفسيرها وفي آيات سورة الأنعام [ (52- 54) ] التي أوردناها في سياق قصة نوح في هذه السورة ثم في آيات سورة الحجر هذه لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وسورة الكهف هذه وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) ومما يمتّ إلى هذا التلقين والتوجيه القرآني الجليل. وهذه الآيات مكية. والحكمة في تواليها في السور المكية بخاصة كون الفروق الاجتماعية بين بعض فئات المؤمنين والكفار في مكة كانت بارزة وكان زعماء الكفار يغمزون بالفقراء والضعفاء من المؤمنين ويزدرون بهم. وليس من شأن ذلك أن يضعف قوة التوجيه والتلقين وشمولهما بطبيعة الحال. وهذا التعليم مستمر التلقين من دون ريب، يمكن بل يجب أن يكون خطة عامة للمسلمين وبخاصة لزعمائهم ودعاة الإصلاح منهم والمشتركين في خطة فيها إصلاح وصلاح سواء أفي إيجاب التضامن التام بينهم وعدم الاهتمام بالنوازع الخاصة والعواطف العائلية أم في إيجاب البرّ والرأفة والتفضيل والتضامن على الزعماء والدعاة لمن يستجيبون إلى دعوتهم ويندمجون فيها مهما كان شأنهم. [سورة الشعراء (26) : الآيات 221 الى 223] هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) (1) أفّاك: كثير الكذب والافتراء.

تعليق على آيات هل أنبئكم على من تنزل الشياطين وما بعدها

تعليق على آيات هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ وما بعدها الآيات متصلة بالسياق واستمرار له أيضا حيث احتوت نفيا لتنزل الشياطين بالقرآن بأسلوب آخر فسألت سؤالا استنكاريا يتضمن التقرير بأن الذين تنزل عليهم الشياطين هم المفترون الآثمون الذين يستمعون إلى وساوس الشياطين ويستندون إليهم فيما يقولون ويخبرون وأكثرهم كاذبون. وينطوي هذا كما هو المتبادر على تقرير بأن النبي الذي يدعو إلى الخير والحق والصدق والفضيلة وينهى عن الشر والباطل والكذب والظلم والرذيلة لا يمكن أن يكون ممن تتنزل عليهم الشياطين وينطق بوحيهم ويتأثر بوساوسهم. [سورة الشعراء (26) : الآيات 224 الى 227] وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) (1) الغاوون: الضالون أو المنحرفون نحو الغواية. (2) يهيمون: يتيهون ويسيرون. (3) انتصروا: قابلوا العدوان بمثله ودافعوا عن أنفسهم. في الآيات وصف ذمّ للشعراء. فهم يسيرون في كل درب منحرف دون ما رادع أو وازع. ويبالغون فيقولون ما لا يفعلون. ولا يهوي إليهم ويتبعهم إلّا الغاوون المنحرفون أمثالهم. وقد استثنت الآية الأخيرة الذين آمنوا وعملوا الصالحات وكانوا في موقف المدافع الذين هبوا للدفاع والانتصار بعد أن ظلموا. ثم انتهت بهتاف رباني تعقيبي وإنذاري للظالمين بما سوف يصيرون إليه ويرونه من سوء المنقلب والعاقبة.

تعليق على آية والشعراء يتبعهم الغاوون وما بعدها

تعليق على آية وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ وما بعدها والآيات غير منقطعة عن السياق بل ومعطوفة عليه. وقد احتوت ردّا ثانيا على الكفار كما هو المتبادر. فالكفار كانوا يقولون إن الشياطين هم الذين ينزلون على النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن وإن النبي صلى الله عليه وسلم شاعر وإن القرآن شعر، مما حكته آيات عديدة مرّت أمثلة منها وبخاصة في سورة يس فردت الآيات السابقة على الزعم الكاذب الأول، واحتوت هذه الآيات ردّا على الزعم الكاذب الثاني. فالشعراء إنما يتبعهم الغاوون، وهم يقولون ما لا يفعلون، وفي كل واد يهيمون في حين أن النبي صلى الله عليه وسلم يدعوا إلى الله وحده وإلى الحق والخير ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويفعل ما يقول، وتحلّى أتباعه بكل ما دعا إليه وأمر به ونهى عنه فصاروا الجماعة الفاضلة القوية بإيمانها وأخلاقها وأفعالها. تعليق على استثناء المؤمنين من ذمّ الشعراء ولقد احتوت الآية الأخيرة استثناء الشعراء المؤمنين الصالحين من الوصف الذي احتوته الآيات الأولى، وتنويها بهم. فهم ليسوا من تلك الطبقة حيث خرجوا عن طبيعتها فآمنوا بالله وحده وعملوا الصالحات، ساروا في طريق الخير والحق والصدق، وانتصروا مما وقع عليهم من الظلم. وقد انتهت الآية بوعيد للظالمين وإنذار بالعاقبة السيئة التي سيصيرون إليها. والمتبادر أن المقصود بالانتصار هو ما كان ينظمه شعراء المسلمين من قصائد يردّون فيها على قصائد الهجو التي كان ينظمها شعراء الكفار. وقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآيات الأربع مدنيات. وذكر ذلك الزمخشري في مطلع تفسير السورة. والحقيقة أن الطابع المدني ظاهر على الآية الأخيرة فقط. فالمسلمون إنما وقفوا موقف المنتصر من بعد الظلم والمدافع المنتقم بعد الهجرة ولم يكن في مكة مجال للتهاجي بين شعراء المسلمين والكفار،

لأن المسلمين كانوا قلة مستضعفة من جهة ولأن ما أهاج التهاجي هو الاحتكاك المسلح بين الفريقين الذي كان بعد الهجرة من جهة ثانية. ولذلك فالرواية تصح في اعتقادنا بالنسبة للآية الأخيرة فقط. أما الآيات الثلاث فالمتبادر أنها نزلت في صدد الردّ على نسبة الشاعرية إلى النبي صلى الله عليه وسلّم ونزول الشياطين عليه بالقرآن على ما كانت عليه عقيدة العرب وأنها متصلة بالآيات السابقة التي لا خلاف في مكيتها. ولما اضطلع شعراء المسلمين بعد الهجرة بالردّ على شعراء الكفار اقتضت حكمة التنزيل استثناءهم من الوصف الذي وصف به الشعراء فنزلت الآية وألحقت بالآيات الثلاث للاستدراك والمناسبة الظاهرة، شأنها في هذا شأن الآية الأخيرة في سورة المزمل. ولقد ذكر المفسرون في سياق تفسير الآيات أن الآية المذكورة نزلت في حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك رضى الله عنهم الذين أمرهم النبي بهجو المشركين ردّا على هجو هؤلاء النبي والمؤمنين فذكروا له ما وصفت آيات الشعراء به الشعراء فأنزل الله الآية فتلاها عليهم وهو يقول لهم هؤلاء أنتم هؤلاء أنتم، فأخذوا منذئذ يردون على هجو الكفار. والرواية محتملة الصحة جدا وإن لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. وفيها تأييد لما قلناه من أن الآيات الثلاث نزلت في مكة والآية الرابعة فقط هي التي نزلت في المدينة. ولقد روى المفسرون أن النبي كان يقول لحسان «اهجهم وجبريل معك. وإنّه لأشدّ عليهم من رشق النّبل» ولكعب بن مالك «إنّ المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه. والذي نفسي بيده لكأنّ ما ترمونهم به نضح النّبل» . وواضح أن في الآية وما روي في سياقها تلقينا مستمر المدى في حقّ المسلم وواجبه في الدفاع عن الإسلام والمسلمين بمختلف أساليب الدفاع. وإن ما يمكن أن يكون في أصله مذموما يغدو في هذا السبيل ممدوحا مرغوبا فيه بل واحيا. ومع ذلك ففي الاستثناء الذي تضمنته الآية تلقين جليل آخر وهو أن هذه الرخصة التي يرخصها الله ورسوله للمسلمين إنما هي للذين يكون موقفهم موقف المنتصر من الظلم الذي لا يتجاوز الحق.

دلالة الآيات الأربع الأخيرة من السورة وتلقينها

دلالة الآيات الأربع الأخيرة من السورة وتلقينها والآيات الأربع تدل من جهة على ما كان معروفا من طبيعة الشعراء في ذلك الوقت وسيرتهم وعلى ما كان للشعر والشعراء من تأثير قوي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته من جهة أخرى وتنطوي بالإضافة إلى ذلك على صورة من صور السيرة النبوية حيث كان شعراء الكفار يهجون النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وحيث كان شعراء المسلمين يقابلونهم بالمثل انتصارا من الظلم. ومع خصوصية الآيات وصلتها بظروف السيرة النبوية فإنها تحتوي تلقينا مستمر المدى، فالدعوة إلى الحق والخير والصلاح لا يقوم بها إلّا من خلصت نيته وطهرت سريرته وصدّقت أفعاله أقواله. ولا يستجيب إليها إلّا من اتصف بهذه الصفات. أما الشر والأذى والإثم والإفك فلا يجري في نطاقه دعوة واستجابة إلّا الشريرون الآثمون والكاذبون الأفاكون والظالمون. وعلى المسلم أن يتبين الحق من الباطل وأن يحذر خطة الذين يهيمون في كل واد ويقولون ما لا يفعلون من ذوي البروز والتأثير، وألّا ينساق وراءهم في أي موقف لما في ذلك من ضرر عام وخاص وانحراف عن جادة الحق والخير وقويم الأخلاق. ويصح أن يضاف إلى هذا أن من تلقينات استثناء المؤمنين من الشعراء المستمرة المدى أنه لا حرج على الشاعر المسلم في أي وقت ومكان من نظم الشعر إذا كانت نيته حسنة وقصده التنويه بالخير والدعوة إلى الصلاح والإصلاح والحث على مكارم الأخلاق والتنديد بسيئاتها ومقارعة الظلم والبغي، فالشعر كان وما يزال قوي التأثير في النفوس وهو في حد ذاته فنّ جميل فيكون ما ابتعد عن الكذب والخلاعة والفسق والفجور وما أيد الدعوة إلى مكارم الأخلاق والحث عليها وما رمى إلى التنديد بالسيئات والفواحش ومقارعة الظلم والبغي خارجا عن نطاق الذمّ القرآني يصحّ نظمه شعرا ويصحّ سماعه معا.

سورة النمل

سورة النمل في السورة حملة تقريع على الكفار وحكاية لبعض مواقفهم وأقوالهم وخاصة في صدد الآخرة وحسابها وجزائها. وفيها قصص بعض الأنبياء وأقوالهم، منها ما أسهب فيه وهو قصة ما كان بين سليمان عليه السلام وملكة سبأ بقصد الموعظة. وفيها تقريرات عن مظاهر قدرة الله تعالى ورحمته بسبيل البرهنة على ربوبيته وتسفيه المشركين وتقريعهم. وفيها صورة من الدعوة النبوية في العهد المكي وتثبيت وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين. وهي مشابهة في المطلع والنهاية والفصول القصصية الاستطرادية للسورة السابقة مما يمكن أن يكون فيه قرينة على صحة الترتيب. وفصولها مترابطة مما يسوغ القول إنها نزلت متلاحقة حتى تمت. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النمل (27) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) (1) يعمهون: متحيرون ومترددون ويتيهون. ويقول الزمخشري إن العمه مثل العمى إلا أن العمى عام في البصر والرأي والعمه في الرأي خاصة. وهذا هو

تعليق على اجتماع كلمتي القرآن والكتاب معا في آية واحدة

التحير والتردد حيث لا يدري المرء أين يتجه. وأرض عمهاء بمعنى لا منار بها. بدأت السورة بحرفي الطاء والسين. وروى المفسرون عن أهل التأويل أنهما من أسماء الله أو أنهما قسم أقسمه الله. كما رووا أنهما مثل سائر الحروف التي بدأت بها السور الأخرى. ونحن نرجح ذلك ونرجح أنهما جاءا لاسترعاء السمع لما بعدهما من ذكر كتاب الله والتنويه به وبالمؤمنين. فهو الكتاب الذي أنزله الله هدى وبشرى للمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويوقنون بحقيقة البعث الأخروي. وقد تبع ذلك استطراد إلى الذين لا يوقنون بهذه الحقيقة فوصفوا بأن الله قد زين لهم أعمالهم فعموا عن هذه الحقيقة وإدراكها عمى شديدا فاستحقوا سوء العذاب والخسران في الآخرة. وانتهت الآيات بتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بسبيل التوكيد بأن القرآن الذي يتلقاه هو من لدن الله تعالى الحكيم الذي لا يفعل إلّا ما فيه الحكمة والعليم الذي يعلم بكل شيء. ولم يرو المفسرون رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. ومن المحتمل أن تكون مقدمة بين يدي القصص التي حكتها الآيات التالية لها، ولعل الآية السادسة والأخيرة منها قرينة على ذلك، والله أعلم. تعليق على اجتماع كلمتي القرآن والكتاب معا في آية واحدة ولقد اجتمعت كلمتا القرآن والكتاب معا في الآية الأولى. والكلمتان جاءتا في القرآن مترادفتين حينما لا تجتمعان. ومع ذلك فكل منهما مختلف الدلالة حيث تعني كلمة (القرآن) الشيء المقروء وكلمة (الكتاب) الشيء المكتوب. وكل من المعنيين متحقق في القرآن، ولعل الحكمة في جمعهما هنا هي الإشارة إلى كون آيات وفصول وسور القرآن كانت تكتب وكانت تقرأ. فهي قرآن مقروء ومكتوب وإذا صحّ هذا ففيه قرينة على أن الفصول القرآنية كانت تدون في العهد المكي لأن

تعليق على جملة زينا لهم أعمالهم

الآيات مكية. وهو المتسق مع الروايات المتواترة والدلالات القرآنية الكثيرة على ما ذكرناه في مناسبات سابقة وشرحناه في كتابنا القرآن المجيد. تعليق على جملة زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ ولقد اختلفت أقوال المفسرين وتعددت في تأويل جملة زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ [4] لأنها توهم أن الله تعالى زين للكافرين بالآخرة عملهم وكفرهم فعموا نتيجة لذلك عن رؤية الحق وإدراكه، فمما قيل إن معناها حرمناهم التوفيق عقوبة لهم على كفرهم فازدانت أعمالهم في عيونهم «1» . ومنه إنا حسّنا لهم ما هم فيه ومددنا لهم في الغيّ جزاء تكذيبهم بالآخرة «2» . ومنه إن إسناد التزيين إلى الله هو مجازي وإن معنى الجملة أن الله متّعهم بطول العمر وسعة الرزق فجعلوا ذلك ذريعة إلى اتباع الشهوات فكأنه زيّن لهم بذلك أعمالهم أو أن الله زيّن لهم أعمال الخير التي وجب عليهم عملها فعموا عنها «3» . وكل من هذه الأقوال وجيه من شأنه إزالة ما قد يثير التوهم في الجملة. ولا سيما أن في القرآن آيات تنسب تزيين الكفر والضلال للشيطان منها آية سورة الأنعام هذه فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43) وآية سورة النحل هذه تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) وفيه كذلك آيات تنسب إلى الإنسان عمله وترتب جزاءه في الدنيا والآخرة على ذلك مما مرّ منه أمثلة عديدة. ومنه آية سورة فصلت هذه مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) وآية سورة النحل هذه مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97) .

_ (1) انظر مجمع البيان للطبرسي مثلا. (2) تفسير ابن كثير. (3) الكشاف للزمخشري.

تعليق عام على آيات السورة الأولى

وقد تبادر لنا تأويلان آخران (أولهما) أن تقرير كون الذين زيّن الله تعالى أعمالهم هم الذين لا يؤمنون بالآخرة قد يجعل الجملة من باب وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ [27] في آية سورة إبراهيم ويُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ في سورة البقرة [في الآية: 26] . ووصفهم بالمجرمين قرينة مؤيدة لوجاهة هذا التأويل، أما (ثانيهما) فهو أن الله تعالى قد أودع في عباده ناموس استحسان أعمالهم، فمنهم من يبلغ ذلك فيهم إلى حد يعميهم عن إدراك الحق، وهؤلاء الذين يجحدون بآيات الله ويكذبون بالآخرة، وفي سورة الأنعام آية من باب الآية التي نحن في صددها وقد جاءت مطلقة وهي كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108) وعبارتها تشمل جميع الناس محسنهم ومسيئهم وتقوّي وجاهة التأويل الثاني. وعلى كل حال فإن هذه التأويلات هي التي تتسق مع روح القرآن وتقريراته المحكمة عامة التي من ضمنها تقرير جعل الله في الإنسان قابلية الاختيار والكسب وإرساله الرسل للبشر ليبينوا لهم بإذنه ووحيه طرق الهدى والضلال والحق والباطل والخير والشر، وجزاؤه كلّا بما اختاره وفي الوقت نفسه تنزه الله سبحانه عن تزيين أعمال الكفر والمعاصي للكفار والعصاة. تعليق عام على آيات السورة الأولى وكلمة الزَّكاةَ تأتي هنا لثاني مرة في آية مكية. وصيغة الآية مثل صيغة آية سورة الأعراف وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) التي ذكرت فيها الكلمة أي صيغة حثّ وتنويه. والسورة من السور المبكرة نوعا ما. وفي هذا وذاك دلالة جديدة على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رتّب منذ أوائل الدعوة على الميسورين من المؤمنين مقدارا معينا من المال باسم (زكاة) لمصلحة فقراء المسلمين ومصلحة الدعوة أو كان يحثّهم على إنفاق جزء من مالهم بهذا الاسم على هاتين

[سورة النمل (27) : الآيات 7 إلى 14]

المصلحتين على ما شرحناه في سياق سورة المزمل. ولقد وصف المؤمنون في الآية الثالثة بأنهم الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويؤمنون بالآخرة وفي هذا توكيد للتقريرات القرآنية بكون الإسلام إيمانا وعملا وبكون التلازم بين ذلك أمرا محكما. والآية الثانية بتقريرها أن آيات القرآن هي هدى وبشرى للمؤمنين قد انطوت بدلالة الآية الثالثة على تقرير كون الطبقة التي ترغب في الحق والهدى وتعزف عن المكابرة والمماحكة هي التي تهتدي بالقرآن وتستبشر وتنتفع، ثم على التنويه بالمسلمين الأولين الذين سارعوا إلى الاهتداء والاستبشار بالقرآن وعكفوا على عبادة الله سبحانه ومساعدة الفقراء بزكاة أموالهم. ولقد اقتصرت الآية الرابعة على وصف الكفار بأنهم الذين لا يؤمنون بالآخرة. ولعل القصد من هذه الإشارة إلى أن جحود الكفار حقيقة الآخرة كان أهمّ مظهر لكفرهم وأشدّ العقبات في سبيل الدعوة. ويقوي هذا كون هذه الحقيقة من أكثر المواضيع المتكررة في القرآن ومن أكثر مواضع الجدل والحجاج بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الكفار مما مرّ منه أمثلة كثيرة، والآية التي نحن في صددها تعلل أعمال الكفار السيئة وكفرهم بعدم إيمانهم بالآخرة. وقد احتوت آيات كثيرة مثل هذا التعليل مرّ منها أمثلة كثيرة ومنها آية سورة النحل هذه إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) وآية سورة المؤمنون هذه وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74) ولعل مما ينطوي في ذلك التنويه بخطورة الإيمان بها وكون ذلك جوهريّا في حياة الإنسان الدنيوية والأخروية معا حيث يجعل المرء يفكر في عواقب أعماله فينصرف عما يسبب له الشقاء في الآخرة. [سورة النمل (27) : الآيات 7 الى 14] إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)

تعليق على قصة موسى وفرعون في السورة

(1) شهاب قبس: شعلة مقتبسة من النار. (2) تصطلون: تستدفئون. (3) جان: اسم من أسماء الأفعى أو جنس من أجناسها الضخمة أو السريعة الحركة الشديدة الاضطراب. (4) في تسع آيات: المعجزات التي أظهرها الله تعالى على يد موسى. وهي اليد والعصا والجراد والضفادع والدم والقمل والطوفان والسنين ونقص الثمرات وقد ذكرت في سورة الأعراف «1» . (5) مبصرة: واضحة بينة. (6) استيقنتها أنفسهم: علموا صدق كونها من الله تعالى في قرارة أنفسهم. تعليق على قصة موسى وفرعون في السورة هذه الآيات حلقة من سلسلة قصصية اقتضتها حكمة التنزيل وتجدد المناسبات. وقد جاءت عقب الآيات التي نوّهت بالمؤمنين ونددت بالجاحدين بقصد تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين وإنذار الكفار، جريا على الأسلوب القرآني، وهي والحال هذه متصلة بالسياق. وقد تضمنت الحلقة قصة رسالة موسى عليه السلام إلى فرعون وقومه.

_ (1) الآيات [107 و 108 و 130 و 133] وقد سميت في الآيات بالآيات التي تعني المعجزات. [.....]

وعبارتها واضحة وقد جاءت مقتضبة مع الاتساق بينها وبين ما جاء في سورتي طه والأعراف إجمالا. وقصد الموعظة وضرب المثل والتثبيت واضح فيها سواء أفي حرف «إذ» الذي بدئت به والذي هو حرف تذكير أم في نهايتها التي تلفت النظر إلى العاقبة التي صار إليها المفسدون والتي ذكرت في السورتين المذكورتين وتذكر بها. والجديد في صيغة القصة هنا ذكر جحود فرعون وقومه لآيات الله ظلما وعلوّا مع استيقانهم بصدق كونها من عند الله. وقد انطوى فيه على ما هو المتبادر قصد المقارنة بين ما صدر من فرعون وقومه وبين ما صدر من كفار العرب الذين كانوا يكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجحدون بآياته استكبارا في الأرض ومكر السيء على ما ذكرته آيات سورة فاطر هذه وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) وغيرها من الآيات التي أوردناها في سياق تفسير هذه الآيات في سورة فاطر ثم قصد إنذار الكفار وتذكيرهم بعاقبة فرعون وقومه الذين جحدوا بآيات الله ظلما وعلوّا. ومن الجديد فيها كذلك ما جاء في الآيتين [10- 11] من خطاب الله عزّ وجل لموسى. وهذا غير وارد في سفر الخروج. ونعتقد أنه كان المتداول عند اليهود والوارد في بعض قراطيسهم التي لم تصل إلينا. ولقد تعددت التأويلات التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل لما جاء في الآيتين المذكورتين من ذلك أنه شامل للمرسلين وغير المرسلين. ومن ذلك أن المقصود من الصيغة استثناء المرسلين من الخوف. وتقرير كون الخوف إنما هو من شأن الظالم، والمرسلون لا يظلمون. ومن ذلك أن القصد من الآية الثانية مع ذلك هو إيذان الله تعالى بأنه يغفر ويرحم لمن يبدل حسنا بعد سوء إطلاقا وكلا القولين وجيه.

مغزى وصف الله نفسه برب العلمين في آيات هذه القصة

وفي الآيات تساوق مع المبادئ القرآنية التي تكرر التنبيه عليها في مناسبات عديدة مرّت أمثلة منها. والتي يؤذن الله تعالى فيها بالمغفرة والرحمة لمن ظلم ثم تاب وبدل حسنا بعد سوء. وفي هذا التساوق يبدو التماثل بين ما أوحى الله إلى موسى وإلى محمد عليهما السلام، ولعلّ هذا من حكمة ذلك. والله أعلم. مغزى وصف الله نفسه بربّ العلمين في آيات هذه القصة وفي وصف الله تعالى نفسه هنا بوصف رَبِّ الْعالَمِينَ وهو يخاطب موسى مغزى مهم يؤكد ويتمم المغزى الذي انطوى في آيات سورة الأعراف [105- 121] والذي نبهنا عليه في تعليق خاص. ففي الآية [105] وصف الله تعالى بهذا الوصف بلسان موسى عليه السلام. وفي الآية [121] وصف بهذا الوصف بلسان بني إسرائيل. وهنا وصف الله عز وجل نفسه به وبذلك انسد باب دعوى بني إسرائيل باختصاص الله بهم انسدادا محكما وتم تكذيبهم فيها بصورة حاسمة وصحح التحريف الذي حرّفوه في أسفارهم «1» على ما نبهنا عليه في التعريف المذكور. [سورة النمل (27) : الآيات 15 الى 44] وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (33) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44)

_ (1) انظر مثلا الإصحاح (34) من سفر الخروج والإصحاحات (14 و 31) من سفر العدد والإصحاحات (7 و 20) من سفر التثنية والإصحاح (4) من سفر عزرا.

(1) منطق الطير: أصواتها أو معانيها أو أغراضها. (2) يوزعون: يساقون أو يحبسون موقفا بعد موقف حتى يتلاحقوا.

تعليق على قصة داود وسليمان وملكة سبأ في الحلقة الثانية من السورة

(3) لا يحطمنكم: لا يدوسنكم ويسحقنكم. (4) أوزعني: اجعلني أو احصرني أو ألهمني. (5) بسلطان مبين: ببرهان ومبرر واضح. (6) فمكث غير بعيد: فغاب غير طويل. (7) أحطت: علمت ووقفت على خبر. (8) الخبء: المخفي أو المخبوء أو كناية عن مطر السماء ونبات الأرض. (9) أتمدونني بمال: من الإمداد بمعنى المعونة. (10) عفريت: معناه الخبيث أو الداهية أو المارد الجبار. (11) قبل أن تقوم من مقامك: قبل أن تقوم من مجلسك. (12) قبل أن يرتد إليك طرفك: قبل أن ترمش عينك، أو كما يقال بأسرع من لمح البصر. (13) ليبلوني: ليختبرني. (14) نكّروا لها عرشها: غيروا معالم عرشها. (15) ننظر أتهتدي: لنرى هل تهتدي إليه وتعرفه رغم ما طرأ عليه من التغيير. (16) وصدها ما كانت تعبد من دون الله: ومنعها أو جعلها ترجع عما كانت تعبد من دون الله. (17) الصرح: القصر أو إحدى قاعاته. (18) لجة: بحيرة ماء. (19) ممرد: مملس. (20) قوارير: زجاج. تعليق على قصة داود وسليمان وملكة سبأ في الحلقة الثانية من السورة وهذه حلقة ثانية من السلسلة، وقد احتوت إشارة إلى ما آتاه الله داود وسليمان من علم وحمدهما إياه على ذلك، ثم إلى أحداث جرت لسليمان

وبخاصة ما كان بينه وبين ملكة سبأ بشيء من الإسهاب، وعبارتها واضحة. ومعظم ما جاء فيها جديد باستثناء ما كان من تسخير الجنّ لسليمان حيث ذكر في سورة ص. ومع ما يبدو عليها من قصد الإخبار فإن فيها مواضع عبرة عديدة تجعلها تتسق في أهدافها مع أهداف القصص القرآني بوجه عام، وهي التذكير وضرب المثل والموعظة والعبرة. وخبر زيارة ملكة سبأ لسليمان عليه السلام وارد في الإصحاح العاشر من سفر الملوك الأول الذي هو في الطبعة الكاثوليكية الثالث. وما جاء في هذا الإصحاح أن الملكة نوهت بحكمة سليمان وقدمت له هدايا مائة وعشرين قنطارا من الذهب وطيوبا كثيرة وحجارة كريمة. وأنه أعطاها كل بغيتها التي سألتها فوق ما أعطاها من العطايا وانصرفت إلى أرضها. وليس في هذا السفر ولا غيره من الأسفار ما جاء في الآيات من قصة الهدهد وتعلم سليمان منطق الطير وحشد جنوده من الجن والإنس والطير ووادي النمل وكلام النملة وكتاب سليمان لملكة سبأ ومحاورتها مع ملأها. ومسألة الإتيان بعرشها والصرح الذي حسبته لجة وهو من القوارير. ولكنا نعتقد أنها كانت متداولة بين اليهود وواردة في قراطيس وأسفار أخرى. وفي كتب التفسير بيانات كثيرة مروية عن علماء الأخبار ومسلمة اليهود في الصدر الأول في نطاق كل ذلك مما فيه دلالة على أن ما اقتضت حكمة التنزيل منه مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وليس له مصدر إلا اليهود. ولما كان هدف القصة وما فيها هو الموعظة والعبرة كما قلنا فإننا لم نر طائلا في إيراد البيانات التي أوردها المفسرون والتي فيها كثير من الإغراب ولا في شرح محتويات الآيات موضوعيا والتوسع في التخمين والتأويل كما فعل المفسرون. ونرى الأولى الوقوف عند ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاؤه لتحقيق ذلك الهدف.

هدف الحلقة ومواضع العبرة فيها

هدف الحلقة ومواضع العبرة فيها إن ما قلناه في سياق قصتي داود وسليمان عليهما السلام في سورة ص اللتين جاءتا عقب ذكر تمرد الأقوام الأولى ومواقف كفار العرب من الرسالة النبوية من كون الهدف الرئيسي للقصتين هو التنويه بما كان من إخلاص داود وسليمان لله تعالى مع ما وصل إليه ملكهما من عظمة وقوة بسبيل تسلية النبي صلى الله عليه وسلم يقال هنا بتمامه. فإذا كان فرعون استكبر وظلم وجحد بآيات الله فإن داود وسليمان عليهما السلام صاحبي الملك العظيم المسخر لهما قوى الكون الهائلة لم يغتروا بذلك وظلوا منيبين لله معترفين بفضله. يلتمسون منه أن يدخلهم في عباده الصالحين. ويلحظ أن ذكر داود وسليمان وملكهما وعظمته قد جاء هنا عقب ذكر فرعون وتمرده مما فيه تساوق أسلوبي ونظمي مع سياق قصتهما في سورة (ص) مما فيه تدعيم لما نبهنا عليه من الهدف الرئيسي الذي استهدف هنا كما استهدف في تلك السورة. وبالإضافة إلى ذلك فإن من مواضع العبرة في الحلقة الحوار الذي حكته الآيات بين ملكة سبأ ورجال دولتها حيث احتوى حكما جليلة في صدد سياسة الملك. فالملكة تعلن أنها ما كانت مستبدة ولا ظالمة ولا قاطعة أمرا إلا بعد مشاورة أولي الرأي في مملكتها. وواضح أن كلمة (الملوك) التي وردت في كلامها تعني الملوك الأجانب حيث تقرر أنهم إذا غزوا بلادا ما واحتلوها انصرف همّهم إلى إفساد تلك البلاد وجعل أعزة أهلها أذلة. وإن من الواجب وقاية البلاد من أخطارهم بأي وسيلة. مما فيه حكمة اجتماعية رائعة خالدة. وأسلوب الحوار وإن كان قصصيا ففيه ما يلهم قصد التنويه بما حكاه عن لسان الملكة والدعوة إلى التأسي به وجعله خطة يسار عليها وهي خطة حكيمة سليمة حقا. ومن ذلك إسلام ملكة سبأ لله بعد أن سمعت من سليمان عليه السلام ما سمعت من حكمة وعظة، حيث ينطوي في هذا تقرير بأنه إذا كان الكفار لا يستجيبون إلى دعوة الله فهناك من عظماء الملوك من كان كافرا فاستجاب إلى هذه الدعوة وأسلم نفسه لله تعالى مع نبيه.

تعريف بسبأ

تعريف بسبأ وفحوى الآيات يفيد أن المقصود من سبأ اسم بلد أو قوم. وقد ذكر هذا الاسم في آية في سورة سميت به يفيد نفس الشيء وهي الآية [15] من سورة سبأ وهي لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) . ولقد ذكر اسم سبأ في الإصحاح العاشر والإصحاح الحادي والعشرين من سفر التكوين بصفته أحد أبناء يقطان بن عاجز من نسل سام بن نوح. والروايات العربية تذكر سبأ رئيسا لعرب اليمن فهو ابن يشجب بن يعرب بن قحطان. وهو أبو حمير وكهلان، وإلى حمير وكهلان تنتسب جميع القبائل القحطانية. وإلى هذا فقد ذكر اسم سبأ في نقوش يمنية قديمة كاسم قوم ومملكة قامت في القرن العاشر قبل الميلاد وعظم أمرها وعم سلطانها بلاد اليمن وبنت السدود والقصور والمعابد واستخرجت الذهب من المناجم وعظمت تجارتها وزراعتها وازدهرت. واشتهر من سدودها سد مأرب العظيم الذي كان من أعظم الأعمال الهندسية الإروائية في العصور القديمة والذي لا تزال آثاره قائمة تشهد على عظمته والذي كان من أسباب ازدهار الزراعة فيها مما أشير إليه في آية سبأ المذكورة آنفا. وقد استمر حكمها واسمها إلى ما بعد الميلاد المسيحي ثم أخذ يطرأ عليها الوهن وخرب سدها وطغى على ما جاوره ودمره وقد سمي هذا بسيل العرم الذي ذكر في سورة سبأ بعد الآية المذكورة فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) . [سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 58] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)

تعليق على قصتي صالح ولوط عليهما السلام مع قومهما

(1) تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة: تستعجلون عذاب الله تعالى دون رحمته وفضله. (2) لولا: بمعنى هلا. (3) اطّيرنا: تشاء منا. (4) طائركم: شؤمكم. (5) تفتنون: تختبرون بطاعة الله ومعصيته. (6) تسعة رهط: الرهط بمعنى الجماعة. والمتبادر أن الجملة تعني رهطا مؤلفا من تسعة أشخاص. (7) تقاسموا بالله: احلفوا الأيمان. (8) لنبيتنه: لنباغتنه ليلا. (9) لوليّه: لأهل عصبيته. تعليق على قصتي صالح ولوط عليهما السلام مع قومهما احتوت هذه الآيات حلقتين أخريين هما بقية الحلقات في السلسلة القصصية وفيهما قصتا صالح ولوط عليهما السلام مع قومهما. ومحتوياتها مطابقة مع ما جاء

[سورة النمل (27) : الآيات 59 إلى 64]

من ذلك في سور الشعراء والأعراف والقمر وغيرها. وعبارتها واضحة. وقصد وعظ الكفار وإنذارهم وضرب المثل لهم بأفعالهم وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين وتطمينهم بنصر الله وخذلان الكفار واضح في آيات الحلقتين. وهو ما استهدفته كما هو المتبادر. وفي آيات قصة صالح عليه السلام شيء جديد وهو المؤامرة التي دبرها الرهط المفسدون لقتل صالح عليه السلام ونتيجتها. وقد انطوى في ذلك كما هو المتبادر قصد تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين الذين كانوا يتعرضون لأذى الكفار ومؤامراتهم، وتطمينهم بنصر الله وإنذار الكفار بعاقبة مثل عاقبة ثمود. [سورة النمل (27) : الآيات 59 الى 64] قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64) (1) يعدلون: يساوون بين الله وشركائهم أو يجعلون له ندّا وعديلا. جاء هذا الفضل معقبا على سلسلة القصص جريا على الأسلوب القرآني الذي نبهنا إليه غير مرة فهو متصل بالسياق والحال هذه. وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.

تعليق على الآيات التي جاءت بعد سلسلة القصص وتنويه بما فيها من روعة

وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيها بتقرير الحمد لله والسلام على الذين اصطفاهم من عباده، ثم بتوجيه أسئلة للكفار فيها تقريع وتحدّ واستنكار لكفرهم وجحودهم وشركهم مع ما يقوم من الدلائل الباهرة على وجود الله وشمول قدرته ووحدانيته ومطلق تصرفه ووافر نعمه في الأرض والسماء والمطر والنبات والشجر والليل والنهار والجبال والبحار والأنهار والرياح والنجوم، وتيسير الرزق للناس وكشف الضرّ عنهم، واستخلافهم في الأرض إلخ. وأسلوب الأسئلة استنكاري انطوى فيه كما هو المتبادر تقرير نفي أي احتمال بأن يكون مع الله عزّ وجل إله آخر. والفقرة الأخيرة بخاصة انطوت على تحدي الكفار وتبكيتهم من جهة، وعلى تقرير نفي قدرتهم على إقامة البرهان على صواب شركهم من جهة أخرى. تعليق على الآيات التي جاءت بعد سلسلة القصص وتنويه بما فيها من روعة والمتبادر أن المشار إليهم في الآية الأولى- أي عباد الله الذين اصطفاهم- الأنبياء السابقون والذين آمنوا بهم تقفية على ذكر قصص بعضهم في الآيات التي قبلها وإنّ أمر النبي صلى الله عليه وسلم في الآية الأولى بتقرير الحمد لله، إنما هو بسسبب جعله هو والذين آمنوا به في زمرة الذين اصطفاهم الله، وينطوي في هذا تطمين وتبشير للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من جهة، ودعم لما قلناه من أن الفصل قد جاء معقبا على السلسلة وأن هدفها الجوهري هو الموعظة والعبرة وضرب المثل، وهكذا ترتبط آيات السورة منذ بدئها في سياق منسجم. وأسلوب الآيات التقريعي يلهم أن سامعي القرآن من الكفار يعترفون بأن الله هو ربّ الأرباب وخالق الكون ومدبره ورازق الناس وملجأهم الأعظم. قد حكت آيات عديدة ذلك عنهم أوردناها في مناسبات سابقة، وبذلك تستحكم الحجة والتقريع والتنديد بهم كما هو المتبادر، والفصل من روائع الفصول القرآنية الشاملة في التنبيه على مشاهد عظمة الله تعالى وقدرته ووحدانيته بسبيل التدليل على أنه هو وحده المستحق للعبادة والاتجاه والدعاء. ويبدو من خلاله صورة رائعة للنبي صلى الله عليه وسلم

[سورة النمل (27) : الآيات 65 إلى 75]

وهو يهتف بالكفار بهذه الهتافات والأسئلة، أو بالأصح الصرخات القوية النافذة إلى الأعماق في التقريع والاستنكار والإفحام والتسفيه على إشراك غير الله مع الله وعدم التدبر في آيات الله الماثلة في كونه والتي لا يماري فيها إلّا مكابر سفيه، ثم وهو مستغرق في الدعوة إلى الله وحده معلنا الحرب على الشرك في أي مظهر من مظاهره وأي معنى من معانيه ظاهرا وباطنا، قريبا وبعيدا، وسيلة وأصلا. وبمناسبة أمر الله تعالى بحمده الوارد في الآية الأولى نقول إن هذا الأمر تكرر في القرآن والمتبادر أنه بسبيل تعلم النبي والمؤمنين حمدهم الله على نعمه المتنوعة التي لا تحصى عليهم وتذكيرهم بذلك. ولقد أثرت في ذلك أحاديث عديدة عن النبي صلى الله عليه وسلم منها ما ورد في كتب الصحاح وهذا واحد منها رواه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أفضل الذّكر لا إله إلا الله وأفضل الدّعاء الحمد لله» «1» . [سورة النمل (27) : الآيات 65 الى 75] قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75) (1) . بل ادّارك علمهم في الآخرة: تدارك بمعنى تلاحق. وتداولت الجملة

_ (1) التاج ج 5 ص 82 وانظر هذا الجزء 78 وما بعدها ففيه صيغ دعاء وحمد عديدة مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

بتأويلات عديدة منها أنها بمعنى اجتمع علمهم عن الآخرة وتلاحقت الأخبار عندهم بأنها لن تكون. ومنها أنها بمعنى عجز علمهم عن فهم حكمة الآخرة. ومنها أن علمهم ويقينهم بالآخرة جاء متداركا بعد فوات الوقت فلم ينفعهم ذلك. وقد رجحنا المعنى الثاني. والله أعلم. (2) عمون: جمع عم. والكلمة وصف للكفار بعدم الإدراك والإبصار. والكلمة أشد من العمى. (3) ردف: معنى ردفه جاء وراءه ودهمه. والكلمة في مقامها تعني أن ما يستعجلونه يمكن أن يكون وشيك المداهمة لهم. (4) تكنّ: تخفي. (5) كتاب مبين: الجملة كفاية عن علم الله تعالى وإحاطته بكل ما كان ويكون. الآيات استمرار للسياق ومتصلة بما سبقها كما هو المتبادر، وبدؤها بأمر «قل» الذي بدأ به الفصل السابق قرينة على ذلك. وفي الوقت نفسه فإن فيها عودا على ما احتواه مطلع السورة من ذكر جحود الجاحدين بالآخرة وخسرانهم مما يجعل الترابط قائما بين فصولها. وفي الآية الأولى أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقرر ويقول إنه ليس من أحد في السموات والأرض غير الله يعلم الغيب، وأنه ليس من أحد يعلم وقت البعث والنشور، وفي الثانية توكيد بعدم إدراكهم لأمر الآخرة وحكمتها وشكهم فيها بسبب ذلك، وأنهم في عماية تامة عنها، والآيتان الثالثة والرابعة حكت تساؤل الكفار على سبيل الإنكار عن إمكان البعث بعد أن يصبحوا هم وآباؤهم من قبل ترابا، وقولهم إن الوعد بالآخرة ليس جديدا وإن آباءهم أوعدوا به من قبلهم، وقد احتوت الآية الخامسة أمرا بالرد عليهم على طريقة الأسلوب الحكيم فما عليهم إلّا أن يطوفوا في الأرض ليروا عاقبة المكذبين المجرمين وآثار نكال الله تعالى فيهم، واحتوت الآية السادسة تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم: فليس عليه أن يحزن ويضيق صدره مما يمكرونه ويكيدونه للدعوة ويقفونه منها من مواقف التكذيب. وعادت الآية

[سورة النمل (27) : الآيات 76 إلى 78]

السابعة إلى حكاية تساؤلهم عن موعد تحقيق ما يوعدون بأسلوب الإنكار والتحدي، فردت عليهم الآية الثامنة آمرة النبي صلى الله عليه وسلم بإنذارهم باحتمال قرب ما يستعجلون من عذاب الله، ثم استطردت الآيات التي جاءت بعدها إلى تقريرات مباشرة: فالله سبحانه ذو فضل على خلقه ولكن أكثرهم لا يشكرونه على ذلك به، والله سبحانه عليم بما يسّره الناس ويعلنونه من أفكار وأعمال وليس من شيء مهما دقّ وخفي في السموات والأرض إلّا قد أحاط علم الله به إحاطة تامة. والمتبادر أن في الآيات الثلاث التقريرية الأخيرة إنذارا وتبكيتا، والآية الأولى منها بخاصة تتضمن تقرير كون الله تعالى إذا لم يعجل للكفار بالعذاب الذي يستعجلونه فإنما ذلك فضل منه يستحق الشكر لأن فيه فرصة لهم. والآيات كما هو واضح تحتوي صورة من صور الجدل والحجاج والعناد والاستهتار التي كانت تبدو من الكفار، وبخاصة في صدد البعث الذي كان كما قلنا من أهم مواضع الجدل وأشد عقبات الدعوة، والراجح أنه كان يحدث بين النبي صلى الله عليه وسلم وبعض الكفار مجادلات وجاهية في هذا الصدد، فتنزل الآيات للتدعيم والتثبيت والردّ والتسفيه والتطمين حسب مقتضيات الموقف. والأسئلة المحكية عن الكفار قد تكررت حكايتها كثيرا مما مرّت أمثلة عديدة منها، وهذا يدل على تكرر مواقف الجدل والحجاج بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار في نفس الصدد في المناسبات التي كانت تتكرر أو تتجدد مما هو متصل بطبيعة مهمة النبي صلى الله عليه وسلم واتصالاته المتوالية بمختلف الفئات. [سورة النمل (27) : الآيات 76 الى 78] إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) تقرر الآيات أن القرآن يحتوي أكثر الحقائق التي يختلف بنو إسرائيل فيها ويحارون في أمرها، وأن القرآن هو هدى ورحمة للمؤمنين، وأن الله تعالى سوف

تعليق على آية إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون (76)

يقضي بينهم بحكمه الذي سوف يكون فصلا حاسما، لأنه هو العليم بحقائق الأمور، ذو العزة الذي لا يعجزه شيء. تعليق على آية إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وتبدو الآيات كأنها منفصلة عن السياق، ولم نر المفسرين يذكرون شيئا في صدد ذلك، وكل ما قالوه أن الآيات تشير إلى ما كان من خلاف حول عيسى عليه السلام وغيره من الشؤون الدينية، والذي تبادر لنا أن يكون بعض كفار العرب سألوا أحد اليهود في مكة عن أمر الآخرة فأجاب جوابا مبهما أو باعثا على الشك، لأنه لا يوجد في الأسفار نصوص صريحة عن الآخرة وحسابها وعقابها وثوابها كما جاء في القرآن، فأخذ الكفار يعلنون ذلك ويستندون إليه في مواقف الجدل والحجاج والإنكار في صدد الآخرة، وظنوا أنهم استحكموا النبي صلى الله عليه وسلم بالحجة، لأنه يقول لهم بلسان القرآن إنه مصدق لما قبله من الكتب فاقتضت حكمة التنزيل بوحي هذه الآيات بالرد عليهم، والإشارة إلى أن بني إسرائيل قد حاروا في فهم كثير من الحقائق والإشارات واختلفوا، وأن أمر الآخرة في جملة ذلك، وأن القرآن يحتوي الحقائق الصحيحة في كل أمر وفي المسائل التي حاروا فيها واختلفوا. وإذا صحّ هذا بدت الصلة والمناسبة قائمتين بين هذه الآيات والآيات السابقة. ونرجو أن يكون ذلك هو الصحيح لأن ورود الآيات هنا بدون هذا التعليل يبدو مشكلا من وجهة النظم القرآني واتساق السياق. وعلى كل حال فالآية خطيرة المغزى في حدّ ذاتها بتقريرها أن القرآن يحتوي الحقائق والحلول الصحيحة لمختلف الشؤون التي كان يختلف عليها بنو إسرائيل. وهناك آيات عديدة أخرى مكية ومدنية فيها إشارة إلى اختلافات النصارى أيضا بالإضافة إلى بني إسرائيل مثل آيات سورة السجدة [23- 25] وفصلت [45] والجاثية [16- 17] المكية وآيات المائدة [13- 19- 48] المدنية. ولقد كتبنا في سياق تفسير آيات [34- 37] من سورة مريم تعليقا على ما

[سورة النمل (27) : الآيات 79 إلى 81]

سجله القرآن مكررا من اختلاف أهل الكتاب. وعلة ذلك وواقعه. ونبهنا في التعليق على ما في التسجيل القرآني من حكمة ومقاصد فنكتفي بالإشارة إلى ذلك في مناسبة الآية التي نحن في صددها. هذا والآية [77] تكرار للآية الثالثة من السورة بفرق كلمة رحمة هنا مقابل بشرى هناك، وتكرارها في المناسبة التي جاءت بها ينطوي على مقارنة تنويهية بين الذين آمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا بكل ما جاء به القرآن واهتدوا، ومن جملة ذلك الآخرة، فكان لهم رحمة، وبين بني إسرائيل المختلفين فيما بينهم في كثير من نصوص كتبهم الدينية وبين الكفار الذين جحدوا رسالة النبي والقرآن وكذبوا بالآخرة. [سورة النمل (27) : الآيات 79 الى 81] فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) (1) مسلمون: هنا بمعنى منقادون مطيعون لله سبحانه. في الآيات تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم وتسلية، حيث تأمره بجعل اعتماده على الله تعالى، وتطمئنه بأنه على الحق الواضح، وتسلية مقررة أنه ليس من شأنه ولا في إمكانه إسماع الموتى والصمّ وهداية العمي ورجعهم عن ضلالتهم، وأن كل مهمته وما في إمكانه أن يسمع الراغبين في الحق والهدى. فهم الذين يؤمنون بآيات الله وأسلموا أنفسهم إليه واستعدوا لتصديق كل ما يأتيهم من الله تعالى. والمتبادر أن الآيات جاءت معقبة على الفصول التي سبقتها بعد انتهاء سلسلة القصص والتي حكى فيها حجاج الكفار وعنادهم، فهي من هذه الناحية استمرار للسياق ومتصلة به، وفيها قرينة على أن الآيات التي قبلها مباشرة متصلة بالسياق ومواقف الكفار الجدلية أيضا.

[سورة النمل (27) : الآيات 82 إلى 86]

وقد تكرر مثل هذه التسلية والتطمين في مناسبات مماثلة كثيرة مرّت أمثلة عديدة منها. وكلمات الموتى والصمّ والعمي في الآيات استعيرت لوصف الكفار على ما هو المتبادر بسبب ما يبدو منهم من مكابرة وتصامم وتعام عن الحق والهدى، والتشبيه قوي لاذع. هذا، والآيات وإن كانت نزلت في صدد مواقف الحجاج مع الكفار وظروف السيرة النبوية فإن فيها تلقينا مستمرّا في ما احتوته من تثبيت من يكون على الحق الواضح، ودعوته إلى عدم المبالاة بالمشاكسة والمعاندة والمكابرة التي تبدو من سيئي النية وخبثاء الطوية وإلى عدم الجهد والاهتمام بهذه الطبقة حينما تبدو على حقيقتها لأنها تكون قد غلّبت الهوى على الحق والحقيقة، ثم فيما احتوته من إشارة وثناء على من يستجيب إلى الحق ويسلم به وينضوي إليه ومن تقريع واستنكار لمن يقف منه موقف المكابرة والعناد. ونقول في صدد الوصف الذي وصف به الكفار هنا ما قلناه وفي سياق الآية العاشرة من سورة يس وغيرها من أنه تسجيل لواقع أمرهم حين نزول الآيات بدليل أن كثيرا منهم سمع وآمن واهتدى في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. [سورة النمل (27) : الآيات 82 الى 86] وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) في الآية الأولى تقرير بأن الله تعالى إذا ما استحق المخاطبون غضبه وعذابه أخرج لهم دابة من الأرض تخاطبهم وتبكتهم بسبب عدم إيمانهم بتحقيق ما وعد الله.

تعليق على الدابة المذكورة في الآية [82]

وفي الثانية والثالثة والرابعة حكاية ما سوف يكون من أمر الكفار والمكذبين حينما تقوم الساعة حيث يأمر الله تعالى بحشر المكذبين بآياته من كل أمة وسوقهم إليه فيسألهم سؤال التأنيب والتقريع عن تكذيبهم بآياته بدون علم وعما كانوا يفعلونه في دنياهم، وحينئذ يبهتون لأن الحجة قد قامت عليهم بظلمهم وبغيهم ولا يجدون ما يدفعون به عن أنفسهم. أما الآية الخامسة ففيها لفت نظر الكفار إلى مشهد من مشاهد قدرة الله ونواميسه في كونه، فهو الذي دبر أمر الليل والنهار ليكون الأول للناس سكنا وراحة والآخر مضيئا يقضون فيه حاجاتهم وشؤون معايشهم، وقد انتهت الآية بتقرير كون ذلك دليلا كافيا لمن حسنت نيته واستجاب إلى الدعوة وآمن بالله وآياته على قدرة الله على كل شيء ومن الجملة على البعث، والآيات غير منفصلة عن السياق حيث استؤنف فيها حكاية مواقف الجاحدين بالآخرة ومصائرهم. ومن تحصيل الحاصل أن نقول إن الآية الخامسة لم ترد أن تقول إن دليل الليل والنهار هو الوحيد على قدرة الله. وإنما ذلك أسلوب من أساليب النظم القرآني وقد مرّ منه أمثلة كثيرة. تعليق على الدابة المذكورة في الآية [82] في كتب التفسير «1» والحديث أحاديث عديدة معزوة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صدد الدابة وأوصافها وظروف خروجها وهول أثرها. ومن هذه الأحاديث ما ورد في كتب الأحاديث الخمسة الأولى «2» ومنها ما لم يرد. ومما ذكر في الأحاديث أن اسم الدابة هو الجسّاسة. وأنها تخرج من منطقة الحرم المكي وأنها ذات شعر ووبر كثيفين وأنها سريعة الجري وأنها تخرج في آخر الزمان كعلامة من علامات الساعة وحينما يترك الناس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتبكت الناس وتدمغ

_ (1) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن. (2) انظر كتاب التاج ج 4 ص 176 وج 5 ص 304- 305.

جباههم فيعرف بذلك المؤمن منهم من الكافر. وأن تميما الداري أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه رآها في جزيرة وأخبرته أن المسيح مقيد بسلاسل من الحديد في دير الجزيرة ينتظر الإذن بالخروج. وعلى كل حال ففي القرآن صراحة بخروج دابة من الأرض بأمر الله إذا ما حق القول على الكافرين بعدم إيقانهم بآياته لتكلمهم أو تبكتهم. ومثل هذه الصراحة موجودة بصورة ما في الأحاديث الصحيحة. والإيمان بذلك واجب على المسلم مثل الإيمان بالأمور المغيبة والخارقة التي أخبر بها القرآن أو ثبت خبرها في أحاديث صحيحة. وإن لم يدرك العقل كنهها مع القول إن ذكر ذلك لا بد له من حكمة ويلمح في الآيات والأحاديث ما يسوغ القول إن إنذار الكفار وتخويفهم من هذه الحكمة لعلهم يرعوون ويرتدعون. على أن في الأحاديث ونظم الآية ما يسوّغ إيراد بعض الملاحظات. فالأحاديث الصحيحة لا تربط بين الآية وبين خروج الدابة. وتدور في نطاق خروج الدابة في آخر الزمن كعلامة من علامات الساعة. والأحاديث التي تربط بينهما ليست من الصحاح. والضمير في جملة وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ عائد كما هو المتبادر إلى الكفار السامعين للقرآن الذين وصفوا قبل الآية [82] بالموتى والصمّ والعمي. وهذا يقتضي أن يكون الضمير في (تكلمهم) راجع إليهم أيضا. وكثير منهم بل أكثرهم أسلموا والذين ظلوا على كفرهم هلكوا وسيمضي على هلاكهم إلى قيام الساعة دهر لا تحصى أعوامه. ولم تذكر الأحاديث أن الله تعالى سوف يحيي الجاحدين من السابق للقرآن موضوع الخطاب لتكلمهم الدابة. حيث يبدو من هذا أن الوعيد الموجه إليهم لا يتحقق بالنسبة لأشخاصهم. وهذا يسوّغ القول إن دابة آخر الزمن التي ذكرت في الأحاديث الصحيحة غير الدابة التي ورد الوعيد بها في الآية القرآنية. وإن الربط بينهما هو من الرواة. وإن الوعيد القرآني قد قصد به بالإضافة إلى ما تضمنه الخبر الإيماني إثارة الرعب في نفوس السامعين وإيذانهم بأنهم إذا استمروا على جحودهم فيكونون من صنف الحيوانات التي لا يصح أن يكلمها إلّا دابة مثلها ما دام لم ينفعهم إنذار الله المبلغ بواسطة رسوله. ولقد وصف الكافرون المصرون على الجحود في آيات أخرى بوصف الْأَنْعامِ

تعليق على مدى الآية ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا والآيات الثلاث التالية لها

وشَرَّ الدَّوَابِّ كما جاء في آيات سورة الأعراف [189] والأنفال [32- 33] والفرقان [44] مما قد يصح الاستئناس به على ذلك، والله أعلم. أما الدابة التي تخرج في آخر الزمن فما دام أن خبرها وارد في أحاديث صحيحة، فيجب كما قلنا الإيمان بخبرها مثل سائر الأمور المغيبة والخارقة التي ثبت خبرها في القرآن وأحاديث نبوية صحيحة مع ترك تأويلها لله تعالى إذا أعيا العقل تأويلها ومع استشفاف الحكمة في ذكرها والتي يتبادر أن منها إثارة الرعب في نفوس الكفار وجاحدي اليوم الآخر. ولا نستبعد إلى هذا أن يكون ظهور مثل هذه الدابة بين يدي الساعة مما كان يتحدث به في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم. ومما كان يرويه أهل الكتاب، والحديث الذي يروى أن تميما الداري أخبر النبي بها من الصحاح، وقد يكون في ذلك دعم لهذا، والله تعالى أعلم. تعليق على مدى الآية وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا والآيات الثلاث التالية لها قال بعض المفسرين إن الحشر هو للجميع وإن الآية الأولى تعني جميعهم فوجا بعد فوج. وقال بعضهم إنها تعني الرؤساء والمتبوعين لأنهم الأشد استحقاقا لغضب الله. ويتبادر لنا أن القول الثاني هو الأوجه والمتسق مع نظم الآية. فهذه الطبقة هي التي كانت تقود المعارضة وتصد الناس فاستهدفت الآية فيما استهدفته إنذارهم بصورة خاصة، والله أعلم. ومع أن كل مفسري السنة مجمعون على أن الحشر هو حشر يوم القيامة فإن مفسري الشيعة يستدلون بالآيات على عقيدة الرجعة التي يدينون بها والتي هي من أهمّ عقائدهم حتى إن بعضهم يكفّرون من لا يؤمن بها والتي يصفون بها رجعة علي أو أئمتهم وأوليائهم مع أعدائهم وهاضمي حقوقهم حيث يحيي الله قوما من أوليائهم وقوما من أعدائهم قبل انقضاء الدنيا لينتقم الأولون من الآخرين وبقطع

[سورة النمل (27) : الآيات 87 إلى 90]

النظر عن عقيدتهم العجيبة فإن في الاستدلال عليها بالآيات التي نحن في صددها تعسفا ظاهرا وتكلفا حزبيا صارخا. سواء من ناحية سياقها أم من ناحية فحواها. وفي تفسير الطبرسي وهو من أكثرهم اعتدالا كلام طويل عجيب في تفصيل وإثبات ذلك ومما قاله أنه مما تظاهرت أخباره عن أئمة الهدى من آل محمد وإجماعهم حجة. ونحن نريد أن ننزه أي واحد منهم فضلا عن جميعهم من أن يكون قد استنبط ذلك من هذه الآيات. [سورة النمل (27) : الآيات 87 الى 90] وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) (1) الصور: آلة تشبه القرن ينفخ فيها لتكبير الصوت. وهي البوق أيضا. (2) داخرين: ذليلين أو صاغرين. (3) كبّت وجوههم: طرحوا منكسين على وجوههم. في الآيات صور للاخرة وهو لها ومصائر الناس فيها، وهي متصلة بالسياق السابق واستمرار له كما هو واضح. وعبارتها واضحة. ويلحظ أن الجبال هنا تمر مسرعة كقطع السحاب بينما يظنها الراؤون جامدة في حين أن آيات أخرى ذكرت أنها تتفتت وتكون هباء وأنها تدرك دكا وتنسف نسفا وتكون كالعهن المنفوش. ومع ذلك فمن الممكن أن لا تكون هذه الصور متعارضة تطبيقيا. وعلى كل حال فبالإضافة إلى وجوب الإيمان بما يرد في القرآن من صور عن الآخرة فإن العبارة هنا كما هي في الأماكن الأخرى هي بسبيل وصف هول يوم القيامة وأنها استهدفت فيما استهدفته التشديد في الإنذار والترهيب.

[سورة النمل (27) : الآيات 91 إلى 93]

ولقد أورد المفسرون أحاديث في صدد المستثنى من الفزع في جملة إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ يفيد بعضها أنهم كبار الملائكة ويفيد بعضها أنهم الشهداء. ويفيد بعضها أن الفزع هو كفاية عن الموت. والأحاديث لم ترد في كتب الصحاح، وتأويل الفزع بالموت غريب. وفي الآية [89] ما يفيد بصراحة بأن الاستثناء هو ل مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فلا يبقى محل لتأويل آخر. والمتبادر أن الاستثناء استهدف فيما استهدفه بالإضافة إلى الحقيقة الإيمانية بثّ الطمأنينة في قلوب المؤمنين المحسنين وتثبيتهم والحضّ على الإيمان والعمل الصالح. والصورة التي جاءت للكافرين مقابل ذلك قوية رهيبة حيث تكبّ وجوههم في النار، ويسألون سؤالا تقريعيّا عما إذا كانوا ينالون غير جزائهم الحق على أعمالهم الأثيمة. والمتبادر أن مما استهدف بذلك إثارة الرعب والفزع في قلوب هؤلاء وأمثالهم ليرتدعوا. وفي الآيتين الأخيرتين توكيد للتقريرات القرآنية بأن الناس يكتسبون أعمالهم باختيارهم وأنهم يجزون عليها إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ حقّا وعدلا وأن القرآن يستهدف بذلك فيما يستهدف الحثّ على الأعمال الصالحة والتحذير من الأعمال السيئة. [سورة النمل (27) : الآيات 91 الى 93] إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93) (1) البلدة الذي حرّمها: كناية عن مكة وتحريمها هو جعلها حرّما آمنا يأمن الناس فيها على دمائهم ويحرّم فيها القتال وسفك الدم والظلم على ما عليه جمهور المفسرين.

الآيات جاءت خاتمة للسورة. وعليها طابع الختام الذي يطبع كثيرا من السور. وأسلوبها يدل على أنها جاءت لإنهاء المواقف الحجاجية التي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار في ظروف نزول السورة. وهي على الأرجح المواقف التي انطوت في الفصول السابقة وبخاصة منذ انتهاء السلسلة القصصية. وهي والحال هذه غير منفصلة عن السياق ومعقبة عليه. وبدء الآية الأولى يوهم أن الكلام هو كلام النبي صلى الله عليه وسلم. ولكن ورود أمر وَقُلِ في الآيتين التاليتين يزيل الوهم ويفيد أنه أيضا مما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله. وهذا ما يقرره جمهور المفسرين أيضا. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم في الآيات بأن يعلن بأنه قد أمر بأن يعبد الله ربّ مكة المحرمة الذي هو ربّ كل شيء وأن يسلم نفسه له، وأن يتلوا القرآن على الناس، وأن يقول لهم إنما هو منذر ينذرهم ويبشرهم ويبين لهم طريق الحق والخير ويحذرهم من الكفر والباطل والفواحش، فمن اهتدى فيكون قد اختار لنفسه الخير ومن ضلّ فيكون قد اختار لنفسه الشرّ عن بيّنة وأن يقرر بعد هذا الحمد لله والثناء عليه وأن ينذر الكفار بأنهم سيرون آيات الله ووعيده الموعود رأي العين واليقين بعد أن سمعوها ولم يؤمنوا بها، وبأن الله ليس بغافل عما يعملون وإن بدا أنه يمهلهم ولا يستعجل عليهم. والآيتان الأولى والثانية احتوتا ما جاء في آيات عديدة أخرى من شرح مهمة النبي وهي التبشير والدعوة والإرشاد والموعظة وبيان طرق الخير والحق والشر والباطل، ثم من تقرير قابلية الناس التي أودعها الله فيهم للاختيار والتمييز وتحميلهم تبعة اختيارهم. ولعل الآية الثانية قد انطوت على تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والتخفيف عنه مما يعتلج في نفسه من الحسرة والحزن من مواقف العناد والتكذيب التي يقفها قومه منه. وقد تكرر هذا في مطاوي آيات السورة السابقة وتكرر كثيرا في مطاوي السور السابقة. والإنذار الذي ينطوي في الآية الأخيرة يحتمل أن يكون دنيويّا ويحتمل أن

تعليق على جملة البلدة الذي حرمها

يكون أخرويّا ويحتمل أن يكون دنيويّا وأخرويّا معا، وهي على كل حال قوية حاسمة سواء أفي بثّ الثقة في نفس النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين أم في إنذار الكفار بأن وعد الله سيتحقق. تعليق على جملة الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها ولقد شرحنا في سياق تفسير سورة قريش مدى ما كان من منح الله لأهل مكة الأمن من الخوف بسبب وجود البيت في مدينتهم. فلسنا نرى ضرورة إلى الإعادة. وإن كان من شيء نزيده هنا بمناسبة جملة الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها في الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها هو أن الجملة تقرر كون مكة نفسها كانت محرمة. وليست منطقة الكعبة أو البيت فقط. وهو ما كان جاريا قبل الإسلام على ما شرحناه في سياق سورة قريش أيضا.

سورة القصص

سورة القصص في السورة تفصيل عن نشأة موسى عليه السلام ورسالته إلى فرعون، تخلّله مواعظ وعبر، وفيها إشارة إلى قارون بسبيل ضرب المثل، وفيها صور عن مواقف الكفار والكتابيين من الدعوة وتنديد بالأولين وتحدّ لهم وتنويه بالآخرين الذين أعلنوا إيمانهم بالنبي صلى الله عليه وسلم والقرآن، وفيها صور عن حجاج الكفار ومخاوفهم من عواقب الدعوة وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت وتطمين وخطة حازمة له إزاء الكفار والمشركين ومبادئ عامة في واجبات الإنسان والإهابة به إلى عدم الاستغراق في الدنيا ومواعظ وتلقينات اجتماعية وأخلاقية. وفصول السورة مترابطة بحيث يسوّغ القول إنها نزلت متلاحقة حتى تمّت. وقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات [52- 55] مدنية، وأن الآية [85] نزلت في طريق هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. ومضامين الآيات وانسجامها مع سياقها يسوّغ الشك في صحة الروايات. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة القصص (28) : الآيات 1 الى 28] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28) .

(1) شيعا: هنا بمعنى طوائف وفئات متفاوتة غير متساوية في الحقوق. (2) أصبح فؤاد أم موسى فارغا: من تأويلات المفسرين لهذه الجملة: أصبح فؤادها خاليا من كل همّ إلّا همّ موسى. أو أصبح فؤادها خاليا من كل همّ حينما علمت أن آل فرعون التقطوه وأبقوه حيّا وتبنّوه. ونحن نختار الأول. (3) إن كادت لتبدي به: إن كادت لتعلن أنه ابنها من شدة ما اعتراها من الهمّ والخوف عليه، أو الفرح لما علمت ببقائه حيّا، حسب اختلاف تأويل المفسرين، ونحن نختار الأول. (4) قصّيه: تتبعي أثره وأخباره. (5) فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون: فرأته من مكان قريب دون أن يشعر بها. (6) وكزه: طعنه في صدره. (7) ظهيرا: مظاهرا وعونا. (8) يستصرخه: يستنصره. (9) غويّ مبين: ذو غواية أو شرير أو واضح الغواية والشر. (10) يأتمرون بك: يتشاورون في أمرك. (11) يترقب: يترصد الأنباء وعواقب ما كان منه. (12) أمة من الناس: جماعة.

(13) تذودان: تمنعان الغنم والإبل التي معهما من الانفلات وتزويانها. (14) ما خطبكما: ما شأنكما. (15) حتى يصدر الرعاء: حتى ينتهي الرعاة من السقي وينصرفون. (16) حجج: جمع حجة بمعنى سنة. كرر المفسرون ما قالوه في حروف الطاء والسين والميم وذكرناه في تفسير سورة الشعراء. ونحن نرجح كما رجحناه قبل أنها للتنبيه والاسترعاء، وقد أعقبت الحروف إشارة تنويهية إلى آيات الكتاب المبين الواضح الموضح، ثم أعقبتها آية فيها تنبيه إلى أن الله عز وجل سيتلو على النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من نبأ موسى وفرعون فيه الحق الذي تستنير به قلوب المؤمنين، ثم جاء بعد ذلك آيات فيها بيان إجمالي لما كانت عليه حالة بني إسرائيل قبل موسى وما كانوا يلقونه من ظلم فرعون، تكاد تكون أسبابا موجبة لرسالة موسى عليه السلام وأحداثها: ففرعون قد علا في الأرض وبطر واستشرى بغيه وفساده فيها، وجعل الناس طبقات وطوائف غير متساوية، واستضعف إحداهما- بني إسرائيل على ما يلهمه السياق- فاعتزم قطع نسلها بذبح ذكورها واستبقاء نسائها حذرا من مخاوف داخلته منها، واقتضت إرادة الله وحكمته أن يمنّ على هؤلاء المستضعفين وينجيهم من الظلم ويمكّن لهم ويجعلهم أئمة للناس وورثة أقوياء ظاهرين في الأرض وتتحقق مخاوف فرعون وجنوده منهم. وقد تلا هذا الإجمال فصلان في قصة موسى وفرعون، أولهما الذي أوردناه آنفا، وقد احتوى نشأة موسى عليه السلام طفلا وشابّا، وخروجه من مصر إلى مدين وزواجه فيها، وخروجه منها عائدا إلى مصر. وعبارته واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر، ومحتوياته جديدة لم ترد فيما سبق من السور باستثناء إشارة مقتضبة إلى بعضها في الآيات [38- 39] من سورة طه على سبيل تذكير موسى عليه السلام بفضل الله تعالى السابق عليه، وهذه المحتويات متطابقة إجمالا مع ما جاء في الإصحاحات الأول والثاني والثالث من سفر الخروج من أسفار العهد القديم، مع شيء من المباينة مثل كون الرجل الثاني الذي استصرخه عليه ابن شيعته في اليوم

الثاني عبرانيا ولم يكن مصريا من عدوهم. ومثل عدم ورود ذكر للرجل الذي جاء من أقصى المدينة لينذر موسى عليه السلام بتآمر الملأ عليه ليقتلوه ولينصحه بالخروج، ومثل عدد البنات اللاتي سقى لهن موسى، ففي السفر ذكر العدد سبعا، في حين أن الآيات ذكرت اثنتين، ومثل الذي التقط موسى من اليمّ وبحث له عن مرضعة حيث ذكر في السفر أنه بنت فرعون. وليس في السفر كذلك ما حكته الآيات من مفاوضة بين والد البنات وموسى على خدمته ثماني سنين أو عشرا مقابل تزويجه إحدى بناته إلخ، وقد يكون جزئيات أخرى. وكما قلنا في المناسبات السابقة المماثلة نقول هنا إننا نرجح أن ما ورد في القرآن هو الذي كان متداولا معروفا، ومما كان اليهود يروونه على هامش تاريخهم وواردا في قراطيس وأسفار كانت عندهم. ولقد أورد المفسرون على هامش هذا الفصل بيانات كثيرة لما احتواه معزوة إلى علماء الصدر الإسلامي الأول منها المتطابق مع الوارد في الأسفار المتداولة ومنها غير المتطابق. ومن جملة تلك اسم الرجل الذي نصح موسى بالخروج وحذره من القتل وهو حزقيل في قول وشمعون في قول وإنه هو نفسه مؤمن آل فرعون المذكور في سورة غافر حيث يدل هذا على أن ما جاء في الفصل مما كان متداولا في بيئة النبي وعصره. والمتبادر أن مصدر ذلك الكتابيون أو اليهود وما كان في أيديهم من قراطيس. وقد اكتفينا بالوقوف عند ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاؤه. وعدم إيراد ما أورده المفسرون من زوائد لأنه غير متصل بأهداف الحلقة. ومما رواه بعضهم أن والد البنتين هو شعيب نبي الله، وروى بعضهم إلى هذا أنه كاهن مدين واسمه يثرو أو يثرون. وإنه ابن أخي شعيب وإن شعيبا كان قد توفي قبل قدوم موسى إلى مدين. وسفر الخروج يذكر أنه كاهن مدين. وإن اسم يثرو حيث يبدو من هذا أن الرواة تلقوا ذلك من اليهود وأسفارهم ونكتفي بهذا مع العطف على الإيضاحات الأخرى التي أوردناها في سياق التعريف بمدين وأصحاب الأيكة في سور سابقة.

تعليق على الفصل الأول من قصة موسى وفرعون وما فيها من عبر وتلقين

تعليق على الفصل الأول من قصة موسى وفرعون وما فيها من عبر وتلقين وبدء السورة مباشرة بقصة موسى وفرعون قد يدل على أن بعض المسلمين أو غير المسلمين وإن كنا نرجح الأول سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن نشأة موسى عليه السلام بعد ما عرفوا ما كان بينه وبين فرعون وما كان من أمر بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر من السور السابقة فاقتضت حكمة التنزيل بإيحاء هذا الفصل وإتباعه بالفصل الثاني الذي فيه قصة رسالة موسى عليه السلام إلى فرعون، وقد يسوّغ هذا القول أن ما جاء في هذه السورة من القصة قد قصد به القصة لذاتها، غير أن أسلوبها قد حافظ على الأسلوب القصصي القرآني العام من حيث احتواؤه التذكير والتنبيه والعظة والحكم الأخلاقية والاجتماعية العديدة ومواضع العبرة مما يمكن أن يسوغ القول أيضا إن القصة قد أريد بها الموعظة والمقارنة بين رسالة موسى عليه السلام ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم وظروفهما، وهذا واضح أكثر من الآيات الأخيرة التي أعقبت الفصل الثاني على ما سوف يأتي شرحه بعد. ومن مواضع العبرة في الآيات التي أوردناها والبيان الإجمالي الذي سبق فصل القصة الأول التنديد بفرعون لجعله الناس طبقات متفاوتة واضطهاده الضعفاء منهم، والبشرى للمستضعفين بعناية الله ونصره وتمكينه، ففي هذا من جهة بشرى للمسلمين الذين استضعفهم الكفار وبخاصة زعماؤهم في مكة وآذوهم وبغوا عليهم وتثبيت لهم، وإنذار للكفار وزعمائهم بعاقبة مثل عاقبة فرعون وجنوده، وفيها بالإضافة إلى ذلك تلقين مستمر المدى بما في التفريق في الحقوق والرعاية بين طوائف الناس واضطهاد الضعفاء منهم من بغي وظلم وخاصة من أصحاب السلطان والجاه وعدم إقرار الله عز وجل لذلك. ومن مواضع العبرة في الآيات كذلك: 1- حكاية استشعار موسى عليه السلام بالندم والذنب بسبب قتله الشخص مع أنه عدوه. وكان يقاتل شخصا من شيعته. حيث ينطوي في هذا تنبيه عام على

[سورة القصص (28) : الآيات 29 إلى 46]

وجوب الاحتراز من عمل الشر والجريمة مهما كانت الأسباب وعدم مظاهرة أهلهما. 2- اندفاع موسى إلى مساعدة الامرأتين على السقي لأنه رآهما عاجزتين إزاء قوة الرجال. حيث ينطوي في هذا تلقين عام بمثل ذلك. 3- جملة إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ التي تنطوي على خير الأوصاف للرجل النافع الصالح وحثّ على التحلي بها. 4- حكاية ما كان من حسن تساهل وتسامح متبادلين بين موسى ووالد البنتين. حيث ينطوي في ذلك حثّ على وجوب التحلي بذلك وملاحظته في التعامل مع الناس. [سورة القصص (28) : الآيات 29 الى 46] فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)

(1) جذوة من النار: قطعة من النار. (2) شاطىء: جانب. (3) جيبك: عبّك. (4) اضمم يدك إلى جناحك من الرهب: ضمّ يدك إلى صدرك أو تحت إبطك كما تفعل وقت الخوف والرهبة، وقال المفسرون إن هذا بقصد تعليم كيفية إعادة اليد البيضاء إلى حالتها الأولى، وهذا مذكور في الإصحاح الرابع من سفر الخروج. (5) ردءا: معينا وسندا. (6) يصدقني: يؤيدني ويشهد بصدقي إذا كذبوني. (7) عضدك: ساعدك، وجملة سنشد عضدك بمعنى سنقويك ونؤيدك.

(8) نجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما: نجعل لكما هيبة وقوة بما نظهره على يدكما من الآيات فيمتنع فرعون وقومه من أذيتكما أو لا يقدرون على أذيتكما. (9) أوقد لي: أجج النار واشو الطين لصنع الآجر لبناء الصرح. (10) الصرح: هنا بمعنى البناء المرتفع. (11) فنبذناهم: فألقيناهم بشدة أو بازدراء. (12) أئمة: الغالب أن الكلمة جاءت في مقام التهكم. (13) المقبوحين: المذمومين. (14) القرون الأولى: الأقوام السابقة، والآية التي جاءت فيها الجملة تعني أن الله أرسل موسى بالكتاب بعد هلاك الأقوام الأولين ليكون داعيا ونذيرا من جديد. (15) وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر: الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم أي ما كنت مع موسى في جانب الجبل الغربي إذ أمرنا موسى بما أمرناه. (16) الشاهدين: الحاضرين. (17) ولكنّا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر: الضمير في «عليهم» راجع إلى أهل عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته، ومعنى الجملة إنا أنشأنا بعد موسى قرونا كثيرة فبعد ما بين عهده وما بين أهل عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته. (18) ثاويا: مقيما. (19) ولكنّا كنّا مرسلين: ولكنّا كنّا من قبلك نرسل الرسل. (20) وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك (الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم) : أي أنك لم تكن بجانب الطور إذ نادينا موسى. وكما نادينا موسى وأرسلناه أرسلناك رحمة منا لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك.

تعليق على الفصل الثاني من قصة موسى وفرعون وما فيه من عبر وتلقين

تعليق على الفصل الثاني من قصة موسى وفرعون وما فيه من عبر وتلقين الآيات هي الفصل الثاني من قصة موسى وفرعون، وقد احتوت خبر مناداة الله تعالى لموسى عليه السلام في الطور ورسالته إلى فرعون وتكذيب هذا واستكباره وغرقه عقوبة له. وعبارتها واضحة هي الأخرى. ومعظم ما جاء في هذا الفصل جاء في السور السابقة وبخاصة في الأعراف والشعراء وطه مع اختلاف في السرد والاقتضاب اقتضته حكمة التنزيل. ومن الجديد في هذا الفصل مناداة الله تعالى لموسى من ناحية الشجرة، والصرح الذي أمر فرعون وزيره هامان بإنشائه للصعود عليه ليطلع إلى إله موسى عز وجل. والأمر الأول وارد في الإصحاح الثالث من سفر الخروج. أما الأمر الثاني فلم يرد في الأسفار المتداولة، ونعتقد أنه كان متداولا بين اليهود وواردا في أسفار وقراطيس كانت في أيديهم. وإن ذلك مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم ومما كان يرويه اليهود لأهل هذه البيئة. ولقد أورد المفسرون بيانات في صدد ذلك معزوة إلى علماء الأخبار في الصدر الأول مما فيه دلالة على ما نقول. ولقد قال بعضهم إن الصرح المذكور في الآيات هو الهرم. وإن العرب لما رأوه في جاهليتهم حينما كانوا يعملون تجارا إلى مصر تناقلوا خبره مدهوشين. ومن المحتمل أن يكونوا سألوا اليهود عنه فقال لهم هؤلاء إنه صرح أنشأه فرعون ليصعد عليه إلى السماء. ولقد طعن بعضهم في ذكر هامان كوزير لفرعون، وقالوا إن هامان إنما كان وزيرا لا حشويريش ملك الفرس في القرآن الرابع قبل الميلاد. وهنا جاء اسم هامان كوزير لهذا الملك في سفر استير من أسفار العهد القديم. والذي نعتقده أن وزارة هامان لفرعون كانت هي المتداولة فذكر القرآن ما هو المتداول في معرض الوعظ

والتذكير. ولقد كان (آمون) اسما لإله رئيس من آلهة المصريين القدماء، وكان ملوكهم ووزراؤهم ورجال دولتهم وكهانهم يتسمون به أو ينسبون إليه على ما عرف من الآثار القديمة المصرية. وكان ذلك ممتدا إلى الزمن المخمن أن موسى عليه السلام بعث فيه «1» . فليس من التجوز أن يقال إن هامان معدل أو معرب عنه. ولسنا نرى مانعا من احتمال التجانس بين الاسمين في بلاد الفرس ومصر بطريق الاقتباس والتقليد. وهو أمر مألوف، بل إن هذا الاحتمال قوي جدا لأن الفرس قد سيطروا على مصر بين القرن الثالث والقرن الخامس قبل الميلاد المسيحي. وكان الملك أحشويريش الفارسي الذي يذكر سفر استير أن هامان وزيره من جملة من حكم باسمه في مصر من ملوك الفرس. وليس ما يمنع أن يكون اسم هامان مقتبسا من إحدى تسميات آمون المتداولة وفي مصر، فيكون وزير احشويريش مأخوذا عن اسم مصر وليس العكس «2» . ولعله يقوم إشكال أو وهم إشكال في صدد الآيات [44- 46] فيما يمكن أن ينطوي فيها من احتمال كونها بسبيل تقرير عدم معرفة النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من تفاصيل وأخبار نشأة موسى عليه السلام وهجرته إلى مدين ومناداة الله له في جانب الطور. والذي يتبادر لنا أنها ليست بسبيل تقرير ذلك وإنما هي كما تلهمه عبارتها بسبيل تقرير كون دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ليست تقليدا لموسى عليه السلام ومقتبسة من حياته التي لم يشهدها مشاهدة عيان، وإنما هي من الله تعالى لينذر قومه الذين لم يكن لهم عهد بالنذر رحمة بهم، وإن شأنه في ذلك شأن المرسلين الذين أرسلهم الله قبله.

_ (1) انظر كتاب مصر القديمة للدكتور مسلم حسن الأجزاء 4 و 5 و 6 و 7 و 8 و 9 و 10 وهذه أسماء بعض ملوك تسموا باسم آمون رعمسيس الثالث ولقبه رع مرئ أمون ورعمسيس الرابع ولقبه حتاماعت رع ستين أمون. ورعمسيس السادس ولقبه نب ماعت رع مري أمون. انظر الجزئين 7 و 8 من الكتاب المذكور. (2) انظر تاريخ كلدو وأشور لأسقف سعود ج 1 ص 153- 161 والعقد الثمين لأحمد كمال ص 197- 198.

[سورة القصص (28) : الآيات 47 إلى 51]

هذا، ومما احتواه الفصل من الموعظة والعبرة ذكر ما كان من عاقبة فرعون وجنوده وإغراقهم بسبب بغيهم وفسادهم وظلمهم، وتوكيد خسرانهم يوم القيامة ولعنهم في الدنيا والآخرة، والتنويه بالكتاب الذي آتاه الله تعالى موسى عليه السلام ليكون بصائر للناس وهدى ورحمة بعد أن طال عليهم الأمر وخلت من قبلهم القرون وكون الله تعالى جريا على عادته أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم بعد أن تتابعت القرون من بعد موسى رحمة بخلقه الذين طال عليهم العمر وفترة النذر لينذرهم لعلهم يهتدون. [سورة القصص (28) : الآيات 47 الى 51] وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) (1) لولا: الأولى إما بمعنى لئلا أو للاستدراك. والثانية والثالثة بمعنى هلا للتحدي. (2) سحران تظاهرا: قرئت أيضا ساحران تظاهرا، والجملة تعني محمدا وموسى عليهما السلام أو ما جاءا به من آيات ومعجزات، فهما ساحران أو سحران يؤيد أحدهما الآخر أو يماثل أحدهما الآخر. (3) الظالمين: هنا بمعنى المجرمين أو الباغين أو المنحرفين عن الحق. (4) ولقد وصلنا لهم القول: بمعنى أبلغنا إليهم القول بالدعوة والإنذار متصلا بعضه ببعض. والضمير عائد إلى سامعي القرآن الأولين كما هو المتبادر.

تعليق على آيات ولولا أن تصيبهم مصيبة وما بعدها

الآيات [47- 49] تتضمن تقرير كون الله تعالى إنما أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم لأن قومه لو أصابتهم مصيبة ربانية بسبب ضلالهم وكفرهم لتظلموا وقالوا إننا لا نعرف طريق الحق ولو جاءنا رسول من الله تعالى لاتبعناه وآمنا به ونجونا من المصيبة، فلما جاءهم الحق من عند الله تعالى على لسان النبي صلى الله عليه وسلم كابروا وعاندوا وطلبوا أن يأتيهم بما أتى به موسى من قبل في حين أنهم قد كفروا بالمبادئ التي أتى بها موسى من قبل، ولما بهتوا بهذه الحجة الدامغة لم يكن منهم إلّا أن اشتدوا في اللجاج وقالوا إن ما جاء به موسى عليه السلام وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم سحر يظاهر بعضه بعضا ويماثل بعضه بعضا وإنا كافرون بكل منها. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يتحداهم إزاء موقفهم المتناقض ومكابرتهم مع قيام الحجة والإلزام وعليهم بأن يأتوا بكتاب من عند الله أهدى مما جاء به هو وموسى عليه السلام قبله إن كانوا صادقين، وبأن يعلن استعداده للإيمان به إذا ما جاءوا به. وقد تضمنت الآية [50] خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم بأنهم إذا لم يستجيبوا إلى التحدي فيكون قد علم أنهم قد أقاموا الدليل على أنهم إنما يتبعون أهواءهم ويلقون بالقول جزافا بغير علم ولا سند، وإنه ليس من أحد أشد ضلالا ممن يتبع هواه، ويقول ما يقول بغير علم ولا هدى من الله، وإن هذا هو شأن الظالمين الباغين الذين لا يستحقون عطف الله وعنايته وتوفيقه، أو الذين لا يمكن أن يوفقهم الله ويمنحهم عنايته. ثم جاءت الآية [51] لتقرر أن الله إنما أنزل القرآن على نبيه ويسّر لهم سماعه وأوصله إليهم فصلا بعد فصل لعلهم يتذكرون فتنفعهم الذكرى ويهتدون. تعليق على آيات وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ وما بعدها وقد روى المفسرون في سياق هذه الآيات أن كفار قريش أرسلوا إلى يهود المدينة يسألونهم عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم فأجابوهم بصفته وصدقه وأن ما يتلقاه هو من الله تعالى كما كان شأن نبيهم موسى عليه السلام. وأن الكفار مع ذلك كابروا وقالوا إن موسى ومحمدا عليهما السلام ساحران، وإن ما جاءا به سحر وإنا

كافرون بكليهما. ومن المفسرين من روى أن اليهود أوعزوا إلى كفار قريش بأن يطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بمثل ما أتي به موسى عليه السلام، بل منهم من روى أن جملة إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) هي كلام كفار قريش واليهود معا، وهو غريب «1» . ومهما يكن من أمر هذه الروايات واحتمال صحة شيء منها فالذي يتبادر لنا أن الآيات لم تنزل منفصلة عمّا سبقها وبسبب الروايات مباشرة وأن هذا الفصل وما سبقه بما في ذلك فصول القصة وما لحقها كل هذا كان بمثابة تعقيب على مشهد حجاجي وجاهي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين فريق من الكفار، وأن رسالة موسى عليه السلام ومعجزاته مما كان من مواضيع الحجاج. وإذا صح هذا الذي تقويه نصوص الآيات بدا في هذا الفصل أسلوب من أساليب التنزيل والنظم القرآني. وإلا فإنه يكون حكاية حال فريق من كفار العرب أو حكاية ما يمكن أن يقولوه ويحاجوا به من مثل هذه الأقوال. وقد حكي مثل ذلك في سور أخرى منها سورة طه في آياتها الأخيرة. وهذا لا يمنع أن يكون كفار قريش قد سألوا اليهود عن النبي صلى الله عليه وسلم فشهدوا بصدقه وقالوا إنه يتلقى عن الله عز وجل كما كان يتلقى نبيهم موسى عليه السلام على ما جاء في الرواية الأولى. وفي القرآن المكي آيات عديدة فيها استشهاد بأهل الكتاب وشهادة بأن رسالة النبي عليه السلام حق، وصلته بالله تعالى صادقة مما أوردنا أمثلة منه في سياق تفسير آية سورة الأعراف [157] ومنه آية في سورة الأحقاف حكي فيها شهادة وإيمان أحد بني إسرائيل على سبيل تحدي الكفار وهي قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) ومنه الآيات التالية لهذه الآيات والتي من المحتمل جدّا أن يكون فيها ترديد وتسجيل لهذا الجواب مع إيمان الذين آمنوا به. والإلزام والإفحام والتنديد في الآيات قوي نافذ. والآيتان الأوليان والآية

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والطبرسي والزمخشري.

تعليق على جملة إن الله لا يهدي القوم الظالمين (50)

الأخيرة بسبيل الإعذار والإنذار، حتى لا يكون للناس على الله حجة. وقد انطوى في ذلك ما تكرر تقريره من حكمة إرسال الرسل وكون مهمتهم هي الإنذار. كذلك انطوى في التحدي الذي أمرت الآية [49] النبي عليه السلام بتوجيهه إلى الكفار والتقرير الذي تبعه في الآية [50] توقع العجز عن إجابة التحدي ولذلك حملت بقية الآية [50] على الكفار حملة قوية مستحكمة. وفي التنديد بالذين يتبعون أهواءهم غير مستندين إلى حق وعلم ويجحدون الحق عنادا ومكابرة تلقين قرآني مستمر المدى في تقبيح هذا الخلق والتحذير منه. مما تكرر كثيرا في القرآن ومرّ منه أمثلة عديدة. وفي تحدي الكفار النبي صلى الله عليه وسلم بأن يأتي بما أتى به موسى دلالة على أنهم لم يكونوا يجهلون قصص موسى عليه السلام ورسالته إلى فرعون ومعجزاته. وهذا يؤيد ما قلناه غير مرة من أن القصص القرآنية لم تكن مجهولة من السامعين، وإنها من أجل ذلك جاءت في القرآن لتكون موضوع عظة وعبرة وتمثيل، ولم تأت للقصة ذاتها. تعليق على جملة إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وبمناسبة ورود هذه الجملة لأول مرة نقول إن هذه الجملة تكررت في سور أخرى مكية ومدنية كما تكرر أمثالها مثل وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ المائدة [108] وإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ المائدة [67] ووَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ يوسف [52] وإِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ يونس [81] . وقد أوّلنا الجملة الأولى هنا بما أوّلناها به في شرح الآيات لأنها تضمنت تقرير كون حرمان الله الظالمين من توفيقه وهداه وعطفه وعنايته قد ترتب على ما اقترفوه واتصفوا به وارتكسوا فيه من الظلم والانحراف عن جادة الحق والهدى عقوبة لهم. وهذا ينسحب على أمثال الجملة في السور الأخرى.

[سورة القصص (28) : الآيات 52 إلى 55]

ولقد جاء في سورة آل عمران هذه الآية كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) حيث انطوى فيها توضيح وتأييد لما ذكرناه. وهذه الآية ومثالها المذكورة آنفا يصح أن تكون ضوابط لما جاء مطلقا في آيات أخرى من ضلال وهداية مثل وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ إبراهيم [27] ويُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ البقرة [26] وكَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ غافر [74] اختار الظالمون والفاسقون والخائنون والكافرون مواقفهم رغم إنذارات الله ودعوة رسله فلم يعودوا يستحقون عناية الله واستحقوا غضبه وعدم توفيقه ثم عذابه. [سورة القصص (28) : الآيات 52 الى 55] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55) (1) يدرؤون: يدفعون ويتقون أو يقابلون السيئة بالحسنة. (2) اللغو: الكلام الباطل. (3) الجاهلين: هنا بمعنى السفهاء أو الضالين. احتوت الآيات خبر مشهد واقعي لفريق من أهل الكتاب. أعلنوا إيمانهم وتصديقهم برسالة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن حينما تلي عليهم وتنويها بهم وخبر ما لقوه من سفهاء الكفار وما كانوا يبذلونه من صدقات فلهم أجرهم مضاعف بما صبروا وقابلوا الحسنة بالسيئة وأنفقوا مما رزقهم الله، وبما كان منهم إزاء الجاهلين الذين كانوا يؤذونهم بأقوالهم السخيفة حيث كانوا يعرضون عنهم ولا يعبأون بهم

تعليق على آية الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون (52) وما بعدها

ويقولون إنما نريد السلام ولا نتأثر بالجاهلين وأساليبهم ولغوهم، أو لا شأن لنا معهم. تعليق على آية الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وما بعدها ولقد تعددت الروايات «1» في هذا الفريق. فقيل إنهم وفد نصارى نجران. وقيل إنهم وفد نصارى الحبشة. وقيل إنهم وفد من نصارى الشام. وقيل إنهم خليط. وقد ذكرت الروايات أيضا أن هذه الآيات مدنية وأن المشهد من مشاهد المدينة. وسمت بعض أسماء الذين آمنوا وقالوا ما حكته الآيات وبعضهم يهود مثل عبد الله بن سلام وبعضهم نصارى مثل تميم الداري والجارود العبدي. وذكر في من ذكر سلمان الفارسي، وبحيرا الراهب وأبرهة، والأشرف وعامر وأيمن وإدريس ونافع وتميم. وقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أيضا أن الآيات مدنية. ونحن نشك في مدنية الآيات ومدنية المشهد. وقد يكون ما احتوته من أذى الجاهلين وسفاهتهم نحو المؤمنين من قرائن مكية الآيات بل من دلائلها. وهناك آيات عديدة لا اختلاف في مكيتها ذكرت مثل هذا الموقف منها آيات سورة الأنعام هذه أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وآيات سورة الإسراء هذه قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) . وبعض الأسماء التي ذكرها المفسرون ذكروها في سياق آيات مدنية احتوت تنويها بالذين أسلموا من علماء اليهود، منها آية النساء هذه لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ

_ (1) انظر كتب تفسير الطبري والطبرسي والزمخشري والخازن وابن كثير.

الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) ونرجح بل نعتقد أن الآيات متصلة بالآيات السابقة لها موضوعا وسياقا، وأنها نزلت لتكون ردّا عمليّا على الكفار العرب في مكة الذين كانوا يكابرون ويصدرون في مواقفهم عن عناد وهوى، ويتحدون النبي صلى الله عليه وسلم بالإتيان بمثل ما أتى به موسى فلما قيل لهم إنكم كفرتم بالمبادئ التي جاء بها موسى نكصوا على رؤوسهم وقالوا إنّا كافرون بها وبما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. فاحتوت الآيات ردّا مفاده أن كفار قريش إذا كانوا يقولون ما يقولون عنادا ومكابرة فالذين أوتوا العلم والكتاب يشهدون بصدق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وصدق صدور القرآن عن الله تعالى، ويعلنون إيمانهم بهما تبعا لما كان من إسلامهم لله قبل ذلك، ولعل الآيات كما قلنا قبل قليل تسجيل لشهادة اليهود الذين سألهم كفار قريش وأجابوهم بما أجابوا على ما ذكرته الرواية الأولى من الروايات السابق إيرادها في سياق الفصل السابق، واليهود لم يكونوا محصورين في المدينة. والاحتمال بوجود أفراد وجالية منهم في مكة قوي. ومن الشواهد على ذلك آية الأحقاف [10] «1» التي أوردنا نصّها قبل قليل. فإن لم يكن هذا الفريق يهوديا فيكون من النصارى الذين كان منهم جالية في مكة أيضا مما تواترت فيه الروايات وأشارت إليه بعض الآيات التي سقناها في سياق تفسير بعض آيات سورة الفرقان. وفحوى الآيات يلهم بقوة أن هذا الفريق كان من المقيمين في مكة المعروفين في أوساطها ومن ذوي اليسار أيضا. وقد ينفي هذا ما جاء في بعض الروايات من كونه وفدا حبشيا أو شاميا أو يمنيا «2» . ولا يمنع هذا من أن يكون قد وفد إلى مكة من نصارى هذه الأقطار وفود لاستطلاع النبأ العظيم، أي بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بطبيعة الحال.

_ (1) ذكرت بعض الروايات أن هذه الآية مدنية مع أنها موجهة إلى كفار مكة على سبيل التحدي مما يجعل هذه الرواية موضع شك كبير. (2) حياة محمد تأليف محمد حسين هيكل.

مشهد يسجل فيه أثر الدعوة المحمدية والقرآن في أهل الكتاب ودلالته

مشهد يسجل فيه أثر الدعوة المحمدية والقرآن في أهل الكتاب ودلالته والآيات تنطوي في حدّ ذاتها على مشهد من مشاهد الدعوة النبوية وأثرها في الكتابين الذين سمعوا القرآن من النبي محمد صلى الله عليه وسلم مباشرة والذين لا بدّ من أنهم جادلوه وسبروا أمره ثم لم يسعهم إلّا التسليم والإيمان حينما شاهدوا أعلام نبوته الصادقة وسمعوا من تقريرات القرآن ما هو متطابق في جوهره مع جوهر الكتب التي عندهم دون مبالاة بتعنيف المشركين الأقوياء وتنديدهم. وتنطوي بالتالي على شهادة خالدة بأن الكتابيين حينما يكونون في معزل عن المؤثرات أو في قدرة على عدم المبالاة بها، متجردين من الأنانية والهوى والمآرب وعلى شيء من حسن الإدراك وسعة الأفق وصفاء الطوية لا يسعهم إلّا الإقرار بما في الرسالة المحمدية من حق وبما في القرآن من صدق وبما في الدين الإسلامي من صفاء وجلاء وشفاء للنفوس الطيبة الصالحة، ثم من حلول للمشكلات والإشكالات والتعقيدات الدينية والعقائدية والنفسية والدنيوية والأخروية، ومن استجابة إلى الرغبات المشروعة ومن هدى ورحمة للناس أجمعين في كل مكان وزمان. وإذا لوحظ أن هذا المشهد كان في مكة وهو ما نرجحه على ضوء الآيات المكية المماثلة على ما ذكرناه وأن النبي صلى الله عليه وسلم في قلة وضعف أمام أكثرية ساحقة كافرة مناوئة ازداد مغزاه ومداه قوة وروعة وإفحاما لكل مكابرة. ولقد روى البغوي في سياق هذه الآيات حديثا عن أبي موسى الأشعري قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة يؤتون أجرهم مرّتين. رجل كانت له جارية فأدّبها فأحسن تأديبها ثمّ أعتقها وتزوّجها. ورجل من أهل الكتاب آمن بكتابه وآمن بمحمّد. وعبد أحسن عبادة الله ونصح لسيّده» «1» حيث ينطوي في الحديث توضيح لحكمة إيتاء المؤمنين من أهل الكتاب أجرهم مرتين ولقد علل هذا المفسر جملة

_ (1) أورد هذا الحديث ابن كثير أيضا وقال إنه ورد في الصحيح.

[سورة القصص (28) : آية 56]

بِما صَبَرُوا بأنهم صبروا على دينهم الأول إلى أن بعث محمد فآمنوا به. وقد تبادر لنا تعليل أوجه على ضوء ما احتوته الآيات، فقد كانوا يسمعون من جاهلي المشركين أي سفهائهم ما يؤذيهم بسبب إيمانهم فكانوا يصبرون ويقولون سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين. [سورة القصص (28) : آية 56] إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) تعليق على آية إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إلخ عبارة الآية واضحة، وجمهور المفسرين يروون أن الآية نزلت في أبي طالب عمّ النبي صلى الله عليه وسلم ويوردون روايات عديدة في صدد ذلك. وهناك حديث يرويه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة نكتفي به عن الروايات قال «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمّه أبي طالب قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة، قال لولا أن تعيّرني قريش يقولون إنّما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينيك فأنزل الله إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» «1» ومقتضى الحديث أن يكون ذلك عند حضور الموت أبا طالب.

_ (1) التاج ج 4 ص 176- 177 وننبه على أن الشيعة يروون أن أبا طالب قد أسلم قبل موته. وقال الطبرسي في سياق تفسيره الآية (26) من سورة الأنعام إن آل البيت مجمعون على إيمان أبي طالب وإجماعهم حجة. وروي عن ابن عمر أن أبا بكر أتى بأبيه يوم الفتح إلى النبي فأسلم على يديه فقال له ألا تركت الشيخ فآتيه، وكان أعمى، فقال أبو بكر أردت أن يأجره الله، والذي بعثك بالحق لأنا كنت بإسلام أبي طالب أشدّ فرحا مني بإسلام أبي، ألتمس بذلك قرة عينيك قال صدقت. ونحن نتمنى أن يكون ذلك صحيحا لما كان من مواقف أبي طالب من نصرة النبي، ولكن الحديث الصحيح الذي أوردناه ينتقص هذا الخبر غير الموثق، وجملة (إجماع أهل البيت) لا يمكن أخذها مسلمة. والله أعلم.

ومما يتبادر لنا من سياق الآيات وفحواها أن الآية غير منقطعة عن السياق السابق واللاحق أولا. وأن وفاة أبي طالب التي تذكر الروايات أن الآية نزلت في ظرفها، إنما كانت في أواخر العهد المكي في حين أن هذه السورة نزلت في أواخر النصف الأول من هذا العهد على ما يمكن تخمينه من ترتيبها. وهذا يجعلنا نرجح أن الآية جاءت معقبة على الآيات السابقة جميعها، وبقصد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والتهوين عليه بسبب حزنه وحسرته من مواقف العرب العنيدة وجحودهم وتعجيزاتهم على شدة رغبته في هدايتهم وبخاصة بعد أن أنذرهم وأقام الحجة عليهم. وأبو هريرة الذي يروي الشيخان عنه الحديث قد أسلم في أواخر العهد المكي، وحديث الذي يذكر فيه أن الآية نزلت في مناسبة الموقف الذي حكاه ليس خبرا عن رسول الله أخبره به كما هو ظاهر من صيغته، ونرجح أن اجتهادي منه، والله أعلم. ومع ذلك فليس من المستبعد أن يكون تمسك أبي طالب بدينه منذ البدء بالرغم من رغبة النبي في إسلامه وإلحاحه عليه في ذلك. وهذا أمر لا بد من أنه كان واقعا لا يتحمل شكا مما كان يؤلم نفسه فنزلت الآية على سبيل التسلية، كما أنه ليس من المستبعد أن يكون هناك زعماء أو أشخاص آخرون كانوا محبين للنبي صلى الله عليه وسلم أولم يظهروا له جفاء شديدا وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على هدايتهم ويحزنه عدم استجابتهم إليه في العهد المكي ومنهم ذوو قرباه الأدنون مثل عمه العباس وأبنائه وابن عمه عقيل وغيرهم وغيرهم الذين كانوا نصراء له عصبيّة. وقد يكون في الآية التالية لهذه الآية قرينة ما على شيء من ذلك على ما سوف نشرحه بعد. ومهما يكن من أمر فليس من شأن ذلك أن يجعل الصلة بين الآية وسياقها السابق واللاحق منقطعة كما هو المتبادر. هذا، وتعبير وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ يزيل ما يمكن أن يرد من توهم من جملة إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ويفسره. وقد انطوى في هذه الجملة معنى التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم فالله تعالى هو أعلم بالذين يرغبون في الهدى

[سورة القصص (28) : آية 57]

فيوفقهم إلى ما رغبوا فيه ويشرح صدرهم له فلا ينبغي له أن يحزن ويغتمّ من عدم إيمان من لا يؤمن أو من يحب هو أن يؤمن، وهكذا يتسق المعنى مع المعاني المماثلة في مواضع القرآن الأخرى ومع المبادئ التي يقررها القرآن كما هو واضح، وليس من محل والحال هذه للجدل الكلامي حول كون إيمان المؤمن وكفر الكافر يقعان بمشيئة الله وإرادته الأزليتين أو بدونهما، فالآية لا تتحمل ذلك ولا تقصده، ومع ذلك فإنه لما كان في القرآن آيات صريحة بأن إيمان المؤمن وكفر الكافر ينسبان إلى صاحبيهما ويقعان باختيارهما ويترتب عليهما العذاب والنعيم بسبب ذلك، مما مرّ منه أمثلة كثيرة ومنه آيات سورة الكهف هذه وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31) فإن الأولى تأويل هذه الآية وأمثالها بأن الإنسان إنما يشاء بمشيئة الله أو أن كسبه لأعماله هو نتيجة ما اقتضته حكمة الله وإرادته من إقداره على التمييز والاختيار على ما ذكرناه في مناسبات سابقة، لأن ذلك هو المنسجم المتسق مع الآيات القرآنية وروحها عامة ومع حكمة إرسال الرسل والتبشير والإنذار. [سورة القصص (28) : آية 57] وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) (1) نتخطف من أرضنا: بمعنى نصبح عرضة للعدوان ونهبا للناهبين. (2) حرما آمنا: الحرم هو المكان المحمي من العدوان، أو المحرم فيه العدوان أو المكان الواجب الحرمة وعدم البغي فيه على اختلاف أقوال أهل

تعليق على آية وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا

التأويل، والجملة عبارة عن منطقة مكة التي كانت قبل الإسلام حرما آمنا يحرم فيه سفك الدم والظلم، وذلك بسبب وجود الكعبة التي كان يحج إليها العرب ويقدسونها. في هذه الآية صورة أخرى من صور الحجاج بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار، وأسلوب آخر من أساليب الدعوة. فشقها الأول يحكي قول الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم: إنهم إن اتبعوا الهدى الذي يدعو إليه لن يلبثوا أن يصبحوا عرضة للمعتدين ونهبا للناهبين، وشقها الثاني يرد عليهم متسائلا عما إذا لم يكن الله قد جعلهم آمنين من العدوان بالحرم الذي أحلّهم فيه ومكّنه لهم وآمنين كذلك من العوز بما يأتي إليه من ثمرات كل شيء من كل مكان، ثم تنتهي الآية بتقرير أن أكثرهم لا يعلمون حكمة الله ولا يقدرون تدبيراته. تعليق على آية وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا وقد روى المفسرون أن الآية نزلت في الحارث بن عثمان بن نوفل حيث قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنّا لنعلم أن الذي تقول هو الحق ولكنا إن تبعناك نخشى أن يخرجنا العرب من أرض مكة ولسنا أكثر من أكلة رأس «1» ، وهذا متسق إجمالا مع روح الآية، غير أن عطفها على ما سبقها يلهم أنها لم تنزل بسبب هذا القول مباشرة أو فورا ومنقطعة عن السياق السابق كما أن صيغة الجمع فيها قد تدل على أن هذا القول لم يصدر من شخص واحد أو على الأقل أنه معبر عن رأي فريق من الكفار، فذكر في الآية في سياق ذكر مواقف الكفار وأقوالهم والتنديد بها والردّ عليها وإقامة الحجة على أصحابها. ويظهر أن زعماء مكة كانوا يحسبون أن الدين الجديد الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم سيقضي فيما يقضي عليه على تقاليد الحج والأشهر الحرم وأمن حرم مكة وقدسية الكعبة التي كان جوفها وفناؤها مستقرا لأوثانهم التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يشن عليها حربا

_ (1) انظر تفسيرها في الطبري وابن كثير والطبرسي والخازن.

شديدة، وحينئذ تزول هيبة مكة وأهلها وزعامتها الدينية وأسباب اليسر والرزق والتجارة التي يتمتعون بها نتيجة لذلك ويصبحون نهبا للقبائل، ولعلهم كانوا كذلك يتخوفون من جبل عداء العرب لهم وغدوّهم في عزلة وانفراد يسهل بهما العدوان عليهم. وهكذا يمكن أن يقال إن مسألة تقاليد مكة وحجها وكعبتها وأمنها وأشهرها الحرم وامتيازاتها ومنافعها مما شغل أفكار زعماء مكة ودفعهم إلى الموقف الذي وقفوه من الدعوة النبوية. وقد احتوت الآية تطمينا ببقاء واستمرار أمن الحرم وما ييسره من أمن وأسباب رزق ورغد مما يمكن أن يعد براعة استهلال لما أقر بقاءه القرآن فيما بعد من تلك التقاليد بعد تجريدها من شوائب الشرك والوثنية ولا سيما أنها كانت شديدة الرسوخ، ونواة وحدة عربية عامة لأن العرب كانوا مندمجين فيها على اختلاف بيئاتهم ونحلهم وكانت هذه الوحدة من الأهداف التي استهدفتها الدعوة المحمدية. وأسلوب الآية يمكن أن يدل على أن ما حكته صادر من زعماء معتدلين لا يكابرون فيما جاء النبي صلى الله عليه وسلم من حق وهدى ولكنهم كانوا يعتذرون بأعذار يرونها معقولة متصلة بمصالحهم الخاصة والعامة، وعلى هذا يمكن أن يقال إن كفار مكة أو زعماء كفارها كانوا فريقين، واحدا معاندا مكابرا متكبرا ماكرا مؤذيا للأسباب التي أوردناها في سياق تفسير آية سورة فاطر [43] ، وآخر معتدلا يرى فيما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم حقّا ولكنه لا يجد الجرأة على متابعته خوفا على نفسه أو مصالحه أو لاعتبارات يراها مشروعة وصائبة، ومن هنا يتميز الرعيل الأول من المؤمنين من أبناء الأسر البارزة من قريش مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وسعيد وطلحة والزبير وعبد الرحمن وحمزة وجعفر وأبي عبيدة وأبي سلمة وعمرو بن سعيد بن العاص وأخيه خالد وعامر بن أبي وقاص وفراس بن النضر ومصعب بن عمير وعثمان بن مظعون وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص وأبي حذيفة عتبة بن ربيعة ورملة بنت أبي سفيان وفاطمة بنت الخطاب وفاطمة المخزومية وأم

سلمة وسهلة بنت أبي سهيل بن عمرو وريطة بنت الحارث وغيرهم وغيرهم رضي الله عنهم الذين رأوا الهدى والنور فاتبعوهما غير مبالين بآبائهم وأعمامهم وأخوالهم مضحين بما كانوا فيه من نعيم ومال وجاه، معرّضين أنفسهم للسخط والأذى والقطيعة والحرمان مستعيضين من كل ذلك بلذة الإيمان الذي ملأ قلوبهم والذي رأوا فيه الغناء عن غيره فاستحقوا ثناء الله تعالى ورضوانه حيث قال فيهم وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ سورة التوبة: [100] ، ولعل شبابهم هو الذي جعلهم ينضوون إلى لواء الدعوة الجديدة الذي حمله النبي صلى الله عليه وسلم بوحي الله وهو في أواخر عهد شبابه والتي كانت حربا على عقيدة الشرك السخيفة وكثير من تقاليد الجاهلية البعيدة عن الحق والمنطق وعلى الآثام والفواحش داعية إلى الله وحده ومكارم الأخلاق والتضامن في بناء مجتمع إنساني جديد يقوم على أسس العقل والحق والعدل والبرّ والرحمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير والتسابق إليه وحل كل ما هو طيب وتحريم كل ما هو خبيث لأنهم لم يغدوا بعد أسرى التقاليد الدينية والاجتماعية التي كانت سائدة في بيئتهم كما كان شأن كبار أسرهم وزعمائها، وفي هذا ما فيه من مدى ومغزى. ولقد شرحنا مسألة أمن الحرم في سياق تفسير سورة قريش فلا محل للإعادة بمناسبة ما احتوته الآية. وإن كان من شيء نزيده هو أن الجملة في مقامها وجملة نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا بخاصة قد تفيد أن الحرم ليس فقط الكعبة ومكة بل هو منطقة مكة. وهناك حديث رواه الخمسة عن ابن عباس يوجب على القادم من خارج مكة أن يحرم أي يلبس ثياب الإحرام من حدود معينة قبل مكة، وهذا نصه «إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشّام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، وقال هنّ لهم ولكلّ آت أتى عليهنّ من غيرهنّ ممّن أراد الحجّ والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتّى أهل مكّة من مكّة» «1»

_ (1) التاج ج 2 ص 104. [.....]

[سورة القصص (28) : الآيات 58 إلى 61]

حيث يمكن أن يفيد هذا أن هذه الحدود هي حدود حرم مكة أو منطقتها المحرمة التي عنتها جملة حَرَماً آمِناً والله تعالى أعلم. [سورة القصص (28) : الآيات 58 الى 61] وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) (1) قرية: بمعنى مدينة أيضا. وقد أتت بمعنى أمة أو قوم بقصد أهل القرية أو أهل المدينة. (2) بطرت: كفرت النعمة وتكبرت واغترت. (3) أمّها: عاصمتها، وأم القرى عاصمة القرى ومركزها، والاكتفاء بذكر إرسال الرسل إلى أم القرى يعلل بأن القرى مرتبطة بمركزها ارتباطا وثيقا وبأن هذا المركز هو قدوتها وإمامها. (4) متاع الحياة الدنيا: قصارى أمره أنه متعة في الحياة الدنيا وحسب. (5) من المحضرين: من المبعوثين والمحشورين إلى الجزاء والنار. المتبادر أن الآيات متصلة بالسياق وأنها جاءت معقبة على الآيات السابقة وبخاصة على الآية السابقة لها مباشرة وفيها إنذار وتبكيت قويان: فكثير من القرى كانت متمتعة بالنعيم ووسائل العيش الناعم فغرّها ما هي فيه وأعماها فاستكبرت وجحدت فأهلكها الله، ومساكن كثير منهم ما تزال أطلالا خربة ماثلة للعيان، والله لا يهلك القرى إلّا بعد أن يبعث إلى عاصمتها التي هي بمثابة أمها رسولا ينذرهم ويبين لهم طريق الحق والهدى، فإذا أصروا على الجحود والبغي أهلكهم وما

تعليق على الآية وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها وما بعدها وما فيها من تلقين وحكم

تيسّر للسامعين- والمقصود بهم الكفار وزعماؤهم الذين هم موضوع الكلام- من أسباب العيش والأمن التي يتمسكون بها ويفضلونها على اتباع هدى الله ليست إلّا زينة ومتعة دنيويتين محدودتي الأمد والأفق، ومن الواجب عليهم والأحجى بهم أن يدركوا ويعقلوا بأن ما عند الله هو خير لهم وأبقى ولا يتساوى ما وعده الله من وعود حسنة للمؤمنين سوف تتحقق لهم مع أولئك الذين تيسر لهم ما يتمتعون به في الحياة الدنيا القصيرة ثم يحشرون يوم القيامة ويساقون نحو مصيرهم الرهيب. تعليق على الآية وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها وما بعدها وما فيها من تلقين وحكم وأسلوب الآيات حجاجي هادئ قوي الإحكام، ويلهم أنه موجه إلى ذوي عقل وإذعان أدّاهم اجتهاد خاطئ إلى موقف خاطئ، وأريد به البرهنة على ما في هذا الاجتهاد والموقف من خطأ، وهذا الأسلوب يتسق مع الأسلوب الذي حكى عن الكفار في الشق الأول من الآية السابقة والذي رجحنا أنه صادر من الفريق المعتدل من الزعماء، ولذلك نرجح أن الآيات موجهة إليهم أيضا تعقيبا على تلك الآية، ومع ذلك فإطلاق الكلام يفيد أنه موجه إلى جميع الكفار وزعمائهم أيضا. وفي الآيتين الأولى والثانية حكمة قرآنية اجتماعية بالغة ومستمرة التلقين، فالأمم إنما يهلكها بطرها واستكبارها وغفلتها عن الحق واستغراقها في شهواتها الدنيوية دون تدبر وتروّ، وإنما يصلحها تدبرها وبصيرتها واعتدالها وسلوكها طريق الحق وتفكيرها في العواقب وعدم إسرافها في متع الحياة وشهواتها. وليس من محل لتوهم التناقض بين ما جاء في الآيات وبين الخطة القرآنية في إباحة متع الحياة الدنيا وزينتها والطيبات من الرزق واستنكار تحريمها وحظرها التي احتوتها آيات سورة الأعراف [31- 33] فإن هذه الخطة مقيدة بالقصد والاعتدال

وخلوها من الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي والإشراك بالله، وعدم حيلولتها بين الإنسان وواجباته نحو الله والناس على ما شرحناه في مناسبتها السابقة. والمتبادر أن تخصيص الرسل بأم القرى ينطوي على حكمة اجتماعية بليغة، فقاعدة البلاد هي الإمام والقدوة لسائرها، فإذا قنعت بأمر وسارت في طريق تابعها الناس، وينطوي في هذا تقرير ما يكون على قاعدة البلاد من تبعة وما تلعبه من دور عظيم في حياة البلاد أخيرا كان أم شرّا أو صلاحا أم فسادا. ولقد كان هذا هو الواقع في الدعوة الإسلامية فعلا، فقد ظلت الدعوة ضيقة النطاق ومحل مناوأة وأذى في الحجاز لأن أهل مكة أم القرى لم يستجيبوا إليها، فلما توارى معظم الزعماء المكابرين الذين قادوا حركة المناوأة وفتح الله تعالى مكة لنبيه صلى الله عليه وسلم ودان أهلها بالإسلام زال السد ودخل الناس في دين الله أفواجا، وإذا كانت المدينة المنورة استجابت إلى الدعوة وغدت مركزها الذي استمدت منه القوة فإنها كانت خارجة نوعا ما عن نفوذ مكة المادي والمعنوي من جهة، ولأن مكة ظلت في نظر معظم العرب القائد والإمام، وظلت تقود حركة المقاومة والمناوأة للدعوة بقوة وعناد، وتحول ماديّا ومعنويّا دون انضواء العرب إليها. وقد روى بعض المفسرين «1» أن الآية الأخيرة نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي جهل أو في علي وحمزة رضي الله عنهما وفي أبي جهل أو في عمار والوليد بن المغيرة. والآية معطوفة ومعقبة على ما قبلها ومرتبطة بها، والكلام فيها عام بالنسبة للفريقين، وهذا ما يحمل على التوقف في الرواية كسبب لنزولها لحدتها. ولقد قال ابن كثير الذي كان من جملة من روى ذلك من المفسرين (والظاهر أنها عامة) وهو الصواب. والله تعالى أعلم.

_ (1) انظر تفسيرها في الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي.

[سورة القصص (28) : الآيات 62 إلى 67]

[سورة القصص (28) : الآيات 62 الى 67] وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) (1) قال الذين حق عليهم القول: قال المفسرون إنهم الشياطين وأئمة الكفر والرؤساء أو شياطين الإنس والجن. (2) ادعوا شركاءكم: من الدعاء أي ادعوهم لينصروكم ويخلصوكم. (3) فعميت عليهم الأنباء: بمعنى التبست عليهم الأمور فلم يعرفوا ما يقولون، أو فقدوا الحجة. (4) لا يتساءلون: لا يستطيعون سؤال بعضهم بعضا أو لا يستطيعون التناصر والتضامن والتعاون. الآيات معقبة كذلك على ما سبقها واستمرار للسياق. فقد انتهت الآيات السابقة بذكر يوم القيامة وجاءت هذه الآيات تحكي حالة الكفار فيه: فلسوف يناديهم الله تعالى ويسألهم في ذلك اليوم عن شركائهم الذين كانوا يشركونهم معه ويرجون شفاعتهم فيعترف الذين حق عليهم القول أنهم كانوا غاوين وأنهم أغووا الذين غووا كما غووا، ثم يعلنون براءتهم منهم وكونهم لم يكونوا يعبدونهم، ويؤمر الكفار بدعاء شركائهم ليأتوا وينصروهم فيدعونهم فلا يستجيبون إلى دعائهم ويرون مصيرهم من العذاب فتأخذهم الحسرة ويتمنون أن لو كانوا مهتدين. ولسوف يناديهم الله ثانية فيسألهم عن موقفهم من رسله فيبهتون ويلتبس عليهم الأمر فلا يدرون ما يقولون، ولا يستطيع أحد منهم أن يستنصر بأحد أو يستمد قوة من نسب وحسب أو يسأل أحدا، فلكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ويلهيه. وقد

[سورة القصص (28) : الآيات 68 إلى 70]

جاءت الآية الأخيرة كخاتمة تعقيبية للصورة التي احتوتها الآيات: فالذي يتوب إلى الله ويؤمن ويعمل صالحا فهو الذي يمكن أن ينجو من هذا الموقف العسير. والمتبادر أن الآيات في جملتها استهدفت فيما استهدفته إثارة الخوف والفزع في نفوس الكفار من المصير الرهيب الذي سوف يصيرون إليه، والحرج الشديد الذي سوف يواجهونه يوم القيامة، وحملهم على الارعواء والتوبة إلى الله تعالى، وهم في متسع من الوقت حتى يضمنوا لأنفسهم النجاح والفلاح في ذلك اليوم، وهذا مما ظل يتكرر في مختلف المواقف والمناسبات على اعتبار أنه الهدف الجوهري من الرسالة النبوية. ولقد قال بعض المفسرين «1» إن المقصود من جملة حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ هم الشياطين الذين وسوسوا للناس وأغووهم حتى أشركوهم مع الله تعالى في العبادة والدعاء. كما قال بعضهم «2» إنهم أئمة الكفر ورؤوس الضلالة الذين حرّضوا العامة على الكفر فأطاعوهم. والجملة تتحمل كلا التأويلين. ونحن نرجح الثاني استئناسا بآية في البقرة تحكي براءة المتبوعين من التابعين يوم القيامة كما تحكيها هذه الآيات وهي إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) بل إن في سورة الصافات آيات تؤيد ترجيحنا بقوة وهي وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) . [سورة القصص (28) : الآيات 68 الى 70] وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري. (2) المصدر نفسه.

تعليق على جملة وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة

(1) الخيرة: بمعنى الاختيار. وتكون بمعنى المختار من الأشخاص والأشياء. في الآيات تقريرات ربانية وجّه الخطاب فيها للنبي صلى الله عليه وسلم من قبيل الالتفات الانتقالي، والضمير في «لهم» عائد إلى الكفار الذين هم موضوع الكلام السابق. وهي والحالة هذه معطوفة على ما قبلها واستمرار للسياق. فالله سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء ويختار ما يشاء وليس للكفار أن يختاروا ويطلبوا ما يرغبون. وهو يعلم ما تخفي صدورهم وما يعلنون. وهو الذي لا إله إلّا هو المستحق للحمد في كل وقت وله الحكم في كل شيء وإليه يرجع الناس جميعا. تعليق على جملة وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ وقد قال بعض المفسرين «1» إن الآية الأولى بسبيل تقرير حصر الخلق والاختيار لله بصورة مطلقة ونفي قدرة الاختيار عن غيره. وقال بعضهم «2» إنها بسبيل تقرير أن الله تعالى يختار لعباده ما هو الأصلح ويختار لرسالته من هو الأصلح، وإنه ليس للكفار أن يرغبوا ويختاروا شيئا أو شخصا فيفعل الله ما يرغبون فيه ويختارونه، وإن في الآية ردّا على الكفار الذين كانوا يعترضون على اختيار محمد صلى الله عليه وسلم ويقولون إنه كان الأولى أن يختار واحدا من العظماء وينزل عليه القرآن وهو ما حكته عنهم آية سورة الزخرف هذه وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) .

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير ابن كثير. (2) انظر تفسير البغوي والزمخشري.

[سورة القصص (28) : الآيات 71 إلى 73]

والضمائر في الآيتين الأولى والثانية عائدة إلى الكفار الذين هم موضوع الكلام في الآيات السابقة كما هو واضح. وهذا يجعل القول الأول في تأويل الآية الأولى غير مستقيم لأنه يشمل جميع الناس مسلمهم وكافرهم. ويجعل للقول الثاني وجاهة ورجحانا. ومع أنه ليس في الآيات حكاية لاعتراض الكفار على اختيار محمد صلى الله عليه وسلم حتى تكون الآية ردّا على هذه النقطة بالذات مما جاء في القول الثاني فإننا نرجح على كل حال أن الآية بسبيل ردّ على شيء من مثل ذلك صدر من الكفار في ظروف نزول الآية. وفي الآيات تطمين وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم: فكل ما يفعله الكفار ويسرّونه محصيّ عليهم، والناس جميعهم راجعون إلى الله وله وحده الحكم والقضاء فليكن مطمئنّا ... وقد يبدو أن هناك تناقضا بين ما احتوته الآية الأولى من تقرير المشيئة المطلقة والاختيار المطلق لله تعالى ونفي الاختيار عن غيره وبين آيات عديدة مرّت أمثلة منها قررت للإنسان مشيئة واختيارا ورتبت على ما يكسبه نتيجة لذلك ثوابا وعقابا. ولقد كان هذا من المسائل التي دار الجدل حولها بين علماء الكلام. والمتبادر لنا استلهاما من فحوى الآية أنها ليست بسبيل تقرير عام وإنما هي بسبيل الردّ على اعتراض الكفار على اختيار الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن الجدل حولها في غير محله، وأنه لا يصح أن يستنبط منها ما يتناقض مع التقريرات القرآنية الأخرى. [سورة القصص (28) : الآيات 71 الى 73] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) . (1) سرمدا: دائما أبدا.

[سورة القصص (28) : الآيات 74 إلى 75]

في الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بسؤال الناس عما إذا كان هناك إله غير الله سبحانه وتعالى يستطيع أن يأتيهم بالضياء إذا شاء الله جعل الليل عليهم سرمديا، أو يستطيع أن يأتيهم بليل يسكنون فيه إذا شاء جعل النهار عليهم سرمديا وتقرير رباني بما في تعاقب الليل والنهار على الوجه الذي دبره الله من رحمة ربانية في الراحة والسكون في الليل والضرب في الأرض ابتغاء فضل الله في النهار مما يستحق عليه الحمد والشكر. وأسلوب الآيات يدل على أن السؤال موجه إلى الكفار على سبيل التبكيت والتقريع والتذكير وأنها ليست منقطعة الصلة بالسياق السابق. والمتبادر أنها جاءت لتبرهن بأسلوب آخر على ما قررته الآيات السابقة من قدرة الله ومطلق تصرفه وحكمه وقضائه. [سورة القصص (28) : الآيات 74 الى 75] وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75) (1) نزعنا: هنا بمعنى أخرجنا أو انتزعنا. (2) ضلّ: هنا بمعنى غاب عنهم. الآية الأولى تكرار للآية [62] والمقصود بها الكفار الذين حكت الآيات مواقفهم وأقوالهم. وتكرارها يدل على أن السياق متصل بعضه ببعض. وأسلوب الآية هنا كما هو هناك أسلوب تحدّ وتقريع. أما الآية الثانية ففيها تقرير تعقيبي انطوى فيه صورة من صور الآخرة كما انطوى فيه تقريع وإنذار للكفار. فبعد أن يطلب منهم دعوة شركائهم الذين كانوا يزعمون أنهم شفعاء وناصرون لهم أو دعاؤهم لنصرتهم ويعجزن أو لا يستجاب لهم دعوة ودعاء يأتي

[سورة القصص (28) : الآيات 76 إلى 84]

الله تعالى بشهيد من كل أمة ثم يقال للمشركين الكافرين هاتوا برهانكم على صواب ما كنتم عليه فتلزمهم الحجة ويتحققون أن الحق لله تعالى ويغيب عنهم ما كانوا يقولونه ويفترونه. وكلمة الشهيد في الآية الثانية تعني نبيّ كل أمة ورسولها على ما اتفق عليه المفسرون وما هو المتبادر منها. والآية تصور موقفا شبيها بالموقف القضائي زيادة في الإفحام والإلزام وقوة الحجة. وقد تكرر هذا مرارا في آيات مكية ومدنية منها آية سورة الزمر هذه وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وآية سورة النساء هذه فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) . والمتبادر أن الآيتين استهدفتا فيما استهدفتاه إثارة الفزع والخوف في قلوب الكفار المشركين وحملهم على الارعواء كما هو شأن الآيات المماثلة. [سورة القصص (28) : الآيات 76 الى 84] إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84)

تعليق على قصة قارون وما فيها من عبر وتلقينات

(1) بغى عليهم: ظلمهم، وقد تكون بمعنى استكبر عليهم أو تسلط عليهم. (2) لتنوء بالعصبة أولي القوة: إن الجماعة القوية لا تكاد تطيق حملها أو تكاد ترزح تحتها. والقصد من الجملة تصوير عظمة الثروة والكنوز. تعليق على قصة قارون وما فيها من عبر وتلقينات احتوت الآيات قصة قارون وعاقبته. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. ولم نطلع على رواية تذكر مناسبة خاصة لنزول هذا الفصل عقب الآيات السابقة. ويبدو لنا أن المناسبة قائمة بينه وبين موضوع الآيات السابقة وخاصة الآيات [57- 61] . ففي هذه الآيات ذكر ما كان يهمّ أهل مكة من أسباب الرزق والأمن، وخوفهم من فقدها إذا اتبعوا الهدى الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وأشير فيها إلى ما كان من اغترار أمم كثيرة بما تيسّر لها من وسائل الرزق وسعة العيش وبطرها وهلاكها، وذكر فيها كذلك أن ما عند الله خير وأبقى من متاع الحياة الدنيا وزينتها، فجاء هذا الفصل استطراديّا ليقصّ قصة فيها من المثل والعبرة ما يتسق مع فحوى تلك الآيات وهدفها. ونرجح أن سامعي القرآن أو بعضهم كانوا يعرفون قصة قارون. وأسلوب الآيات التقريري وحكمة إيراد القصة المتناسبة في موضوعها مع الآيات السابقة يقويان هذا الترجيح. وآيات القصة في حدّ ذاتها تحتوي مواعظ وعبرا عديدة. بحيث يبدو من كل ذلك أن الفصل متصل بالسياق وغير غريب عنه، وأن هدف

القصة التي احتواها هو العبرة والتذكير وضرب المثل كسائر القصص القرآنية. والآيتان الأخيرتان جاءتا معقبتين على القصة على ما هو المتبادر، فالنجاة في الآخرة والعاقبة السعيدة إنما هما للذين لا يريدون فسادا وعلوّا في الأرض، والذين يتقون غضب الله ونقمته ومن يقدم بين يديه الحسنات والأعمال الصالحة يكافأ عليها بما هو خير منها ومن يقدم السيئات فلا يكافأ إلّا بما كان يعمل. وهذا التعقيب متسق مع الأهداف التي تستهدفها القصص القرآنية ومع التعقيبات التي تعقبها على ما مرّت أمثلة عديدة منها. واسم قارون يرد هنا لأول مرة. ويرد بصراحة أنه من قوم موسى. وذكر مرتين أخريين في سياق ذكر فرعون وهامان وليس لقارون ذكر في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم. ولقد أورد المفسرون بيانات كثيرة عن قارون وثروته ومعرفته سرّ تحويل المعادن الخسيسة إلى الذهب. ودسائسه على موسى عليه السلام وكفره وبغيه. وجنسيته وهويته، وكيفية الخسف الذي حلّ به، منه ما هو معزوّ إلى صحابة وتابعين بأسمائهم ومنه ما ليس معزوا إلى أحد. وفيها كثير من الإغراب كما هو ملموح «1» . ولم نر طائلا في إيرادها لأنها غير متصلة بهدف القصة. وتدل مع ذلك على أن قصة قارون وشخصيته وثروته لم تكن مجهولة في أوساط العرب في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته. وما دام القرآن يذكر أنه من قوم موسى فالذي نعتقده أن قصصه على النحو الوارد موجزا في القرآن مما كان متداولا عند اليهود وواردا في بعض أسفارهم وقراطيسهم التي لم تصل إلينا. وقد تسرب ذلك إلى العرب من هذا الطريق. ولقد قصد بما ورد من القصة في القرآن التمثيل والموعظة وهذا إنما يتحقق إذا كان السامعون يعرفون ما يسمعون من القصص كليا أو جزئيا على ما شرحناه في المسائل المماثلة. ولقد قيل إن اسم قارون هو اسم معروف لملك أو أمير غني من ملوك آسيا الصغرى (الأناضول) أو (بلاد الروم) كما كانت تدعى سابقا وهو قيروس أو قيرسوس أو ما يشبه ذلك. ولسنا نرى في هذا ما

_ (1) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.

ينقض ما قررناه فقد يكون اسم قارون معربا لاسم قريب منه كان في زمن موسى ومن قومه. وكان ذا غنى وفساد. والأسماء تتجانس تقليدا واقتباسا. وقد يكون ذلك الملك الآسيوي متأخرا عن عهد موسى ويكون اسمه هو المقتبس. وإطلاق الاسم على هذا للتشابه بين صفاته وثروته وبين قارون موسى والله تعالى أعلم. أما ما احتوته آيات القصة من الموعظة والعبرة والحكم الأخلاقية فهو: 1- إن الله لا يحب الفرحين المغترين بأموالهم. 2- إن من واجب الذين أنعم الله عليهم بالثراء ألّا يجحدوا يد الله عليهم ويبطروا وأن يذكروا دائما أن الله قد أهلك من هم أكثر قوة ومالا منهم حينما جحدوا وبطروا. 3- إن من واجبهم أيضا أن يسلكوا سبيل القصد، وأن يذكروا أنه إذا كان لهم أن يتمتعوا بما تيسّر لهم من أسباب العيش والدعة فإن من واجبهم أن يساعدوا الآخرين ويحسنوا إليهم كما أحسن الله إليهم وأنه ليس لهم أن يستعملوا ما يسّره الله لهم في الفساد والبغي، وأن يذكروا مفاجآت الأحداث وغضب الله وأن يشكروا الله شكرا عمليّا بالاعتراف بفضله وربوبيته والتقرب إليه بصالح الأعمال، وألّا ينسوا يوم الجزاء الأخروي الذي يحاسب فيه كل امرئ على ما فعل. 4- إنه لا ينبغي لمن لم يتيسر لهم الثراء ألّا تشرد أعينهم إليه ليحصلوا عليه بأي طريق كان ولو بالبغي والفساد، وعليهم أن يتحلوا بالقناعة والصبر ولا ينحرفوا عن الطريق القويم المشروع، وأن يتيقنوا أن ثواب الإيمان والعمل الصالح خير وأبقى وأنه لا يصل إلى هذه الغاية المثلى إلا الصابرون. 5- إن الذين أوتوا العلم قاموا بواجبهم فنبهوا الذين تمنوا أن يكون لهم ما كان لقارون إلى ما هو خير من ذلك وهو ابتغاء ثواب الله بالإيمان والعمل الصالح. 6- إن الله قد عاقب قارون على بطره وجحوده وبغيه وفساده، وأدرك الذين

[سورة القصص (28) : الآيات 85 إلى 88]

كانوا يتمنون أن يكون لهم ما كان له أن بسطة الرزق ليست خيرا دائما وأن فيها محكّا لأخلاق الناس وامتحانا لنوازعهم وكثيرا ما تكون عليهم نقمة وشرّا وأن الكافرين لا يفلحون قط. 7- إن الله قد ضمن للمتقين الذين يتحاشون الفساد والتجبر في الأرض أحسن العواقب في الآخرة. وطبيعي أن هذه الحكم مستمرة المدى والشمول. وفيها من التشجيع على الفضيلة والبرّ وتقبيح الرذيلة والبغي والبطر والجحود وبثّ الطمأنينة والسكينة في نفوس المؤمنين والارتفاع بهم إلى الأفق الأعلى من مكارم الأخلاق وصالح الأعمال ما هو جليل رائع. وجملة لِلْمُتَّقِينَ في آخر الآية [83] في مقامها مناسبة جديدة لتكرار ما نبهنا عليه من مغزى التقوى التي هي أهم مظاهر الإيمان. ولقد أورد المفسرون بعض الأحاديث التي تندد بالتعالي والبطر والتجبر في مناسبة آيات قصة قارون. ونكتفي من ذلك بما ورد في كتب الصحاح، منها حديث رواه الشيخان عن أبي هريرة قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما رجل يمشي قد أعجبته جبّته وبرداه إذ خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها حتى تقوم الساعة» «1» . وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إنّ الله لا ينظر إلى من يجرّ إزاره بطرا» «2» حيث ينطوي في الأحاديث صور من التعليق والتطبيق النبوي للآيات القرآنية على سبيل الموعظة والتعليم والتحذير. [سورة القصص (28) : الآيات 85 الى 88] إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)

_ (1) التاج ج 3 ص 147. (2) المصدر نفسه.

تعليقات على الآيات الأخيرة الأربع من سورة القصص

(1) فرض عليك القرآن: أنزله عليك وأوجب عليك إبلاغه والسير وفقه. (2) لا يصدّنك: لا تدعهم يصرفونك. الخطاب في الآيات موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فالذي أنزل عليه القرآن وأوجب عليه إبلاغه والسير وفقه رادّه ومعيده، وعليه أن يعلن للناس أن ربّه هو الأعلم والحكم بينه وبين الكفار في من هو على الحق والهدى ومن هو على الضلال الشديد، وأنه ما كان ليأمل أن ينزل عليه الكتاب، وأن الله تعالى لم يختره وينزله عليه إلّا رحمة منه وفضلا، وأن عليه ألّا يكون نصيرا للكافرين على نفسه، وألّا يدعهم يصرفونه عن أوامر ربّه وآياته بعد أن أنزلت عليه متأثرا بمواقف اللجاج التي يقفونها إزاءه، وأن يدعو إلى ربه وحده ولا يسلك سبيل المشركين وألا يدعو مع الله إلها آخر، فليس من إله غيره قط، وكل شيء هالك إلّا وجهه، وله الحكم والقضاء على خلقه، وهو مرجعهم أولا وآخرا. تعليقات على الآيات الأخيرة الأربع من سورة القصص ولقد تعددت التأويلات التي يرويها المفسرون عن ابن عباس وغيره لجملة لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ منها أنها بمعنى رادك إلى الجنة. ومنها أنها بمعنى رادك إلى الموت. ومنها أنها بمعنى رادك إلى يوم القيامة. ومنها أنها بمعنى رادك إلى مكة، وقد رويت رواية تفيد أن الآية التي فيها الجملة نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في طريق هجرته من مكة إلى المدينة في منزل يقال له الجحفة حيث حزّ في نفسه أن يخرج من وطنه على الوجه الذي خرج به فأنزل الله عليه الآية لتطمينه وتسليته وتوكيد كون الله عز وجل راده إلى مكة ثانية. وهذه الرواية قد تقوي إن صحت التأويل الأخير.

وتنبه على أن هذه الرواية رويت عن ابن عباس الذي روي عنه أيضا كون الجملة بمعنى «رادك إلى يوم القيامة» «1» . وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الأحاديث. ويلحظ أن الشطر التالي من الآية التي فيها الجملة يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلن بأن ربه هو الأعلم بمن جاء بالهدى ومن هو في ضلال. وهذا يعني أن النبي كان في موقف حجاجي مع الكفار. وبين الآية والآيات التالية لها ترابط، ولهذا نشك في نزول الآية لحدتها أو نزولها في طريق الجحفة والنبي خارج إلى المدينة مهاجرا، ونرجح أن الآيات جميعها في صدد الموقف الحجاجي وأن الجملة تعني أن الله تعالى باعثه هو والكفار يوم القيامة وأنه سيحكم حينئذ بينه وبينهم وهو الأعلم بالمهتدي والضال منهم. وقد انطوى فيها هدف التطمين والتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم، ومثل هذه الجملة ورد في آيات عديدة في مواقف الحجاج بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار مثل سورة الأنعام [117] والنحل [125] والقلم [7] . ولم يرو المفسرون روايات في سبب نزول الآيات التالية لآية الأولى، وقد رووا عن ابن عباس أن الخطاب فيها وإن كان موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو لأمته، ومع أن هذا وارد ووجيه من ناحية ما احتوته الآيات من أوامر عليها طابع الشمول والتلقين المستمر، وهذا هو المقصود من قول ابن عباس المروي كما هو المتبادر. فإن الذي يتبادر لنا من روح الآيات وفحواها أنها موجهة إلى النبي في مناسبة الموقف الذي بينه وبين الكفار الذي كان في صدد مبادئ الدعوة. وكان الكفار فيه أحيانا يحاولون مساومته وزحزحته عن شىء ما منها، وأنه بدا منه شىء ما من المسايرة رغبة في هدايتهم التي كان شديد الحرص عليها وبخاصة زعمائهم وإزالة العقبات القائمة في سبيل الدعوة. فنزلت الآيات لتنبهه إلى ما كان من فضل الله عليه ورحمته به في إنزال الكتاب عليه واختصاصه برسالة الله وتثبّته وتلقّنه خطورة

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والزمخشري والطبرسي. ورواية نزول الآية في الجحفة رواها المصحف الذي اعتمدناه أيضا.

المهمة التي انتدب إليها، وما توجبه من الثبات والصبر وعدم المسايرة في أي عمل أو قول يمكن أن يكون فيه أي تساهل في أساس الدعوة إلى الله وحده وفي الأسس المحكمة التي انطوت عليها الآيات القرآنية، وتهيب به ألا يكون منه فتور في الدعوة بسبب مواقف اللجاج أو المساومة التي يقفها الكفار. ومن المحتمل أن يكون هذا الموقف بين النبي صلى الله عليه وسلم وبعض الزعماء المعتدلين الذين كانوا يعتقدون بصدق دعوته ويخافون عواقب اتّباعه، على ما حكته الآية [57] ولعل ما كان من أخذ ورد بينهم وبينهم وبنيه هو في صدد الكعبة وتقاليدها حيث يرجّح هذا ما حكته عنهم الآية نفسها من مخاوف. وهذا الذي نخمّن انطواءه في الآيات قد ذكر صراحة في آيات سورة الإسراء هذه وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا (74) ومن الجدير بالتنبيه أن سورة الإسراء هذه قد نزلت بعد سورة القصص حيث ينطوي في هذا صحة تخميننا وصوابه إن شاء الله. ومحاولات الكفار زحزحة النبي صلى الله عليه وسلم ليست جديدة بل بدأت من أوائل عهد الدعوة، على ما شرحناه في سياق تفسير سورة القلم. على أن من الواجب أن ننبه إلى أنه لا ينبغي التوهم من ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد مرّ عليه دور كان فيه مترددا في إيمانه بالله وحده أو ميّالا إلى مسايرة الكفار في زحزحته عن مبادئ الدعوة وأسسها. فهذا يناقض العصمة النبوية في هذا الصدد الذي يجب الإيمان بها، والتقريرات القرآنية التي مرّت أمثلة عديدة منها تجعله من هذه النواحي فوق كل مظنة ووهم وتصف استغراقه في الله والمهمة التي انتدب إليها بأروع الصفات وأقواها، وكل ما كان من أمر أن رغبته الشديدة في هدايتهم وحرصه القوي على نجاح الدعوة وانتشارها وشدة العقبات التي كانت تقوم في طريقها بسبب موقف كفار قريش، وبخاصة زعمائهم كان يجعله يفكر في مسايرتهم في أمور شكلية وثانوية مما كان غير الأولى في علم الله سبحانه، فكان وحي الله

دلالة قرآنية

ينزل مبينا ما هو الأولى في علمه، على ما شرحناه في سياق سورة عبس وغيرها. وعلى هذا فالآيات ليست منقطعة عن مواضيع السورة كما هو واضح، وبالإضافة إلى ذلك فإنها متصلة بالآيتين السابقتين لها مباشرة حيث يبدو أنها جاءت معقّبة عليهما، ولقد جاءت في الوقت نفسه خاتمة قوية للسورة ومنهية إنهاء حاسما للمواقف التي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وزعماء الكفار والتي حكتها آيات عديدة منها. دلالة قرآنية على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف من أمر نبوته شيئا قبل هبوط الوحي عليه. هذا وفي ما احتوته الآية الثانية صراحة قطعية بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يدري من أمر نبوته شيئا قبل هبوط الوحي عليه، وفي ذلك نفي قرآني صريح لما يتزيده المتزيدون في هذا الصدد، ويتوسعون فيه من ذكر الأعلام والإشارات ويوردونه من الروايات ويخمنونه من التخمينات. سواء أكان ذلك في ظروف ولادته ونشأته أم قبل ذلك بآماد بعيدة أو قبل نزول الوحي عليه. وفي سورة يونس آية صريحة أخرى في ذلك جاءت جوابا على تحدي الكفار بالإتيان بقرآن غير القرآن الذي يتلوه عليهم وهي قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) . هذا، وفي مناسبة ورود كلمة وَجْهَهُ بالنسبة لله تعالى نذكر القارئ بتعليقنا على ما في القرآن من صفات وأعضاء وحركات منسوبة إلى الله عزّ وجل في سياق سورة الفجر حيث نبهنا إلى ما في ذلك من مقاصد. والموقف الذي يجب أن يقفه المسلم وقارئ القرآن من مثل هذه الألفاظ. ونكتفي بهذه الإشارة عن الإعادة. وتعبير وَجْهَهُ لله سبحانه من المواضيع الجدلية بين علماء الكلام من حيث ماهيته وكيفية تأويله، وهذا يقع بالنسبة إلى سائر الألفاظ والصفات والحركات التي تنسب إلى الله سبحانه الأعضاء والجوارح والحواس مثل يد الله

وقبضته ويمينه ونفسه وسمعه وأبصاره وروحه ونزوله واستوائه إلخ. وروح التعبير هنا يفيد أن المقصود به ذات الله تعالى، ولا يحمل جدلا فيما نعتقد، والمتبادر أنه أريد بكل ما ذكر في القرآن من كل ذلك وصف الله سبحانه بكل صفة على أكمل ما يكون مما يقتضي أن يكون الله سميع لكل ما من طبيعته أن يسمع، ويبصر لكل ما من طبيعته أن يبصر، وعليم بكل شيء ومدرك لكل شيء ومحيط بكل شيء وقادر على كل شيء وموجود في كل مكان.. إلخ وقد استعملت الألفاظ في معرض الدلالة على ذلك لأن القرآن يخاطب الناس بلغتهم والمعاني التي يفهمون ماهيتها ومداها. ومع ذلك فإن هناك مذهبا سليما ووجيها يرى أصحابه التسليم بكل ما جاء من ذلك وعدم حمله على غير ظاهره وعدم البحث في الوقت نفسه في الماهيات والكيفيات وتفويض الأمر لله تعالى فيما أراد منه مع تنزيهه سبحانه عن الجسمانية والجهة والحدود والحاجة إلى أي شيء والمماثلة لخلقه في أي شيء عملا بضابط قرآني محكم جاء في آية سورة الشورى هذه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) والله تعالى أعلم.

سورة الإسراء

سورة الإسراء في السورة إشارة إلى حادث الإسراء النبوي، ومجموعة من الوصايا والأوامر والنواهي والحكم الدينية والأخلاقية والاجتماعية، وفيها استطرادات إلى أحداث بني إسرائيل التاريخية وإلى قصة آدم وإبليس وقصة موسى وفرعون في معرض التمثيل والموعظة، وفيها حكاية لمواقف الكفار وعقائدهم وأقوالهم وتعجيزاتهم ومناقشتهم فيها وتسفيههم، وإشارة إلى محاولات الكفار لزحزحة النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض ما يدعو إليه ومساومته، وإلى بعض أزماته، وتسليته من جهة، ومعاتبته من جهة ثانية، وحكاية لموقف بعض علماء الكتابيين وإيمانهم بالقرآن، وإشادة بالقرآن في مواضع عديدة، وتنويه بما فيه من حق وهدى وروحانية وشفاء وإعجاز، وفصولها مترابطة وآياتها متوازنة ومتساوقة مما يمكن أن يلهم أن فصولها نزلت متلاحقة إلى أن تمت. وقد روي أن الآيات [26 و 32 و 33 و 57 و 73- 80] مدنيات وليست الروايات وثيقة السند من جهة وسياق الآيات ومضامينها وتوازنها وانسجامها مع ما سبقها ولحق بها يسوغ الشك في الرواية ويرجّح مكية الآيات، وللسورة اسم آخر هو بني إسرائيل لأن فيها فصلا عنهم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الإسراء (17) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) (1) سبحان: أوجه الأقوال فيها أنها مصدر سبّح، وهي هنا وفي كل موضع

مماثل بمعنى «تسبيحا لله» والتسبيح هو التقديس والتمجيد والثناء. (2) أسرى: من الأسراء وهو السير في الليل. (3) عبده: كناية عن النبي صلى الله عليه وسلم. (4) المسجد: مكان السجود والعبادة مطلقا. (5) المسجد الحرام: مسجد مكة. والجملة تعني حين نزولها المصلى أو الفناء المعدّ لإقامة الصلاة والطقوس حول الكعبة. (6) المسجد الأقصى: الأقصى بمعنى الأبعد. وقد قصد بالجملة مكان عبادة الله في بيت المقدس، ونعت الأقصى للدلالة على البعد الشاسع بين مكة وبيت المقدس، ثم صار تعبير «المسجد الأقصى» علما على مسجد بيت المقدس الإسلامي بعد الإسلام اقتباسا من الوصف القرآني. وكان قبل الإسلام مكان المعبد الذي بناه سليمان عليه السلام، وكان خرابا حين نزول الآية. (7) الذي باركنا حوله: ضمير «حوله» راجع إلى المسجد الأقصى. والكلمة تعني بلاد فلسطين التي فيها المسجد، وقد ذكرت آيات سورة الأعراف [137] وسورة الأنبياء [71] أن الله بارك فيها. في الآية تقديس لله تعالى الذي أسرى بالنبي صلى الله عليه وسلم من مكة مكان المسجد الحرام إلى مكان المسجد الأبعد في بيت المقدس الذي بارك الله حوله ليريه من آياته ودلائل عظمته، وهو السميع لكل شيء البصير بكل شيء. لقد شرحنا بشيء من الإسهاب ما جاء ودار حول حادثي الإسراء والمعراج في سياق تفسير سورة النجم. فلم يبق ضرورة لتكرار شيء من ذلك إلّا القول في مناسبة هذه الآية إن حادث الإسراء النبوي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مذكور بصراحة في القرآن دون المعراج، وإن روح الآية قد تلهم أنه كان بالجسد واليقظة. لأنه لو كان في المنام أو مشهدا روحانيا كما رجحنا أن يكون هذا بالنسبة للمعراج الذي تظاهرت الأحاديث في صدد وقوعه لما ظهرت حكمة ذكره والتنويه به بهذه القوة.

وهناك أحاديث عديدة منها ما ورد في الصحاح فيها ما قد يكون فيه تأييد لذلك. من ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «لما كذّبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس قمت في الحجر فجلّى الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه» «1» . وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة قال «قال النّبي صلى الله عليه وسلم لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن أشياء لم أثبتها فكربت كربة ما كربت مثله قطّ فرفعه الله لي أنظر إليه. ما يسألوني عن شيء إلّا أنبأتهم به» «2» . وروى ابن كثير حديثا رواه البيهقي عن عروة عن عائشة قالت «لمّا أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى أصبح يحدّث الناس بذلك فارتدّ ناس ممّن كانوا آمنوا به وصدّقوه وسعوا بذلك إلى أبي بكر فقالوا هل بك في صاحبك يزعم أنّه أسري به الليلة إلى بيت المقدس فقال أو قال ذلك قالوا نعم قال لئن قال ذلك لقد صدق. قالوا فتصدّقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح. قال نعم إنّي لأصدّقه فيما هو أبعد من ذلك أصدّقه في خبر السّماء غدوة أو روحة» . ومما رواه البغوي «أنّه كان لجماعة من قريش عير قادمة فسألوه هل لقيت منها شيئا قال نعم مررت على عير بني فلان وهي بالرّوحاء وقد أضلّوا بعيرا لهم وهم في طلبه. وفي رحالهم قدح ماء فعطشت فأخذته فشربته ثمّ وضعته كما كان فسلوهم هل وجدوا الماء في القدح حين رجعوا إليه، قالوا هذه آية، قال ومررت بعير بني فلان وفلان راكبان قعودا لهما بذي طوى فنفر عيرهما منّي فرمى بفلان فكسرت يده فسلوهما عن ذلك، فقالوا هذه آية. وسأله جماعة عن عيرهم فقال مررت بها بالتّنعيم. قالوا فما عدّتها وأحمالها وهيئتها ومن فيها فقال نعم هيئتها كذا وفيها فلان وفلان يقدمها جمل أورق عليه غرارتان مخيطتان يطلع عليكم عند طلوع الشّمس. وقالوا وهذه آية، ثمّ خرجوا يشتدّون نحو الثّنية وهم يقولون والله لقد

_ (1) التاج ج 3 ص 234. (2) المصدر نفسه والحجر هو مكان في فناء الكعبة.

قصّ محمد شيئا وبيّنه حتّى أتوا كداء فجلسوا عليه فجعلوا ينتظرون حتّى تطلع الشّمس فيكذّبوه إذ قال قائل منهم والله هذه الشّمس قد طلعت فقال آخر هذه الله الإبل قد طلعت يقدمها بعير أورق. وفيها فلان وفلان كما قال» . ويصح أن نذكر في هذا السياق والحديث المروي عن أم هانئ عمّة النبي الذي ذكرناه في سياق سورة النجم وجاء فيه «أنّه كان في بيتها فافتقدته في فراشه فلم تجده، ثمّ وجدته في الصّباح فلمّا استيقظ أخبر بخبر إسرائه إلى المسجد الأقصى» . ومن الجدير بالتنبيه هنا أيضا أن الأحاديث التي وردت في كتب الصحاح عن الإسراء والمعراج لا تقرن الإسراء بالمعراج. وهذا له مغزى مهم في صدد ما نحن بسبيله. ومن هذه الأحاديث التي أوردنا نصوصها آنفا عن أبي هريرة وجابر ما اقتصر على ذكر الإسراء إلى بيت المقدس فقط. ومع ذلك فإن الحديثين اللذين يرويهما البخاري عن مالك بن صعصعة وشريك بن عبد الله واللذين أشرنا إليهما في التعليق المسهب في سورة النجم واللذين يذكران أن الحادث كان في أثناء النوم أو بين اليقظة والنوم مع شقّ بطن النبي وغسله وحشوه والحديث المروي عن عائشة بأن النبي لم يفارق فراشه ليلة الإسراء والحديث المروي عن معاوية بأن الإسراء والمعراج كان في المنام كل هذا يجعل احتمال الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى أيضا مشهدا روحانيا واردا كذلك. ولا سيما إن هناك حديثا يرويه الطبري بطرقه عن أبي هريرة يذكر فيه فيما يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى أثناء مسراه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وهو راكب على البراق ومع جبريل جماعات من الناس في أشكال وحالات متنوعة في العذاب بسبب آثام وذنوب اقترفوها وأنه رأى فيما رأى أثناء هذا المسرى أيضا الجنة والنار وسمع كلاما لكل منهما. وفي هذه السورة آية أشير فيها إلى حادث الإسراء على قول أكثر أهل التأويل بكلمة (الرؤيا) وهي هذه وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [60] ومع أن أهل التأويل قالوا إن كلمة الرؤيا تطلق على الرؤيا العيانية أيضا. إلا أنها في القرآن لم ترد إلا في معنى الرؤيا

المنامية فقط كما يستفاد من آيات سورة الصافات [102- 109] وسورة يوسف [4- 5 و 43 و 100] وسورة الفتح [27] وإن كان من الواجب أن نقول أيضا إن روح آية الإسراء تلهم أن الرؤيا كانت عيانية لأنها لو لم تكن كذلك لما ظهر سبب لفتنة الناس بها إذا كانت الكلمة تعني الإسراء. ويبقى بعد ذلك كله الحديثان الصحيحان اللذان يرويهما جابر وأبو هريرة وفيهما ما كان من سؤال قريش للنبي صلى الله عليه وسلم عن صفة بيت المقدس ووصفه لهم مما فيه تأييد للرؤيا العيانية وبالتالي لكون الإسراء بالجسد واليقظة حتى ولو أغفلنا الحديث الطويل الذي يرويه البغوي والذي فيه مثل ذلك بتفصيل أوفى على أنه لن يفوتنا أن نذكّر ثانية بأن الأحاديث الواردة في كتب الصحاح وغيرها يرويها أناس من أهل العهد المدني وأنه لم يرو شيئا منها أناس من أهل العهد المكي الذين يفرض أنهم كانوا شهود خبر الحادث والذين يفرض أن يكونوا هم الأولى في رواية خبره. ومهما يكن من أمر فإن روح الآية ومضمونها يلهمان أن الحادث كان تكريما للنبي صلى الله عليه وسلم بقصد اطلاعه على بعض آيات الله ومشاهد ملكوته أولا. وأنه حادث خاص بمدركات النبي صلى الله عليه وسلم لم يشعر به غيره ثانيا. وأنه ليس من قبيل المعجزات التي تظهر على يد الرسل لأجل إثبات صلتهم بالله أو يثبت بها صلتهم بالله. والأولى أن يوقف من ماهيته وكيفيته موقف التحفظ مثل سائر مدركات النبي صلى الله عليه وسلم الروحانية الخاصة على ما نبهنا عليه في سياق سورة العلق والتكوير والنجم والقيامة دون تزيد ولا تخمين مع واجب الإيمان به كحقيقة إيمانية ما دام قد ذكر وقوعه صراحة في القرآن وإن لم يدرك كنهه مثل الإيمان بالوحي وسائر مدركات النبي صلى الله عليه وسلم الخاصة التي وردت فيها نصوص صريحة في القرآن والأحاديث النبوية الصحيحة ومع التسليم بقدرة الله تعالى على كل شيء. والله تعالى أعلم. ويظل هذا الحادث من الأحداث التي يصح الحفاوة بها من قبل المسلمين مثل ليلة القدر ما دام قد حظي بحفاوة القرآن مثلها. ولا سيما أن ذلك أدى إلى

تعليق على تعبيري المسجد الحرام والمسجد الأقصى

الارتباط الوثيق بين المسلمين والمسجد الأقصى الذي بارك الله حوله. وغدت هذه البقاع بالنسبة للمسلمين من البقاع المقدسة المرتبطة بقرآنهم ورسولهم. ولقد رويت أحاديث نبوية في فضل المسجد الأقصى والعناية به ستأتي نصوصها بعد قليل. وفيها نبوءة نبوية بما صار من أمر المسجد الأقصى الذي لم يكن قائما في حياته، مما فيه تدعيم من جهة وإيجاب على المسلمين بتكريمه والاحتفاظ به والدفاع عنه من جهة أخرى. تعليق على تعبيري المسجد الحرام والمسجد الأقصى والتعبيران يأتيان هنا لأول مرة. وقد تكرر الأول مرارا، والثاني يذكره للمرة الأولى والوحيدة. وكلمة مسجد قد جاءت في سورة الأعراف لأول مرة، وشرحنا مداها في القرآن مما يغني عن التكرار، والمسجد الحرام كان يعني حين نزول الآية الكعبة والساحة التي حولها التي كان يقام فيها الطقوس والصلاة. وكان العرب يفعلون ذلك قبل البعثة على ما تفيده آية سورة الأنفال هذه وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً [25] ولقد كان مداها يتسع حتى يشمل منطقة مكة على ما تلهم آية سورة البقرة هذه وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ [191] وهذه يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [217] ولقد ورد هذا التعبير في أحاديث عديدة منها حديث رواه الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا تشدّ الرّحال إلا إلى ثلاثة مساجد، مسجدي هذا والمسجد الحرام ومسجد الأقصى» «1» ثم صار يطلق إطلاقا تطبيقيا على الساحة والأواوين المحيطة ببناء الكعبة الشريفة. وكلمة الحرام تعني المحرّم فيه العدوان والواجب الإحرام على ما شرحناه في سياق سورة قريش بما يغني عن الإعادة.

_ (1) التاج ج 1 ص 209.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 2 إلى 8]

وكلمة (الأقصى) بمعنى الأبعد أو البعيد جدا. وتعبير (المسجد الأقصى) عنى فيه نزول الآية مكان معبد بيت المقدس الذي أنشأه سليمان على الأرجح على ما شرحناه في سياق سورة ص. وكان المعبد حينئذ خرابا فأطلق التعبير عليه على اعتبار ما كان. وقد ذكر هذا التعبير في أحاديث نبوية وهو على ما هو عليه من خراب، من ذلك الحديث الذي أوردناه قبل. ومن ذلك حديث رواه أبو داود وأحمد وابن ماجه عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من أهلّ بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ووجبت له الجنة» «1» وحديث رواه أبو داود وابن ماجه عن ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت «قلت يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس فقال ائتوه فصلّوا فيه فإن لم تأتوه وتصلّوا فيه فابعثوا بزيت يسرج في قناديله» «2» . وأول من بنى مسجدا في ساحته هو الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان على أرجح الروايات وإطلاق المسلمين التعبير على هذا المسجد هو إطلاق تطبيقي للتعبير القرآني النبوي على ما هو المتبادر. ولما لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بناء لمسجد في هذه الساحة فيكون ذكره في الأحاديث على اعتبار ما كان وعلى اعتبار ما سوف يكون، وفي حديث ميمونة خاصة كشف نبوي بما سوف يكون، والله تعالى أعلم. [سورة الإسراء (17) : الآيات 2 الى 8] وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8)

_ (1) التاج ج 1 ص 210. (2) المصدر نفسه. [.....]

تعليق على أحداث بني إسرائيل المذكورة في أول هذه السورة

(1) ذرية من حملنا مع نوح: ذرية منصوبة على النداء تقديرها يا ذرية من حملنا مع نوح والمفسرون يروون عن أهل التأويل أن المقصود بالنداء بني إسرائيل على اعتبار أنهم من ذرية نوح. وهذا متبادر من فحوى الجملة وروحها. (2) قضينا: هنا بمعنى حكمنا أو أخبرنا أو قدرنا. (3) في الكتاب: أكثر المفسرين يفسرون الكتاب بالتوراة المنزلة على موسى أي أن الله أخبرهم فيها بما يكون من أمرهم وما يكون منه تجاه ذلك. والقاسمي في محاسن التأويل يقول إن الكتاب هنا بمعنى اللوح المحفوظ ويتبادر لنا أنها بمعنى علم الله وحكمه، والله تعالى أعلم. (4) ولتعلنّ علوا كبيرا: ولتتكبرنّ تكبرا كبيرا. والقصد من ذلك الإشارة إلى ما سوف يكون منهم من بغي واستكبار. (5) وعد أولاهما: وعد عقاب أولاهما. (6) جاسوا: تخللوا أو توغلوا أو اخترقوا. (7) أكثر نفيرا: أكثر عددا أو جندا. (8) ليسوؤوا وجوهكم: ليجعلوا المساءة بادية على وجوهكم من الحزن والقهر. (9) ليتبروا ما علوا: ليدمروا ما أنشئوه ورفعوه عاليا. تعليق على أحداث بني إسرائيل المذكورة في أول هذه السورة في هذه الآيات إشارة إلى بعض الأحداث التاريخية التي وقعت على بني

إسرائيل نتيجة لبغيهم وفسادهم وانحرافهم واغترارهم، وتقرير لسنن الله الكونية والاجتماعية فيهم: 1- فالله تعالى قد أتى موسى عليه السلام الكتاب وجعله هدى لبني إسرائيل ووصاهم بالتمسك به وعدم اتخاذ غيره وكيلا وربّا، ولا سيما أنهم من ذرية نوح ومن نجاه الله معه. وقد كان عبدا شكورا مخلصا لربّه ولهم به الأسوة الحسنة. 2- ولكنهم نقضوا وصية الله وأفسدوا وتكبروا، فكتب الله عليهم العقاب مرتين فيسلط في الأولى عليهم أناسا أقوياء فيدخلون بلادهم وينكّلون بهم ثم يتوب عليهم فيعودون إلى قوتهم ويعمرون بلادهم. وينذرهم الله بأنهم إذا أحسنوا سلوكهم وأخلصوا فنفع ذلك يعود عليهم، وإذا أساءوا وغدروا وانحرفوا فضرر ذلك يرجع إليهم حيث تحلّ بهم كارثة ثانية فيدخل الغزاة بلادهم وينتهكون حرمة مسجدهم ويدمروا ما شادوه وتربدّ وجوههم وتبدو عليها المساءة مما ينزل بهم من النكال والهوان. 3- وقد أبلغوا أيضا بأن الله ليس من شأنه أن يسدّ باب الرحمة في وجوه عباده وأن من الممكن أن ينالوا رحمته إذا أحسنوا وأخلصوا، ولكنهم إذا عادوا إلى البغي والظلم والكفران فيتكرر نكال الله بهم في الدنيا، وبأنه خصص جهنم للكافرين في الآخرة. ولقد قال المفسرون «1» إن الآيات جاءت استطرادية إلى ذكر ما آتاه الله موسى من الكتاب ليكون هدى لبني إسرائيل بعد ما ذكرت الآية السابقة ما كان من إسراء الله بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم ليريه من آياته. ولا يخلو القول من وجاهة وهو ما جرى عليه النظم القرآني. وبهذا تقوم الصلة بين هذه الآيات والآية الأولى من السورة. والآيات وإن كانت تذكر أن الله تعالى كتب على بني إسرائيل أن يقووا ويضعفوا مرتين متناوبتين فإن مما تتحمله العبارة أنها ليست لتقرير الحتمية لمرتين

_ (1) انظر تفسيرها في تفسير الطبري وابن كثير والخازن مثلا.

فقط كما أن من الممكن أن يكون المراد بها الإشارة إلى أشد حادثين تاريخيين وقعا أو يقعان عليهم أيضا. ولقد سجل التاريخ أن بني إسرائيل قووا وضعفوا وانحرفوا وصلحوا وبغوا وتابوا ونالهم النكال مرارا. ولقد سجل حادثين شديدين غزاهم في أحدهما ملوك الأشوريين سنحاريب وسرجون وأسرحدون في القرن الثامن قبل الميلاد ونسفوا دولة إسرائيل التي كان مركزها في السامرة وسط فلسطين والتي كانت تحكم معظم فلسطين ونفوا أهلها إلى بلادهم وأسكنوا محلهم جماعات أتوا بهم منها. وغزاهم في ثانيهما نبوخذ نصر ملك بابل في الثلث الأول من القرن السادس قبل الميلاد ونسف دولتهم الثانية «يهوذا» التي عاصمتها أورشليم (بيت المقدس) كذلك ونفى أكثرهم إلى بابل بعد تدمير العاصمة والمعبد ونهبهما. وهاتان الضربتان ذكرتا في سفري الملوك الأول والثاني في الطبعة البروتستانتية والثالث والرابع في الطبعة الكاثوليكية ثم في سفري أخبار الأيام الأول والثاني في الطبعتين. وكل هذه الأسفار متداولة اليوم. ولقد سجل التاريخ أيضا أنهم ضربوا بعد هذا بضربتين شديدتين من قبل الدولة السلوقية اليونانية التي حكمت بلاد الشام من القرن الثالث قبل الميلاد إلى أواسط القرن الأول، ثم من الدولة الرومانية التي حكمتها منذ أواسط القرن الأول قبل الميلاد. فقد أعاد ملك الفرس كورش الذي قضى على دولة بابل جماعات من المسبيين في بابل من بني إسرائيل إلى فلسطين فجددوا عاصمتهم ومعبدهم، ولكنهم بطروا وبغوا حينما صار الحكم للدولة السلوقية فضربتهم ضربة شديدة. وقد قووا بعد ذلك فبطروا وبغوا حينما صار الحكم للدولة الرومانية فضربتهم ضربة شديدة ودمرت عاصمتهم ومعبدهم وقتلت منهم خلقا كبيرا في القرن الأول بعد الميلاد فتشتتوا وظل أمرهم منتكسا ومعبدهم خرابا وكان الأمر كذلك حينما نزلت الآيات. والضربتان الأخيرتان ذكرتا في مدونات يهودية ويونانية ورومانية قديمة أيضا «1» .

_ (1) انظر كتابنا تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم ص 150- 179 و 235- 296 وص 82- 90 و 179- 196.

وفي الإصحاح السادس والعشرين من سفر الأحبار (اللاويين) تحذير رباني رهيب لبني إسرائيل بأنهم إذا نبذوا وصايا الله تعالى وانحرفوا عن طريق الحق وظلموا وبغوا فيسلط عليهم أعداءهم ويشدد نكاله فيهم كما أن هذا التحذير قد تكرر في أسفار عديدة بعد عهد موسى عليه السلام، مثل أسفار القضاة ونبوة أشعيا ونبوة أرميا مما فيه شيء من التطابق مع بعض ما جاء في الآيات. ومهما يكن من أمر فالمتبادر أن الآيات لا تستهدف بيان الأحداث التاريخية لذاتها، وإنما تقصد إلى تعليل ما وقع على بني إسرائيل وتقرير السنن الاجتماعية فيهم ليكون فيها العبرة والمثل للناس جميعهم على اختلاف الأزمنة والأمكنة. وهذا شأن القصص القرآنية عامة. واكتفاء الآيات بالإشارة المقتضبة مما ينطوي فيه قرينة على ذلك. وفي تفسير الطبري والبغوي بنوع خاص وفي غيرهما أيضا تفصيلات كثيرة ومسهبة في صدد الأحداث التي جرت لبني إسرائيل والمشار إليها في الآيات. منها المعزو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد في كتب الصحاح ومنها المعزو إلى ابن عباس وابن إسحق والسدي ومجاهد وابن وهب وغيرهم من أهل العلم والتأويل والأخبار في الصدر الإسلامي الأول. ومنها ما هو متطابق مع ما جاء في الأسفار والمدونات القديمة ومنها ما ليس متطابقا. ومنها ما فيه إغراب وخلط وتقديم لما هو متأخر وتأخير ما هو متقدم. مثل كون بختنصر هو ملك فارس وكون الله تعالى قد ملكه سبعمائة عام وكونه زحف على بيت المقدس وأقام يحاربها مائة عام. وقتله بدم يحيى بن زكريا سبعين ألفا إلخ إلخ. ولم نر طائلا ولا فائدة في إيراد ما أوردوه ولو ملخصا لأنه غير متصل بأهداف الآيات وإن كان يدل على أن الأحداث المقصودة بالتذكير والتمثيل لم تكن مجهولة من سامعي القرآن مما يجعل الأهداف محكمة شأن سائر القصص القرآنية. والمتبادر أن من أهداف الآيات تقرير كون الفساد والتكبّر والتجبّر في الأرض سيكون سيء العقبى على أصحابه وبلادهم في الدرجة الأولى. وكون الإحسان في

[سورة الإسراء (17) : الآيات 9 إلى 10]

السلوك والتزام حدود الحق والعدل والاستقامة سيكون حسن العقبى على أصحابه وبلادهم في الدرجة الأولى كذلك. [سورة الإسراء (17) : الآيات 9 الى 10] إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) (1) التي هي أقوم: الطريق الأفضل والأصلح الذي فيه قوام حياة البشر وسعادتهم. الآيتان جاءتا معقبتين أو نتيجتين لما تقدمهما كما هو المتبادر. فبعد أن ذكر في الآيات السابقة الكتاب الذي آتاه الله تعالى موسى ليكون هدى لبني إسرائيل، وأشير إلى ما كتب الله على بني إسرائيل من عقاب دنيوي بسبب بغيهم وفسادهم جاءتا لتقررا أن الله أنزل القرآن أيضا ليهدي الناس إلى أفضل السبل وأصلحها وليبشر المؤمنين الصالحين بالأجر الكبير وينذر الكافرين بعذاب الآخرة الأليم. وواضح من روح الآيتين وفحواهما أن ما يهدي القرآن إليه من الطريق الأقوم شامل لصلاح البشر وسعادتهم في الدنيا والآخرة معا. ويلحظ أمر مهم حين المقارنة. فقد ذكر في الآيات السابقة أن الله تعالى قد جعل الكتاب الذي آتاه موسى هدى لبني إسرائيل، بينما جاءت الآيتان مطلقتين ليشمل هدى القرآن جميع الناس ولتبشرا المؤمنين الصالحين من جميع الناس بالأجر. والكافرين منهم بالعذاب إطلاقا ما هو متسق مع عموم الرسالة المحمدية على ما قررته آيات عديدة مرّت أمثلة بها. وفي الآيتين تأييد لما قلناه في مناسبات سابقة من أن كلمة (القرآن) أريد بها في الأصل التعبير عما في القرآن من أسس الدعوة ومبادئها.

تعليق على تكرر التنويه بالقرآن في هذه السورة بخاصة وفي القرآن بعامة وما ورد في ذلك من أحاديث

تعليق على تكرر التنويه بالقرآن في هذه السورة بخاصة وفي القرآن بعامة وما ورد في ذلك من أحاديث ومن الجدير بالتنبيه أن هذه الآيات ليست الوحيدة في هذه السورة التي احتوت تنويها بالقرآن. حيث تكرر ذلك مرارا على ما سوف يأتي التنبيه إليه. وجاء في ما جاء إعلان رباني بأن الجن والإنس لو تظاهروا سيكونون عاجزين عن الإتيان بمثله. حيث يبدو من ذلك أن القرآن كان موضوع أخذ وردّ شديدين بين النبي والكفار في ظرف نزول السورة. ولقد احتوت هذه السورة فصولا عديدة فيها جماع أسباب الصلاح والسعادة والنجاة للبشر في الدنيا والآخرة حيث يمكن أن يكون تكرار التنويه متصلا بهذا أيضا. على أن من الواجب أن ننبه مع ذلك إلى أن التنويه بما في القرآن من هدى ورحمة وإحكام وحكمة وبينات وذكرى قد تواصل في مختلف السور المكية والمدنية فضلا عن أنه كان موضوع قسم رباني في مطالع السور مما مرّ منه أمثلة ومما فيه معنى التنويه. ويبدو هذا منسجما مع حكمة الله عز وجل التي شاءت أن يكون القرآن معجزة النبوة المحمدية الكبرى. وهناك أحاديث نبوية عديدة منها ما ورد في كتب الصحاح فيها تنويه بالقرآن وما فيه من هدى ورحمة وفضل نكتفي منها بهذا الحديث الشامل الذي رواه الترمذي عن الحارث الأعور قال «مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث فدخلت على عليّ رضي الله عنه فقلت يا أمير المؤمنين ألا ترى أن الناس قد خاضوا في الأحاديث. قال وقد فعلوها قلت نعم، قال أما إني قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ألا إنها ستكون فتنة فقلت ما المخرج يا رسول الله قال كتاب الله، فيه نبأ ما كان قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل. من تركه من جبّار قصمه ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا

[سورة الإسراء (17) : الآيات 11 إلى 12]

تلتبس به الألسنة. ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الردّ، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجنّ إذ سمعته حتى قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرّشد، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل. ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم» «1» . [سورة الإسراء (17) : الآيات 11 الى 12] وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12) (1) مبصرة: منيرة أو مضيئة. في الآية الأولى إشارة تنديدية إلى خلق من أخلاق كثير من الناس حيث تقرر أنهم طبعوا على العجلة في أمورهم سواء أدت إلى شرّ أم إلى خير. وهم يستعجلون بأعمالهم الشرّ مثل استعجالهم الخير. وفي الثانية تقرير رباني بأن الله قد جعل الليل والنهار من أدلة حكمة النواميس الكونية التي أبدعها فجعل النهار مضيئا ليسعى الناس فيه ويحصلوا من فضل الله على وسائل عيشهم وقوام حياتهم. وجعل الليل مظلما ليسكنوا فيه ويستريحوا، وبالإضافة إلى ذلك فإنه جعل الليل والنهار وسيلة لمعرفة السنين وحساب الأيام. وهو يبين للناس في قرآنه كل أمر ليدركوا حكمته البالغة وقدرته الشاملة. ويتبادر لنا أن الآيتين غير منقطعتين عن الآيتين السابقتين لهما. ويبدوا أن الكفار حينما سمعوا ما احتوته الآيتان السابقتان من بشرى للمؤمنين وعذاب للكافرين تحدوا النبي صلى الله عليه وسلم بتعجيل العذاب على عادتهم فنزلت الآيتان للرد عليهم

_ (1) التاج ج 4 ص 6- 7 انظر أحاديث أخرى في التاج ج 4 ص 3- 5 وننبه على أن هناك من يتوقف في رواية الأعور وقد قال بعضهم إن الحديث مرفوع. وقال بعضهم إنه من كلام علي رضي الله عنه. وما احتواه الحديث احتوته آيات القرآن وتقريراته جملة وتفصيلا.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 13 إلى 15]

ففي أولاهما نددت بهم لاستعجالهم الشرّ والعذاب كما لو كان خيرا. وفي ثانيتها نبهتهم إلى أن لكل شيء موعدا وأجلا، فالعاجل لا يكون آجلا بالدعاء والطلب، والآجل لا يكون عاجلا به أيضا، كما هو شأن تعاقب الليل والنهار وشأن حساب الأيام والسنين، فلا الليل سابق النهار ولا السنون سابقة للأيام فكل شيء يكون في وقته المعين له. ومدى ما احتوته الآيتان من تنبيه وتنديد وتوضيح وتعليم شامل على كل حال لسامعي القرآن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعده على ما هو المتبادر من أسلوبها وفحواها. وقد تكرر ذلك في آيات عديدة مرّ بعضها لأن ما احتوته الآيتان متصل بحياة الناس وشؤونهم وأخلاقهم بعامة. وننبه بصورة خاصة إلى صيغة الآية الثانية حيث ينطوي فيها تنبيه إلى أمر يشاهده ويمارسه الناس وسامعوا القرآن الأولون من الجملة وهو كون النهار ظرفا للسعي والتكسب الذي عبر عنه بجملة لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [12] ولكون الليل والنهار وسيلة إلى معرفة دوران الزمن وحساب الأيام والسنين. وهو أسلوب القرآن عامة في تقرير مشاهد الكون ونواميسه. فلا ينفي أن يتجاوز الأمر الهدف الملموح في الآيات وهو التدليل على آثار نعمة الله ونواميسه في الكون إلى التمحل والتجوز لإثبات نظريات فنية من الآيات القرآنية على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. [سورة الإسراء (17) : الآيات 13 الى 15] وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) (1) طائره: كناية عن عمله أو علامة طالعه من سعد وشؤم. (2) منشورا: مفتوحا أو معلنا. في الآيات بيان رباني بأن كل إنسان في الآخرة ملزم بعمله وعليه تبعته إن

تعليق على مدى الآية من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ... وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا

خيرا فخير وإن شرا فشر، وأن الله تعالى سيخرج له كتاب أعماله مفتوحا ويقول له اقرأه وحاسب نفسك على ما فيه واحكم عليها وفاقا له وأن المهتدي إنما ينفع نفسه باهتدائه وأن الضال إنما يضر نفسه بضلاله، وأنه لا يحمل أحد تبعة عمل أحد ولا مسؤوليته، وأن من تمام حكمة الله وعدله ألا يعذب أحدا حتى ينذره بلسان رسول من قبله يعرف بواسطته طريق الهدى وطريق الضلال حتى يكون ما يلقاه من عذاب أو ثواب في الآخرة قد استحقه وناله عدلا وحقّا. والآيات متصلة بما سبقها اتصال سياق وتعقيب على ما هو المتبادر، وفيها قرينة مرجحة للتأويل الذي أولنا الآيات السابقة به. والمتبادر كذلك أنها بالإضافة إلى حقيقة الحساب والثواب والعقاب الأخروية التي يجب الإيمان بها بسبيل تنبيه السامعين إلى أن كل ما يفعلونه في الدنيا محصي عليهم ومحاسبون عليه وحملهم على اجتناب الكفر والإثم والإقبال على الإيمان بالله والعمل الصالح. وفي الآية الأخيرة صراحة قطعية بتقرير قابلية الاختيار للإنسان، وكون ما يلقاه جزاء عمله من نعيم وعذاب هو جزاء على هذا الاختيار وفيها كذلك تقرير لحكمة إرسال الرسل حيث يبينون للناس الحدود التي لا يستطيعون معرفتها بعقولهم واجتهادهم. ولقد شرحنا موضوع كتب أعمال الناس التي سوف تعلن لهم يوم القيامة في سياق تفسير سورة (ق) فنكتفي بهذه الإشارة. تعليق على مدى الآية مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ... وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا في كتب التفسير تأويلات وتعليقات حول محتوى هذه الآية: فأولا: إن بعضهم يفسر كلمة (رسول) بالعقل الإنساني ويوجب على الإنسان

العاقل بأن يؤمن بالله وحده وباليوم الآخر ويعمل العمل الصالح سواء أبلغته دعوة ربانية بطريق رسول أم لم تبلغه. ويجعل مصيره الأخروي مماثلا لمصير من بلغته دعوة مثل هذه. وبقطع النظر عن وجاهة مسؤولية العاقل الراشد عن هداه وضلاله بالذات فالذي يتبادر لنا أن المقصود بالكلمة هو النبي الذي يرسله الله لدعوة الناس وبيان الحدود التي يجب أن يسيروا في نطاقها مما قد لا يستطيع العقل تبينه وحده وأن في ذلك التفسير تحويلا للكلام لا يتحمله المقصود القرآني. وفي القرآن آيات عديدة مؤيدة لذلك منها آيات سورة الشعراء [208 و 209] وآية سورة القصص [59] وآية سورة طه [134] اللتين مرّ تفسيرهما حيث تذكر أن الله لا يهلك ولا يعذب أمة وقرية إلا بعد أن يرسل إليها رسولا يتلو عليها آياته ويبلغها دعوته. وثانيا: ويدور جدل حول ما إذا كان ما قررته الآية من قابلية الإنسان للاهتداء والضلال ومسؤوليته عن ذلك وعدم مسؤولية أحد عن عمل غيره متناقضا أو غير متناقض مع آيات أخرى فيها تقرير كون الله خالق كل شيء بما في ذلك أفعال الناس وكون ما يقع منهم إنما يقع بمشيئة الله. وهذا الجدل يدور حول كل عبارة مماثلة مما مرّت أمثلة منه. ولقد شرحنا هذا الأمر في المناسبات السابقة بما رأينا أنه الحق إن شاء الله. وإن كان من شيء نزيده هنا هو أن المتبادر من روح الآية ومقامها أنها على سبيل الإنذار والتنبيه ليكون في ذلك رادع وحافز للسامعين وأن الأولى أن تتلقى على هذا الاعتبار وتبقى في نطاقه. ومع ذلك فإن من الممكن أن يقال إن قابلية الإنسان للاهتداء والضلال التي تقررها هذه الآية وأمثالها بصراحة هي من مشيئة الله تعالى المودعة في جبلّته فيزول بذلك وهم التناقض الذي لا يصح أن يفرض بين العبارات القرآنية والله أعلم. وثالثا: وبين علماء الكلام القدماء جدل على هامش هذه الآية وأمثالها حول ما إذا كان يجب على الله تعالى إرسال الرسل لهداية الناس وما إذا كان يجب على الله تعالى جزاؤهم وفق أعمالهم. وما إذا كان يجب على الله تعالى الأصلح لهم.

مذهب السلف الصالح في فهم القرآن وأسباب انفتاح باب الجدل والكلام حوله

ومع أن القرآن قرر في مواضع عديدة مرّت أمثلة منها أن الله عز وجل لم يعذب الناس إلّا بعد أن يرسل إليهم الرسل والمنذرين ويكفروا برسالاتهم وبالله ويبغوا ويفسدوا. وإن عذاب من يعذبهم وثواب من يثيبهم منهم نتيجة لمواقفهم من دعوة رسله ومنذريه هو حق عليه. وأنه ليس بظلام للعبيد. فإننا نرى واجب السملمين اليوم أن يكفوا عن مجاراة علماء الكلام القدماء في ما كانوا يقولونه حينما كانوا يتجادلون مع بعضهم. وأن يكتفوا بما قرره القرآن ويقفوا عنده دون مماحكة ومراء وأن يتذكروا أن الله الحكيم العادل يعامل خلقه بمقتضى هاتين الصفتين وكفى. ورابعا: لقد أثار المفسر ابن كثير في سياق هذه الآية مسألة المصير الأخروي لمن يموتون في طفولتهم والمجانين والصمّ والبكم والذين لم تبلغهم دعوة ربانية بواسطة رسله وكتبه. وقد أورد ابن كثير أحاديث عديدة معزوّة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيها تضارب وغرابة ووصف بعضها بالمرفوع وبعضها بالضعيف. وليس فيها حديث صحيح يمكن الاحتجاج به نفيا وإثباتا في هذه المسألة ولم نطلع نحن أيضا على مثل هذا الحديث. وما دام في القرآن نصوص صريحة بأن الله لا يعذب إلّا بعد أن يرسل رسلا ومنذرين ويكفر الناس بهم وأن الله لا يكلف نفسا إلّا وسعها ويدخل في مدى هذا التكليف الرباني الذي يترتب عليه الثواب والعقاب والذي إنما يكون بالنسبة للراشدين العاقلين الذين تبلغهم رسالات الله بواسطة رسله فإننا نرى الأولى أن يوقف في هذه المسألة عند هذه النصوص من الوجهة الكلامية. ونرى في الوقت نفسه أن في إثارتها في نطاق وسياق الآية تكلفا لا ضرورة له ولا طائل منه، والله تعالى أعلم. مذهب السلف الصالح في فهم القرآن وأسباب انفتاح باب الجدل والكلام حوله ومن الجدير بالذكر في هذه المناسبة- ويصح أن يذكر في كل مناسبة مماثلة سابقة ولا حقة- أن السلف الإسلامي الأول رضي الله عنه كان يأخذ القرآن بمفهومه

[سورة الإسراء (17) : الآيات 16 إلى 17]

المتبادر الذي كان يعيش في جوه، ولا يحمّله غير ما يحمل ولا يحاول التخمين والتزيّد ولا يثير الإشكالات والفروض بسبيلها، وكل ما كان من ذلك قد كان بعد أن اشتدت الفتن والخلافات السياسية ومزجها أهلها بالدين واستغلوا نصوص القرآن وأوّلوها وفق أهوائهم، ثم ترجمت كتب المنطق والفلسفة اليونانية وولع بها بعض المسلمين وصاروا يطبقونها على النصوص القرآنية واندست بينهم عناصر مريبة، فتفاقم الخطب وانفتح باب الجدل والكلام على مصراعيه حتى كادوا يقفون عند كل آية ويتجادلون فيها، فأدى ذلك إلى شيء كثير من البلبلة والتشويش في سياق تفسير القرآن وتأويل آياته مما هو مبثوث في كتب علماء الكلام والشيعة وفرقها المتعددة. وأفضل خطة لنظر القرآن وفهمه هي خطة ذلك السلف الصالح التي نوهنا بها أولا، وتأويل القرآن بالقرآن ثانيا. والمتدبر في القرآن يرى معجزة باهرة فيه، حيث يجد في مكان ما تفسيرا وتأويلا وحلّا لعبارة ما في مكان آخر قد تثير في نفسه إشكالا أو وهما، بل وإنه كثيرا ما يجد ذلك في نفس الآية التي فيها العبارة أو في سياقها القريب السابق أو اللاحق. وهذا مصداق قول الله تعالى أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [82] النساء. وقد مرّت أمثلة كثيرة من ذلك في المناسبات السابقة ونبهنا إليها. [سورة الإسراء (17) : الآيات 16 الى 17] وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) (1) أمرنا: تعددت قراءة الكلمة كما تعدد تأويلها، فقرئت آمرنا بمعنى أكثرنا أي أكثرنا عدد المترفين. وأمّرنا بمعنى جعلناهم أمراء وسادة، وأمرنا بمعنى طلبنا

تعليق على آية وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها إلخ وتلقيناتها

منهم، وأوّل بعضهم جملة أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها [16] بمعنى أمرناهم بالطاعة ففسقوا بسبب ترفهم وانحرافهم. وأوّلها بعضهم بمعنى أغدقنا عليهم نعمنا فبطروا وفسقوا، ونفى المفسرون أن يكون معناها أمرناهم بالفسق لأن الله لا يأمر بالفحشاء على ما جاء في آية سورة الأعراف [28] والنفي سديد وحق. (2) مترفيها: الكلمة هنا كناية عن الزعماء والوجهاء والأثرياء لأنهم هم الذين تيسّر لهم أن يحيوا حياة الترف والنعيم. (3) فسقوا: عصوا وتمردوا. تعليق على آية وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها إلخ وتلقيناتها في الآيات تقرير رباني بأن الله تعالى إنما يهلك الأمة أو البلدة ويدمرها بفسق زعمائها ومترفيها ووجهائها وأثريائها إذا ما اغتروا بما صار لهم من مال وجاه فكفروا بنعمة الله وانحرفوا عن طريق الحق والفضيلة وبأن الله قد أهلك على هذا الوجه كثيرا من الأمم والمدن من بعد نوح، وهو الأخبر الأبصر بذنوب عباده وما يستحقون عليها من عذاب وعقاب. والآيات متصلة بسابقاتها كذلك اتصال سياق وتعقيب كما هو المتبادر، ويتبادر لنا أنها تنطوي على إنذار للكفار الذين هم موضوع الكلام وبخاصة لزعمائهم الذين حكت آيات كثيرة- مرت أمثلة عديدة منها- أنهم كانوا مغترين بقوتهم وأموالهم وأن ذلك جعلهم يقفون موقف المناوأة للدعوة النبوية التي خافوا منها على جاههم وزعامتهم وأموالهم. أما الإنذار لسائر الكفار المنطوي في جملة فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فهو في تنبيههم إلى أن نكال الله وتدميره لا يقتصر على المترفين الفاسقين ذوي الحكم والنفوذ بل سوف يشملهم أيضا إذا ظلوا يطيعونهم ويستجيبون إليهم ولا يستجيبون إلى دعوة الله تعالى. والكفار السامعون كانوا يعرفون أنباء نكال الله في الأمم السابقة على ما شرحناه في مناسبات سابقة فلزمتهم الحجة. وفي ذلك تلقين جليل مستمر المدى.

وليس من محل للتوهم بما جاء عليه أسلوب الآية. والظن بأن الله عز وجل يدمر قرية ما اعتباطا بدون سبب منها بأمر مترفيها أن يفسقوا فيها ليحل عليها القول كما ذهب إلى ذلك بعض الملحدين «1» . ويمنع هذا الظن الآية التي سبقت الآية والآيات التالية منعا حاسما كما يمنعه آيات كثيرة منها وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ هود [117] ووَ ما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ القصص [59] . ومع ما في هذا الشرح من تلقين مستمر المدى. ومع صواب تخريجات المؤولين لمدى الآية التي أوردناها في شرح العبارة سابقا فإنه يتبادر لنا أن الآية تنطوي على تقرير ناموس من النواميس التي أقام الله عليها المجتمعات البشرية. وهو أن المترفين إذا صار لهم الأمر في بلد ما وفسقوا فيها وسكت أهل البلد عليهم استحقوا الدمار والهلاك منهم. وهذا وارد في آية سورة الأنفال هذه وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [25] حيث توجب على المجتمع أن يمنعوا الفتنة فإن لم يفعلوا لا تقتصر عاقبتها على مشعليها فقط بل تصيب الجميع لأنهم قصروا في منعها. وفي هذا المعنى حديث رواه أصحاب السنن عن أبي بكر قال «سمعت رسول الله يقول إنّ الناس إذا رأوا الظّالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم بعقاب» . وقد يكون في الآية إلى هذا قصد التقرير بأن من النواميس التي أقام الله المجتمعات عليها أن يكون القائمون على المجتمع النافذون الحاكمون فيه صالحين أحيانا وفاسقين أحيانا فإذا ما تولاه الأخيرون صار أمره إلى الدمار والفساد. وقصد التقرير بأن للزعماء تأثيرا في حالة أممهم صلاحا وفسادا على اعتبار أنهم يتأثرون بهم ويقلدونهم. وقصد التنبيه إلى عظم مسؤولية هذه الطبقة وخطورة الدور الذي تقوم فيه في أممهم وبلادهم والتنويه بواجب الجمهور تجاههم فيؤيدونهم إذا كانوا صالحين ويقفون في وجههم إذا كانوا فاسقين. والله تعالى أعلم.

_ (1) انظر كتاب نقد الفكر الديني لصادق العظم.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 18 إلى 21]

[سورة الإسراء (17) : الآيات 18 الى 21] مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) (1) العاجلة: كناية عن الدنيا وزينتها. (2) مدحورا: مطرودا ومبعدا. (3) محظورا: ممنوعا. في الآيات تقرير رباني بأن الله يمكن أن يحقق أمل من يشاء من الذين يرغبون في متاع الحياة الدنيا وزينتها فقط دون اهتمام بالعواقب ولكن مصير هؤلاء في الآخرة إلى جهنم يدخلونها مذمومين مطرودين من رحمة الله. أما الذين يفكرون في الآخرة ويحسبون حسابها ويفضلون ما فيها من خير دائم على متاع الحياة القصيرة فيؤمنون بالله ويعملون الأعمال الصالحة فإن سعيهم عند الله مشكور ومثاب عليه. وفيها تقرير رباني كذلك بأن ما يتمتع به هؤلاء وهؤلاء في الدنيا هو من فضل الله الذي يمدهم به على ما فيه من تفاضل وتفاوت، وبأن هذا التفاوت والتفاضل في الآخرة أعظم وأكبر. والآيات متصلة بسابقاتها اتصال تعقيب وسياق أيضا. والمتبادر أنه انطوى فيها تحذير وإنذار للكفار وتطمين للمؤمنين، فإذا كان الكفار وبخاصة زعماؤهم المترفون قد حظوا بالمال والجاه وشغلوا بهما عن الآخرة فسوف يكون مصيرهم إلى جهنم مذمومين مدحورين. أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإنهم بذلك قد أرادوا الآخرة وسعوا لها سعيها وسوف تكون منزلتهم عند الله هي الفضلى والكبرى.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 22 إلى 39]

وقد انطوى فيها تلقين مستمر المدى أيضا. فقد اقتضت حكمة الله تعالى ألا يمنع متاع الدنيا ووسائلها عن الناس وأن يكون ذلك في متناولهم فإذا شاء أن ييسر لأحد نصيبا وحظّا فليس معناه أنه راض عنه وإنما معناه أنه تحت الاختبار فعليه ألّا يكتفي بذلك ويغتر وينشغل به عن التفكير في العواقب وأن يفكر في الآخرة ويسعى في سبيل النجاة من أهوالها ونيل رضاء الله ونعيمه فيها بالإيمان والعمل الصالح. وواضح أن الآيات بهذا الشرح المستلهم من روح الآية والنصوص القرآنية الأخرى لا تتضمن تقبيح الاستمتاع بالحياة الدنيا وزينتها وإنما تتضمن التحذير من الاستغراق فيها استغراقا ينسى صاحبه التفكير في العواقب والقيام بواجباته نحو الله والناس. وجملة وَهُوَ مُؤْمِنٌ في الآية الأولى هي قيد تنبيهي سبق وروده في الآية [112] من سورة طه. ونبهنا على ما انطوى فيه من مغزى هام. فنكتفي بهذه الإشارة. [سورة الإسراء (17) : الآيات 22 الى 39] لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39)

(1) مخذولا: لا نصير له ولا مؤيد. (2) واخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة: واخفض لهما جناحك متذللا من فرط رحمتك بهم. (3) الأوابين: التائبين الراجعين إلى الله. (4) وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا: بمعنى إذا لم تستطع مساعدتهم فورا وتأخرت في ذلك انتظارا ليسر تنتظره من الله فعليك أن تطيّب قلوبهم بالقول. (5) مغلولة إلى عنقك: مقيدة. والجملة كناية عن شدة الإمساك والتقتير. (6) محسورا: أصل الحسر بمعنى الكشف. والحسرة هي انكشاف ما كان مانعا من الغمّ. وقيل إن الحسر هو الكلال والعجز. والكلمة على كل حال بمعنى فناء جميع ما في اليد والعجز والحسرة بعد ذلك. (7) يبسط: يوسع. (8) يقدر: يضيق ويقتر ولعلّ معناها اللغوي هو أن الرزق أحيانا يكون بحساب وقدر محدود. وفي القرآن آيات تذكر مقابل ذلك أن الله يرزق من يشاء بغير حساب.

تعليق على مجموعة الوصايا الربانية الرائعة في السورة

(9) الإملاق: الفقر والعجز عن الإعالة. (10) خطأ: ذنبا وإثما. (11) إنه كان منصورا: إن له حق النصر والقصاص وليس له الإسراف في الانتقام. (12) القسطاس المستقيم: الميزان المضبوط السليم من الغش. (13) أحسن تأويلا: هنا بمعنى أحسن عاقبة، من الأيلولة. (14) ولا تقف ما ليس لك به علم: من القيافة وهي تتبع الأثر. ومعنى الجملة لا تتدخل فيما ليس لك به علم وشأن. الآيات واضحة الألفاظ والمعاني لا تحتاج إلى أداء آخر. والمتبادر أنها جاءت بعد الآيات السابقة لها التي ذكرت الفرق بين الراغب في الآخرة والساعي لها بالإيمان والعمل الصالح وبين المستغرق في الحياة الدنيا المنشغل بها عن التفكير في العواقب لتستطرد إلى بيان الحدود التي يجب على الناس أن يسيروا في نطاقها لنيل رضاء الله وضمان السعادة في الدنيا والآخرة معا. ويلمح صلة أخرى بين الآيات وبين أوائل السورة أيضا. فكما آتى الله موسى عليه السلام الكتاب وجعله هدى لبني إسرائيل وأوحى إليه بوصاياه وحكمه أنزل الله تعالى القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وجعله هاديا للناس جميعا إلى التي هي أقوم، وأوحى إليه بوصاياه وحكمه كذلك. تعليق على مجموعة الوصايا الربانية الرائعة في السورة والآيات مجموعة رائعة من الحكم والوصايا المتصلة بعقيدة التوحيد وواجب الإنسان تجاه والديه وأقاربه والمساكين وأبناء السبيل والأيتام من برّ وقول معروف وحفظ حق، ثم واجب الاعتدال والقصد في حالة اليسر وعدم التبرّم بأحداث الحياة وضيق المعيشة وكثرة الولد في حالة الفقر والعسر. ثم واجب احترام أعراض الناس ودمائهم وعهودهم وأسرارهم واجتناب الإثم والفحش والبغي والكبر والخيلاء والتصدي للأمور بدون علم وبينة وفائدة بأسلوب قوي محكم الحلقات.

تعليق على الآية إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إلخ

وقد سبق في سورة الفرقان مجموعة رائعة. غير أنها جاءت بأسلوب التنويه بأخلاق عباد الله الصالحين، في حين جاءت هذه بصيغة الأوامر والنواهي والوصايا والإلزام والتنبيه، وهي من هذه الناحية ومن ناحية شمولها أجمع وأقوى جوامع القرآن في صدد الأخلاق الدينية والاجتماعية والشخصية التي من شأنها أن تكفل رضاء الله وعنايته، وأن تحفظ الناس من الشرور والمهالك وأن تضمن لهم السعادة والطمأنينة، وأن تبثّ فيهم روح التعاون والتراحم والإخاء، وأن تجنبهم ما لا يليق بالكرامة الإنسانية والشعور الإنساني من مواقف وحركات. ومما يحسن لفت النظر إليه أن الوصايا لم تذكر مجردة وإنما ردفت بأسباب التحسين والتقبيح العقلية وصيغت بأسلوب مؤثر مقنع مما امتاز به الأسلوب القرآني بوجه عام، كذلك من الجدير بالذكر أن الأوامر والوصايا جاءت بأسلوب الترغيب والتحذير والترهيب دون التشريع. لأن هذا إنما كان في العهد المدني الذي صار للمسلمين فيه دولة برئاسة النبي صلى الله عليه وسلم. ومع ذلك فمعظم ما نزل فيه تشريع مدني من المحذورات والمحظورات والواجبات والتكاليف قد ذكرت بأسلوب الترغيب والتحذير في القرآن المكي حيث ينطوي في هذا أن أسس الرسالة الإسلامية ومحكماتها أصيلة وطيدة منذ البدء. وفي هذا ردّ على المغرضين الذين يقولون كذبا وافتراء إن الإسلام ونبيّه قد تطوّرا وتحوّلا عمّا كانا عليه في العهد المكي حتى الجهاد الذي هو دفاعي في الإسلام قد احتوى القرآن المكي نواته في آية من آيات سورة الشورى على ما سوف نشرحه في مناسبته. تعليق على الآية إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إلخ هذه الآية جاءت في وضعها بمثابة تهدئة وتنبيه للناس. فقد جرت عادة الله عزّ وجل على بسط الرزق وتقتيره لأنه الأخبر الأبصر بمصالح عباده. وقد يلمح فيها مع ذلك إلى هذا والله تعالى أعلم قصد الإشارة إلى النظام

صور من تقاليد العرب وعاداتهم

الذي أقام الله عليه المجتمع البشري والذي من مقتضاه أن ينبسط الرزق لفريق ويضيق على فريق. أو أن ينبسط في ظرف ويضيق في ظرف آخر حسب نواميس الخلق والاجتماع والاقتصاد الربانية وما من آثار ذلك من تفاوت الناس في النشاط والمواهب والفرص. وهذا كله قد تكرر في آيات مماثلة في سور أخرى. منها آيات سورة الفجر فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلَّا ... وقد نبهنا فيها إلى تلك النواميس. ومنها آيات سورة الروم [37] وسورة سبأ [36] والمعنى الملموح يبدو أكثر وضوحا في هاتين الآيتين على ما سوف نشرحه بعد. صور من تقاليد العرب وعاداتهم ولقد احتوت الآية [31] صورة من صور ما كان العرب أو بعضهم يفعله في الأزمات الغذائية حيث كانوا يقتلون أطفالهم تخلصا من كثرة العائلة وما تسببه من ضيق وإملاق والمتبادر أن هذه الصورة هي غير ما كان من عادة ذبح الأبناء قرابين للمعبودات والأصنام مما ينطوي في آية سورة الأنعام هذه وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137) وهي على الأرجح غير ما كان من وأد البنات أحياء مما ذكرته آيات سورة النحل هذه وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) على ما سوف نشرحه بعد. واحتوت الآية [33] كذلك صورة لما كان عليه العرب في حالة وقوع حادث قتل حيث كان أولياء القتيل يسارعون إلى الأخذ بثأرهم اعتباطا فلا يتقيدون بقتل القاتل وإنما يقتلون غيره من ذوي قرباه ويسرفون أحيانا في الثأر والانتقام، لا سيما إذا كانوا أقوى من أرومة القاتل. وقد سلمت الآية بحق وليّ القتيل في القصاص ثم نهته عن إساءة استعمال هذا الحق. حيث انطوى في ذلك إيذان بالقضاء على عادة

تنويه بما احتوته الآيات من تلقينات هامة

جاهلية ظالمة وتنبه على أن المفسرين بالإضافة إلى حملهم الآية على ما ذكرناه حملوا جملة فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ على محمل آخر أيضا حيث قالوا إن الخطاب فيها موجه إلى من يريد أن يقترف فعل قتل من باب التحذير ولا يخلو هذا من وجاهة وإن كان حملها على أنها خطاب لولي المقتول أكثر وجاهة لأنه الأقرب للكلام. تنويه بما احتوته الآيات من تلقينات هامة ويلفت النظر خاصة: (1) إلى الوصية بالإخلاص لله وحده ثلاث مرات. مرتين في أول المجموعة ومرة في ختامها. ولعل الحكمة في هذا بالإضافة إلى أنه من أهم الأهداف الرئيسية للرسالة المحمدية هو قصد التوكيد على أن الإيمان بالله تعالى وحده وعبادته ونبذ ما سواه هو رأس كل خير وصلاح وسبب السعادة في الدنيا والآخرة. فهو يملأ القلب بالطمأنينة والشعور بالغنى عن الغير. ويجعل صاحبه يعزف عن الخضوع للغير ويلتزم أوامر الله ونواهيه التي فيها قوام الحياة وسعادة الدارين. (2) إلى التوكيد القوي النافذ على البرّ بالوالدين وجعله. في الذكر بعد حق الله تعالى على الإنسان حيث يدل هذا على عناية القرآن بهذا الواجب الإنساني العظيم. وقد تكرر هذا كثيرا في القرآن. وهو حقّا امتحان لقلب المرء وروحه وعاطفته وطويته وشكره وجحوده. فالذي لا يعترف بحق والديه ولا يقوم به على الوجه الأفضل التام أولى به ألّا يعترف بحق الله وحق الغير، والذي يقسو عليهما أولى به أن يكون أشد قسوة وكفرانا للغير. ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن جملة وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً في الآية [24] قد نسخت باية سورة التوبة هذه ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) والمتبادر أن النسخ وارد بالنسبة للوالدين الكافرين إذا ماتوا كفارا وحسب. وأن الجملة هي مع ذلك بسبيل أمر الله تعالى للأولاد بأن يظلوا

معترفين بما كان لآبائهم عليهم من فضل العناية والتنشئة في ظرف طفولتهم وعجزهم وشدة الحاجة إلى ذلك. (3) إلى استعمال كلمة حَقَّهُ في سياق معاونة ذي القربى والمسكين وابن السبيل حيث انطوى فيها تقرير قوة الواجب على القادر تجاه أقاربه والطبقات المعوزة واعتبار ذلك حقا وليس منة. وذكر ذي القربى بخاصة ينطوي فيه تلقين بكون مساعدة ذوي القربى المحتاجين وغير المحتاجين قرينة من القرب. بالإضافة إلى ما فيها من صلة للرحم وتلقين الامتناع عما يقع كثيرا من الجنف والبغي بين الأقارب. (4) إلى النهي القوي عن التبذير ووصف المبذرين بإخوان الشياطين زيادة في التشديد والتنديد. وما ينطوي في ذلك من حظر إنفاق المال في غير وجهه الحق والنافع وبكلمة أخرى حظر إنفاقه في الترف السفيه في المسكن والملبس والزينة واللهو والفسق والفجور والاستعلاء والفساد في الأرض. في حين يكون السواد الأعظم من خلق الله مرتكسين في الحرمان والجوع والمرض. وتقرير كون ذلك من وساوس الشياطين المؤدية إلى الهلاك في الدنيا والآخرة. (5) إلى ما في جملة رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) من تقرير كون نيات الناس وأخلاقهم هي المقياس لتصرف الله عز وجل نحوهم بالرحمة والنقمة مما قررته آيات عديدة بأساليب متنوعة مرّت أمثلة منها ومما فيه حثّ على الصلاح وتحميل الناس مسؤولية ما يقع عليهم. (6) إلى التعليم الرباني الجميل في حالة تعذر مساعدة المحتاج فورا وهو التصرف معه بالحسنى وتطييب خاطره وبعث الأمل فيه إلى فرصة أخرى ييسر الله فيها من رحمته ما يساعد على مساعدته. (7) إلى الأسلوب اللاذع القوي في النهي عن الخيلاء والزهو والكبر والغرور. فمهما بلغ المرء من أمر فهو إنسان كسائر الناس! ولن يخرق الأرض

بقدمه ولن يطاول الجبال برأسه. وأحرى به أن يعرف حده ويقف عنده وأن يعترف للآخرين بإنسانيتهم المماثلة لإنسانيته. (8) إلى الأمر بالوفاء بالعهد والتنبيه إلى أن الإنسان مسؤول عن عهده أمام الله. ولقد تكرر هذا الأمر بأساليب مختلفة في القرآن المكي ثم المدني. ووصل الأمر في ذلك إلى أن نزلت آية تأمر المسلمين بالوفاء بعهودهم مع الكفار حتى لو استصرخهم عليهم مسلمون تحت سلطانهم على ما جاء في آية سورة الأنفال هذه إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. (72) (9) إلى أن الوصايا قد انصبت على النهي عن كل ما فيه شذوذ عن توحيد الله عز وجل وعقوق للوالدين، وعدوان على دماء الناس وأموالهم وأعراضهم وظلم للضعفاء (ويمثلهم فيها اليتامى) وغدر ونكث للعهود، أو الذي فيه إسراف وتبذير وخيلاء. وهذا يلحظ في سلسلة سورة الفرقان حيث يؤيد هذا ما قلناه في سياق تفسير الآيات [31- 33] من سورة الأعراف وهو أن القرآن قد جرى على خطة بيان المحظورات وحسب، وأباح ما عداها مما ليس فيه شرك وإثم وإسراف وبغي وغدر وظلم. ويلفت النظر بخاصة إلى ما تضمنته الآيات مما يصح أن يسمى حكمة التشريع من بيان نفع ما أمرت بفعله وضرر ما نهت عنه وفي هذا خطاب للعقل وتنبيه للضمير. وهو ما تكرر كثيرا في الأوامر والنواهي القرآنية. ولقد علقنا في مناسبة سابقة على ما أعارته حكمة التنزيل لحق اليتيم وماله وحالته من عناية وأوردنا طائفة من الأحاديث في ذلك فلم نر ضرورة إلى التكرار بمناسبة ما جاء في الآيات من التنبيه على وجوب رعاية مال اليتيم. ولقد أورد المفسرون في سياق هذه السلسلة أحاديث نبوية مختلفة الرتب في

توكيد وتوضيح ما احتوته من أوامر ووصايا ربانية منها ما ورد في الصحاح ومنها ما لم يرد، وقد رأينا أن نجاريهم فنورد بعض ما ورد في كتب الصحاح منها كأمثلة للتساوق بين التلقين القرآني والتلقين النبوي. ففي صدد برّ الوالدين روى مسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رغم أنفه ثمّ رغم أنفه ثمّ رغم أنفه. قيل يا رسول الله من قال من أدرك والداه عنده الكبر أحدهما أو كلاهما ثمّ لم يدخل الجنّة» «1» وروى الترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «رضا الرّبّ من رضا الوالد وسخط الرّبّ من سخط الوالد» «2» . وفي صدد البرّ بالأرحام وذوي القربى روى البخاري ومسلم حديثا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سرّه أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه» «3» وروى البخاري ومسلم عن جبير بن مطعم قال «قال النّبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنّة قاطع رحم» «4» . وفي صدد وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ أورد ابن كثير حديثا قال إنه في الصحيحين عن أسماء بنت أبي بكر قالت «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفقي هكذا وهكذا، ولا توعي فيوعي الله عليك، ولا توكي فيوكي الله عليك» . وفي صدد وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى أورد ابن كثير حديثا عن مالك الطائي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من ذنب بعد الشّرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا تحلّ له» . وفي صدد وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ روى البخاري ومسلم عن عبد الله ابن مسعود قال: «قلت يا رسول الله أيّ الذنب أعظم، قال أن تجعل لله ندّا وهو

_ (1) التاج ج 5 ص 4 و 6. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه ص 9 و 10. (4) المصدر نفسه.

خلقك، قلت ثمّ أيّ قال أن تقتل ولدك حشية أن يطعم معك» «1» . وفي صدد وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ روى البخاري وأبو داود عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما» «2» . وروى النسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لزوال الدّنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم» «3» . وفي صدد الوفاء بالعهد روى الأربعة عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خلّة منهنّ كانت فيه خلّة من نفاق حتّى يدعها إذا حدّث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر» «4» . وروى الشيخان والترمذي عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لكلّ غادر لواء يوم القيامة يعرف به يقال هذه غدرة فلان» «5» . وفي صدد وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ روى البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال «قال رسول الله إيّاكم والظّنّ فإنّ الظّنّ أكذب الحديث، ولا تحسّسوا ولا تجسّسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا» «6» وروى الترمذي عن عطية السعدي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يبلغ العبد أن يكون من المتّقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا ممّا به البأس» «7» وروى أبو داود والترمذي عن أبي برزة الأسلمي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم فإنّ من اتبع

_ (1) التاج ج 3 ص 4. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه. (4) ج 4 ص 39. (5) ج 5 ص 41. (6) المصدر نفسه ص 27. [.....] (7) المصدر نفسه ص 166.

تعليق على صرف جملة وآت ذا القربى حقه إلى أقارب النبي صلى الله عليه وسلم

عوراتهم يتّبع الله عورته ومن يتبع الله عورته فضحه في بيته» «1» وحديث رواه الترمذي وأحمد والحاكم عن علي بن الحسين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» «2» . وفي صدد وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً روى الشيخان عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل يمشي قد أعجبته جبّته وبرداه إذ خسف به الأرض فهو يتجلجل في الأرض حتّى تقوم السّاعة» «3» وروى الشيخان والترمذي عن حارثة بن وهب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بأهل الجنّة، كلّ ضعيف متضاعف لو أقسم على الله لأبرّه، ألا أخبركم بأهل النّار كلّ عتلّ جوّاظ مستكبر» «4» . تعليق على صرف جملة وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ إلى أقارب النبي صلى الله عليه وسلم روى المفسر الشيعي الطبرسي في مناسبة آية في نفس صيغة هذه الآية في سورة الروم وهي الآية [38] عزوا إلى مجاهد والسدي من علماء التابعين أن هذه الآية هي خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة ليعطى أقاربه حقوقهم التي جعلها الله لهم في الغنائم والفيء. وروى عن أبي سعيد الخدري من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي لما نزلت الآية أعطى فاطمة فدكا «5» وسلّمها إليها. وعن أبي جعفر وأبي عبد الله من الأئمة الاثني عشر مثل ذلك. ثم روى أن المأمون ردّ فدكا إلى بني فاطمة بناء على هذه الروايات. وروى الطبري عن ابن الديلم في سياق تفسير سورة الإسراء أن علي بن الحسين رضي الله عنهما قال لرجل من أهل الشام «أما تقرأ في سورة

_ (1) التاج ج 5 ص 28. (2) التاج ج 1 ص 69. (3) التاج ج 3 ص 147. (4) التاج ج 5 ص 29 وهناك أحاديث كثيرة من بابها في كتب الصحاح وفي كتب التفسير وبخاصة في تفسير ابن كثير. (5) فدك من مستعمرات اليهود التي أفاءها الله على رسوله.

إسرائيل «1» وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ فقال له وإنّكم للقرابة التي أمر الله أن يؤتى حقّها قال نعم» . والمصحف الذي اعتمدناه ذكر في عنوان سورة الإسراء أن آية الإسراء التي نحن في صددها مدنية. وهذا ما تفيده الرواية المروية عن أبي سعيد الخدري أيضا وليس شيء من كل ذلك واردا في كتب الأحاديث الصحيحة. ولقد توقف الطبري في ما أورده عن ابن الديلم وقال إن الصواب أن الجملة هي خطاب للمؤمنين عامة لحثّهم على إعطاء ذوي قرباهم ما لهم من حقوق بالإضافة إلى المسكين وابن السبيل. ولقد أورد ابن كثير الرواية المروية عن أبي سعيد الخدري وقال إنها أشبه أن تكون من وضع الرافضة وإن الآية مكية، وفدك إنما فتحت في السنة السابعة بعد الهجرة. ثم صرف الجملة إلى المؤمنين عامة. مثل الطبري، ومعظم المفسرين السنيين صرفوها إلى المؤمنين عامة كذلك. وهو الصواب. ويزيد في وجاهة وفي غرابة صرف الجملة إلى أقارب النبي صلى الله عليه وسلم أن الجملة لم ترد منفردة في الآية بل جاءت مع ذكر المسكين وابن السبيل ومع النهي عن التبذير. وأعقبتها آية وصفت المبذرين بإخوان الشياطين. وآية أمرت بتطييب نفوس هذه الفئات إذا ما تعذر مساعدتها ماديا في الحاضر. والآية بعد منسجمة كل الانسجام في السياق نظما وموضوعا ومشابهة في الأسلوب للآيات المكية. وآية سورة الروم المماثلة لها مثلها تماما. ولا يذكر أحد أنها مدنية. وآية سورة الروم التي يسوق الطبرسي الروايات في مناسبتها منسجمة كل الانسجام مع سياقها أيضا. ونرجح بل نعتقد أن رواية مدنية آية الإسراء ملفقة لتعضيد ذلك الصرف لأنه يكون أكثر غرابة بل مستحيلا في حالة مكية الآية، لأن معظم أقارب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا في العهد المكي كفارا فضلا عن أن صرف جملة ذَا الْقُرْبى في آيات الفيء والغنائم محل نظر على ما سوف نشرحه في سياق هذه الآيات. والمشهور أن فاطمة رضي الله عنها راجعت أبا بكر رضي الله عنه ليعطيها فدكا إرثا عن رسول الله لأنها كانت فيئه. فقال لها ليس أحب إليّ من ذلك لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا نورث ما تركنا صدقة، إنّما يأكل آل محمد من هذا المال، ثم قال والله لا أدع أمرا رأيت

_ (1) سورة إسرائيل اسم ثان لسورة الإسراء.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 40 إلى 44]

رسول الله يصنعه فيه إلّا صنعته» «1» وقد يكون المأمون العباسي قد ردّ فدكا لآل النبي وأعطى حصة من الغنائم والفيء لذي قربى رسول الله صلى الله عليه وسلم تأولا لآيات الغنائم والفيء مع القول إن ذلك ليس ثابتا يقينا. وليس من شأنه إذا صح أن يثبت شيئا من الروايات أو يجعل التأويل صحيحا. وإنما كان على الأرجح بل على اليقين من وحي الانفعالات الحزبية والاختلافات السياسية. وكلمة ذَا الْقُرْبى جاءت في الآية مع المسكين، ولقد كان الأقوياء في الأسر قبل الإسلام يتطاولون على حقوق المستضعفين من أقاربهم في الإرث وبنوع خاص النساء والأيتام، ولقد شدد القرآن في منع ذلك في سياق تشريع الإرث في آيات عديدة في سورة النساء في العهد المدني حيث صار التشريع الملزم ممكنا، فالمتبادر أن حكمة الله اقتضت التنبيه على هذا في السورة المكية والأمر بإعطاء ذي القربى حقه ولو كان بأسلوب الحث الذي كان هو الأسلوب المكي وأن لا يتطاول عليه بالنسبة للضعفاء من ذوي القربى. والله تعالى أعلم. [سورة الإسراء (17) : الآيات 40 الى 44] أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) . (1) أفاصفاكم: هل اختصكم واصطفاكم. (2) قولا عظيما: قولا عظيما في النكر والافتراء. (3) نفورا: بعدا وانصرافا.

_ (1) روى هذا الخمسة انظر التاج ج 2 ص 240.

(4) لابتغوا: لتطلعوا إلى ذي العرش وحاولوا أن يتجاوزوا عليه. الآيات واضحة والألفاظ والمعاني كذلك. والصلة ملموحة بينها وبين السياق السابق من حيث إن المجموعة والسابقة انتهت بالنهي عن اتخاذ إله آخر مع الله تعالى وأن هذه الآيات بدأت ملتفتة إلى الذين ينسبون إلى الله سبحانه ما لا يليق من اتخاذ والبنات ويشركون معه آلهة أخرى. وواضح من الضمير المخاطب في الآية الأولى أن التسفيه والتقريع موجهان إلى العرب الذين يسمعون القرآن، وأن تلك العقيدة هي من عقائدهم، وقد تكرر هذا في القرآن بأساليب متنوعة مرت أمثلة منها. وقد احتوت الآية الأولى حجة جدلية للمساجلة حيث أرادت تقرير كون هذه العقيدة قد فقدت أي شيء من المنطق إذ كيف يجوز أن يظن أصحابها أن الله يتخذ لنفسه البنات وهنّ في نظرهم أدنى من البنين في حين أنه هو الذي يمنحهم البنين. واحتوت الآية الثالثة حجة جدلية أخرى فلو كان لله سبحانه شركاء في كونه لما قبلوا أن يكونوا في مركز أدنى ولسعوا ليكونوا شركاء منافسين له في كل شيء. واحتوت الآيتان الأخيرتان تنزيها لله تعالى عن هذا اللغو الباطل وتقريرا بوحدة ربوبيته وخضوع كل شيء له وتسبيح كل شيء باسمه وحمده ثم تنويها بصفتي الغفور الحليم الربانيتين كأنما أريد بهما في هذا المقام أن الله سبحانه وتعالى بمقتضى صفتيه هاتين لا يعجل بالعذاب على الذين يعتقدون ويقولون تلك العقائد والأقوال التي لا تليق بحقه، ويحلم عليهم ويفسح المجال لهم للتوبة ويشملهم بغفرانه. وروح الآيات تلهم أن الذين كانوا يعتقدون أن لله سبحانه شركاء ويقولون إن الملائكة بناته كانوا يسلمون بأنه تعالى هو الإله الأعظم خالق الأكوان ومدبرها. مما ورد في آيات عديدة أوردناها في مناسبات سابقة. ومن هنا كانت الحجة ملزمة قارعة والتنديد محكما بليغا.

تعليق على تحديد عدد السموات بسبع

ولقد ذكر بعض المفسرين في صدد تسبيح ما في كون الله تعالى من موجودات متنوعة أقوالا ورووا روايات عديدة والرواية غير وثيقة الأسناد وفيها وفي الأقوال غرابة وتكلف ولم نر طائلا وفائدة في إيراد ذلك. على أن جمهورهم قرروا أن هذا التسبيح هو بلسان الحال وعلى معنى الخضوع لحكم الله ومطلق تصرفه وكون ما في الكون هو من صنعه وخلقه وقد منحه الله ما هو في حاجة إليه. وهذا هو الأوجه المتسق من العبارة فحوى روحا كما هو ظاهر. وقد تلهم الآية الأولى أن الآيات بسبيل التعقيب على مشهد جدلي وجاهي بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار حيث قال هؤلاء إننا نعتقد بالله وإنما نتخذ الملائكة شفعاء لديه لأنهم بناته فنزلت الآيات مفنّدة مقرّعة منزّهة. وهذا إن صح لا يتعارض مع ما قررناه من الصلة بينها وبين ما سبقها. تعليق على تحديد عدد السموات بسبع وهذه أول مرة يحدد فيها عدد السموات بسبع، وقد تكرر هذا في أكثر من سورة منها المكي ومنها المدني. وفي الإصحاحات الأولى من سفر التكوين التي ذكرت كيف بدأ الله تعالى خلق الأكوان وردت جملة (السموات والأرض) فقط بدون عدد. وهذه الجملة هي أكثر ما ورد في القرآن أيضا. وفي كتب التفسير والحديث أحاديث نبوية ورد فيها عدد السموات سبعا. ومن هذه الأحاديث ما ورد في الصحاح أيضا، وهذا واحد منها رواه الترمذي عن أبي هريرة قال «بينما نبيّ الله جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب فقال هل تدرون ما هذا قالوا الله ورسوله أعلم، قال هذا العنان روايا الأرض يسوقه الله تعالى إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه. ثمّ قال هل تدرون ما فوقكم، قالوا الله ورسوله أعلم، قال فإنها سقف محفوظ وموج مكفوف، قال هل تدرون كم بينكم وبينها، قالوا الله ورسوله أعلم قال بينكم وبينها مسيرة خمسمائة سنة. ثمّ قال هل تدرون ما

فوق ذلك، قالوا الله ورسوله أعلم قال فإنّ فوق ذلك سماءين ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتّى عدّد سبع سموات ما بين كلّ سماءين كما بين السّماء والأرض. ثمّ قال هل تدرون ما فوق ذلك قالوا الله ورسوله أعلم قال فإنّ فوق ذلك العرش. وبينه وبين السّماء بعد مثل ما بين السماءين. ثمّ قال هل تدرون ما الذي تحت ذلك قالوا الله ورسوله أعلم قال فإن تحتها الأرض الأخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتّى عدّد سبع أرضين بين كلّ أرضين مسيرة خمسمائة سنة. ثمّ قال والذي نفسي بيده لو أنكم دلّيتم رجلا بحبل إلى الأرض السّفلى لهبط على الله. ثم قرأ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (3) «1» وليس في هذا الحديث ولا في غيره من الصحاح إيضاح للماهية. ومع واجب الإيمان بما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيكال ما لا يدرك تأويله عقل الإنسان إلى الله تعالى فإنه يلمح من الحديث حكمة صدوره وحكمة حديثه وهي التنويه بعظمة الله تعالى وقدرته وعظمة كونه كما هو المتبادر. ولم نطلع في كتب التفسير على شيء معقول وثيق في ماهية السموات السبع إلا ما جاء في الجزء الأول من محاسن التأويل للقاسمي الذي قال فيه إن بعض علماء الفلك قالوا إن السموات السبع هي السيارات السبع في العالم الشمسي وإن بعض علماء اللغة ذكروا أن عدد (سبع) و (سبعين) و (سبعمائة) يورد أحيانا للتعبير عن الكثرة في مراتب الآحاد والعشرات والمئات. ومهما يكن من أمر فإن ورود العدد في الآية بحرف التعريف قد يدل على أن سامعي القرآن من العرب أو كان بعضهم يعرفون أن عدد السموات سبع، وإن المتبادر من صيغة الآية وروحها أن ذكر العدد فيها ليس بقصد تقرير فني عددي لذاته وإنما هو بقصد التنويه بأن جميع ما خلق الله تعالى خاضع له مسبح بحمده

_ (1) التاج ج 4 ص 226 و 227 انظر حديثا طويلا آخر رواه البخاري فيه ذكر السموات سبعا ج 3 ص 230- 233.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 45 إلى 48]

اعترافا بربوبيته وعظمته بسبيل الرد على الذين يزعمون أن له أولادا وشركاء من هؤلاء السامعين وتسفيههم. ونرى الأولى الوقوف عند ذلك دون تزيد ولا تخمين مع استشفاف حكمة التنزيل في ذكر ذلك وهو التنبيه على ما في سموات الله من عظمة وروعة. ولا تخمين، مع الإيمان بقدرة الله على كل شيء وحكمته في كل ما جاء في القرآن. ولما كانت السموات من أعظم ما تروع الأذهان والأبصار من مشاهد كون الله وعظمته وكان العدد مما يسمعه السامعون فيكون التنويه بذلك من تلك الحكمة، والله أعلم. [سورة الإسراء (17) : الآيات 45 الى 48] وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48) . (1) أكنة: جمع كنان بمعنى الغشاوة. (2) الوقر: بفتح الواو بمعنى الصمم. (3) وإذ هم نجوى: إذ هم وحدهم يتسارّون. (4) انظر كيف ضربوا لك الأمثال: انظر كيف شبهوا حالتك بما في أذهانهم من صور وأمثال. الخطاب في الآيات موجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها وصف لحالة الكفار وعنادهم وحكاية لبعض أقوالهم، وهي متصلة والحالة هذه بالآيات السابقة اتصال تعقيب واستطراد.

والآيتان الأوليان قد توهمان أنهما تقرران بأن الله عز وجل يحجب الكفار الذين لا يؤمنون بالآخرة وحسابها عن النبي صلى الله عليه وسلم ويغلق قلوبهم وآذانهم دون فهم القرآن حينما كان يتلوه عليهم، غير أن التمعن فيهما وفي الآيتين التاليتين لهما يزيل ذلك التوهم ويبين أنهما في الحقيقة في صدد وصف شدة عنادهم وغلظ قلوبهم وتصاممهم ونفورهم. فهم في حالة كحالة المضروب بينه وبين الحق حجاب فلا يراه، والمغطّى على قلبه فلا يتأثر به والأصمّ فلا يسمعه، وفي سورة لقمان آية يمكن أن تكون قرينة على صحة هذا التأويل وهي وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) ووصف الكفار بوصف الذين لا يؤمنون بالآخرة في الآية الأولى وبوصف الظالمين في الآية الثالثة وحكاية قولهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم مسحور والتنديد بهم في الآية الرابعة مؤيد كذلك لهذا التأويل المتطابق مع تأويل المفسرين على اختلاف في الصيغة والأسلوب «1» ، ومثل هذا ورد بأساليب متنوعة في سور سابقة مثل سورتي يس والأعراف. والمتبادر أن في العبارة في الوقت نفسه تطمينا وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم: فلا ينبغي أن يحزن وييأس من موقف الكفار وأقوالهم، فهم من غلظ القلب وعمى البصيرة وخبث الطويّة ما يجعلهم محجوبين عن التأثر بالقرآن وفهمه، وليس هو المسئول عن ذلك ولا المكلّف بالتغلب عليه وإنما هو نذير وبشير. على أن من الممكن أن يقال هنا ما قلناه في مناسبات سابقة مماثلة وهو أن هذه الآيات بسبيل تسجيل واقع أمر الكفار حين نزولها، لأن كثيرين من الذين عنتهم قد أسلموا بعد الهجرة وبخاصة بعد الفتح المكي. والآية الثانية تؤيد ما قلناه في مناسبة الآيات السابقة وغيرها بأن الكفار لم يكونوا جاحدين الله تعالى وإنما كانوا يشركون معه شركاء فينفرون حينما يذكر وحده بدون شركائهم أو شفعائهم.

_ (1) انظر تفسير الطبري وابن كثير والزمخشري والطبرسي.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 49 إلى 52]

والآيتان الثالثة والرابعة تشيران إلى ما كان الكفار يقولونه للمؤمنين حينما كانوا يسمعون القرآن ويرون شدة تأثرهم به، وحينما كانوا يتسارّون فيما بينهم، حيث كانوا يقولون لهم إنكم تتبعون رجلا مسحورا، وقد نددتا بهم ووصفتاهم بالظلم والضلال والعجز عن الحجة والتمحل بالافتراء الباطل. وبتشبيههم حالة النبي صلى الله عليه وسلم بما في أذهانهم من صور وأمثال لا يمكن أن تنطبق عليه، مما عنته آية انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا. (48) والآية الثالثة تحتمل أن تكون بسبيل تقرير أن الكفار كانوا يعيرون المؤمنين ويسفّهون رأيهم مواجهة أيضا، ويساعد على هذا الاحتمال صيغة الخطاب في عبارة تَتَّبِعُونَ وفي هذا صورة لما كان يقع بين المسلمين والكفار من صلات وحجاج ونقاش. والمتبادر أن الكفار حينما كانوا يصفون النبي صلى الله عليه وسلم بالمسحور كانوا يريدون أن يقولوا إنه فيما يقوله وينذر به من أمر الآخرة والحساب والجنة والنار يشبه حالة المسحور الذي يرى ما لا يرى حقيقة، ويتوهم وجود ما لا وجود له حقيقة، وينذر بشيء لا يدخل في نطاق العقل والواقع والممكن، وفي الآيات التالية توكيد لذلك. [سورة الإسراء (17) : الآيات 49 الى 52] وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52) . (1) رفاتا: ذرات بالية. (2) ينغضون رؤوسهم: يهزونها هزة استنكار أو استهزاء.

[سورة الإسراء (17) : آية 53]

(3) تستجيبون بحمده: قيل معناها تستجيبون لأمره، وقيل تستجيبون إليه مسبحين حامدين رغم أنوفكم. الآيات متصلة كما هو المتبادر بما سبقها واستمرار لها في صدد حكاية موقف الكفار ومشاهد حجاجهم الوجاهية، حيث احتوت حكاية سؤالهم الاستنكاري عن صحة ما ينذرهم به النبي صلى الله عليه وسلم من البعث بعد أن يصبحوا عظاما بالية، وعن موعد هذا البعث وعمن يبعثهم، وحيث أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بتوكيد ذلك لهم حتى لو كانوا حجارة أو حديدا أو شيئا أشد استعصاء على الإعادة والإرجاع، وبإخبارهم بأن ذلك قد يكون أقرب كثيرا مما يظنون، وبأنهم حينما يدعون ويبعثون سيدركون ما يكون من وفاء الله بوعده حتى إنهم ليظنون أنهم لم يلبثوا بين الموت والبعث إلّا فترة قصيرة ويستجيبون لأمره مسبحين حامدين له برغم أنوفهم، معترفين بقدرته وعظمته، وحيث حكت إصرارهم على الإنكار والجحود وهزهم لرؤوسهم استنكارا واستهزاء حينما قيل لهم إن الله الذي خلقهم أول مرة هو قادر بطبيعة الحال على بعثهم ثانية. وفي الآيات صورة من صور الجدل الذي كثيرا ما كان يحتدم بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار وبخاصة حول البعث والحساب، وأسلوب من أساليب الحجاج التي كانت تختلف باختلاف المواقف. وقد احتوت حجة ملزمة مستمدة من عقيدتهم بأن الله هو الخالق الفاطر مما تكرر في القرآن ومرت منه أمثلة عديدة. [سورة الإسراء (17) : آية 53] وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) . (1) عبادي: المرجح أن المقصود بالكلمة المسلمون. (2) ينزغ: يدس ويوسوس ويفسد.

تعليق على آية وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن وظروفها وتلقينها

في الآية أمر للنبي صلى الله عليه وسلم ليبلغ عباد الله المسلمين أن يقولوا التي هي أحسن، أو ألّا يتجادلوا إلّا بالتي هي أحسن، وأن يتجنبوا المخاشنة وأن يحذروا من وساوس الشيطان ودسائسه بينهم فهو ألدّ أعداء الإنسان. تعليق على آية وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وظروفها وتلقينها وقد روى الزمخشري في كشافه أن الآية نزلت في مناسبة مشادّة وقعت بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورجل من الكفار فبدر من هذا كلام بذيء، فهمّ عمر رضي الله عنه بتأديبه. كما روى الطبرسي في مجمع البيان أنها نزلت بمناسبة طلب المسلمين الإذن بقتال المشركين الذين يؤذون المسلمين. وليس ما يمنع صحة إحدى الروايتين. غير أن وحدة أسلوب السياق تلهم أن الآية تضمنت إشارة إلى الحادث في سياق قرآني عام، وأنها استمرار للسياق السابق الذي احتوى صورا لما كان يحتدم بين المسلمين والكفار من جدل. فأمرت النبي صلى الله عليه وسلم تبليغ المسلمين بوجوب الجدل بالتي هي أحسن واجتناب العنف والإثارة مع الكفار الذين يلعب الشيطان في عقولهم. فذلك أحرى أن يسد الباب على الشيطان وأن يؤلف القلوب ويخفف العناد ويحمل على الرجوع إلى الصواب. وقد قال بعض المفسرين إن الوصية في الآية عائدة إلى تعامل المسلمين فيما بينهم «1» . ومع أن هذا مما وصّى به القرآن في مواضع عديدة على ما سوف نشرحه في مناسباته فإن صرف الكلام في الآية إلى ما بين المسلمين والكفار هو الأوجه والمستلهم من روحها وسياقها وقد قال به غير واحد من المفسرين أيضا «2» . وفي سورة الجاثية آية فيها شيء من الصراحة والتأييد وهي هذه قُلْ لِلَّذِينَ

_ (1) انظر تفسيرها في مجمع البيان للطبرسي. والغريب أن هذا المفسر هو الذي روى أن سبب نزولها طلب المسلمين الإذن بقتال الذين يؤذون المسلمين من المشركين. (2) انظر تفسيرها في كشاف الزمخشري وتفسيري ابن كثير والطبري.

[سورة الإسراء (17) : آية 54]

آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) وقد نزلت في مناسبة مماثلة على ما رواه المفسرون «1» . وفي الآية تلقين جليل مستمر المدى فيما احتوته من الأمر بالمحاسنة واللين وقول التي هي أحسن والمجادلة بالتي هي أحسن. لأن المخاشنة والعنف مما يوسع الخلاف ويثير العداء والحقد ويدفع إلى العناد والمكابرة. ويغطي على الحق والحقيقة مطلقا. وسواء أكان ذلك في سياق الجدل والمناظرة أو التعامل فيما بين المسلمين وغيرهم أو فيما بين المسلمين أنفسهم. وقد تكرر هذا الأمر في سور أخرى عديدة مكية ومدنية مما يدل على ما أعارته حكمة التنزيل من عناية له. وفي كتب التفسير أحاديث متنوعة في صدد ذلك. منها ما ورد في كتب الصحاح، من ذلك حديثان رواهما الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعدة فتخلفه» «2» و «كفى بك إثما ألا تزال مخاصما» «3» وحديث رواه الأربعة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله رفيق يحبّ الرّفق ويعطي على الرّفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على سواه» «4» وحديث رواه أبو داود ومسلم عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا عائشة ارفقي فإنّ الرّفق لم يكن في شيء إلّا زانه ولا نزع من شيء قطّ إلا شانه» «5» . [سورة الإسراء (17) : آية 54] رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) .

_ (1) انظر تفسير الآية في ابن كثير والكشاف مثلا. (2) المصدر نفسه. [.....] (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه.

[سورة الإسراء (17) : آية 55]

قال غير واحد من المفسرين «1» إن ضمائر الجمع المخاطب في الآية عائدة إلى الكفار الذين هم موضوع الكلام في السياق السابق، وقال بعضهم إنها عائدة إلى المسلمين أو سامعي القرآن إطلاقا «2» والقول الأول هو الأوجه المستلهم من روح الآيات والسياق أيضا. وقد أوّلها أصحاب هذا القول بأنها تتضمن أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول للكفار إن أمركم بيد الله وهو أعلم بكم إن شاء رحمكم فتاب عليكم وهداكم، وإن شاء خذلكم فبقيتم على كفركم. أما خاتمة الآية ففيها التفات إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله لم يجعله وكيلا عنهم ولا مسؤولا عن هدايتهم وكفرهم، وكل ما عليه أن ينذرهم ويبشرهم، مما ينطوي فيه تسلية له إزاء مواقف الحجاج والعناد التي يقفها الكفار من دعوته. وواضح من هذا أن الآية غير منقطعة عن السياق السابق. ولقد انطوى فيها تعليل لمشيئة الله تعالى فيهم على ما هو المتبادر. فهو تعالى أعلم بما في ضمائرهم وقلوبهم فيهدي من فيه الخير والرغبة في الهدى فيدخل في نطاق رحمته، ويخذل من لم يتوفر فيه ذلك فيكون مصيره إلى العذاب على حد ما جاء في آية سورة الرعد هذه وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) وآية سورة إبراهيم هذه يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27) وبهذا يزول ما يمكن أن يحيك في صدر القارئ من وهم من ظاهر عبارة الآية. [سورة الإسراء (17) : آية 55] وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55) . لم يروا المفسرون رواية في مناسبة هذه الآية. وهي معطوفة على ما سبقها. وقد بدئت بما بدئت به الآية السابقة حيث يسوغ هذا القول إنها استمرار للسياق.

_ (1) انظر تفسير الآية في القاسمي والكشاف والطبري والخازن. (2) انظر تفسيرها في ابن كثير.

وقد تضمنت الآية السابقة لها تقرير كون الله تعالى كما هو أعلم بما في ضمائر الكفار فيرحم بمشيئته من يكون أهلا للرحمة ويعذب من يكون أهلا للعذاب، فجاءت هذه الآية بعدها لتقرر أن الله أعلم بكل من في السموات والأرض، وقد فضل- نتيجة لذلك- بعض النبيين على بعض وآتى- نتيجة لذلك- داود الزبور. وهذا الشرح الذي يلهم الآية يوثق الصلة بين الآية وسابقاتها موضوعا أيضا. وقد قال بعض المفسرين «1» إن في الآية ردّا على الذين كانوا ينكرون فضل النبي صلى الله عليه وسلم على سائر النبيين. ومع أن فضل النبي صلى الله عليه وسلم مؤيد في آيات ومظاهر عديدة منها أنه خاتم الأنبياء، وأن القرآن مهيمن على الكتب السابقة، وأن الله قد أرسله بالهدى ودين الحق ووعد بأن يظهر دينه على سائر الأديان فإننا نتحفظ في كون الآية قد تضمنت ما قاله المفسرون. والزبور هو على الأرجح المزامير التي تعزى إلى داود عليه السلام في سفر من أسفار العهد القديم المتداولة اليوم. وعددها في هذا السفر مئة وخمسون وفيها تمجيد وتسبيح وابتهالات لله تعالى بليغة المبنى والمعنى، فيها كثير من المواعظ والأمثال والحكم. واسم داود مذكور في نصفها ويرافقه عبارة لإمام (الغناء) في بعضها والنصف الثاني غفل من الأسماء أو مذكور فيه أسماء أخرى وصفوا في بعضها بنفس العبارة. وظاهرها أنها من إنشاء من ذكرت أسماؤهم فيها. وهذا لا يتعارض مع جملة وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً ولا مع كون ما عزي إلى داود منها هو من وحي الله تعالى وإلهامه. ويقول البغوي في سياق تفسير الآية، إن الزبور كتاب علّمه الله داود ويشتمل على مائة وخمسين سورة (وهذا عدد جميع المزامير في السفر) كلها تمجيد ودعاء وثناء على الله عز وجل. ليس فيها حرام ولا حلال ولا فرائض ولا حدود. وقد يفيد هذا أن سفر المزامير كان مترجما وأن المفسر قد اطلع عليه. ووفاة هذا المفسر كانت في عام 516 هـ.

_ (1) انظر تفسير الآية في الطبرسي والخازن والكشاف والقاسمي مثلا.

تعليق في صدد تفضيل الأنبياء بعضهم على بعض

تعليق في صدد تفضيل الأنبياء بعضهم على بعض لقد ذكر المفسرون في صدد تفضيل بعض النبيين على بعض أن من مظاهر ذلك اتخاذ الله تعالى إبراهيم خليلا. وهو ما ذكرته آية النساء [125] وتكليمه لموسى مباشرة وخلقه عيسى بدون أب. وجعله محمدا خاتم النبيين، وإيتائه موسى ومحمدا كتبا فيها تشريعات وأحكام في حين لم يكن في زبور داود مثل ذلك واختصاصه نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى مع النبي بالذكر والميثاق في بعض الآيات مثل آية الشورى [13] المكية وآية الأحزاب المدنية [7] وتأييده عيسى بروح القدس في بعض الآيات مثل آيات البقرة [87 و 253] وإنطاق عيسى في المهد كما جاء في آيات آل عمران [46] والمائدة [110] ومريم [14- 23] وفي هذا وجاهة ظاهرة. ولقد نبّه ابن كثير في سياق هذا الموضوع والآية إلى أنه ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا تفضّلوا بين الأنبياء» ثم قال إن هذا النهي هو بسبيل النهي عن التفضيل لمجرد التشهّي والعصبية لأنه لا خلاف في فضل بعضهم على بعض وفي فضل الرسل على الأنبياء من غير الرسل وفي فضل النبي محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء. وهذا أيضا وجيه سديد يدعمه النص القرآني في الآية التي نحن في صددها وفي آية سورة البقرة هذه تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ... [253] ويدعمه بالنسبة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم نعت القرآن له بأنه خاتم النبيين آية الأحزاب [40] وكون دينه مرشحا للظهور على سائر الأديان آية الفتح [28] وآية التوبة [33] وآية الصف [9] كما يدعمه أحاديث عديدة صحيحة منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم إنّ مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلّا موضع لبنة من زاوية فجعل النّاس يطوفون به ويعجبون له ويقولون هلّا وضعت هذه اللبنة، قال فأنا اللبنة وأنا خاتم النّبيين» «1» وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان

_ (1) التاج ج 3 ص 204 و 206 وهناك أحاديث أخرى فاكتفينا بما أوردناه.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 56 إلى 57]

يوم القيامة كنت إمام النّبيين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم غير فخر» «1» . [سورة الإسراء (17) : الآيات 56 الى 57] قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57) . (1) الوسيلة: الطريقة إلى الزلفى والتقرب إلى الله. (2) محذورا: واجب الاتقاء والحذر. في الآيتين عود على بدء في تحدي الكفار وتسفيه شركهم بالله، فهي والحال هذه متصلة بالسياق الذي ما يزال يدير الكلام بعد مجموعة الوصايا على الكفار المشركين ويندد بهم ويحكي مواقفهم وأقوالهم. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيها أن يقول لهم- متحديا مسفها منذرا- ادعوا الذين تدعون من دون الله فإنكم إنما تدعون عبثا لأنهم لا يملكون كشف الضرّ عنكم ولا تحويلا له. وإنهم هم أنفسهم يتحرون الطريقة المثلى التي تقربهم إلى الله أكثر ويرجون رحمته ويخافون عذابه الذي ينبغي على خلق الله جميعهم خشيته والحذر منه. ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل في المقصود من جملة مِنْ دُونِ اللَّهِ البقرة [23] منها عن ابن مسعود أنهم نفر من الجن كان يعبدهم العرب فأسلموا ولم يعرف العرب إسلامهم فظلوا على عبادتهم إياهم فأنزل الله الآية. ومنها عن ابن عباس أنهم المسيح وأمه والعزيز والشمس والقمر. ومنها عن قتادة أنهم الملائكة. واستبعد الطبري المسيح وأمه والعزيز لأنهم غير موجودين وقت نزول الآية. ورجح رواية ابن مسعود، ويتبادر لنا أن الكلام أوسع

_ (1) التاج ج 3 ص 204 و 206 وهناك أحاديث أخرى فاكتفينا بما أوردناه.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 58 إلى 59]

وأهم من نفر من العرب يعبدون نفرا من الجن أسلموا. فضلا عن أن إسلامهم لو صحّ هو إخبار غيبي ليس فيه حجة على العرب. ونرى القول أنهم الملائكة هو الأصوب المتساوق مع السياق القريب الذي ذكر فيه عقيدة العرب بأن الملائكة بنات الله وأنهم شركاء مع الله. وكانوا يعبدونهم على سبيل الانتفاع بهم كما حكته آيات عديدة مرّ بعضها. [سورة الإسراء (17) : الآيات 58 الى 59] وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) (1) كان ذلك في الكتاب مسطورا: بمعنى أن ما قررته الآية التي وردت فيها الجملة هو سنة الله المستمرة الحتمية التي قضاها منذ الأزل في علمه. (2) مبصرة: آية بينة واضحة. (3) فظلموا بها: كفروا بها وعتوا على الله وعقروا الناقة. وفي الآية الأولى تقرير رباني بأنه ما من قرية أو أمّة إلّا سوف تهلك قبل يوم القيامة سواء أكان ذلك بسنة الكون الطبيعية أم بالعذاب الرباني، وأن هذه هي سنة الله التي كانت ولن تزال مقررة في علمه المحيط الأزلي. وفي الآية الثانية تقرير رباني كذلك بأن الله لم يمتنع عن إظهار الآيات والمعجزات على يد النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلّا بسبب تكذيب الأمم السابقة لرسلهم وعدم تأثرهم بالمعجزات التي كان يظهرها على أيديهم، كما كان ذلك من ثمود مثلا الذين أظهر الله تعالى لهم الناقة آية من آياته البينة فكفروا بآيات الله ورسوله وظلموا، وأن الله إنما يرسل الآيات لتخويف الناس وإنذارهم حتى يرتدعوا عن ضلالهم وغوايتهم ويسلكوا سبيله القويم.

تعليق على الآية وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا والآية التالية لها

تعليق على الآية وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً والآية التالية لها لقد روى الطبري في سياق تفسير الآيتين عن سعيد بن جبير من علماء التابعين أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم «إن سرّك أن نؤمن بك ونصدّقك فادع ربّك أن يكون جبل الصّفا ذهبا. فأوحى الله إليه إن شئت أن نفعل الذي قالوا فإن لم يؤمنوا نزل العقاب فإنّه ليس بعد إظهار المعجزة مناظرة إن لم يؤمنوا وإن شئت استأنيت بهم قال يا ربّ استأن» . والرواية لم ترد في كتب الصحاح، ووحدة السبك بين الآيتين والآيات السابقة واللاحقة والصلة الملموحة بين الآيتين وما سبقهما حيث انتهت الآيات السابقة بالتخويف من عذاب الله وجاءت الآيتان على أثرها تؤكدان قدرة الله على إيقاع هذا العذاب، كل هذا يجعلنا نرجح أن الآيات سياق متصل وأن الآيتين لم تنزلا في مناسبة ما طلبه المشركون من النبي صلى الله عليه وسلم ولا تنفي بهذا ما ترويه الرواية من مطلب المشركين التعجيزي. ومن المحتمل أن يكون قد وقع منهم في ظروف نزول السورة، ولقد كان الكفار ينكرون البعث ويستهترون بما ينذره القرآن بإنزال العذاب، ويتحدون النبي صلى الله عليه وسلم بالتعجيل به مما حكته عنهم آيات عديدة مرّت أمثلة منها في السور التي فسرناها قبل. ومن المحتمل أن يكون هذا أيضا قد تكرر منهم في ظرف نزول السورة فاقتضت حكمة التنزيل أن تتضمن الآيتان الرد عليهم في الأمرين في سياق ذكر مواقفهم والتنديد بها. وقد انطوى في الردّ الأول إيذان بأن هلاك السامعين أمر محتم لأنه سنة ربانية عامة. وفي هذا الردّ تسلية وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وإنذار للكافرين، فلا محل ليأس الأولين أو فرح الآخرين، إذا ما تأخر ذلك وقتا ما. وانطوى في الردّ الثاني تعليل لعدم إظهار الآيات على يد النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

وهو أن الله إنما يرسل الآيات للتخويف، وقد ظهر من التجارب السابقة أن ذلك لم يجد، ولم يؤد إلى نتيجة إيجابية، وفي هذا إيذان قرآني بأن المعجزات التي كان الله يظهرها على أيدي رسله السابقين لم تكن للإقناع بصحة رسالة الرسل بالذات. وبأن حكمة الله تعالى اقتضت أن لا تظهر معجزة على يد النبي محمد صلى الله عليه وسلم استجابة لطلب الكفار لأنها لن تؤدي إلى نتيجة إيجابية. وهذا المعنى قد جاء صريحا في آيات سورة الأنعام [109- 111] وآية سورة الرعد [31] ويلمح في هذا أن المعجزة ليست ضرورية لإقناع الكفار بصحة الدعوة التي يدعو إليها رسول الله لأنها دعوة إلى توحيد الله عز وجل ومكارم الأخلاق الضامنة لسعادة الدارين واجتناب الشرك والفواحش مما لا ضرورة لإثبات صوابها وصحتها إلى معجزة خارقة، والقرآن الذي احتوى مبادئ هذه الدعوة هو آية الله العظمى ويهدي للتي هو أقوم كما جاء في آية سابقة في هذه السورة. وجاء هذا في آيات سورة العنكبوت هذه صريحا قويا وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) حيث قررت أن في القرآن الغناء والكفاية والرحمة والذكرى لمن يرغب حقا في الإيمان والهدى. وعلى ضوء رواية سعيد بن جبير وآيات أخرى مرّت أمثلة منها في سورتي الشمس والقمر آيات الشمس [10- 15] وآيات القمر [22- 31] ذكرت أن الله قد أهلك ثمود حينما كفروا وعقروا الناقة من جهة أخرى قد يكون انطوى في الرد القرآني المنطوي في الآية الثانية من الآيتين موضوع التعليق إيذان بأن حكمة الله قد اقتضت تأجيل إهلاك كفار العرب بالعذاب الدنيوي كما جرى لأمثالهم ليكون لهم مهلة أخرى قد يرعوون فيها. ولقد تكرر الإيذان بهذه الحكمة في آيات أخرى مرّت أمثلة منها الآية [45] من سورة فاطر. ولقد ظهرت آثار حكمة الله ومصداقها في ما كان من ارعواء كثير من الذين كفروا بالرسالة المحمدية وناوأوها في بدء الأمر.

[سورة الإسراء (17) : آية 60]

[سورة الإسراء (17) : آية 60] وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60) . الآية معطوفة على ما سبقها وهي مماثلة له نظما بحيث يمكن القول إنها استمرار للسياق. والخطاب في شطرها الأول موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه تذكير له بما قاله الله له من أن ربّه أحاط بالناس. وفيه إخبار أيضا بأن الله تعالى قد جعل الرؤيا التي أراه إياها والشجرة الملعونة في القرآن فتنة واختبارا للناس. وكأنما أريد بذلك أن من لم يؤمن بخبر الرؤيا والشجرة الذي يخبر به النبي لا يؤمن بالآيات التي قد يظهرها الله تعالى على يده فلا يبقى لها محل ولا فائدة. وبهذا التقرير المستلهم من روح الآية وفحواها تظهر الصلة الموضوعية أيضا بين الآيات السابقة وهذه الآية. وقد انتهت الآية بالتنديد بالكفار موضوع الكلام الذين يخوفهم الله فما يزدادون إلا طغيانا كبيرا. تعليق على الآية وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ ... إلخ ولقد روى الطبري عن الحسن وقتادة ومجاهد أن جملة أَحاطَ بِالنَّاسِ بمعنى منعهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عصمه منهم. وقد تبدو وجاهة هذا التأويل إزاء الفقرة الأخيرة من الآية التي تقرر أن الكفار لا يخافون بما يخوفهم الله به بل يزدادون طغيانا حيث يرد على البال أن الآية نزلت في ظرف اشتد فيه طغيانهم ومناوأتهم فاقتضت حكمة التنزيل تطمين النبي صلى الله عليه وسلم. ومثل هذا التطمين تكرر في آيات عديدة مكية ومدنية وظروف قد تكون مماثلة من ذلك آيات سورة الحجر هذه فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) وآيات الصافات [171- 175] وغافر [51] والذاريات [49] والمائدة [97] . وتعبير وَإِذْ قُلْنا لَكَ يفيد أن ما احتوته الآية قد سبق الوحي به للنبي صلى الله عليه وسلم، فإمّا أن يكون أريد به بعض الآيات التي وردت في سور سابقة النزول فيها شيء من

معنى التطمين مثل آيات سورة ص [11] والقمر [44- 45] وإمّا أن يكون نزل في هذا الأمر قرآن ثم رفع لحكمة ربانية. وإما أن يكون وحيا غير قرآني فيه هذا التطمين. وفي القرآن صور يمكن أن ينطبق عليها هذا الأمر الأخير، فقد جاء في سورة الأنفال مثلا هذه العبارة وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وهذا الوعد لم يرد في القرآن وقد روي حديث فيه ذلك حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم بدر «سيروا وأبشروا فإنّ الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين» . ولقد تعددت الأقوال المدوية عن أهل التأويل من أصحاب رسول الله وتابعيهم في صدد الرؤيا والشجرة الملعونة. فهناك حديث يرويه البخاري والترمذي عن ابن عباس جاء فيه «الرّؤيا هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به. والشّجرة الملعونة هي شجرة الزّقوم» وروى الطبري عن ابن عباس أن الرؤيا هي الحلم الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم فيه نفسه يدخل مكة بعد الهجرة فسار إلى مكة للزيارة بوحي هذا الحلم فمنعه المشركون فقال ناس إن رسول الله قد ردّ وكان حدثنا أنه سيدخل مكة فكانت رجعته بدون زيارة فتنتهم. وهذه الرواية تقتضي أن تكون الآية مدنية، لأن الرؤيا التي سار النبي صلى الله عليه وسلم بها إلى الزيارة وكانت كما قلنا بعد الهجرة وكان نتيجة لسير النبي بأصحابه صلح الحديبية بينه وبين كفار قريش ونزلت فيها سورة الفتح، وليس هناك ما يؤيد مدنية الآية، وليس لها أي مكان ومناسبة في السياق الذي هو في صدد كفار مكة ومواقفهم، ومع كل هذا فإن جمهور المفسرين يرجحون أن الرؤيا هي الرؤيا التي أراها الله لرسوله في الإسراء. وهو ما نراه الأوجه وبخاصة لأن الإسراء مما أخبر به القرآن في هذه السورة، وكانت رؤيا خاصة بمدركات النبي أخبر بها إخبارا على ما شرحناه في سياق الآية الأولى من السورة. وفي الأحاديث الواردة في صدد الإسراء والمعراج حديث يذكر أن بعض المسلمين ارتدوا حينما أخبر النبي بخبر الإسراء والمعراج فكان ذلك هو ما عنته جملة وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ. وفي صدد الشجرة الملعونة نقول إنه بالإضافة إلى الحديث الذي رواه البخاري والترمذي عن ابن عباس الذي أوردناه قبل والذي يذكر أنها شجرة الزقوم

هناك رواية تذكر اسم شجرة أخرى كان يقال لها الكشوت، ورواية أن الآية عنت اليهود الذين لعنهم الله في القرآن. غير أن جمهور المفسرين على أنها الزقوم، وقد رووا في أن أبا جهل وغيره من زعماء الكفار قالوا إن محمدا يعدكم بنار تحترق فيها الحجارة ويزعم أنه ينبت فيها شجرة تأكلون منها زقوما. فكان ذلك سببا لاشتدادهم في التكذيب، وأن هذا هو معنى الفتنة التي كانت بسبب الشجرة. وفي سورة الصافات آيات فيها أن الشجرة كانت فتنة للظالمين وهي أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) وقد تكون في الآيات قرينة على صحة الرواية والله أعلم. وقد يكون هناك إشكال في عدم ورود لعن للشجرة في القرآن. وقد علل المفسرون ذلك بتعليلين أحدهما أن وصف الملعونة عائد لآكلها فيكون تقدير الجملة (الشجرة المذكورة في القرآن الملعون آكلوها في القرآن) وقد سبق للشجرة ذكر في سورة الواقعة التي نزلت قبل هذه السورة. وثانيهما أن العرب يصفون كل كريه الطعم بالملعون فيكون تقدير الجملة (الشجرة المذكورة في القرآن الملعونة الطعم) وكلا التعليلين وارد. والله تعالى أعلم. وننبه على أن الطبري يروي في صدد جملة وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ مفادها أن النبي رأى في منامه بني فلان- وهذه عبارة الطبري- ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك فما استجمع ضاحكا حتى مات، وأنزل الله الآية. وفي تفسير الخازن والكشاف إيضاح حيث جاء في روايتهما «أن النبي رأى في منامه ولد الحكم بن أمية يتداولون منبره فساءه ذلك» وهذه الرواية تقتضي أن تكون الآية مدنية لأنه لم يكن بني مسجد ومنبر إلا في المدينة. وليس لهذا أي سند ولا مناسبة في سياق في صدد مواقف كفار قريش. ومنبر النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده في مدينته هو درجة أو درجتان وحسب. ونحن نعتقد أن الرواية من مصنوعات الشيعة. وفي تفسير الطبرسي الشيعي رواية عن الإمامين أبي جعفر وأبي عبد الله أن الشجرة الملعونة في القرآن هي بني أمية، والهوى الحزبي والتعسف بارزان على هذه الروايات شأن كثير مما يرويه مفسرو الشيعة.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 61 إلى 65]

[سورة الإسراء (17) : الآيات 61 الى 65] وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65) (1) كرّمت عليّ: فضلته وكرمته عليّ. (2) لأحتنكن: لأحتجزن ولأمنعن وقيل بمعنى لأستأصلن، من احتنك الجراد الأرض. (3) استفزز: حرك وأثر بفسادك ووسوستك. (4) أجلب عليهم بخيلك ورجلك: الإجلاب بمعنى السوق أو الهجوم بشدة وضجة. وخيلك بمعنى خيّالتك، ورجلك بمعنى رجالك المشاة. والمقصود بالجملة: هاجمهم وأحطهم كما تشاء من الشدة بجنودك الراكبين والمشاة. (5) ليس لك عليهم سلطان: ليس لك عليهم تأثير وسيطرة. في الآيات تذكير بموقف إبليس وعناده واستكباره عن الخضوع لله والسجود لآدم حسب ما أمره وحكاية ما كان بينه وبين الله من حوار، وتحديه بفعل ما يقدر عليه لصرف الناس عن الإيمان بالله. وتقرير كونه عاجزا عن التأثير في الطيبين الصالحين من عباد الله، ووعد بأن جهنم ستكون جزاءه وجزاء من يتبعه، وبيان بأن ما يزينه الشيطان للناس ويعدهم ليس إلّا من قبيل الإغراء والتغرير. والآيات متصلة بسابقاتها واستمرار للسياق في الوقت نفسه على ما هو المتبادر من نظمها وعطفها على ما سبقها. وقد احتوت تعليلا تطمينيّا للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لموقف الكفار وتكذيبهم وعنادهم وتنديدا بهم بحيث يبدو أنها أرادت تقرير كون الكفار يتبعون الشيطان ويغترون بما يزينه ويوسوسه لهم. وأن مصيره ومصيرهم إلى جهنم. وأنه إنما يؤثر في أمثالهم ممن خبثت طويتهم وغلظت

[سورة الإسراء (17) : الآيات 66 إلى 69]

قلوبهم. أما عباد الله المؤمنون فلن يكون له سلطان عليهم وتأثير فيهم. والتنديد بالكفار مستحكم لأنهم يعرفون إبليس وغوايته على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة ص. والتعبيرات التي استعملت في الآيات بالنسبة لإبليس مستعارة على ما هو المتبادر من الأساليب العربية وخطابهم ومع هذا فقد رأينا بعض المفسرين «1» يقولون إن لإبليس خيّالة ومشاة ووسائل حرب وتهييج، وأنه يشارك الناس المنحرفين في أكلهم وشربهم ومعاشراتهم الجنسية، دون سند وثيق. وفي هذا تكلف من جهة ودخول في ماهيات غيبية لا طائل من ورائه من جهة أخرى، والحكمة والعبرة في النص القرآني بارزتان وهذا من مقاصده الجوهرية وكفى. [سورة الإسراء (17) : الآيات 66 الى 69] رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69) . (1) يزجي: يسوق ويسيّر. (2) لتبتغوا من فضله: كناية عن الكسب والارتزاق البحري. (3) الضرّ: هنا بمعنى خطر البحر ودواره. (4) ضلّ من تدعون إلّا إياه: بمعنى ذهب عن بالكم كل من تدعونه غير الله كما تفعلون في غير وقت الخطر. (5) كفورا: جاحدا للجميل والفضل والنعمة. (6) حاصبا: رجوما من الحجارة.

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والكشاف وابن كثير والخازن مثلا.

[سورة الإسراء (17) : آية 70]

(7) لا تجدوا لكم وكيلا: لا تجدوا لكم نصيرا ولا محاميا. (8) قاصفا من الريح: ريحا شديدة تقصف ما أمامها وتحطمه. (9) تبيعا: من يتتبع ثأركم ويأخذه منّا. الآيات واضحة المعاني والألفاظ. وهي متصلة بما سبقها اتصالا تعقبيّا واستطراديا كما هو المتبادر. وفيها أسلوب قرآني آخر من أساليب الدعوة والإلزام والإفحام كما هو ظاهر. وهي بسبيل تذكير السامعين بأفضال الله عليهم بما ييسره لهم من أسفار البحر والنجاة من أخطاره، وفيها تنديد بالمشركين الذين لا يستغيثون به إلّا حينما يقعون في الخطر ثم يعودون إلى شركهم وسخفهم بعد النجاة كفرا بنعمة الله وفضله وجحودا كأنما هم قد أمنوا انتقام الله منهم في البر خسفا أو رجما، أو في البحر حينما يعودون إليه مرة أخرى. [سورة الإسراء (17) : آية 70] وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70) تعليق على آية وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ ... إلخ جاءت الآية معقبة على الآيات السابقة. وقد تضمنت تقريرا ربانيا بما اقتضته حكمة الله من تكريمه لبني آدم ورزقهم من الطيبات وتيسير سيرهم في البرّ والبحر وتفضيلهم على كثير من مخلوقاته. والتنويه المنطوي في الآية رائع عظيم. ومجيء ذلك بعد آيات قصة آدم وإبليس محكمة المناسبة وبالإضافة إلى ما في تكريم الله المذكور في القرآن بأمر الملائكة بالسجود لآدم كما جاء في الآيات السابقة للآية وفي ست سور أخرى فإن مظاهر هذا التكريم ذكر القرآن أن الله خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه كما جاء في سورة ص [77] وجعله وبالتبعية خلفاء في الأرض وقد ردّ على الملائكة المعترضين على ذلك بأن ذلك من مقتضى حكمته التي لا يعلمونها. وتعليمه من دونهم الأسماء كلها كما جاء في آيات سورة البقرة [30- 33] . ومن هذه المظاهر وصف

[سورة الإسراء (17) : الآيات 71 إلى 72]

القرآن بأن الله خلق الإنسان في أحسن تقويم كما جاء في سورة التين وبأن الله صور بني آدم على أحسن صورة كما جاء في آية سورة غافر [20] وغيرها مما مر منه أمثلة عديدة. ومن هذه المظاهر ذكر القرآن أن الله قد سخر لهم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة كما جاء في آية سورة لقمان [20] وآيات عديدة أخرى مرّت أمثلة منها. وإن الله قد اختصهم بالتكليف دون سائر خلقه كنتيجة لما شاءت حكمته من خلق الاستعداد فيهم للكمال الذهني والعقلي وتحمل مسؤولية أعمالهم كما هو المستفاد من آيات كثيرة جدا مرّت أمثلة منها وبخاصة من آيات سورة الأحزاب [72- 73] . ولقد قال ابن كثير في سياق الآية إنه استدل بهذه الآية على أفضلية جنس البشر على جنس الملائكة، وأورد حديثا أخرجه الطبراني عن عبد الله بن عمرو قال «قال رسول الله ليس من شيء أكرم على الله يوم القيامة من ابن آدم. قيل يا رسول الله ولا الملائكة، قال ولا الملائكة مجبورون بمنزلة الشمس والقمر» ، والحديث لم يرد في الصحاح. ولكن فحواه متساوق مع الآية في مدى تقرير ما لبني آدم عند الله من كرامة ومتساوق مع آيات البقرة [30- 33] ومتساوق مع أمر ربهم للملائكة بالسجود لآدم تكريما له. والمتبادر المستلهم من روح الآية ومقامها أنها بسبيل تقرير وإيجاب حق الإخلاص لله عزّ وجلّ وحده والاعتراف بفضله ونعمه ونبذ ما سواه في كل ظرف على بني آدم تجاه هذا الإيذان الرباني بتكريمهم وإيجاب العزوف عنهم عن كل ما يشين إنسانيتهم ويحط من كرامتهم التي حباهم الله بها في سلوكهم الخاص والعام. [سورة الإسراء (17) : الآيات 71 الى 72] يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72) (1) إمامهم: قيل إنها بمعنى رسولهم، وقيل إنها بمعنى كتاب أعمالهم، وقيل إنها بمعنى علاماتهم.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 73 إلى 75]

(2) لا يظلمون: لا ينقص من أعمالهم ولا يغبنون فيها. (3) فتيلا: الخيط الرفيع وهنا كناية عن الشيء التافه. في الآيتين تقرير رباني بأن الله تعالى يدعو الناس يوم القيامة ويعطي كلّا منهم كتب أعمالهم، فمنهم من يعطون كتبهم باليمين وهم المهتدون فيقرأونها فرحين مستبشرين ولا ينقص الله تعالى من أعمالهم شيئا مهما كان تافها، أما الذين كانوا في الدنيا عميا ضالين فيكونون في الآخرة أشدّ عمى وضلالا وخسرانا. والآيتان متصلتان بالسياق اتصال تعقيب واستطراد أيضا كما هو المتبادر. ولقد شرحنا موضوع كتب الأعمال وتوزيعها يوم القيامة وما ينطوي في ذكر ذلك بالأسلوب الوارد في القرآن من حكمة في سياق تفسير سورتي القارعة وق فلا ضرورة للإعادة. والمتبادر أن تعبير أَعْمى الأول هو مجازي للتعبير عن الذين لم يروا نور الهدى في رسالة النبي وكتاب الله وكفروا بهما في الدنيا. والثاني هو للمشاكلة ومن مقاصد التعبير الأول التنديد والثاني الإنذار والله تعالى أعلم. [سورة الإسراء (17) : الآيات 73 الى 75] وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) (1) ليفتنونك: هنا بمعنى ليصرفونك أو ليحملونك على العدول والرجوع. (2) خليلا: صاحبا. (3) لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات: لأذقناك عذابا مضاعفا في الحياة وعذابا مضاعفا بعد الممات على ما ذكره المفسرون. في الآيات تنبيه رباني للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الكفار كادوا يصرفونه عما أوحى الله إليه

تعليق على الآية وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره

ويحملونه على العدول عنه ومسايرتهم بوعد اتخاذهم إياه خليلا وصاحبا، وبأنه كاد أن يستجيب إليهم لولا أن ثبته الله، ولو فعل لاستحق من الله عذابا مضاعفا في الحياة وبعد الممات. وتبدو الآيات لأول وهلة منفصلة موضوعا عن السياق السابق، وقد احتوت إشارة إلى موقف خطير واقعي بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار وصورة من صور السيرة النبوية. ويتبادر لنا من وحدة السبك التي تجمع بين الآيات وسابقاتها أن هذا الموقف لم يكن فوريّا نزلت الآيات بسببه وإنما كان قبل ذلك فذكرته الآيات استطرادا بمناسبة ذكر مواقف الكفار ومكابرتهم وطغيانهم كلما ذكروا بآيات الله، ومن هنا يكون السياق غير منقطع كما هو المتبادر. تعليق على الآية وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ ولقد تعددت الروايات التي رواها المفسرون في صدد هذا الموقف فمنها أن فريقا من الكفار اقترحوا على النبي صلى الله عليه وسلم السكوت عن شتم آلهتهم وتحقيرها ليحاسنوه، ومنها أنهم اقترحوا الإبقاء على بعض تقاليدهم وطقوسهم مدة من الزمن، ومنها أنهم اقترحوا أن يسمح لهم بتكريم آلهتهم بعض التكريم. ومنها أنهم اقترحوا أن يلمّ بآلهتهم أي يمرّ بها ويمسها كما يفعل بالحجر الأسود على سبيل التبرك، ومما جاء في الروايتين الثانية والثالثة أنهم وعدوه- إذا فعل- أن يؤمنوا به، ومما جاء في الرابعة أنهم أرادوا أن يمنعوه من الحجر الأسود والطواف ما لم يلمّ بآلهتهم أي أوثانهم التي كانت في فناء الكعبة «1» ، وهناك رواية خامسة وردت في الجزء الأول من الطبقات لابن سعد تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى من قومه كفّا

_ (1) انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري وابن كثير والخازن والبغوي والزمخشري والطبرسي.

عنه، تمنى فقال ليته لا ينزل عليّ شيء ينفرهم مني وقارب قومه ودنا منهم ودنوا منه. وجلس يوما مجلسا من ناد حول الكعبة فقرأ عليهم وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) حتى إذا بلغ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) ألقى الشيطان كلمتين على لسانه وهما (تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى) ثم مضى فقرأ السورة كلها وسجد وسجد القوم معه جميعا وقالوا قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده فأما إذ جعلت لها نصيبا فنحن معك فكبر ذلك على الله فلما أمسى أتاه جبريل فقال له قلت على الله ما لم يقل فأوحى إليه وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ إلى قوله ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) وبلغ الخبر للمهاجرين في أرض الحبشة بأن أهل مكة أسلموا فبادروا إلى العودة حتى إذا كانوا دون مكة لقوا ركبا من كنانة فسألوهم فقالوا ذكر محمد آلهتهم بخير فتابعوه ثم ارتد عن ذلك وعاد إلى شتم آلهتهم فعادوا له بالشر فائتمر العائدون فعاد أكثرهم ثانية إلى الحبشة وعاد معهم آخرون مجددا. وقليل منهم رحل إلى مكة بجواره، وإن الحادث وقع في السنة الخامسة من البعثة «1» . وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح، ومع ذلك فروح الآيات ومضمونها متسقان مع رواية ما من الروايات الأربع دون الخامسة بقرينة ما حكته بعض الآيات من أمل كان يداعب الكفار بمداهنة النبي لهم ليداهنوه كما جاء في سورة القلم وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وكانوا يحلفون له فأمره الله في الآيات التالية لهذه الآية بعدم طاعتهم ثم حمل عليهم حملة قارعة على ما سبق شرحه في تفسير السورة. هذا مع التنبيه على أن عبارة الآيات صريحة بأن ما حكته كان خاطرا وقع في نفس النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله. بقيت الرواية الخامسة، ولقد رواها المفسرون في سياق تفسير آيات سورة الحج هذه وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي

_ (1) انظر الصفحات 189- 191 من الجزء الأول من طبقات ابن سعد مطبعة نشر الثقافة الإسلامية في القاهرة.

أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) ورووا أن هذه الآيات أذهبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الحزن الذي ألمّ به من معاتبه جبريل. وبعضهم روى مع هذه الرواية أن النبي كان يقرأ سورة النجم وهو يصلي في فناء الكعبة فجرت تلك العبارتان على لسانه. وهذه الرواية واهية موضوعا ومدى وسياقا وظرفا فإنه لا يمكن أن يصدر ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي كانت محاربته الشرك والمشركين بأية صفة من أهم أسس رسالته، والذي كان هذا الأساس من أكثر وأقوى ما نزل عليه من القرآن. وهو مناقض للعصمة النبوية التي قررها الله خاصة فيما يبلغه عن ربه حين يقول وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4) النجم: [3- 4] ومضمون الآية التي نحن في صددها والآيات التالية لها التي هي منسجمة معها كل الانسجام لا يمكن أن يتحمل ذلك عند التدبر وإنعام النظر فضلا عن أن الآية الأولى من آيات سورة الحج تعني أن كل نبي ورسول قد أجرى الشيطان على لسانه مقاطع غير ما أنزل الله وأن هذا هو سنة جارية مما هو غريب كل الغرابة ومتهافت كل التهافت. وما رواه بعضهم من أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم وهو يصلي بالمؤمنين في فناء الكعبة لا يؤيده أي خبر لأن النبي والمؤمنين ما كانوا في ظروف نزول الآيات يستطيعون بل ولم يستطيعوا في أي ظرف في مكة أن يصلوا جماعة وجهرا وعلى ملأ من المشركين في فناء الكعبة. والرواية تذكر أن النبي قال قولا أي وقع منه فعل في حين أن الآية تقول إنهم كادوا يفتنونه عن الذي أوحي إليه. وسياق آيات النجم لا يمكن أن يتحمل استطرادا من هذا القبيل لأنه مصبوب على تسفيه الكفار لاتخاذ الأصنام الثلاثة آلهة وتسميتها بأسماء الإناث ونسبتها إلى الله تعالى كبنات له، ونفي احتمال شفاعتهم لأحد إلّا بإذن الله ورضائه. وسورة الإسراء نزلت في النصف الأول من العهد المكي، ولم يكن المهاجرون إلى الحبشة قد هاجروا بعد. ولقد توقف معظم المفسرين الباحثين في الرواية وبخاصة في صدور

المقطعين عن النبي صلى الله عليه وسلم وفندوها سندا وموضوعا وأوردوا أقوال كثير من العلماء بالتفنيد بالإضافة إلى تفنيداتهم «1» . وحاول بعضهم أن يوفق بين الرواية والمقاطع وعصمة الرسول على غير ضرورة فقال إن المقاطع لم تجر على لسان رسول الله وإنما هتف بها الشيطان للفتنة. ومنهم من قال إن المشركين هم الذين هتفوا بها ردا على النبي صلى الله عليه وسلم حينما تلا سورة النجم. ورواية وصول خير مبالغ فيه بتحسن الحالة في مكة وإسلام أهلها قد تكون صحيحة بذاتها لأن هناك ما يفيد أن بعض المهاجرين عادوا إلى مكة. ولعل ذلك كان من ركيزة من افتراء المفترين وتضخيمهم. وكما أن مضمون آيات الإسراء وظروف نزولها وطبيعة مهمة النبي صلى الله عليه وسلم تتنافى مع رواية الغرانيق فإنها تتنافى أيضا مع القول إن النبي صلى الله عليه وسلم جنح إلى تساهل ما في أسس الدعوة وعقيدة التوحيد. وكل ما في الأمر على ما تلهمه روح الآيات ومضمونها أن النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان شديد الحرص على تحويل الكفار عن موقفهم منه وشديد الغمّ والحزن من انصرافهم عنه ومناداتهم له تلقى في لحظة من لحظات أزماته النفسية من جراء هذه الموقف بعض مقترحات من فريق معتدل من الكفار توقع في نفسه أن يستجيب إلى شيء منها على رجاء أن يكون ذلك وسيلة إلى جلبهم واستجابتهم للدعوة. وهذه حالة نفسية ليست مستحيلة الوقوع من وجهة الطبيعة البشرية. والنبي بشر مثل سائر البشر إزاء حالات النفس، وقد حكى القرآن ما كان من أزماته النفسية تجاه مواقف العناد والأذى التي كان يقفها زعماء الكفار مرارا عديدة مرت أمثلة منها لما حكى ما كان من تكرار محاولات الزعماء المعتدلين حمله على المسايرة والمداهنة ليسايروه ويداهنوه مرارا مرّت أمثلة منها كذلك. ولقد ثبته الله تعالى في هذا الموقف كما ثبته في غيره، لأنه لا يصح أن يكون

_ (1) انظر تفسير آيات الحج في الطبري والنيسابوري وابن كثير والبغوي والنسفي وانظر فصلا طويلا في ذلك للقاسمي في محاسن التأويل.

مساومة ولا حلّ وسط في دين الله الحق والمبادئ المحكمة التي قررها الله في قرآنه وقد أرسله لمحاربة الشرك بكل أنواعه ومظاهره وليكون الدين لله وحده. وفي هذا من التلقين الجليل المستمر المدى ما فيه من الروعة والجلال. وننبه على أن هناك رواية يرويها المفسرون تذكر أن الآيات التي نحن في صددها نزلت في ثقيف الطائف الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم أجلنا سنة حتى يهدى لآلهتنا فإذا قبضناه أسلمنا وكسرنا الآلهة وفي رواية أنهم طلبوا أن يعفيهم النبي من الانحناء في الصلاة وكسر أصنامهم بأيديهم وأن يتمتعوا باللات سنة أخرى، وفي رواية أنهم قالوا نحب أن تسمع العرب أنك أعطيتنا ما لم تعط غيرنا وأنه خطر لباله أن يستجيب إلى شيء مما طلبوه فأنزل الله الآيات. وهذه الرواية يرويها الطبري والبغوي عن ابن عباس دون أن يرد فيها أن الآيات مدنية كما هو المقتضى لأن وفد ثقيف جاؤوا إلى النبي في السنة التاسعة من الهجرة، والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أن هذه الآيات مدنية. وهذا يتفق مع مقتضى الرواية، وورود الآيات في سورة مكية، وفي سياق حكى فيه مواقف جدل الكفار وعنادهم. وورود روايات عديدة مؤيدة بقرائن قرآنية بتقدم بعض زعماء مكة باقتراحات متنوعة بسبيل حمل النبي صلى الله عليه وسلم على التساهل معهم. ووحدة السبل التي تجمع بين الآيات السابقة لها التي لا خلاف في مكيتها وانسجام السياق السابق واللاحق معا. وكل ذلك يحمل على الشك في رواية مدنية الآيات وبالتالي في رواية نزولها في صدد وفد ثقيف. هذا، وفيما احتوته الآيات دلالة ذات خطورة بالغة من ناحية أخرى وهي تلقي النبي صلى الله عليه وسلم الآيات التي احتوت تنبيها وعتابا وإنذارا خاصا له على اعتبارها وحيا قرآنيا وإثباتها وتسجيلها كذلك حيث ينطوي في هذا مظهر من مظاهر العصمة النبوية في تبليغ كل ما يوحى به إليه مهما كان. وحيث ينطوي فيه كذلك دليل آخر على صدق وعمق شعور النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي القرآني وكونه غير نابع من ذاته. ولقد تكرر هذا أكثر من مرة. ومن هذا القبيل آيات سورة القيامة [16- 19] وسورة طه [114] وسورة عبس [1- 10] التي مرت وآيات في سور أخرى مكية ومدنية.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 76 إلى 77]

[سورة الإسراء (17) : الآيات 76 الى 77] وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77) (1) ليستفزونك: ليثيرونك. (2) خلافك: بعدك أو من خلفك. في هاتين الآيتين إشارة ربانية إلى أن إزعاج الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ حدّا كادوا أن يستفزوه ويثيروه ويجعلوه يخرج من مكة وتوكيد تطميني بأن الأمر لو وصل إلى هذا الحد لكانوا عجّلوا على أنفسهم بالعذاب ولما بقوا معافين منه بعده أمدا طويلا، لأن ذلك سنة الله التي جرت مع الرسل والأمم من قبل والتي لا تبديل فيها ولا تحويل. تعليق على الآية وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها والآية التي بعدها روى المفسرون «1» في صدد نزول هذه الآيات روايات عديدة. منها أن اليهود كرهوا أن يكون النبي في المدينة فقالوا له إن أرض الأنبياء هي بلاد الشام وحرضوه على الرحيل وأن النبي عسكر على ثلاثة أميال من المدينة حتى يجتمع إليه أصحابه ويخرج. ورواية تذكر أن خروج النبي إلى تبوك هو من أثر تحريض اليهود وكان يقصد الشام فأنزل الله الآيتين ومنها أن الآيتين في صدد ما كان من مضايقة زعماء قريش له حتى يستفزوه ويضطروه إلى الخروج من مكة. ومقتضى الروايات الأولى أن تكون الآيتان مدنيتين. وقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أنهما مدنيتان.

_ (1) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.

غير أن أسلوب الآيتين منسجم ومتوازن مع الآيات السابقة لهما واللاحقة بهما، وهما معطوفتان على ما قبلهما الذي ذكر فيه مواقف كفار مكة. وضمير الجمع الغائب في الآيات عائد إليهم. وهو مماثل لضمير جملة وَإِنْ كادُوا السابقة. فضلا عن المشاكلة بين الآيتين والآيات السابقة لهما مباشرة، وكل هذا يجعل رواية مدنية الآيتين محل شك بل غير صحيحة، ولقد تعددت الفصول في القرآن المدني وطالت فيما جرى بين النبي صلى الله عليه وسلم واليهود في المدينة فليس من محل ولا حكمة لورود هذه الإشارة عنهم في سورة مكية وفي سياق عن كفار مكة. ولذلك نرجح بل نجزم والله أعلم أن الآيتين مكيتان وأنهما نزلتا في محاولات واستفزازات كفار مكة التي ذكرت الرواية الثانية وهو ما رجحه الطبري والبغوي وابن كثير. وقد فند الأخير رواية كون النبي خرج إلى تبوك بتحريض اليهود وقال إنه إنما خرج لمحاربة قبائل نصارى الشام الذين كانوا تحت سيادة الغساسنة والروم ولثأر شهداء مؤتة وأن خروجه كان بناء على آية سورة التوبة قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29) وكل هذا وجيه سديد. وروح الآية الأولى بل مضمونها قد يلهمان أنها بسبيل موقف واقعي بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار. غير أن وحدة السبك التي تجمع بين السياق جميعه تسوغ أن نقول ما قلناه في الآيات السابقة للآيتين مباشرة، أي أن الموقف الذي يمكن أن يكون انطوت إشارة فيهما إليه لم يكن فوريا نزلت الآيتان بسببه وإنما كان قبل نزولهما بمدة ما فذكر في الآية الأولى استطرادا بمناسبة ذكر مواقف الكفار، ومن هنا يكون السياق متصلا غير منقطع عن بعضه. ولقد كانت هجرة المسلمين إلى الحبشة في ظروف نزول سورة الإسراء ولا بدّ من أنها كانت موضع تفكير وحديث مدة غير قصيرة قبل تنفيذها، فليس من المستبعد أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد فكر أيضا أن يهاجر معهم ثم ثبته الله وجعله يعدل عن ذلك ويكتفي بهجرة الذين كانوا عرضة للاضطهاد والأذى من أصحابه من

أسرهم أو من زعماء قريش. ولعل هؤلاء الزعماء اشتدوا بعد هجرة المهاجرين في المناوأة والإحراج والاستفزاز فجعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم يفكر في الالتحاق بالمهاجرين في الحبشة ثم ثبته الله. ولعل هذا كان بعد الموقف الذي حكته الآيات السابقة للآيتين الذي خطر للنبي فيه مسايرة الكفار في بعض مقترحاتهم. فلما ثبته الله وعدل عن تنفيذ ما خطر له اشتد استفزاز الكفار ومناوأتهم فكان ذلك مما جعله يفكر في اللحاق بأصحابه المهاجرين وهذا ما يبدو لنا أنه الأوجه لأن حكاية الموقفين جاءت متوالية. ولقد روى البخاري عن عائشة حديثا جاء فيه «لم أعقل أبويّ قطّ إلّا وهما يدينان الدّين الإسلاميّ ولم يمرّ علينا يوم إلّا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية. فلمّا ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة حتّى بلغ برك الغماد فلقيه ابن الدّغنّة وهو سيّد القارة فقال أين تريد يا أبا بكر فقال أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربّي فقال ابن الدّغنة مثلك لا يخرج ولا يخرج. إنّك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكلّ وتقري الضّيف وتعين على نوائب الحقّ فأنا لك جار فارجع فاعبد ربّك ببلدك. فرجع وارتحل معه ابن الدغنة فطاف ابن الدّغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم إنّ أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج. أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرّحم ويحمل الكلّ ويقري الضيف ويعين على نوائب الحقّ. فلم تكذّب قريش بجوار ابن الدّغنة» «1» . وأبو بكر رضي الله عنه أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملازمة له وتأييدا وتصديقا. والحديث يذكر أنه لم يكن يمرّ يوم إلا يأتي النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته بكرة وعشية. وفي الحديث إشارة إلى ما كان من وعد النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة وإياه إلى المدينة وما كان من هجرتهما معا حينما خرج النبي مهاجرا وهو صاحبه في الغار. فمن المحتمل كثيرا أن يكون الاثنان قد اتفقا على الخروج من مكة بعد هجرة جلّ

_ (1) التاج ج 3 ص 235 وبرك الغماد إقليم على ساحل البحر بينه وبين مكة خمس ليال إلى ناحية اليمن والقارة اسم المنطقة التي فيها قبيلة ابن الدغنة. [.....]

[سورة الإسراء (17) : الآيات 78 إلى 81]

أصحابهم إلى الحبشة واشتداد مناوأة زعماء الكفار واستفزازهم على أن يخرج كل منهما على حدة ويلتقيا في ثغر جدة أو غيره فيبحران منه إلى الحبشة ثم ثبت الله تعالى رسوله فاستقر. ولم يلبث صاحبه أن عاد فازداد استقرارا وطمأنينة. ولقد علق ابن كثير على جملة وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) والآية التي جاءت بعدها فقال إن الله قد توعد الكفار فيهما وأنه حقق وعيده فيهم فلم يكن بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم إلى المدينة إلا سنة ونصف حتى جمعهم الله وإياه في بدر فأمكنه منهم وأظفره بهم فقتل أشرافهم. وهذا التعليق في محله حيث يبدو من خلاله صورة من صور الإعجاز القرآني. [سورة الإسراء (17) : الآيات 78 الى 81] أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) (1) دلوك الشمس: زوالها وهو انتصاف النهار، وقيل إن التسمية بسبب ما يضطر الناظر إلى الشمس إليه من دلك عينيه من شدة الشعاع. وقيل إنه غروب الشمس وأن التسمية بسبب ذلك الناظر عينيه حتى يتبينها. والأكثر على أنه الزوال. وجملة إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ قرينة على ذلك. (2) غسق الليل: ظلمة الليل. (3) قرآن الفجر: كناية عن صلاة الفجر. والفجر تباشير شروق الشمس الأولى. (4) التهجد: ترك الهجود. والهجود هو السكون والنوم. والكلمة كناية عن القيام للصلاة في الليل.

تعليق على الآية أقم الصلاة لدلوك الشمس ... والآيات الثلاث التالية لها

(5) نافلة: زيادة فوق الواجب أو الفرض. (6) مدخل صدق ومخرج صدق: الصدق هنا بمعنى الاستقامة والكرامة والشرف والرضاء أيضا. (7) زهق: اضمحل وحبط. المتبادر أن الآيات غير منفصلة عن سابقاتها وأنها جاءت بمثابة تعقيب عليها وبسبيل تطمين النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته والإهابة به إلى عدم الحزن والغم مما يبدو من الكفار من عداء وعناد وإزعاج وخداع وإغراء حيث تأمره بأن يتفرغ لعبادة الله تعالى وذكره والصلاة له في الليل والنهار، فيقيم الصلوات في أوقاتها المفروضة منذ الزوال إلى ظلمة الليل وفي الفجر ثم بالتهجد في الليل أيضا وأن يدعو ربه لييسر له الكرامة والسلامة والثبات والنصر والتأييد في مواقفه وتصرفاته ومداخله ومخارجه، فذلك أحرى أن ينيله ما يرغب فيه وأن يقرّ عينه بالمقام المحمود وعليه كذلك أن يهتف بالناس أن قد جاء الحق واضمحل الباطل لأنه مضمحل بطبيعته أمام الحق. والآيات قوية التلقين والتطمين. ومن شأنها بثّ الرّوح والراحة والقوة في النفوس والقلوب سواء أفي الظرف الذي نزلت فيه والقصد الذي قصدت إليه بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم أم في غيره من الظروف. تعليق على الآية أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ... والآيات الثلاث التالية لها يلفت النظر بخاصة إلى قوة الحثّ على التهجد في الليل وصلاة الفجر وقرآنه. والمتبادر أن هذا متصل بما يكون في ذلك من مظهر الإخلاص التام لله عز وجل، وما تشعر به النفس من سكينة وطمأنينة وقوة روح. والخطاب وإن كان موجها في الآيات إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإن كل ما فيها من حثّ ووعد وتطمين يصح أن يعتبر موجها لجميع المؤمنين الذين أمروا أن يكون لهم في

رسول الله الأسوة الحسنة كما هو المتبادر. ولقد كان ذلك واقعا في زمن النبي وفي العهدين المكي والمدني، بقرينة آيات الذاريات كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وآية المزمل الأخيرة التي مرّ تفسيرها. ولقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات الأولى أي [78- 80] مع [73- 77] مدنيات. ولقد روى الترمذي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بالهجرة من مكة أنزل الله عليه وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) «1» ولقد توقفنا في رواية مدنية الآيات السابقة لأن وحدة السياق والموضوع والنظم جامعة بينها وبين ما قبلها. وهذا هو الحال أيضا بالنسبة لهذه الآيات. ولذلك نحن نتوقف في رواية مدنيتها كذلك. ومن العجيب أن رواية مدنية الآيات لم تشمل الآية [81] في حين أنها جزء غير منفصل عن السياق. وهذا مما يدعم صواب توقفنا. وحديث الترمذي لا يجعلنا نغيّر رأينا، ولا سيما أن مقتضاه أن تكون الآية [80] نزلت لحدتها للمناسبة المذكورة فيه مع أنها جزء من سياق تام سبكا وموضوعا. ويظهر أن الطبري لم يأخذ بالحديث أو لم يثبت عنده حيث قال إن الآية متصلة بما قبلها وإنها بسبيل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء بأن ييسر له المخرج الصدق والمدخل الصدق والسلطان الذي ينتصر به على الكفار الذين يحاولون استفزازه ليخرجوه من الأرض وهو قول وجيه سديد. وعلى كل حال فالمتبادر من روح الآيات جملة أن الأمر القرآني هو بقصد بثّ الروح والقوة في نفس النبي صلى الله عليه وسلم وجعله يأمل ويلتمس من الله النصر والتأييد والعزة وحسن المصير في مواقفه ومداخله ومخارجه عامة في مناسبة ما كان من اشتداد مناوأة زعماء الكفار وإزعاجهم. ولقد أورد البغوي في سياق الآيات أحاديث عن تهجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في

_ (1) التاج ج 4 ص 144 و 145.

الليل وما كان من اهتمامه الشديد لذلك «1» . ولا شك أن هذا من تلقين آيات سورة المزمل الأولى التي مر تفسيرها، وقد شاءت حكمة التنزيل أن تكرر الأمر له بذلك في الآيات التي نحن في صددها وأن تزيد فتؤمله بالمقام المحمود. ولقد ذكر المقام المحمود في أحاديث نبوية عديدة منها ما فيه توضيح له. رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبيّ يومئذ- آدم فمن سواه- إلا تحت لوائي فيأتيني الناس فأنطلق معهم إلى أن قال فأخرّ ساجدا فيلهمني الله من الثناء والحمد فيقال لي ارفع رأسك سل تعط واشفع تشفّع، وقل يسمع قولك. وهو المقام المحمود الذي قال الله عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) » «2» وهناك حديث رواه البخاري عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه أمر للمؤمنين بدعاء الله بأن يؤتي رسوله المقام المحمود هذا نصه «من قال حين يسمع النّداء (الأذان) اللهمّ ربّ هذه الدّعوة التّامة والصّلاة القائمة آت سيّدنا محمّدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلّت له شفاعتي يوم القيامة» «3» . والخطاب في الآية موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفيه تأميل رباني له بأن يبعثه الله مقاما محمودا. وما دام هناك حدث صحيح في توضيح مدى المقام المحمود يجب الوقوف عنده الإيمان بما فيه مع استئناف الحكمة منه. ويتبادر لنا من روح العبارة القرآنية وفحواها أن التنويه بشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبث الروح والقوة فيه إزاء موقف الكفار وحثه على عبادة الله في كل وقت وبخاصة في الليل وبيان ما في ذلك من أسباب السكينة والطمأنينة والبشرى بما يكون له من نصر وسلطان ومقام محمود عند الله، كل ذلك من تلك الحكمة بالإضافة إلى ما شاءت عناية الله ورحمته من اختصاصه يوم القيامة بالشفاعة العظمى دون الأنبياء وهو المقام المحمود حقا وصدقا.

_ (1) هناك أحاديث وردت في الصحاح في فضل قيام الليل وشدة اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وحثه عليه انظر التاج ج 1 ص 290- 292. (2) التاج ج 4 ص 144. (3) المصدر نفسه.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 82 إلى 84]

ولقد روى البخاري والترمذي حديثا عن ابن مسعود «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب فجعل يطعنها بعود في يده ويقول جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) . جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد» «1» حيث ينطوي في الحديث خبر تحقق فيه نصر الله وظهور الحق المتمثل بدين الله وهزيمة الباطل المتمثل بالشرك واضمحلاله. وبالتالي تحقق فيه مصداق الهتاف الذي أمر الله تعالى رسوله بالهتاف به، إبان ضعفه والذي لم يكن من شأنه أن يتبدل لأنه هتاف الله المحكم الخالد جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) . [سورة الإسراء (17) : الآيات 82 الى 84] وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84) (1) شفاء: هنا بمعناها المعنوي أي شفاء النفوس وراحتها وبرؤها من الريب والوساوس والتعقيد والحيرة. (2) نأى: ابتعد. (3) شاكلته: طريقته وما انطبع عليه من جبلّة وروح وسريرة. الآيات معطوفة على ما سبقها كما هو المتبادر، والأمر بالقول الموجه للنبي صلى الله عليه وسلم في أول الآية [84] يجعل اتصالها بالآيات السابقة وثيقا وكأنها استمرار لها. وقد احتوت تقريرا ربانيا بأن الله تعالى ينزّل من القرآن ما يجد فيه المؤمنون شفاء نفوسهم وتطمينها ورحمتها وإنقاذها من الحيرة والتعقيد، وذلك خلافا

_ (1) التاج ج 4 ص 145.

[سورة الإسراء (17) : آية 85]

للظالمين الذين يزدادون عنادا بسبب ما جبلوا عليه من خبث الطوايا فيزدادون بذلك خسارا وبأن الناس إنما يسيرون وفق ميولهم وطبائعهم المنبثقة من تربيتهم وأخلاقهم، وأن من طبيعتهم في أكثر الأحيان أن يستكبروا ويبتعدوا عن الحق إذا نالوا خيرا ونعمة، وأن ييأسوا ويكفروا إذا نالهم شر ونقمة وعلى النبي صلى الله عليه وسلم ألّا يبالي بالكفار وليشهد الله، فهو الأعلم بمن هو السائر على الحق والطريق القويم. والآيات كسابقاتها قوية التلقين والتطمين. وقد احتوت مبادئ إيمانية واجتماعية جليلة في أثر القرآن في النفوس الصالحة الراغبة في الحق والهدى، وأثره في الظالمين الذين يصدرون عن ميول منحرفة وقلوب غليظة وأخلاق فاسدة ثم في تفاوت الناس من حيث التأثر بالحق والدعوة إلى الخير حسب ما يكونون عليه من طيب سرائر وحسن نوايا وخبث وسوء طوايا، وما عليه كثير من الناس من طبائع مذمومة يجب الحذر منها، كالكبر والإعراض عن الحق إذا ما اغتنوا ونالوا أمانيهم في الحياة. وكاليأس والكفر إذا ما مسهم الشر وقست عليهم الظروف. [سورة الإسراء (17) : آية 85] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85) في الآية حكاية لسؤال أورد على النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح. وأمر له بالإجابة بأن الروح من أمر الله تعالى واختصاصه وعلمه، وليس من شأن البشر إدراكه، وإن ما أوتيه الناس من العلم هو قليل بالنسبة إلى علم الله وآياته في كونه. تعليق على جملة وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي لقد رويت عدة روايات وتأويلات في صدد السؤال وماهيته. من ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن عبد الله قال «كنت أمشي مع رسول الله في حرث بالمدينة وهو يتوكّأ على عسيب فمرّ بنفر من اليهود فقال بعضهم لو سألتموه فقالوا

لا تسألوه فإنّه يسمعكم ما تكرهون. فقالوا يا أبا القاسم حدّثنا عن الروح فقام النبيّ ساعة ورفع رأسه فعرفت أنّه يوحى إليه حتّى صعد الوحي ثمّ قال وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) » «1» وروى الطبري أن اليهود قالوا للنبي حينما تلا عليهم الآية جوابا على سؤالهم «أتزعم أنّا لم نؤت من العلم إلّا قليلا وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا فنزلت الآية وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ ... لقمان: [27] فقال لهم ما أوتيتم من علم فنجّاكم به الله من النار هو كثير وهو قليل في علم الله» وروى عن قتادة أن اليهود تغشوا الرسول فسألوه عن الروح وعن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين فأنزل الله في كتابه ذلك كله. وروى البغوي عن ابن عباس أن قريشا اجتمعوا وقالوا إن محمدا نشأ فينا بالأمانة والصدق وقد ادّعى ما ادّعى فابعثوا نفرا إلى اليهود بالمدينة واسألوهم عنه فإنهم أهل كتاب فبعثوا إليهم فقالوا سلوه عن ثلاثة أشياء فإن أجاب عن كلّها أو لم يجب عن شيء منها فليس بنبي وإن أجاب عن اثنتين ولم يجب عن واحدة فهو نبي. سلوه عن فتنة في الزمن الأول كان لهم حديث عجيب. وعن رجل بلغ شرق الأرض وغربها، وعن الروح. فسألوه فقال النبيّ أخبركم غدا بما سألتم ولم يقل إن شاء الله فلبث الوحي اثنتي عشرة ليلة أو أكثر في رواية، وأهل مكة يقولون وعدنا محمد غدا وأصبحنا لا يخبرنا بشيء حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم من مكث الوحي، وشقّ عليه ما يقوله أهل مكة ثم نزل جبريل بقوله وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ الكهف: [23- 24] وما بعدها وهي الآيات [23- 24] من سورة الكهف ثم نزل في الفينة آيات سورة الكهف [9- 25] وفي من بلغ الشرق والغرب وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ الآيات [83- 99] من سورة الكهف وعن الرُّوحِ الآية التي نحن في صددها. هذا في صدد مصدر السؤال، وفي ماهية الروح قولان يرويهما الطبري عن

_ (1) التاج ج 4 ص 145.

ابن مسعود جاء في أحدهما أنه جبريل وفي ثانيهما أنه ملك من الملائكة. وقول ثالث يرويه نفس المفسر عن علي بن أبي طالب أنه ملك له سبعون ألف وجه لكل وجه سبعون ألف لسان لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله عز وجل بها كلها، ويخلق الله مع كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة. وروى البغوي عن مجاهد وسعيد بن جبير أن الروح خلق عظيم لم يخلق الله أكبر منه إلّا العرش لو شاء أن يبتلع السموات السبع والأرضين السبع ومن فيهما بلقمة واحدة لفعل وهو مزدوج الصور الخلقية من ملائكة وبشر ... يقوم يوم القيامة عن يمين العرش.. ثم قال المفسر وقد قيل إن الكلمة تعني القرآن. أو عيسى عليه السلام الذي وصف الله بأنه روح منه أو أنها الروح الذي يحيا وقال إن القول الأخير هو الأصح. وروى الطبري أن المشركين إنما سألوا النبي عن الروح الذي هو القرآن. كيف يلقاك به الملك وكيف ينظم ويرتب. وعقب على هذه الرواية بقوله إن القرآن سمي روحا في آية سورة الشورى هذه وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا ... الشورى: [52] . والحديث الذي رواه الشيخان والترمذي عن عبد الله هو الوثيق بسند صحيح من بين هذه الروايات. ومقتضاه أن تكون الآية مدنية ولسنا نرى حكمة ولا محلا ولا مناسبة لإيراد سؤال أورده اليهود في المدينة على النبيّ مع جوابه في سورة مكية، وفي سياق يحكي مواقف كفار مكة إزاء النبي ودعوته. في حين أن السور المدنية احتوت الفصول الكثيرة فيما كان من اليهود من مواقف وأسئلة وتحديات وتعجيزات للنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته. وقد لحظ هذا المفسر ابن كثير فقال إن جميع السورة مكية ثم قال يمكن أن يجاب على هذا بالقول إن الآيات نزلت في المدينة مرة ثانية. وهذا القول لا يحل الإشكال. ومقتضاه أن يكون سؤال مثله أورد في مكة وأجيب عليه في مكة. وقد خطر لنا إزاء الحديث الصحيح أن يكون اليهود في المدينة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم نفس السؤال فتلا عليهم الآية المكية ولما قالوا له أوتينا التوراة والحكمة تلا عليهم آية لقمان المكية وأن الأمر التبس على الرواة فرووا أنه

حادث حدث في المدينة ولا ضرورة لفرض نزول الآية مرة ثانية في المدينة والله أعلم. ورواية السؤال عن الروح فقط هي الأكثر وجاهة واتساقا مع نصّ الآيات ومقامها. دون الرواية التي تذكر أن هذا السؤال هو أحد أسئلة ثلاثة أو عز اليهود للمشركين بسؤالها للنبي صلى الله عليه وسلم، وعدم وجاهة هذه الرواية يبدو قويا في كون المسألتين الثانيتين جاءتا في سورة أخرى، وكل منهما بعيدة في ترتيب النزول عن الأخرى. ومن المحتمل أن يكون السؤال أورد من المشركين بإيعاز من اليهود أو بدون إيعازهم. ومن المحتمل أن يكون أورد من بعض اليهود أو النصارى مباشرة وكان منهم أفراد في مكة. بل ومن المحتمل أن يكون أورد من بعض المسلمين، فموضوع السؤال من المواضيع الدقيقة التي تخطر لبال كل من هؤلاء أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عنها. والروايات التي تذكر أن الروح المسئول عنه هو ذلك الخلق العظيم العجيب من الملائكة أو غيرهم أو عيسى عليه السّلام لا تستند إلى سند وثيق. ويتبادر لنا من مقام الآيات وسياقها أن الرواية التي تذكر أن المقصود من السؤال هو القرآن وكيفية نزول الملك به على النبي هي الأكثر وجاهة وورودا. فالقرآن ذكر قبل هذه الآيات فيجوز أن يكون السؤال أورد على النبي في ظرف نزولها فنزل الجواب في ذلك مع السياق. وورود آية بعد قليل من الآية فيها إيذان بعجز الجن والإنس عن الإتيان بالقرآن قد يكون قرينة قوية على هذا الترجيح كما هو المتبادر. وفي سورة الشعراء التي نزلت قبل هذه السورة بقليل آيات عديدة عن القرون ونزول الملك به [192- 195 و 211- 214] فيجوز أن يكون ما جاء فيها هو المناسبة للسؤال أيضا. والآيات السابقة لهذه الآية والتالية لها التي فيها ذكر القرآن والانسجام الذي يبدو قويا تاما يمكن أن تكون قرائن مرجحة لترجيحنا. ولقد كان القرآن من أكثر المواضيع التي دار جدل الكفار حولها ونزل فيه آيات مكية. وهذا

[سورة الإسراء (17) : الآيات 86 إلى 87]

كذلك يمكن أن يكون من القرائن المرجحة بخلاف ما إذا فرض أن السؤال كان عن نسمة الحياة. حيث إنه لا يبدو مناسبة ما بين هذا السؤال وسياق الآية. والله تعالى أعلم. ولقد جاء الجواب محكما قويا فليس من الممكن لعقل الإنسان أن يستكنه سرّ الله والوحي القرآني متصل بسرّ الله سبحانه وتعالى وعلى الناس أن يريحوا أنفسهم وأن يسلموا وأن يؤمنوا ويكتفوا بما هو ماثل لهم من حقيقة فظهر هذا السرّ وهو القرآن الذي يتلى عليهم والذي معجزة رسول الله الكبرى. وقد يكون في الجواب القوي المحكم جواب على كل تساؤل عن أمور لا يعيها العقل البشري وأخبر بها القرآن وثبت خبرها عن النبي صلى الله عليه وسلم فوجب الإيمان بها وإيكال أمر تأويلها إلى الله. [سورة الإسراء (17) : الآيات 86 الى 87] وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) تضمنت الآيتان تنبيها للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الله لو شاء لذهب بما أوحاه الله إليه. وحينئذ لن يجد له نصيرا على الله يمنع ذلك. وأن ذلك لم يكن إلّا رحمة من ربه الذي له الفضل الكبير عليه. ولم يرو المفسرون في صدد نزول الآيتين شيئا على ما اطلعنا عليه. وكل ما هنالك رواية يرويها الطبري تقول إن ابن مسعود كان يتأول معنى ذهاب الله عز وجل بما أوحاه الله من قرآن هو رفعه من صدور المسلمين ومصاحفهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روى ابن كثير الرواية وزاد عليها عزوا إلى ابن مسعود أنه يطرق في آخر الزمان من قبل الشام ريح حمراء فلا يبقى في مصحف رجل ولا في قلبه آية من القرآن. وروى البغوي الرواية ومعها رواية عن عبد الله بن عمرو فيها أنه لا تقوم الساعة حتى يرجع القرآن من حيث نزل، له دوي حول العرش كدوي النحل فيقول الرب ما لك وهو أعلم بما يقول فيقول يا رب أتلى ولا يعمل بي. وروى الزمخشري شيئا من أقوال ابن مسعود ثم قال يمكن أن يكون الاستثناء منقطعا

[سورة الإسراء (17) : الآيات 88 إلى 89]

بمعنى (ولكن رحمة ربك تركته غير مذهوب به) وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظا بعد المنة العظيمة في تنزيله وتحفيظه. والذي يتبادر لنا من عطف الآيتين على ما سبقهما مع توجيه الخطاب فيهما للنبي صلى الله عليه وسلم مثل الآية السابقة لهما مباشرة أنهما جاءتا للتعقيب على هذه الآية لتنبيه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن تلقى الجواب عن الروح وكونه من أمر الله إلى أنه ليس عليه إلّا أن يتلقى وحي الله ويبلغه وأنه يتأكد في نفسه ويعلن للناس أنه ليس له من الأمر شيء. فإذا كان الله تعالى قد اختصه بوحيه وقرآنه فذلك فضل منه ورحمة. وفضله عليه كبير، وإنه لقادر إذا شاء أن يذهب به فلا يستطيع أحد أن يحول دون ذلك أو يجد له على الله نصيرا. وما قاله الزمخشري من احتمال أن يكون الاستثناء منقطعا وكون الجملة قد تضمنت منا من الله تعالى لا يخلو من وجاهة وليس من شأنه التعارض مع ما تبادر لنا. أما ما روي عن ابن مسعود وابن عمرو فإنه من نوع الأمور المغيبة التي لا يصح الأخذ بها حتى لو صحت عنهما وليس هناك ما يثبت ذلك إلّا بخبر وثيق عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه فيما يتبادر لنا تجاوز للمدى الذي قصدت إليه الآيتان لأنهما موجهتان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحسب، والله تعالى أعلم. [سورة الإسراء (17) : الآيات 88 الى 89] قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89) عبارة الآيتين واضحة. وهي قوية في تحديها قوية في تنديدها. فالقرآن سيظل المعجز الممتنع عن التقليد على جميع المخلوقات إنسهم وجنهم ولو تضامنوا معا لأنه وحي الله تعالى ومظهر سره. وقد صرّف فيه للناس من كل مثل وحجة وحقيقة ما يكفي لإقناعهم، وإن أكثرهم أهل لكل تنديد لأنهم يأبون مع ذلك إلّا المماراة والعناد والجحود.

تعليق على إعجاز القرآن وعجز الناس عنه

وقد روى الطبري عن ابن عباس أن الآيتين نزلتا في نفر من اليهود جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن وقالوا له إنا لا نراه متناسقا كالتوراة وسألوه أن يأتيهم باية غيره شاهدة على نبوته وأنهم قادرون على أن يأتوا بمثله، فقال لهم رسول الله أما وإنكم لتعلمون أنه من عند الله وتجدونه مكتوبا عندكم فأنزل الله الآيتين. وقد توقف ابن كثير في الرواية وقال إن السورة كلها مكية وسياقها مع قريش. واليهود إنما اجتمعوا بالنبي في المدينة. وقال البغوي إن الكفار لما قالوا لو نشاء لقلنا مثل هذا كذبهم الله بالآيتين. ولقد حكت آية في سورة الأنفال المدنية على سبيل التذكير بمواقف وأقوال كفار مكة قبل الهجرة قولا روى المفسرون أن قائله النضر بن الحارث وهي وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ الأنفال [31] حيث يصح أن يقال بشيء من الجزم إن في الآيتين ردا وتكذيبا لكفار مكة وإن رواية نزولهما في صدد جدل اليهود مع النبي وتحديهم إياه غير صحيحة. على أن وحدة السبك والسياق في الآيتين وما قبلهما وما بعدهما تلهم كما هو المتبادر لنا أنهما لم تنزلا فورا بسبب هذا القول الذي حكته آية الأنفال وأن هذا القول قد صدر عن قائله قبل نزولهما بمدة ما وأنهما جاءتا على سبيل التعقيب والاستطراد بعد الآيات السابقة مباشرة التي نوّه فيها بالقرآن الذي فيه شفاء ورحمة للمؤمنين والتي تقرر أن تنزيله سرّ من أسرار الله وبعد الآيات السابقة لهذه الآيات التي حكى فيها بعض مواقف وأقوال الكفار واستفزازاتهم. ومن المحتمل أن تكونا تضمنتا في الوقت نفسه ردا وتحديا قويين للقائل المتبجح، والله أعلم. تعليق على إعجاز القرآن وعجز الناس عنه ولقد تكررت الإشارة إلى عجز الناس عن الإتيان بمثل القرآن كما تكرر تحدي الكفار بالإتيان بحديث أو سورة أو عدة سور من مثله جوابا على ما كانوا ينسبونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم من افترائه أو تعلمه أو اقتباسه من أساطير الأولين، مثل آيات

سورة الطور هذه أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) ومثل آية سورة يونس هذه أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) ومثل آية سورة هود هذه أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) ومثل آيات سورة البقرة هذه وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24) . وآيات البقرة مدنية. وهذا يعني أن التحدي تكرر في العهد المكي مرارا ثم تكرر في العهد المدني بالإتيان بأي شيء من مثله مهما قلّ. وآيات البقرة صريحة بأن أحدا لم يحاول إجابة التحدي سابقا، وحاسمة بأن أحدا لن يفعل ذلك في المستقبل. ولقد تكلم المفسرون وعلماء القرآن كثيرا في موضوع إعجاز القرآن وتحدي الناس بالإتيان بمثله أو بشيء من مثله وعجزهم عن ذلك «1» ومنهم من قال إن العرب وهم فرسان البلاغة والفصاحة قادرون على سبك بعض السور والجمل المماثلة ولكن الله تعالى صرفهم عنه فظهر منهم العجز. ولا نرى هذا وجيها ولا نفهم حكمة الله بتحديه للناس وصرفهم عنه مع قدرتهم عليه. ومنهم من قال إن لغة القرآن أعلى من أفهام العرب وأساليبهم ولذلك عجزوا عن الإتيان بمثله. وهذا يتناقض فيما يبدو لنا مع نصوص قرآنية صريحة بأن لغة القرآن وأساليبه مثل لغة العرب وأساليبهم وفي متناول أفهامهم ليعقلوه ويتدبروه كما جاء في آية سورة ص هذه كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29) وآيات سورة الزمر هذه وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) وآية سورة فصلت هذه كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ

_ (1) انظر كتابنا القرآن المجيد ص 148 وما بعدها والإتقان للسيوطي ج 2 (النوع الرابع والستون) وتفسير الآيات وتفسير آيات البقرة ويونس وهود والطور المذكورة في المتن في كتب تفسير المنار والطبري والقاسمي وابن كثير والخازن والبغوي والزمخشري والطبرسي.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 90 إلى 93]

قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) وآية سورة الزخرف هذه إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) . ولقد حكى القرآن كثيرا من أقوال العرب فجاءت منسجمة مع نظمه ولغته. وقد مرّ من ذلك أمثلة عديدة ومنها آيات سورة الأنفال هذه وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) ومنها آيات سورة الأحزاب هذه وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً (13) وآية سورة سبأ هذه وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) ومنهم من جمع بين التنويه ببلاغة أسلوب القرآن وروعة نظمه وسمو طبقته وبين ما احتواه من المبادئ والأسس والتلقينات التي فيها هدى ورحمة للعالمين في كل ظرف ومكان، والتي لا تناقض بينها ولا تخالف وبين تأثيره في السامعين وروحانيته القوية النافذة «1» . وفي هذا الحق والصواب. وبذلك كله كان معجزة الله الكبرى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، بل واكتفى بها عن إظهار معجزات خارقة استجابة لتحدي الكفار على ما جاء في آيات عديدة مرّ بعضها ومنها آيات سورة العنكبوت هذه وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) . [سورة الإسراء (17) : الآيات 90 الى 93] وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93)

_ (1) انظر بخاصة تفسير آيات البقرة [23- 24] في تفسير الخازن والقاسمي الذي ينقل مثل هذا عن بعض العلماء القدماء.

(1) كسفا: قطعا. (2) زخرف: هنا بمعنى الذهب، على ما قاله المفسرون. الآيات واضحة الألفاظ والمعاني. وقد روى المفسرون في سياق طويل أنها نزلت بمناسبة دعوة بعض زعماء قريش النبي صلى الله عليه وسلم إلى اجتماع للتفاوض والتفاهم فجاءهم مسرعا آملا بارعوائهم الذي كان شديد الحرص عليه فعرضوا عليه الكفّ عن آلهتهم واستعدادهم لإعطائه ما يبتغيه من مال وملك وشرف أو يعالجونه إذا كان له تابع من الجنّ ومريضا به فجادلهم وبيّن لهم رغبته الشديدة في هدايتهم، وأن الله إنما بعثه لذلك وليس له أي مطلب آخر فإن لم يستجيبوا صبر حتى يحكم الله بينه وبينهم، وحينئذ أخذوا يطلبون منه البراهين والمعجزات التي حكتها الآيات «1» . ومع احتمال صحة الرواية فإن وحدة النظم والتساوق التي تجمع بين الآيات وسابقاتها ولاحقاتها تلهم أنها استمرار للسياق، ولقد ذكرت الآية السابقة مباشرة لها أن أكثر الناس أبوا إلّا الكفر برغم ما صرفت لهم في القرآن من الأمثال، فأعقبتها هذه الآيات تحكي ما يقولونه ويطلبونه من مطالب ومعجزات حيث تقوم القرينة على استمرار السياق وصلة الآيات بسابقاتها، وحيث يتبادر أن الآيات لم تتنزل فور كلام الكفار وأنه قد وقع قبل مدة منها فذكرته الآيات في معرض ما تذكره من مواقف الكفار وتعجيزاتهم.

_ (1) انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 94 إلى 96]

وقد أمرت الفقرة الأخيرة النبي صلى الله عليه وسلم بالرد على الكفار واستنكاره لهذه المطالب وتوكيده أنه ليس إلّا بشرا أرسله الله ليبلغهم دعوته ويهديهم إليه، وأسلوبها قوي أخّاذ، وقد انطوى فيها قصد التوكيد بأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له أي تصرف في الكون وأي قدرة على خرق النواميس. [سورة الإسراء (17) : الآيات 94 الى 96] وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96) الآيات متصلة بما سبقها اتصال تعقيب واستطراد كما هو المتبادر. وقد احتوت أولاها تعليلا لعدم إيمان أكثر الناس بما جاءهم أنبياؤهم به من الهدى وهو استغرابهم أن يكون رسول الله إليهم من البشر وعدم تصديقهم بذلك، واحتوت ثانيتها بيانا لحكمة الله وسنته حيث اقتضتا أن يكون رسله من جنس المرسل إليهم، فلو كان من سكان الأرض ملائكة لأرسل إليهم رسولا ملكا. وإنما أرسل رسولا بشرا إليهم لأنهم بشر مثله حتى يتمكن من مخاطبتهم ومساجلتهم وليس في هذا ما يستوجب الاستغراب والإنكار، أما الآية الثالثة فقد أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلن جعله الله تعالى شهيدا وحكما بينه وبينهم، فهو الأعلم بأمر عباده وما هم عليه ومن هو المحق ومن هو المبطل، وقد جاءت بأسلوب انطوى فيه الاطمئنان بشهادة الله وتقرير كون النبي صلى الله عليه وسلم هو الصادق المحق الداعي إلى الحق والهدى، وهذا الأسلوب القوي النافذ قد تكرر كثيرا في معرض الجدل مع الكفار وإفحامهم. والآية الأولى مطلقة حيث تشمل الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والأمم السابقة التي حكت آيات كثيرة استغرابهم من إرسال الله رسله من البشر وجحودهم رسالاتهم، منها آيات سورة المؤمنون هذه وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ، فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ

[سورة الإسراء (17) : الآيات 97 إلى 99]

مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) ولقد كان سامعو القرآن يعرفون قصص الأقوام السابقة مع رسلهم وما كان من تدمير الله لهم لجحودهم، وهكذا تستحكمهم الآيات بحجتها. [سورة الإسراء (17) : الآيات 97 الى 99] وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99) (1) خبت: خفت شدتها أو خفّ ضرامها. الآيات متصلة بالسياق السابق اتصال تعقيب وإنذار كما هو المتبادر وعبارتها واضحة. وفقرة الآية الأولى وإن كانت تنسب الإهداء والإضلال إلى الله تعالى وحسب، فإن بقيتها مع الآية التالية لها تزيلان ما يمكن أن يقوم من وهم تحتيم الهدى والضلال في الأزل على أناس بأعيانهم، حيث تنسب الكفر والجحود والضلال إلى أصحابه وتقرر أن عذابهم إنما هو على اختيارهم ذلك. وقد مرّ مثل ذلك كثيرا وشرحناه شرحا وافيا ونبهنا إلى وجوب تأويل الآيات بالآيات وعدم أخذ فقرة ما لحدتها، وبهذا يزول كل إشكال. [سورة الإسراء (17) : آية 100] قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100) عبارة الآية واضحة وقد انطوى فيها تقرير طبيعة من طبائع الإنسان وهي

[سورة الإسراء (17) : الآيات 101 إلى 104]

خشيته من نفاد ما في يده والتقتير بسبب ذلك وتقرر أن الله لا يستشعر بشيء من هذا لأن خزائن رحمته لا تنفد. ولا يروي المفسرون رواية ما في صدد الآية. وبدؤها بالأمر بالقول مع ضمير الجمع المخاطب قرينة على أن الآية متصلة بموقف الكفار الذي حكته الآيات السابقة، ولعلها انطوت على جواب لسؤال أورده الكفار على سبيل التحدي وهو ما بالهم ما يزالون أحياء يرزقون متمتعين بمتع الحياة وزينتها ونعيمها مع كفرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم واليوم الآخر، فأجيبوا بما انطوى فيه أن الله قد جعل لهم أجلا هو آت لا ريب فيه، وأن سنته اقتضت تيسير الرزق للناس خلال الأجل المضروب لهم وهو المتصف بالرحمة وليس هو كالبشر يخشى نفاد ما في خزانته. وواضح أن الجواب متسق مع ما اعتاده البشر من عادات وطبائع بسبيل الإلزام والإفحام. ووحدة النظر والتساوق تسوغ القول إن الآية لم تنزل فور ما فرضناه من سؤال، فهو على ما هو المتبادر سابق بمدة ما. وقد احتوت الآية جوابا عليه في مناسبة ذكر أقوال ومواقف الكفار في سياق متصل. [سورة الإسراء (17) : الآيات 101 الى 104] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104) . (1) مثبورا: هالكا. وقيل إنها بمعنى مصروفا عن الخير، وأن ثبر بمعنى صرف أيضا وقيل كذلك إنها بمعنى مغلوبا أو مخبولا. (2) لفيفا: جماعات الناس على اختلافهم وقيل بمعنى جميعا.

عبارة الآيات واضحة. ولم يرو المفسرون رواية ما في صدد نزولها. ويتبادر لنا أنها غير منقطعة عن السياق، وأنها جاءت استطرادية على سبيل الإنذار والتذكير للكفار الذين حكت الآيات السابقة مواقفهم وأقوالهم بحيث تؤذنهم بأنهم إذا كانوا وقفوا من النبي صلى الله عليه وسلم موقفهم الباغي فقد وقف فرعون من موسى عليه السّلام نفس الموقف. وقد انطوى الاستطراد على تطمين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وتبشيرهم، فالله الذي أهلك فرعون ومكّن لبني إسرائيل أعداءه في الأرض من بعده قادر على إهلاك أعدائهم والتمكين لهم من بعدهم أيضا، والعرب السامعون كانوا يعرفون قصة رسالة موسى عليه السلام لفرعون ونتائجها على ما مرّ شرحه في مناسبات سابقة وبذلك تكون الحجة محكمة عليهم. والأمر بسؤال بني إسرائيل الذي احتوته الآية الأولى أريد به توكيد الوقائع والنتائج على ما هو المتبادر، فبنو إسرائيل بين ظهراني العرب ومنهم أفراد في مكة، ومن الممكن أن يستشهدوهم عليها. وقد انطوى الكلام معنى الاطمئنان بالشهادة الإيجابية والتصديقية. وهذا الأسلوب قد تكرر في القرآن كثيرا لأن العرب كانوا يثقون بالكتابيين واليهود بخاصة ومعارفهم. ويلحظ في الآيات عود على بدء السورة بذكر بني إسرائيل في آخرها كما ذكروا في أولها مما فيه صور من صور النظم القرآني. ولقد أورد الطبري في سياق الآيات حديثا رواه أيضا الترمذي بسند صحيح عن صفوان بن عسّال جاء فيه «إنّ يهوديين قال أحدهما لصاحبه اذهب بنا إلى هذا النبيّ نسأله فقال لا تقل نبيّ فإنّه إن سمعها كانت له أربعة أعين فأتيا النبيّ فسألاه عن قول الله عزّ وجلّ وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلّا بالحقّ ولا تسرقوا ولا تسحروا ولا تمشوا ببريء إلى سلطان فيقتله ولا تأكلوا الرّبا ولا تقذفوا محصنة ولا تفرّوا من الزحف وعليكم يا معشر اليهود خاصّة لا تعدوا في السّبت» فقبّلا يديه ورجليه وقالا نشهد أنّك نبيّ. قال فما يمنعكما أن تسلما قالا إنّ داود دعا الله ألّا يزال في ذرّيّته نبيّ. وإنّا نخاف

[سورة الإسراء (17) : الآيات 105 إلى 109]

إن أسلمنا أن يقتلنا اليهود» «1» . وفي سورة الأعراف تسع آيات أظهرها الله على يد موسى لفرعون وهي اليد والعصا والسنين أي القحط والنقص في الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم «2» . والتي ذكرها الحديث هي ما يسمى بالوصايا العشر تسع منها عامة وواحدة خاصة ببني إسرائيل. والمتبادر أن النبي صلى الله عليه وسلم فهم من اليهوديين أنهما سألاه عن هذه فأجابهما على سؤالاهما والله أعلم. [سورة الإسراء (17) : الآيات 105 الى 109] وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) . (1) فرقناه: قد قرئت بالتخفيف بمعنى فصلناه وبيناه ونوّهنا محتوياته وبالتشديد بمعنى جزّأناه فصولا بعد فصول. (2) على مكث: قيل إنها بمعنى على تؤدة وتثبت. وقيل إنها بمعنى على مرّ الأيام. لم يرو المفسرون رواية ما فيما اطلعنا عليه في صدد نزول هذه الآيات، والمتبادر أنها جاءت بعد تلك الآيات الاستطرادية إلى التذكير بموسى عليه السلام ورسالته إلى فرعون وإغراق هذا وتمكين بني إسرائيل في الأرض بعده لتكون رابطة بين حلقات السياق وخاتمة لما حكاه من مواقف الحجاج والجدل بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار حيث يبدو من هذا اتصالها بالسياق، وقد احتوت من جهة توكيدا

_ (1) التاج ج 4 ص 146 و 147. (2) الآيات [107 و 108 و 130 و 133] ووصف كل ذلك بالآيات.

تعليق على الآية وبالحق أنزلناه وبالحق نزل والآيات الأربع التالية لها

بأسلوب قوي حاسم صحة الوحي القرآني الذي ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم لتوطيد الحق وإعلائه، ومن جهة أخرى تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه إنما أرسل للناس بشيرا ونذيرا، وأنزل عليه القرآن فصولا فصولا ليتلوها على الناس على مهل حتى يستوعبوها ويتدبروا ما فيها من مبادئ صدق وحق وحجج بليغة وأمرا له من جهة ثالثة بعدم الاهتمام لمواقف الكفار وجحودهم وبإعلان ذلك لهم وبتحديهم بذكر موقف الذين أوتوا العلم من قبل حيث يسارعون إلى تصديقه والإيمان به حينما يتلى عليهم ويعلنون يقينهم بوعد الله وصدقه ويخرون للأذقان سجدا وبكيا مما استولى عليهم من الخشوع وقوة اليقين. تعليق على الآية وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ والآيات الأربع التالية لها وأسلوب الآيات كما هو ظاهر قوي أخاذ في كل المقاصد التي أريد تقريرها فيها وقد احتوت تنويها جديدا بخطورة القرآن. وبيانا جديدا لمهمة النبي صلى الله عليه وسلم وكونها الدعوة والتبليغ دون إبرام ولا إكراه ولا مسؤولية عن مواقف الناس. وأسلوب تحدي الكفار فيها بخاصة قوي نافذ حيث تأمر النبي بأن لا يهتم لهم وأن يقول لهم إنكم لن يكون لعدم إيمانكم أي نتيجة وحجة ما دام أهل العلم يؤمنون ويخشعون ويتأثرون هذا التأثر القوي الذي تشاهدونه. ولقد كان لأهل الكتاب اعتبار وثقة في نفوس أهل مكة وزعمائهم الذين يوجه إليهم التحدي حيث يكون هذا التحدي محكما مستحكما. وفي الآيات دليل جديد على كون (القرآن) المقصود هو أسس الدعوة ومبادئها لأن أهل العلم إنما يكونون قد تأثروا وسجدوا لذلك. والآيات [107- 109] وإن جاءت بأسلوب الاستشهاد بموقف أهل الكتاب وتحدي الكفار به. ثم وإن كانت متصلة بالموقف الحجاجي بصورة عامة فإنها احتوت في حد ذاتها مشهدا واقعيا رائعا من مشاهد الكتابيين في مكة- وهم

[سورة الإسراء (17) : الآيات 110 إلى 111]

المقصودون بالذين أوتوا العلم- وموقفهم من القرآن والدعوة المحمدية. وهو مشهد تأييدي وموقف إيمان ويقين بصدق الدعوة والقرآن وصلتهما بالله، وإنه كان مشهدا مشهودا كان له أثر بليغ في أوساط مكة مسلميها ومشركيها على ما تلهمه فحوى الآيات وروحها وقوة التحدي فيها. ووصف الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وإن كان يعني فريقا من أهل الكتاب فالمتبادر أنه يلهم أن هذا الفريق كان من علمائهم ورجال الدين فيهم. وهذا هو المتسق مع ما تلهمه الآيات من خطورة الحادث وعظم أثره في تلك الأوساط، ومن المحتمل أن يكون هذا المشهد لكتابيين مقيمين في مكة أو لكتابيين وفدوا عليها لاستطلاع خبر النبي صلى الله عليه وسلم. ونحن نرجح أن هذا المشهد والفريق الذي سجل له هما في المشهد والفريق الذي سجل له في آيات سورة القصص [52- 55] التي مرّ تفسيرها والتعليق عليها، وهكذا تتلاحق المشاهد العيانية العظيمة المدى في العهد المكي من أهل الكتاب وعلمائهم الذين حين كانوا يستطيعون التجرد عن هواهم وماربهم وتعصبهم يسارعون إلى الإيمان بالرسالة المحمدية. وجملة إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا المحكية عن أصحاب المشهد مهمة وذات مغزى خطير. ولقد جاء في آية الأعراف [157] أن أهل الكتاب يجدون صفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم مكتوبة عندهم في التوراة والإنجيل، ويكون معنى الجملة أنهم لما رأوا أعلام النبوة المحمدية قالوا إن الله قد صدق وعده في إرساله. وكان ذلك مما زاد يقينهم وخشوعهم وبكاءهم. [سورة الإسراء (17) : الآيات 110 الى 111] قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111) (1) لا تخافت بها: خفت صوته بمعنى ضعف حتى لا يسمع وما تسمعه

الأذن ليس مخافتة. ومعنى جملة ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها أي لا ترفع صوتك جهوريا ولا تخفته حتى لا يسمع وليكن بين بين. (2) لم يكن له ولي من الذلّ: ليس محتاجا إلى نصير قد يحتاج إليه الإنسان إذا خشي الذل. الآيات تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول للناس ادعو الله أو ادعوا الرحمن فجميع الأسماء الحسنى له وحده وبأن تكون صلاته إليه صلاة خشوع ووقار وبين الجهر والإسرار. وبأن يعلن حمده وتكبيره له. فهو صاحب الملك الشامل الذي تنزه عن الولد والشريك المستغني عن الأولياء الذين يتخذهم الناس إذا ما خشوا البغي والذل. وقد جاءت الآيات في الوقت ذاته خاتمة قوية للسورة. ولقد روى المفسرون روايات عديدة كسبب لنزول الآيات، أو الآية الأولى بخاصة. فرووا أن الفقرة الأولى منها نزلت بسبب قول اليهود للنبي إنك تقلل من ذكر الرحمن في القرآن مع أن هذا الاسم كثير الورود في التوراة. ورووا مع ذلك أنها نزلت بسبب قول الكفار أو بعض زعمائهم بأن محمدا يزعم أنه يدعو إلى إله واحد وهو يذكر الله والرحمن. ولا نعرف الرحمن إلّا رحمن اليمامة. ورووا أن فقرتها الثانية نزلت لأن الكفار كانوا حينما يسمعون القرآن من النبي يسبون القرآن ومن أنزله فأمر النبي فيها بالتوسط بين الجهر حتى لا يسمعه الكفار ولا يخافت ليسمعه المسلمون. وفي هذا حديث رواه البخاري والترمذي عن ابن عباس «1» . ومع هذا فرووا عن ابن عباس أيضا أن النهي عن الجهر حتى لا يكون فيه مراءات للناس، وعن الإسرار والخفت حتى لا يكون فيه خوف من الناس. ورووا عن عائشة ومجاهد أن الصلاة في الفقرة بمعنى الدعاء وأن بعض الأعراب كانوا إذا دعوا الله رفعوا أصواتهم فنهوا عن ذلك. ورووا أن أبا بكر كان يخفض صوته وعمر يرفعه في القراءة فقيل لهما في ذلك فقال الأول أناجي ربي وقال الثاني أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان فنزلت الآية الأولى.

_ (1) التاج ج 4 ص 147.

والروايات تقتضي أن تكون كل فقرة من فقرتي الآية الأولى نزلت لحدتها وأن تكون نزلت منفصلة عن ما سبقها وما لحقها. والرواية المروية عن اليهود تقتضي أن تكون الآية مدنية. ورواية منع الجهر بالقرآن تفاديا من سب الكفار وهي الوثيقة من سائر الروايات غريبة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتلو القرآن عليهم في كل موقف من مواقف دعوته، وهذا من أسس مهمته. ومأمور به في آيات عديدة منها آيات في سورة النمل التي مرّ تفسيرها وهي [91- 92] ولم يمتنع من ذلك قط، وكان يقابل بقولهم إن هذا إلّا أساطير الأولين. كما حكته آيات عديدة مرّ بعضها في السور التي فسرناها سابقا. وفي سورة الحج آية مهمة فيها حكاية موقف تهديدي للنبي ورد عليه بتهديد رهيب وهي هذه وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) ثم استمر في تلاوة آيات القرآن بدون مبالاة تنفيذا لأمر ربه ومهمته منذرا حينا منددا حينا مقرعا حينا مفصلا داعيا مبشرا حينا بدون انقطاع كما هو المستفاد من السور المكية جميعها بحيث يكون في كل ذلك دلالة حاسمة. ويتبادر لنا بالنسبة للفقرة الأولى من الآية الأولى أنه كان في نفوس بعض المسلمين بعض التردد في صيغة دعاء الله تعالى وفيما إذا كان يجوز أن يذكر اسم الرحمن في مقام كلمة (الله) فأريد بها بيان ما هو جوهري في الأمر وهو الإخلاص لله والاتجاه له وحده. فله أحسن الأسماء، وبأيّها دعاه المخلص أجزأه. ويتبادر لنا بالنسبة للفقرة الثانية أن النبي صلى الله عليه وسلم صار يخفت في قراءته اتباعا لنهي آية سورة الأعراف هذه وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ فشكى المسلمون من عدم سماعهم القرآن منه فأمر في هذه الفقرة بالتوسط بين الجهر وخفت الصوت. هذا مع التنبيه إلى أننا نرجح أن الآية الأولى نزلت مع الآية الثانية وأن الآيتين استمرار للسياق السابق، وكل ما في الأمر أن أولاهما تضمنت جوابا على ما كان يسأله أو يحتار فيه المسلمون، والله أعلم.

سورة يونس

سورة يونس في السورة حكاية أقوال ومواقف عديدة للكفار، وردود عليها وتسفيه لهم على باطل تقاليدهم وسخيف عقائدهم وشدة عنادهم ومكابرتهم. وإفحام لهم في سياق الجدل والمناظرة. وفيها لفت نظر الناس إلى آيات الله ومظاهر قدرته في الكون وتبشير وإنذار بالآخرة وحسابها وثوابها وعقابها وشرح لأثر الإيمان والكفر في نفوس الناس وسعادتهم في الدنيا والآخرة. وبيان لمهمة النبي عليه السلام وطبيعة الرسالة، وتقرير لمسؤولية الناس في الهدى والضلال وتمثيل بما كان بين نوح وقومه وبين موسى وفرعون، وبما كان من مصير البغاة ونجاة المؤمنين وضرب بقوم يونس الذين آمنوا مثلا على ذلك. والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أن الآيات [40 و 94- 96] مدنية، وبعض الروايات تذكر أن من أول السورة إلى رأس الآية الأربعين مكي والباقي مدني «1» . وقد تكرر مضامين الآيات التي يروي مدنيتها في آيات مكية لا خلاف فيها كما أن هذه الآيات منسجمة مع سياقها السابق واللاحق ولذلك فإننا نتوقف في الروايات ونرجح مكية جميع آيات السورة.

_ (1) انظر تفسير السورة في تفسير القاسمي الموسوم بمحاسن التأويل ج 9.

[سورة يونس (10) : الآيات 1 إلى 2]

وفصول السورة مترابطة متساوقة مما يلهم أنها نزلت متتابعة حتى تمت. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة يونس (10) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2) . (1) تلك: لغويا هي إشارة إلى البعيد في حين أن (هذه) للقريب. وقد انطلق بعضهم من هذا الفرق فقال إنها عنت كتب الله السابقة. غير أن الطبري وآخرين رجحوا أنها في مقام (هذه) ، وأنها إشارة إلى القرآن وهذا هو الصواب المتوافق مع المطالع المماثلة مثل مطالع سور الشعراء والنمل والقصص التي مرّ تفسيرها. (2) الحكيم: هنا من الإحكام، والحكمة أيضا منه. وعلى هذا فتعبير (الحكيم) بالنسبة لكتاب الله يمكن أن يكون بمعنى (المحكم) كما يمكن أن يكون بمعنى (المحتوي حكمة) ويمكن أن يكون بالمعنيين معا أي أنه محكم الأسلوب حكيم المضمون. (3) قدم صدق: أوجه الأقوال أنها بمعنى فضل ومنزلة رفيعة مضمونة وثابتة. روى المفسرون عن ابن عباس وغيره أقوالا في صدد (الر) منها أنها اختصار لجملة (أنا الله أرى) أو اختصار لاسم الرحمن. أو من أسماء القرآن، أو قسم أقسم الله به ونرجح بالنسبة لها ما رجحناه لمثيلاتها أنها استرعاء السمع إلى آيات القرآن والإشارة التي أعقبتها تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ مما قد يدعم ذلك. وقد

تكرر هذا الأسلوب في سور عديدة مرت أمثلة منها. وفي الآية دليل تكرر كثيرا على أن تعبير (الكتاب) للقرآن كان يطلق على ما كان ينزل منه تباعا وقبل أن يتم تمامه. أما الآية الثانية فقد احتوت سؤالا استنكاريا عن استغراب الناس لاختصاص الله تعالى رجلا منهم لينذرهم ويبشر المؤمنين بما لهم عند الله من المنزلة الرفيعة المضمونة، وحكاية لقول الكافرين عن هذا الرجل بأنه لساحر بارع. ولا يروي المفسرون فيما اطلعنا عليه شيئا في صدد نزول الآيتين. والمتبادر من فحواهما وفحوى ما يأتي بعدهما أنهما في صدد حكاية مواقف وعقائد المشركين والتنديد بها بصورة عامة، والأرجح أنها نزلت في صدد موقف من مواقفهم المتكررة المتجددة. وقد تكرر ما حكته الآية عن الكفار. وجاء ذلك في سورة الإسراء التي سبقت هذه السورة مباشرة في النزول حسب ما روته الروايات. ولعل التساوق بين أخريات سورة الإسراء وبداية هذه السورة ثم في ما حكته السورتان من أقوال الكفار ومواقفهم المتشابهة قرائن على صحة رواية نزول هذه السورة بعد تلك السورة. ولقد احتوت الآية ردا على استغراب الكفار وعجبهم ونسبتهم السحر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وانطوى في هذا الرد تسفيه مفحم لهم، فالساحر يبقى في حدود الأفعال والأقوال والمظاهر الوضيعة الدنيوية التي تمتزج بالخداع والكذب والتخييل، وتستهدف منافع وأغراضا خاصة، في حين أن الرجل الذي جاءهم قد جاء داعيا إلى الله ومكارم الأخلاق، ونذيرا للناس حتى يتقوا الله، وبشيرا للمتقين بالمنزلة الكريمة الرفيعة. وتكرار حكاية أقوال الكفار المتشابهة في سور متعاقبة يفيد أنهم كانوا

[سورة الإسراء (17) : الآيات 3 إلى 6]

يكررون هذه الأقوال في كل موقف ومناسبة، فاقتضت حكمة التنزيل تكرار حكايتها للرد عليها وتسفيهها. [سورة الإسراء (17) : الآيات 3 الى 6] ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) . (1) اختلاف الليل والنهار: بمعنى تعاقبهما واحد بعد آخر. في الآيات شرح لموجبات استحقاق الله وحده للعبادة والخضوع والدعوة إليه، وبيان مصير كل الذين يؤمنون برسالة الرجل الذي أرسل إليهم ويعملون الصالحات، وكل الذين يكفرون بها بعد الإنذار والتبشير. فالله هو رب الناس الحقيقيّ الذي خلق السموات والأرض والقمر والشمس والليل والنهار بإحكام وإتقان، ويسرها لا نتفاعهم بها، وجعل في كل خلق من خلقه آية على قدرته وعظمته وانفراده في تدبير الكون وتصرفه المطلق فيه وصيرورة الناس إليه جميعا وهو الذي خلقهم أول مرة والقادر على إعادة خلقهم ثانية. فعليهم أن يفكروا ويتدبروا ليظهر لهم ذلك واضحا وليعبدوا الله وحده. ولسوف يصيرون إليه لتحقيق وعده الحق القاضي بمحاسبتهم على أعمالهم وتكريم المؤمنين الصالحين وعقاب الكافرين بالعذاب الأليم والشراب الشديد الحرارة جزاء كفرهم.

ولا يروي المفسرون كذلك رواية ما في صدد نزول الآيات والمتبادر أنها متصلة بما سبقها بقصد الرد على حكته الآيات السابقة من استغراب الكفار مع الشرح والبيان القويين المحكمين. وظاهر أنه أريد بالآيات لفت نظر السامعين إلى ما ترتكز عليه دعوة النبي صلى الله عليه وسلم- الرجل الذي جاء للناس بشيرا ونذيرا- من قوة وحق لا يتحمل إنكارا ولا استغراقا ولا نسبة سحر لأنها دعوة إلى الله الذي في كل ظاهرة من ظواهر الكون آية على ربوبيته وعظمته وقدرته وإبداعه ومطلق تصرفه واستحقاقه للعبادة والخضوع وحده إذا ما تفكر المرء فيها، كما أنه أريد بها تبشير المؤمنين وتثبيتهم وتكرار إنذار الكفار وإرهابهم. ولقد احتوت بعض السور التي سبق تفسيرها ما احتوته هذه الآيات من خلق الله السموات والأرض في ستة أيام واستوائه بعد ذلك على العرش، ومن تعاقب الليل والنهار ومن تقدير دوران القمر في منازل وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار وهي هنا كما هي في المواضع السابقة بقصد لفت أنظار الناس وأسماعهم إلى ما يشاهدونه ويعرفونه من مظاهر قدرة الله تعالى. على أن في الآية الأخيرة شيئا جديدا يحتمل تنبيها جديدا، وهو تقرير كون الله قد جعل القمر منازل ليعلم الناس عدد السنين والحساب. فقد يقول قائل إنه ليس بالقمر وحده يعرف عدد السنين والحساب بل وإن معرفة ذلك بالشمس أدق وأضبط. فنقول إن هذه الآية وأمثالها لم ترد في القرآن لذاتها وبسبيل تقرير حقائق فلكية وكونية، وإنما وردت للفت النظر إلى مشاهد الكون ونواميسه ومظاهر قدرة الله وعظمته فيها لإيجاب الاتجاه إليه وعبادته وحده. كما نبهنا على ذلك في مناسبات سابقة. وقد خوطب بها لأول مرة أناس يعرفون حساب السنين بواسطة القمر فخوطبوا بما يشاهدونه ويعرفونه من أجل ذلك القصد. ولقد ظل هذا معروفا يقوم عليه عدد الحساب والسنين. والعبارة القرآنية لا تنفي إمكان معرفة هذا العدد والحساب من الشمس لأنها كما قلنا لم ترد لتقرير نظرية كونية أو فلكية، ومن

[سورة يونس (10) : الآيات 7 إلى 10]

الواجب إنهاؤها في هذا النطاق والله أعلم. [سورة يونس (10) : الآيات 7 الى 10] إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10) . (1) لا يرجون لقاءنا: لا يعتقدون بالبعث الأخروي ولا يحسبون حسابه. (2) دعوى: هنا بمعنى دعاء. الآيات متصلة بالسياق اتصال استمرار وتعقيب. فآيات الله في كونه باهرة قائمة، والذين يغفلون عنها ولا يتدبرونها وانشغلوا بمطالب النفس الدنيوية واطمأنوا بها ولا يحسبون حساب الآخرة ولقاء الله تعالى مصيرهم النار بما اقترفوا واكتسبوا. أما الذين تدبروا في آيات الله وتحققوا من لقاء الله وحسبوا حساب الآخرة فآمنوا وعملوا الأعمال الصالحة فلهم جنات النعيم، وكل شغلهم فيها تسبيح الله وحمده وتحية بعضهم بعضا بالسلام. وقد انطوى في الآيات تقرير أثر الكفر بالله والإيمان به في النفوس، فالأول يحمل صاحبه على الاكتفاء بمتع الحياة وعدم التفكير في العواقب وإهمال ما عليه من واجبات نحو الله والناس. في حين أن الإيمان بالله إذ يشع في صاحبه ينير بصره وبصيرته ويهديه إلى كل ما فيه خير وصلاح ويحفزه على القيام بواجباته نحو الله والناس والابتعاد عن كل ما يتناقض مع هذه الواجبات حاسبا حساب العاقبة ومعتقدا أنه صائر إلى الله وواقف بين يديه ومسؤول عن كل ما يقدم من عمل ومجزي عليه بما يستحق. وفي هذا ما فيه من روعة وتلقين جليل مستمر المدى. والمتبادر أن الآيات بالإضافة إلى ما فيها من مشهد أخروي يجب الإيمان به

[سورة يونس (10) : آية 11]

استهدفت بشرى المؤمنين الصالحين وإثارة اغتباطهم وإنذار الكافرين وحملهم على الارعواء. [سورة يونس (10) : آية 11] وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) . احتوت الآية تنويها بحكمة من حكم الله تجاه الجاحدين للقائه. فلو أن الله عجل لهم الشر بدرجة استعجالهم الخير لكان في ذلك هلاكهم وانقضاء أمرهم. ولكن حكمته اقتضت إمهالهم إلى الأجل المعين في علمه حتى يحق عليهم العقاب إذا ظلوا سادرين في غوايتهم وطغيانهم. ولا يروي المفسرون رواية ما في صدد هذه الآية، وقد تبدو جملة مستقلة عن سابقاتها، غير أن تعبير لا يَرْجُونَ لِقاءَنا [11] فيها وفي الآيات السابقة يجعل الصلة قائمة بينها وبين هذه الآيات لتحتوي تنديدا بالذين لا يرجون لقاء الله بأسلوب آخر. وقد شرحنا حكمة تأجيل الله عذابهم على النحو الذي شرحناه لأنه هو المتبادر من روحها ومن مقتضى تلك الحكمة. وهذا المعنى انطوى في آيات عديدة منها ما ورد في سور سابقة، وإطلاق الكلام في الآية يجعلها مستمرة المدى والإنذار والتلقين في كل موقف مماثل في كل ظرف كما هو المتبادر. [سورة يونس (10) : آية 12] وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12) . في الآية تنديد بخلق بعض الناس- والمقصودون هم المسرفون الجاحدون بلقاء الله أيضا على ما تلهم روحها- حيث اعتادوا حينما يمسهم ضرّ أن يلحفوا بالاستغاثة بالله تعالى وهم قاعدون وواقفون ومضطجعون. حتى إذا كشف الله عنهم الضرّ نسوه وكأنهم لم يدعوه ويستغيثوا به، وهذا هو شأن المسرفين في ضلالهم

[سورة يونس (10) : الآيات 13 إلى 14]

وعمايتهم الذين تزين الوساوس لهم أعمالهم فيرضون عنها مهما كان فيها تناقض وجحود. ولا يروي المفسرون رواية خاصة في صدد الآية، والمتبادر أنها هي الأخرى استمرار في السياق على سبيل التنديد بالجاحدين بلقاء الله بصيغة أخرى فيها صورة من صور جحودهم وتناقضهم. وفي الآية بيان صريح حاسم في عقيدة العرب بالله وشمول قدرته وكونه المتصرف المطلق في كل شيء والموئل في كل أمر. وإطلاق الكلام في الآية يجعلها هي الأخرى مستمرة المدى والتلقين والإنذار بكل موقف مماثل في كل وقت ومكان. [سورة يونس (10) : الآيات 13 الى 14] وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) . في الآيات انتقال من الغائب إلى المخاطب، ومن التعميم إلى التخصيص، حيث وجه الخطاب فيها إلى السامعين بأسلوب تقريري: فالله سبحانه قد أهلك الأمم التي سبقت السامعين حينما ظلموا وانحرفوا، وجاءتهم الرسل بالبينات من الله فلم يؤمنوا ولم يرتدعوا. وهذه هي سنة الله في عقاب المجرمين أمثالهم. وقد جعل الله السامعين خلفاء في الأرض بعد أولئك الهالكين ويسّر لهم أسباب النمو والحياة ليختبرهم فيما يفعلون وفي أي الطرق يسلكون. والآيات غير منفصلة عن السياق، وفيها استطراد واستمرار في التنديد والإنذار، وانطوى فيها إنذار للجاحدين برسالة النبي صلى الله عليه وسلم بأن عذاب الله يوشك أن يقع عليهم كما وقع على من قبلهم جريا على سنة الله، لأنهم يقفون من رسوله إليهم الذي بعثه بالبينات ويصرون على الظلم والإجرام والجحود كما فعل من قبلهم فكان عقابهم الهلاك. ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنه يتبادر لنا من روحها أنها تنطوي على إنذار

[سورة يونس (10) : الآيات 15 إلى 17]

وتنبيه ربانيين مستمرين للأجيال بعد الأجيال بأن على كل جيل يأتي بعد جيل فاسد أن يتعظ بما حل في هذا الجيل الفاسد الذي سبقه نتيجة لفساده وأن يعتبر نفسه في موقف الاختبار وعرضة للهلاك والدمار إن هو لم يتعظ وسار على درب الجيل الفاسد المجرم. [سورة يونس (10) : الآيات 15 الى 17] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) . (1) ولا أدراكم به: ولا أنزله عليّ لأبلغه لكم ويجعلكم تدرون به. في الآيات حكاية لبعض أقوال الكفار ومواقفهم من النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كانوا يطلبون منه إذا ما تلا عليهم ما يوحيه الله إليه من القرآن أن يأتيهم بقرآن غيره، أو أن يدخل فيه بعض التبديل والتغيير، وحيث أمر بالرد عليهم بأنه لا يمكنه أن يبدل ويغير فيه من عند نفسه وأنه إنما يبلغ ما يوحى إليه من الله عز وجل ويتبعه ويقف عنده، وأنه يعرف ما ينتظره من عذاب الله العظيم لو تجرأ وعصى ربه، وأنه إذ يبلغهم ما يوحى إليه إنما يفعل ما أمره الله الذي لو شاء ما تلاه عليهم ولا أنزله عليه ليبلغه لهم. وأنه لبث فيهم قبل الوحي القرآني عمرا طويلا فلم يصدر منه في هذا الصدد شيء، وأن هذا وحده كاف لإقناعهم بأن ما يبلغهم إياه هو وحي الله وقرآنه لو تمعنوا وتعقلوا وتدبروا. وانتهت الآيات بتقرير أن ليس أحد أشد ظلما ممن يفتري على الله الكذب في نسبة ما لم يصدر عنه إليه وفي تغيير ما يصدر عنه وتبديله، ولا ممن يكذب بآياته

تعليق على قول الكفار ائت بقرآن غير هذا أو بدله وجواب القرآن عليه

الصادرة عنه، وإنه لا يقدم على هذا إلا المجرمون الذين لن يفلحوا. وقد يتبادر أن التقرير المنطوي في الآية الأخيرة وارد بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم من ناحية وإلى المجرمين من ناحية أخرى في وقت واحد. وبالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ينطوي على تبرئته من أي احتمال للكذب على الله تعالى فيما يبلغه والله أعلم. تعليق على قول الكفار ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ وجواب القرآن عليه روى بعض المفسرين «1» أن خمسة من رجالات قريش جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فطلبوا منه الإتيان بقرآن ليس فيه تسفيه لعقولهم وحملة على آلهتهم وتبديل لهجته إذا كان يريد أن يستجيبوا له أو يسكتوا عنه، ويدعوه وشأنه فأنزل الله الآيات على سبيل حكاية قولهم والرد عليه. وفحوى الآيات يسوغ القول حقا أنها في صدد مشهد مثل هذا المشهد. وبكلمة ثانية يجعل الرواية محتملة الصحة ولو لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. غير أن عطف الآيات على ما قبلها وورود تعبير لا يَرْجُونَ لِقاءَنا الذي تكرر وروده في الآيات السابقة يجعلاننا نرى في الآيات استمرارا للسياق. ونرجح أن المشهد كان قبل نزولها. فحكته الآيات في جملة ما حكاه السياق من مواقف الجاحدين بل إن خطورة المشهد الذي حكته يجعلنا نرجح أن السياق منذ بدء السورة هو تمهيد وتوطئة لحكايته. ولقد احتوت سورة الإسراء السابقة لهذه السورة في ترتيب النزول آيات ذكرت أن الكفار كادوا يفتنون النبي صلى الله عليه وسلم عما أنزل عليه ليفتري على الله غيره على ما شرحناه في سياقها. فليس بعيدا أن يكون الموقف والمطلب واحدا ولا سيما إن سورة يونس نزلت بعد سورة الإسراء على ما روته الروايات وقامت عليه القرائن أو أن يكون الكفار عادوا فألحوا فيما طلبوه فكان هذا المشهد الذي نزلت الآيات به.

_ (1) انظر الطبري والبغوي والخازن. [.....]

ولقد تكرر في السور السابقة حكاية مشاهد الجدل والحجاج حول القرآن، كما استمر في السور اللاحقة أيضا مما يدل على أن القرآن كان موضوع حجاج وأخذ ورد دائم بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار، ومما هو طبيعي لأنه أعظم وأقوى مظهر للنبوة والرسالة. وهذا الجدل المستمر بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار حول القرآن وحكايته فيه يؤيد ما قلناه قبل من أن تعبير (القرآن) كان يطلق على ما كان ينزل منه قبل تمامه أولا، ومن أن الفصول المحكمة فيه التي احتوت أسس الدعوة أي وحدة الله والإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء الآخرين وباليوم الآخر والتزام مكارم الأخلاق والأعمال الصالحة وعبادة الله وحده واجتناب الآثام والفواحش والشرك هي التي كان يقصد بها هذا التعبير ويدور حولها الجدل وتنزل الفصول التدعيمية الأخرى من قصص وأمثال وترغيب وترهيب وتذكير وتنديد وتسفيه لدعمها ثانيا، ولما كان جميع ذلك وحيا ربانيا فقد شملته دفتا المصحف ودخل في نطاق تعبير كلام الله وقرآنه. والمتمعن في الآيات يلمس صورة رائعة قوية تثير الإجلال والإعظام لصميمية الرسول صلى الله عليه وسلم في إبلاغه أمر الله القرآني ردا على طلب الكفار وإخلاصه وصدقه وعمق إيمانه بأنه إنما كان يبلغ وحي الله النازل عليه وباستشعاره خوفا عظيما تجاه أي احتمال في تبديل أو تعبير أو زيادة أو نقص فيما كان يوحى إليه في سياق إبلاغه وتفهيمه للناس. وفيها ردّ قوي على من يزعم أن القرآن نابع من نفس النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الآية الثانية صورة من صور نشأة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وشيء من سيرته وخلقه حيث تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتذكير السامعين بما كان من أمره وحالته قبل نزول الوحي عليه، وبأنهم يعرفونه ويعرفون أنه لم يكن فضوليا ولا مفتريا ولا كذابا ولا مندفعا في أي أمر وحركة، ولا راغبا في البروز والظهور، ولا مترشحا للنبوة، ولا شاعرا ولا خطيبا ولا كاتبا ولا قارئا، وإن هذا لدليل على أنّ ما كان يبلغه ليس منه وإنما هو وحي الله وقرآنه.

[سورة يونس (10) : آية 18]

ومن غرائب مفارقات مفسري الشيعة أنهم يقولون إن جملة (ائت بقرآن غير هذا) عنت طلب قريش الإتيان بقرآن لا يذكر إمامة علي للمسلمين ويذكر شخصا بديلا عنه «1» ، وتبدو شدة المفارقة إذا لوحظ أن الآية مكية وسياقها في صدد التنديد بالمشركين وسخف شركهم وحالة الضعف والقلة في المسلمين وكون عليا ما يزال صبيا. [سورة يونس (10) : آية 18] وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) . في الآية تنديد بالمشركين لعبادتهم غير الله الذين لا يقدرون على ضرهم ونفعهم، وحكاية لاعتذارهم بالقول إنما يتخذونهم شفعاء لدى الله، وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بسؤالهم سؤالا فيه تحدّ وسخرية عما إذا كانوا بذلك يخبرون الله تعالى بشيء في السموات والأرض لا يعلمه الله، ثم انتهت بتنزيه الله عما يشركه المشركون معه. والضمير في الآية عائد إلى الكفار الذين حكت الآيات السابقة جحودهم ومواقفهم ومطالبهم على ما هو المتبادر، وهي والحالة هذه متصلة بها ولعل التنديد الذي انطوى فيها متصل بما كانوا يطلبونه من النبي صلى الله عليه وسلم من الإتيان بقرآن لا يتعرض لشركائهم ولا يسفه عقولهم، فشركاؤهم لا يضرونهم ولا ينفعونهم وإشراكهم مع الله تعالى في العبادة والدعاء هو سخف يستحق كل التنديد. مدى عقيدة الشرك عند العرب ومدى عقيدة التوحيد الإسلامية وفي الآية صورة واضحة صريحة لمدى عقيدة الشرك العربية، وهي أنهم كانوا يعترفون بالله ويؤمنون بأنه الخالق الرازق المدبر المتصرف في كل شيء،

_ (1) انظر التفسير والمفسرون للذهبي ج 2 ص 67.

[سورة يونس (10) : آية 19]

القادر على كل شيء، ويعتبرون الشركاء الذين كانوا يشركونهم معه في الدعاء والعبادة شفعاء ووسائل زلفى لديه. ومعظم الآيات التي نددت بعقائد العرب تضمنت هذه الصورة أيضا بوجه عام، وقد مرّت أمثلة عديدة من ذلك بحيث يمكن أن يقال إن هذه العقيدة كانت هي العامة عندهم. والرد الذي ردت به الآية هنا وفي المناسبات الأخرى انطوى على تسفيه عبادة غير الله والاتجاه إلى غير الله ولو بقصد الاستشفاع والتوسط، وعلى تقرير كون ذلك شركا، وفي هذا تلقين مستمر المدى في صدد عقيدة التوحيد الإسلامية التي لا تتحمل أي ملابسة أو تأويل أو شائبة مهما أريد تهوينها وتخفيفها ومهما كانت صفة الشفعاء وماهياتهم بحيث يصح أن يقال إنها أنقى من أي ديانة أخرى. [سورة يونس (10) : آية 19] وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) . تعليق على جملة وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا تعددت الأقوال في معنى الأمة الواحدة واختلاف الناس. فهناك من أوّل الأمة بالملّة على معنى الدين وقال إن في الآية تقريرا بأن الناس قد فطروا على فطرة واحدة هي الإسلام لله والتوحيد ابتداء من آدم. فمنهم من يستقيم على هذه الفطرة ومنهم من ينحرف عنها وهذا هو معنى اختلافهم «1» . وفي القرآن آيات قد تؤيد ذلك منها آية سورة الروم هذه: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) والحنيف هو الموحد المستقيم على التوحيد وهو الوصف الذي

_ (1) انظر تفسيرها وتفسير آية البقرة 213 في تفسير ابن كثير والطبرسي والبغوي مثلا.

وصف به إبراهيم عليه السلام في آيات كثيرة منها هذه الآية: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) آل عمران [67] وقد وصفت ملة الأنبياء بالأمة الواحدة كما جاء في آية سورة الأنبياء هذه: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) بعد سلسلة ذكر فيها طائفة من الأنبياء ونوّه بما كان من إخلاصهم وإسلامهم أنفسهم لله. وجاء بعد هذه الآية آية تشير إلى اختلاف الناس في الطريقة الدينية بعد كل نبي وهي هذه: وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) . وفي سورة المؤمنون آيات مماثلة جاءت في أعقاب سلسلة مماثلة وهي: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) . ومن المفسرين من أوّل ذلك أيضا بالملة الدينية مع تحديد ملة إبراهيم عليه السلام الحنيفية وقال إن العرب كانوا في الأصل على هذه الملة فانحرفوا عنها إلى الشرك والوثنية وهو معنى الاختلاف «1» . ومنهم «2» من أوّل معنى الأمة الواحدة واختلاف الناس بفطرة ارتباط الناس ببعضهم وحياتهم الاجتماعية، فهم من هذه الناحية أمة واحدة. واختلافهم في مختلف الشؤون الدينية وغير الدينية طبيعي تبعا لما بينهم من تفاوت في القوى العقلية والدينية. واستشهد على ذلك بآية سورة البقرة هذه: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) مع أن الاختلاف المذكور في الآية هو الاختلاف في الدين على ما تلهمه روحها.

_ (1) المصادر السابقة. (2) انظر تفسير الآيتين المذكورتين في تفسير المنار للسيد رشيد رضا.

والذي نرجحه على ضوء آيات سورة الروم والأنبياء والمؤمنون أن الآية هي بسبيل تقرير وحدة الفطرة بالنسبة لجميع البشر، وأن المقصود بالآية هو الملة الدينية حيث يكون المراد من ذلك أن فطرة الاستشعار بوجود الله عز وجل الواحد المدبر الخالق الأزلي الأبدي المحيط بكل شيء المتصرف بكل شيء وبوجوب إسلام النفس إليه هي الأصل في جميع البشر على اختلافهم. وأن ما هم عليه من انحراف عن هذا الأصل هو طارئ نتيجة لاختلاف أهوائهم وماربهم وحوافزهم، وآية سورة البقرة تدعم هذا أكثر مما تدعم الرأي الثالث. ومن واجب المسلم أن يؤمن بهذه الحقيقة التي يقررها القرآن في الآية التي نحن في صددها وفي الآيات الأخرى التي أوردناها. على أنه يتبادر لنا في الوقت نفسه أن في الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن موقف الكفار الجحودي الذي حكته الآيات السابقة. فكأنها تريد التنبيه على أن موقفهم هذا ليس بدعا فقد كان ممن قبلهم تجاه رسلهم أيضا. وأن الله قادر على الانتقام منهم لولا أن حكمته اقتضت تأجيل ذلك إلى أجل معين عنده وقد تكرر مثل هذا الأسلوب من التسلية في مواقف مماثلة مرت أمثلة منه. على أن من المحتمل مع ذلك أن تكون الآية نزلت ردا على استغراب بدا من الكفار في سياق الجدل والنقاش، حيث يمكن أن يكونوا قالوا إنه كان في إمكان الله تعالى إذا صحت دعوى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل الناس جميعا على طريقة واحدة لا يختلفون فيها، فأريد بها تقرير أن ذلك في نطاق قدرة الله حقا وأن الناس يفطرون على فطرة واحدة أو كانوا على فطرة واحدة وأن اختلافهم إنما طرأ طروءا نتيجة لتباينهم في الأفكار والأخلاق والقوى، وأن حكمة الله تعالى اقتضت أن يتركوا أحرارا في التفكير والاختيار بعد أن يبين لهم رسله طريق الهدى وطريق الضلال، ويدعوهم إلى سلوك الأولى واجتناب الأخرى ليستحق كل منهم ما يستحقه بعدل وحق، وأن يؤجل قضاءه فيهم إلى أجل معين في علمه، وأن ذلك هو سبب استمرار اختلافهم.

[سورة يونس (10) : آية 20]

وقد تكرر تقرير هذا بأساليب متنوعة مرت أمثلة منها في مناسبات مماثلة. هذا، وواضح من كل ما تقدم أن الآية متصلة بالسياق السابق اتصال تعقيب واستطراد ورد. وواو العطف الذي بدأت به مما يؤيد ذلك فضلا عن مضمونها وصلته بموقف الكفار المحكي في الآيات السابقة لها. [سورة يونس (10) : آية 20] وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) . (1) لولا: هنا بمعنى هلا وينطوي فيها معنى التحدي. وفي الآية حكاية لتحدي الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم باستنزال آية من ربه تصديقا وتأييدا لدعواه، وأمر رباني له بالرد عليهم بأن الغيب والمستقبل بيد الله وأمره بأن يطلب منهم الانتظار ويعلنهم أنه معهم من المنتظرين. ولا يروي المفسرون رواية خاصة في نزول الآية وهي معطوفة على ما سبقها حيث يتبادر أنها استمرار في السياق لتحكي قولا آخر من أقوال الجاحدين وتعجيزهم مع الرد عليهم. ومثل هذا الطلب تكررت حكايته عنهم كثيرا بصيغ متنوعة مرّ بعضها في السور التي فسرناها، وشرحنا ما يتبادر لنا من حكمة الله في عدم تلبيته طلبهم وتحديهم. والمتبادر أن الكفار كانوا يرون في مثل هذا التحدي منفذا للتشفي والتعجيز. ومخرجا من المأزق الحرج الذي يضعهم فيه النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن الذي يتلوه عليهم ويفحمهم ويلزمهم به، مقابلة على ذلك بالمثل. ولعل عدم استجابة الله عز وجل لتحديهم وإجابة القرآن عليه بما تكرر وروده في كل موقف من مواقف تحديهم على ما مرّ شرحه في تلك السورة والسور الأخرى وبخاصة سورة الإسراء السابقة في النزول لسورة يونس مما كان يغريهم بتكرار التحدي.

[سورة يونس (10) : الآيات 21 إلى 24]

وفي هذا صورة من صور السيرة النبوية في العهد المكي فيها دلالة على ما كان المشركون عليه من قوة الخصومة والجدل والعناد. وهو ما وصفوا به بصراحة في آيات أخرى منها آيات سورة الزخرف هذه: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) . والرد الذي احتوته الآية ينطوي على وعيد، ويتجلى فيه كذلك عظمة تصميم النبي صلى الله عليه وسلم وثبات قلبه وعدم اعتبار التحدي مخرجا له حيث يؤمر أن يعلن أن الأمر بيد الله حاضره وغائبه، وليس هو إلّا رسول يقوم بما يؤمر به ويبلغ ما يوحى إليه وينتظر تصريف الله انتظار الواثق المطمئن ويطلب منهم الانتظار معه طلبا منطويا على الإنذار والتهديد. [سورة يونس (10) : الآيات 21 الى 24] وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) . (1) مكر: الأولى بمعنى مقابلة آيات الله بالجحود والنكران، والثانية بمعنى

مقابلة الله لهم بالانتقام السريع. (2) ظن أهلها أنهم قادرون عليها: اطمأن أصحابها وأهلها بأنهم مالكوها ومستمتعون بها وتيقنوا من ذلك. (3) حصيدا: هنا بمعنى الإبادة والمحو والتبديد. (4) كأن لم تغن بالأمس: كأنها لم تكن قائمة موجودة بالأمس والجملة بسبيل التعبير عن شدة التبديد والإبادة. معاني الآيات واضحة، وقد احتوت تنديدا بالذين يجحدون فضل الله ويقفون من رسله وآياته موقف المكر والمناوأة، وينقضون ما عاهدوا الله عليه حينما يتهددهم خطر البحر وعواصفه من الإخلاص له وحده بعد أن ينقذهم وينجيهم. وإنذارا لهم بأن مرجعهم إليه فيحاسبهم على مكرهم وبغيهم. وتمثيلا لمتاع الحياة الدنيا الخداع في زينته ومظهره، والذي لا يلبث أن يزول بعد أن يكون الإنسان قد ظن أنه ملك منه مشتهاه وتنبيها للسامعين بأن الله تعالى إنما يفصل الآيات ويضرب الأمثال لمن يريد أن يتدبر ويتفكر. وأسلوب الآيات هادئ رزين قوي موجه إلى القلوب والعقول معا من شأنه أن ينفذ إلى أعماق ذوي القلوب السليمة والنيات الحسنة. وفي أمر النبي صلى الله عليه وسلم في الآية الثانية بإعلان الناس بأن الله أسرع مكرا وفي ما جاء في الآية الرابعة من الهتاف بالناس بأن بغيهم إنما هو عليهم التفاتان قويان في سياق الأسلوب الخطابي يهزان النفس هزا. ولا يروي المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية ما في صدد نزولها. وهي وإن كانت مطلقة التوجيه فالمتبادر أنها بسبيل التنديد بالكفار الذين حكت الآيات السابقة جحودهم واقترافهم ووقوفهم من آيات الله ورسوله ودعوته موقف الماكر الساخر المتحدي، مع اعترافهم بالله وما يرونه من فضله عليهم ومع ما يكون منهم من الإسراع إلى الاستغاثة به وحده في حالات الخطر والضرر، ومعاهدته على الشكر والإخلاص الدائمين حيث ينقضون بمواقفهم العهد الذي عاهدوه به، وهي

[سورة يونس (10) : آية 25]

على هذا غير منقطعة عن السياق السابق وفيها معنى التعقيب عليه. وفي الآية تقرير مكرر لاعترافهم بالله وكونه المعاذ والملجأ الحقيقي، القادر وحده على كشف الضرّ والأذى والخطر، والمنقذ وحده من الشدائد. وليس في التمثيل بمتاع الحياة الدنيا ما يفيد وجوب انصراف الإنسان عن متع الحياة ومطالبها، وكل ما يفيده هو التحذير من الاغترار بها والاستغراق في شهواتها استغراقا يجر إلى الإثم والفواحش وينسى الإنسان واجباته نحو الله والناس التي فيها وحدها السلامة في الدنيا والآخرة، وقد مرّ في سياق تفسير سورة الأعراف التنبيه إلى ما في بعض آياتها من استنكار تحريم زينة الحياة الدنيا والطيبات من الرزق حيث يتمثل في ذلك الضابط القرآني المحكم في هذا الأمر. ومع ما يفيد شرحنا للآيات من صلة بين فحواها وبين أحوال ومواقف الجاحدين السامعين للقرآن لأول مرة فإن إطلاق العبارة فيها يجعلها شاملة الخطاب والتوجيه والتلقين لكل الناس في كل مناسبة مماثلة وفي كل ظرف ومكان. [سورة يونس (10) : آية 25] وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) . في الآية إيذان رباني بأن الله تعالى إنما يدعو إلى دار السلام ويهدي بدعوته من استحق الهداية من عباده الصالحين إلى الطريق المستقيم الذي فيه النجاة لهم. والمتبادر أن الآية بمثابة تعقيب على الآيات السابقة وبخاصة الآية السابقة لها مباشرة التي تقرر أن الله تعالى إنما يفصل آياته لمن يريد أن يتدبر ويتفكر فيها. وقد أولنا جملة وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ بما أولناها به، على ضوء الآيات العديدة الأخرى التي تذكر أن الله يهدي إليه من أنيب وأنه لا يضل إلّا الفاسقين والظالمين على ما شرحناه في مناسبات سابقة. ولقد روى الطبري والبغوي عن قتادة أن (السلام) في الآية اسم الله وأن دار

[سورة يونس (10) : الآيات 26 إلى 27]

السلام هي الجنة. وقال البغوي إلى هذا وقيل إن الجنة وصفت بدار السلام لأن أهلها يحيي بعضهم بعضا والملائكة يحيونهم بالسلام على ما جاء في آيات عديدة منها الآية [10] من هذه السورة. على أنه يتبادر لنا مع ذلك أن التعبير ينطوي على معنى تطمين عام بأن الله تعالى إنما يدعو الناس إلى كل ما فيه سلامهم ونجاتهم وطمأنينتهم وأمنهم والله أعلم. [سورة يونس (10) : الآيات 26 الى 27] لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27) . (1) يرهق: يغشى أو يلمّ أو يلحق أذى وشدة، والإرهاق أن يحمل الإنسان على ما لا يطيقه، وفي سورة الكهف آية فيها هذا المعنى: وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) . (2) قتر: دخان النار وسخامها. (3) عاصم: مانع أو ملجأ ويمنع العذاب عن مستحقه. في الآيات بيان لمصير المحسنين والمسيئين في الآخرة، فللأولين الحسنى وزيادة، فلا يغشى وجوههم قتر النار ولا تتلوث بسخامها ولا يصيبهم هوان ويكونون خالدين في الجنات، وللآخرين جزاء سيء من جزاء عملهم ولهم الذل والهوان ولن يجدوا لهم من الله عاصما، ويشتد سواد وجوههم من القتر والسخام ويكونون خالدين في النار. والآيات جاءت كما هو المتبادر معقبة على سابقاتها وهي والحالة هذه

متصلة بها واستمرار لها، وقد انطوى فيها تنويه بالمهتدين المحسنين وتطمين لهم وإنذار للكفار المسيئين وتنديد لهم. وإطلاق الكلام فيها يجعلها كسابقاتها عامة التوجيه والتبشير والإنذار لكل الناس في كل ظرف كما هو المتبادر. ولقد روى المفسرون عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم أن الزيادة المذكورة في الآية الأولى هي رؤية الله عز وجل. وأوردوا أحاديث عديدة منها ما ورد في الصحاح ومنها ما لم يرد. ومن الأول حديث رواه الترمذي ومسلم عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه، قالوا ألم تبيّض وجوهنا وتنجنا من النار وتدخلنا الجنة. قال فيكشف الحجاج فو الله ما أعطاهم الله شيئا أحبّ إليهم من النظر إليه» «1» . ومن الثاني حديث عن أبيّ بن كعب جاء فيه: «أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله» «2» . ولقد أنكر الزمخشري صحة الأحاديث ووصف القول بإمكان رؤية الله تعالى بأنه قول المشبهة لأن في ذلك تجسيدا لله تنزه عنه سبحانه. وهذه المسألة من المسائل الخلافية في المذاهب الكلامية الإسلامية وقد شرحناها وعلقنا عليها في سياق تفسير سورة القيامة بما يغني عن التكرار. على أن الطبري والبغوي وغيرهما رووا تأويلات أخرى للكلمة منها أن الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب عزوا إلى علي بن أبي طالب، ومنها أنها زيادة في غفران الله ورحمته ومضاعفة أجر الحسنات أضعافا كثيرة عزوا إلى ابن عباس والحسن وقتادة. وإذا صحت هذه الأقوال فإن هذا يفيد أن قائليها لم يثبت عندهم الأحاديث التي تفسر الزيادة بالنظر إلى وجه الله تعالى. ويتبادر لنا أن تأويل الكلمة في مقامها بمعنى مضاعفة الأجر وزيادة رحمة الله

_ (1) التاج ج 4 ص 129. (2) النص من الطبري، وفي الطبري حديث آخر من هذا الباب عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم.

[سورة يونس (10) : الآيات 28 إلى 30]

هو الأوجه، وأن هدف الآيتين على كل حال هو ما نبهنا عليه من تبشير وتطمين للمحسنين وإنذار وترهيب للمسيئين بأسلوبهما القوي ليغتبط الأولون ويستمروا على سيرتهم ويرتدع الآخرون ويثوبوا إلى الله والله أعلم. وحديث الترمذي ومسلم الذي بعد من الصحاح ليس في صدد تفسير الآية، وفيه مشهد أخروي والواجب على المسلم أن يؤمن بما جاء في القرآن وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من المشاهد الأخروية والوقوف عند ذلك دون تزيد وجدل مع استشفاف الحكمة. ومن الحكمة المتبادرة في الحديث التطمين والتبشير والله أعلم. [سورة يونس (10) : الآيات 28 الى 30] وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30) . (1) زيلنا: فرقنا وحجزنا. (2) تبلوا: تختبر وتذوق. (3) ضل عنهم: غاب عنهم أو بطلت دعواهم. في الآيات تصوير لما يكون من موقف المحاجة بين الله تعالى من جهة والمشركين وشركائهم من جهة أخرى، حيث يأتي الله سبحانه بالمشركين والشركاء ويوقفهم بين يديه كلا على حدة، وحيث ينكر الشركاء عبادة المشركين إياهم وصلتهم بهم ويستشهدون الله على براءتهم من ذلك وعدم علمهم بعبادتهم لهم، وحيث ترى بعد ذلك كل نفس نتيجة عملها وتتحمل تبعة ما قدمت، وحيث يقضي الله عز وجل الذي هو مولاهم الحق في أمرهم، وحيث يغيب عن المشركين شركاؤهم الذين كانوا يأملون فيهم الشفاعة والنفع وينكرونهم أو يفرون منهم. والآيات استمرار للسياق السابق كما هو المتبادر والتصوير قوي مؤثر أريد به

[سورة يونس (10) : الآيات 31 إلى 36]

فيما أريد بيان ما عليه المشركون من خطأ وسخف وما ينتظرهم من هوان وعذاب بسبيل حملهم على الارعواء والارتداع. وهذه هي المرة الثانية التي يحكي فيها جمع المشركين مع شركائهم يوم القيامة وتنصل هؤلاء منهم حيث حكي ذلك لأول مرة في سورة الفرقان التي مرّ تفسيرها. وقد استلهمنا من آية سورة الفرقان أن الشركاء المعنيين هم الملائكة وقد تلهم الآية التي نحن في صددها هذا أيضا. لأن الشركاء يستشهدون الله على كذب المشركين ويتنصلون منهم. وواجب المسلم أن يؤمن بما أخبر به القرآن من المشهد الأخروي في هذه الآية وأمثالها مع استشفاف الحكمة من ذكره مرارا، والمتبادر أن من هذه الحكمة تسفيه المشركين وجعلهم يتيقنون من عدم جدوى شركهم بهم عند الله ليرتدعوا ويرعووا ويتوبوا والله أعلم. [سورة يونس (10) : الآيات 31 الى 36] قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36) . (1) فأنّى تصرفون: فأين تذهبون وتنصرفون في تفكيركم الخاطئ. (2) فسقوا: تمردوا وعصوا وانحرفوا. (3) فأنّى تؤفكون: بمعنى «فأنى تصرفون» . (4) يهدّي: يهتدي.

معاني الآيات واضحة، وقد احتوت الأولى والرابعة والخامسة منها أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بتوجيه أسئلة استنكارية إلى المشركين عن المتصرف في الكون المدبر لكل أموره الخالق الرازق القادر على إخراج الحي من الميت والميت من الحي، المبدئ المعيد الهادي إلى الحق، وعما إذا كان من شركائهم من يقدر على ذلك، كما احتوت تقريرا بواقع الأمر من اعترافهم بأن الله عز وجل هو وحده الذي يقدر على ذلك ويفعله، وتقريعا لهم على انصرافهم مع ذلك عن مستلزمات هذا الاعتراف وعدم تقواهم الله تعالى ووقوفهم منه موقف الجاحد وإشراكهم معه في الاتجاه والخضوع شركاء عاجزين عن أي شيء من ذلك. واحتوت الآية الثانية تقريرا ربانيا مباشرا بأن الله الذي يعترفون بشمول قدرته ومطلق تصرفه هو الرب الحق وأن ما دونه هو الضلال المحض. واحتوت الآية الثالثة تقريرا مماثلا بأن كلمة الله بعدم الهداية والإيمان إنما تحق على الفاسقين. واحتوت الآية السادسة تقريرا مماثلا كذلك بأن المشركين لا يستندون في شركهم إلى عقل ومنطق وإنما يسيرون وراء الظن الذي لا يغني عن الحق شيئا. وقوة الإفحام والإلزام في الآيات ملموسة، وقد ازدادت بكون المشركين لا ينكرون أن الله تعالى هو الرب الأعظم الخالق الرازق المدبر، كما تشير إليه الآية الأولى صراحة وتلهمه الآيات التالية لها. ولا يروي المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في نزول الآيات، والمتبادر أنها متصلة بالسياق السابق الذي ظل يحكي مواقف المشركين وعنادهم ويقرعهم وينذرهم، ويلحظ فقط أنها انتقلت من الحكاية إلى توجيه الخطاب مباشرة إليهم مما جرى عليه النظم القرآني كثيرا، ومن المحتمل مع ذلك أن تكون هذه الآيات وما قبلها في صدد مواقف مناظرة وحجاج وجاهية بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين.

تعليق على جملة يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي

تعليق على جملة يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ ولقد قال المفسرون «1» في تأويل جملة يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ إن الحي هو ما كان فيه نسمة الحياة المتغذية النامية والميت ما لم يكن كذلك. وعلى هذا فالنواة والبذرة والنطفة والبيضة ميتة يخرج الله منها أنواع الحيوان والنبات الحية، ويخرج من هذه الأنواع تلك الأنواع الميتة. وإلى هذا فقد ذكروا ما تكرر تقريره في آيات عديدة مرّ بعضها من أن الله ينزل الماء على الأرض الميتة فيحييها بعد موتها كظاهرة من مظاهر مدى هذه الجملة وتأويلها. والجملة القرآنية على كل حال في صدد تقرير ما يشاهده الناس وتستوعبه أذهانهم للتنويه بقدرة الله تعالى ولسنا نرى والحالة هذه ضرورة لمحاولة التوفيق بين ما جاء في الآيات وتأويلات المفسرين القدماء لها وبين ما عرف فينا عن عالم الأحياء لأن ذلك ليس من أهداف الآيات القرآنية على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة مماثلة. ولقد ذكر المفسرون فيما ذكروه من وجوه تأويل الجملة خروج الكافر من صلب المؤمن وخروج المؤمن من صلب الكافر على مجاز كون الكافر بمثابة الميت والمؤمن بمثابة الحي. ونحن نرى في هذا تكلفا وبعدا عن مدى الجملة التي تكررت في القرآن بصيغ متقاربة والتي هي أكثر اتساقا وتوافقا مع التأويلات السابقة. تعليق على جملة كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ والآية الثالثة وهي تقرير أن كلمة الله حقت على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون

_ (1) انظر تفسير الآيات وتفسير آيات سورة آل عمران [37] وسورة الأنعام [95] التي فيها نفس الجملة في تفسير المنار والخازن والطبرسي وابن كثير.

[سورة يونس (10) : الآيات 37 إلى 39]

قد تضمنت قصد تقرير كون الذين لا يؤمنون بالحق ولا يتبعونه والذين يكابرون في الحقائق الباهرة ويتناقضون إنما هم الفاسقون الذين تعمدوا الانحراف والاعوجاج والعناد والجحود وفسدت أخلاقهم ونياتهم فحقت عليهم كلمة الله ولعنته وغضبه. وتضمنت بالتالي قصد تقرير كون فساد الخلق والنية وسوء الطوية في المرء هما اللذان يحولان دون اتباعه الحق. وكون الذين يهتدون بهدي الله هم ذوو النيات الحسنة والطوايا السليمة. وهذا المعنى مما تكرر تقريره صراحة تارة وضمنا تارة في مناسبات عديدة مرّ تفسير بعضها. والجملة بناء على هذا الشرح من قبيل وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ [البقرة: 26] ووَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ [إبراهيم: 27] من الضوابط التي يحسن أن يؤول بها العبارات التي تقرر كون كلمة الله حقت على بعض الناس بصيغة مطلقة أي بدون أن تقترن بتعليل الفسق أو الظلم أو الكفر، ويزول بها ما قد يرد من وهم وإشكال على العبارات القرآنية المطلقة. والجملة وإن جاءت مطلقة لتنطبق على كل فاسق في كل ظرف فإن الآيات التي وردت في سياقها قد وجه الخطاب فيها إلى المشركين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كما هو ظاهر من نصها، وتكون هي بالنسبة إليهم تسجيلا لواقع أمرهم عند نزولها في حين أن كثيرا منهم قد آمنوا حيث يصح أن يقال في شأنها ما قلناه في شأن أمثالها إنها ليست على التأييد والإطلاق إلّا بالنسبة لمن ظل كافرا فاسقا ومات كذلك. [سورة يونس (10) : الآيات 37 الى 39] وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) . (1) ولما يأتهم تأويله: جمهور المفسرين يؤولون الجملة بمعنى (لما يروا بعد تحقيق ما يوعدون به من مصير وعذاب) والكلمة من آل بمعنى صار إليه من

تعليق على الآية وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله والآيتين التاليتين لها

عاقبة وعقبى. وليست هنا بمعنى تفسيره ومعناه. وتأويل الجمهور سديد. وقد مرّ مثل هذا التعبير بهذا المعنى في سورة الأعراف التي مرّ تفسيرها. تعليق على الآية وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ والآيتين التاليتين لها لا يروي المفسرون رواية خاصة في نزول الآيات والمتبادر أنها جاءت معقبة على ما قبلها لتنفي أي احتمال وشبهة بكون القرآن مفترى على الله تعالى، ولتؤكد بأنه موحى من ربّ العالمين من دون ريب، وأنه جاء مصدقا للكتب التي سبقته ومتطابقا معها، وفيه تفصيل وتطابق للمبادئ والأسس التي قامت عليها مما فيه البرهان القاطع على صدق صدوره عن الله عز وجل، ولتتحدى الكافرين في دعواهم افتراء النبي صلى الله عليه وسلم له بأن يأتوا بمثل سورة من سورة إن كانوا صادقين في دعواهم بأنه من صنعه، وأن يستعينوا على ذلك بكل من يستطيعون ويريدون. ولتقرر بعد هذا حقيقة الواقع من أمرهم: فهم إنما سارعوا إلى تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم ونسبة افتراء القرآن إليه اعتباطا ومكابرة ودون أن يتدبروا محتوياته ويتمعنوا في مضامينه ويحيطوا بما فيه من علم وحقائق مغترين بعدم سرعة وقوعهم بسوء العاقبة الذي وعدوا بأن مآلهم إليه. وإن هذا كان شأن الذين كذبوا الرسل من قبلهم، وقد انتهت بلفت النظر إلى ما كان من عاقبة الظالمين المكذبين الأولين لفتا يتضمن الإنذار والوعيد للسامعين المكذبين. وأسلوب الآيات قوي نافذ في توكيدها وفي تحديها وفي تقريرها للواقع من أمر المكذبين كما هو واضح. وبداية الآية الأولى تتضمن مع النفي تقرير كون مثل هذا القرآن الذي احتوى ما احتواه من مبادئ وتعليمات سامية فيها صلاح البشر وسعادتهم في الدنيا والآخرة لا يعقل أن يكون مفترى. ولقد قررت سورة الإسراء السابقة في النزول لهذه السورة عجز جميع الإنس والجن عن الإتيان بمثل القرآن ولو اجتمعوا وتعاونوا، وهنا تحدت الآيات الكفار

تعليق على جملة صبار شكور

القائلين بأنه مفترى بالإتيان بشيء منه بأسلوب قوي مفحم، وقد تكرر هذا أكثر من مرة في سور عديدة أخرى قبل هاتين السورتين وبعدهما لأن الكفار ما فتئوا يخوضون في القرآن منذ أوائل نزوله وينسبون افتراءه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو اقتباسه من أساطير الأولين أو الاستعانة عليه بأناس آخرين على ما شرحناه في سياق سورة الفرقان، فيتكرر نزول الآيات لتتحداهم وترد عليهم في الوقت نفسه ردودا قوية مع تقرير عجزهم المطلق بأسلوب المستعلي الواثق من ذلك كما جاء في سورة الإسراء السابقة لهذه السورة وكما جاء بعد هذه السورة في آيات سورة هود هذه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) وآيات سورة الطور هذه: أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) وفي آيات البقرة هذه: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24) هذا بالإضافة إلى آيات أخرى فيها ردود نافذة إلى أعماق النفس بغير أسلوب التحدي مثل آية سورة الشورى هذه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24) ومثل آيات سورة الأحقاف هذه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) . تعليق على جملة صَبَّارٍ شَكُورٍ وصيغة الجملة في الآية الأولى تأتي لأول مرّة بأسلوبها القوي متضمنة تنويها بمن يتحلى بهذين الخلقين وحثّا على التحلي بهما. ثم تكرر في آيات أخرى. ولقد

تعليق على كلمة (سورة)

علقنا على خلقي الصبر والشكر في مناسبات سابقة فلا ضرورة للإعادة. غير أننا رأينا أن نورد حديثين أوردهما ابن كثير في سياق تفسير الآيات التي جاءت فيها هذه الصيغة، والحديثان متقاربان مع زيادة في أحدهما وهو الذي يرويه الإمام أحمد عن سعد بن أبي وقاص قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عجبت من قضاء الله تعالى للمؤمن إن أصابه خير حمد ربه وشكر وإن أصابته مصيبة حمد ربه وصبر. وإن المؤمن ليؤجر في كل شيء حتى في اللقمة يرفعها إلى في امرأته» . وقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة هذه الصيغة: «عجبا للمؤمن لا يقضي الله تعالى قضاء إلا كان خيرا له. إن أصابه سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له. وليس ذلك إلّا للمؤمن» . وينطوي في الحديثين توضيح نبوي للجملة القرآنية وحث للمسلمين على أن يكونوا من الأشداء في الصبر في الضراء الشكورين للسراء. ومن تحصيل الحاصل أن نقول إن الحث على الصبر لا يشمل حثا ما للمؤمن على الصبر على ظلم أو عدوان وإنما الصبر المطلوب من المؤمن هو الصبر على المصائب والجوائح التي لا يكون فيها عدوان وبغي من أحد. وفي سورة الشورى وصف للمؤمنين بأنهم إذا وقع عليهم بغي انتصروا منه أي قاوموه وانتقموا من البغاة وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) . وجملة «وليس ذلك إلّا للمؤمن» في آخر الحديث الثاني ذات مغزى عظيم، حيث انطوى فيها تقرير كون المؤمن يبتغي بصبره وشكره رضاء الله ويأمل فيه، فيكون له الرضاء والأجر الربانيان خلافا لغير المؤمن بالله فإنه نادرا ما تجعله أخلاقه يقابل المصائب بالصبر والنعم بالشكر. ولا يكون له مدد من إيمان يجعله يفعل ذلك أملا في رحمة الله ورضائه. تعليق على كلمة (سورة) هذا، وبمناسبة ورود كلمة (سورة) هنا لأول مرة نقول إن المفسرين قالوا إما

[سورة يونس (10) : الآيات 40 إلى 41]

أن تكون الكلمة من سور المدينة حيث يحيط السور بكل ما فيها، وتحيط السورة بكل ما فيها من آيات القرآن، وإما أنها من السورة التي بمعنى المنزلة أو المرتبة، وإما أنها من السؤر الذي بمعنى البقية، وفي لسان العرب: السورة هي منزلة من البناء، ومنه سورة القرآن لأنها منزلة بعد منزلة مقطوعة عن الأخرى، ومهما يكن من أصل اشتقاقها اللغوي وأصل معناها فإن السياق الذي وردت فيه هذه الكلمة في القرآن يدل دلالة لا ريب فيها على أنها تعني مجموعة مستقلة وكاملة من الآيات والفصول القرآنية، وأن هذا المعنى كان مفهوما ومألوفا في الوسط العربي الذي خوطب بالقرآن لأول مرة، وأن تقسيم القرآن إلى المجموعات التي سميت سورا كان نتيجة لذلك أيضا. ولما كانت هذه الكلمة قد وردت بعد نزول طائفة كبيرة من القرآن المكي فمن الممكن أن يقال إن كثيرا من السور القرآنية كان في هذا العهد قائم الشخصية، وفي سورة هود التي يجيئ ترتيبها في روايات النزول بعد سورة يونس تحدّ للكفار بعشر سور مما فيه تأييد لما نقول. هذا عدا ما يلهم ذلك كثير من السور ذات المطالع والخواتم البارزة التي سبقت هذه السورة. [سورة يونس (10) : الآيات 40 الى 41] وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) تعليق على آية وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ ولا يروي المفسرون فيما اطلعنا عليه كذلك رواية في مناسبة نزول الآيتين، وهما معطوفتان على ما قبلهما فتكونان والحالة هذه استمرارا للسياق. وقد قال بعض المفسرين «1» إن الآية الأولى تضمنت معنى التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم حيث تقرر أنه

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والمنار وابن كثير والخازن والبغوي.

إذا كان من قومه من لا يؤمن بما جاء به فإن منهم من آمن وسوف يؤمن به، وعلى هذا يكون الخطاب الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتوجيهه موجها للمكذبين فقط ليعلنهم في ما إذا أصروا على تكذيبهم أن كلا منهم يتحمل تبعة عمله وكلا منهم بريء مما يعمله الآخر. وبعض المفسرين قالوا «1» إن الآيتين في صدد الكفار المكذبين، وإن الآية الأولى تضمنت تقرير أن من الكفار من يؤمن في سرّه بصدق القرآن وصحة الرسالة وإنما يكذب عنادا ومكابرة، ومنهم من لا يؤمن ولا يصدق. ويلحظ أن الآيتين معطوفتان على الآيات السابقة لهما التي يدور الكلام فيها على الكفار وتكذيبهم وتقريعهم، وأن الضمائر فيهما عائدة إليهم أيضا، وفحوى الآية الثانية قاصر على ما تلهمه روحها على الفريق الكافر فقط، وليس فيها ما يفيد تقسيمهم إلى مؤمن صادق وكافر، وهذا يجعلنا نرجح قول الفريق الثاني من المفسرين. وهناك روايات تذكر أن منهم من كان يقرّ في قرارة نفسه أن القرآن كلام الله ولكنه يعلن تكذيبه مداراة للناس أو عنادا كمثل الروايات التي رويت عن الوليد بن المغيرة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ فقال لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو وما يعلى. وكان من نبهاء قريش فعلم بقوله أبو جهل فذهب إليه يؤنبه ويعاتبه ويثير غضبه على النبي صلى الله عليه وسلم حتى تراجع «2» . وفي رواية أخرى أن الوليد جاء إلى أبي بكر رضي الله عنه فسأله عن القرآن فتلا عليه منه ما تيسر فجاء إلى رجال قريش فقال يا عجبا لما يقول ابن أبي كبشة (يعني النبي صلى الله عليه وسلم) فو الله ما هو بشعر ولا بسحر ولا يهذي من الجنون وإن قوله لمن كلام الله، فخاف رجال قريش أن يؤمن ويعدي غيره، فجاء إليه أبو جهل يعيره ويوبخه ويثير حميته حتى تراجع «3» .

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير القاسمي والطبرسي والزمخشري. (2) انظر تفسير سورة المدثر في تفسير البغوي. (3) انظر تفسير السورة المذكورة في تفسير ابن كثير.

وفي بعض الآيات القرآنية دلالة ما على ذلك أيضا، مثل آية سورة القصص التي جاء فيها: وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا [57] حيث تلهم هذه الجملة أن قائليها كانوا يعتقدون في أنفسهم بصدق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم والوحي القرآني ولكنهم كانوا يخافون على مركز مكة وما يدرّه عليهم من منافع ويضمنه لهم من أمن. ومثل آية الزخرف التي جاء فيها: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) حيث تلهم هذه الجملة أن قائليها كانوا يعتقدون بصحة الوحي القرآني ولكنهم أنفوا من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم واستكبروا لأن الله لم ينزل القرآن على زعيم كبير من مكة أو الطائف. بل إن مفاوضات رجال قريش للنبي صلى الله عليه وسلم التي أشارت إليها سورة الإسراء [73] السابقة لهذه في التفسير وآية سورة القلم [9] وما روي في صددهما على ما شرحناه في تفسير السورتين لتؤيد ذلك أيضا. وفي الآيتين تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن موقف تكذيب المكذبين وإنذار لهم. فعليه أن يتبرأ من عملهم ويعلنهم أنهم وحدهم الذين يتحملون تبعته إذا أصروا على تكذيبه وأن لا يحمل نفسه همّا. وربه أعلم بالمفسدين الذين إنما يقفون موقف التكذيب لفساد أخلاقهم ولإفساد غيرهم وهو القادر عليهم. وقد يلمح في الآية الثانية بالإضافة إلى ما ذكرناه مبدأ حرية التدين الذي قررته سورة (الكافرون) وعلقنا عليه بما فيه الكفاية. والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي أن الآية الأولى من الآيتين مدنية. وهذا غريب جدا فهي شديدة الانسجام مع الآية الثانية ومع السياق السابق معنى وسبكا، ومضمونها متصل بظروف ومشاهد العهد المكي ولم نر في ما اطلعنا عليه من كتب التفسير تأييدا لذلك وكل هذا يسوغ الشك في الرواية. ولقد روى المفسرون عن بعض التابعين أن الآية الثانية منسوخة بآيات

[سورة يونس (10) : الآيات 42 إلى 43]

القتال. وهذا يذكر في سياق كل آية مكية مماثلة. والمتبادر أن هذا إنما يصح بالنسبة إلى من يقف موقف العدوان من الإسلام والمسلمين وحسب وقد شرحنا هذا الأمر في سياق سورة (الكافرون) شرحا وافيا. [سورة يونس (10) : الآيات 42 الى 43] وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) . لا يروي المفسرون كذلك رواية ما في نزول هاتين الآيتين وهما معطوفتان على ما قبلهما، والمتبادر أنهما استمرار للسياق والتنديد. وقد وجه الخطاب فيهما للنبي صلى الله عليه وسلم أيضا كسابقتيهما فمن الكفار من يستمع إلى ما يتلوه من قرآن ولكنه يقف منه كالأصم الذي لا يسمع وليس عليه أن يسمع الصمّ الذين لا يسمعون ولا يعقلون ما يقال لهم. ومنهم من ينظر إليه ولكنه يقف كالأعمى فلا يرى أعلام نبوته وصدق مظاهرها فيما يقول ويفعل وليس عليه أن يهدي العمي الذين لا يبصرون. وظاهر أن الآيتين بسبيل تصوير شدة إصرار الكفار على العناد والمكابرة بالرغم مما يسمعونه من حجج القرآن وروحانيته ويرونه من دلائل صدق النبي صلى الله عليه وسلم في صميميته ودعوته وأفعاله وتفرغه لها وإشفاقه عليهم من غضب الله ونقمته. ويلمح فيهما أيضا قصد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وإيذانه بأنه قد قام بواجبه وأنه غير مكلف بعمل المستحيل من إسماع من لا يستطيع السمع وإراءة من لا يستطيع الرؤية وإقناع المكابر العنيد الصادر عن سوء النية وخبث الطوية. [سورة يونس (10) : آية 44] إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) . (1) لا يظلم: بمعنى لا يجور. (2) أنفسهم يظلمون: ينحرفون عن جادة الحق فيضرون أنفسهم ويجورون عليها.

[سورة يونس (10) : آية 45]

المتبادر أن الآية جاءت معقبة على الآيات السابقة، وبسبيل تقرير كون الله تعالى إذا جازى المكذبين الذين وصفت مواقفهم في الآيات السابقة فإنما يكون ذلك بسبب هذه المواقف التي ظلموا بها أنفسهم. وفي الآية توكيد لمبدأ قرآني تكرر وروده وهو مسؤولية الناس عن أعمالهم التي يعملونها نتيجة لاختيارهم وكسبهم. ومن العجيب أن الخازن رغم ما في الآية من صراحة حاسمة قال إن الآية تعني أن الله تعالى إذا كتب الشقاء والعذاب على أحد فلا يعد ظلما لأنه يفعل ذلك بمقتضى كونه صاحب التصرف المطلق في عباده وأن ابن كثير قال شيئا من ذلك خلافا للطبري والطبرسي والبغوي والزمخشري الذين فسروا الآية بما يتفق مع ظاهرها الحاسم الذي شرحنا مداه. ومن العجيب أن ابن كثير مع ما قاله قد أورد حديثا رواه مسلم عن أبي ذر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم يروي عن ربه أنه قال يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها. فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» . حيث ينطوي في الحديث توكيد لذلك المبدأ وتساوق مع ظاهر الآية ومع تفسير الطبري والبغوي والطبرسي والزمخشري. [سورة يونس (10) : آية 45] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45) . المتبادر أن الآية استمرار للسياق والحديث عن الكفار المكذبين أيضا، وقد تضمنت تقرير كونهم حين يحشرهم الله إليه بعد موتهم سيندهشون لأنهم يشعرون أنهم لم يكادوا يغيبون إلّا ساعة من النهار، وسيعرف بعضهم بعضا كأنما هم حديثو عهد بالفراق. وسيتحققون من أنهم قد خابوا وخسروا، لأنهم كذبوا بلقاء الله والبعث الأخروي ولم يهتدوا بهدى الله.

[سورة يونس (10) : آية 46]

وفي الآية إنذار قوي للكفار استهدف فيما استهدفه بثّ اليقين فيهم بالبعث وحملهم على الندم والارعواء، بالإضافة إلى ما فيها من حقيقة إيمانية. وقد تكرر فحوى الآية بصيغ متقاربة أكثر من مرة بعد هذه السورة لتوكيد ما استهدفته من إنذار وتقرير ما تضمنته من حقيقة إيمانية. [سورة يونس (10) : آية 46] وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46) . الآية استمرار للسياق والحديث عن الكفار أيضا كما هو المتبادر. وقد وجه الخطاب فيها للنبي صلى الله عليه وسلم لتقول له سواء أراه الله تحقيق بعض ما وعدهم الله من عذاب الدنيا وغضبه، أم توفاه قبل ذلك فإليه مرجعهم أولا وآخرا. وهو شهيد على ما يفعلون وموفيهم حسابهم كما يستحقون. وقد احتوت الآية تسلية وتطمينا للنبي صلى الله عليه وسلم كما احتوت إنذارا للكفار أيضا. [سورة يونس (10) : آية 47] وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) تعليق على جملة وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ ولا يروي المفسرون رواية ما في صدد الآية، وهي معطوفة على ما قبلها بحيث يصح القول إنها غير منقطعة عن السياق وبمثابة تعقيب عليه وقد روى المفسرون عن أهل التأويل من التابعين تأويلين أو احتمالين لمدى الآية، الأول أن يكون صدد الحياة الأخرى فتكون بسبيل تقرير أن الله تعالى يحاسب يوم القيامة كل أمة بحضور رسولها فيقضي فيها بالحق ودون ما ظلم. وفي القرآن آيات تقرر هذا المفهوم عامة وخاصة مثل آيات سورة الزمر هذه: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي

[سورة يونس (10) : الآيات 48 إلى 52]

السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) ومثل آيات سورة النساء هذه: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42) . والثاني أن تكون في صدد الحياة الدنيا فتكون بسبيل تقرير سنة الله في إرسال الرسل للأمم. فإذا جاء إلى أمة رسول يكون قد تعين بذلك مصيرها بالحق دونما ظلم حيث يكون نصيب المؤمنين الصالحين النجاة ونصيب المكذبين المسيئين الخسران. ومع وجاهة كل من الاحتمالين فنحن نميل إلى ترجيح التأويل أو الاحتمال الثاني لأنه متصل برسالة النبي صلى الله عليه وسلم وموقف المكذبين، وفيه إعلان لهؤلاء بأنهم لم يبق لهم عذر ولا مناص بعد بعثة رسول منهم إليهم، وأنهم أمام خطتين يتحتم عليهم اختيار إحداهما ويكون مصيرهم منوطا بهذا الاختيار، فإما الإيمان والنجاة وإما التكذيب والخسران، وهذا هو قضاء الله العادل الذي لا ظلم فيه ولا إجحاف. وفيه بالتالي إنذار لهم ودعوة لهم إلى الارعواء وعدم إضافة الفرصة فيندمون ولات ساعة مندم. والآية من ناحية ما تدعم ما ذكرناه في سياق آية سورة فاطر: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ (24) من كون حكمة الله تعالى وسنته جرتا على إرسال الرسل إلى كل أمة في كل ظرف. ولا نرى هذا متعارضا مع حكمة الله تعالى التي شاءت أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين كما نصت على ذلك آية سورة الأحزاب [40] حيث صار عليه صلوات الله وسلامه رسولا لكل البشر إلى يوم القيامة. [سورة يونس (10) : الآيات 48 الى 52] وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) . في الآية الأولى حكاية لتساؤل الكفار عن موعد تحقيق ما يوعدون به. وفي الثانية أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يرد عليهم قائلا إنه لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا وكل شيء منوط بمشيئة الله تعالى، وإن لكل أمة أجلا عنده لا تستأخر عنه ساعة ولا تستقدم، وفي الآية الثالثة وما بعدها أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بسؤال الكفار بالمقابلة عن استعجالهم لعذاب الله وغضبه الذي قد يأتيهم ليلا أو نهارا، وعمّا إذا كانوا يظنون أنه إذا وقع عليهم يبقى لهم مجال للإيمان، وبإعلانهم أن هذا لن يتيسر لهم وأن عذاب الله إذا وقع عليهم يكون قد قضى في أمرهم ولم يبق إلّا أن يخلدوا في النار جزاء ما كسبت أيديهم. ولا يروي المفسرون رواية خاصة في نزول الآيات فإما أن تكون حكاية مشهد وجاهي جديد بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين بعد الآيات السابقة التي فيها وعيد لهم وحكاية لمواقفهم، فنزلت بعده، وإما أن تكون حكاية مشهد سابق للسياق كله سيق في صدد حكاية مواقف المشركين وأقوالهم. وعدم رواية خاصة في نزولها يجعلنا نرجح الاحتمال الثاني فتكون الآيات والحالة هذه استمرارا للسياق. وسؤال الكفار الذي حكته الآية الأولى ينطوي كما هو ملموح على تحدي النبي صلى الله عليه وسلم ثم على استهتارهم بما يوعدون به. وقد جاء الرد القرآني في الآية الثالثة وما بعدها قويا لاذعا ينطوي على التوكيد الحاسم بتحقيق وعد الله. وقد وجه الخطاب فيه إلى القلوب والعقول معا، ونوقش الكفار فيه مناقشة محكمة من شأنها أن تبعث الخوف في نفوسهم من فوات الفرصة ووقوعهم في حسرة الندامة، وهو ما استهدفته الآيات في جملة ما استهدفته.

[سورة يونس (10) : الآيات 53 إلى 56]

وهذا السؤال من الكفار بنفس أسلوب التحدي والاستهتار قد تكرر صدوره من الكفار لتكرر الوعيد والإنذار لهم حيث كانوا كلما وعدوا وأنذروا بعذاب الله قابلوا ذلك بالاستخفاف والسؤال الاستنكاري. وفي هذا صورة لما كان يتكرر وقوعه بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم من أخذ ورد وتشاد. وفي الآية الثانية تتجلى صورة رائعة لصميمية النبي صلى الله عليه وسلم حيث يؤمر فيعلن عن نفسه وفي موقف تحدي الكفار له بأنه ليس له من الأمر شيء حتى فيما يتعلق بنفسه، وأنه ليس عليه إلّا التبليغ والإنذار دون أن يذهله تحدي الكفار وتعجيزهم عن واجبه والاستمرار فيه، وقد تكررت هذه الصورة الرائعة نتيجة لتكرر الموقف نفسه. وقد جاء مثل هذه الصورة في الآية [188] من سورة الأعراف التي مرّ تفسيرها. [سورة يونس (10) : الآيات 53 الى 56] وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (54) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) . (1) يستنبئونك: يستخبرون منك ويسألونك. الآيات تحكي سؤال الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم عما إذا كان ما يتوعدهم به القرآن من البعث والحساب الأخروي حقا وصدقا بأسلوب الذي يريد التوثق أو يبالغ في الإنكار والشك ويظن أن الوعيد تهويش وتخويف وتأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتوكيد ذلك وكونه حقا وكونهم لن يعجزوا الله ولن يخرجوا عن شمول قدرته وإحاطته، وتحكي ما سوف يكون عليه حال الكفار يوم القيامة من الشدة والفزع والندامة حين يرون العذاب ويسمعون قضاء الله العادل الرهيب فيهم حتى لو كان لكل واحد منهم جميع ما في الأرض لقدمه فدية عن نفسه وتهتف بالناس مؤكدة بأن وعد الله حقّ لا ريب فيه وهو قادر على تحقيقه كل القدرة لأنه الذي له ما في السموات والأرض

[سورة يونس (10) : الآيات 57 إلى 58]

والذي يحيي ويميت وإليه مرجع الناس على كل حال. ولا يروي المفسرون رواية ما في صدد نزول الآيات وهي معطوفة على سابقاتها حيث يصح القول إنها متصلة بالآيات السابقة سياقا وموضوعا حيث تستمر في حكاية أقوال ومواقف الكفار، وترد عليهم مقرعة منددة منذرة متوعدة بأسلوب قوي استهدف فيما استهدفه إثارة الخوف والارعواء في نفوسهم. [سورة يونس (10) : الآيات 57 الى 58] يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) . هتفت الآية الأولى بالناس لا فتة نظرهم إلى ما جاءهم من ربهم من موعظة على لسان رسوله ليبين لهم الحق من الباطل ويشفي صدورهم من الحيرة ونفوسهم من القلق ويكون للمؤمنين به الهدى والرحمة والسكينة والطمأنينة، وأمرت الآية الثانية النبي صلى الله عليه وسلم بتقرير ما انطوى في ذلك من فضل الله ورحمته مما هو الأجدر بإثارة فرح الناس واستبشارهم والأفضل من كل ما يشغلهم من متاع الدنيا وما يحوزونه من أعراضها. والمتبادر أن الآيتين ليستا منقطعتين عن السياق السابق، وأنهما جاءتا معقبتين على ما سبق من الإنذار، وبسبيل دعوة السامعين إلى إدراك فضل الله ورحمته في إرسال الرسل إليهم وتنزيل ما فيه الشفاء والموعظة لهم عليهم، وأسلوبهما رائع عظيم. وقد انطوى فيهما تنويه بأثر الإيمان في النفوس وما يوجده من لذة روحية تفوق كل لذة وتستحق أن يضحى في سبيلها بكل متاع زائل. فليست راحة المرء ولذته فيما يمكن أن يجمعه من حطام الدنيا ويستمتع به من متع إذ أن كثيرا ما يوجد مع هذا منغصات وآلام، وإنما هما في طمأنينة القلب وسكينة النفس ونور اليقين وراحة الضمير وكل هذا إنما يتيسر بالإيمان ويتحقق للمؤمنين الصادقين في إيمانهم، وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى.

[سورة يونس (10) : الآيات 59 إلى 60]

وقد قال الطبرسي إن الآية الثانية أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة المؤمنين للفرح والسرور بما شملهم الله من رحمته ومنحهم من فضله، وتوكيد كون ما حصلوا عليه من ذلك هو خير مما يتمتع به الكفار ويملكونه ويجمعونه. ولا يخلو هذا من وجاهة ولا يتعارض مع ما شرحناه من مداها المستمر التلقين. [سورة يونس (10) : الآيات 59 الى 60] قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60) . في الآية الأولى أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بسؤال الكفار بأسلوب تنديدي عما إذا كانوا يستندون في تحليلهم وتحريمهم رزق الله الذي رزقهم إياه إلى إذن الله وتعاليمه أم أنهم يفترون عليه، والسؤال يتضمن تقرير كون ذلك منهم افتراء على الله. وفي الآية الثانية إنذار للذين يفترون على الله. فهل يظنون أنهم ينجون من عذاب الله ونكاله يوم القيامة، والسؤال يتضمن نفي نجاتهم وقد ذكرت الفقرة الثانية من الآية بأسلوب تنديدي بما يغدقه الله من فضله على الناس وبعدم شكر أكثرهم لفضله إذ يقفون من آياته ورسله موقف الجاحد المناوئ. والآيتان تنطويان على تقرير كون زعم المشركين بأن ما يحرمونه وما يحللونه نسبة إلى الله هو افتراء عليه وبدون أي سند وأنهم بذلك لا يتلقون نعم الله وأفضاله على وجهها الحقّ ويسيئون استعمالها. ولا يروي المفسرون رواية ما في صدد نزول الآيتين، والمتبادر أنهما فصل من الفصول التي ما فتئت تحكي أقوال المشركين ومواقفهم على سبيل التنديد والتسفيه والإفحام. فهما والحالة هذه ليستا منقطعتين عن السياق وتوجيه الخطاب إلى مخاطبين كانوا يخاطبون قبلهما وهم الكفار قرينة على ذلك. والآية الأولى تنطوي على صورة من صور ما كان عليه العرب من تقاليد دينية حيث كانوا يحرمون بعض الأنعام في ظروف خاصة، أو يحظرونها على فريق

[سورة يونس (10) : آية 61]

ويبيحونها لفريق، ويعتبرون ذلك من التقاليد الدينية التي التي أمر الله بها وجرى الأجداد والآباء عليها، وقد احتوت سورتا المائدة والأنعام آيات عديدة في صدد هذه التقاليد التي سوف نشرحها في سياق تفسير السورتين اللتين إحداهما في هذا الجزء. [سورة يونس (10) : آية 61] وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61) . (1) تفيضون فيه: تخوضون وتكثرون الحديث فيه. (2) يعزب: يغيب أو يضيع أو يذهب. (3) ذرّة: لغة هي واحدة من صغار النمل. وقد تكرر ورودها في القرآن للتعبير عن أخف شيء وزنا. الضمير في فعلي (تكون) و (تتلو) عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم على ما قاله المفسرون. أما الضمائر الواردة في الفقرات الأخرى فهي عائدة إلى المخاطبين بالقرآن كما هو ظاهر. وعلى كل حال فالآية بسبيل تقرير شمول علم الله تعالى وإحاطته بكل شيء: فما من شأن يكون فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وما من مجلس يتلو فيه قرآنا، وما من عمل يعمله السامعون، وما من حديث يخوضون فيه إلا هو مشهود من الله سبحانه وعلمه محيط به ومعلوم له ما فيه من نوايا ومقاصد، فهو لا يعزب عن علمه وإحاطته شيء في الأرض ولا في السماء ولو كان مثقال الذرة في الضؤولة أو أقل أو أكبر. والآية معطوفة على ما قبلها وفيها معنى التعقيب على الآيات السابقة لها مباشرة. وفيها إنذار للناس في كل ظرف ومكان ليكون ما يقولون ويعملون مما يرضي الله ولا يسخطه.

[سورة يونس (10) : الآيات 62 إلى 64]

[سورة يونس (10) : الآيات 62 الى 64] أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) . في الآيات هتاف تنويهي بأولياء الله تعالى وتطمين لهم بأنهم لا خوف عليهم ولا حزن وتعريفهم بأنهم المؤمنون المتقون، وإعلان البشرى لهم في الحياة الدنيا والآخرة وتقرير كون ذلك حقا لهم عند الله الذي لا تبديل لكلماته، وفي هذا ما فيه من الفوز العظيم. تعليق على الآية أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ والآيتين التاليتين لها وما روي في صدد ذلك من أحاديث روح الآيات ومضمونها متسقان مع الآيات السابقة سياقا وموضوعا كما يتبادر عند التمعن فيها. فقد نددت الآيات السابقة بالمفترين على الله المكذبين لرسالة نبيه وقرآنه وأنذرتهم فجاءت هذه لتنوّه بالذين استجابوا لهذه الرسالة وتولوا الله ورسوله. وبذلك يصح القول إنها جزء من السياق ولا سيما أنه لم ترو رواية خاصة في نزولها. وجمع الإيمان مع التقوى في الآيات جدير بالتنبيه والتنويه، من حيث كون الإيمان أمرا قلبيا وغيبيا وكون التقوى برهانا عليه يعني التزام كل ما أمر الله ورسوله به وكل ما نهيا عنه لينال المؤمن رضاء الله تعالى ويتفادى غضبه ولا يمكن أن تصح دعوى الإيمان إلّا به. ومن حيث إن التقوى بالتالي هي أعظم مظاهره على ما شرحناه شرحا أو في سياق سورة العلق. وفي كتب التفسير «1» بعض الأحاديث في سياق هذه الآيات. ومن ذلك في صدد الآية الأولى حديث في صيغ عديدة روى صيغة منها أبو

_ (1) انظر كتب تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن، وقد استوعبها الطبري.

داود عن عمر جاء فيها: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء ويغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانتهم من الله. قالوا يا رسول الله أخبرنا من هم وما أعمالهم فإنا نحبّهم لذلك. قال هم قوم تحابّوا في الله بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها. فو الله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس وقرأ أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) » «1» . ويتبادر لنا أن الحديث لا يعني أن الفئة المذكورة فيها أعظم من الأنبياء والشهداء، وكل ما يعنيه أنهم ذوو منزلة عظمى عند الله يمكن أن ينالها غير هاتين الطبقتين اللتين تكونان قلة على كل حال بالنسبة للمؤمنين الصالحين في الأجيال المتعاقبة التي لا تحصى إلى يوم القيامة. ومع واجب الإيمان بما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشاهد الأخروية والأمور المغيبة فحكمة الحديث المتبادرة هي الحثّ على نيل هذه الدرجة بالتحلي بما فيها من صفات لا بد من أن الإيمان والتقوى منطويان فيها والتنويه بمن ينالها. وفي صدد الآية الثالثة حديث في صيغ عديدة روى واحدة منها الترمذي والحاكم وصححها جاء فيه: «قال رجل من أهل مصر سألت أبا الدرداء عن هذه الآية قال ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها قال ما سألني عنها أحد منذ أنزلت فهي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له» «2» . ويلحظ أن هذه الآية معطوفة على سابقتيها ومبشرة بحسن منزلة أولياء الله في الدنيا والآخرة. ولا تبدو حكمة لتفسير البشرى الموعودة بالرؤيا الصالحة إلا أن يكون أريد بذلك زيادة التطمين والبشرى، والله أعلم. ولقد تطرق السيد رشيد رضا والسيد جمال القاسمي في تفسيريهما في سياق تفسير الآيات إلى الفئة التي اعتاد العوام أن يلقبوها بلقب ولي الله ويرووا عنها

_ (1) التاج ج 5 ص 76. (2) التاج ج 4 ص 129. [.....]

[سورة يونس (10) : الآيات 65 إلى 67]

النوادر والكرامات ويلجأوا إليها لإخبارهم بالغيبيات وكشف ما يلم بهم من ملمات ويتخذوا قبورها مزارات وأماكن عبادة وتوسل واستغاثة وينذروا لها النذور. واعتاد أفراد منها أن يصنفوا أنفسهم صنوفا كالأقطاب والأوتاد والمرشدين وأن يتزيوا بأزياء خاصة ويتظاهروا بمظاهر عجيبة كثيرا ما تتناقض مع ما يقتضيه الإيمان والتقوى وأحكام القرآن والسنة. وينبهوا على أن الآيات لا تعني فئة محددة مثل هذه الفئة وحذروا الناس من ذلك، وهذا حق وسديد. فليس في الآيات ولا في الأحاديث سند لمثل هذه المظاهر والمزاعم التي قد ينخدع بها الناص والتي قد يقعون بها في مزالق الشرك والله تعالى أعلم. [سورة يونس (10) : الآيات 65 الى 67] وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) . (1) العزة: هنا بمعنى القوة والعظمة والملك الشامل. (2) يخرصون: يخمنون تخمينا لا يقين فيه ويظنون ظنا. تأمر الآيات النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا يحزن من أقوال الكفار وتطمئنه بأن الكرامة والعزة والعظمة لله في كل ظرف وحال وهو سميع لكل ما يقال عليم بكل ما يجري، وتقرر هاتفة بأن كل من في السموات ومن في الأرض ملك لله خاضعون له، وبأن الكفار الذين يدعون غيره لا يدعون في الحقيقة أحدا دعاء الواثق المستيقن من صحة وجوده وشركته مع الله وإنما هم متوهمون توهما ومخمنون تخمينا. وتشير إلى مظهر من مظاهر قدرة الله كدليل على كونه المتصرف وحده في الكون فهو الذي جعل الليل مظلما ليسكنوا فيه وجعل النهار منيرا ليسعوا فيه. وفي

[سورة يونس (10) : الآيات 68 إلى 70]

هذا آيات ربانية لمن يريد أن يسمع ويرى ويتدبر الأمر دونما عناد ومكابرة. والآيات كما هو المتبادر من روحها وعطفها على ما سبقها مفصلة بالسياق وفيها استمرار لحكاية مواقف الكفار وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وتقرير واقع الأمر من شرك المشركين. ولقد كان المشركون يعترفون بكون الله تعالى هو وحده خالق الكون ومدبره ومبدع نواميسه المتصرف فيه، فجاءت الآية الثالثة تذكر مظهرا من مظاهر ذلك مذكرة منددة، ولقد جرى النظم القرآني على ذكر بعض المظاهر الكونية دون بعض على سبيل الاستشهاد والتذكير ولا تعني حصرا، وما احتوته الآية الثالثة من هذا الباب. [سورة يونس (10) : الآيات 68 الى 70] قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) . (1) إن عندكم من سلطان بهذا: ليس عندكم برهان ولا حجة على هذا. تحكي الآيات عقيدة المشركين باتخاذ الله ولدا وتنزهه عن ذلك وتقرر أنه غني عنه لأن له ما في السموات والأرض وليس في حاجة إلى ولد يساعده أو ولي ينصره أو شريك يسنده، وتؤكد بأن ما يقولونه غير مستند إلى علم وبرهان وإنما هو كذب وافتراء على الله، وتنذرهم بأن مرجعهم إلى الله بعد متاع الحياة الدنيا القصير فيذيقهم جزاء افترائهم وكذبهم عذابه الشديد. والآيات كذلك متصلة بالسياق كما هو المتبادر. وفيها تزييف لعقيدة اتخاذ الله ولدا بأسلوب قوي المنطق والإلزام. والمتبادر أن ما حكته عن هذه العقيدة يعني عقيدة المشركين بأن الملائكة بنات الله وكلمة الولد تطلق على الذكر والأنثى والمفرد والجمع.

[سورة يونس (10) : الآيات 71 إلى 73]

[سورة يونس (10) : الآيات 71 الى 73] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) . (1) أجمعوا أمركم وشركاءكم: تفاوضوا واتفقوا مع شركائكم على الموقف وأجمعوا كلمتكم فيه. (2) غمة: مستورا أو مبهما أو مغطى. (3) اقضوا إليّ: أبلغوني بما تقررون أو اقضوا عليّ. (4) ولا تنظروني: ولا تمهلوني. (5) خلائف: خلفاء في الأرض بعد الهالكين منهم. تعليق على قصة نوح عليه السلام هذه الآيات حلقة من سلسلة قصصية جاءت على العادة القرآنية التي جرت عقب أكثر مواقف الجدل والحجاج والتعجيز والتحدي التي كانت تقوم بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار لتضرب لهم المثل وتذكرهم بمواقف ومصائر من سبقهم من أمثالهم فهي والحالة هذه متصلة بالسياق السابق اتصال تعقيب وتذكير. والحلقة تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يذكرهم بنبإ نوح وما كان من نجاته مع من آمن معه وهلاك الكافرين، والآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر، وفيها بشرى وتثبيت وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وإنذار للكفار. والبداية التي بدئت بها السلسلة تؤكد ما قلناه مرارا من هدف القصص القرآنية وحكمة تكرارها، فالقصص للعبرة والتذكير والتمثيل والتكرار لتجدد المواقف وتكررها.

[سورة يونس (10) : آية 74]

وقصة نوح عليه السّلام مقتضبة هنا، ولقد جاءت هذه القصة مفصلة في سور كما جاءت مقتضبة في سور أخرى حسب مقتضى حكمة التنزيل ولقد سبق شرح لقصة نوح في سور سبق تفسيرها فلم يعد ضرورة لشرح جديد. [سورة يونس (10) : آية 74] ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) . (1) نطبع: بمعنى نختم ونغلق، والطبع والختم على القلوب تعبير مجازي يراد به معنى إغلاقها عن فهم ما يخاطب به أصحابها. في الآية إشارة مقتضبة إلى ما كان من إرسال الله الرسل إلى أقوامهم من بعد نوح عليه السّلام وإلى ما كان من تكذيبهم للرسل كما كذب الذين من قبلهم وعدم إيمانهم. وخاتمة الآية تقرر أن المعتدين هم الذين كذبوا أولا وآخرا أي أن انحرافهم وفسادهم هما اللذان ساقاهم إلى الكفر والتكذيب. ولذلك طبع الله على قلوبهم. والعبارة من باب عبارة آية سابقة في هذه السورة وهي: كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) وما قلناه في سياقها يقال هنا بطبيعة الحال فلا حاجة إلى التكرار. وقد هدفت الآية إلى تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم بذكرها مواقف ذوي النيات السيئة الناشزين من الأمم السابقة من رسلهم ليعرف من ذلك أن مواقف ذوي النيات السيئة من قومه ليست بدعا. [سورة يونس (10) : الآيات 75 الى 93] ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)

(1) أن يفتنهم: أن يعذبهم ويردهم عن الإيمان قهرا. (2) من المسرفين: المتجاوزين الحدّ في العتوّ والبغي. (3) تبوّأا: هيأ واختارا. (4) عدوا: عدوانا واعتداء. (5) بوّأنا: مكّنا وخوّلنا وهيأنا.

تعليق على آيات قصة موسى وفرعون وبني إسرائيل

تعليق على آيات قصة موسى وفرعون وبني إسرائيل والآيات هي الحلقة الثالثة من سلسلة القصص، وفيها قصة رسالة موسى وهرون عليهما السلام إلى فرعون وقومه ونتائجها. ومعانيها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وقد وردت هذه القصة في سور سابقة مسهبة ومقتضبة، وهي هنا بين بين، حسب ما اقتضته حكمة التنزيل. ومن الجديد فيها ذكر إيمان ذرية من قوم موسى به. وقد تعدد تأويل ذلك حيث أوله بعضهم بأنهم بنو إسرائيل في زمن موسى على اعتبارهم ذرية من قومه وحيث أوله بعضهم بأنهم جماعة من نسل بني إسرائيل من القبطيات أو من نسل الأقباط من الإسرائيليات. ورجح الطبري الأول وهو الأوجه، وقد ذكر إيمان بني إسرائيل برسالة موسى ضمنا في السور التي سبق تفسيرها وذكر ذلك في سفري الخروج والعدد اللذين ذكر فيهما رسالة موسى عليه السلام مفصلة. ومن الجديد أمر الله لموسى وهرون بأن يبنوا لقومهما بيوتا يجعلونها قبلة، وقد تعدد تأويل ذلك كذلك حيث أولها بعضهم بجعلها في اتجاه الكعبة وبعضهم بجعلها مساجد لأنهم كانوا يخافون أن يصلوا لله وحده في معابدهم السابقة. وكلا التأويلين وارد من ناحية الدلالة اللفظية ولم ترد إشارة إلى ذلك في الأسفار المتداولة اليوم، ونعتقد أنه لا بد من أن يكون شيء ما يفيد ما قصدته الجملة القرآنية واردا في أسفار وقراطيس لم تصل إلينا. ومن الجديد حكاية حث موسى قومه على التوكل على الله إن كانوا آمنوا حقا ودعاء بني إسرائيل لله بتنجيتهم من الكافرين وعدم جعلهم فتنة للظالمين. ثم دعاء موسى وهرون على فرعون وملأه بطمس أموالهم والتشديد على قلوبهم لأنهم لن يؤمنوا ما لم يروا عذاب الله الأليم. ولم يرد ذلك في الأسفار المتداولة. ونعتقد كذلك أنه لا بد من أن يكون واردا في أسفار أخرى. ولقد روى الطبري وغير واحد عن قتادة أن حروثهم صارت حجارة وعن مجاهد أن الله قد حول ما يملكون من

أموال وحروث إلى حجارة وأن هذا هو معنى الطمس. ونعتقد أن هذا مما كان يخبر به اليهود استنادا إلى أسفار وقراطيس كانوا يتداولونها. ولقد أوّل المؤولون جملة لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) بمعنى لا تنصرهم علينا حتى لا يظنوا أنهم على حق ونحن على باطل، وهو تأويل وجيه. ومن الجديد ما حكي عن فرعون عند غرقه من إعلان الإيمان بأن لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وخطاب الله التنديدي له وإيذانه بأنه سينجي بدنه ليكون آية لمن بعده. ولم يرد هذا في الأسفار المتداولة ونعتقد أنه كان واردا في أسفار وقراطيس يهودية أخرى وكان مما يتداوله اليهود وبقية ما جاء في الآيات جاء ما يتساوق معه في سور سبق تفسيرها وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار. ومن مواضع العبرة في الآيات بالإضافة إلى مقام ورودها في حلقة قصصية بعد ذكر مواقف كفار العرب للتمثيل لهم وتذكيرهم وإنذارهم والتنديد بهم وتثبت النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وتطمينهم بصورة عامة حكاية إعلان موسى للسحرة بأن ما جاؤوا به من السحر سيبطله الله لأن الله لا يصلح عمل المفسدين. حيث ينطوي في هذا شجب السحر والشعوذة والفساد مما فيه تلقين مستمر المدى. ومثل هذا أيضا في جملة وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ. (82) وحكاية حث موسى قومه على التوكل على الله إن كانوا آمنوا حقا ودعائهم لله بتنجيتهم من الكافرين وعدم جعلهم فتنة للظالمين حيث ينطوي في هذا تثبت وتطمين وتعليم للنبي والمؤمنين تجاه مواقف المشركين. وحكاية عدم قبول الله إيمان فرعون عند غرقه حيث ينطوي في هذا تمثيل إنذاري للكفار بالحقيقة التي عرفها فرعون القوي بالنسبة إليهم وبعدم نفعه معرفته لها لأنها جاءت بعد فوات الوقت. وحكاية دعاء موسى وهرون على فرعون وملأه واستجابة الله لدعائهما حيث ينطوي في هذا إنذار للكفار أيضا. وحكاية إيذان الله عز وجل بأنه بوّأ بني إسرائيل بعد إغراق فرعون وقومه مكانة عزيزة ورزقهم من الطيبات قبل أن يختلفوا وينحرفوا حيث ينطوي في هذا تبشير وتحذير للمسلمين.

[سورة يونس (10) : الآيات 94 إلى 97]

ولقد روى الطبري وغيره عن ابن عباس أن الاختلاف المذكور في الآية الأخيرة هو اختلاف بني إسرائيل على النبي صلى الله عليه وسلم وأن المقصود بالعلم هو القرآن، غير أن معظم المفسرين بما فيهم الذين رووا ذلك رجحوا كون الاختلاف هو ما كان فيما بينهم. وهذا هو الأوجه الذي يلهمه مضمون الآية نفسها ويؤيده آيات عديدة أخرى مكية ومدنية منها آية سورة النمل التي مر تفسيرها والتي جاء فيها: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) . وفي الآية على ما يتبادر معنى التنديد ببني إسرائيل وبخاصة بعلمائهم، فالمقتضى أن يكون العلم سببا للوفاق لأنه يحسم الخلاف الذي يقوم على الظن والتخمين والاختلاف بعده شذوذ عن المقتضى الحق. ويكون هذا الشذوذ ناشئا عن الولع بالتأويل والتخريج المتناقضين مع المبادئ والأسس التي جاء بها رسلهم من الله لأنها من حيث الجوهر لا تتحمل خلافا ولا نزاعا. ولقد كان العرب متصلين باليهود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وواقفين على ما هم عليه من خلاف ونزاع، فكان هذا يثير فيهم العجب والاستغراب ويحدوهم إلى الاحتجاج به في سياق ما كان يقوم بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم من نقاش وحجاج، وحينما كان القرآن يستشهد بأهل الكتاب الذين منهم اليهود على صحة الرسالة المحمدية والوحي القرآني، فأريد بهذه الآية وما جاء من بابها بيان حقيقة الأمر ووضعه في نصابه الحق. ولا تخلو العبارة القرآنية من تحذير وتلقين مستمري المدى موجهين إلى المسلمين في كل ظرف ومكان حتى لا يحذو حذوهم في الاختلاف في التأويل والتخريج أتباع الأهواء إلى الحد الذي يخرجهم عن مقتضى العلم والحق. [سورة يونس (10) : الآيات 94 الى 97] فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97) . (1) من الممترين: من الشاكين المجادلين. تعليق على الآية فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ والآيات الثلاث التالية لها في الآيات خطاب رباني موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأنه إذا كان في شك من صحة ما أنزل عليه فعليه أن يسأل الذين يقرأون الكتب السماوية المنزّلة قبله ليتأكد من ذلك. وتوكيد بأن ما جاءه هو الحق من ربه. ونهى عن الشك والمراء فيه، وعن الوقوف منه موقف المكذبين بايات الله الشاكين في صدقها فيكون من الخاسرين. وتقرير رباني بأن الذين حقّ عليهم قضاء الله لا يصدقون ولا يؤمنون مهما سمعوا من الآيات ورأوا من الدلائل حتى يروا العذاب الأليم وحينئذ لا يكون تصديقهم مجديا. ولا يروي المفسرون رواية خاصة في نزول الآيات، والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي أن الآيات الثلاث الأولى مدنيات ولم نطلع على تأييد لهذه الرواية. والملحوظ أنها تضمنت معنى التعقيب على الآيات السابقة وأنها منسجمة مع السياق الذي قبلها والذي بعدها وأن الآية الرابعة بخاصة متصلة بها بل متممة لها. وكل هذا يسوغ الشك في صحة الرواية وتقرير كون الآيات الثلاث متصلة بالسياق واستمرار له. وصيغة الآية الأولى تتضمن تقريرا إيجابيا بأن المطلعين على الكتب السماوية السابقة سيشهدون حتما بصحة ما أنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم، وتلهم الوثوق واليقين التامين للسامع أيضا. أما الآيتان الأخيرتان فإنهما ليستا في صدد تقرير كون الله قد حتم على الكفار الكفر ففقد الأمل بإيمانهم، وإنما هما في صدد تصوير شدة عناد

الكفار وجحودهم، وقد تكررت هذه المعاني بمثل هذا الأسلوب وعلقنا عليها في مناسبات مماثلة بما فيه الكفاية وعلى كل حال فإن الأولى أن تفسر على ضوء الآية [33] من هذه السورة التي جاء فيها: كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) والتي شرحناها شرحا شافيا يغني عن التكرار وأمثالها التي فيها تقييد لما جاء مطلقا في الآيات. ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن ابن عباس وغيره من أهل التأويل في مدى الجملة الأولى من الآية الأولى، فمن ذلك أنها في صدد نبوة النبي وصفاته. ومن ذلك أنها في صدد ما أوحي إلى النبي من القرآن. ونحن نرجح القول الثاني لاتصاله بسياق الآيات. وتعددت الأقوال كذلك التي يرويها المفسرون في المخاطب في الآيتين الأولى والثانية حيث روي أنه النبي صلى الله عليه وسلم كما روي أنه السامع مطلقا، أو أنه المسلم بخاصة. وقد خرج أصحاب القول الأول ذلك على اعتبار أنه على سبيل التثبيت والتطمين وبثّ اليقين، ونفوا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم شك أو سأل بل ورووا عن قتادة أنه قال بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا أشك ولا أسأل» . ومع أن القول الثاني وارد ووجيه فإننا نرجح القول الأول بقرينة العبارة مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ التي يبدو منها بكل قوة أنها موجهة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مع قولنا إن هذا الأسلوب من أساليب القرآن المألوفة ومنه آيات سورة القصص [86- 88] التي مر تفسيرها. ومع تصويبنا بكل قوة تخريج القائلين بالقول الأول ونفيهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أي شك وسؤال. ومع قولنا أن من واجب المسلم الإيماني استبعاد احتمال انبثاق أي شك ومراء وتكذيب في نفس النبي صلى الله عليه وسلم فيما أنزل إليه لأن ذلك مناقض للعصمة النبوية الواجب الإيمان بها. وللإيمان العميق النبوي بصدق نبوته وبما كان يوحى إليه والذي امتلأ به قلبه. وللإسلام التام الذي أسلم به نفسه لربّه وللاستغراق الشديد الذي استغرقه في مهمته العظمى وللكمال النفسي والخلقي الذي تحلى به وجعله أهلا لاصطفاء الله له للرسالة العظمى مما قررته آيات كثيرة بأساليب متنوعة مرت أمثلة منها وعلقنا عليها في سور سبق تفسيرها.

[سورة يونس (10) : آية 98]

[سورة يونس (10) : آية 98] فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98) . (1) فلولا: هنا بمعنى هلا للحض وقيل للتنديد «1» . (2) إلّا: هنا بمعنى لكنّ «2» . في الآية تنديد بالقرى أو الأمم السابقة التي أهلكها الله لعدم إيمانها فلو آمنت لكان إيمانها نفعها ونجاها من عذاب الله. وتذكير بقوم يونس الذين آمنوا فكشف الله عنهم العذاب الذي كاد يحيق بهم ويخزيهم، ومتعهم متاعا حسنا إلى أجلهم المعين في علم الله. وقد جاءت الآية على ما هو المتبادر معقبة على ما سبقها تعقيب تنديد وحض معا وتضمنت إنذارا للسامعين بما كان من أمر القرى السابقة، وحثا لهم على أن يتلافوا أمرهم قبل فوات الوقت كما فعل قوم يونس فينجوا من عذاب الله وهلاكه. وروح الآية تلهم أن شأن قوم يونس لم يكن مجهولا من السامعين وهو ما نبهنا عليه وشرحناه في تفسير سورة القلم، وبذلك تستحكم العبرة في التمثيل والتذكير. ولقد أورد المفسرون في سياق هذه الآية قصة يونس مسهبة مروية عن أهل الأخبار والتابعين. وما أوردوه متطابق في جملته مع ما ورد في سفر يونان من الأسفار المتداولة اليوم الذي ورد فيه قصة يونس مما فيه دلالة أخرى على أن هذه القصة كانت متداولة ومعروفة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بتفصيلها الوارد في السفر المذكور. ولقد شرحنا شيئا من هذه القصة في سياق سورة القلم التي وردت في إشارة

_ (1) انظر تفسير الآية في تفسير الطبرسي والبغوي والزمخشري. (2) انظر تفسير الآية في تفسير الطبرسي والبغوي والزمخشري.

[سورة يونس (10) : الآيات 99 إلى 103]

إلى يونس عليه السلام بعبارة صاحب الحوت ومما رأينا فيه الكفاية. ولم نر أن نجاري المفسرين فنسرد هذه القصة بإسهاب لأن القرآن إنما أورد منها ما فيه تحقيق الغاية من القصص القرآني وهو العبرة والتذكير. [سورة يونس (10) : الآيات 99 الى 103] وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) . (1) الرجس: هنا بمعنى الخزي والخذلان أو العذاب. (2) حقا: منصوبة على أنها مفعول مطلق لفعل مضمر تقديره يحق علينا حقا. (3) ننج: مخففة من ننجي. في الآيات تقرير رباني بأن الله تعالى لو شاء لآمن من في الأرض جميعا، وسؤال للنبي صلى الله عليه وسلم عما إذا كان هو مع ذلك يريد أن يرغم الناس جميعا على الإيمان، وتقرير رباني آخر بأنه ليس لأحد أن يؤمن إلّا بإذن الله وتوفيقه، وأن الذين لا يعقلون ولا يتدبرون في دعوة الله وآياته يتعرضون لخزي الله وخذلانه وغضبه وعذابه، وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بلفت نظر الناس إلى ما في السموات والأرض من آيات الله، وتقرير بأن الذين لا يؤمنون لا يمكن أن ينتفعوا بآيات الله ونذره ولن يجدي ذلك فيهم، وتساؤل عما إذا كان كل ما ينتظره الجاحدون هو عذاب الله الذي حلّ في أمثالهم من قبل، وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم باستمهالهم وإعلانهم بأنه منتظر معهم أمر الله، وإشارة إلى أن الله تعالى سينجي رسله والذين آمنوا معهم

تعليق على الآية ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا والآيات الأربع التالية لها

حينما يحين وقوع العذاب على الكفار ويتحقق وعيده لهم، وأن ذلك حق لهم عليه. تعليق على الآية وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً والآيات الأربع التالية لها ولم يرو المفسرون رواية ما في صدد نزول الآيات، والمتبادر أنها هي الأخرى جاءت معقبة على الفصول السابقة التي حكت أقوال الكفار ومواقفهم وحجاجهم ثم على الفصول القصصية التذكيرية والتمثيلية التي أعقبتها بقصد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وإدخال الطمأنينة على قلبه وتخفيف حزنه من عدم إيمان أكثر الناس الذي كان شديد الحرص عليه من جهة، والتنديد بالكفار وعقولهم وغفلتهم عما في السموات والأرض من آيات الله الباهرة الدالة على وحدانيته واستحقاقه وحده للعبادة والخضوع ووصف شدة عنادهم وتصميمهم على عدم الإيمان من جهة، وتبشير النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالنجاة من جهة. وعلى ضوء هذا الشرح المستلهم بقوة من فحوى الآيات وروحها لا يبقى محل للتوهم بما قد يفيده ظاهر نص الآية الأولى والآية الثالثة من كون عدم إيمان الذين لم يؤمنوا هو بسبب عدم مشيئة الله. فالله لم يشأ أن يقرهم على الإيمان وهو قادر بل تركهم لتمييزهم واختيارهم ليستحقوا الثواب والعقاب عدلا. ومثل هذه التقريرات والتنبيهات والتطمينات والإنذارات تكرر كثيرا لنفس المقاصد مما مرت أمثلة منه في السور التي سبق تفسيرها. والآيتان الأولى والثانية تضمنتا بالإضافة إلى ما ذكرناه طبيعة مهمة النبي صلى الله عليه وسلم وهي دعوة الناس وإرشادهم وتبشيرهم وإنذارهم ثم تركهم إلى عقولهم وضمائرهم من دون إلحاح ولا تشديد. وتقرير كونه ليس عليه من ذلك مسؤولية ولا تثريب. فالناس فريقان إزاء الدعوة فذوو العقول السليمة والنيات الحسنة هم الذين يدركون

[سورة يونس (10) : الآيات 104 إلى 109]

ما فيها من حق وخير فيستجيبون إليها. وذوو العقول السقيمة والنيات السيئة يقفون منها موقف المعاند المكابر. وهذا التفاوت والتباين مظهر من مظاهر حكمة الله وخلقه. والله قادر على جعل الناس جميعهم مؤمنين ولكن حكمته شاءت تركهم إلى عقولهم وضمائرهم. وقد تكرر تقرير هذا بأساليب متنوعة مرت أمثلة منها في سور سبق تفسيرها أيضا. ولقد آمن بعد هذه الآيات كثيرون من الذين وصفوا بما وصفوا فيها حيث يصح أن يقال إن الآيات من ناحية ما قد احتوت تسجيلا لواقع الأمر عند نزولها بالإضافة إلى ما احتوته من تقريرات وانطوى فيها من مقاصد وتنبيهات. [سورة يونس (10) : الآيات 104 الى 109] قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109) . الآيات واضحة المعاني ولا تحتاج إلى أداء آخر، ولم يرو المفسرون رواية خاصة في نزولها. والمتبادر أنها جاءت خاتمة لفصول المناظرة والحجاج التي احتوتها آيات السورة فصلا بعد فصل. ومعقبة على الآيات السابقة لها مباشرة ومؤيدة لما انطوى فيها من أهداف، وهي خاتمة قوية محكمة. وقد احتوت شرحا جديدا لمهمة النبي صلى الله عليه وسلم وتقريرا لطبيعة رسالته، وبأسلوب واضح قوي ومؤثر من جهة وتطمينا لنفس النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيتا له وبثّا للسكينة في روعه من جهة أخرى. وفي الآية [108] دعم قوي للتأويل الذي أولنا به جملة: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي

تعليق على كلمة الحنيف

الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً التي وردت في الآيات السابقة. فالله قد أنزل للناس الحق بواسطة رسوله ثم تركهم لاختيارهم، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فإنما يضل عليها. وفي الآيات نهي موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرك وإنذار له بأنه إن فعل يكون ظالما، وقد ورد في آيات سابقة قريبة شيء مماثل لذلك كما جاء شيء من مثل ذلك في آخر سورة القصص التي مر تفسيرها وعلقنا عليه بما يزيل أي توهم باحتمال وقوع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم. وما قلناه هناك يقال هنا بطبيعة الحال. تعليق على كلمة الحنيف وبمناسبة ورود كلمة (حنيفا) لأول مرة نقول: إن هذه الكلمة قد تكررت كثيرا في القرآن وبخاصة في صدد وصف ملة إبراهيم عليه السلام، ووردت بدون ذكره أيضا كما هو الأمر هنا. وقد قال المفسرون إنها من (حنف) بمعنى مال أو انحرف وإنها في القرآن بمعنى المنحرف عن الشرك إلى التوحيد، كما قالوا إنها من الأضداد تجيء بمعنى استقام كما تجيء بمعنى مال أو انحرف «1» . وقد ورد في كتب اللغة اشتقاق (تحنف) مرادفا لكلمة تحنث أي تعبد وتورع كما ذكرت الكتب العربية كلمة (الحنيفية) وصفا لملة إبراهيم عليه السلام «2» . ولقد أعاد بعض المستشرقين وأبدوا في أصل الكلمة ومدلولها ومعناها. ومنهم من ذهب إلى أنها كانت تعني مذهبا دينيا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته، وأنه كان هناك طائفة أو فرقة تسمى (الحنفاء) ومنهم من قال إن الكلمة أعجمية دون أن يذكروا اسم اللغة المقتبسة منها. ومنهم من قال إنها منحوتة من (بني حنيفة) التي ظهر فيها مسيلمة النبي الكذاب وإنها تعني الدين الذي دعا إليه. بل ومنهم من زعم أن معناها لم يكن مجلوا تمام الجلاء في ذهن النبي صلى الله عليه وسلم.

_ (1) انظر تفسير آية البقرة [135] في تفسير الطبرسي والزمخشري والمنار. (2) انظر مادة حنف في أساس البلاغة للزمخشري وفي لسان العرب.

وننبه إلى أن روح ومضمون الآيات التي وردت فيها وبخاصة التي لم يرد ذكر إبراهيم عليه السلام فيها مثل الآية التي نحن في صددها، ومثل آية سورة الحج هذه: حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) يلهمان أن معناها الاستقامة على توحيد الله والاتجاه إليه وحده وعدم الشرك به بصورة عامة، والقول إن معناها لم يكن مجلوا في ذهن النبي صلى الله عليه وسلم وقاحة أكثر منها أي شيء آخر، ويظهر هذا في وضوح معنى الكلمة في آيات القرآن التي وردت فيها. والقول إنها أعجمية غريب وبخاصة إذا لاحظنا أن العرب كانوا يتسمون باشتقاقها ويعنون ما يريدون من التسمية كالأحنف والحنفاء، والقول إنها منحوتة من بني حنيفة سخيف لأن الكلمة استعملت في القرآن قبل ظهور مسيلمة بني حنيفة. على أن استعمالها في وصف ملة إبراهيم عليه السلام وفي مقام التعبير عن التوحيد والاستقامة عليها أو الانحراف عن الشرك والدين الباطل وفي مقام التعبد والتورع يدل على أنها كانت تستعمل قبل نزول القرآن في معنى ديني خاص أو وصف ديني خاص، ولا نستبعد أن تكون أطلقت أو أطلق جمعها على الذين تخلوا عن دين الجاهلية وشركها ووثنيتها واتجهوا إلى الله وعبدوه على ملة إبراهيم الحنيفية، أو ما ظنوه كذلك موحدين غير مشركين على ما ذكرته الروايات وفصلناه في كتابنا عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته قبل البعثة «1» .

_ (1) انظر عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته قبل البعثة ص 419- 434.

سورة هود

سورة هود بين هذه السورة وسابقتها تشابه في مواضع كثيرة، حيث احتوت حكاية لأقوال ومواقف تعجيزية عديدة للكفار وردود عليها ومناقشة لها وإفحام لهم فيها. وفيها سلسلة طويلة من قصص الأنبياء والأمم للتذكير بما كان من مواقف كفار الأمم السابقة من أنبيائهم وما صاروا إليه من سوء المصير وما صار المؤمنون منهم إليه من حسن العقبى والنجاة، تثبيتا وتطمينا للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وإنذارا للكفار، وفيها تذكير بحكمة الله في خلقه التي اقتضت أن لا يكونوا أمة واحدة. وفصول السورة مترابطة مما يسوغ القول إنها نزلت متتابعة حتى تمت كسابقاتها، والتشابه بينها وبين السورة السابقة قد يكون قرينة على تتابعهما في النزول، والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآيات [12 و 17 و 114] مدنيات، وانسجام الآيات في السياق والموضوع مع سابقاتها ولا حقاتها يسوغ الشك في صحة الرواية. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة هود (11) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) . (1) ثم: هذا الحرف في هذه الآيات ليس للتراخي وإنما هو للعطف وبيان

قوة استهلال السورة

الحال. وفي الآية الأولى بمعنى أن آيات الكتاب هي محكمة ومفصلة، وفي الآية الثالثة بمعنى استغفروا ربكم وتوبوا إليه. (2) تولوا: تتولوا. بدأت السورة بحروف الألف واللام والراء لاسترعاء الأسماع والأذهان لما يأتي بعدها على ما رجحناه في أمثالها، وقد أعقب هذه الحروف: 1- ذكر الكتاب وتنويه بآياته المحكمة المفصلة الواضحة، وتوكيد بأنه أنزل من عند الله الحكيم الخبير أي الذي له في كل أمر حكمة والذي له الخبرة الشاملة بمقتضيات الأمور. 2- وهتاف بالناس بأن الكتاب إنما أنزل على هذا الوجه لينبذوا عبادة غير الله، وتقرير عن لسان النبي صلى الله عليه وسلم بأنه قد أرسل إليهم من الله بشيرا ونذيرا يبشرهم بما يكون لهم من حسن العاقبة إذا عبدوا الله وحده، وينذرهم بسوئها إذا هم أشركوا معه غيره. 3- وهتاف للناس كذلك بأنهم مدعوون إلى طلب الغفران من ربهم عما بدا منهم من انحراف قبل نزول الكتاب وإعلان إنابتهم إليه. ووعد بأنهم إذا استجابوا نالوا رضوان الله ورحمته وبره فيسر لهم المتاع الحسن والحياة السعيدة في الأيام المعينة لهم في الدنيا، وجازى كل ذي فضل وعمل صالح بما يستحقه فضله وعمله. وإنذار موجه من النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يخاف عليهم من عذاب يوم القيامة الهائل إذا تصامموا عن الدعوة، فإن مرجعهم إلى الله تعالى وهو قادر على إثابة المحسن ومعاقبة المسيء لأنه قادر على كل شيء. قوة استهلال السورة ولا يروي المفسرون رواية خاصة في نزول الآيات وهي على ما يلمح من الآيات الآتية مقدمة لذكر مواقف الكفار وحجاجهم. وهي في الوقت نفسه استهلال قوي ببيان مهمة الرسالة المحمدية وأهدافها والدعوة إليها. وفي الآية الثانية توكيد لما مرّ تقريره في السور السابقة وبخاصة في الآية [99] من السورة السابقة بأن

تعليق على ما يبدو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم المباشر للناس

الإيمان بالله وكسب رضائه ونيل غفرانه يضمن لصاحبه المتاع الحسن والحياة السعيدة في الدنيا فضلا عن حسن العاقبة في الآخرة. تعليق على ما يبدو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم المباشر للناس والآيات الثلاث الأخيرة كأنما هي موجهة من النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس، والآية الثانية صريحة بذلك. وقد تكرر هذا الأسلوب أكثر من مرة، والمتبادر أن هذا على اعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يخاطب الناس. وجملة وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ معطوفة على أَلَّا تَعْبُدُوا والعبارة تفيد أن كتاب الله قد أنزل داعيا إلى نبذ عبادة غير الله واستغفاره، وآمرا النبي صلى الله عليه وسلم بالقول للناس إني لكم منه نذير وبشير. فليس في الآيات والحالة هذه أي إشكال. ومع ذلك فإن المؤولين والمفسرين يفرضون محذوفا وهو (قل) وهذا سديد متسق مع الحقيقة الإيمانية المقررة بأن جميع ما في القرآن وحي رباني وكلام الله. وهناك آيات كثيرة سبقتها كلمة (قل) ولولا ذلك لبدا ما فيها كأنما هو تقرير مباشر من النبي صلى الله عليه وسلم. وقد مرّت أمثلة لذلك في السور التي سبق تفسيرها ومن ذلك آيات عديدة في سورة يونس السابقة لهذه السورة مثل الآيات [15 و 16 و 31 و 33 و 34 و 35 و 38 و 41 و 50 و 52 و 57 و 58 و 103 و 105] . وفي سورة النمل مثال فيه توضيح أكثر. ففيها هذه الآيات: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93) فالمتبادر أن كلمة (قل) في الآيتين الثانية والثالثة مقدرة واردة بالنسبة لما في الآية الأولى والشطر الأول من الآية الثانية من كلام يوهم أنه كلام النبي المباشر. وعلى كل حال ففي هذا الأسلوب صورة من صور الوحي والنظم القرآني كما هو المتبادر أيضا. [سورة هود (11) : الآيات 5 الى 6] أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6)

(1) يثنون صدورهم: يلوونها كما يفعل الذي يريد أن يخفي نفسه من غيره. (2) يستغشون ثيابهم: يضعون ثيابهم غشاء عليهم لمنع غيرهم من رؤيتهم. لقد روى المفسرون عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم من أهل التأويل في الصدد الأول أقوالا عديدة في مدى الآية الأولى. منها أنها نزلت في حق الأخنس بن شريق الذي كان يظهر الود للنبي صلى الله عليه وسلم وصدره مشحون بالبغضاء له. أو أنها نزلت في بعض المنافقين أو الكفار الذين كانوا يثنون صدورهم أو يستغشون بثيابهم إذا رأوا النبي صلى الله عليه وسلم مقبلا حتى لا يراهم. ومنها أنها بسبيل الإشارة إلى عادة عند العرب وهي أنهم كانوا يستخفون من الله حينما يأتون منكرا أو أنهم كانوا يستحيون من الإفضاء بنظرهم إلى السماء فى حالة الجماع أو في حالة التخلي لقضاء الحاجة. وفي كتاب التفسير في صحيح البخاري حديث في القول الأخير جاء فيه: «إن ابن عباس سئل عن هذه الآية فقال أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء أو يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء فنزلت الآية» «1» . والروايتان الأوليان تقضيان بأن يكون ضمير (منه) عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حين أن روحها ومضمونها وروح الآية ومضمونها معا يلهمان أن الضمير عائد إلى الله تعالى. وهذا يتسق مع الأقوال الأخرى ومنها الحديث الذي يرويه البخاري عن ابن عباس مع استبعادنا أن يكون ابن عباس قصد أن الآية نزلت خاصة في الأحوال المذكورة في الحديث وإنما قصد بيان عادة العرب فيها وقصد إشارة القرآن إليها. ويتبادر لنا والحالة هذه أن الآيتين جاءتا معقبتين على ما سبقهما. فالآية السابقة لهما مباشرة تقرر أن مرجع الناس إلى الله تعالى وأنه قدير على كل شيء فجاءت الآيتان عقب ذلك تشيران إلى عادة كان العرب يجرون عليها بل تكاد تكون عادة

_ (1) التاج ج 4 ص 130.

[سورة هود (11) : الآيات 7 إلى 8]

إنسانية عامة وهي محاولة التواري عن الأعين بليّ الصدور والاستغشاء بالثياب إذا ما باشروا عملا آثما أو مكروها. وتقرر أن عدم جدوى ذلك بالنسبة إلى الله تعالى لأن علمه الشامل وقدرته الكاملة محيطان بكل شيء من مكنونات الصدور وأعمال الناس في السر والعلن وبكل دابة على الأرض حيث يعلم سيرها ومقامها وحيث يتكفل برزقها أيضا. وذلك بسبيل حمل المخاطبين في الآيات السابقة على مقابلة دعوة الله التي يبلغها رسوله إليهم بالإقبال وعدم التهرب. [سورة هود (11) : الآيات 7 الى 8] وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8) . (1) أمة: هنا بمعنى أيام أو مدة. (2) ما يحبسه: ما الذي يمنعه. معاني الآيتين واضحة، وهما معطوفتان على ما قبلهما واستمرار لهما على ما هو المتبادر، وضمائر الجمع المخاطب في الآية الأولى مماثلة لما في آيات السورة الأولى مما يسوغ القول إن الآيتين والآيتين اللتين قبلهما وآيات السورة الأولى جمعها سياق واحد متصل ببعضه. ومن المحتمل أن يكون في الآيتين تسجيل لمشهد جدل بين النبي صلى الله عليه وسلم وبعض الكفار، كما أن من المحتمل أن يكون ما احتوتاه حكاية عامة. وقد تضمنت الآية الثانية حكاية قول جديد للكفار في صدد إنكار البعث الأخروي حيث قالوا إن هذا من باب السحر، والمتبادر أنهم كانوا يعنون بذلك

تعليق على جملة وكان عرشه على الماء

استحالة البعث حيث كانوا يعتقدون أن السحر تخييل وقوع ما لا يمكن وقوعه على ما شرحناه في سياق سورة المدثر. وما جاء في الآية الثانية من تحدي الكفار واستهزائهم بسبب تأخر العذاب الموعود قد تكرر منهم كثيرا مما مرّت أمثلة عديدة منه في السور التي سبق تفسيرها حيث كان البعث والجزاء الأخرويان من أهمّ مواضيع الجدل والحجاج والتحدي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم وقد ردت عليهم الآية ردا قويا مؤكدة ومنذرة ومتوعدة كما هو الشأن في سياق حكاية أقوالهم المماثلة. تعليق على جملة وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ وفي الآية الأولى جديد وهو أن عرش الله كان على الماء قبل خلق السموات والأرض، وقد ذكر هذا في الإصحاح الأول من سفر التكوين هكذا: (في البدء خلق الله السموات والأرض وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلام، وروح الله يرف على وجه الماء) . ولقد علقنا على مسألة خلق الله السموات والأرض في ستة أيام في سياق تفسير سورة القمر وعلقنا على مدى تعبير العرش في سياق تفسير سورة البروج بما يغني عن التكرار، والفقرة هنا بما فيها الجديد هي بسبيل تقرير أزلية الله سبحانه وعظمته وإبداعه للأكوان وما فيها وهيمنته الأزلية والبرهنة على قدرته على بعث الناس بعد الموت، فلا محل ولا طائل وراء البحث في الكيفيات والماهيات المتصلة بذات الله الذي ليس كمثله شيء على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة. ولقد أورد المفسر ابن كثير في سياق هذه الآية حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي رزين لقيط بن عامر قال: «قلت يا رسول الله أين كان ربّنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: في عماء ما تحته هواء أو ما فوقه هواء ثم خلق العرش بعد ذلك» «1» . وحديثا

_ (1) هذا الحديث رواه الترمذي في سياق تفسير الآية أيضا بمغايرة يسيرة وهي جملة «وخلق عرشه على الماء» بدلا من جملة: «ثم خلق العرش بعد ذلك» انظر التاج 4 ص 130- 131 وفي تفسير ابن كثير أحاديث أخرى من باب ما أوردناه فاكتفينا بما أوردناه.

تعليق على جملة ليبلوكم أيكم أحسن عملا

آخر جاء فيه: «إنّ جماعات من بني تميم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أول هذا الأمر- أي الكون- كيف كان؟ فقال: كان الله قبل كلّ شيء وكان عرشه على الماء، وكتب في اللوح المحفوظ ذكر كلّ شيء» . وفي الأحاديث ترديد لما احتوته الآية كما هو ظاهر. وما جاء في الثاني في صدد اللوح المحفوظ قد ذكرناه وعلقنا عليه في سياق سورة البروج بما يغني عن التكرار. تعليق على جملة لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا المتبادر أن في الجملة استطرادا هدف إلى تقرير حكمة الله في خلق الناس وهي اختبارهم في أعمالهم وإظهار من هو الأحسن عملا فيهم، وينطوي في هذا تقرير قابلية الناس للسير الحر والإرادة الحرة والاختيار بين الهدى والضلال والخير والشر ليكونوا قد استحقوا جزاء الله العادل على اختيارهم، وفي هذا أولا تذكير تنويهي بما اقتضته حكمة الله من تمييز الإنسان على سائر خلقه وثانيا إيقاظ لضمير الإنسان وجعله رقيبا على صاحبه وحفزه إلى الهدى والخير دون الضلال والشر، وقد تكرر هذا أكثر من مرة لما له من أثر وخطورة في أعمال البشر وواقع حياتهم، وقد انتهت السورة السابقة بتقرير ذلك أيضا على ما شرحناه. ومما يتبادر من هذا التكرار أن حكمة التنزيل بالإضافة إلى حكمة الله تعالى في جعل يوم آخر يبعث فيه الناس ليجزوا على أعمالهم في الدنيا قد قصدت تنبيه الإنسان إلى أنه وقد وجد في الحياة مكلف بالاندماج فيها دون تساؤل لا طائل من ورائه. ومكلف بعمل أحسن العمل في حياته أي كل ما فيه الخير والبر والعدل والحق. وإلى أنه بذلك فقط يكون قد حقق حكمة الله في خلقه ووجوده وتمييزه عن سائر الخلق وأدرك معنى هذه الحكمة. وتسامى عن بقية المخلوقات الحية التي لم تشأ هذه الحكمة أن يتكامل فيها العقل وتكون موضع تكليف وخطاب إلى ما يتساوق مع المرتبة التي شاءت هذه الحكمة أن يكون فيها. وقد يكون مما انطوى

[سورة هود (11) : الآيات 9 إلى 11]

في الجملة جواب على الأسلوب الحكيم على ما قد يتساءل الناس عنه من حكمة خلقهم وخلق الأكوان وبداية ذلك ونهايته. فهذا التساؤل لا طائل من ورائه لأن ذلك من سر الله عز وجل والأولى بالإنسان أن لا يتساءله وأن ينصرف إلى ما يجب عليه من الأعمال الصالحة والتسابق فيها وأن يعتبر ذلك من حكمة الله تعالى في خلقه على الصورة التي خلقه عليها. والله أعلم. ولقد توقف بعض المفسرين عند كلمة لِيَبْلُوَكُمْ لأن فيها معنى لا يتسق مع علم الله المحيط الأزلي الأبدي وخرجوها بأن ذلك على سبيل التمثيل والاستعارة والمجاز أو لتحقيق العلم الأزلي بالواقع العملي. أو ليمتاز صاحب العمل الحسن من صاحب العمل السيء وينال كل ما يستحقه حقا وعدلا. ومع وجاهة هذه التخريجات فالذي يتبادر لنا أن التعبير أسلوبي لمخاطبة الناس وبيان حكمة الخلق ولتنبيه الناس بأنهم تحت اختبار الله ورقابته ليلتزموا حدود ما رسمه الله من أوامر ونواه. وليس فيها إشكال يتحمل التوقف. والله تعالى أعلم. [سورة هود (11) : الآيات 9 الى 11] وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) . (1) النعماء: نعمة يظهر أثرها على صاحبها. (2) الضراء: ضرّ وأذى يظهر أثرهما على صاحبهما. وفي الآيات إشارة تنديدية إلى خلق فاش في سواد الناس وهو أن المرء إذا ناله ضيق وعسر وضر بعد سعة ويسر ورخاء يئس وكفر، وإذا ناله خير بعد شر ورخاء بعد عسر فرح وبطر وظن أنه قد أمن حوادث الدهر ومفاجات الأيام. وقد استثنى المؤمنون الصابرون الذين يعملون الصالحات من التنديد وقرر لهم على صبرهم مغفرة الله وأجره الكبير.

[سورة هود (11) : الآيات 12 إلى 14]

والآيات قد جاءت كما هو المتبادر معقبة على سابقاتها حيث انطوى فيها شرح حالة الكفار الذين كانوا السواد الأعظم من سامعي القرآن، والذين كانوا موضوع تنديد في الآيات السابقة بعد استثناء المؤمنين الصابرين الصالحين، وقد تكرر هذا في المناسبات المماثلة مما مرّ بعض أمثلته. وواضح أن الآيتين الأوليين وهما تنددان بذلك الخلق تنطويان على تلقين مستمر المدى فيه تحذير ودعوة إلى التفكير دائما في عواقب الأمور والاستعداد لها فلا تبطر المرء نعمة فتخرجه عن طوره، ولا تيئسه نقمة فتسلمه إلى الكفر والجحود. وقد انطوى في الآية الثالثة تقرير أثر الإيمان في صاحبه إزاء تقلبات الدهر حيث يساعده على الصبر والاستمرار في العمل الصالح في حالتي السراء والضراء دون بطر ولا يأس. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الثالثة حديثين نبويين أحدهما ورد في صحيحي البخاري ومسلم جاء فيه: «والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته سراء فشكر كان خيرا له وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له وليس ذلك لأحد غير المؤمن» . وجاء في الحديث الثاني: «والذي نفسي بيده لا يصيب المؤمن همّ ولا غمّ ولا نصب ولا وصب ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلّا كفّر الله عنه بها من خطاياه» . حيث ينطوي في الحديثين تطمين وتثبيت وبشرى للمؤمنين وحث على الشكر على حالة السراء والصبر في حالة الضراء وحيث يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الشأن كما هو في كل شأن. [سورة هود (11) : الآيات 12 الى 14] فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) . (1) أن يقولوا: مخافة أن يقولوا. لا يروي المفسرون رواية خاصة في نزول هذه الآيات، والمتبادر أنها استمرار لحكاية مواقف الكفار وحكاية حالهم فهي والحالة هذه استمرار للسياق. وقد تضمنت الأولى تثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم وتسليته إزاء مواقف الكفار وتحديهم فقد كان يستشعر أحيانا بشيء من القلق وضيق الصدر حينما كان يتلو عليهم الجديد من القرآن مخافة أن يتحدوه باستنزال ملك يؤيده أو كنز يلقى إليه. فليس هو إلّا نذير وليس عليه إلّا تبليغ ما يوحى إليه والله الوكيل على كل شيء. وتضمنت الآية الثانية ترديدا لما كانوا ينسبونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم من افتراء القرآن وأمرا بتحديهم بالمقابلة. فليأتوا بعشر سور مثله إذا كانوا صادقين في زعمهم بأنه مفترى وليستعينوا بمن يستطيعون على ذلك. وتضمنت الآية الثالثة توكيدا في حالة عدم استجابة الكفار للتحدي بأن القرآن هو منزل بعلم الله الذي لا إله إلّا هو ودعوة للسامعين إلى إسلام النفس له وحده. وينطوي في أسلوب الآية تقرير عجز الكفار عن الاستجابة إلى التحدي وإلزام للسامعين بالإسلام لله لأن عجزهم يثبت أن القرآن منزل من الله تعالى ولم يبق لهم مناص إلا الإذعان والتسليم. ولقد تعددت أقوال أهل التأويل من الصدر الأول التي يرويها المفسرون عن المخاطب في الآية الثالثة حيث قيل إنه النبي صلى الله عليه وسلم كما قيل إنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمون وقيل أيضا إنهم السامعون إطلاقا. والعبارة تتحمل كل ذلك، وإن كنا نرجح أن المخاطب هو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه معا، وكلمة (لكم) تقوي هذا الترجيح.

تعليق على الآية فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك إلخ

تعليق على الآية فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ إلخ والفقرة الأولى من الآية الأولى قد تورد على الخاطر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحسب أحيانا حساب مكابرة الكفار وتكذيبهم، ويقوم في ذهنه عدم إعلان جميع ما ينزل عليه وبخاصة ما فيه هجوم على آلهة الكفار وعقولهم فاحتوت الآيات تحذيرا وتنبيها له. وورود شيء من هذا في آيات أخرى وبخاصة آيات سورة الإسراء [73- 75] على ما شرحناه في تفسير هذه السورة قد يقوي هذا الخاطر. غير أننا نرجح أن التعبير هنا تعبير أسلوبي يقصد به وصف شدة ما كان يلم بالنبي صلى الله عليه وسلم من ألم نفسي وضيق صدر من جراء موقف الكفار وتحدياتهم. وأنه ليس من نوع ما أشارت إليه آيات الإسراء المذكورة. وجملة أَنْ يَقُولُوا التي بمعنى مخافة أن يقولوا ويطلبوا مؤيدات خارقة على صحة النبوة مثل استنزال ملك أو كنز قرينة على صحة الترجيح. وعلى كل حال فليس في الآية ما يمس العصمة النبوية في صدد تبليغ ما أوحى الله به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم. والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآية الأولى مدنية، وهي رواية غريبة لم تطلع على تأييد لها. فالاية منسجمة في السياق موضوعا وسبكا. والصورة التي احتوتها من صور العهد المكي. وهناك آيات لا خلاف في مكيتها، ومنها آيات سورة الفرقان [7- 8] احتوت مثلها. وهذا مما يسوّغ الشك في صحة الرواية. ولقد روى الطبرسي في سياق هذه الآية عن ابن عباس أن رؤساء قريش أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: إن كنت رسولا فحوّل لنا جبال مكة ذهبا أو ائتنا بملائكة يشهدون لك بالنبوة فأنزل الله الآية «1» . وروى الطبرسي في الوقت نفسه حديثا عن العياشي عن أبي عبد الله أحد الأئمة الإثني عشر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: إني سألت ربي أن يؤاخي بيني وبينك ففعل، وسألت ربي أن يجعلك وصيي ففعل، فقال بعض القوم والله لصاع من تمر في شن بال أحب إلينا

_ (1) انظر تفسير الآية في مجمع البيان للطبرسي.

دلالة تكرار تحدي الكفار بالقرآن

مما سأله محمد ربه، فهلا سأله ملكا يعضده على عدوه أو كنزا يستعين به على فاقته، فأنزل الله الآية «1» . وقد يكون ما ورد في الرواية الأولى قد قاله رؤساء قريش للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن مضمون الآية وأسلوبها يبعث على التوقف في أنها نزلت جوابا لقولهم عند التمعن فيها، ولعلهم قالوه في موقف آخر. أمّا الرواية الثانية فهي متهافتة بل مخترعة فيما نعتقد وهي مثال من أمثلة كثيرة من روايات الشيعة في سياق كثير من الآيات لأجل تأييد أهوائهم. دلالة تكرار تحدي الكفار بالقرآن هذا، ويلحظ أن تحدي القرآن للكفار بالإتيان بشيء مثل القرآن وتقريره الصريح والضمني بعجزهم عن ذلك قد توالى في السور الثلاث المتتابعة في النزول أي الإسراء ويونس وهود، وهذا، يعني أن موضوع الوحي القرآني كان من أهم مواضيع الجدل والمكابرة من قبل الكفار. وهذا مؤيد بكثرة ما حكاه القرآن من مواقف جدلهم ومكابرتهم إزاء القرآن. مما مرت منه أمثلة عديدة. والتحدي في الآية التي نحن في صددها قوي مفحم فالكفار يقولون إن القرآن مفترى وهذا يعني أن تقليده غير عسير، فليأتوا بعشر سور مفتريات منه إذا استطاعوا. [سورة هود (11) : الآيات 15 الى 16] مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16) . (1) حبط: بمعنى بطل وذهب هدرا.

_ (1) انظر المصدر السابق نفسه.

تعليق على آية من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون

تعليق على آية مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ في الآيتين تقرير بأن الذين يتوخون بما قد يعملون سعادة الحياة الدنيا وزهرتها والتمتع بالجاه والثروة والسلامة فيها فقط فإنهم قد ينالون جزاء عملهم فيها دون بخس ولا نقص، ولكن أعمالهم هذه لن تنفعهم في الآخرة لأنها قد انحصرت في الدنيا وأغراضها واستهدفت النفع العاجل والجزاء السريع. فهي بالنسبة للاخرة باطلة معدومة الأثر ولن يكون لأصحابها إلّا النار لأنها لم تصدر عن إيمان بالله ورغبة في رضائه وتقواه وتنفيذ أوامره. وواضح من فحوى الآيات وروحها أن الأعمال المذكورة فيها هي أعمال البر والخير التي يعملها بعض الناس ابتغاء للجزاء والذكر في الحياة الدنيا وحسب. ولقد روى الطبرسي عن الجبائي أن المقصود بالذكر هم المنافقون الذين كانوا يغزون مع النبي صلى الله عليه وسلم للغنيمة دون نصرة الدين وليس من خلاف في مكية الآيات. ويكون هذا القول بناء ذلك من قبل التطبيق المتأخر. وورود الآيتين عقب الآيات السابقة يلهم أنهما في صدد الكفار وفي سياق ما هو دائر بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم من حجاج وجدل وهما والحالة هذه استمرار للسياق. ويظهر أن الكفار كانوا يتبجحون بعمل بعض المكرمات ويظنون أن ما يسّره الله لهم من مال وجاء ورفاه بسبب ذلك فأريد الرد عليهم بما انطوى تقريره في الآية على النحو الذي شرحناه. وفي سورة (المؤمنون) آيات قد يكون فيها إشارة إلى ذلك وهي: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56) . والآيتان بالإضافة إلى كونهما في معرض الرد على الكفار والتنديد بهم فإن إطلاق الخطاب فيهما يجعلهما عامتي التوجيه لكل الناس. ويدخل في ذلك

المسلمون. وأنهما قد توختا أيضا كما يتبادر: 1- تقرير ما للنية من أثر في عمل المرء ونتائجه. 2- دعوة الناس إلى عمل الخير والسير في طريق الحق والهدى لا بقصد الجزاء الدنيوي العاجل لأن هذا قد يحدث وقد لا يحدث، وإذا حدث فلا يكون دليلا على أن قصد عمل الخير لذاته صادق ومخلص. 3- تثبيت فكرة الآخرة وتقرير وجوب الإيمان بالله ومراقبته وتقواه في ما يعمله المرء في الدنيا أملا في رضاء الله وغفرانه والسعادة الأخروية الخالدة. فإذا صدر المرء في عمله عن هذا القصد والأمل مع مرافقة الإيمان استوى عنده نيل الجزاء الدنيوي وعدمه وأقدم على عمل الخير لذاته ابتغاء رضاء الله ورضوانه. وفي هذه المقاصد من السمو والتلقين والتربية الأخلاقية ما هو رائع جليل. ولقد أورد البغوي في صدد مدى الآية حديثا عن أنس بن مالك فيه توضيح وتبشير جاء فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يظلم الله المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى بها خيرا» . ولقد تكرر تقرير ما قررته الآية مرارا بأساليب متنوعة مرّت أمثلة منها في السور التي سبق تفسيرها حيث يفيد هذا أن حكمة التنزيل قد أسبغت على هذا الأمر خطورة لما فيه من تلقين جليل سام. ولقد أورد الطبري في سياقها حديثا عن أبي هريرة يفيد أن ما قررته يشمل أو يتناول الذين يعملون الأعمال الصالحة من المسلمين رياء مهما كانت أعمالهم. وقد روى مسلم والنسائي والترمذي حديثا مقاربا لما ورد في الطبري عن أبي هريرة أيضا، وقد جاء في حديث الترمذي: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها، قال قاتلت فيك حتى استشهدت. قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء، فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلّم العلم وعلّمه وقرأ

[سورة هود (11) : آية 17]

القرآن فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال تعلّمت العلم وعلّمته وقرأت فيك القرآن. قال كذبت ولكنّك تعلّمت العلم ليقال عالم. وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كلّه، فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها قال ما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحبّ أن ينفق فيها إلّا أنفقت فيها لك. قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد. فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار» «1» . [سورة هود (11) : آية 17] أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17) . (1) أولئك: راجعة على الأوجه إلى الذين هم على بينة من ربهم. (2) الأحزاب: تعني الفئات العديدة التي تتجمع لمقصد مشترك وتتحزب له. وهي هنا وفي الأماكن الأخرى من القرآن عنت الفئات التي تحزبت ضد النبي صلى الله عليه وسلم. (3) مرية: شك وريب. (4) إنه الحق من ربك: قيل إن الجملة راجعة إلى الشاهد كما قيل إنها راجعة إلى الموعد. وقيل أيضا إنها راجعة إلى القرآن والقولان الأولان أكثر وجاهة وورودا في مقام الجملة. تعددت الأقوال التي يوردها المفسرون «2» في الضمائر الواردة في الجملة الأولى من الآية وفي مداها. منها أن المقصود من (أفمن) هو جبريل أو النبي صلى الله عليه وسلم أو علي بن أبي طالب. ومنها أن معنى (ويتلوه) يؤيده ويتبعه. ومنها أن المقصود

_ (1) التاج ج 1 ص 50. (2) انظر تفسير الآية في الطبري وابن كثير والبغوي والخازن والطبرسي.

من (شاهد منه) هو القرآن أو جبريل أو النبي صلى الله عليه وسلم أو علي بن أبي طالب أو الإنجيل واسم علي بن أبي طالب رضي الله عنه مقحم إقحاما بدون أي مناسبة. وهذا ديدن رواة الشيعة. والذي يتبادر لنا أنه الصواب استلهاما من فحوى الجملة وروحها وروح وفحوى الآية معا أي جملة أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ تعني الذين آمنوا بعد أن ظهرت لهم البينة والبرهان. وأن جملة (ويتلوه) يعني يؤيد ذلك البرهان وأن جملة شاهِدٌ مِنْهُ تعني القرآن، ومن مرجحات ذلك الجملة التي بعدها والله أعلم. وفي الآية: 1- سؤال إنكاري ينطوي على نفي معقولية وإمكان التسوية بين المؤمنين والكافرين وتعليل ذلك بأن الأولين قد أدركوا الحقيقة الإلهية وصاروا منها على يقين وبينة وخاصة بعد ما جاءهم من ربهم شاهد ودليل وهو القرآن الذي سبقه شاهد ودليل آخر وهو كتاب موسى عليه السلام الذي أنزله الله كذلك إماما هاديا ورحمة فامنوا وصدقوا، بعكس الآخرين الذين هم في غفلة عن هذا وضلال. 2- وإنذار لكل من كفر بالله تعالى ولم يصدق القرآن من مختلف الفئات بأن موعده ومصيره إلى النار. 3- وأمر رباني للنبي صلى الله عليه وسلم أو للسامع إطلاقا بأن لا يكون عنده أي شك وتردد في ذلك فهو الحق من الله ولو لم يؤمن به وصدقه أكثر الناس. والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآية مدنية، ويلحظ أنها منسجمة مع ما قبلها سياقا وموضوعا. وكذلك مع ما بعدها. وفيها معنى التعقيب على ما سبقها. وكل هذا يبرر الشك في صحة الرواية التي لم نطلع على تأييد لها. ونخشى أن تكون من موضوعات الشيعة لتبرير صرف أَفَمَنْ وشاهِدٌ مِنْهُ إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث كان في أوائل الإسلام التي نزلت السورة فيها ما يزال حدث السن.

[سورة هود (11) : الآيات 18 إلى 24]

[سورة هود (11) : الآيات 18 الى 24] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24) . (1) ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا: قد تكررت هذه الجملة، وهي في مقامها بمعنى (ليس من أحد أشد جرما وجورا ممن يفتري على الله الكذب) . (2) الأشهاد: جمع شاهد أو شهيد وكلاهما بمعنى واحد. وربما أريد بهم الأنبياء أو الملائكة أو كلاهما حيث ورد في آيات أخرى أن النبيين وفي آيات أخرى أن الملائكة يشهدون محاسبة الناس على أعمالهم يوم القيامة وقد مرّت أمثلة من ذلك في السور التي سبق تفسيرها. (3) لم يكونوا معجزين: ليسوا معجزين الله عن قهرهم وإهلاكهم. (4) ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون: قيل إن (ما) هنا ليست للنفي وإن معنى الآية إنهم يعذبون لأنهم كانوا يستطيعون السمع فلم يسمعوا والرؤية فلم يبصروا. وقيل إن معناها ما داموا يسمعون ويبصرون فإنهم معذبون، وقيل إنها للنفي وإنها تعني أنهم يعذبون لأنهم كانوا من شدة العناد والمكابرة إلى درجة أن يوصفوا بعدم استطاعة السمع والرؤية وهذا ما نراه الأوجه «1»

_ (1) انظر تفسير الطبري فقد روى كل هذه الوجوه عن أهل التأويل.

(5) لا جرم: جرم بمعنى قطع وكسب. ولكن التعبير صار كالمثل بمعنى حقا وبمعنى لا محالة. (6) أخبتوا: خشعوا أو أخلصوا أو خضعوا لله. في الآيات حملة شديدة على المشركين وزعمائهم بخاصة، فهي: 1- تتساءل تساؤلا يتضمن التقرير والتوكيد بأنه ليس من أحد أعظم جرما وأشد ظلما من الذين يفترون على الله الكذب وتؤكد بأنهم سيقفون أمام الله فيشهد عليهم الأشهاد بأنهم هم الذين كذبوا على الله فيهتف باللعنة على الظالمين الذين كانوا كافرين بالآخرة والذين كانوا يمنعون الناس عن سبيل الله ويضعون العراقيل في طريق الدعوة إليه. 2- تؤكد أنهم لن يكون لهم أولياء ونصراء يحمونهم من نقمة الله وأن عذابهم سيكون مضاعفا لأنهم اشتدوا في تصاممهم عن سماع كلمة الحق وفي تعاميهم عن رؤية الحق حتى لقد كانوا في مثابة العاجزين عن السمع والإبصار، وأنهم خسروا أنفسهم وغاب عنهم شركاؤهم الذين زعموها كذبا وافتراء. 3- تقرر أن من الطبيعي أن يكونوا الأخسرين في الآخرة. وأنهم إذا كانوا أهملوا في الدنيا فليس ذلك لأنهم كانوا معجزين الله فيها وإنما لأن حكمته اقتضت ذلك. واستطردت الآيات إلى ذكر الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخلصوا وخشعوا لله تعالى ذكرا تنويهيا بالمقابلة لذكر الكفار مما هو مألوف في النظم القرآني، فقررت أنهم هم أصحاب الجنة الخالدون فيها ومثلت كلا من الفريقين بالبصير والأعمى والسميع والأصم وتساءلت تساؤلا فيه معنى التقرير بأنه لا يمكن أن يستوي الأعمى والبصير ولا السميع والأصمّ، ودعت الناس بأسلوب الحث إلى التدبر والتذكر لاستبانة الحق من الباطل. والكذب على الله في الآيات يعني عقيدة الشرك. والقرينة على ذلك هي جملة وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ وجملة الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً تعني الزعماء الذين تولوا قيادة المناوأة للدعوة النبوية ومنع الناس من الاستجابة إليها. وهذا وذاك هو ما قصدناه في مطلع الشرح من جملة الآيات

[سورة هود (11) : الآيات 25 إلى 49]

على المشركين وزعمائهم بخاصة. والمتمعن في الآيات يلمس ولا ريب شدة الحملة في التنديد والإنذار وتصوير ما سيكون من أمر الكفار وزعمائهم، والمتبادر أنها استهدفت فيما استهدفته إثارة الرعب في قلوبهم وإيقاظ ضمائرهم وحملهم على الارعواء والارتداع. والمتبادر كذلك أن الاستطراد التنويهي إلى ذكر المؤمنين قد تضمن تبشير هؤلاء وبث الطمأنينة في نفوسهم. والآيات كما هو المتبادر استمرار لموقف الجدل والحجاج وتعقيب عليه. فبعد أن حكى في الآيات السابقة ما كان من أقوال الكفار وتحدياتهم جاءت الآيات تحمل عليهم هذه الحملة الشديدة. ولعل في ورود هذه الآيات عقب الآية السابقة قرينة على مكية هذه الآية التي ذكرت بعض الروايات أنها مدنية. وروح الآيات وفحواها يتضمنان تقرير كون الذين استحقوا الجنة أو النار في الآخرة إنما استحقوها نتيجة لاختيارهم طريق الهدى أو الضلال في الدنيا. وهذا يوجب التأويل الذي أولناه لجملة ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ. [سورة هود (11) : الآيات 25 الى 49] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)

(1) أراذلنا: الفئة الحقيرة الوضيعة.

تعليق على قصة نوح عليه السلام

(2) بادي الرأي: لأول وهلة أو الظاهر الواضح. (3) عميت عليكم: أغلق عليكم فهمها. (4) أنلزمكموها: هل نكرهكم عليها. (5) تزدري: تحتقر. (6) إن كان الله يريد أن يغويكم: تعبير أسلوبي فيه تنديد وإنذار. (7) فلا تبتئس: فلا تحزن. (8) اصنع الفلك بأعيننا: اصنع السفينة برعايتنا وهدايتنا. (9) فار: انفجرت منه المياه. (10) التنور: مكان إيقاد النار لخبز الخبز. (11) في معزل: بعيد منعزل. (12) حال: فرّق. (13) أقلعي: توقفي أو كفي. (14) غيض الماء: انحسر الماء. (15) الجودي: اسم الجبل الذي استقرت فوقه السفينة. (16) إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح: إن عمله غير صالح فليس من نوعك ولا ينبغي أن يعد من أهلك. تعليق على قصة نوح عليه السلام الآيات حلقة من سلسلة طويلة في قصص الأنبياء وأممهم جريا على الأسلوب القرآني في إيراد القصص عقب حكاية مواقف الكفار وأقوالهم وتعجيزياتهم للتذكير والتمثيل والإنذار، فهي والحالة هذه متصلة بالسياق. والآيات واضحة المعاني لا تحتاج إلى أداء آخر، وقد احتوت قصة نوح عليه السلام بتفصيل أو في مما جاء في سورتي الأعراف والشعراء مما اقتضته حكمة التنزيل. وفيها جديد لم يذكر فيما سبق وهو: الأمر بصنع السفينة، وكيفية حدوث

تعليق على آية تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا

الطوفان، وأخذ زوجين اثنين من كل حي، وموج الطوفان العظيم الذي شبه بالجبال، واستواء السفينة على الجودي، ومسألة ابن نوح الذي ظل مع الكفار، والحوار الذي جرى بينه وبين قومه حول رسالته وحول الذين آمنوا بها منهم وبينه وبين الله حول غرق ابنه. والقصة كما ذكرنا قبل واردة في سفر التكوين، وليس في السفر المتداول اليوم ذلك التفصيل ولا الحوار ولا مسألة ابن نوح وإن كان فيه تفصيل عن حجم السفينة لم يرد في الآيات. والذي نرجحه أن ما ذكر في الآيات كان واردا في قراطيس أو أسفار أخرى كانت متداولة في أيدي أهل الكتاب وكان هو المتداول في أوساطهم. ولقد أورد المفسرون في سياق قصة نوح في هذه السورة وفي غيرها بيانات كثيرة معزوة إلى كعب الأحبار وغيره من رواة المسلمين من اليهود وغيرهم وكثير منها لم يرد في القرآن ولا في سفر التكوين المتداول «1» حيث يؤيد هذا ما قلناه، هذا ويدل على أن من أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم من كان يعرف أشياء كثيرة من قصة نوح وطوفانه. ولم نر ضرورة ولا فائدة في إيراد ذلك أو تلخيصه لأنه غير متصل بشروط القرآن من القصة. واسم الجبل الذي استوت عليه السفينة في سفر التكوين أرارات، وهو في شمال جزيرة الفرات. وهذا الجبل يذكر في كتب التفسير والتاريخ العربية القديمة باسم الجودي وهو الاسم المذكور في الآيات وذكره في القرآن دليل على أنه كان متداولا معروف المكان في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم. تعليق على آية تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا والآية الأخيرة من الآيات تثير إشكالا حيث تذكر أن ما أوحاه الله تعالى

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري وابن كثير والخازن والمنار والطبرسي والبغوي.

للنبي صلى الله عليه وسلم من القصة هو من أنباء الغيب التي ما كان يعرفها هو ولا قومه من قبل. ومن شأنها أن تنقض ما قلناه. ولما كان سفر التكوين متداولا في أيدي الكتابيين في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم حتما، سواء كان بنصه اليوم أو زائدا أو ناقصا والعرب كانوا على صلة بهم، ومنهم من كان يدين بالنصرانية واليهودية، بل ومنهم من كان يعرف العبرانية ويقرأ الكتب بها «1» . فمن الصعب أن يفرض أن لا يكون من العرب السامعين من لا يعرف قصة نوح والحالة هذه. ومما يحسن إيراده في صدد قصة نوح مسألة أصنام قومه المذكورة في سورة نوح وهي: ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر، حيث كانت هذه الأصنام مما تعبدها العرب ومما كانوا يعزونها إلى قوم نوح، وحيث يفيد هذا بطبيعة الحال أن اسم نوح وقصته مع قومه مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول القرآن ولقد قلنا آنفا إن في كتب التفسير بيانات كثيرة حول قصة نوح غير واردة في القرآن عزاها رواة الأخبار إلى أناس عاشوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك أشياء وردت في سفر التكوين المتداول اليوم مثل إطلاق نوح غرابا ثم حمامة من السفينة مرتين لاختبار جفاف الأرض وعودة الحمامة في المرة الثانية وفي فمها ورقة زيتون «2» . وهذا مما قد يدل على أن ذلك مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم من طريق الكتابيين الذين كان سفر التكوين في أيديهم، ويؤيد ما قلناه من أن القصة كانت معروفة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق أهل الكتاب الذين كان سفر التكوين في أيديهم. ولقد كان هذا الإشكال مما تنبه له بعض المفسرين حيث أشار إليه الخازن وعلّله باحتمال كون العلم بها كان مجملا لأن قصة نوح كانت مشهورة معروفة كما قال وأشار إليه كذلك البيضاوي وعلله باحتمال كون القصد هو عدم معرفة النبي صلى الله عليه وسلم وجميع قومه بجميع التفصيلات وأن هذا لا يمنع أن يكون عرفها بعضهم أو عرف بعضهم بعضها. ومن الجدير بالذكر أن قصة نوح في السور الأخرى السابقة والآتية خلت من مثل هذا الإشكال. ونحن نرى في تعليق هذين المفسرين

_ (1) جاء في صدد ورقة بن نوفل في حديث رواه البخاري وأوردناه في سياق تفسير سورة العلق. [.....] (2) انظر تفسير الآيات في الطبري مثلا وانظر الإصحاح 8 من سفر التكوين.

مواضع العبرة في قصة نوح عليه السلام

وجاهة ظاهرة ولا نرى معدى عنه أو عما يقاربه كصرف الغيب إلى معنى البعيد غير المشاهد أو الذي صار في طيات الدهر ولا يعرف الناس تفصيل أحداثه ولقد قررنا قبل أن هدف القصص القرآنية إنما يتحقق بمعرفة السامعين لها جزئيا أو كليا لأنها إنما جاءت للوعظ والتذكير والتمثيل. هذا ولقد علق المفسرون على قصة نوح في هذه السورة تعليقات متنوعة كما فعلوا في مناسبة ورودها في السور الأخرى. ومن ذلك مسألة عمومية طوفان نوح لجميع الأرض أو خصوصيته بقوم نوح وبلاده «1» . ونحن نرى في هذا وأمثاله تكلفا لا طائل من ورائه وليس مما يتصل بالهدف القرآني. مواضع العبرة في قصة نوح عليه السلام وفي الحلقة مواضع عبر جديدة، منها ما في الحوار المحكي بين الله تعالى ونوح عليه السلام بشأن ابنه من موعظة وعبرة بليغتين حيث يقرر أن قربى الدم مهما كانت لا حمة بين رجال الله وذوي أرحامهم فلا يمكن أن تغني عن هؤلاء شيئا إذا لم يكونوا مؤمنين صالحين، وأن المعول على الإيمان والعمل الصالح في تثبيت قيمة المرء وصلاحه وفساده واستحقاقه لرضاء الله تعالى ونقمته، وهذه العبرة في القصص الواردة في السور التي سبق تفسيرها ممثلة في زوجة لوط ووالد إبراهيم عليهما السلام، وفي سورة التوبة نهي للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من الاستغفار للمشركين ولو كانوا من ذوي قرباهم كما ترى في هذه الآيات: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وهكذا تتم السلسلة ويتقرر المبدأ القرآني الجليل في هذا الباب.

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير المنار والطبري وابن كثير والخازن وغيرهم.

تعليق على آية أم يقولون افتراه من آيات الحلقة

ومنها الحوار الذي كان يجري بين نوح وقومه بشأن الذين آمنوا من الضعفاء والفقراء. ففيه صورة لما كان يجري بين النبي صلى الله عليه وسلم وزعماء الكفار مما حكته آيات عديدة، منها آيات الأنعام هذه: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وآية سورة الكهف هذه: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) حيث كان زعماء قريش ينظرون إلى الفقراء الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم واتبعوه بنظر الازدراء ويطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم طردهم. وفي الحوار تثبيت للمؤمنين من هؤلاء وتنبيه لهم بأن موقف الكفار منهم ليس جديدا بل هو ديدن الكفار السابقين أيضا، وتنويه بهم وتقرير بأنهم قد استحقوا رحمة الله وبرّه بإيمانهم وعملهم. ومنها ما حكي من قول نوح عليه السلام لقومه بأنه لا يعلم الغيب وليس عنده خزائن الله وليس هو ملكا. وهذا ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله للكفار كما مرّ شرحه في سياق سورتي يونس والأعراف، ومما جاء في آية سورة الأنعام هذه: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50) والعبرة في هذا إعلان وحدة طبيعة الأنبياء وكونهم جميعا ليسوا إلّا مبلغين عن الله وليسوا إلّا بشر كسائر البشر. تعليق على آية أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ من آيات الحلقة هذا، ولقد اختلف المفسرون في المقصود بالآية [35] «1» حيث قال بعضهم إنها معترضة وإنها تعني مشركي العرب وتأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرد عليهم إذا قالوا إن ما

_ (1) انظر تفسيرها في تفسير الطبري وابن كثير والطبرسي والزمخشري والبغوي.

[سورة هود (11) : الآيات 50 إلى 60]

يقصه مفترى وحيث قال بعضهم إنه من الجدل والحوار بين نوح عليه السلام وقومه لأنهم اتهموه بالافتراء على الله حينما بلغهم أنه رسوله إليهم. وكلا القولين محتمل، وإن كنا نرى الأول أوجه. وأكثر المفسرين على ذلك أيضا. ولعل بدء الآية التالية لها بخطاب نوح قرينة على ذلك وفي النظم القرآني أمثلة من ذلك. كما أن ذلك القول قد حكي عن مشركي العرب مرات عديدة سبقت أمثلة منها. وإذا صحت وجاهة القول الأول ففي الرد الذي أمرت الآية النبي صلى الله عليه وسلم برده على المشركين تحدّ ضمني لهم وتقرير ضمني بأنه يعرف عظم مسؤولية الافتراء على الله ولا يمكن أن يقترفه. [سورة هود (11) : الآيات 50 الى 60] وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) . (1) مدرارا: كثيرا متتابعا.

تعليق على قصة هود عليه السلام

(2) اعتراك بعض آلهتنا بسوء: يريدون بذلك أن يقولوا إن بعض معبوداتنا أصابوك بسوء فغدوت تهذي كالمجنون بدعوتك ومواعظك. (3) ما من دابة إلّا هو آخذ بناصيتها: ما من دابة إلّا هو أي الله مالك لأمرها ومحيط بحركاتها وسكناتها. (4) تولوا: تتولوا. تعليق على قصة هود عليه السلام وهذه حلقة ثانية من السلسلة فيها قصة هود عليه السلام مع قومه، وآياتها واضحة. وقد وردت القصة في سور عديدة منها ما مرّ تفسيره وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار، وفي الحلقة حوار بين هود عليه السلام وقومه غير ما ورد في السور الأخرى مما اقتضته حكمة التنزيل وفيه مماثلة لما حكته آيات عديدة ومرت أمثلة منها من أقوال ومواقف المشركين من النبي صلى الله عليه وسلم حيث يبدو في ذلك أيضا عبرة واضحة بإعلان وحدة طبيعة ذوي النوايا الخبيثة والسرائر الفاسدة ووحدة مواقفهم من الدعوة إلى الهدى والحق التي يدعو إليها رسل الله تعالى. وفي هذا تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من جهة وتبكيت وتقريع وإنذار للكفار من جهة أخرى. ومن الحوار الذي فيه عبرة أيضا قول هود عليه السلام لقومه إنكم إن تتولوا فلن تضروا الله شيئا وإن الله قادر على إهلاككم واستخلاف غيركم في الأرض محلكم حيث ينطوي في هذا إنذار للمشركين الذين كانوا يناوئون النبي صلى الله عليه وسلم. ومن مواضع العبرة في الآيات إيذان الله بتنجية هود والذين آمنوا معه من العذاب الذي وقع على الكافرين من قومه حيث ينطوي في هذا بشرى وتطمين للنبي والذين آمنوا.

[سورة هود (11) : الآيات 61 إلى 68]

[سورة هود (11) : الآيات 61 الى 68] وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68) . (1) استعمركم فيها: جعلكم قادرين على إعمارها. (2) قد كنت فينا مرجوا قبل هذا: يريدون بذلك أن يقولوا إننا كنا نظنك أعقل، وكان لنا فيك بسبب ذلك أمل ورجاء. (3) فعقروها: قطعوا أرجلها. (4) جاثمين: قاعدين على ركبهم وهم أموات. (5) كأن لم يغنوا فيها: كأنهم لم يقيموا فيها ويسكنوها. تعليق على قصة صالح عليه السلام وهذه حلقة ثالثة من السلسلة فيها قصة صالح عليه السلام وقومه وآياتها واضحة. وقد وردت القصة في سور عديدة منها ما مرّ تفسيره، وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار. وفي الحلقة حوار بين صالح عليه السلام وقومه غير ما ورد في السور الأخرى كذلك مما اقتضته حكمة التنزيل. وفيه مماثلة لما حكته آيات عديدة مرّت أمثلة منها من أقوال ومواقف المشركين من النبي صلى الله عليه وسلم حيث تبدو هنا أيضا

[سورة هود (11) : الآيات 69 إلى 76]

العبرة التي نبهنا إليها في تفسير قصة هود عليه السلام ومثل هذا يقال في ما ذكرته الآيات من تنجية صالح عليه السلام وقومه أيضا. وفي تفسير الطبري وغيره بيانات كثيرة في سياق هذه الحلقة أيضا عن صالح وقومه وناقته، وتامر قومه عليه وعلى الناقة لم نر ضرورة ولا طائلا في إيرادها أو تلخيصها لأنها لا تتصل بالهدف القرآني وهو العبرة والتذكير. [سورة هود (11) : الآيات 69 الى 76] وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) . (1) حنيذ: مشوي. (2) نكرهم: أنكرهم واستغرب أمرهم. (3) أوجس منهم خيفة: استشعر الخوف منهم. (4) ضحكت: قال المفسرون إنها ضحكت حينما رأت الرسل لا يأكلون من الطعام أو حينما بشروها بإسحاق وهي تظن أن ذلك مستحيل لأنها وزوجها كانا عجوزين. (5) بعلي: زوجي. (6) الروع: الخوف أو الدهشة. (7) أواه: كثير التأوه بمعنى كثير البكاء والدعاء والابتهال. (8) منيب: راجع إلى الله ومسلم له.

تعليق على قصة إبراهيم عليه السلام

تعليق على قصة إبراهيم عليه السلام وهذه حلقة رابعة فيها قصة جديدة من قصص إبراهيم عليه السلام. فقد ذكرت قصته مع قومه في سورة الشعراء، وهذه القصة تحكي مجيء رسل الله إليه بالبشرى، ثم إلى قوم لوط بالعذاب. وتكررت هذه القصة بعد هذه السورة بأساليب متقاربة. وهذه القصة مما ذكر في سفر التكوين بما في ذلك الحوار بين إبراهيم ورسل الله الملائكة وضحك سارة وتعجبها من أنها ستحبل وتلد وهي عجوز عقيم، خلافا لقصة سورة الشعراء على ما ذكرناه في سياق تفسيرها. وهي هنا مقاربة إجمالا لما ذكر في سفر التكوين عدا عدم أكل رسل الله من الطعام حيث ذكر في هذا السفر أنهم أكلوا وعدا البشرى يبعثون مع ذكره عهد ربه له أن يكون مع اسحق ابن سارة وأن ينمي ذريته «1» . وسفر التكوين كان متداولا في أيدي أهل الكتاب واليهود في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يقال بجزم إن هذه القصة مما كان متداولا في هذه البيئة. ونعتقد إلى هذا أن ما لم يذكر في السفر وذكر في القرآن أو ما ذكر في القرآن مباينا لما ذكر في السفر كان متداولا بين اليهود وكان واردا في أسفار وقراطيس لم تصل إلينا. وفي القصة من العبر تقرير قدرة الله على جعل إبراهيم وزوجته ينجبان رغم طعنهما في السن رحمة بنبيه وخليله. وقد نوهت به وبأهل بيته تنويها كريما. ومما فيها أيضا ردّ على إبراهيم عليه السلام حينما جادل في قوم لوط عليه السلام بأنهم قد حق عليهم العذاب فلا راد له. وفي هذا إنذار لسامعي القرآن من قوم النبي صلى الله عليه وسلم بأن صلتهم به لن ترد عنهم العذاب الرباني إذا حق عليهم بإصرارهم على الكفر والإثم. [سورة هود (11) : الآيات 77 الى 83] وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)

_ (1) انظر الإصحاحات 16 و 17 و 18 من سفر التكوين.

(1) سيئ بهم: ساءه مجيئهم خوفا عليهم. (2) ضاق بهم ذرعا: التعبير يقصد به بيان ما ألمّ بالمرء من ضيق وشدة. (3) عصيب: شديد الخطر. (4) يهرعون إليه: يسارعون إليه. (5) يعملون السيئات: كناية عن عادتهم السيئة بإتيان الذكور. (6) لو أن لي بكم قوة: لو أن لي قوة بكم تنصرني عليهم وأدفع عنكم بها قومي. (7) ركن شديد: ملجأ حصين أحميكم فيه. (8) لن يصلوا إليك: لن يقدروا على أذيتك. (9) بقطع من الليل: في أثناء ظلمة الليل. (10) سجّيل: طين جاف وهي كلمة معربة من الفارسية. (11) منضود: مصفوف أو متتابع. (12) مسومة: معدة أو عليها علامة ربانية.

تعليق على قصة لوط عليه السلام

تعليق على قصة لوط عليه السلام وهذه حلقة خامسة من سلسلة القصص تحتوي قصة لوط عليه السلام ومجيء رسل الله إليه وما كان من التدمير الذي حل بقومه وبلادهم وتنجية لوط وأهله باستثناء زوجته، وآياتها واضحة المعنى. والقصة واردة في الإصحاح (19) من سفر التكوين المتداول مقاربة لما جاء في هذه السورة وسورتي الشعراء والأعراف اللتين مرّ تفسيرهما. وقد علقنا عليها في السورتين المذكورتين بما يغني عن التكرار. وتكرارها هنا يتضمن تكرار العبرة في ما كان من إهلاك الله لقوم لوط وامرأته معا وتنجيته والذين آمنوا معه. وفي الآيات جديد لم يرد في السور السابقة وهو انزعاجه من مجيء رسل الله لأنه لا يقدر على حمايتهم. وهذا مباين لما في سفر التكوين المتداول الذي ذكر أن لوطا ألح عليهم لينزلوا في ضيافته «1» . ونحن نعتقد أن ما جاء في القرآن كان متداولا وواردا في قراطيس أخرى، وهو المتسق مع ما حكي من أخلاق قوم لوط وعاداتهم السيئة التي كان لوط يعرفها بطبيعة الحال. وفي تفسير الطبري وغيره لهذه الآيات بيانات كثيرة معزوة إلى علماء الصدر الأول فيها ما هو المتطابق مع سفر التكوين وغير المتطابق، لم نر ضرورة ولا طائلا لإيراده أو تلخيصه هنا لأنه غير متصل بالهدف القرآني ويدل على كل حال على تداول تفصيلات لم ترد في السفر عن هذه القصة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته، مما فيه دعم لما نقول. [سورة هود (11) : الآيات 84 الى 95] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)

_ (1) انظر الإصحاح 19.

(1) لا يجرمنكم شقاقي: لا يجعلنكم شقاقي أو لا تحملنكم رغبة مخالفتي. (2) ما نفقه: ما نفهم. (3) رهطك: عشيرتك أو أسرتك. (4) وما أنت علينا بعزيز: لست شخصيا غاليا علينا أو مكرما عندنا أو قويا. (5) اتخذتموه وراءكم ظهريا: بمعنى تناسيتموه ولم تبالوا به. (6) اعملوا على مكانتكم: استمروا في عملكم وحالتكم. (7) ارتقبوا إني معكم رقيب: انتظروا وأنا منتظر معكم. وفي الجملة معنى الإنذار بعذاب الله.

تعليق على قصة شعيب عليه السلام

تعليق على قصة شعيب عليه السلام وهذه حلقة سادسة من السلسلة. وقد احتوت قصة شعيب عليه السلام وقومه أهل مدين. وآياتها واضحة. وقد وردت هذه القصة في سورتي الشعراء والأعراف بصيغ متقاربة مع بعض زيادات اقتضتها حكمة التنزيل ولقد علقنا على مدى القصة في السورتين المذكورتين بما يغني عن التكرار. وفي الحوار الذي يحكي بين شعيب وقومه مماثلة لما حكته آيات عديدة لبعض ما كان يقع بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار العرب حيث ينطوي في ذلك إظهار وحدة الطبائع التي تجمع بين الكفار وزعمائهم بخاصة في مختلف الأدوار. وبالإضافة إلى ذلك فإن فيما احتوته آيات القصة من إنذار ووعيد وتنديد وتأنيب وتطمين قد انطوى إنذار ووعيد للكافرين السامعين وتثبيت وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. [سورة هود (11) : الآيات 96 الى 99] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) . (1) يقدم قومه: بمعنى يتقدم قومه ويقودهم. (2) بئس الورد المورود: الورد بمعنى الورود على الماء، ومعنى الجملة: بئس الورد الذي أورد فرعون قومه لأنه أوردهم النار. (3) وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة: لحق بهم في هذه الدنيا سخط الله وغضبه. (4) بئس الرفد المرفود: الرفد بمعنى العون والعطاء والقرى. ومعنى الجملة: بئس الرفد الذي رفد به فرعون قومه.

تعليق على قصة موسى عليه السلام

تعليق على قصة موسى عليه السلام وهذه حلقة سابعة من السلسلة وهي الأخيرة، وقد اقتضت حكمة التنزيل أن تكون الإشارة فيها إلى قصة رسالة موسى عليه السلام إلى فرعون مقتضبة جدا. وقد وردت القصة مفصلة في سور سبق تفسيرها. وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار، ومن مواضع العبرة هنا ما يمكن أن يكون إنذارا للكفار السامعين وبخاصة للذين اتبعوا الزعماء من سوادهم وتنبيههم إلى أن هؤلاء الزعماء سيوردونهم النار وبئس هي من مورد وسيكون نصيبهم جميعا لعنة ونقمة ربانيين في الدنيا والآخرة وبئس ذلك من نصيب. [سورة هود (11) : الآيات 100 الى 104] ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) . (1) قائم: بمعنى باق وموجود. (2) حصيد: بمعنى مدمر وهالك. (3) تتبيب: خسارة. (4) يوم مشهود: يوم عظيم حافل. الآيات جاءت معقبة على سلسلة القصص جريا على النظم القرآني. وفيها توكيد صريح لما قلناه مرارا لأهداف القصص القرآنية وهي العبرة والتذكير والإنذار والتثبيت، حيث قررت: 1- أن الله يقص أنباء القرى والأمم السابقة على النبي صلى الله عليه وسلم ومن يسمع القرآن

تعليق على جملة وهي ظالمة

للعبرة والتذكير. ومن هذه القرى والأمم ما هو باق يرى الناس آثار تدمير الله فيه ومنها ما زال. 2- وأن الله لم يظلم تلك القرى والأمم وإنما ظلموا أنفسهم بانحرافهم وبغيهم، ولم تكن آلهتهم التي كانوا يدعونها من دون الله لتنفعهم شيئا حينما حق عليهم عذاب الله تعالى، ولم تزدهم إلّا خسارا. 3- وأن الله إذا أخذ القرى والأمم وهي ظالمة باغية فيكون أخذه لها شديدا أليما. 4- وأن في ذلك نذيرا للناس من شأنه أن يحملهم على الارعواء ويدعوهم إلى التفكير وبخاصة من يحسب حساب الآخرة منهم ويومها الرهيب الهائل الحافل بالأحداث الجسام والمجموع له جميع الناس، والذي إنما يؤخره الله تعالى بمقتضى حكمته لأجل محدود قصير. وإذا كان أخذ الله في الدنيا للظالمين يثير خوفا ورعبا فعذابه في الآخرة يجب أن يكون أشد إثارة لهما لأن الأول يأتي ثم ينقضي ولكن الآخر طويل المدى. والإنذار في الآيات قوي موجه للعقول والقلوب معا وقد استهدف كما هو المتبادر إثارة الرعب والارعواء في قلوب الكفار وزعمائهم. ولعل في جملة وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) إنذارا بأن الفرصة أمامهم سانحة ولكنها قصيرة فعليهم أن لا يضيعوها. تعليق على جملة وَهِيَ ظالِمَةٌ وجملة وَهِيَ ظالِمَةٌ [102] تنطوي على معنى أوسع وأشد من جملة (وهي كافرة) كما هو المتبادر فالظلم يشمل الشرك والكفر ويشمل في الوقت نفسه الإجرام والبغي والعدوان على الناس والفساد والتكبر في الأرض. ويتبادر لنا أن هذا هو مقصود الجملة القرآنية وليس الكفر وحده. وفي آية آتية ما يمكن أن يؤيد ذلك. ولقد أورد الطبري في سياق الآية الثانية حديثا بطرقه رواه الشيخان والترمذي

[سورة هود (11) : الآيات 105 إلى 108]

أيضا عن أبي موسى بهذا النص: «قال النبي صلى الله عليه وسلم إنّ الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ الآية» «1» حيث ينطوي في الحديث توكيد للإنذار الرهيب الذي احتوته الآية. [سورة هود (11) : الآيات 105 الى 108] يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) . (1) لا تكلم: لا تتكلم. (2) لهم فيها زفير وشهيق: المراد بهذه الجملة وصف الشدة التي سوف يقاسيها أهل النار. فالمرء حينما يشتد عليه البلاء يسرع نفسه ويضيق. (3) غير مجذوذ: غير مقطوع. والآيات استمرار بياني للآيات السابقة، فحينما يأتي ذلك اليوم يخشع الناس ويسكتون تهيبا من الموقف. ولن يستطيع أحد أن يتكلم إلّا بإذن الله، والناس في ذلك اليوم صنفان أشقياء وسعداء. فالأولون يلقون في النار حيث يقاسون من البلاء أشده ويخلدون فيها ما دامت السموات والأرض إلّا ما شاء الله الفعّال لما يريد. وأما الآخرون فينزلون في الجنة ويخلدون فيها ويتمتعون بنعم الله التي لا تنقطع ما دامت السموات والأرض إلّا ما شاء الله كذلك. وفي الآيات ما يثير الرعب والخوف في قلوب الكفار والطمأنينة والغبطة في قلوب المؤمنين وهو ما استهدفته في جملة ما استهدفته على ما هو المتبادر.

_ (1) التاج ج 4 ص 131.

تعليق على جملة

تعليق على جملة خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ وقد تعددت أقوال المفسرين ورواياتهم «1» في تأويل جملة ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ فقالوا فيما قالوه إن الاستثناء الأول عائد إلى مذنبي المؤمنين الذين سوف يخرجون أخيرا من النار ويدخلون الجنة وقالوا إن الاستثناء هو في صدد زيادة أنواع العذاب والنعيم وقالوا إنه على طريقة قول العرب: «ما لاح كوكب» و «ما أقام ثبير» و «ما دامت السماء سماء والأرض أرضا» ويريدون بذلك التأبيد، والقول الأخير يعني أن التعبير أسلوبي مما اعتاد العرب استعماله وهم يقصدون التأبيد. وهو قول وجيه يزيل وهم التناقض الذي قد يبدو بين العبارة القرآنية هنا وبين آيات كثيرة وردت فيها جملة خالِدِينَ فِيها بالنسبة لأهل الجنة وأهل النار بدون قيد إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ وهناك حديث رواه مسلم والترمذي عن ابن عمر جاء فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أدخل الله أهل الجنة الجنة وأهل النار النار أتى بالموت فيوقف على السور الذي بين الجنة والنار ثم يقال يا أهل الجنة فيطلعون خائفين ثم يقال يا أهل النار فيطلعون مستبشرين يرجون الشفاعة فيقال لهم هل تعرفون هذا فيقولون قد عرفناه وهو الموت الذي وكّل بنا فيضجع فيذبح على السور ثم يقال يا أهل الجنة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت» «2» . ومع واجب الإيمان بما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخبار المشاهد الأخروية فإن في الحديث من جهة توكيدا للخلود الأبدي في النار والجنة لمن استحقه من الناس ومؤيد لما تفيده العبارة التي جاءت كأسلوب تعبيري عن التأبيد حسب تخاطب العرب. ومن الحكمة المستشفة منه قصد الترهيب للكفار والبشرى للمؤمنين. ومع ذلك فقد يتبادر أيضا أن التعبير من الأساليب التي جرى عليها الوحي

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري وابن كثير والزمخشري والطبرسي والبغوي. (2) التاج ج 5 ص 382.

تعليق على جملة فمنهم شقي وسعيد

القرآني في كثير من الآيات حيث يقرن الأمر بمشيئة الله تعالى إعلانا بأن كل شيء وأمر منوط بأمره وإذنه ومشيئته. وأنه لا ضرورة ولا طائل من التخمين وإطالة الكلام في العبارة ومداها كما فعل بعضهم «1» وتفويض الأمر في حكمة مداها لله عز وجل مع ملاحظة كون الهدف الجوهري للآيات هو إنذار الكفار السامعين ومن بعدهم ليرعووا ويتوبوا وتبشير المؤمنين السامعين ومن بعدهم ليغتبطوا ويثبتوا والله أعلم. تعليق على جملة فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ روى الطبري في سياق هذه الجملة حديثا عن عمر بن الخطاب رواه أيضا البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي جاء فيه: «قال عمر أرأيت ما نعمل فيه أمر مبتدع أو فيما فرغ منه فقال فيما فرغ منه يا ابن الخطاب. كلّ ميسّر أما من كان من أهل السعادة فإنه يعمل للسعادة وأما من كان من أهل الشقاء فإنه يعمل للشقاء» «2» . وروى البغوي حديثا عن علي بن أبي طالب رواه أيضا مسلم والترمذي جاء فيه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا ذات يوم وفي يده عود ينكت به فرفع رأسه فقال ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار. قالوا يا رسول الله فلم نعمل أفلا نتكل. قال اعملوا فكل ميسّر لما خلق له. ثم قرأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) الآيتين في سورة الليل» . ولسنا نرى في هذين الحديثين ما يوهم أن الله قد كتب الشقاء والسعادة من الأزل على أناس بأعيانهم وبصورة اعتباطية تنزّه عن ذلك، بل فيهما ما يمكن أن يفيد أن ذلك منوط بسلوكهم. وكل ما يمكن أن يكون بالإضافة إلى ذلك أن الله

_ (1) كتب السيد رشيد رضا في تفسيره في صدد هذه النقطة وفي سياق آية مماثلة للآية هنا وهي الآية [128] من سورة الأنعام أكثر من خمس وعشرين صفحة استعرض فيها أقوال من يقول بالتأييد ومن يقول بخلافه وأورد حججهم النقلية والعقلية وانتهى إلى إناطة الأمر إلى حكمة الله ورحمته وعدله. (2) التاج ج 5 ص 173 و 174.

تعليق على جملة لا تكلم نفس إلا بإذنه

سبحانه يعلم الذين يسلكون سبيل الشقاء فيستحقون النار والذين يسلكون سبيل السعادة فيستحقون الجنة. أما من باب وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ البقرة: [26] ووَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ الرعد: [27] وهذا هو المتسق مع المبادئ القرآنية المحكمة على ما شرحناه في مناسبات سابقة. على أن في آيات سورة الليل التي قرأها رسول الله على ما جاء في الحديث الثاني قرينة حاسمة فهي تنسب الإعطاء والتقوى والتصديق بالحسنى والبخل والاستغناء والتكذيب بالحسنى لفاعلي ذلك وترتب تيسير الله للأولين للحسنى وتيسير الآخرين للعسرى على ذلك. وهذا أيضا وارد في بقية آيات سورة الليل التي تأتي بعد الآيتين. تعليق على جملة لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ وقد وقف بعض المفسرين «1» إزاء تعبير لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ لأن هناك آيات جاء فيها ما قدم يوهم نقض ذلك مثل آية سورة النحل هذه: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) ومثل آيات سورة ص هذه: هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) . ومما ذكره الزمخشري في رفع الإشكال أن ذلك اليوم طويل له مواقف ومواطن، ففي بعضها يجادلون عن أنفسهم وفي بعضها يكفون عن الكلام فلا يؤذن لهم، وفي بعضها يؤذن لهم، وفي بعضها يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم. وهذه التخريجات وجيهة وكل الصور المذكورة فيها مما ورد في آيات قرآنية أخرى مرّت أمثلة منها في السور التي سبق تفسيرها.

_ (1) انظر تفسير الآيات في كشاف الزمخشري.

[سورة هود (11) : آية 109]

على أننا لا نرى إشكالا من جهة التعبير لورود جملة إِلَّا بِإِذْنِهِ لأن جملة إِلَّا بِإِذْنِهِ تحل كل إشكال. ومع ذلك فإننا لا نرى المقام يستدعي الإشكال في أصله. ونرى أن التعبير أسلوبي قصد به تصوير شدة الهول الأخروي وأثره. ويمكن أن يقال أيضا بالإضافة إلى واجب المسلم بالإيمان بما ذكره القرآن من مشاهد أخروية إن تنوع الأسلوب القرآني في أوصاف مشاهد الآخرة وحسابها وعذابها ونعيمها متأتّ من تنوع المشاهد والمواقف بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار أولا وأنه يمكن أن يكون قرينة على ما ذكرناه في مناسبات سابقة من أن الترهيب والترغيب مقصودان لذاتهما في الآيات القرآنية ثانيا. ولعل من القرائن على ذلك كون الأوصاف والصور والمشاهد الأخروية الواردة في القرآن هي في نطاق مألوف السامعين من مشاهد وصور وأوصاف دنيوية تتصل بالنعيم والعذاب ومجالس القضاء إلخ حتى يكون لها تأثير في السامعين الذين لا يتأثرون إلّا بما هو معروف ومجرب عندهم ولا يفهمون إلا ما هو في نطاق معارفهم. هذا مع تكرار تقرير كون الحياة الأخروية من المسائل الإيمانية الغيبية التي يجب الإيمان بما جاء عنها في القرآن مع الوقوف في ذلك عند ما وقف القرآن بدون تزيد ولا تخمين. مع تكرار القول أيضا إن آيات المشاهد الأخروية من المتشابهات التي تتحمل تأويلات عديدة ومنها ما لا يعلم تأويله إلا الله وأن هذا يوجب كذلك الوقوف عند ما وقف القرآن مع استشفاف الحكمة التي يتبادر أن منها ما مر ذكره والله أعلم. [سورة هود (11) : آية 109] فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) . في الآية تقرير بأن الكفار إنما يعبدون- كما كان يعبد آباؤهم- عبادات باطلة، وإنه ليس في ذلك محل للشك والمراء، وتوكيد بأن الله تعالى سوف يوفيهم استحقاقهم على ذلك بدون نقص. واتصال الآية بما سبقها ظاهر من حيث إنها في صدد الكفار الذين كانوا موضع الحديث والإنذار كما يدل عليه الضمير الراجع إليهم.

تعليق على آية فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص

تعليق على آية فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ ولم نر أحدا من المفسرين فيما اطلعنا عليه وقف عند الآية وبين سبب نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الشك فيما يعبد الكفار، مع أن أسلوب الآية يستدعي ذلك. وقد استلهمنا منها أن بعض المسلمين أو بعض الكفار كانوا يدافعون عن أنفسهم بأنهم مؤمنون بالله معتقدون بأنه الخالق الرازق المؤثر في كل شيء، وبأنهم محترمون بيته وتقاليد ملة إبراهيم خليله ويفعلون المكرمات فأريد في الآية ردّ ذلك ما داموا يشركون مع الله غيره في العبادة والدعاء مهما كان القصد وتوكيد كونهم ضالين هم وآباءهم من قبلهم بسبب شركهم. ومع أن الخطاب في أول الآية موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإن هذا لا يمنع أن يكون موجها إلى المسلمين أيضا الذين قد يكون بينهم المدافع أو المعتذر أو المتسائل عن الأمر. [سورة هود (11) : الآيات 110 الى 111] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) . (1) لمّا: تعددت الأقوال في معنى هذا الحرف في الآية، فقيل إنه بمعنى إلا وقيل إن في الآية محذوفا تقديره «وإن كلّا لما عملوا ليوفينهم ربك أعمالهم» ونحن نرى الأول أوجه. في الآيات إشارة إلى ما كان من اختلاف في فهم الكتاب الذي آتاه الله تعالى موسى عليه السلام وتأويله، وتنبيه إلى أنه لولا اقتضاء حكمة الله في التأجيل لقضى

تعليق على الآية ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه والآية التالية لها

قضاءه في المختلفين فيه الذين هم في شك منه مريب، وتوكيد بأن الله لا بدّ موف كل عامل جزاء عمله من خير وشر، وهو الخبير بما يعمل الناس. تعليق على الآية وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ والآية التالية لها لقد أدار فريق من المفسرين القدماء «1» الكلام على الآيتين على اعتبار أن فيهما تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وإنذارا للكفار. فإذا كان الكفار قد كذّبوا بالقرآن فقد فعل أقوام قبلهم ذلك بالنسبة لكتاب الله تعالى الذي آتاه موسى عليه السلام. ولسوف يجزيهم الله بما يستحقون من حيث إنه لا بد من أن يجزي كل طائفة بما تستحق. ونتيجة لذلك صرفوا الضمير في (إنهم) إلى الكفار والضمير في (منه) إلى القرآن. وخالفهم فريق آخر فقال إن الجملة عائدة إلى الكتابيين الذين اختلفوا في كتاب موسى عليه السلام. واستدل على ذلك بآية سورة الشورى وهي: وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) وقد يكون هذا هو الأوجه. ولا سيما إن هناك آيات كثيرة مدنية ومكية غير آية سورة الشورى ذكرت اختلاف أهل الكتاب واليهود خاصة في ما نزل على أنبيائهم، ومن ذلك ما مرّ في السور التي سبق تفسيرها لولا أن يكون هذا يجعل الآيتين منقطعتين عن السياق السابق واللاحق لهما. وقد يتبادر لنا من فحوى الآيتين وروحهما ومقامهما احتمال آخر يجعلهما جزءا من السياق غير شاذين ومنقطعتين عنها وهو ما لا يستساغ. وهذا الاحتمال هو أن يكون الكفار قد تحدثوا عن كتاب موسى عليه السلام واختلاف بني إسرائيل فيه كأنما أرادوا أن يقولوا إن اتخاذهم الملائكة شفعاء لدى الله- وهو ما تضمنته الآيات السابقة وردته- هو اجتهاد وليس من شأنه أن ينفي

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري وابن كثير والطبرسي والقاسمي.

[سورة هود (11) : الآيات 112 إلى 115]

عنهم صفة الإيمان بالله وكونه الخالق الرازق كما يريد القرآن، وإن بني إسرائيل قد اختلفوا عن اجتهاد في كثير مما احتواه كتابهم فاحتوت الآية الأولى ردا عليهم يتضمن تقرير كون اختلاف بني إسرائيل لم يكن اجتهادا في المبادئ لأن المبادئ التي من جملتها توحيد الله مطلقا لا تتحمل اختلافا وإنما كان اختلافهم نتيجة لتوسعهم في التأويل والتخريج. ثم أكدت الآية الثانية ما قررته الآية السابقة للآيتين بأن الله تعالى سيوفي كل الناس أعمالهم. وهكذا تظهر صلة الآيتين بالسياق قوية وتكون الآية الأولى إذا صح استلهامنا- ونرجو أن يكون صحيحا- قد احتوت صورة طريفة من صور الجدال بين نبهاء الكفار والنبي صلى الله عليه وسلم حيث كان كثير من هؤلاء النبهاء لم يجحدوا رسالة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن غباء. وإنما عنادا واستكبارا على ما قررته آيات عديدة أوردناها في المناسبات السابقة. ومع ما ذكرناه فليس ما يمنع أن تكون الآية الأولى قد تضمنت أيضا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم من حيث أرادت تقرير أن الله تعالى قد آتى موسى الكتاب فوقف الناس منه موقف المصدق والمكذب والمؤمن والشاك والمؤول والمختلف كما كان شأن العرب من القرآن، وأن الله قادر على أن يعجل في القضاء على الشاكين المكذبين لولا أن حكمته اقتضت التأجيل إلى الحين المعين في علم الله. [سورة هود (11) : الآيات 112 الى 115] فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) . (1) ولا تطغوا: ولا تتجاوزوا ما أمرتم به. (2) ولا تركنوا: فسرها بعضهم بالميل وبعضهم بالاعتماد والاستناد وكلا

تعليق على آية فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا

التفسيرين وجيه وإن كان الثاني أوجه. (3) زلفا من الليل: الإزلاف بمعنى التقرب. والجملة بمعنى ساعات من الليل القريبة من النهار، ويمكن أن يكون قصد بها وقت العشاء ووقت الفجر فهما أول الليل وآخره بحيث يكون ذلك مقابلة لجملة طَرَفَيِ النَّهارِ. الآيات تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستقامة على ما رسمه الله من مبادئ وحدود هو والمؤمنون معه وعدم الانحراف عن ذلك وتجاوزه، وتؤكد أن الله بصير بما يعملونه ومراقبهم فيه، وتنهاهم عن الميل والركون للظالمين وتنذرهم بأن هذا يجرهم إلى النار فضلا عن أنهم لا يمكن أن ينتصروا بذلك لأنهم ليس لهم ناصر من دون الله، وتحث النبي صلى الله عليه وسلم على إقامة الصلاة في أول النهار وآخره وفي أول الليل وآخره كذلك، وتقرر أن ما يقدمه المرء من صالح الأعمال يمحو ما قد يكون بدر منه من هفوات وسيئات، وأن في هذا تذكرة للذاكرين وترغيبا للراغبين، ثم تثبت النبي صلى الله عليه وسلم وتحثه على التمسك بالصبر وتطمئنه بأن الله تعالى لا يضيع أجر الصابرين المحسنين. والمتبادر أن الآيات متصلة بسابقاتها اتصالا تعقيبيا، وقد احتوت التفاتا للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالنصائح والمواعظ والتنبيهات التي من شأنها أن تثبت قلوبهم وتمنحهم رضاء الله بعد أن سبقتها آيات فيها وعيد وإفحام وردّ وتكذيب للكافرين. فعليهم أن يستقيموا على ما رسمه الله تعالى لهم من مبادئ وحدود دون أن يركنوا إلى الظالمين ففي ذلك خيرهم وسعادتهم وطمأنينتهم وفي الخروج عنه هلاكهم. تعليق على آية فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا ومما ذكره المفسرون في سياق تفسير الآية [112] أن ابن عباس رضي الله عنه قال: ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد عليه من هذه الآية حتى قال شيبتني هود وأخواتها فسئل عما شيبه منها فقال فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ «1» .

_ (1) انظر تفسير الآية في البغوي والطبرسي والزمخشري والخازن.

تعليق على جملة ولا تركنوا إلى الذين ظلموا

والمتبادر إذا صحت الرواية أن النبي صلى الله عليه وسلم نبه المؤمنين بذلك إلى ما قد تحتاج إليه الاستقامة على أوامر الله وحدوده من عزيمة قوية وإيمان عميق، وذلك حق لا ريب فيه، ومما قالوه في معنى (استقم) اثبت على أوامر الدين ونواهيه ولا تزغ عنها ولا تحتل فيها، ولا شك في أن الكلمة تتحمل هذه المعاني أيضا. ولقد روى البغوي في سياق الآية حديثا عن عبد الله الثقفي قال: «قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك قال قل آمنت بالله ثم استقم» ، وروي عن عمر بن الخطاب قوله: «إن الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تزوغ زوغان الثعلب» . ومن المفسرين «1» من فسر جملة وَلا تَطْغَوْا بمعنى التجاوز إلى ما فيه معصية وطغيان، ومنهم من قال إنها تتضمن معنى التحذير من الغلو في الدين. وأورد أصحاب القول الثاني في سياقها حديثا نبويا روى صيغة مقاربة من البخاري عن أبي هريرة جاء فيها: «إنّ الدين يسر ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه فسدّدوا وقاربوا وابشروا واستعينوا بالغدوة والرّوحة وشيء من الدّلجة» «2» . وكلا التفسيرين وارد إلا أن روح الجملة تجعل القول الأول أكثر وجاهة وورودا. والحديث لم يرد كتفسير للآية، وفيه في حدّ ذاته تلقين بليغ. تعليق على جملة وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا تعددت الأقوال في معنى (تركنوا) منها أنها بمعنى (تميلوا) ومنها أنها بمعنى (تستندوا) والثاني هو المتسق أكثر في مدى الركون اللغوي على ما حققه السيد رشيد رضا. وتعددت الأقوال كذلك في المقصود (بالذين ظلموا) حيث قيل إنهم الكافرون والمشركون كما قيل إنهم الظلمة البغاة. وقد رجح الطبري الأول وقد

_ (1) انظر تفسيرها في الطبري والبغوي والخازن. [.....] (2) الخازن هو الذي أورد الحديث وقد نقلنا صيغته برواية البخاري من التاج ج 1 ص 41- 42.

يكون هذا هو الأوجه في ظروف نزول الآية من حيث إنه لم يكن من المشركين الكافرين في العهد المكي من لا يوصف بغير الظلم في موقفه من الدعوة بقطع النظر عن شركه وكفره. وقد وصف الشرك في القرآن المكي بالظلم العظيم كما جاء في آية سورة لقمان [13] ووصف الكفار المشركون بالظالمين كما جاء في آيات عديدة منها آيات سورة الفرقان [27] وسورة الأعراف [9] . غير أنه يتبادر لنا أن للقول الأول وجاهة على المدى البعيد عند النبي صلى الله عليه وسلم. وقد يؤيد ذلك إطلاق العبارة القرآنية بحيث يصح القول إن في الجملة تلقينا مستمر المدى يوجب كل مسلم مخلص بعدم الميل والاستناد إلى الباغي المنحرف عن الحق والمرتكب للمعاصي سواء أكان مسلما أم غير مسلم. وعدم الاعتماد عليه والتناصر معه ومداهنته والتعاون معه. وكل هذا يدخل في مدى ومفهوم الركون بها وواجبه بالوقوف منه موقف المناوئ المناضل في نطاق قدرته، وهذا الواجب يصبح أكثر لزاما على الجماعات الإسلامية. ويلفت النظر بخاصة إلى جملة وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ التي أعقبت الجملة التي نحن في صددها فإنها ذات مدى ومغزى قويين في التنبيه والتحذير. فالركون إلى الذين ظلموا فضلا عن أن يجر إلى النار فإنه لن يضمن أي نصر ونجاح لأنه ليس غير الله يضمن ذلك. وليس غير الله ولي ونصير. ولقد استطرد السيد رشيد رضا الذي توسع في هذه المسألة إلى موضوع طاعة أصحاب السلطان والتعاون معهم إذا كانوا بغاة منحرفين. وقد رأينا أن نرجئ الكلام على هذه المسألة إلى مناسبة آتية أكثر ملاءمة. ولقد سبق التعليق على الظلم في معنى البغي والعدوان والاغتصاب في سورة الفرقان بما يغني عن التكرار هذا من حيث نزولها ومقامها في السياق. ولقد أورد المفسرون أحاديث وروايات وأقوالا عديدة في فحواها من ذلك عن مجاهد أن الحسنات التي تذهب السيئات هي «سبحان الله والحمد لله ولا إله

تعليق على آية وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات

إلّا الله والله أكبر» «1» . ومن ذلك قول روي في صيغ عديدة عن أبي بكر وعثمان وغيرهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها الصلوات الخمس. أو الصلاة مطلقا. وساق الطبري حديثا رواه بطرق عن أبي مالك الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «جعلت الصلوات كفارات لما بينهن فإن الله قال إن الحسنات يذهبن السيئات» . والقول إنها الصلاة أوجه من القول الأول. ومجيء الجملة بعد الأمر بإقامة الصلاة قرينة حاسمة على كونه الأوجه. تعليق على آية وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ المصحف الذي اعتمدنا عليه يذكر أن هذه الآية مدنية، ويروي المفسرون في سياقها أحاديث نبوية عديدة منها ما ورد في الصحاح. ومن ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن ابن مسعود جاء فيه: «أنّ رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فأنزلت الآية. فقال الرجل ألي هذه قال لمن عمل بها من أمّتي» «2» . وحديث رواه الترمذي عن أبي اليسر قال: «أتتني امرأة تبتاع تمرا فقلت لها إنّ في البيت تمرا أطيب منه فدخلت معي فملت عليها فقبّلتها فسألت أبا بكر فقال استر على نفسك ولا تخبر أحدا وتب إلى الله فلم أصبر وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أخلفت غازيا في سبيل الله في أهله بمثل هذا، حتى تمنّى أنه لم يكن أسلم إلّا تلك الساعة حتى ظنّ أنه من أهل النار. وأطرق رسول الله طويلا حتى أوحي إليه

_ (1) هذه الصيغة مروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن ليست على كونها تفسيرا للآية. وقد رواها الترمذي عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قلت يا رسول الله ما رياض الجنة؟ قال: المساجد، قلت: وما الرتع؟ قال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» . التاج ج 5 ص 90. (2) التاج ج 4 ص 131- 132.

بالآية فقرأها فقال أصحابه: يا رسول الله ألهذا خاصة أم للناس عامة؟ قال: بل للناس عامة» «1» . ومقتضى الحديثين أن الآية نزلت في العهد المدني. ويلحظ أنها منسجمة في السياق ومعطوفة على ما قبلها. وبينها وبين ما قبلها مماثلة في الصيغة فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ووَ أَقِمِ الصَّلاةَ حيث يبرر هذا الشك في مدنية الآية التي تبدو والجملة هذه مقحمة في سياق مكي. وفي كتب تفسير الطبري والبغوي صيغ متعددة من باب الحديثين، منها ما يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا الآية على الرجل تلاوة. وأمره بالوضوء والصلاة والتوبة حيث يتبادر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ الآية على سبيل التقوى وتطمين المذنب الذي جاء إليه معترفا بذنبه نادما تائبا وأن الذين رووا مدنيتها ونزولها في هذه المناسبة قد التبس الأمر عليهم. ولقد أورد المفسرون في سياق الآية أحاديث أخرى في نفع الصلاة، منها حديث رواه أيضا مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن ما لم تغش الكبائر» «2» . ومنها حديث رواه الطبري بطرقه عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «إن النبي صلى الله عليه وسلم كان تحت شجرة فأخذ غصنا يابسا فهزّه حتى تحاتّ ورقه ثم قال لراوي الحديث ألا تسألني لم أفعل هذا يا سلمان؟ فقلت: ولم تفعله؟ فقال: إن المسلم إذ توضّأ فأحسن الوضوء ثم صلّى الصلوات الخمس تحاتّت خطاياه كما يتحاتّ هذا الورق ثم تلا هذه الآية: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» «3» . ويجب أن نستدرك أمرا فإن الربط بين الصلاة التي عدت حسنات وبين محو

_ (1) التاج ج 4 ص 131- 132. (2) التاج ج 1 ص 119. (3) هناك أحاديث أخرى أوردناها في تعليقنا على الصلاة في سورة العلق وعلى جملة وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ في سورة مريم فنكتفي بما أوردناه.

السيئات في الآية قائم على ما هو المتبادر على كون المرء الذي يبدر منه خطيئة حينما يقف أمام الله عز وجل يتذكر ما بدر منه فيشعر بالخجل والندم ويسوقه هذا إلى التكفير عن عمله والكف عنه. وفي الفقرة الأخيرة من الآية توضيح هذا المعنى أو قرينة عليه، ففي ذكر الله قوة رادعة عن الشر دافعة إلى الخير. والصلاة أقوى وسيلة إلى ذكر الله. ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن الصلاة التي لا تؤدي إلى هذه النتيجة ليس من شأنها أن تمحو سيئة ما. وأن ما يتوهمه عوام الناس من أنهم يتلافون بقيامهم وركوعهم وسجودهم الآلي فقط نتائج ما يقترفونه من ذنوب في غير محله. فهدف الآية هو إصلاح النفس وإيقاظ الضمير بوسيلة الصلاة وذكر الله تعالى فيها. ولا يكون هذا مجديا إلّا إذا صلى المرء خاشعا شاعرا ذاكرا متأثرا نادما على ذنبه مصمما على توبته منه معتقدا ذلك فعلا. ومن الأحاديث النبوية التي وردت في هذا المعنى: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا» «1» و «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له» «2» . وقد يتبادر مع ذلك أن كلمة (السيئات) في الآيات والأحاديث قد عنت الهفوات الصغيرة التي سميت في القرآن باللمم أيضا التي قد يغفرها الله تعالى للمسلم بحسنات صلاته إذا أداها على وجهها واجتهد في الوقت نفسه في تجنب الكبائر على ما شرحناه في سياق سورة النجم بما يغني عن التكرار. وفي أحد الأحاديث التي مر إيرادها «إن الصلاة كفارة لما قبلها ما لم تغش الكبائر» حيث ينطوي في هذا تأييد لما قلناه. وجملة إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ جاءت بأسلوب مطلق، وهي في الوقت ذاته جملة تامة، وقد تبادر لنا من ذلك أنها تتضمن في ذاتها مبدأ عاما، وإن الصلاة على عظم خطورتها هي من الحسنات وليست كل الحسنات، فالصدقات المفروضة (الزكاة) والتطوعية حسنة، والجهاد حسنة، ومساعدة الضعفاء والذبّ عنهم حسنة، والبرّ بالوالدين حسنة، والتعاون على الحق والخير والصبر والأمر

_ (1) انظر تفسير آية سورة العنكبوت في تفسير ابن كثير. (2) انظر تفسير آية سورة العنكبوت في تفسير ابن كثير.

بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير حسنة إلخ ... وكما تذهب الصلاة الصادقة السيئات فإن مقتضى هذا المبدأ أن تذهب هذه الحسنات السيئات إذا ندم مقترفها وتاب عنها، ومما يؤيد ذلك آية سورة الفرقان هذه: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) التي جاءت عقب تعداد الجرائم الكبيرة التي يحرمها الله وينذر مقترفيها بالعذاب المضاعف والهوان المخلد، وآيات سورة التوبة هذه: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) وفي سورة النساء آية عظيمة في هذا الباب حيث تتضمن أن اجتناب المرء الكبائر مما يجعل الله عز وجل يغفر له الهفوات والسيئات وهي هذه: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً (31) . ولقد ورد في حديث نبوي رواه الإمام أحمد عن معاذ رضي الله عنه: «يا معاذ أتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن» «1» . وفي حديث آخر رواه الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه: «اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن» «2» . والحديثان يؤيدان ما قلناه من عمومية المبدأ الذي احتوته الآية وإطلاقه. وهكذا يفتح هذا المبدأ وما ورد في سياقه من أحاديث وما أيده من آيات أفقا واسعا أمام المؤمن، ويتضمن وسيلة عظمى من وسائل إصلاح المؤمن وحفزه على عمل الصالحات والحسنات إذا ما قارف ذنبا مهما بدا عظيما وندم عليه، وهو إن كان يشبه التوبة التي شرحنا مداها في سياق سورة الفرقان ففيه زيادة من حيث حفزه على الحسنات في سبيل محو السيئات. هذا، ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل في مدى

_ (1) انظر تفسير الآية في ابن كثير والحديث الثاني رواه الترمذي انظر التاج ج 5 ص 57. (2) المصدر نفسه.

[سورة هود (11) : الآيات 116 إلى 117]

جملة طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ كما تعددت أقوالهم في عبارات مماثلة في سورتي الإسراء وطه على ما ذكرناه في تفسيرهما. ومما قيل إن طَرَفَيِ النَّهارِ هما الفجر إلى المغرب فيكون المقصود من ذلك صلوات الفجر والظهر والعصر ويكون المقصود من وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ صلوات المغرب والعشاء. كما قيل إن العبارة الأولى عنت صلاتي الفجر والمغرب والعبارة الثانية عنت صلاة العشاء. والمتبادر أن القول الأول هو أكثر ورودا والله تعالى أعلم. [سورة هود (11) : الآيات 116 الى 117] فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (117) . (1) فلولا: هنا بمعنى فهلا للتنديد والتعجب. (2) أولو بقية: بمعنى أولو فضل وخير وتقوى وعقل. (3) الذين ظلموا: المتبادر المستلهم من روح الآية أن هذه الجملة بمعنى الذين بغوا وطغوا وعصوا. (4) ما أترفوا فيه: ما كان سببا لترفهم من الشهوات. (5) بظلم: هنا بمعنى بدون حق وسبب موجب. في الآيات تقرير فيه معنى التعقيب على ما كان من أمر الأمم السابقة التي قصّ الله أنباءها، فقد كان ينبغي أن يكون فيها أولو عقل وفضل وتقوى ينهون الناس عن الفساد في الأرض ولكن هؤلاء كانوا قليلين فلم يؤثروا، وهم الذين أنجاهم الله وأنجى الذين ساروا على طريقتهم من بعدهم. أما سائرهم فقد كانوا ظالمين واستمروا في طريق الإجرام والبغي والشهوات والترف فأهلكهم الله. فالله تعالى لا يهلك القرى ويدمرها إذا كان أهلها صالحين لأن ذلك ظلم يتنزه عنه

تعليق على آية وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون

سبحانه وصلة الآيات والحالة هذه بالسياق ملموحة. ويمكن أن يستلهم من مطلع الآية الأولى قصد تعليل بقاء الناس أجيالا بعد أجيال في حين أن منهم من ينتسب إلى الأمم التي أهلكها الله، فلو لم يكن من القرون والأمم السابقة أناس ولو قليلون من ذوي العقول والتقوى والصلاح كانوا ينهون عن الفساد في الأرض لبادت أجيال الناس ولما بقي منهم ديّار. وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى وتعليل اجتماعي بليغ كما فيه تنويه بالمؤمنين الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم على قلتهم وتلقينهم أنهم قد تحفظ بهم الأجيال والديار فعليهم الصبر والله لا يضيع أجر المحسنين، وفيه كذلك إنذار للكافرين الذين اتبعوا أهواءهم واستغرقوا في شهواتهم واستمروا في عنادهم ومكابرتهم وبغيهم. والمتبادر أن هذا وذاك هو استهدفته الآيات أو مما استهدفته. تعليق على آية وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ قال المفسرون في معنى الآية قولين أحدهما أن الله تعالى لا يهلك القرى إلّا إذا شذت عن الصلاح فكفرت بالله وكذبت الرسل واقترفت المنكرات. وثانيهما أن الله لا يهلك القرى إذا كان أهلها مصلحين يتعاطون الحق بينهم ولا يتظالمون وإن كانوا غير مؤمنين بالله ورسله وإنما يهلكهم إذا تظالموا. وروى الطبرسي حديثا نبويا مؤيدا للقول الثاني لم يرد في الصحاح جاء فيه: «وأهلها مصلحون أي ينصف بعضهم بعضا» . القول الثاني هو الأوجه كما هو المتبادر ومضمون الآية، والآية التي قبلها يدعمه دعما قويا حيث اقتصر الكلام فيهما على الفساد في الأرض والإجرام والظلم واتباع الشهوات وأسباب الترف وجملة وَهِيَ ظالِمَةٌ في الآية [102] من السورة تدعم ذلك أيضا. وللسيد رشيد رضا قول سديد في ذلك حيث يحمل الجملة على معنى الصلاح الاجتماعي والعلمي والعمراني أو يجعل ذلك من ضمن ما يحمله

[سورة هود (11) : الآيات 118 إلى 119]

معنى الجملة ويعلل بذلك عدم تذكير الله تعالى الأمم الصالحة على هذا الوجه مع كفرها وشركها ويقول إن الأمم تبقى مع الكفر ولا تبقى مع الظلم. وشيء من مثل هذا ملموح في كلام بعض المفسرين القدماء كالطبري وابن كثير والزمخشري، والله أعلم. [سورة هود (11) : الآيات 118 الى 119] وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) . تعليق على الآية وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً والآية التالية لها المتبادر أن الآيتين جاءتا كتعقيب على ما سبقهما وأنهما والحالة هذه متصلتان بالسياق. ولقد تعددت التأويلات التي قالها أو رواها المفسرون للآيتين. من ذلك أن الاختلاف المذكور في الأولى هو اختلاف الأديان والنحل. وأن الاستثناء الذي جاء في أول الآية الثانية عائد إلى الذين آمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك أن الاختلاف هو بسبيل وصف أهل الباطل والأشقياء بسبيل وصف أهل الحق. وأن هذا الاختلاف على أي قول هو من حكمة الله ومشيئته ليمتاز كل صنف عن الآخر وينال كل منهم ما يستحقه. ومن ذلك أن الاختلاف بسبيل بيان اختلاف الناس في الرزق ومراتب الحياة الاجتماعية. وإن حكمة الله اقتضته ليتسخر بعضهم لبعض. والعبارة القرآنية تتحمل كل ذلك إذا اعتبرت جملة وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ وما بعدها كلاما مستأنفا مستقلا عن ما قبله. أما إذا اعتبرت جزءا من معنى عموم الآيتين فيكون القول الأول هو الأوجه. وهناك من أوّل الآيتين بمعنى أن الله قادر حمل الناس على الإيمان والحق ولكن حكمته اقتضت تركهم لاختيارهم. وأن الاختلاف كان نتيجة ذلك فاستحقوا الثواب والعقاب. وهذا أيضا وجيه بل يتبادر لنا أنه أوجه التأويلات للآيتين روحا ونصا وأنه المتسق مع مبادئ قرآنية مرّ على

[سورة هود (11) : الآيات 120 إلى 123]

تقريرها وشرحها في السور التي سبق تفسيرها. وقد يصح أن يضاف إلى ذلك في الوقت نفسه أن الآيتين انطوتا أولا على تطمين النبي صلى الله عليه وسلم وتسليته عما كان من مواقف الكفار وعنادهم مع إنذار لهؤلاء. فلا محل لحزنه وغمّه. فإن الله لو شاء لجعل الناس أمة واحدة وقسرهم على الإيمان والتصديق. ولكن حكمته اقتضت تركهم لاختيارهم فتكون جهنم مصير كل من اختار الكفر والبغي. وعلى ضوء هذا فتكون جملة إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ بسبيل التنويه بالذين آمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم الذين تداركتهم رحمة الله فلم يكونوا من أهل جهنم بالإضافة إلى أنها عامة مستمرة المدى. ومثل هذا التطمين للنبي صلى الله عليه وسلم والتنويه بالمؤمنين قد تكرر كثيرا ومرّت أمثلة منه في السور التي سبق تفسيرها لأن المواقف التي تقتضيهما كانت تكرر. وثانيا على رد على طريقة الأسلوب الحكيم على تساؤل كثير من الناس حيث احتوت تقرير كون اختلاف الناس هو مظهر طبيعي وناموس من نواميس الله فيهم لييسر كلا منهم حسب قابليته واختياره فلو شاء لخلقهم على جبلة واحدة ووتيرة واحدة وملة واحدة. وحينئذ لا يتميزون عن سائر الحيوانات. ولا يكون معنى لما اقتضته حكمة الله من جعلهم أهلا للتكليف وخلفاء في الأرض ليكونوا فيها أولي الأمر والشأن والانتفاع من مختلف مظاهر كونه ومن بعثهم يوم القيامة ليجزي كلا منهم بما كسب في الحياة الدنيا والله تعالى أعلم. وقد يبدو لأول وهلة بين الآية الأولى وآية سورة يونس [19] التي جاء فيها: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا تناقض. ولسنا نرى ذلك فآية يونس في صدد وحدة فطرة الله التي فطر الناس عليها وما كان من اختلافهم وشذوذهم عنها على ما شرحناه في سياقها وفي هذه الآية تعليل لذلك الاختلاف والشذوذ. والله تعالى أعلم. [سورة هود (11) : الآيات 120 الى 123] وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)

(1) في هذه: روى المفسرون في تأويل هذه الجملة ثلاثة أقوال منها أنها بمعنى هذه السورة. ومنها أنها بمعنى هذه الدنيا. ومنها أنها بمعنى هذه الأنباء. ولعل القول الأخير هو الأوجه لأن كلمة الأنباء هي الأقرب ذكرا. في الآيات تعقيب على السياق والكلام السابق كما هو المتبادر، فالله تعالى إنما يقص على نبيه صلى الله عليه وسلم ما يقصه من أنباء الرسل السابقين ليثبت به فؤاده، ويتبين حكمة الله في خلقه، ولقد جاء في هذه الآيات الحق الذي فيه موعظة وتذكرة للمؤمنين. وعليه أن لا يبالي بالذين لم يؤمنوا لأن حكمة الله اقتضت أن يكون في الناس الصالح والطالح والمهتدي والضالّ والأخيار والأشرار، وأن يقول لهم سيروا على الطريقة التي ترغبون ونحن نسير على الطريقة التي نرغب، وانتظروا حكم الله وأمره ونحن من المنتظرين لهما أيضا. وعليه أن يتوكل على الله ويستمر في عبادته وذكره. فالأمر كله راجع إليه، وهو المطلع على كل ما خفي وظهر في السموات والأرض، وليس غافلا عما يفعل الناس مؤمنوهم وكفارهم. والمتبادر أن الآيات استهدفت أيضا فيما استهدفته تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتوكيد كونه غير مسؤول عن موقف الكفار. وكون ما نزل عليه هو الحق الذي يهتدي به الطيبون الصالحون في نواياهم وقلوبهم وأخلاقهم، كما استهدفت إنذار الكفار وتوكيد كون الله محيطا بأعمالهم وكونهم راجعين إليه ومسؤولين أمامه. كذلك جاءت خاتمة قوية لمواقف المناظرة والجدل التي حكتها فصول السورة وخاتمة قوية أيضا للسورة. [تم بتوفيق الله الجزء الثالث ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الرابع وأوله تفسير سورة يوسف]

فهرس محتويات الجزء الثالث

فهرس محتويات الجزء الثالث تفسير سورة الجن 7 شرح الفصل الأول من السورة والتعليق على مدى محتوياته 8 تعليق على مفهوم آيات الفصل ودلالته 17 تعليق على جملة لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا ... 19 تفسير سورة يس 20 تعليق على آيات إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ ... 23 تلقينات ودلالة مثل أصحاب القرية وآياته 27 تعليق على محاولة استنباط النظريات العلمية من الآيات 31 تعليق على تعبير ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ... 32 نموذج آخر للتفسيرات الصوفية 33 تعليق على حثّ القرآن على البرّ بالفقراء 34 تعليق على نسبة العرب الشعر والشاعرية للنبي 39 تفسير سورة الفرقان 47 تعليق على زعم الكفار بأن أناسا يعاونون النبي 50 تعليق على نسبة المتعصبين من الكتابيين 53 دلالة تعبيري اكْتَتَبَها وتُمْلى عَلَيْهِ 63 تعليق على تحدي الكفار باستنزال ملك لتأييد النبي 65

تعليق على ما يفرضه العرب من طبيعة للنبي تغاير طبيعة البشر 65 تعليق على تعبير انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ ... 66 تعليق على تعبير كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً ... 68 تعليق على تعبير مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ 71 تعليق على ما في القرآن من تكرار التنديد بالظالمين 71 تعليق على جملة وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً 76 تعليق على جملة جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ 80 تعليق على تحدي الكفار بإنزال القرآن جملة واحدة 82 تلقين الآيتين [43 و 44] وما بعدهما 86 تعليق على الأمر بالتوكل على الله 93 تعليق على اسم الرحمن 97 تعليق على روعة سلسلة عباد الرحمن وتلقيناتها 102 تعليق على تعبير لَوْلا دُعاؤُكُمْ 105 تفسير سورة فاطر 107 تعليق على الأمر بعدم الاغترار بالدنيا 110 تعليق على تعبير فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ... 111 تعليق على جملة وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ ... 114 تعليق على جملة وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ 118 تعليق على جملة إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ 121 تعليق على جملة أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا 125 تعليق على جملة فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ 129 تعليق على جملة إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً 131 تعليق على جملة وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ 132 سبب وقوف زعماء قريش موقف المعاداة 136

تعليق على ما حكاه القرآن من استعجال المشركين العذاب 138 حكمة الله المنطوية في جملة وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ ... 140 تفسير سورة مريم 141 تعليق على قصة ولادة عيسى وأهدافها 147 تعليق على جملة فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ 158 تعليق على سلسلة الأنبياء بعد قصتي يحيى وعيسى عليهما السلام 160 تعليق على مغزى التفصيل في قصة إبراهيم عليه السلام 162 تعليق على شخصية إدريس عليه السلام 163 تعليق على الآية فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ والآيات الثلاث 166 تعليق على آية وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ 168 تعليق على جملة وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها 173 تعليق على جملة وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ 177 تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ ... 181 تفسير سورة طه 186 تعليق على الآيات الأولى من سورة طه 187 تعليق على مدى السلسلة القصصية عن رسالة موسى عليه السلام إلى فرعون 190 تعليق على جملة وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي 193 تعليق على الحلقة الثانية من سلسلة قصص موسى عليه السلام 194 تعليق على أمر الله تعالى لموسى بملاينة الكلام مع فرعون 195 تعليق على الحلقة الثالثة من سلسلة قصص موسى وفرعون وبني إسرائيل 199 تعليق على الآيات المتضمنة حكاية بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر 202 تعليق على جملة وَهُوَ مُؤْمِنٌ 208 تعليق على جملة وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا 209

تعليق على الآية فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ... 209 تعليق على الجديد في قصة آدم وإبليس في هذه السورة 214 تعليق على مدى الآية التي تأمر بذكر الله وتسبيحه 216 تلقينات آية وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ... 219 تعليق على تحدي الكفار للنبي بالإتيان بآية 220 تفسير سورة الواقعة 225 تعليق على وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ... 228 تعليق على ما جاء في الآيات في وصف مجلس الشراب 229 تعليق على منازل أصحاب اليمين 231 تعليق على التنديد بالترف والمترفين 232 تعليق على تنوع أوصاف النعيم والعذاب في الآخرة 233 تعليق على صحة نزول هذه السورة بعد سورة طه 233 تعليق على آيات إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ... 237 تفسير سورة الشعراء 241 تعليقات على الآيات التسع الأولى من السورة 242 تعليق على كلمة مُحْدَثٍ في الآيات 244 تعليق على قصة موسى وفرعون في السورة 247 تعليق على قصة إبراهيم وأبيه وقومه في السورة 250 تعليق على قصة نوح 252 تعليق على قصة هود 254 تعليق على قصة صالح 255 تعليق على قصة لوط 256 تعليق على قصة شعيب 257

تعليق عام على القصص 258 تعليق على آيات وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ ... 259 تعليق على استعجال الكفار عذاب الله 265 تعليق على كلمة الأعجمي والأعجمين 265 تعليق على آيتي وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ ... 266 تعليق على آيات وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ ... 267 تعليق على آية وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ 270 بناء الأخوة الدينية في الإسلام 271 ما في معالنة النبي لأقاربه بالبراءة 273 تلقين جملة وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ ... 273 تعليق على آيات هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ ... 275 تعليق على آية وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ 276 تعليق على استثناء المؤمنين من ذم الشعراء 276 دلالة الآيات الأربع الأخيرة من السورة 278 تفسير سورة النمل 279 تعليق على اجتماع كلمتي القرآن والكتاب في آية واحدة 280 تعليق على جملة زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ 281 تعليق عام على آيات السورة الأولى 282 تعليق على قصة موسى وفرعون في السورة 284 مغزى وصف الله نفسه بربّ العالمين 286 تعليق على قصة داود وسليمان وملكة سبأ 288 هدف الحلقة ومواضع العبرة فيها 290 تعريف سبأ 291 تعليق على قصتي صالح ولوط مع قومهما 292

تعليق على الآيات التي جاءت بعد سلسلة القصص 294 تعليق على آية إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ ... 298 تعليق على الدابة المذكورة في الآية [82] 301 تعليق على مدى الآية وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ ... 303 تعليق على جملة الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها 307 تفسير سورة القصص 308 تعليق على الفصل الأول من قصة موسى وفرعون 313 تعليق على الفصل الثاني من قصة موسى وفرعون 318 تعليق على آيات وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ 320 تعليق على جملة إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ 322 تعليق على آية الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ ... 324 مشهد يسجل أثر الدعوة المحمدية والقرآن في أهل الكتاب 326 تعليق على آية إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ... 327 تعليق على آية وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى ... 330 تعليق على الآية وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ ... 334 تعليق على جملة وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ... 338 تعليق على قصة قارون 342 تعليقات على الآيات الأخيرة الأربع من سورة القصص 346 دلالة قرآنية 349 تفسير سورة الإسراء 351 تعليق على تعبيري المسجد الحرام والمسجد الأقصى 356 تعليق على أحداث بني إسرائيل في أول السورة 358 تعليق على تكرر التنويه بالقرآن في هذه السورة 363

تعليق على مدى الآية مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ... 366 مذهب السلف الصالح في فهم القرآن 368 تعليق على آية وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً ... 370 تعليق على مجموعة الوصايا الربانية في السورة 375 تعليق على الآية إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ ... 376 صور من تقاليد العرب وعاداتهم 377 تنويه بما احتوته الآيات من تلقينات هامة 378 تعليق على صرف جملة وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ 383 تعليق على تحديد عدد السموات بسبع 387 تعليق على آية وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا ... 393 تعليق في صدد تفضيل الأنبياء 397 تعليق على الآية وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها ... 400 تعليق على الآية وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ ... 402 تعليق على آية وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ ... 407 تعليق على الآية وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ... 410 تعليق على الآية وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ ... 415 تعليق على الآية أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ... 419 تعليق على جملة وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ ... 423 تعليق على إعجاز القرآن وعجز الناس عنه 429 تعليق على الآية وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ 438 تفسير سورة يونس 442 تعليق على قول الكفار ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا ... 451 مدى عقيدة الشرك عند العرب ومدى عقيدة التوحيد الإسلامية 453 تعليق على جملة وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً ... 454

تعليق على جملة يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ... 466 تعليق على جملة كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ... 466 تعليق على الآية وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى ... 468 تعليق على جملة صَبَّارٍ شَكُورٍ 469 تعليق على كلمة (سورة) 470 تعليق على آية وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ ... 471 تعليق على جملة وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ 476 تعليق على الآية أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ... 483 تعليق على قصة نوح عليه السلام 487 تعليق على آيات قصة موسى وفرعون وبني إسرائيل 490 تعليق على الآية فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا ... 493 تعليق على الآية وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ ... 497 تعليق على كلمة (الحنيف) 499 تفسير سورة هود 501 قوة استهلال السورة 502 تعليق على ما يبدو من كلام النبي المباشر للناس 503 تعليق على جملة وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ 506 تعليق على جملة لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا 507 تعليق على الآية فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى ... 511 دلالة تكرار تحدي الكفار بالقرآن 512 تعليق على آية مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا ... 513 تعليق على قصة نوح عليه السلام 521 تعليق على آية تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ ... 522 مواضع العبرة في قصة نوح عليه السلام 524

تعليق على آية أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ 525 تعليق على قصة هود عليه السلام 527 تعليق على قصة صالح عليه السلام 528 تعليق على قصة إبراهيم عليه السلام 530 تعليق على قصة لوط عليه السلام 532 تعليق على قصة شعيب عليه السلام 534 تعليق على قصة موسى عليه السلام 535 تعليق على جملة وَهِيَ ظالِمَةٌ 536 تعليق على جملة خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ 538 تعليق على جملة فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ 539 تعليق على جملة لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ 540 تعليق على آية فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ... 542 تعليق على الآية وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ... 543 تعليق على آية فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ ... 545 تعليق على جملة وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا 546 تعليق على آية وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ ... 548 تعليق على آية وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى ... 553 تعليق على الآية وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً 554

سورة يوسف

ا لجزء الرابع سورة يوسف الشطر الأعظم من هذه السورة احتوى قصة يوسف عليه السلام وإخوته، وتبعه آيات فيها تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وبشرى له وللمؤمنين وتوضيح لمهمته ومداها، وإنذار وتقريع للكفار وتقرير لحقيقة موقفهم وواقع عقائدهم. والقصة في هذه السورة جاءت مباشرة على نمط قصة موسى وفرعون في سورة القصص. وفي الآيات ما يلهم أنها نزلت إجابة لسؤال أو استفسار. وقد احتوت آيات القصة حكما ومواعظ وعبرا عديدة بحيث تطابقت في ذلك مع أسلوب القصص القرآنية وهدفها بوجه عام، وفي الآيات التي تبعت فصول القصة ما يربط بينها وبين هذه الفصول بحيث يسوغ القول إن فصول السورة نزلت متتابعة إلى أن تمت. والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآيات [1 و 2 و 3 و 7] مدنيات، وانسجام هذه الآيات في الموضوع والسياق وصلتها بهما ومماثلة محتواها لمحتوى آيات مكية لا خلاف فيها يجعلنا نشك في صحة الرواية. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة يوسف (12) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3) معاني الآيات واضحة، وما قلناه في الحروف المتقطعة التي بدئت بها سور عديدة سابقة وما رجحناه من أنها للاسترعاء والتنبيه نرجحه هنا أيضا. ومعانيها واضحة وفيها تمهيد لما جاء بعدها من فصول قصة يوسف، والخطاب في

تعليق على ما روي من أسباب نزول الآيات واستطراد إلى مسألة أخذ العلم عن الغير

لَعَلَّكُمْ موجّه للسامعين العرب ومهيب بهم إلى تدبر آيات القرآن الذي أنزله الله بلسانهم وفهمه والاهتداء به. والمتبادر من جملة وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ أنها توكيد لما قررته آية سورة يونس: قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) وآية سورة القصص: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) على ما شرحناه في سياق تفسير السورتين شرحا يغني عن التكرار. ولقد قال بعض المفسرين «1» إن الآية تعني قصة يوسف التي كان النبي صلى الله عليه وسلم غافلا عنها. غير أن ضمير «قبله» عائد إلى القرآن كما يتبادر ويكون تأويلنا هو الأوجه، وقد قال به غير واحد من المفسرين أيضا «2» . والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآيات الثلاث مدنية وهو غريب لأنها جاءت تمهيدا لقصة يوسف وفي الآيات المكية آيات مماثلة لها تماما، ولا تظهر حكمة مدنيتها. ولم نر في كتب التفسير التي اطلعنا عليها تأييدا لهذه الرواية. ولذلك نشك في صحتها ولقد ذكر هذه الرواية السيوطي في الإتقان وقال إنها واهية جدا. تعليق على ما روي من أسباب نزول الآيات واستطراد إلى مسألة أخذ العلم عن الغير وفي كتب التفسير أحاديث عديدة في سبب نزول الآيات مفادها أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يطلبون منه أن يحدثهم فوق الحديث ودون القرآن فأنزل الله الآيات منبها إلى أن ما يرد في القرآن هو أحسن القصص وأن الله قد أنزله بلسانهم ليعقلوه. وجملة وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ لا تتسق مع هذه الأحاديث

_ (1) انظر تفسير الخازن مثلا. (2) انظر تفسير الطبري والبغوي والطبرسي.

التي لم يرد شيء منها في كتب الصحاح. ولقد جاء بعد قليل من الآيات آية لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) حيث يمكن أن يكون بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن قصة يوسف ورووا ما يقوله عنها اليهود فأنزل الله فصول قصة يوسف وجعل الآيات الثلاث تمهيدا لها. ولقد أورد ابن كثير أحاديث أخرى في سياق هذه الآيات مفادها أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم استكتبوا صحفا مما عند اليهود وأرادوا أن يعرضوها على النبي صلى الله عليه وسلم فغضب النبي من ذلك وتلا عليهم هذه الآيات. وآية سورة الزمر اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ... الزمر: [23] ومن هذه الأحاديث حديث رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر جاء فيه: «إن عمر أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم فغضب وقال أمتهوّكون فيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها نقية بيضاء. لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوه أو بباطل فتصدقوه. والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلّا أن يتبعني» . وبقطع النظر عن كون هذه الأحاديث لم ترد في الصحاح وأن بعض نقاد الحديث قد تكلموا فيها فإن الفكرة فيها هي حرص النبي صلى الله عليه وسلم على اكتفاء أصحابه بما يبلغهم إياه من آيات الله وتحذرهم ممّا في أيدي اليهود من كتب تحتمل الكذب والانشغال بها عن القرآن. ولقد روى البخاري عن أبي هريرة قال: «كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون» «1» . مما قد يكون فيه تأييد ما للفكرة المذكورة. وقد تكون الفكرة صحيحة والأحاديث محتملة الصحة. وصحة الفكرة واردة بخاصة في ظرف حياة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين حيث كان أغلب اليهود يكفرون

_ (1) التاج ج 4 ص 178.

[سورة يوسف (12) : الآيات 4 إلى 6]

برسالة النبي صلى الله عليه وسلم ويناوئون دعوته ويبذلون جهدهم في الدس بين المسلمين وتشكيكهم في النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن مما ذكرته آيات كثيرة على ما سوف نشرحه في مناسبات أخرى. غير أن هذا ليس من شأنه فيما يتبادر لنا أن يمنع المسلم بعد ذلك العهد وفي أي عهد من الاطلاع على ما عند أهل الكتاب وغير أهل الكتاب من كتب وعلوم على اختلاف أنواعها وترجمتها إلى اللغة العربية واللغات الأخرى التي يتكلمها المسلمون غير العرب. وكل ما يجب عليه التنبيه والحذر والتروي حتى لا يكون سم في دسم. وهناك أحاديث عديدة صحيحة يصح أن تساق في هذا المقام منها حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة جاء فيه: «الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها» . وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن أبي الدرداء قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من سلك طريقا يبتغي به علما سلك الله له طريقا إلى الجنة» . وفي القرآن آيات كثيرة نبهت المسلمين إلى ما في الكون العظيم من آيات باهرات وأمرتهم بالتفكر بها وتدبرها وهذا لا يكون إلّا بالتعليم والاطلاع والاقتباس من أهل العلم أيا كانوا وأين ما كانوا. ولقد فهم أهل القرون الإسلامية الزاهرة الأولى هذا على حقيقته فكان لهم ذلك الإسهام العظيم المبدع المذهل في كل مجالات العلم والمعرفة اطلاعا وترجمة ثم ابتداعا وتوسيعا. تشهد على ذلك ما خلفوه من تراث عظيم في كل مجالات العلم والفنون والمعرفة. والله تعالى أعلم. [سورة يوسف (12) : الآيات 4 الى 6] إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) (1) فيكيدوا لك كيدا: يدبرون لك مكيدة.

تعليق على مقدمة قصة يوسف

(2) يجتبيك: يصطفيك ويختارك ويرعاك. تعليق على مقدمة قصة يوسف الآيات واضحة المعنى وفيها خبر الرؤيا التي رآها يوسف في منامه، وقد ذكرها لأبيه فوصاه بكتمانها عن إخوته حتى لا يدبروا له مكيدة. وأعلنه بأمله في أن الله يرعاه ويعلمه تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليه وعلى أبيه بذلك كما أتمها على أبويه إبراهيم وإسحاق من قبل. والآيات مقدمة لقصة يوسف وإخوته، ولقد ذكرت هذه الرؤيا في الإصحاح (37) من سفر التكوين المتداول اليوم بشيء من الخلاف حيث يذكر أن يوسف قص رؤياه على أبيه وإخوته وأن أباه انتهره وأن إخوته ازدادوا حسدا له وغيظا منه. ونعتقد أن ما جاء في الآيات هو ما كان يتداوله اليهود وأنه جاء في أسفار وقراطيس أخرى كانت عندهم وقد كانت الآيات تتلى علنا ويسمعها اليهود ولم يرو عنهم إنكار ولا اعتراض. وكلام يعقوب الذي أيده السفر بالنسبة لإخوة يوسف يدل على أن هؤلاء الإخوة كانوا يحقدون على يوسف ويحسدونه وهو ما ذكرته الآيات الآتية. ولقد كان يوسف وأخ آخر له لأم غير أم سائرهم وكان محظيا في نظر أبيه فكان هذا سبب ذلك الحسد والحقد. وفي الآيات تنبيه إلى وجوب تكتم الإنسان في بعض شؤونه وبخاصة فيما يثير الحسد والحقد منها، وإلى ما يقوم بين أبناء الضرائر من كراهية وحقد مما فيه عبرة وموعظة. ولقد أورد المفسرون بعض الأحاديث النبوية في سياق هذه الآيات في صدد ما يراه المرء في منامه من رؤى. وقد رأينا أن نجاريهم فنورد منها حديثا رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أبي قتادة جاء فيه: «كنت أرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الرؤيا الصالحة من الله تعالى والحلم من

[سورة يوسف (12) : الآيات 7 إلى 20]

الشيطان. فإذا رأى أحدكم ما يحبّ فلا يحدّث بها إلّا من يحبّ. وإذا رأى ما يكره فليتعوّذ بالله ولا يحدّث بها أحدا فإنها لن تضرّه» «1» . وفي الحديث معالجة روحية لأمر يكثر وقوعه ويثير في النفوس هموما أو هواجس، ويمكن أن يرد السؤال عنه في هذه المناسبة. [سورة يوسف (12) : الآيات 7 الى 20] لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18) وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) (1) ونحن عصبة: أي ونحن جماعة كثيرون. (2) في غيابت الجب: في جوف البئر.

_ (1) التاج ج 4 ص 272. [.....]

تعليق على الحلقة الأولى من قصة يوسف

(3) السيارة: كناية عن قافلة التجارة أو أصحابها. (4) وإنا له لناصحون: إنا له مخلصون لا نريد له إلا الخير. (5) أوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا: معظم الأقوال التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل أن الضمير في لَتُنَبِّئَنَّهُمْ عائد إلى يوسف وأن الله أوحى إليه بما كان من تآمر إخوته عليه على سبيل التطمين والتسلية مخبرا إليه أنه سوف يخبرهم بمؤامرتهم. (6) نستبق: نتبارى في السباق. (7) وما أنت بمؤمن لنا: أي وما أنت بمصدقنا. (8) سولت لكم أنفسكم أمرا: زينت لكم أنفسكم أمرا مكروها. (9) واردهم: الوارد هو الشخص الذي يرد الماء للاستقاء وقد أرسل أصحاب القافلة واردهم للاستقاء من البئر. (10) أدلى دلوه: أنزل دلوه للبئر. (11) أسرّوه بضاعة: أخفوه واعتبروه بضاعة للبيع. (12) شروه: باعوه، وهي من الأضداد. (13) كانوا فيه من الزاهدين: بمعنى أنهم باعوه بالثمن البخس بدون تمسك به ورغبة في الخلاص منه. تعليق على الحلقة الأولى من قصة يوسف هذه الآيات هي الحلقة الأولى من قصة يوسف، ومعانيها واضحة. والآية الأولى قد تدل على أن الوحي القرآني بالقصة كان بسبب سؤال بعض الناس عنها. والآية الأولى تفيد أن سائلا سأل عن قصة يوسف وإخوته، وبعض المفسرين يروون أن السؤال من يهودي والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أن الآية المذكورة مدنية. والرواية غريبة لأن فصول القصة مكية النزول والآية مفتاح لهذه الفصول. ولم نطلع على تأييد لهذه الرواية، ونحن نشك في الرواية ونشك في كون السؤال من يهودي لأنه يكون على سبيل التعجيز. واليهود الذين كانوا في مكة قليلون وقد

آمنوا بالرسالة النبوية والقرآن. ونرجح أن السؤال من بعض المسلمين ويتبع هذا الترجيح أن يكون الناس في مكة ومنهم المسلمون كانوا يسمعون شيئا من القصة فأراد السائل المسلم أن يعرفها عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الآية تنبيه إلى ما في قصة يوسف من آية وعبرة لمن يريد أن يسأل ويعتبر. وقد شاءت حكمة التنزيل أن يبرر ذلك في أسلوب الآيات وهي تحكي القصة في هذه الحلقة والحلقات الأخرى كما هو شأن القصص القرآنية عامة. ومما يرويه المفسرون عن أهل التأويل أن الشمس والقمر والكواكب في الآيات هي كناية عن أبوي يوسف وإخوته الأحد عشر. وهذا سديد. وقد أشارت إليه إحدى الآيات في آخر حلقات القصة. وفي كتب التفسير بيانات كثيرة مروية عن التابعين وعلماء الأخبار في الصدر الإسلامي الأول فيها زوائد كثيرة عما جاء في هذه الحلقة وحلقات القصة الأخرى في السورة. منها ما هو المتطابق مع ما جاء عنها في سفر التكوين المتداول اليوم. ومنها ما هو غير متطابق أو زائد عنه. وهذا يؤيد أن القصة كانت غير مجهولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم. وطبيعي أن ذلك من طريق اليهود لأن القصة كما قلنا وردت مفصلة في سفر التكوين الذي كان بين أيديهم. وليس من المستبعد أن يكون ما رواه علماء الأخبار من الزوائد كان مما يرويه اليهود أيضا عزوا إلى أسفار وقراطيس أخرى كانت في أيديهم أو روايات كانوا يتداولونها. ولم نر ضرورة ولا طائلا في إيراد ما أوردوه أو ملخصه لا بالنسبة لهذه الحلقة ولا الحلقات التالية اكتفاء بما شاءت حكمة التنزيل أن يحتويه القرآن من خلاصات عنها مرصعة بما فيه الحكمة والموعظة والعبرة. ولقد احتوت هذه الحلقة ما كان من الحيل التي احتال إخوة يوسف على أبيهم والمكيدة التي كادوها لأخيهم والتي أدت إلى تعريضه لخطر جسيم ثم إلى بيعه كعبد رقيق. وقد ذكر ذلك في الإصحاح (37) من سفر التكوين مع خلاف يسير غير جوهري. ونعتقد أن ما ورد في الآيات كان متداولا ومعروفا عن طريق اليهود وواردا في أسفار وقراطيس أخرى.

[سورة يوسف (12) : الآيات 21 إلى 35]

ومن شأن ما حكته آيات الحلقة من بشاعة حيلة الأبناء على أبيهم وخداعهم له وكذبهم عليه وبشاعة مؤامرتهم ومكيدتهم لأخيهم أن يثير الاشمئزاز من هذه الأفعال وهو من مواضع العبرة والموعظة في الحلقة. [سورة يوسف (12) : الآيات 21 الى 35] وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29) وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)

(1) أكرمي مثواه: أحسني معاملته وكرمي إقامته. (2) مكنا ليوسف في الأرض: أتحنا له أسباب التمكن والبروز فيها. (3) راودته عن نفسه: طلبت منه إتيان الفاحشة معها. (4) هيت لك: بمعنى هلمّ أقبل. (5) إنه ربي أحسن مثواي: المقصود من ذلك الزوج لأنه كان مالك رقبة يوسف. (6) همّت به: بمعنى اشتد عزمها وإلحاحها عليه. (7) همّ بها لولا أن رأى برهان ربه: تعددت أقوال المفسرين ورواياتهم في تأويل الجملة، ومما أوردوه ورووه عن تابعين وصحابيين في جملة وَهَمَّ بِها أنه همّ بدفعها عنه أو ضربها أو همّ للاستجابة لها وأنه حلّ سراويله وقعد منها مقعد الرجل من المرأة وكان من الممكن أن يواقعها لولا أن رأى برهان ربه، ومما أوردوه ورووه في جملة بُرْهانَ رَبِّهِ أن الله نبهه بالوحي إلى ما في ذلك من جريمة أو أنه أدرك ذلك بقوة النبوة التي أودعها الله فيه، أو أنه رأى أباه يهتف به منبها أو بالكتابة على الحائط أو على معصمه إلى ما في الزنا من جريمة أو أرسل الله إليه جبريل منبها محذرا، وكل هذه التأويلات وارد بالنسبة لمدى العبارة القرآنية مع القول أنه ليس شيء منها واردا في كتب الصحاح. (8) استبقا الباب: سارعا إلى باب الدار متسابقين، وتفيد الجملة أنه فرّ منها فلحقت به. (9) قدّت: مزقت. (10) من دبر: من ناحية ظهره. (11) ألفيا: وجدا.

تعليق على الحلقة الثانية من قصة يوسف

(12) العزيز: كناية عن منصب الذي اشترى يوسف ويدل على أنه منصب كبير في الدولة. (13) قد شغفها حبا: لامس حبه شغاف قلبها أي غلافه، والجملة كناية عن شدة حبها وهيامها. (14) بمكرهن: بأقوالهن وتنديدهن. (15) أرسلت إليهن: دعتهن. (16) أعتدت لهن: هيأت لهن. (17) متّكأ: مقاعد يتكئون عليها وهناك من قال إن المتكأ هو الأترج أي نوع فاكهة يقطع بالسكين والقول الأول هو الأوجه كما هو المتبادر وفيها ما يفيد أنها هيأت لهن ما يقطع بسكين ويؤكل. (18) أكبرنه: كبر وعظم في أعينهن لما عليه من بهاء وجمال. (19) حاش لله ما هذا بشرا: حاش لله هنا في مقام اليمين والتوكيد بأن يوسف ليس بشرا لأن جماله فوق جمال البشر. (20) لمتنني فيه: وجهتن اللوم إليّ بسببه. (21) فاستعصم: فامتنع. (22) من الصاغرين: من المهانين الذليلين. (23) حتى حين: أي إلى أجل ما. تعليق على الحلقة الثانية من قصة يوسف الآيات حلقة ثانية من قصة يوسف، ومعانيها واضحة، وقد فسرنا بعض مفرداتها وجملها لتكون أكثر وضوحا. ولا حاجة إلى شرحها بأداء آخر وقد ورد ما فيها في الإصحاح (39) من سفر التكوين المتداول بشيء من الخلاف. فليس فيه مسألة تمزيق الرداء وليس فيه أنه همّ بها لولا أن رأى برهان ربه. وإنما فيه أنها دعته إلى نفسها مرة بعد أخرى فكان يأبى ويقول كيف أخطئ إلى الله وأفعل هذه السيئة العظيمة. وأخطئ بحق سيدي الذي ترك لي إدارة البيت ما عداك لأنك الجزء الرابع من التفسير الحديث

[سورة يوسف (12) : الآيات 36 إلى 57]

زوجته ثم فرّ منها وترك رداءه في يدها. وليس فيه ما قاله النسوة عن امرأة العزيز ودعوتها إياهن وتقطيعهن أيديهن. وليس فيه كذلك قصة شهادة الشاهد من أهل الزوجة، وفيه أن زوجها غضب على يوسف حينما زعمت زوجته أنه راودها عن نفسها وأودعه الحصن الذي يسجن فيه سجناء الملك لأنه كان رئيس شرطة مصر. ونعتقد أن ما جاء في الآيات هو الذي كان متداولا عن طريق اليهود ومذكورا في الأسفار التي كانت في أيديهم وفي كتب التفسير بيانات حول هذه المباينات تؤيد كون ما جاء في القرآن كان متداولا معروفا. ومن مواضع العبرة في الحلقة رعاية الله ليوسف وعنايته به وتمكينه في الأرض وصرفه عن السوء والفحشاء لأنه كان مخلصا له محسنا في أعماله ونواياه، وتنويهه به لأنه ثبت أمام التجربة فلم ينزلق في المهاوي المهلكة اتقاء لغضب الله واستشعارا بواجب الحق والوفاء، حيث ينطوي في ذلك حثّ على التمسك بأهداب الفضيلة والصدق والأمانة والاستقامة والوفاء، وإشارة إلى ما يناله أصحاب هذه الأخلاق من تكريم الله ورعايته. [سورة يوسف (12) : الآيات 36 الى 57] وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57)

(1) فتيان: شابان. (2) بتأويله: بأمره أو بشأنه. (3) يا صاحبي السجن: يا رفيقيّ في السجن.

تعليق على الحلقة الثالثة من قصة يوسف

(4) أأرباب: آلهة. (5) ربه: هنا بمعنى سيده أو ملكه. (6) ذكر ربه: تذكير سيده بأمر يوسف. (7) عجاف: نحاف أو هزيلات. (8) تعبرون: تعبّرون أو تفسرون. (9) أضغاث أحلام: تخليط الأحلام. (10) الذي نجا منهما: من رفقاء يوسف في السجن الذي نجا من الموت. (11) ادّكر: تذكر. (12) بعد أمة: بعد مدة ما. (13) دأبا: باستمرار وجد. (14) مما تحصنون: مما تخزنونه وتصونونه. (15) يغاث الناس: ينزل الغيث على الناس أي تمطر السماء. (16) يعصرون: يعصرون الثمار. كناية عن جودة الموسم. (17) الآن حصحص الحق: بان الحق أو الآن يجب إظهار الحق. (18) وما أبرىء نفسي: قيل إنها حكاية لقول يوسف على سبيل التواضع وذكر رحمة الله التي عصمته وقيل إنها تتمة لكلام امرأة العزيز على سبيل الاعتذار. (19) أستخلصه لنفسي: أختص به لخدمتي. (20) لدينا مكين أمين: أنت عندنا صاحب مكانة وأمانة. تعليق على الحلقة الثالثة من قصة يوسف وهذه حلقة أخرى من حلقات قصة يوسف وآياتها واضحة المعنى وقد احتوت قصة سجنه وتعبيره لرؤيتي رفيقيه في السجن وتعبير رؤيا الملك وتعيين الملك ليوسف في منصب خازن المملكة. وقد ورد ما جاء في الآيات في الإصحاحين (40 و 41) من سفر التكوين المتداول بشيء من التفصيل عدا طلب

[سورة يوسف (12) : الآيات 58 إلى 102]

يوسف سؤال النسوة وتبرئة زوجة العزيز ليوسف واعترافها بمراودتها إياه وبأنه صادق فيما قال. ونعتقد أن هذا مما كان متداولا أو واردا في نصوص السفر أو في أسفار أو قراطيس أخرى كانت في أيدي اليهود. وفي كتب التفسير روايات عن علماء الأخبار والتابعين تدور في نطاق ما جاء في الآيات حيث يؤيد هذا ما قلناه. ومن العبر التي تخللت الحلقة اهتمام يوسف للتبشير بالله والحملة على الشرك في داخل السجن وانشغاله بذلك عما هو فيه حيث ينطوي في هذا حثّ على وجوب الدعوة إلى الله ومكارم الأخلاق في كل ظرف ومكان. ومنها اهتمام يوسف لتبرئة نفسه حيث ينطوي في هذا حثّ على وجوب تبرئة النفس من التهم الكاذبة وحقّ الإنسان البريء في ذلك. ومنها تراجع امرأة العزيز واعترافها بالحق حيث ينطوي في هذا حثّ على وجوب الصدق والاعتراف بالحقّ ولو على القائل، والتوبة من الذنب. ومنها ما كان من ثقة الملك بيوسف لما رآه فيه من أمارات الصدق والأمانة والاستقامة حيث ينطوي في هذا حث على التزام هذه الأخلاق وفائدتها لأصحابها. ومنها تقرير ما كان من رعاية الله تعالى ليوسف وعدم تضييعه أجر العاملين المتقين المؤمنين في الدنيا والآخرة مع التنويه بخاصة بأجر الآخرة الأكبر لأنه الأدوم. حيث ينطوي في هذا حث على الإيمان والتقوى والعمل الصالح، وبشرى لأصحابها برعاية الله الدائمة في الدنيا والآخرة. [سورة يوسف (12) : الآيات 58 الى 102] وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)

(1) منكرون: لم يعرفوه. (2) جهزهم بجهازهم: كناية عن إعطائهم حاجتهم وتهيئتهم للسفر. (3) لا كيل لكم عندي: ليس لكم عندي مؤونة تكتالونها. (4) فتيانه: رجاله وخدمه. (5) بضاعتهم: معظم المفسرين قالوا إن الكلمة كناية عن ثمن المئونة التي أخذوها حيث ردها يوسف إليهم بغير علمهم. وهذا ما ورد في سفر التكوين المتداول أيضا (الإصحاح 42) . (6) رحالهم: أوعيتهم أو أكياسهم. (7) متاعهم: أوعيتهم أيضا. (8) ما نبغي: إما بمعنى أننا ماذا نطلب أكثر مما حصل لنا على سبيل التنويه، أو بمعنى ماذا نقصد من إبلاغك طلب العزيز منا إن لم يكن الحق، ورد البضاعة شاهد على صدقنا. (9) نمير أهلنا: نمون أهلنا. (10) ونزداد كيل بعير: أي حينما يزيد عددهم واحدا يزداد عدد دوابهم التي تحمل المئونة واحدا بالتبعية. (11) يسير: هنا بمعنى كثير. (12) موثقا من الله: عهدا عليكم أمام الله أو تقسمون لي بالله. (13) إلّا أن يحاط بكم: إلّا أن تغلبوا جميعكم أو تهلكوا جميعكم. (14) آوى إليه أخاه: أدخله عليه وحده.

(15) فلا تبتئس: فلا تحزن ولا تهتم. (16) السقاية: الإناء الذي يسقى به. (17) أذن مؤذن: نادى مناد. (18) العير: القافلة أو أهل القافلة. (19) صواع: مرادفة للسقاية. (20) أنابه زعيم: أنابه كفيل، وفي الجملة توكيد لمنع حمل البعير من المئونة لمن يأتي بالصواع المفقود. (21) إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل: قال المفسرون إنهم عنوا بذلك يوسف، لأنه شقيق الذي وجدت السقاية في رحله ورووا خبر سرقة أتاها يوسف في صغره. (22) فأسرّها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم: كتم يوسف أمره ولم يظهر أنه عرف ما عنوا. (23) أنتم شرّ مكانا: أنتم أسوأ من يوسف وأخيه. (24) تصفون: هنا بمعنى تزعمون أو تقولون. (25) فلما استيأسوا منه: فلما يئسوا من إجابته لمطلبهم. (26) خلصوا نجيا: انفردوا ببعضهم للتشاور في أمرهم. (27) فلن أبرح الأرض: فلن أغادر البلد الذي أنا فيه. (28) القرية: بمعنى المدينة أو أهل المدينة. (29) الكظيم: الكظم لغة امتلاء القربة أو الوعاء. والكلمة في مقامها بمعنى امتلأت نفسه حزنا. (30) تفتأ: ما تزال أو تستمر. (31) حرضا: مشرفا على الهلاك من إنهاك الجسم والحزن. (32) بثّي: همي وحزني، أو شكواي. (33) تحسسوا: تحروا وابحثوا. (34) روح الله: هنا بمعنى رحمة الله.

تعليق على الحلقة الرابعة والأخيرة من قصة يوسف

(35) ببضاعة مزجاة: ببضاعة قليلة، أو ناقصة، أو ليست جيدة، والجملة على سبيل الاعتذار وإظهار حالة الفقر. (36) لقد آثرك: لقد فضلك. (37) لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم: لا لوم ولا عتاب اليوم، والجملة بمعنى أنه صفح عنهم وسأل الله أن يغفر لهم. (38) ولما فصلت العير: ولما غادرت القافلة أرض مصر. (39) لولا أن تفندون: الفند بمعنى الخرف، والمقصود بالجملة لولا أن تسفهوني وتنسبوا لي الخرف بما أقول. (40) تأويل رؤياي: تحقيق رؤياي. (41) وجاء بكم من البدو: البدو هنا بمعنى البادية. تعليق على الحلقة الرابعة والأخيرة من قصة يوسف وهذه حلقة من قصة يوسف أيضا وهي الأخيرة، ومعاني الآيات واضحة وقد احتوت حكاية ما كان بين يوسف وإخوته حينما جاءوا ليتموّنوا من مصر إلى أن عرّفهم بنفسه وأحضر أبويه وسائر أهله وأسكنهم في مصر. وفي الإصحاحات [42 و 43 و 44 و 45 و 46] من سفر التكوين المتداول حكاية ذلك مع شيء من الخلاف. ونعتقد أن ما جاء في الآيات هو ما كان متداولا وواردا في نسخة من التكوين، أو كان في أسفار وقراطيس أخرى. وفي كتب المفسرين روايات معزوة إلى ابن عباس وغيره والتابعين وعلماء الأخبار القدماء تدور في نطاق ما جاء في الآيات حيث يؤيد هذا كون ما جاء في الآيات كان متداولا. والآية الأخيرة تثير نفس الإشكال الذي تثيره الآية الأخيرة من قصة نوح في سورة هود. وقصة يوسف مذكورة بإسهاب في سفر التكوين اليوم وكان هذا السفر

[سورة يوسف (12) : الآيات 103 إلى 107]

متداولا بين أيدي الكتابيين الذين كان منهم جماعات كثيرة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم. وربما كانت واردة في قراطيس أخرى. ولا يمكن أن تكون مجهولة. والبيانات التي يرويها المفسرون عن علماء زمن النبي صلى الله عليه وسلم دليل على ذلك فلا مندوحة والحالة هذه من تأويل هذه الآية بمثل تأويل الآية الأخيرة من قصة نوح في سورة هود الذي سبق إيراده. ومما تخلل آيات الحلقة من العبر ما كان من إذن الله تعالى ليوسف بالكيد لإخوته مقابل كيدهم حيث ينطوي في هذا إذن مقابلة العدوان والكيد بالمثل. ومنها التعقيب المباشر في آخر الآية [76] الذي ينطوي فيه بليغ التلقين والتنبيه والتأديب لكل من يتسم بالعلم أو يدعيه بأن لا يغلو في دعواه ولا يظنن أنه بلغ من العلم الغاية، وأنه مهما بلغ فيجب عليه أن يتيقن أنه لا بد من أن يكون من هو أعلم منه أو أن هناك ما يمكن أن لا يكون عالما به. ومنها ما كان من ندم أخي يوسف الكبير أولا ثم بقية إخوته على ما فعلوه في يوسف واعترافهم بخطئهم له ولأبيهم وطلبهم الاستغفار لهم حيث ينطوي في هذا حث على وجوب الاعتراف بالذنب والتوبة إلى الله منه. ومنها ما كان من أمر يعقوب لبنيه بالبحث والتحري وعدم اليأس من روح الله حيث ينطوي في هذا تلقين عام بالأمل دائما في رحمة الله وفرجه. ومنها تنويه يوسف بعاقبة المحسنين الصابرين المتقين، وعناية الله به بسبب ذلك حيث ينطوي في هذا حث على الصبر في الشدائد وتقوى الله في كل حال وبشارة مستمرة للصابرين المتقين المحسنين. [سورة يوسف (12) : الآيات 103 الى 107] وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107)

تعليق على الآيات التي أعقبت قصة يوسف

(1) ولو حرصت: مهما اشتد حرصك. (2) غاشية: ما يغشى الناس ويحل بهم أو يظلهم. تعليق على الآيات التي أعقبت قصة يوسف احتوت الآيات تقريرات عن حقيقة موقف أكثر الناس من سامعي القرآن وهم الكفار وقد وجه الخطاب في الآيتين الأولى والثانية منها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فمهما اشتد حرصه على هداية الناس فإن أكثرهم بعيد عن التصديق والإيمان، في حين أنه لا يطلب منهم أجرا ولا ينتظر لنفسه نفعا، وليست رسالته ودعوته إلا لخيرهم وتذكيرهم وإرشادهم ولخير العالمين جميعا وتذكيرهم. وغفلتهم ليست قاصرة على التصامم الذي يبدونه إزاء الدعوة النبوية ففي السموات والأرض كثير من الآيات والبراهين التي من شأنها أن تسترعي الأذهان وتنبه العقول وتوقظ الضمائر ومع ذلك فإنهم يمرون عليها غافلين غير آبهين ولا متذكرين. بل إن غفلتهم ليست قاصرة على هذا وذاك. فإنهم مع اعترافهم بالله وزعمهم أنهم يؤمنون به فإن قلوبهم غافلة عن مقتضيات هذا الإيمان بدليل أن تصرفهم هو تصرف المشركين حيث يشركون مع الله في عبادتهم واتجاههم شركاء غيره، وقد انتهت الآيات بالتساؤل الذي ينطوي على التقريع والإنذار، فهذا الموقف الذي يقفونه لا يقفه إلّا من أمن عذاب الله في الدنيا، أو مفاجأة الساعة الرهيبة التي يأتي عذاب الله الخالد بعدها، فهل أمنوا ذلك العذاب أو هذه المفاجأة حتى يقفوا هذا الموقف العجيب؟. وواضح أن الآيات قد استهدفت تطمين النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته في موقفه إزاء وقوف أكثر العرب موقف التصامم من دعوته والانصراف عنها ومناوأتها، وتقريع الكفار وشرح مهمة النبي صلى الله عليه وسلم بجلاء وصراحة وهي الدعوة إلى الله دون انتظار أجر أو نفع.

استطراد إلى ما يفعله بعض المسلمين من أفعال فيها سمة من سمات الشرك

ومع أنه يبدو أن لا رابطة بين هذه الآيات والسلسلة القصصية الطويلة التي سبقتها فإنه يلمح أن بين الآية الأخيرة من السلسلة والآية الأولى من هذه الآيات رابطة ما. فتلك تتضمن توكيد كون السلسلة وحيا ربانيا، وهذه تذكر أن أكثر الناس مع ذلك لا يؤمنون بهذا الوحي الذي ينزل بالقرآن. كما أن الآية الأخيرة من السورة التي هي جزء منسجم من الآيات التي جاءت بعد السلسلة القصصية قد ربطت بينهما بما احتوته من التنبيه إلى ما في قصص القرآن من العبرة، ومن التأكيد بأنها ليست حديثا مفترى ولكنها وحي من الله سبحانه لتكون هدى ورحمة للمؤمنين حيث يسوغ كل هذا القول إن هذه الآيات وما بعدها قد جاءت بمثابة التعقيب على السلسلة القصصية. ولقد أعقبت آيات قصة موسى وفرعون في سورة القصص التي بينها وبين هذه السورة تشابه من حيث البداية والدخول رأسا في موضوع القصة آيات ربطت بين هذه القصة وما بعدها ربط تعقيب واستطراد. وهكذا يبدو الانسجام رائعا في النظم القرآني. استطراد إلى ما يفعله بعض المسلمين من أفعال فيها سمة من سمات الشرك ولقد استطرد ابن كثير في سياق الآية وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ إلى ما يفعله كثير من المسلمين من أفعال يرتكسون فيها بشكل ما في الشرك كالحلف بغير الله والاستعانة والتعلق بغير الله وتعليق التعاويذ والرقى والتمائم والتطير وسؤال العرافين والكهان والرياء فيما يباشرونه من أعمال فيها طاعة ويكون قصدهم اكتساب المديح والشهرة دون ابتغاء مرضاة الله تعالى. وأورد في ذلك أحاديث نبوية عديدة منها حديث رواه مسلم عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله قال الله تبارك وتعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» . وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن ابن عمر قال: «سمعت رسول الله يقول من حلف بغير الله فقد أشرك» . وحديث رواه أبو داود عن

[سورة يوسف (12) : آية 108]

قبيصة قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول العيافة والطيرة والطرق من الجبت» . وحديث رواه مسلم وأحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد» . وحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود جاء فيه: «إن الرقى والتمائم شرك» . وحديث رواه الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «من تعلق شيئا وكل إليه» . وحديث رواه الإمام أحمد أيضا جاء فيه: «من علق تميمة فقد أشرك» . وحديث رواه الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء» . وحديث رواه الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا الشرك فهو أخفى من دبيب النمل» . وفي رواية «الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل» . والاستطراد سديد، وفي الأحاديث تحذير للمسلمين من الارتكاس في هذه الأفعال التي فيها سمة ما من سمات الشرك. [سورة يوسف (12) : آية 108] قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) أمرت الآية النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلن للناس هدف مهمته، وهو الدعوة إلى الله وحده دعوة جلية صريحة، وتنزيهه عن الشركاء وبراءته من الشرك والمشركين، وثباته هو ومن آمن به على هذه السبيل الواضحة مهما أصر المشركون على موقفهم وظلوا في غفلتهم عن تدبر الأمور وإدراك الحقائق والاستجابة إلى الدعوة. والصلة بين الآية والآيات السابقة واضحة وفيها استمرار في تطمين النبي صلى الله عليه وسلم وتسليته وتثبيته وشرح لمهمته. توضيح لمدى سبيل الله وواجب المسلمين عامة والدعاة الإصلاحيون منهم خاصة إزاء الدعوة إليها والثبات عليها وسبيل الله التي أمر الله رسوله بأن يقول إنه يدعو إليها هو ومن اتبعه هي الرسالة الإسلامية وما انطوى فيها من مبادئ إيمانية وسياسية واجتماعية واقتصادية

[سورة يوسف (12) : آية 109]

وأخلاقية وسلوكية ويكون في الآية والحالة هذه خطاب لكل مسلم ومسلمة في كل ظرف ومكان بوجوب الدعوة إليها والاستمرار والثبات عليها. ولا تخلو الآية بالإضافة إلى ذلك من تلقين مستمر المدى لكل داع مصلح من المسلمين إلى سبيل الله هذه بوجوب الثبات على دعوتهم الإصلاحية وعدم المبالاة بمن خالفها وناوأها. والله أعلم. [سورة يوسف (12) : آية 109] وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) في الآية تقرير بأن الله تعالى لم يرسل من قبل النبي صلى الله عليه وسلم إلا رجالا مثله من أهل البلاد. وسؤال يتضمن معنى التنبيه والإنذار عما إذا كان الكفار لم يطوفوا في البلاد ولم يروا عاقبة الأمم التي وقفت مثل موقفهم مما لا يصح أن يكون من عاقل. وتقرير آخر بأن الدار الآخرة هي خير وأفضل للذين اتقوا الله، وأن عليهم أن يعقلوا هذه الحقيقة أيضا وقد تضمنت جملة أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) [109] تبكيتا للكفار الذين خوطبوا بها لأنهم لم يدركوا هذه الحقيقة. والآية متصلة بالسياق كما هو المتبادر وفيها استمرار في تطمين النبي صلى الله عليه وسلم وقد تضمن السؤال الوارد فيها معنى التقرير بأن الكفار قد طافوا في الأرض ورأوا بأعينهم مشاهد تدمير الله للأقوام السابقين، وفي هذا حجة ملزمة كما هو ظاهر. [سورة يوسف (12) : آية 110] حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لقد تعددت التأويلات المروية للشطر الأول من الآية كما تعددت الروايات في قراءة (كذبوا) حيث قرئت بضم الكاف وتشديد الذال كما قرئت بفتح الكاف والذال وتخفيف الذال تبعا للتأويلات المروية. ومن هذه التأويلات ما روي عن

ابن عباس وهو أن معنى الآية: «حتى إذا يئس الرسل من أن يستجيب قومهم لهم وظنّ قومهم أن رسلهم قد كذبوا عليهم بما أوعدوهم به من عذاب» ومنها تأويل آخر عن ابن عباس أيضا: «حتى إذا يئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا (بفتح الكاف) بما وعدوا به الكافرين والمؤمنين من عذاب للأولين ونجاة للآخرين بسبب إبطاء الله تعالى في تحقيق ذلك» . وعلل ابن عباس حسب الرواية موقف الرسل هذا بأنه مظهر من مظاهر الضعف البشري. ومن التأويلات تأويل مرويّ عن عائشة: «حتى إذا يئس الرسل وظنّ من آمن بهم من قومهم أنهم كذبوا عليهم بسبب تأخر ما وعدوا به» . وعللت عائشة حسب الرواية تأويلها بتنزيه الرسل عن الظن بأن الله أخلف بما وعدهم. ومن التأويلات تأويل عن الحسن: «أن الرسل لما يئسوا من قومهم واستيقنوا من تكذيبهم لهم أنهم لا يرجى منهم إيمان وخير أرسل الله عليهم عذابه فنجّى المؤمنون وأهلك المجرمون» . ونحن نرى هذا التأويل أوجه التأويلات. وقد فسر الحسن كلمة (ظنوا) بمعنى (استيقنوا) وهو صواب يزول به على ما يتبادر لنا الإشكال الذي يبدو أن المؤولين رأوه في الآية. وعلماء اللغة يقررون أن فعل (ظن) يأتي بمعنى (أيقن) ، وقد جاء في هذا المعنى في سورة الكهف وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53) . وهكذا تكون الآية قد احتوت تقرير سنة الله تعالى من أنبيائه وأقوامهم، فقد كان معظم الأنبياء يدعون أقوامهم وظل معظم أقوامهم يقابلون الدعوة بالعناد والمناوأة فكان كل ما انقطع أمل الرسل من ارعواء أقوامهم واستيقنوا أنهم لن يلقوا من قومهم إلّا التكذيب جاءهم نصر الله فكان فيه تدمير المجرمين المكذبين ونجاة الرسل والمؤمنين. وهذه الصورة هي غالبية صور الأنبياء وأقوامهم كما حكاها القرآن مكررا في سور عديدة. وتكون الآية بذلك متصلة هي الأخرى بالسياق السابق، ومعقبة عليه وفيها تطمين وتثبيت وبشرى للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وإنذار للكافرين المكذبين المجرمين.

[سورة يوسف (12) : آية 111]

[سورة يوسف (12) : آية 111] لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) قررت الآية أن في قصص الرسل وأممهم التي يقصها القرآن عبرة وموعظة ينتفع بهما ذوو العقول، وأن ما يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن وما يدعو إليه ليس بدعا أو افتراء وإنما هو متطابق مع ما جاء في الكتب التي سبقت القرآن والأنبياء الذين نزلت عليهم، وأن فيه تفصيل كل شيء وفيه الهدى والرحمة لمن طابت سريرته ورغب في الهدى والإيمان. وقد جاءت الآية خاتمة قوية للآيات التي أعقبت السلسلة القصصية وخاتمة قوية للسورة، ورابطة بين هذه السلسلة وبين الآيات التي جاءت بعدها، وداعمة للهدف القرآني العام من القصص وهو العبرة والموعظة بما في ذلك قصة يوسف التي هي موضوع السورة. وقد صرف معظم المفسرين «1» جملة ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى إلى القرآن عامة سواء في ذلك محكمه ومتشابهه وقصصه وغير قصصه، وفي هذا الصواب والحق على ما هو المتبادر. وقد تبادر لنا إلى ذلك كله أن في جملة ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ، دلالة على أن ما جاء في السورة من قصة يوسف أو ما جاء في السور الأخرى من قصص أخرى قد جاء في كتب وروايات سابقة للقرآن وليس فيه افتراء. وإذا صح هذا فيكون قرينة قرآنية على صحة ما قررناه في بحث القصص القرآنية في سورة القلم ونبهنا عليه في المناسبات العديدة الأخرى من أن هذه القصص مما كان متداولا معروفا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم روايات على الألسنة وتسجيلات في كتب سابقة. والله تعالى أعلم.

_ (1) انظر كتب التفسير السابق ذكرها آنفا. الجزء الرابع من التفسير الحديث 3

سورة الحجر

سورة الحجر في السورة حكاية لبعض أقوال الكفار ومناظراتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ولفت نظر إلى عظمة الله تعالى في كونه. وتذكير بقصة آدم وإبليس. وتذكير بمصائر بعض الأمم التي يمرّ العرب بديارهم المدمرة. وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وتبشيرهم وإنذار ووعيد للكافرين. وفصول السورة مترابطة وآياتها متوازنة. وهذا وذاك يلهمان أنها نزلت دفعة واحدة أو فصولا متتابعة حتى تمّت، والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآية [87] مدنية. وانسجامها التام في السياق والموضوع يسوغ الشك في الرواية. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5) (1) ربما: هنا بمعنى توقع الندم. (2) كتاب معلوم: بمعنى أجل معين ومعلوم عند الله. بدأت السورة بحروف الألف واللام والراء التي بدأت بها السور الثلاث السابقة لها استرعاء لما يأتي بعدها على ما رجحناه في أمثالها. ولعل ذلك من

قرائن تتابع السور الأربع في النزول الذي ذكرته الروايات، وقد أعقب الحروف إشارة تنويه وإشارة إلى آيات الكتاب والقرآن البليغة الواضحة مما جاء كذلك في مطالع السور الثلاث السابقة. واحتوت الآيات الأربع التالية: تقريرا ربانيا يتضمن معنى الإنذار بأنه سيأتي على الكفار يوم يتمنون فيه لو كانوا مسلمين ندما على ما كان منهم وتفاديا من العذاب الذي عرفوا أنه واقع عليهم، وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يدعهم يأكلون ويتمتعون ويتلهون بالآمال فلن يلبثوا أن يعلموا ويروا ذلك اليوم الرهيب. وتقريرا ربانيا بأن الله تعالى إذا لم يعجل لهم العذاب فإن ذلك لما اقتضته حكمته، وإن هلاك الأمم من قبلهم كان منوطا بآجال معينة في علمه، فلا تتقدم أمة عن أجلها ولا تتأخر عنه، وينطوي في هذا إنذار آخر كما هو المتبادر. وواضح أن الآيات في صدد إنذار الكفار ووعيدهم بما ينتظرهم من المصير الرهيب الذي صار إليه من قبلهم. وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتطمينه. وهي مقدمة لما يأتي بعدها من حكاية أقوال الكفار ومواقفهم. وهذه ثاني مرة يجتمع فيها تعبيرا (الكتاب) و (القرآن) في آية واحدة، وقد أشرنا إلى ما يمكن أن يكون في ذلك من حكمة في سياق تفسير الآية الأولى من سورة النمل التي ورد فيها التعبيران معا فلا ضرورة للتكرار. ولقد أورد المفسرون في سياق الآية الثانية أحاديث عديدة في معان متقاربة منها صيغة رواها الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أخرج أهل التوحيد من النار وأدخلوا الجنة ودّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين» «1» . وينطوي في

_ (1) التاج ج 4 ص 137 والمتبادر أن المقصود بخروج أهل التوحيد من النار الذين كان عليهم ذنوب فأدخلوا النار لقضاء مدة ما عقابا عليها وهناك حديث رواه الشيخان عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من إيمان» التاج ج 1 ص 27.

[سورة الحجر (15) : الآيات 6 إلى 8]

الأحاديث تبشير وإنذار متساوقان مع ما استهدفته الآية كما هو المتبادر. [سورة الحجر (15) : الآيات 6 الى 8] وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) (1) الذكر: كناية عن القرآن. (2) لو ما: مرادفة «لولا» بمعنى هلا للتحدي. في الآيات حكاية لقول من أقوال الكفار وتحدياتهم حيث كانوا حينما يسمعون النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن ويقرر أنه وحي من الله يتحدونه مستهزئين معجزين بالإتيان بالملائكة ليؤيدوه إن كان صادقا في قوله، وينعتونه بالمجنون بسبب ما يخبر به ويقرره. وقد احتوت الآيات ردّا عليهم في صدد الملائكة بأن الله تعالى إنما ينزل الملائكة حينما يأتي الموعد المعين في علمه بالحق. وحينئذ لا يبقى إمكان لإمهال الكفار وتأجيل هلاكهم وعذابهم. ومع أن الله تعالى ينزل ملائكته بالحق في مهمات عديدة منها العذاب والتدمير على ما جاء في آيات كثيرة مرّت أمثلة منها في السور التي سبق تفسيرها فإن العبارة هنا تلهم أنها بسبيل العذاب والتدمير تنفيذا لوعيد الله واستهدافا لإنذار الكفار. ولقد قرئت كلمة (ننزل) بصيغة (تنزل) فيكون الملائكة (فاعلا) والمعنى يظل على حاله في صحة أيّة من القراءتين. ولم يرو المفسرون رواية ما في صدد نزول الآيات التي تلهم أنها بسبيل حكاية مشهد من مشاهد المناظرة الوجاهية بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار. وإذا صح هذا فتكون الآيات السابقة لها بمثابة مقدمة وتمهيد.

[سورة الحجر (15) : آية 9]

وتحدي الكفار النبي صلى الله عليه وسلم بالإتيان بالملائكة كدليل على صلته بالله تعالى قد تكرر منهم. وقد مر بعض أمثلة منه في سور هود والفرقان ويدل كما قلنا في المناسبات السابقة على عقيدة العرب بصلة الملائكة بالله تعالى أو بتعبير أدق باختصاص الملائكة بهذه الصلة. وقد تكررت كذلك حكاية نعت الكفار للنبي بالمجنون، وروح الآية هنا تلهم بأنهم أرادوا بالنعت في هذا الموقف التنديد على نحو ما يقال لمن يقول قولا عظيما ويقف موقفا غريبا لا عهد به على ما ذكرناه في مناسبات سابقة. [سورة الحجر (15) : آية 9] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) في الآية توكيد رباني بأن الله تعالى هو الذي ينزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم وبأنه سيحفظه ويؤيده مهما كان موقف الكفار منه. والآية متصلة بسابقاتها وبسبيل الردّ على الكفار الذين نعتوا النبي صلى الله عليه وسلم بالجنون وتحدوه بالإتيان بالملائكة حينما كان يقول إن القرآن منزل عليه من الله تعالى. تعليق على ما في آية إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ من معجزة ربانية عظمى ومع صلة الآية بسياق المناظرة بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار فإنها صارت عنوان معجزة ربانية عظمى في حفظ الله تعالى قرآنه المجيد من كل تبديد وتغيير وتحريف وزيادة ونقص مجمعا عليه في رسم واحد ونص واحد ومصحف واحد وترتيب واحد في مشارق الأرض ومغاربها، محتفظا بكل إشراقه وسنائه وروحانيته ونفس ألفاظه وحروفه وأسلوب ترتيله وتلاوته التي تلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبترتيبه الذي رتبه آيات في سور وسور في مصحف مما لم يتيسر لأي كتاب سماوي ولا لأي نبي.

وما روى من جمع المصحف وتدوينه في زمن أبي بكر ثم في زمن عثمان رضي الله عنهما ليس جمعا وتدوينا جديدين. وإنما هو نفس ما كان مجموعا مدونا مرتبا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكل ما تمّ في زمن أبي بكر هو أن كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على رأسهم أرادوا وقد انقطع الوحي القرآني بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحرروا نسخة تحفظ عند إمام المسلمين لتكون المرجع والإمام. وكل ما فعله عثمان وكبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أنهم أعادوا كتابة نسخة للمصحف الإمام بخط قريش وكتابتهم حتى لا يختلف المسلمون في قراءة القرآن وكتابته. وأمروا بإبادة أي مصحف مخالف له في الكتابة والإملاء ونسخ مصاحف جديدة عن هذه النسخة الجديدة «1» . وقد أطاع المسلمون الأمر فأبادوا ما لديهم من مصاحف مختلفة في الكتابة والإملاء ونسخوا مصاحفهم الجديدة عن مصحف عثمان وهو المصحف المتداول الآن من لدن ذلك العهد. وكل ما يقال خلاف ذلك غير صحيح البتة. لأنه لو كان هناك مصاحف مخالفة له لبقيت ثم ظهرت وتداولت وهذا لم يحدث. وليس من الممكن أن يكون عمال عثمان قد مشطوا كل بيت في كل مدينة وقرية وبادية في مشارق الأرض ومغاربها التي انتشر فيها المسلمون في عهد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ليبعدوا أي مصحف مخالف لمصحف عثمان. فظل هذا المصحف الذي هو نفس المصحف المرتب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مرجع كل خلاف وحكما في كل نزاع بين المسلمين على اختلاف فرقهم وأهوائهم، والقول الفصل في كل مذهب وعند كل نحلة من مذاهبهم ونحلهم على كثرتها منذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليوم وإلى ما شاء الله لهذا الكون أن يدوم. ويكفي لتبين خطورة المعجزة الربانية العظمى أن يذكر المرء ما كان من فتن وخلاف وشقاق وحروب وتنافس في سبيل الحكم والسلطان منذ صدر الإسلام الأول، وما كان من اجتراء أصحاب الأهواء في ذلك العهد وبعده على رسول الله صلى الله عليه وسلم والكذب عليه في وضع

_ (1) اقرأ كتابنا القرآن المجيد ص 52- 115 ففي هذا الفصل دلائل من القرآن والحديث على أن القرآن كان يدون بصورة منتظمة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه هو الذي رتب آياته في السور وسوره في المصحف.

الأحاديث المتضمنة تأييد فئة على فئة، ورأي على رأي، ودعوة على دعوة، وما كان من وضع الأحاديث والروايات لصرف آيات القرآن إلى غير وجهها الحق وتأويلها بغير وجهها الحق بسبيل ذلك، وما كان من استعلاء قوم على قوم وشيعة على شيعة استعلاء القوة والسلطان، مع اشتداد العداء والتجريح واشتداد تيار الأحاديث المفتراة، وكان ممن صار له السلطان القوي الواسع المديد فئات كانت تقيم دعوتها على صرف تلك الآيات إلى هواها وتأويلها بغير وجهها الحق والاجتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بسبيل ذلك، وأن يذكر أن هذا كان في وقت لم يكن القرآن فيه مطبوعا ولا مصورا، ولم يكن من المستحيل فيه أن يجرأ الذين اجترءوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكذبوا عليهم وصرفوا الآيات القرآنية إلى غير وجهها الحق- على كتاب الله تعالى فيغيروا ويبدلوا ويزيدوا وينقصوا تبديلا جوهريا سائغا على المسلمين مؤيدا لأهوائهم، وينشروا به مصاحف عديدة وبخاصة في الآيات التي حاولوا صرفها عن وجهها الحق إلى تأييد أهوائهم ودعوتهم، أو إضعافها لتكون أكثر مطابقة مع الوجوه التي أريد صرفها إليها سلبا وإيجابا، ونفيا وإثباتا، وفي وقت كانت الكتابة العربية سقيمة ولم يكن قد اخترع النقط والشكل وكان التشابه بين الحروف كثيرا واحتمال اللبس قويا. ولقد حفظت ببركة هذه المعجزة الربانية اللغة العربية- التي نزل بها- قوية مشرقة بكل ما وصلت إليه من سعة وبلاغة ودقة ونفوذ وعمق ونصاعة وضوابط لتظل لغة الأمة العربية الفصحى في كل صقع وواد، وفي كل دور وزمان، وهو ما لم يتيسر للغة أمة من أمم الأرض، ولتكون إلى ذلك لغة عبادة الله لجميع الأمم الإسلامية المنتشرة في أنحاء الأرض خلال ثلاثة عشر قرنا، ثم خلال القرون الآتية، بل ولتترشح لتكون لغة العالم الإسلامي بل لغة الإنسانية حينما يأذن الله بتحقيق وعده وإظهار الإسلام على الدين كله كما جاء في آيات عديدة، منها آية سورة الفتح هذه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) . وحفظت ببركتها الأمة العربية قوية الحيوية صامدة أمام ما وقع عليها من

نكبات وتسلل فيها من عناصر غريبة، محتفظة بمواهبها العظيمة وخصائصها القومية التي كان من مظاهرها أن اصطفى خاتم الأنبياء منها، وأن نزل آخر كتاب سماوي بها مصدقا لما قبله ومهيمنا عليه، وأن حملت عبء الدعوة إلى الله ونشر رسالته المتممة لما سبقها والتي بقيت نقية صافية كما هي في منبعها الأول الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وأن ترشحت بذلك لتكون خير أمة أخرجت للناس إن هي قامت بما حملها إياه القرآن من ذلك العبء ودعت إلى الخير وأمرت بالمعروف ونهت عن المنكر. وتحميل القرآن الأمة العربية هذا العبء الذي غدت به وحده فقط ذات رسالة عالمية خالدة كما ورد في القرآن صراحة وضمنا ومن ذلك آيات سورة الزخرف [43- 44] وآية سورة الحج [78] . نقول هذا ونحن نعرف أن هناك بعض روايات تروى عن بعض آيات وكلمات وحروف مختلف عليها في القرآن. وأن بعض المستشرقين والمبشرين تقولوا بعض الأقوال في صدد ذلك، غير أن هذا وذاك لا يمس جوهرا، وليس من شأنه أن ينقض المعجزة الربانية العظمى. وهو من الضالة والقلة إلى درجة لا تكاد تكون شيئا بالنسبة للمجموع، كما أنه لا يثبت على النقد والتمحيص، وهناك مستشرقون منصفون زيفوا بقوة الأقوال الصادرة عن الهوى والغرض والحقد والتعصب «1» . وكذلك نعرف أن غلاة الشيعة الباطنيين يزعمون أنه كان في القرآن آيات وفصول كثيرة في إمامة علي وأولاده وحقوقهم ومركزهم عند الله ورسوله ثم في حق كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين منعوهم من حقوقهم بزعمهم أسقطت حينما جمع أبو بكر وعمر ثم عثمان رضي الله عنهم القرآن وكتبوه في مصاحف جديدة، بل بلغ بهم الزعم إلى حد أن المصحف لم يحتو إلا نصف ما نزل وأن

_ (1) اقرأ الفصل المذكور آنفا من كتابنا القرآن المجيد، واقرأ كتاب حياة محمد لمحمد حسين هيكل طبعة ثانية ص 25- 39.

الباقي أسقط لأنه في حق علي وأولاده وحقوقهم وإمامتهم وأعدائهم. وأن عليا جمع كل ما نزل مما أسقط ولم يسقط وأودعه أبناءه وهو محفوظ عندهم غير أن هذه المزاعم كاذبة جملة وتفصيلا. ومنحصرة كما قلنا في الغلاة غير الصادقين في إسلامهم الذين ترسموا الكيد للإسلام وهدمه والذين ليس لهم دين يردعهم عن الكذب على الله ورسوله وعليّ بن أبي طالب وأولاده، والذين كانوا يزعمونها وهم متيقنون كذبها ويعرفون أن جمهرة من أصحاب رسول الله كانوا يحفظون القرآن في حياة رسول الله وكان لهم مصاحف. وأن المسألة مسألة دين لا يمكن أن يغفل في أي حال تواطؤ أصحاب رسول الله عليها وهم الذين سجل الله رضاءه عنهم في آية سورة التوبة التي كانت من آخر ما نزل من القرآن: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) ومزاعمهم أوهى وأشد تهافتا وزيفا مما يتحمل نقدا وتفنيدا. ولقد انبرى لها كثير من العلماء وفندوها في كتب مشهورة متداولة. ولقد كان لأبناء علي بن أبي طالب سلطان قوي في بلاد إسلامية عديدة ولمدد غير قصيرة. ولو كان عندهم قرآن غير القرآن الذي كتب في عهد أبي بكر ثم في عهد عثمان ونسخ عنه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها مصاحفهم وحفظوه في صدورهم جيلا بعد جيل من لدن النبي صلى الله عليه وسلم لظهر. وهذه المزاعم منحصرة في الغلاة المارقين أما المعتدلون الذين هم جمهرة الشيعة فإنهم يعترفون كما ورد في كتب كثير منهم أن المصحف المتداول احتوى جميع ما بلغه رسول الله وبقي بعده دون رفع ونسخ ونقص وحسب ترتيبه. ويقفون عند ذلك وإن كانوا يؤولون كثيرا من آياته تأويلا يتوافق مع هواهم الحزبي «1» .

_ (1) انظر الجزء الثاني من كتاب التفسير والمفسرون للذهبي ومنهاج السنة لابن تيمية و «التحفة الإثني عشرية» لعبد العزيز غلام حكم الدهلوي بالفارسية وترجمته للأسلمي ومختصره للآلوسي وأجزاء كتاب الصراع بين الإسلام والوثنية للقصيمي.

[سورة الحجر (15) : الآيات 10 إلى 13]

[سورة الحجر (15) : الآيات 10 الى 13] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) (1) شيع الأولين: فرق الأولين المتنوعة، كناية عن الأقوام السابقة. (2) نسلكه: ندخله ونلقيه. في الآيات خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الله قد أرسل من قبله رسلا إلى الأمم السابقة فكانوا يستهزئون بهم ويعجزونهم كما يفعل قومه معه. وتقرير رباني بأن هذا هو دأب المجرمين الذين فسدت أخلاقهم وخبثت سرائرهم فلا يؤمنون بما يأتيهم من ذكر من ربهم وقد مضت سنة الله في أمثالهم الأولين. والآيات كذلك متصلة بالسياق، وقد استهدفت تطمين النبي صلى الله عليه وسلم وتقرير طبيعة الكفار الإجرامية، وتعليل عدم إيمانهم بذلك، والتنديد بهم وإنذارهم وسلكهم في سلك الأمم السابقة التي أهلكها الله بسبب إجرامها الذي أداها إلى عدم الإيمان بما أنزل الله من كتب وبينات. تعليق على مدى الآية كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ والآية التالية لها والآيتان [12- 13] شبيهتان بالآيتين [200 و 201] من سورة الشعراء. وقد جاء كل منهما بعد ذكر القرآن. ولذلك أولناهما هنا كما أولناهما هناك وصرفنا الضمير في نَسْلُكُهُ ولا يُؤْمِنُونَ بِهِ إلى القرآن الذي عبر عنه هنا بكلمة (الذكر) . ولقد اختلف المؤولون والمفسرون في عائدية الضمير في الكلمتين كما

اختلفوا في ذلك سياق آيات سورة الشعراء ولكن بعضهم توسع في الشرح والتعليق حيث قال الذين حرفوا الضمير في نَسْلُكُهُ إلى الكفر والشرك والاستهزاء إن الجملة تعني أن الله سبحانه أدخل الكفر والشرك والاستهزاء في قلوبهم وحسّنه لهم وأنها أبين آية في ثبوت القدر لمن أذعن للحق ولم يعاند. وأنكروا صرف الضمير إلى الذكر الذي قاله فريق آخر. وقالوا إن هذا هو قول المعتزلة «1» . والحق الذي تبادر لنا أن صرف الضمير إلى القرآن هو الأولى المتسق مع نظم الآيات ومقامها وإن في صرفه إلى الاستهزاء والكفر لورود صيغة (يستهزئون) تكلفا. وليس من شأن نسبته القول إلى المعتزلة أن نتحاشى تأييده. ونحن نتحاشى كل التحاشي من تعبير (إن الله قد حسن الكفر للكافرين وأدخله في قلوبهم) لمجرد الرغبة في إثبات القدر من العبارات القرآنية ونرى فيه شيئا من البشاعة. وننزه الله تعالى عنه وهو الذي يقول: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ الزمر: [7] ويقول: هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً [فاطر/ 39] . وفي القرآن مئات من الآيات التي تحمل الكفر والإجرام لأصحابهما وترتب عليهم عقابا بسببهما وحتى لو سلمنا جدلا أن صرف الضمير إلى الكفر والاستهزاء فلا يكون في ذلك الإثبات والبرهان اللذان التمسوهما من العبارة. لأنها تصف الكفار بالمجرمين وتكون من باب وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ إبراهيم: [27] ووَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ البقرة: [26] وكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ يونس: [33] والله تعالى أعلم.

_ (1) هذا ما قاله الخازن، وقد صرف الطبري والبغوي وابن كثير الضمير إلى الكفر والاستهزاء أيضا. أما الذين صرفوا الضمير إلى القرآن فهم الزمخشري والطبرسي ممن اطلعنا على كتبهم.

[سورة الحجر (15) : الآيات 14 إلى 15]

[سورة الحجر (15) : الآيات 14 الى 15] وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) (1) يعرجون: يصعدون. (2) سكرت: غطيت وأغلقت. في الآيات حكاية لما يقدّر أن يقوله الكفار لو فتح عليهم باب من السماء، ونصب بينه وبين الأرض سلّم ليصعدوا عليه إلى السماء حيث كانوا يقولون حينئذ إن أبصارنا قد سكرت وإنا مسحورون، وإن ما نشاهده هو تخييل ووهم. والآيات متصلة بالسياق كما هو المتبادر وهي بسبيل وصف شدة عناد الكفار ومكابرتهم والتنديد بهم، وبسبيل تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتسليته في الوقت نفسه. وفيها تدعيم ما لما أوّلنا به الآيات السابقة حيث انطوى فيها تقرير طبيعتهم الفاسدة التي تجعلهم لا يقنعون بأي آية من آيات الله. وتوكيد للحكمة التي نبهنا عليها في مناسبات سابقة في عدم استجابة الله تعالى لتحدي الكفار بالإتيان بالمعجزات والخوارق حيث علم الله أنها لن تكون سببا لإيمانهم. ولقد صرف بعض المؤولين كما جاء في تفسير الطبري وغيره الضمير في فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ إلى الملائكة بقرينة ذكرهم سابقا كما صرفه بعضهم إلى الكفار على ما جاء في الطبري وغيره أيضا. وهذا ما رجحناه في الشرح لأنه الأكثر اتساقا مع مجموع الآيات نصا وروحا، والله أعلم. [سورة الحجر (15) : الآيات 16 الى 27] وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27)

(1) رواسي: كناية عن الجبال. (2) موزون: أوجه الأقوال أن الكلمة بمعنى مقدر بحساب. (3) ومن لستم له برازقين: المقصود بذلك الحيوانات الأخرى. (4) لواقح: ملقحة أو مولدة. والمقصود بالجملة تقرير كون الريح يولد المطر ويسببه. (5) الوارثون: هنا بمعنى الباقون بعد فناء الناس. (6) صلصال: طين يابس إذا نقر عليه رنّ وصوّت. (7) حمأ: أسود اللون. (8) مسنون: مصبوب أو مصوّر. (9) الجان: لغة في الجن. (10) السموم: أوجه الأقوال أنها الريح الحارة التي تنفذ في المسامات أو تسمم الإنسان وتقتله. وأوجه الأقوال في (نار السموم) التي لها لهب وريح شديد الحرارة قاتل. تشير الآيات إلى مظاهر قدرة الله وعظمته وسننه الكونية ونعمه على البشر والمخلوقات الأخرى وتصرّفه في الكون تصرفا مطلقا، وعلمه الشامل المحيط بالناس سابقيهم ولا حقيهم وخلقه الإنس والجن وكونه مرجع كل شيء وأنه أزلي أبدي. وعباراتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. والمتبادر أنها جاءت معقبة على جميع الآيات السابقة التي حكت مواقف

تعليق على آية ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين والآيات التسع التالية لها

الكفار وعنادهم وإجرامهم بسبيل تقريعهم على هذه المواقف وتذكيرهم بعظمة الله واستحقاقة وحده للخضوع والعبادة. تعليق على آية وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ والآيات التسع التالية لها وما عدّد هنا من مظاهر قدرة الله تعالى قد تكرر في القرآن بأساليب متنوعة مرت أمثلة عديدة منها. وتضمنت جميعها لفت نظر الناس إلى ما يقع تحت أبصارهم ومشاهدتهم وحسهم، وتذكيرهم بشمول قدرة الله وعظمته ومطلق تصرفه وكونه الخالق المدبر الأزلي الأبدي، مما يؤيد ما قلناه غير مرة من أن القصد من ذلك هو العظة واسترعاء الأنظار والأذهان ودعوة الناس إلى الخضوع لله تعالى وحده، ونقول هنا ما قلناه في المناسبات السابقة المماثلة وبخاصة في سياق تفسير سورة القيامة إننا لا نرى طائلا من وراء محاولة استنباط نواميس الكون والخلق فنيا، والتوفيق بين ما هو معروف من هذه النواميس وبين ما في هذه الآيات وأمثالها، ولا من وراء محاولة استخراج قواعد فنية كونية منها. إذ أن كل هذا خارج عن نطاق هدف الآيات. ولقد علقنا على موضوع استراق الشياطين للسمع من السماء ورجمهم بالشهب بما فيه الكفاية في تفسير سورة الجن، كما علقنا بما فيه الكفاية كذلك على خلق الجن من النار والإنسان من الطين في تفسير سورة ص فلا نرى ضرورة للإعادة. وننبه فقط على أن ذكر خلق الإنسان من صلصال والجن من النار بين يدي ذكر قصة آدم وإبليس الواردة في الآيات التالية لهذه الآيات يجعل الهدف التمثيلي والتلقيني في القصة أكثر بروزا. ولقد روى الترمذي عن ابن عباس قال: «كانت امرأة حسناء تصلّي خلف النبي صلى الله عليه وسلم فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصفّ الأول لئلا يراها. وبعضهم

[سورة الحجر (15) : الآيات 28 إلى 44]

يتأخر فإذا ركع نظر من تحت إبطيه فأنزل الله الآية: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ الحجر: [24] «1» . والحادث المذكور في الحديث من أحداث العهد المدني. ولا خلاف في مكية الآية فضلا عن انسجامها كل الانسجام مع السياق نظما وموضوعا. ولقد أورد الطبري الحديث ومع ذلك فإنه صوب تأويل العبارة بعلم الله لكل خلقه سواء منهم من مضى أو لم يخلق. وهذا هو الحق الذي رأيناه وأثبتناه قبل. ولقد أورد الحديث ابن كثير وقال إن فيه نكارة شديدة، والله تعالى أعلم. [سورة الحجر (15) : الآيات 28 الى 44] وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) (1) بما أغويتني: أوجه الأقوال في تأويل الجملة أن إبليس اعتبر أمر الله تعالى إياه بالسجود لآدم سببا لغوايته فأقسم ليغوين ذريته انتقاما. (2) هذا صراط عليّ مستقيم: أوجه الأقوال في تأويل الجملة إن نهجي وتقديري في هذا الأمر واضح مستقيم لا تبديل فيه.

_ (1) التاج ج 4 ص 137.

تعليق على أبواب جهنم السبعة

(3) الغاوين: الضالين الذين سلكوا سبيل الغواية وانحرفوا عن الحق وطريق الهدى. في الآيات تذكير بقصة آدم وموقف الملائكة وإبليس من أمر الله تعالى بالسجود له وتوكيد رباني بأن الذين يتبعون إبليس وتزييناته وينحرفون عن طريق الحق والهدى هم الأشرار الغواة الذين فسدت أخلاقهم وحق عليهم بسبب ذلك عذاب جهنم، وبأن إبليس لن يكون له سلطان وتأثير على عباد الله الصالحين المخلصين الذين حسنت نواياهم وطابت أخلاقهم فاتبعوا الحق والهدى. والآيات كما يبدو جاءت استطرادية، حيث انتهت الآيات السابقة لها بذكر خلق الإنسان والجان، فجاءت هذه تستطرد إلى ذكر قصة آدم وإبليس اللذين يمثلان الإنس والجن. وقد جاءت القصة هنا كما جاءت في السور السابقة في سياق ذكر مواقف الكفار وتعجيزهم ومكابرتهم وقصد بها التذكير والعظة. ولقد أسهبنا في التعليق على القصة من وجهة الأهداف ومن وجهة الموضوع بما فيه الكفاية في تفسير سورة ص والأعراف والإسراء فلا نرى حاجة إلى إضافة شيء جديد هنا إلا التنبيه إلى أن في سبق القصة بذكر خلق الإنسان من صلصال والجان من نار بيانا جديدا، يجعل الصلة والحكمة في القصة واضحتين أكثر. تعليق على أبواب جهنم السبعة لقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون في صدد ذلك، وليس منها شيء صادر عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو وحده المصدر الصادق لتوضيح المشاهد الأخروية الغيبية، ومع واجب المسلم بالإيمان بما جاء في القرآن من ذلك ومنها أبواب جهنم السبعة والوقوف عنده بدون تخمين وإيكال تأويله إلى الله تعالى فقد يتبادر أن من حكمة ذكر ذلك كونه متساوقا مع ما شاءت حكمة الله من وصف مشاهد الآخرة بأوصاف الدنيا المألوفة على ما نبهنا عليه سابقا وكون قصد الآية مع السياق هو

تعليق على مدى جملة بما أغويتني

إرهاب الكفار وإثارة الخوف فيهم بتصوير مصيرهم في صحبة إبليس الذي كانوا يعرفونه عدوا لعينا هذا التصوير المفزع، والله تعالى أعلم. تعليق على مدى جملة بِما أَغْوَيْتَنِي ذكرنا في شرح الكلمات أوجه ما قيل في تخريج الجملة ونزيد هنا فنقول إنها حكاية لقول إبليس وليس في السياق إقرار لهذا القول. فتبقى من نوع حكاية أقوال الكفار والمشركين مثل: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ [الزخرف/ 20] و: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [النحل/ 35] وغيرهما. وقد سفّه الله قولهم في تتمة كل آية. وفي المقام الذي نحن فيه وفي المقام الذي جاءت فيه الجملة في سورة الأعراف [الآيات 16 وما بعدها] ردّ من الله على إبليس متمثل في الآيات [41- 44] هنا وفي الآية [19] في سورة الأعراف. فلا يبقى إشكال ولا محل لتمحل المتمحلين في صدد العبارة القرآنية. [سورة الحجر (15) : الآيات 45 الى 50] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50) (1) غلّ: حقد. (2) نصب: تعب ومشقة. في الآيات بيان لما سوف يلقاه المتقون في الآخرة من تكريم وأمن وخلود الجزء الربع من التفسير الحديث 4

في الجنات والعيون، والجلوس على الأسرّة هادئي البال قريري العين، وقد تطهروا من الغل والحقد وسائر الأعراض البشرية الدنيوية المكروهة، وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلن الناس أن الله هو الغفور الرحيم وأن عذابه هو العذاب الأليم. والمتبادر أن الآيات الأربع الأولى جاءت تتمة لما سبقها لمقابلة ذكر مصائر الكفار جريا على الأسلوب القرآني. أما الآيتان الأخيرتان فقد جاءتا كتعقيب ختامي للكلام انطوى فيه قصد إعلان الناس أن الله كما هو الغفور الرحيم للمخلصين والتائبين فإنه شديد العذاب للجاحدين الأشرار. وقد استهدفتا فيما استهدفتاه تثبيت المتقين المخلصين ودعوة للكفار والمذنبين إلى الإنابة إلى الله. ولعل في الآية جوابا ضمنيا لما يمكن أن يرد على بال إنسان ما ممّا قد يعتري المرء من أبدية حياة رتيبة ولو كانت نعيما من ملل حيث تطمئن أهل الجنة بأنهم لن يمسهم فيها نصب. وفي سورة فاطر التي مرّ تفسيرها زيادة وهي لا يمسهم فيها لغوب أيضا واللغوب بمعنى الإعياء الذي هو فوق التعب العادي وذلك في الآيتين [34- 35] . ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية [48] حديثا رواه مسلم أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ينادي مناد من أهل الجنة إنّ لكم أن تصحّوا فلا تسقموا أبدا وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا وإن لكم أن تنعموا فلا تبتئسوا أبدا» «1» . وهناك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم يصح إيراده في مناسبة الآيتين [46 و 47] جاء فيه: «إنّ أهل الجنة لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم واحدة يسبّحون لله بكرة وعشيا» «2» . حيث يتساوق الحديثان النبويان في التلقين والبشرى مع الآيات القرآنية. ولقد روى ابن كثير حديثين عن مصعب بن ثابت أخرج أولهما ابن أبي حاتم

_ (1) التاج ج 5 ص 383. (2) المصدر نفسه ص 375.

[سورة الحجر (15) : الآيات 51 إلى 56]

وثانيهما ابن جرير. وجاء في أولهما: «مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أناس من أصحابه يضحكون فقال اذكروا الجنة. اذكروا النار فنزلت نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50) الحجر: [49- 50] وفي ثانيهما: «طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أناس من أصحابه فقال: ألا أراكم تضحكون ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر رجع القهقرى قال إني لما خرجت جاء جبريل عليه السلام فقال يا محمد إن الله يقول لم تقنط عبادي، نبىء عبادي أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم» . والأحاديث ليست وثيقة وهي من المراسيل كما وصفها ابن كثير. ومقتضاها أن تكون الآيتان نزلتا لحدتهما مع أنهما منسجمتان مع ما قبلهما ومع ما بعدهما. ومن المحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تلاهما في موقف مماثل للموقف المروي فالتبس الأمر على الرواة إذا صح الحديث، والله أعلم. [سورة الحجر (15) : الآيات 51 الى 56] وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56) (1) وجلون: خائفون. هذه الآيات حلقة من سلسلة قصصية، ومعانيها واضحة. وفيها إشارة إلى قصة تبشير إبراهيم عليه السلام بغلام بعد أن شاخ ويئس من الإنجاب وقد جاء ذلك في سورة هود أيضا وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار. وفي الآيات شيء جديد وهو حكاية المحاورة بين إبراهيم عليه السلام وضيفه في صدد البشرى بالغلام، في حين أن سورة هود حكت المحاورة في صدد

[سورة الحجر (15) : الآيات 57 إلى 77]

ذلك بين زوجة إبراهيم والضيوف، وسفر التكوين المتداول اقتصر على حكاية هذه المحاورة دون تلك. ونعتقد أن تلك المحاورة أيضا كانت مما هو وارد فيما كان بين أيدي اليهود من نصوص لم تصل إلينا ومما هو متداول في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم. وفي هذه المحاورة مواضع عبر يتبادر لنا أن من أهداف الآيات دعوة سامعي القرآن إلى الاعتبار بها بدليل بدء الآيات بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإنباء السامعين بالقصة. وهذه العبر هي التأميل في رحمة الله والنهي عن القنوط منها، وتقرير كون الأمل متلازما مع الإيمان، والقنوط متلازما مع الكفر والضلال. وبهذا تبدو حكمة تكرار القصص وتنوع أساليبها كما هو ظاهر. [سورة الحجر (15) : الآيات 57 الى 77] قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) (1) منكرون: مجهولون.

(2) جئناك بما كانوا فيه يمترون: جئناك بما كان قومك يرتابون به ويكذبون ويجادلون فيه وهو عذاب الله. (3) مصبحين: عند الصباح. (4) يستبشرون: مظهرون فرحهم لأنهم ظنوا أنهم سيظفرون بالضيوف لقضاء وطرهم منهم على عادتهم القبيحة. (5) مشرقين: عند الإشراق. (6) المتوسمين: المتفكرين المتفرسين أو المتأملين في حقائق الأمور وعبر الدهر. (7) وإنها لبسبيل مقيم: كناية عن بلاد لوط التي دمرها عذاب الله، فهي قائمة على طريق معروف للسامعين «1» . وهذه حلقة ثانية من سلسلة القصص، وقد احتوت قصة لوط وقومه ومهّد لها بالمحاورة في صدد قوم لوط بين إبراهيم ورسل الله. ومعاني الآيات واضحة ومعظم ما جاء هنا قد جاء في سورة هود أيضا مع بعض الخلاف الأسلوبي الذي اقتضته حكمة التنزيل وقد علّقنا على القصة في سياق تفسير سورة هود بما يغني عن التكرار. والجديد فيها الإشارة إلى أن قوم لوط كانوا يمارون في عذاب الله الذي توعدهم به، وأن بلادهم هي على طريق معروف ففي النقطة الأولى إنذار للكفار العرب الذين كانوا يمارون مثلهم فيما كانوا يوعدون من عذاب الله ويستهزئون به. وفي الثانية تذكير لهؤلاء ببلاد قوم لوط التي هي في طريق قوافلهم والتي يشاهدون آثار تدمير الله فيها. ففي كل ذلك موعظة لمن يفكر ويتفرس في الأمور، وآية للمؤمنين. ولقد جاء هذا التذكير في آيات سورة الصافات [133- 138] بأسلوب أكثر صراحة.

_ (1) انظر تفسير الآيات في ابن كثير والطبرسي والبغوي.

[سورة الحجر (15) : الآيات 78 إلى 79]

ولقد أورد الطبري وابن كثير وغيرهما في سياق الآية [75] أحاديث نبوية منها حديث رواه الترمذي أيضا عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «اتّقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ثمّ قرأ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ «1» وأوردوا حديثا آخر أخرجه الحافظ أبو بكر البزار عن أنس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لله عبادا يعرفون الناس بالتوسّم» . ورواة الأحاديث من أهل العهد المدني فتكون قد صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا العهد. وفيها استيحاء نبوي من الآية فيه تنويه بما يكون للإيمان من أثر في صاحبه حتى ليجعله ذا نفوذ وصدق ونظر وقول وحكم. [سورة الحجر (15) : الآيات 78 الى 79] وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79) (1) إمام مبين: أيضا بمعنى طريق واضح «2» حيث كانت منازل أصحاب الأيكة في طريق قوافل العرب في جهات العقبة. الآيتان من السلسلة القصصية وفيهما إشارة خاطفة إلى أصحاب الأيكة وانتقام الله منهم كما اقتضته حكمة التنزيل. وأصحاب الأيكة هم أهل مدين قوم شعيب على الأرجح على ما شرحناه في سياق سورة الشعراء التي ذكروا فيها مع اسم شعيب. ومدين واقعة في جهات العقبة على طريق قوافل العرب أيضا. وقد استهدفت الآيتان تذكير العرب بنقمة الله التي حلّت بأهلها والتي يرون آثارها حينما يمرون ببلادهم نتيجة لظلمهم وإنذارا لهم.

_ (1) التاج ج 4 ص 137 و 138 وفي صيغة الطبري زيادة (وينطق بتوفيق الله) . (2) انظر تفسير الآيات في ابن كثير والطبرسي والبغوي.

[سورة الحجر (15) : الآيات 80 إلى 84]

[سورة الحجر (15) : الآيات 80 الى 84] وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84) والآيات آخر حلقات السلسلة ومعانيها واضحة، وقد احتوت خبر تكذيب أصحاب الحجر لرسلهم وإعراضهم عن آيات الله وحلول عذاب الله فيهم نتيجة لذلك، دون أن يغني عنهم ما كسبوا وما نحتوا من البيوت في الجبال. وقد استهدفت- على ما هو المتبادر- تذكير كفار العرب وإنذارهم كما استهدفته الحلقات السابقة. وأصحاب الحجر هم على الأرجح قبائل ثمود قوم صالح الذين ذكرت قصتهم مع نبيهم في سورة هود والشعراء والنمل والأعراف وغيرها. لأن نحت البيوت في الجبال قد كان ممّا وصف به ثمود قوم صالح في سور هود والشعراء والأعراف. وبلادهم تعرف اليوم بمدائن صالح. وهي الأخرى واقعة في طريق القوافل العربية من الحجاز إلى بلاد الشام حيث تكون القصة بالأسلوب الذي جاءت به قد استهدفت تذكير كفار العرب بالدمار الرباني الذي حلّ بهذه البلاد والذي يشاهدونه في ذهابهم وإيابهم نتيجة لتكذيبهم لرسل الله وإعراضهم عن آياته. هذا، ويلحظ أن حلقة القصص استهدفت في هذه السورة التذكير بالأمم التي كانت تقطن المناطق الواقعة في طريق القوافل الحجازية، والآيات تلهم أن العرب كانوا يعرفون ويعترفون بأن ما حلّ في هذه البلاد من التدمير الذي كانوا يشاهدون آثاره كان عذابا ربانيا ومن هنا جاء الإنذار محكما والحجة قوية. وآيات سورة الصافات [132- 138] ذكرت ذلك صراحة: وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) وفي سورة العنكبوت مثل هذه الصراحة

[سورة الحجر (15) : الآيات 85 إلى 86]

بالنسبة لعاد وثمود: وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ [38] . [سورة الحجر (15) : الآيات 85 الى 86] وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86) (1) فاصفح الصفح الجميل: المتبادر أن الجملة في معنى «واهجرهم هجرا جميلا» التي شرحناها في سورة المزمل. في الآيتين توكيد رباني بأن الله تعالى لم يخلق السموات والأرض وما بينهما عبثا، وإنما خلقهما بالحق ولحكمة جليلة لا بد من تحقيقها، وبأن الساعة التي يبعث الناس فيها آتية من دون ريب، وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالإغضاء عن مواقف الكفار المثيرة المعجزة وعدم الاغتمام والحزن منها، والمرور بها مرّ الكرام، فربّه هو الذي خلق الناس جميعا وهو العليم بأمورهم خفيها وعلنها. والمتبادر أن الآيتين جاءتا معقبتين على موقف الكفار الذي حكته الآيات السابقة لسلسلة القصص بسبيل تطمين النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته وإنذار الكفار وتوكيد تحقيق ما يوعدون به. والمتبادر كذلك أن الآيات عنت بالساعة الآتية أنها من ذلك الحق الذي لم يكن عبثا من الله. وقد تكرر هذا في آيات عديدة مرّ بعضها في السور التي سبق تفسيرها وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار. ولقد ذكر المفسرون أن جملة فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ نسخت بآيات القتال وقد علقنا على مثل هذا في مناسبات سابقة بما يغني عن التكرار أيضا والجملة في مقامها قد توخت كما قلنا تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم في الدرجة الأولى. [سورة الحجر (15) : الآيات 87 الى 89] وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)

تعليق على جملة ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم

(1) أزواجا منهم: بمعنى أصناف أو جماعات منهم. الآيات استمرار في التعقيب وفي تطمين النبي صلى الله عليه وسلم وتسليته. فقد كرمه الله وحباه بما آتاه من المثاني السبع والقرآن العظيم. فعليه أن يستمر في دعوته إلى الله تعالى وإعلان أنه نذير للناس من قبل الله، وأن يخفض جناحه للذين آمنوا وصدقوا ويغدق عليهم عطفه وبره، وألّا يبالي ولا يحزن مما يبدو من الكفار من عناد وإعراض ولا بما يتمتع به بعضهم من المال والجاه. فما آتاه الله خير وأبقى وما أوتوه عرض زائل لا يعني رضاء الله وإنما أوتوه باقتضاء حكمته ونواميس كونه. تعليق على جملة وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ وقد تعددت الروايات والأقوال في «المثاني السبع» فروي أنها الفاتحة استنادا إلى حديث رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «أم القرآن هي السبع المثاني» «1» . وأن تسميتها بالسبع المثاني لأنها تثنى في الصلاة فتقرأ في كل ركعة أو لأن فيها ثناء على الله تعالى وهي سبع آيات. وروى بعضهم أنها السور السبع الطوال وأنكر بعضهم هذا القول لأن سورة الحجر نزلت قبل نزول السور السبع الطوال التي هي مدينة «2» .

_ (1) انظر تفسير الآية في تفسير البغوي. وقد جاء هذا الحديث في التاج برواية الترمذي بهذه الصيغة: «عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أمّ القرآن وهي السبع المثاني وهي مقسومة بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل» التاج ج 4 ص 138. (2) انظر كتب تفسير الطبري وابن كثير والطبرسي والخازن والزمخشري. [.....]

تعليق على الآية لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم

والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآية [87] التي فيها الجملة مدنية، ولعل ذلك بسبب ما روي من أن السبع المثاني هي السبع الطوال. ومعظم الأقوال تؤيد كون المقصود من الجملة سورة الفاتحة، وهو الأوجه والأرجح عندنا أيضا. ولا سيما أن السبع الطوال لم تصبح كذلك إلّا بعد ترتيب القرآن آيات في سور وسورا في مصحف. وهذا إنما تم في أواخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ولذلك فإن إنكار صرف الجملة إليها في محله، ويتبع هذا إنكار رواية مدينة الآية. تعليق على الآية لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ روى ابن كثير في صدد الآية حديثا جاء فيه: «إن النبي صلى الله عليه وسلم ضافه ضيف ولم يكن عنده شيء فأرسل إلى رجل من اليهود يستلف منه دقيقا فقال لا إلّا برهن فرجع فأخبر النبي بجوابه فقال أما والله إني لأمين من في السماء وأمين من في الأرض ولو أسلفني لأديت له فلما خرج الرجل نزلت الآية» . والحديث ليس من الصحاح والحادث المذكور فيه مدني والآية مكية لا خلاف فيها وهي منسجمة نظما وسياقا مع ما قبلها ومع ما بعدها. فضلا عن أن الحديث لا يتناسب مع مدى الآية. ولقد ورد في سورة طه آية مماثلة لهذه الآية وروي في سياقها نفس الحديث. وفندنا صلته بالآية كما فعلنا هنا. ولقد قال بعض المفسرين إن في الآية نهيا للنبي صلى الله عليه وسلم عن تمني ما عند الكفار ونحن نجل النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يدور في خاطره ذلك. وكل ما يحتمل أن يكون تعجب منه أو من بعض أصحابه من حسن حال الكفار وكثرة مالهم على كفرهم فاقتضت حكمة التنزيل تسليتهم وتطمينهم على النحو الذي شرحناه والذي نرجو أن يكون فيه الصواب. والتعجب من حسن حال الكفار حالة نفسانية كانت متجددة الباعث في العهد المكي بنوع خاص فضلا عن كونها كذلك في كل ظرف، وهذا ما يفسر حكمة تكرر النهي والتنبيه على ما هو المتبادر.

[سورة الحجر (15) : الآيات 90 إلى 93]

[سورة الحجر (15) : الآيات 90 الى 93] كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) (1) كما أنزلنا: قيل إن نظمها مرتبط بجملة وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي بحيث يكون تقدير الكلام «كما آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم وأنزلنا على المقتسمين» وقيل إن نظمها مرتبط بجملة إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ بحيث يكون تقدير الكلام «إني نذير لكم بعذاب الله كما أنزل عذابه على من تحالف وتقاسم ضد أنبيائه من قبلكم» . (2) المقتسمين: تعددت الأقوال في تأويلها فقيل إنها تعني اليهود والنصارى الذين اقتسموا كتب الله حيث اختص كل منهم بشيء منها. وقيل إنها تعني نفرا من زعماء مكة اقتسموا أبواب مكة ومداخلها ليلاقوا الوافدين عليها ويحذروهم من النبي صلى الله عليه وسلم. وفيها إنها تعني الذين تقاسموا بالأيمان من المشركين والكتابيين على مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل إنها تعني الذين تقاسموا بالأيمان على مخالفة الأنبياء من قبله فأنزل الله عذابه عليهم وأهلكهم. وقيل إنها تعني رهط صالح الذين تقاسموا على اغتياله فأهلكهم الله كما ورد في سورة النمل «1» . (3) عضين: جمع عضة. قيل إنها بمعنى أجزاء متفرقة حيث يكون المقتسمون جعلوا القرآن أجزاء صدقوا بعضها وكذبوا بعضها، أو نعتوا بعضها بنعت وبعضها بنعت آخر وهناك حديث رواه البخاري عن ابن عباس أنه قال: «هم أهل الكتاب جزّؤوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه» . وقيل إنها بمعنى السحر: أي أن المقتسمين قالوا إن القرآن سحر «2» . مهما بدا على الآيات من إشكال نظمي تحير فيه المفسرون وتعددت أقوالهم في صدد المقصود من المقتسمين وارتباط جملة كَما أَنْزَلْنا على ما شرحناه في

_ (1) انظر تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والطبرسي والخازن والزمخشري. (2) المصدر نفسه.

[سورة الحجر (15) : الآيات 94 إلى 99]

نبذة شرح الكلمات شرحا يغني عن تكراره مرة ثانية فالمتبادر أنها بسبيل إنذار الذين وقفوا من القرآن موقف الجحود ومن النبي صلى الله عليه وسلم موقف المناوأة، وتوكيد كون الله تعالى سوف يسألهم جميعا عما فعلوه ويجزيهم عليه بما يستحقون. وفيها في الوقت نفسه استمرار في تطمين النبي صلى الله عليه وسلم وتسليته. ومن هنا تظل الصلة قائمة بينها وبين السياق السابق. [سورة الحجر (15) : الآيات 94 الى 99] فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) (1) اصدع: أطع ونفذ أو امض لما تؤمر به. (2) اليقين: معظم الأقوال على أن الكلمة هنا عنت الموت، وهناك حديث رواه البخاري عن سالم بن عبد الله أحد أصحاب رسول الله أن الكلمة عنت الموت. «1» في الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالاستمرار في الدعوة والجهر بها والقيام بالمهمة التي أمر بها دون مبالاة بالمشركين. وتطمين رباني بأنه قد كفاه شر المستهزئين به الذين يشركون مع الله غيره والذين سوف يرون سوء عاقبة كفرهم ومواقفهم فلن يصل إليه أذاهم. وتسلية ربانية ثانية له، فالله يعلم أنه ليضيق صدره بما يقولون عنه وعن القرآن ويحزن منه فليهدأ روعه وليطمئن قلبه وليسبح الله ويذكره ويسجد له ويعبده ما دام حيا، ففي ذلك سكينة للقلب وطمأنينة للروح وتهدئة للنفس.

_ (1) التاج ج 4 ص 138.

تعليق على الآية فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين والآيات الخمس التالية لها

تعليق على الآية فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ والآيات الخمس التالية لها ولقد روى الطبري وغيره في سياق الآية الأولى روايات تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ظل مستخفيا حتى نزلت، فخرج هو وأصحابه وهذه الروايات لم ترد في كتب الصحاح. ولقد استدللنا من نصوص السور المبكرة في النزول على أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر بالدعوة منذ نزول الوحي عليه وظل على ذلك دون انقطاع. وكل ما يمكن أن يصح هو أنه كان يلتزم جانب الحذر في الاجتماع والصلاة بأصحابه حماية لهم على ما شرحناه في سياق سورتي العلق والمزمل وقد يكون الاستخفاء الذي ترويه الروايات هو هذا. ولقد روى الطبري وغيره في سياق الآية الثانية أن خمسة من ذوي الأسنان والشرف في قريش كانوا أكثر المستهزئين بالنبي صلى الله عليه وسلم مع اختلاف في أسمائهم فلما تمادوا دعا النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآية. وصار النبي بعدها يومىء على واحد منهم بعد الآخر فلا تلبث أن تصيبه نازلة فتقتله. وفي رواية إن جبريل نزل فأخذ النبي يشير إليهم واحد بعد آخر فيقول له كفيته ثم يصاب بنازلة فتقتله. وفي رواية إن الآية نزلت لتطمين النبي صلى الله عليه وسلم وتبشيره ثم كانوا من هلكى بدر فتحققت البشرى. والروايات لم ترد في الصحاح وقد تكون الأسماء التي ذكرت فيها ممن كانوا أشد أذى ومناوأة للنبي صلى الله عليه وسلم من غيرهم. ولكن روح الآيتين ومقامهما يلهمان أنهما جزء من السياق السابق، وإنهما بسبيل تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وبث القوة والجرأة في نفسه مع بشرى من الله عز وجل بأنه كافيه وحاميه وعاصمه من المستهزئين بصورة عامة. وهي قوية رائعة في تلقينها وتطمينها وفي الخطة الحكيمة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيها بترسمها إزاء موقف الكفار وعنادهم. وجاءت خاتمة قوية للسورة التي احتوت فصولا في مواقف الكفار وأقوالهم وإنذارهم وطابع الختام بارز عليهما كما هو المتبادر. ولقد تحققت بشرى الله عز وجل لرسوله بأنه قد كفاه المستهزئين وعصمه

منهم فكانت معجزة من معجزات القرآن. وذلك بما كان من عدم قدرتهم عليه رغم مؤامراتهم، وثم بما كان من انتصاره عليهم وهزيمة الشرك الساحقة وهلاك معظم رؤساء المستهزئين والمناوئين ودخول الناس في الله أفواجا، ثم في سلامة النبي صلى الله عليه وسلم من المكر والكيد والمؤامرات التي عمد أولئك الرؤساء إليها ضده والتي حكاها القرآن في آية سورة الأنفال هذه: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) . ونقف عند جملة فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ لنقول إنها كما قلنا بسبيل تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم في الظرف الذي نزلت فيه وينبغي أخذها على هذا الاعتبار لا على اعتبار أمر الله لنبيه بإهمال المشركين وتجاوزهم. فدعوة المشركين إلى الله من مهمة النبي الأصلية. والقرآن واصل أوامره للنبي صلى الله عليه وسلم بمواصلة الجهد في سبيل هذه المهمة. والنبي ظل يواصلها فعلا والأمر فَاصْدَعْ ينطوي على وجوب هذه المواصلة بحيث يكون معنى وَأَعْرِضْ في مقامها (لا تأبه بمناوأتهم) وقد تكرر مثل هذا في المواقف المماثلة ومرت أمثلة منه في السور التي سبق تفسيرها. وبعضهم يرى أن الجملة ترك المشركين وشأنهم وأنها نسخت بآيات القتال في العهد المدني، وقد يصدق النسخ بالنسبة لمن وقف وظل يقف من الإسلام والمسلمين موقف الأذى والعدوان، وهذا ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة أيضا.

سورة الأنعام

سورة الأنعام في السورة فصول ومشاهد متنوعة عما كان يقع بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار من مناظرات. وقد حكي فيها تعجيزهم وما كان يلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم من همّ وغمّ من جرّائها. وفيها تنديدات وإنذارات قاصمة للكفار وبخاصة لزعمائهم على مواقف المكابرة والعناد التي يقفونها والأدوار الخبيثة التي يقومون بها. واستشهاد بالذين أوتوا الكتاب على صحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وصلة القرآن بالله وشهادتهم بذلك. وفيها تقريرات عديدة عن عظمة الله تعالى وقدرته وشمول حكمه وبديع نواميس كونه. وفيها فصول وصور عن عقائد العرب ونذورهم وتقاليدهم في الأنعام والحرث وقتل الأولاد والذبائح، وحجاج في صددها بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الكفار وفيها مجموعة رائعة من الوصايا في التوحيد ومكارم الأخلاق وحملة على الذين يتبعون الأهواء. والسورة من أمهات السور الجامعة الرائعة، وقد روى ابن كثير بخاصة وغيره من المفسرين مثل البغوي والطبرسي والخازن والزمخشري أحاديث عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدد خطورة هذه السورة ونزولها منها عن ابن عباس قال: «نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملة واحدة حولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح» وعن أسماء بنت يزيد قالت: «نزلت سورة الأنعام على النبي صلى الله عليه وسلم جملة واحدة وأنا آخذة بزمام ناقته، إن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة» . وليس شيء من هذه الأحاديث واردا في كتب الصحاح بل ولم يرو الطبري الذي كان أقدم وأكثر المفسرين استيعابا للمأثور منها شيئا. ومع ذلك فيتبادر لنا أنها تدل على ما كان من ذكريات خطورة شأن السورة حين نزولها. وفصول السورة منسجمة

[سورة الأنعام (6) : الآيات 1 إلى 6]

متلاحقة وهذا يلهم بحد ذاته أن تكون نزلت متتابعة إن لم تكن نزلت دفعة واحدة. والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أن الآيات [20 و 22 و 91 و 93 و 114 و 141 و 152 و 153] مدنيات. وروى البغوي عن ابن عباس أن الآيات [91 و 92 و 93 و 151 و 152 و 153] مدنيات. وسياق هذه الآيات وفحواها وانسجامها مع ما قبلها وبعدها على ما سوف ننبه عليه في مناسباتها يسوغ الشك في هذه الروايات وترجيح مكية الآيات والله أعلم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الأنعام (6) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6) (1) يعدلون: يساوون أو يجعلون لله تعالى معادلين ومساوين وهم شركاؤهم. (2) ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده: معظم المفسرين على أن الأجل الأول هو فترة الحياة الأولى إلى الموت والأجل الثاني هو موعد بعث الله الأموات للحساب الأخروي. معاني الآيات واضحة وقد احتوت تنديدا بالكفار المشركين لتسويتهم بين الله تعالى وشركائهم ومماراتهم في البعث، وإعراضهم عما يأتيهم من ربهم مع أنه هو الذي خلقهم وهو رب السموات والأرض يعلم سرهم وجهرهم وما يكسبون

[سورة الأنعام (6) : آية 7]

وجعل لهم أجلا في الحياة ثم أجلا للبعث والحساب. ثم أنذرتهم بأنهم سوف يرون تحقيق ما أوعدوا به جزاء استهزائهم بآيات الله وتكذيبهم لها، وذكرتهم بالأمم التي من قبلهم والتي أهلكها الله لمثل ذلك السبب وكانت أقوى منهم قوة وتمكينا. والآيات مقدمة استهلالية بين يدي حكاية بعض أقوال ومواقف الكفار، وروحها تلهم أن الكفار كانوا يعترفون بالله وكونه صاحب الأمر في الكون، وأنهم كانوا يعرفون خبر الأمم السابقة التي أهلكها الله لمواقفهم من رسله وآياته، وبهذا وذاك تبدو قوة الحجة والإلزام في الآيات وهذا وذاك مما قررته آيات وفصول قرآنية كثيرة مرت أمثلة عديدة منها. ولقد قال بعض المؤولين على ما رواه البغوي إن جملة وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ تعني الكفر والإيمان غير أن الجمهور على أنها تعني الليل والنهار وهو الأوجه المتساوق مع روح الآيات هنا وفي مكان آخر. وإن كان القرآن استعمل في آيات أخرى هذه الجملة لذلك المعنى كما جاء في آية سورة إبراهيم هذه: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [1] وتكرر هذا في غير سورة. والمؤولون يصرفون تعبير خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ إلى خلقه آدم الأول الذي ذكر بأنه خلقه من طين ومن تراب في آيات عديدة أخرى مرّ بعضها في السور التي سبق تفسيرها. غير أن ورود التعبير بضمير الجمع المخاطب لا بد له من حكمة وقد يكون من ذلك تذكير السامعين من بني آدم بأصل خلقتهم وقدرة على خلقهم وبعثهم ثانية حين ينقضي الأجل المعلوم. [سورة الأنعام (6) : آية 7] وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) (1) قرطاس: الورق أو ما يقوم مقامه للكتابة من مواد مصنوعة. وجملة الجزء الرابع من التفسير الحديث 5

تعليق على كلمة «قرطاس»

كِتاباً فِي قِرْطاسٍ تعني قرطاسا مكتوبا عليه كتابة. في الآية وصف لشدة عناد الكفار وتكذيبهم حتى لو أنزل الله تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم قرطاسا عليه كتابة فلمسوه بأيديهم لقالوا إن هذا سحر وليس حقيقة. ولقد روى بعض المفسرين «1» أن الآية نزلت جوابا لتحدي بعض زعماء الكفار حيث قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إنهم لن يؤمنوا حتى ينزل عليه كتاب في قرطاس ومعه أربعة من الملائكة يشهدون على صحة صدوره من الله وعلى صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم. والرواية لم ترد في الصحاح ولكن القرآن حكى مثل هذا التحدي عن زعماء كفار قريش في سورتي المدثر والإسراء. حيث جاء في الأولى هذه الآية: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) وحيث جاء في الثانية: أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [93] والذي يتبادر لنا من نظم الآية وعطفها على ما سبقها أنها جاءت مع الآيات السابقة واللاحقة لها سياقا واحدا بسبيل تصوير كون مواقف ومطالب الكفار هي عنادا وليست رغبة في القناعة عن حسن نية. وهذا لا يمنع أن يكون انطوى في الآية جواب على تحدّ وقع من الكفار في ظروف نزولها. ويكون الجواب في هذه الحالة من نوع الأجوبة السلبية التي تكررت في القرآن واقتضتها حكمة الله بعدم الاستجابة لتحدي الكفار كلما طالبوا النبي صلى الله عليه وسلم بمعجزة على ما شرحناه في مناسبات سابقة. تعليق على كلمة «قرطاس» وبمناسبة ورود كلمة قرطاس لأول مرة نقول إن من المفسرين من قال إنه الورق ومن قال إنه الصحيفة ومن قال إنه الكاغد «2» . وقد وردت الكلمة في القرآن

_ (1) انظر تفسيرها في تفسير الطبرسي والخازن والبغوي. (2) انظر تفسير الآيات في تفسير الخازن والطبرسي وابن كثير مثلا.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 8 إلى 9]

مرة أخرى بصيغة قراطيس في إحدى آيات هذه السورة بمعنى الصحف أو أوراق الصحف. وعلى كل حال فالمتبادر أنه مادة ملساء خاصة بالكتابة ولعله الورق الحريري الذي يقال له البارشمن والذي روي أنه كان مستعملا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم في البلاد المتحضرة. أو لعله الورق المصري المصنوع من البردي والمسمى بالبابيروس. وورود الكلمة في القرآن يدل على أن الورق أو ما يمكن أن يوصف بهذا الوصف كمادة يكتب عليها مما كان معروفا ومستعملا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته قبل نزول القرآن. ولقد روت الروايات أنه كان يكتب في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وفي حياته ممتدا إلى ما قبله على الرق المتخذ من جلد الأنعام وعلى أكتاف العظام ولحاف الشجر وقطع النسيج. وقد يكون هذا صحيحا، غير أن أسلوب الآية وعدم ورود ذكر لغير القرطاس والرق «1» في القرآن كمادة للكتابة قد يدل على أن الكتابة على هاتين المادتين هي المألوف الذي لا يرد على البال غيره. ولما كان القرطاس قد تكرر ذكره في القرآن وجاء في صيغة جمع كما قلنا آنفا فيكون هو المألوف في الدرجة الأولى. ويكون ما استقر في الأذهان من بدائية أهل عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته وكون أكتاف العظام ولحاف الشجر وقطع النسيج هي مادة الكتابة عندهم مبالغا فيه كثيرا. [سورة الأنعام (6) : الآيات 8 الى 9] وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9) (1) وللبسنا عليهم ما يلبسون: أوجه التأويلات لهذه الجملة أنها بمعنى

_ (1) الرق هو ما يتخذ من جلود الأنعام وجمعه رقوق. وقد ورد ذكره كشيء يكتب عليه في آيات سورة الطور هذه: وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) .

تعليق على طلب «الكفار استنزال الملائكة ورد القرآن عليهم»

(التبس عليهم الأمر فألبسهم الله ما ألبسوه لأنفسهم من الشك في كون رسل الله إليهم بشرا مثلهم) . تعليق على طلب «الكفار استنزال الملائكة وردّ القرآن عليهم» في الآيات حكاية تحدّ للكفار يطلبون به أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم ملك يؤيد صلته بالله. وردّ عليهم أولا: بأن الله تعالى لو أنزل ملكا لكان في ذلك إيذان بحلول أجلهم وقضاء أمر الله فيهم، وحينئذ لا يبقى إمكان لإمهالهم وينصب عليهم البلاء والتدمير. وثانيا: بأن حكمة الله لو اقتضت إنزال ملك لجاءهم على صورة رجل، وحينئذ لا تكون المشكلة قد حلت إذ يكون التبس الأمر عليهم ولم يروا ما طمعوا في رؤيته على حقيقته. ووقعوا في الشك الذي وقعوا فيه حينما شكوا في أن يرسل الله رسولا من البشر فكانوا سببا في إلباس الله لهم ما ألبسوه لأنفسهم بهذا الشك. ولم يرو المفسرون رواية ما في صدد المحكي قولهم في الآية الأولى. ويلحظ شيء من الفرق بين أسلوب هذه الآية وأسلوب الآية السابقة لها حيث جاءت الآية السابقة بأسلوب المفروض من موقفهم إذا أنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم كتابا في قرطاس في حين جاء أسلوب هذه الآية حكاية لطلب وتحدّ من بعض الكفار. وحيث يسوغ هذا أن يقال إن الآيات بسبيل حكاية موقف تحدّ وجدل وجاهي والرد عليه. وإذا صح هذا تكون الآيات السابقة مقدمة لهذا الموقف، على أن احتمال كون الآيات استمرارا للسياق السابق بسبيل حكاية مواقف الكفار وتحدياتهم المتكررة واردا أيضا وفي هذه الحالة يكون ما حكته من تحدّ قد سبق نزول السورة فأشير إليه في معرض حكاية مواقف الكفار وتحدياتهم. ولقد تكررت حكاية طلب الكفار استنزال الملائكة ومرت أمثلة من ذلك في السور التي سبق تفسيرها التي سبقت هذه السورة مباشرة على التوالي أي سور الحجر وهود ويونس ثم في سورتي الإسراء والفرقان قبلها. حيث يدل هذا على ما ذكرناه في سياق سورة المدثر من الجزء الكبير الذي كان يشغله الملائكة في أذهان

[سورة الأنعام (6) : الآيات 10 إلى 11]

العرب قبل الإسلام واعتقادهم بوجودهم وصلتهم واختصاصهم بالله وكونهم منفذي أوامره وأصحاب الحظوة لديه. والجديد هنا هو ذكر كون الله تعالى إذا ما شاء إنزال ملك أنزله في صورة رجل وهناك آيات تفيد أن سنّة الله جرت على مثل ذلك في الملائكة الذين كان يرسلهم الله إلى بعض أنبيائه. ومن ذلك ما تفيده آيات [68- 80] من سورة هود والآية [17] من سورة مريم. وهناك أحاديث صحيحة أوردناها في تعليقنا على موضوع الملائكة في تفسير سورة المدثر تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمثل له الملك أحيانا في صورة رجل وأن جبريل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحوله أصحابه في صورة رجل، والموضوع في أصله أي موضوع الملائكة مما يجب على المسلم الإيمان بما جاء عنه في القرآن وثبت عند النبي صلى الله عليه وسلم. ثم تفويض الأمر فيه إلى الله ورسوله على ما شرحناه في التعليق المذكور بما يغني عن التكرار مع ملاحظة ما ذكرناه في التعليق من أهداف ومقاصد. ولقد علل المفسرون والمؤولون حكمة الله في إنزال الملك في صورة رجل إذا ما شاء إنزاله على بشر بأن البشر لا يطيقون رؤية الملائكة أو أن الملائكة في أصلهم نورانيون لا يمكن أن يراهم البشر. فيشاء الله أن يتمثلوا لهم في صورة رجل وعللوا ما روته بعض الأحاديث التي وردت في الصحاح وأوردناها في سياق تعليقنا المذكور والتي تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الملك في هيئته الأصلية سادا الأفق بأن ذلك خصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم والتعليلات وجيهة فيما هو المتبادر. والله أعلم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 10 الى 11] وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) جاءت الآيتان معقبتين على سابقاتهما وبسبيل تطمين النبي صلى الله عليه وسلم وإنذار الكفار

[سورة الأنعام (6) : الآيات 12 إلى 13]

حيث قررتا أن ما يفعله هؤلاء قد فعلته الأمم السابقة مع رسلهم وقد حاق بهم شر ذلك. وعلى الكفار أن يسيروا في الأرض ليروا آثار بلاء الله تعالى وتدميره وكيف كانت عاقبة المكذبين وليتعظوا بذلك، وهناك آيات عديدة مر بعضها في سور سبق تفسيرها تذكر أن من سامعي القرآن من زار أماكن الأقوام السابقين ورأوا آيات تدمير الله فيها مثل آيات الفرقان [40] والصافات [133- 138] والعنكبوت [38] حيث يبدو أن الأمر بالسير ورؤية آثار بلاء الله في الأقوام السابقة هو من قبل الإلزام والإفحام. [سورة الأنعام (6) : الآيات 12 الى 13] قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) في الآيتين توكيد بأسلوب السؤال التقريري بأن كل ما في السموات والأرض هو لله وهو المتصرف المطلق في كل ما تحرك وسكن في الليل والنهار وأن رحمته قضت أن يجمع الناس جميعا إلى يوم القيامة وأنه ليس في هذا أي مجال للريب، وهناك يرى الذين لا يؤمنون أنهم هم الذين خسروا وأضاعوا أنفسهم بسبب عدم إيمانهم. هذا ومن المفسرين والمؤولين من قال إن جملة كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [12] هي في مقام قسم رباني جوابه في الجملة التي بعدها. ومنهم من تبادر له من الجملتين أن من الرحمة التي كتبها الله على نفسه أن أمهل الكفار وأمدّ لهم في الدنيا لعلهم يغنمون الفرصة ويدينوا بدين الحق. وأن منها حكمته التي اقتضت البعث والحساب الأخرويين لينال أهل الدنيا جزاء أعمالهم خيرا كانت أم شرا، ولا تحتمل التأويلات من الوجاهة. ولقد أورد المفسرون في سياق جملة كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ الأعراف: [156] أحاديث نبوية في مدى رحمة الله تعالى. وقد أوردنا هذه

[سورة الأنعام (6) : الآيات 14 إلى 16]

الأحاديث في سياق جملة وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ في سورة الأعراف الآية [156] فنكتفي بهذا التنبيه مع التنبيه على أن جملة آية الأعراف أوسع شمولا ومدى منها هنا كما هو المتبادر والله أعلم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 14 الى 16] قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) معاني الآيات واضحة والخطاب فيها موجه للنبي صلى الله عليه وسلم يؤمر فيها بإعلان عقيدته الخالصة بالله وحده وينطوي فيها كما هو المتبادر إعلان ودعوة وتحذير للسامعين من مؤمنين وغير مؤمنين. ولقد روى بعض المفسرين «1» أن الآيات نزلت ردا على قول الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا علمنا أنه لا يحملك على ما تقول إلّا الفقر ونحن نجمع لك من أموالنا حتى تكون من أغنانا. ولقد روي مثل هذه الرواية في مناسبات عديدة مرت أمثلة منها غير أن فحوى الآية هنا لا يساعد على التسليم بصحة الرواية كمناسبة لنزولها. والمتبادر من التشابه بين هذه الآيات والآيات السابقة لها واللاحقة بها معا أنها سياق واحد. [سورة الأنعام (6) : الآيات 17 الى 18] وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) (1) القاهر فوق عباده: الجملة بمعنى صاحب القدرة والسيطرة على عباده.

_ (1) انظر تفسيرها في مجمع البيان للطبرسي.

[سورة الأنعام (6) : آية 19]

والآيات استمرار كذلك في السياق وتعقيب عليه كما هو المتبادر، ومعانيها واضحة. وكأنما أريد أن يقال للكفار في هذه الآيات وسابقاتها بسبيل الرد والتنديد إنكم إذا كنتم تتخذون أولياء غير الله ظنا منكم بأنهم يمكنهم أن يكشفوا عنكم ضرا أو يجلبوا لكم نفعا فإنكم في ضلال. فلن يملك ذلك إلّا الله تعالى الذي فطر السموات والأرض. والذي لا يحتاج إلى أحد ويحتاج إليه كل الناس ولا يستحق العبادة والاتجاه وإسلام النفس إلّا هو وحده الذي له القدرة والسيطرة على كل عباده والذي لا يقضي إلّا بما فيه الحكمة الخبير بكل شأن وأمر. [سورة الأنعام (6) : آية 19] قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) في الآية أوامر ربانية للنبي صلى الله عليه وسلم تأمره بأن يسأل عمن هو أعظم شهادة وأن يقرر أنه هو الله تعالى وأن يعلن أنه يجعل الله شهيدا بينه وبين الذين يتجادل معهم على أن الله هو الذي أوحى إليه بالقرآن لينذر به الناس السامعين ومن يبلغه خير هذا الإنذار من الغائبين، وبأن يعلن إذا أصرّ المشركون على إشراك آلهة أخرى مع الله أنه بريء مما يشركون وأنه لا يشهد إلّا بأن الله واحد لا شريك له. وقد روى البغوي والطبرسي أن بعض زعماء المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم اذكر لنا من يشهد أنك رسول الله كما تزعم فإننا سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر فنزلت الآية ردا عليهم. وروى الطبري أن بعض أشخاص من اليهود جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له ما تعلم مع الله إلها غيره. فقال لا إله إلا الله. بذلك بعثت وإلى ذلك أدعو. فأنزل الله هذه الآية مع التي بعدها. ورواية الطبري تقتضي أن تكون الآية مدينة. وليس هناك رواية بذلك باستثناء الآية [20] على ما ذكرناه في مقدمة السورة. وفحوى الآية أنها في صدد جدال مع المشركين. وفي الآية [20] تأييد دعوى النبي صلى الله عليه وسلم فلا يعقل

تعليق على الآية قل أي شيء أكبر شهادة ... إلخ

أن تكون نزلت للرد على اليهود الذين آذنت أنهم يعرفون حقيقة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم بصفتهم الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ البقرة: [146] وهذا وذاك يسوغ الشك في رواية الطبري، أما الرواية الأولى فإن شطرها الثاني مناقض للآية [20] كما هو واضح. والذي يتبادر لنا من أسلوب الآية أنها استمرار في السياق وأن ضمير الجمع المخاطب الذي يعود إلى الكفار على الأرجح يربط بينها وبين موقف الجدل الوجاهي الذي حكته الآيات السابقة ثم أخذت ترد عليه ردا بعد رد منددة ومنذرة ومقرعة ومذكرة. تعليق على الآية قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً ... إلخ وأسلوب الآية نافذ إلى الأعماق في صدد الدعوة إلى الله وحده. والجملة على أي مظهر من مظاهر الشرك ثم في جعل الله شهيدا على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق ولا يبلغ إلّا الصدق. وأن القرآن هو من وحي الله وجملة وَمَنْ بَلَغَ تتضمن عموم الدعوة المحمدية وخلودها وشمولها لكل ظرف ومكان وجنس ونحلة كما هو المتبادر. ولقد أورد المفسرون في سياق هذه الآية أحاديث نبوية وردت صيغ مقاربة لها في كتب الصحاح. منها حديث رواه الشيخان عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليبلغ الشاهد الغائب فإنّ الشاهد عسى أن يبلّغ من هو أوعى له منه» «1» . وحديث رواه البخاري والترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بلّغوا عنّي ولو آية» «2» . وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نضّر الله امرأ سمع منا شيئا فبلّغه كما سمع فربّ مبلّغ أوعى من سامع» «3» .

_ (1) التاج ج 1 ص 58- 60. (2) التاج ج 1 ص 58- 60. (3) التاج ج 1 ص 58- 60.

وينطوي في الأحاديث إيجاب نبوي صريح على كل مسلم في كل زمن ومكان تبليغ شيء مما يعرف من آيات الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم لأي كان لا يعرف ذلك. سواء أكان مسلما أم غير مسلم، فكأنما حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا ما أمر به في الآية من إنذار السامعين بالقرآن ومن يبلغه خبره من غيرهم على المسلمين استمرارا لتحقيق أمر الله تعالى له. وهذا يعني واجب الدعوة إلى الإسلام على كل مسلم في كل زمن ومكان. والمتبادر أن هذا الواجب أشد إيجابا على القادرين عليه علما وسلطانا واستطاعة. وبالدرجة الأولى على أولياء أمر المسلمين الذين هم خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين والإسلام. فالله سبحانه وتعالى أرسل رسوله مبشرا وداعيا ونذيرا لجميع البشر على اختلاف أجناسهم وألوانهم ونحلهم وأمر المسلمين أن يجعلوه أسوة وأن يستمروا على نهجه ولا ينقلبوا على أعقابهم بعده كما جاء في آية سورة آل عمران هذه: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ [144] وكما جاء في آية سورة الأحزاب هذه: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [21] فصار واجب التبليغ والدعوة واجبا لازما على كل مسلم وكل بحسب قدرته واستطاعته. مع شرط مهم هو أن يكون الصدق والإخلاص رائدهم في كل ما يبلغونه وأن يتحروا في ذلك أشد التحري وأن لا يكون فيه كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه حيث جاء في حديث رواه البخاري والترمذي عن عبد الله بن عمرو: «ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» «1» . وفي القرآن آيات عديدة فيها إنذار رهيب لمن يكذب على الله تعالى منها آية سورة الأعراف [27] التي سبق تفسيرها ومنها آية الزمر هذه: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) .

_ (1) التاج ج 1 ص 58.

[سورة الأنعام (6) : آية 20]

[سورة الأنعام (6) : آية 20] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) في الآية تقرير رباني بأن الكتابيين يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم وصدق دعوته وصحة وحي الله إليه بالقرآن معرفة يقين كما يعرفون أبناءهم. وبأن الذين لا يؤمنون بذلك هم الذين خسروا أنفسهم وأشقوها بعنادهم ومكابرتهم. ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن هذه الآية مدينة ولقد روى المفسرون أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لعبد الله بن سلام اليهودي الذي أسلم في المدينة إن الله قد أنزل على نبيه هذه الآية. وسأله كيف هذه المعرفة. فقال له عرفته حين رأيته كما أعرف ابني هذا وإني أشهد أنه رسول الله حقا. ولقد توقفنا في رواية مدنية الآية مع غيرها مما ذكر أنها مدنيات في تعريف السورة لانسجامها مع السياق. وقد تكون رواية مدينة هذه الآية ملتبسة بهذه الرواية. وإنه ليتبادر لنا بقوة أنها متصلة بالسياق وبخاصة بالآية السابقة لها مباشرة اتصال تدعيم. فقد جعلت الآية السابقة لها الله تعالى شهيدا على صدق وحي الله بالقرآن وجاءت هذه الآية لتقرر ذلك بطريق إشهاد أهل الكتاب. ولعل فيها ردا على ما روته الرواية التي أوردناها من قبل، التي ذكرت أن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إنهم سألوا عنه اليهود والنصارى فأنكروه. تعليق على جملة الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ والآية تتضمن تقريرا يقينيا بأن أهل الكتاب يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم معرفة يقينية كما يعرفون أبناءهم. وينطوي فيها تقرير كونهم يعرفون صدق دعوته وصحة الوحي القرآني. وكان هذا يتلى علنا، فلا بد من أنه كان مستندا إلى مشاهد ووقائع ثابتة لا تدحض. ولقد كان ذلك فعلا وهو ما حكته آية سورة الأعراف [157] وآيات سورة

القصص [52 و 53] وآيات سورة الإسراء [107- 109] التي سبق تفسيرها من مشاهد قوية صريحة. وفي سور مكية أخرى تسجيل لذلك منها الآية [10] من سورة الأحقاف والآية [47] من سورة العنكبوت والآية [36] من سورة الرعد. وفي سور مدنية تسجيلات أخرى من ذلك في آيات البقرة [121، 146] وآل عمران [112- 114 و 199] والنساء [55] والمائدة [82 و 83] التي أوردناها في سياق تفسير آية الأعراف المذكورة. وفي هذه السورة آية تذكر أن الذين أوتوا الكتاب يعرفون أن القرآن منزّل من الله بالحق. وإذا كان القرآن المدني قد سجل حقا مواقف مناوئة للنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته من طوائف من أهل الكتاب وأحبارهم ورهبانهم مما تضمنته سلسلة آيات البقرة [40] وما بعدها إلى الآية [175] وآيات آل عمران [19- 25 و 64- 120] والنساء [43- 56 و 150] والمائدة [45- 86] والتوبة [29- 35] والجمعة [5- 8] ففي سياق التسجيل تقريرات بأن موقفهم هذا آت من الغيظ والحسد والرغبة في كنز الذهب والفضة وأكل الأموال بالباطل مع علمهم في قرارة أنفسهم بصحة نبوة النبي والوحي القرآني كما يظهر لمن يقرأ هذه الآيات. ومن الجدير بالذكر أنه ليس في القرآن المكي ذكر لمواقف مناوئة من أهل الكتاب حيث يدل هذا على أنهم استجابوا للدعوة التي عرفوا أنها الحق وانضووا إليها، حيث ينطوي في هذا شهادة عيانية خالدة من أهل الكتاب بصدق وحي الله بالقرآن وبصدق الرسالة المحمدية وإيمانهم بهما حينما يرتفع قوله عن كل منفعة مادية وحقد وحسد وأنانية ومكابرة ويرغبون في الحق والهدى كما كان شأن الجماعة التي كانت في مكة التي كانت متنوعة الجنسيات وفيهم أولو العلم والاطلاع. وحجة خالدة على مدى الدهر على كل من يقف موقف الجاحد المعطل من القرآن والرسالة المحمدية.

[سورة الأنعام (6) : آية 21]

[سورة الأنعام (6) : آية 21] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) [21] . (1) ومن أظلم: ومن أشد جرما وبغيا. الآية استمرار في السياق كما هو المتبادر، وقد قال بعض المفسرين «1» في تأويل جملة وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً إنها بمعنى (ليس أحد أظلم ممن تقوّل على الله فادعى أن الله أرسله ولم يكن أرسله) ومعظم المفسرين «2» أولوها بمعنى (ليس أحد أظلم ممن كذب على الله فادعى أن له شركاء) وكلا التأويلين وجيه ومتسق مع السياق. وفي حال الأخذ بالتأويل الأول تكون الجملة بمثابة تعقيب وتدعيم لجملة إشهاد الله على صحة الوحي القرآني الواردة في الآية [19] بأسلوب قوي رائع. وفي حال الأخذ بالتأويل الثاني تكون الجملة بمثابة تعقيب على أمر الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم بعدم مجاراة المشركين في شهادتهم بأن مع الله آلهة أخرى وبإعلان براءته مما يشركون وهذا كذلك مما ورد في الآية المذكورة أيضا. ولعل الآيات التالية لهذه الآية ترجح التأويل الثاني الذي قال به معظم المفسرين. [سورة الأنعام (6) : الآيات 22 الى 24] وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) (1) ثم لم تكن فتنتهم: بعضهم أوّلها بمعنى (ثم لم تكن عاقبة فتنتهم)

_ (1) انظر تفسير الآية في تفسير ابن كثير. (2) انظر تفسيرها في تفسير الطبري والبغوي والزمخشري والطبرسي والخازن ورشيد رضا.

[سورة الأنعام (6) : آية 25]

وبعضهم أوّلها بمعنى (ثم لم يكن اعتذارهم) وكلا التأويلين وجيه. (2) كذبوا على أنفسهم: بمعنى خدعوا أنفسهم. (3) ضل عنهم: غاب عنهم شركاؤهم الذين أشركوهم مع الله افتراء عليه. في الآيات وصف للموقف المحرج الذي يقفه المشركون يوم يحشرهم الله تعالى يوم القيامة، حيث يسألهم عن شركائهم فيسقط في أيديهم ويأخذون يحلفون الأيمان على أنهم لم يكونوا مشركين. وهكذا يكذبون أنفسهم ويتنصلون من جريمتهم عبثا، ويغيب عنهم الشركاء الذين أفتروهم ولا يجدون لهم منهم أولياء ولا نصراء. والآيات متصلة بالسياق وهي مرجحة كما قلنا قبل للتأويل الثاني للآية السابقة عليها حيث يتبادر أن الضمير فيها راجع إلى (الظالمين) الذين يفترون على الله ويكذبون بآياته. وقد استهدفت إثارة الخوف في المشركين وحملهم على الارعواء فيما استهدفته. ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآية [23] مدينة مع أنها متصلة اتصالا تاما بسياق الآيات التي قبلها وبعدها وبموضوعها حتى إن الآيات الثلاث تبدو وحدة تامة مما يسوغ الشك في الرواية بقوة بل نفيها ولم نطلع على رواية ما في كتب التفسير تؤيد ذلك. [سورة الأنعام (6) : آية 25] وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) (1) وقرا: صمما. في الآية إشارة إلى موقف من مواقف المناظرة التي كانت تحدث بين

تعليق على جملة وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وجملة وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها

النبي صلى الله عليه وسلم والكفار حيث كانوا يستمعون إليه حينما يتلو القرآن فلا ينفذون إلى ما فيه من علوية وروحانية عنادا ومكابرة ولا يجدون ما يقولونه إلّا أنه أساطير الأولين وقصصهم وكتبهم. وقد أورد المفسرون «1» في سياقها رواية جاء فيها أن أبا سفيان وأبا جهل والنضر بن الحارث وآخرين من زعماء المشركين كانوا يستمعون القرآن فقالوا للنضر: ما يقول محمد؟ قال: ما أدري إلّا أني أراه يحرّك لسانه ويقول أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم، فقال أبو سفيان: إني أرى بعض ما يقول حقا، فقال أبو جهل: كلا، كلا إن الموت أهون علينا من أن نقرّ بذلك «2» . وضمير (منهم) وعطف الجملة على ما سبقها يدلان على أن الآية من سلسلة السياق. ولم تنزل لحدتها فصلا مستقلا، وهذا لا يمنع أن يكون قد حدث ما ذكرته الرواية فأشير إليه في الآية. تعليق على جملة وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وجملة وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها معترضة أو استطرادية. ويتبادر أنها بسبيل تصوير شدة مكابرتهم وعنادهم وإصرارهم على عدم الإيمان والتصديق مهما رأوا من آيات الله. وقد تكرر مثل هذا التعبير في مثل هذه المناسبة. ومن ذلك آيات سورة الإسراء [45- 46] التي مرّ تفسيرها وعلّقنا عليها بما فيه الكفاية وما قلناه هناك ينسحب على هذه الآية بما في ذلك ما لمحناه من قصد التسجيل لواقع الكفار حين نزولها. ويتبادر لنا أنه قصد بالعبارة هنا بخاصة تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتهوين عناد الكفار ومواقفهم عليه. والأسلوب الاستطرادي مما يؤيد ذلك.

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الخازن والبغوي والطبرسي. [.....] (2) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير لهذه الآيات.

[سورة الأنعام (6) : آية 26]

[سورة الأنعام (6) : آية 26] وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26) قال المفسرون «1» في تأويل الآية إن زعماء المشركين كانوا ينأون عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن القرآن فلا يؤمنون به وينهون غيرهم عن الإيمان به فجمعوا بذلك بين القبيحين. وهم بذلك لا يضرون إلا أنفسهم دون أن يشعروا. ورووا مع ذلك «2» أن الآية نزلت في أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يدافع عنه ولا يؤمن به في الوقت نفسه. وقد صوب الضحاك وقتادة ومجاهد والطبري التأويل الأول وهو ما نراه الأوجه، ولا سيما إذا لوحظ أن الآية جاءت في سياق تعنيف زعماء الكفار على مواقف عنادهم ومكابرتهم ثم في سياق جدلهم في القرآن. وليس في السياق مجال للاستطراد إلى وصف موقف عمّ النبي صلى الله عليه وسلم والآية بعد معطوفة على ما قبلها وليست فصلا مستقلا. والآيات التالية لها هي استمرار في السياق أيضا. أما الشطر الثاني من الآية فقد جاء بمثابة تعقيب على ما حكاه شطرها الأول حيث قرر أن ما يفعله الكفار إنما يضرون به أنفسهم ويهلكونها به دون أن يشعروا ويدروا. [سورة الأنعام (6) : الآيات 27 الى 28] وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28) الآيتان معطوفتان على الآية السابقة في صدد الإشارة إلى مواقف الكفار وإنذارهم والضمير فيها راجع إليهم. وقد حكت الآية الأولى ما سوف يشعرون به من الندم على هذه المواقف حينما يقفون على النار يوم القيامة ويتيقنون من مصيرهم الرهيب فيها فيأخذون يتمنون العودة إلى الدنيا فلا يكذبون بآيات الله ويكونون من المؤمنين برسله. وقد احتوت الآية الثانية تنديدا وتبكيتا للكفار ثم

_ (1) انظر تفسيرها في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والطبرسي والزمخشري والخازن. (2) انظر تفسيرها في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والطبرسي والزمخشري والخازن.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 29 إلى 30]

توكيدا بأنهم لو عادوا إلى الدنيا كما طلبوا لعادوا إلى ما نهوا عنه وإنهم لكاذبون. وينطوي في هذا تعليل لذلك بأنهم إنما كانوا يصدرون عن نية خبيثة وطوية فاسدة. ولقد أوّل المؤولون الشطر الأول من هذه الآية بتأويلين أحدهما: «إنهم إنما قالوا ما حكته الآية الأولى عنهم لأنهم بدا لهم عاقبة وبال ما كانوا يخفونه من المساويء والمعاصي» . وثانيهما: «إنهم ظهر لهم مصداق ما كانوا مستيقنين منه من صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما كان يدعو إليه ويبلغه ويبشر وينذر به والذي كانوا يجحدونه استكبارا وحسدا وغيظا» . وكلا التأويلين وارد. ولقد أشير إلى الأول في آية سورة السجدة [12] وآية سورة فاطر [37] وأشير إلى الثاني في آية سورة ص [7] وآيات سورة فاطر [42 و 43] وآية سورة الزخرف [31] . وواضح أن الآيتين استهدفتا فيما استهدفتاه إنذار الكفار وإثارة الخوف في قلوبهم وتصوير ما استقر في نفوسهم من تعمد العناد والكفر وفقدهم الرغبة الصادقة في الإيمان والصلاح وفيهما تطمين وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أيضا بالإضافة إلى ما فيهما من مشهد أخروي يجب الإيمان به. [سورة الأنعام (6) : الآيات 29 الى 30] وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) في الآية الأولى حكاية لما كان يقوله الكفار حيث كانوا يزعمون ويؤكدون أنه ليس من حياة وراء هذه الحياة، وأنهم لن يبعثوا بعد الموت. وفي الآية الثانية ردّ إنذاري موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. أو إلى سامع القرآن إطلاقا، وهذا من أساليب الخطاب العربي بسبيل توكيد بعثهم وحكاية لما سوف يكون بينهم وبين الله تعالى إذ ذاك حيث يسألهم حينما يقفون أمامه أليس ما يرونه هو الحق الذي كانوا ينكرونه، فيجيبون بالإيجاب فيقول لهم إذا ذوقوا العذاب جزاء إنكارهم وكفرهم. والآيتان معطوفتان كذلك على سابقاتهما واستمرار في السياق. وفيهما قصد الإنذار مع توكيد البعث والجزاء. وما جاء في الآيتين من أقوال الكفار قد تكرر الجزء الرابع من التفسير الحديث 6

[سورة الأنعام (6) : الآيات 31 إلى 32]

كثيرا ومرّ منه أمثلة في السور التي سبق تفسيرها لأن الموافقة المماثلة كانت تتكرر وتتجدد. [سورة الأنعام (6) : الآيات 31 الى 32] قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32) (1) الساعة: في أكثر مواضع القرآن تأتي كناية عن وقت قيام القيامة وقد أوّلها المفسرون هنا كذلك أيضا. غير أن الذي يتبادر لنا والله أعلم أنها هنا بمعنى ساعة أجل المكذبين في الحياة، لأن هذا هو الأكثر تأثيرا على السامعين الموجه إليهم الإنذار من حيث إن موعد قيام الساعة العام متأخر عنهم. (2) يزرون: يحملون. الآية الأولى تقرر خسران المكذبين بلقاء الله والبعث، وتحكي ما سوف يستشعرون به من الحسرة والندامة على ما فرطوا في حياتهم وأضاعوا الفرصة حينما تأتيهم الساعة بغتة ويلقون الله حاملين خطاياهم وآثامهم، وبئست من حمل. والثانية تقرر بأسلوب فيه توكيد وتنديد بأن الحياة الدنيا ليست إلا لعبا ولهوا وأن الآخرة هي خير وأبقى للذين يتقون الله تعالى وأن هذا مما يجب أن يدركوه لو تعقلوا وترووا. وفي صيغة الاستفهام معنى التثريب والتنديد. والآيتان معقبتان على الآيات السابقة كما هو المتبادر وفيهما تنديد وإنذار للكفار وتصوير لما سوف يحل بهم من الندامة بأسلوب آخر ومع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي الذي حكته فإن المتبادر أن من حكمة ذكره قصد إثارة الخوف والارعواء فيهم وقد تكرر ذلك في آيات كثيرة، مرّت أمثلة منها في السور التي سبق تفسيرها. ويلحظ أن وصف حالة ندم الكفار يوم القيامة على ما قدموا قد تكرر في

تعليق على جملة وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو

السياق وهذا مما يدعم قصد الإنذار وإثارة الخوف والارعواء قبل فوات الوقت، وبالتالي قصد الإصلاح في الآيات كما هو المتبادر. تعليق على جملة وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وقد يتبادر إلى الوهم أن الآية الأخيرة هي في صدد الدعوة إلى الفراغ من الدنيا ونبذها والذي يستلهم من روح الآية أن القصد هو تعظيم شأن الآخرة وتعظيم شأن الاستعداد لها بالإيمان والعمل الصالح والتقوى والاعتقاد فيها اعتقادا يجعل المرء يراقب الله في أعماله ولا يستغرق في متاع الدنيا وشهواتها استغراقا ينسيه واجباته نحو الله والناس. وتوكيد كون الحياة الدنيا بقصر أمدها وبنسبتها إلى الحياة الأخروية الخالدة هي بمثابة لعب ولهو لا يتحمل استغراقا مثل هذا الاستغراق. [سورة الأنعام (6) : الآيات 33 الى 36] قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) الآيات موجهة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بسبيل تثبيته وتسليته فالله تعالى يعلم أن ما يقوله الكفار له- من أنه مفتر ومن أنه شاعر ومن أنه كاهن ومن أنه ساحر- يحزنه ويؤلمه. ولكن ليس من داع إلى ذلك لأنهم لا يكذبونه هو بل يكذبون آيات الله ويجحدونها، ولذلك فهم خصماء الله وعليه جزاؤهم. وموقفهم هذا ليس بدعا إزاءه بخاصة. فقد كذبت رسل من قبله أيضا فصبروا على التكذيب والأذى حتى أتاهم نصر الله. وهذه هي سنة الله التي لا تتبدل. وقد عرفها مما جاء إليه من أنباء

تعليق على جملة فإنهم لا يكذبونك

الرسل ومصائر الأمم في القرآن. وليس من موجب لتفكيره في صنع المستحيل كأن يحفر نفقا ينزل فيه إلى أعماق الأرض أو ينصب سلما يصعد فيه إلى أعالي السماء ليأتيهم بآية يقنعون بها بسبب ما يعظم عليه من إعراضهم ويشق عليه من عدم استجابتهم. فذلك من شأن الجهلاء الذين لا ينبغي أن يكون هو منهم. فلو شاء الله لجمعهم على الهدى. ولكن حكمته قضت بأن يكون الناس أصحاب اختيار حرّ ليستجيبوا إلى الدعوة أو يعرضوا عنها باختيارهم، والناس أقسام فمنهم ذوو قلوب حية، ومنهم ذوو قلوب ميتة. فالأولون يسمعون ويستجيبون إلى نداء الله ودعوته. أما الآخرون فهم بمثابة الموتى الذين لا يسمعون فلا يستجيبون للنداء. ومرجع هؤلاء إلى الله تعالى فسوف يبعثهم ثم يجزيهم بما يستحقون. والآيات جاءت معقبة على الآيات السابقة التي حكت مواقف الكفار وجحودهم وشدة عنادهم وبخاصة زعمائهم واحتوت في ذات الوقت إنذارا لهم ووعيدا وتنديدا. وأسلوبها رائع نافذ حقا فيما استهدفته من تطمين نفس النبي صلى الله عليه وسلم وتهدئته وفي تصوير شدة إشفاقه ورغبته في هداية قومه وحزنه من تصاممهم وتكذيبهم له. وفي الآية الأخيرة ثناء وتنويه بالذين يذعنون للحق والحقيقة، ولا يكابرون فيهما وتقريع للذين يعاندون ويكابرون عن خبث نية وفساد طوية. أولا: وفيها توكيد لما نبهنا عليه مرارا من أن الذين يكفرون ويقفون مواقف المناوأة والتكذيب وعدم الاستجابة، إنما يصدرون عن خبث طوية ومكابرة. وقد يكون في الآيات صورة للسامعين للقرآن. غير أن أسلوبها المطلق يجعل تلقيناتها الجليلة المشروحة مستمرة المدى. تعليق على جملة فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ لقد روى الترمذي في سياق الآية الأولى حديثا عن علي بن أبي طالب قال: «إنّ أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم نحن لا نكذّبك ولكنّا نكذّب بما جئت به فأنزل الله

[سورة الأنعام (6) : الآيات 37 إلى 39]

الآية» «1» . وروى الطبري أن جبريل جاء يوما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجده حزينا فسأله عما يحزنه فقال له إنهم كذبوني فقال له إنهم يعلمون أنك صادق فهم لا يكذبونك ولكنهم يجحدون بآيات الله وبلّغه الآية عن الله» . والحديثان لا يعزوان ما جاء فيهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو المرجع الذي ينقل عنه مثل ذلك. والآية بعد منسجمة مع الآيات الأخرى ومع السياق بحيث يسوغ التوقف في كونها نزلت لمناسبة ما جاء في الأحاديث. وهذا لا يمنع أن يكون ما جاء في حديث الترمذي واقعا في ذاته وقد مرّ في سياق تفسير الآية [28] من هذه السورة رواية من بابها تفيد أن الكفار كانوا مستيقنين من صدق النبي صلى الله عليه وسلم وأنهم كانوا يقفون منه موقف المناوأة استكبارا وحسدا وقد أوردنا في سياق ذلك بعض الآيات التي تفيد ذلك أيضا. على أن الطبري وغيره يروون في الوقت نفسه أن الذي عنته الآية من حزن النبي صلى الله عليه وسلم هو تكذيبهم إياه فعلا وقولهم إنه شاعر وإنه كاهن وإنه كاذب وإنه مفتر وإنه ساحر مما حكته عنهم آيات عديدة مرت أمثلة منها في السور التي سبق تفسيرها كذلك، فأنزل الله الآية على سبيل تثبيته وتطمينه والتنديد بالكفار وذكر الحقيقة من مواقفهم ولا يخلو هذا من وجاهة أيضا، والله أعلم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 37 الى 39] وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) في الآيات حكاية لتحدي الكفار النبي صلى الله عليه وسلم باستنزال آية ومعجزة من الله مؤيدة له. وأمر بالرد عليهم: بأن الله قادر على ذلك ولكن أكثر المتحدين لا يعلمون ولا يدركون حكمة الله تعالى في تحقيق ذلك أو عدم تحقيقه. وبأن قدرته أوسع شمولا وتناولا وأن آياته ماثلة للعيان في كل شيء. وأنه ليس في الأرض دابة وليس في

_ (1) روى هذا الحديث الترمذي أيضا انظر التاج ج 4 ص 98.

تعليق على آية وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون

السماء طائر إلا هو من خلقه تتناولهم قدرته ويجري فيهم حكمه وتدبيره. وأنه ليس من شيء يمكن أن يفلت من علمه ويخرج من نطاق تصرفه وحكمه، وأن كل مخلوق راجع أمره إليه، وأن الذين يكذبون بآيات الله الماثلة لعيانهم في كل شيء والتي تنبههم إليها آيات القرآن هم في موقفهم التعجيزي الذي يطالبون فيه بآية جديدة كالصمّ الذين لا يسمعون، والبكم الذين لا ينطقون، وكالذين في الظلمات لا يرون شيئا فمن شاء الله أضله ومن شاء جعله على طريق مستقيم. ولم يرو المفسرون رواية خاصة في صدد ما حكته الآيات من طلب الكفار آية من النبي صلى الله عليه وسلم ينزلها عليه ربه. وعطف الآيات على ما قبلها، وما بينها وبين ما قبلها من تماثل وانسجام يسوغ القول إنها استمرار في السياق بسبيل حكاية مواقف الكفار وتعجيزاتهم والتنديد بهم بصورة عامة. ويلفت النظر إلى أسلوب القرآن الحكيم في الإجابة على التحدي باستنزال الآية بما هو أولى، فالكفار يتحدون النبي صلى الله عليه وسلم باستنزال آية والقرآن يلفت نظرهم إلى آيات الله العظيمة الماثلة لأعينهم في السماء والأرض والإنسان والدواب والطير. فمن لم يؤمن بالله واستحقاقه للعبادة وحده وعظمته بما يراه من هذه الآيات لا يؤمن بأية آية أخرى. ولا سيما أن الإيمان بذلك يتوقف على سلامة العقل والرغبة في الحق والنية الحسنة ولا ينبغي أن يكون متوقفا على معجزات خارقة وعابرة. وهذه المعاني تكررت في القرآن في سياق حكاية كل تحدّ مماثل صدر عن الكفار وهي معان قوية رائعة نافذة حقا. تعليق على آية وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ 1- قال المفسرون ورووا عن أهل التأويل أن الشطر الأول من الآية يعني أن الله جعل الدواب والطيور أصنافا مثل البشر، تتصرف في حياتها بما أودعه الله فيها كما يتصرفون، وهذا وجه سديد.

2- وقالوا ورووا في صدد جملة ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ أن الدواب والطيور تحشر يوم القيامة وتحاسب ويقضى بينها ثم يقول الله لها كوني ترابا فتكون ترابا. وأوردوا أحاديث في ذلك منها حديث رواه الإمام أحمد عن أبي ذر قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى شاتين تنتطحان فقال يا أبا ذرّ هل تدري فيم تنتطحان؟ قال: لا، قال: ولكن الله يدري وسيقضي بينهما» . وحديث رواه الإمام أحمد عن عثمان قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة» وحديث غير معزو للنبي صلى الله عليه وسلم أخرجه عبد الرزاق عن أبي هريرة جاء فيه: «يحشر الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير وكل شيء فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول كوني ترابا فتكون ترابا» . وهناك حديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتؤدى الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء» ولقد عقب الطبري على كل هذا بقوله إنه ليس في الآية صراحة عن وقت الحشر وليس هناك خبر ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فجائز أن يكون الحشر ليوم القيامة كظاهر الآية وجائز أن يكون بمعنى أنه جامعهم وحاشرهم إليه بالموت. ونرى هذا سديدا والوقوف عنده أسلم. ويظهر من هذا أن حديث مسلم والترمذي لم يثبت عنده. وإذا صح فالحكمة المتبادرة منه هي قصد التوكيد والتشديد على المؤمنين بأداء حقوق بعضهم إلى بعضهم وعدم ظلمهم بعضهم لبعض، والله أعلم. 3- أما جملة ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ فهناك من أول الكتاب بأم الكتاب أو اللوح المحفوظ الذي روى أن الله تعالى أمر بكتابة كل ما هو كائن حين خلقه عليه وقد علقنا على ذلك بما فيه الكفاية في سورة البروج ورجحنا أنه يعني علم الله المحصي لكل شيء. وهناك من أولها بعلم الله المحيط بكل خلقه الذي لا ينسى من رزقه وتدبيره أحدا ولا شيئا ومنهم من أول الكتاب في الجملة بالقرآن وأورد آية سورة النحل هذه: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [89] لتأييد تأويله. وقد ردّ قائلو هذا على من قال إن القرآن ليس فيه تفاصيل كل علم وفن

ومذهب وتاريخ. فإن القصد من العبارة بيان الأشياء التي يجب معرفتها والإحاطة بها، أو بأن القصد منها وجود إشارات أو أساس لكل شيء بقطع النظر عن التفاصيل والجزئيات. وهذه الأقوال والتأويلات اجتهادية وتطبيقية، وليس هناك شيء فيما اطلعنا عليه ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه في تأويل الجملة. ويلحظ أنها ليست مستقلة عن ما قبلها وعن ما بعدها بحيث يسوغ القول إنها في صدد ما جاء في الآية من تقرير كون الله جمع الحيوانات من بشر ودواب وطيور صنوفا وكون مردهم وحشرهم إليه وكون علم الله محيطا بهم أن أي تفريط بشيء من أحوالهم وأمورهم. وهذا يتسق من حيث الإطلاق بالقول الثاني أيضا. وسيأتي بعد قليل في هذه السورة آية تدعم هذا وهي الآية [59] وقد ورد في سور سبق تفسيرها آيات فيها هذا الدعم وهي آيات النمل [75] ويونس [75] وهود [6] وما ذكرته هود بخاصة تكاد تكون في عبارتها مثل الآية التي نحن في صددها وهناك آيات أخرى من باب ذلك في سور أخرى لم يسبق تفسيرها أيضا. وفي كل ما تقدم نفي لكون (الكتاب) في الجملة قد عنى (القرآن) ورد على من يقتطع الجملة من الآية من مسلمين وغير مسلمين ويأخذها كعبارة مستقلة عن ما قبلها وبعدها وكونها عنت (القرآن) وعلى من يدلل من المسلمين من هؤلاء بها على أن القرآن احتوى كل شيء ويحاول محاولات فيها كثير من التمحل والمجازفة بسبيل إثبات ذلك في حين ينتقد غير المسلمين من هؤلاء القرآن على ضوء ما يقوله أولئك المسلمون من حيث إن القرآن لا يحتوي على كل شيء. وعلى كل حال فالذي يتبادر لنا أن الآيات التي جاءت فيها العبارات الثلاث هي في صدد تقرير شمول علم الله تعالى وقدرته وحكمته وتدبيره وإحاطته للتدليل على أن الذي له هذا الشمول لا يعجز عن إنزال آية يتحداه بها حفنة من خلقه، وأن الأولى هو الوقوف عند هذا الحد في صدد مدى النصّ القرآني. والله تعالى أعلم.

تعليق على جملة من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم

تعليق على جملة مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وقد توهم الفقرة الأخيرة من الآية الأخيرة أن الله قد شاء وحتم الضلال لأناس والهدى لأناس إطلاقا. ولقد ورد مثل هذه العبارة في آيات أخرى مقيدة بما يزيل مثل ذلك الوهم حيث ذكر فيها أن الله إنما يضل الفاسقين [آية سورة البقرة 26] وإنما يضل الظالمين [آية سورة إبراهيم 27] ويهدي إليه من أناب [آية سورة الرعد 27] فمن الحق أن تفهم هذه العبارة حينما تجيء مطلقة كما هي هنا على ضوء القيد الوارد في الآيات المذكورة وأمثالها وحينئذ لا يبقى محل للتوهم على ما نبهنا عليه في مناسبات مماثلة سابقة. وأن يلحظ أنه لا يصح أن يكون الله قد شاء الضلال لأحد وهو الذي أرسل رسله للناس وهو الذي يقول في آية في سورة الزمر وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ [7] ومع ذلك ففي الآيات التي نحن في صددها قرينة ملهمة لذلك حيث وصف الكفار بالصمم والبكم وأنذروا بالنار بسبب كفرهم وتكذيبهم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 40 الى 41] قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41) (1) الساعة: المرجح أنها هنا بمعنى الأجل والموت بالنسبة للسامعين على ما شرحناه قبل قليل. وروح الآيات هنا مؤيدة لتأويلها بذلك بقوة عند إمعان النظر فيها. في الآية الأولى أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بسؤال الكفار عما إذا كانوا يدعون غير الله حينما يحدق بهم خطر أو عذاب أو حينما يشعرون بدنو أجلهم وحلول ساعتهم إذا

[سورة الأنعام (6) : الآيات 42 إلى 45]

كانوا صادقين في دعواهم الإيمان به. وفي الآية الثانية تعقيب تقريري بواقع ما يفعلون وإلزامهم الحجة حيث إنهم لا يدعون فعلا إلى الله وحده، وينسون شركاءهم في مثل هذه المواقف على اعتقاد أن الله وحده هو الذي يملك كشف الضر والبلاء. والآيتان استمرار في حكاية موقف الجدل والمناظرة. وهما متصلتان بالسياق كما هو المتبادر. وفيهما تنديد وإلزام وإفحام للمشركين الذين لا يلجأون إلا إلى الله تعالى وحده في أوقات الخطر في حين أنهم يشركون معه غيره ويتصاممون عن الدعوة إليه وحده في أوقات الرخاء. وهذا الذي احتوته الآية الثانية احتوته آيات عديدة أخرى بصراحة أكثر، مرّ مثال منها في سورة يونس [الآيات 22- 23] . والآية الثانية قوية الصراحة في صدد بيان عقيدة المشركين في الله والشركاء كما هو المتبادر. [سورة الأنعام (6) : الآيات 42 الى 45] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45) (1) البأساء: البؤس وشدة الفقر. (2) الضراء: الأسقام والعلل. (3) يتضرعون: يتذللون إلى الله ليكشف البأساء والضراء عنهم. (4) فلولا: بمعنى فهلّا. (5) مبلسون: يائسون من النجاة، ولعلها بمعنى أنهم ضاعت عليهم فرصة النجاة.

(6) ظلموا: هنا بمعنى أجرموا وبغوا وتمردوا وكفروا. في الآيات تقرير وتذكير بما كان من أمر الأمم السابقة، فقد أرسل الله تعالى إليها رسله بالبينات والمواعظ فلم تستجب ولم تتعظ، فأخذها الله بشيء من الشدة في الأموال والأنفس والأجسام لعلها تتضرّع إليه وتذكره فلم تفعل. وظلت سادرة في غيّها متبعة لتزيينات الشيطان لما هي عليه من ضلال. وزاد الله في امتحانهم فآتاهم اليسر بعد العسر والفرج بعد الشدة ففرحوا وازدادوا نسيانا لله وانصرافا عن دعوة رسله ومواعظهم. وحينئذ فاجأهم بعذابه وبلائه فانقطع دابر الظالمين وضاعت عليهم فرصة النجاة والإنابة إلى الله التي تهيأت لهم. والآيات متصلة بالسياق ومعقبة عليه كما هو المتبادر، وقد جاءت جريا على الأسلوب القرآني في التذكير بالأمم السابقة عقب حكاية مواقف كفار العرب وعنادهم وإعراضهم بسبيل إنذار هؤلاء الكفار بأنهم أمام امتحان رباني فلا يغتروا بما هم فيه من مال وسلامة ووفرة، ولا يستمعوا إلى وساوس الشيطان فيقعوا فيما وقع فيه من قبلهم. والآيات إلى هذا احتوت تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتطمينا لقلبه وبشرى له بأن الله قاطع دابر الظالمين، وأن ما هم فيه من رغد ورخاء ليس إلّا امتحانا ربانيا. ومع خصوصية الآيات الزمنية فإن فيها تنبيها عاما شاملا لكل زمن ومكان إلى وجوب ذكر الله وتجنب غضبه واتباع آياته وأوامره في كل حال، وعدم الاغترار ببسمات الدهر ونسيان الله فيها. ولقد أورد المفسرون في سياق الآية الثانية بعد أن قالوا إنها من قبيل الاستدراج والإمهال حديثا رواه الإمام أحمد عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحبّ فإنما هو استدراج ثم تلا الآية» «1» . وهناك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء

_ (1) النص من تفسير ابن كثير.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 46 إلى 47]

فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله ليملي للظالم حتّى إذا أخذه لم يفلته» «1» . وفي الأحاديث توضيح وتحذير نبوي متساوقان مع مدى الآيات كما هو واضح. وننبه على أن في سورتي الأعراف والقلم اللتين مرّ تفسيرهما آيات فيها توضيح أكثر صراحة وهما الآيتان [183 و 184] في الأعراف و [44 و 45] في القلم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 46 الى 47] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) (1) نصرف الآيات: نقلب وجوه الكلام في القرآن. (2) يصدفون: يعرضون. في الآيتين أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بسؤال الكفار عما إذا كان غير الله يستطيع أن يرد عليهم سمعهم وأبصارهم وعقولهم إذا ما طرأت عليها الطوارئ فذهبت بها، وعما إذا كانوا يظنون أن الله تعالى إذا أرسل عذابه عليهم فجأة بدون مقدمة، أو جهرة بعد مقدمات هل يمكن أن يهلك به غير الظالمين الباغين حتى يقفوا هذا الموقف الظالم الباغي الذي فيه اغترار وطمأنينة إلى الدهر. والفقرة الثانية من الآية الأولى جاءت معقبة ومنددة، فالله تعالى يضرب لهم الأمثال ويبيّن لهم الحقائق بأساليب متنوعة في آياته ولكنهم يعرضون عنها. والآيتان استمرار للسياق بسبيل إنذار الكفار والتنديد بهم والتعقيب على مواقفهم المحكية كما هو المتبادر وفي السؤالين اللذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتوجيههما إلى الكفار واللذين لا شك في أنه وجههما مقرعا منددا إفحام وإلزام قويان مستمدان من عقيدة المشركين التي حكتها آيات سابقة بكون الله تعالى هو المتصرف

_ (1) التاج ج 2 ص 64.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 48 إلى 49]

المطلق وحده في الكون، وهو وحده الذي يكشف الضرّ ويدفع البلاء. وفي الفقرة الأخيرة من الآية الثانية نصّ من النصوص القرآنية الحاسمة التي تكررت كثيرا بأن عذاب الله إنما يحيق بالظالمين بسبب ظلمهم، أي إجرامهم وعصيانهم وبغيهم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 48 الى 49] وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49) والآيتان كذلك متصلتان بالسياق اتصالا تعقيبيا كما هو المتبادر حيث احتوتا تقريرا ربانيا بعد الآيات الإنذارية والتقريعية التي سبقتهما بأن الله تعالى إنما يرسل رسله للتبشير والإنذار، ثم يكون الناس صنفين حسب مواقفهم منهم. فالذين يؤمنون ويعملون الصالحات لهم البشرى والفوز ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين يكذبون لهم العذاب جزاء ما وقع منهم من فسق وتمرد على الله. وفي الآيات أيضا نصّ من النصوص القرآنية الحاسمة بأن رحمة الله وأمنه وعذابه إنما يكون حسب سلوك الناس من إيمان وصلاح وفسق وعصيان باختيارهم بعد أن يكونوا قد بشروا وأنذروا من قبل رسل الله تعالى. [سورة الأنعام (6) : آية 50] قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50) أمرت الآية النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلن أنه لا يزعم لنفسه أنه يملك خزائن الله أو يعلم الغيب أو أنه ملك، وإنما هو رسول أرسله الله للتبشير والدعوة ولا يقول ما يقول ويفعل ما يفعل إلا وفقا لوحي الله، وبأن يسأل الكفار سؤال استنكار وتبكيت عما إذا كان يستوي الأعمى والبصير، وبأن يندد بهم لأنهم لا يتفكرون في الأمور. ولقد عزا الطبري إلى مجاهد وغيره تأويل الكافر والمؤمن والضال والمهتدي

تعليق على آية قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك

لكلمتي الأعمى والبصير. والمقام قد يتحمل ذلك وإن كان احتمال حقيقة العمى والإبصار فيه أقوى ورودا فيما روي على سبيل التمثيل والمقارنة. تعليق على آية قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ والآية متصلة بالسياق اتصال تعقيب وتوضيح كما هو المتبادر وضمير الجمع المخاطب فيها عائد إلى الكفار المشركين موضوع الآيات السابقة التي حكت مواقفهم وتحديهم ونددت بهم وأنذرتهم. وهي قوية رائعة نافذة في تقريرها طبيعة النبي صلى الله عليه وسلم البشرية ومهمته التبشيرية والإنذارية وفي أمرها للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول إنه ليس ملكا، وليس عالما بالغيب وليس مالكا لخزائن الله وبأن ليس له إلّا أن يقف عند حدود ما يوحى إليه به. وقد سبق تقرير ذلك وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في سورتي الأعراف ويونس. ولقد رأينا المفسر الخازن يقول في سياق تفسيره للآية إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نفى عن نفسه ما نفاه تواضعا لله واعترافا بالعبودية له. وهو قول غريب، وقد غفل المفسر عن أن ما نفاه عن نفسه هو حقيقة منبثقة من طبيعة النبي البشرية التي قررها القرآن مرة بعد أخرى، وعن أن الله تعالى هو الذي أمره بقول ذلك، وليس الكلام من النبي مباشرة. وهذا لا يمنع من القول بأن موقف النبي صلى الله عليه وسلم كان ولا شك رائعا أخاذا حينما نفذ أمر الله تعالى فأعلن للناس جميعهم المؤمنين منهم والمشركين على السواء ما أمر بنفيه عن نفسه. [سورة الأنعام (6) : الآيات 51 الى 55] وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)

(1) يخافون أن يحشروا إلى ربهم: يخافون يوم حشرهم إلى ربهم. (2) فتكون من الظالمين: فتكون من الجائرين في عملهم. (3) فتنّا بعضهم ببعض: جعلنا التفاوت بينهم اختبارا لمعرفة سلوكهم إزاء بعضهم. (4) ولتستبين سبيل المجرمين: قرئت سبيل بالرفع وبالنصب «1» . ومعنى الجملة في الحالة الأولى (ولتظهر الطريق الذي يسلكه المجرمون) ومعنى الجملة في الحالة الثانية (ولتعرف أيها النبي السبيل الذي يسلكه المجرمون) . في الآية الأولى أمر رباني للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ينذر بالقرآن بنوع خاص الطبقة التي تخشى الله تعالى يوم الحشر وتؤمن بالرجوع إليه وتعترف بأنه ليس لها من دونه من ولي ولا شفيع، فهي التي يمكن أن تنتفع بالإنذار والموعظة وتتقي الله. وفي الآية الثانية نهي رباني للنبي صلى الله عليه وسلم عن طرد المؤمنين الذين يبتغون وجه الله ويتجهون إليه ويدعونه في الصباح والمساء فليس عليه حسابهم وليس عليهم حسابه، فإذا طردهم كان من الظالمين الجائرين. وفي الآية الثالثة حكاية لموقف الكفار من المؤمنين وما كان في ذلك من اختبار رباني. فقد كان زعماء الكفار حينما يرون بعض الفقراء الأرقاء والضعفاء المسلمين ملتفين حول النبي صلى الله عليه وسلم يتساءلون تساؤل المحتقر المستهزئ عما إذا كان هؤلاء هم الذين اختصهم الله برحمته من بينهم ومنّ عليهم بهدايته. وردّ عليهم بأن

_ (1) انظر تفسيرها في تفسير ابن كثير والطبري.

تعليق على الآية وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم والآيات الخمس التالية لها وما فيها من صور وتلقين

الله إنما جعل التفاوت بين الناس امتحانا ليعلم تصرفهم إزاء بعضهم وهو الأعلم بالصالحين للهداية الشاكرين لنعمة الله بها. وفي الآية الرابعة أمر رباني للنبي صلى الله عليه وسلم بالبرّ بالمؤمنين حينما يقبلون عليه فيحييهم ويبشرهم بأن ربهم آلى على نفسه بمقتضى صفة الرحمة التي اتصف بها أنه من عمل منهم عملا سيئا وهو جاهل ثم ندم عليه وتاب منه وعمل صالحا يكون موضع غفرانه ورحمته. وفي الآية الخامسة تقرير رباني بأن الله تعالى يفصل الآيات حتى يعرف السبيل التي يختار سلوكها المجرمون بوضوح. والآيات وحدة مترابطة الأجزاء، والآية الأخيرة التي جاءت بمثابة التعقيب قرينة على ذلك، وهي غير منقطعة عن السياق. فبعد أن جودل الكفار وأفحموا وأنذروا جاءت هذه الآيات ملتفتة إلى الذين آمنوا بالرسالة المحمدية لتقرر أنهم هم الذين يمكن أن ينتفعوا بالموعظة والإنذار القرآني لما ثبت من حسن نيتهم وصفاء نفوسهم وصدق رغبتهم في الاهتداء، ولتأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتمسك بهم وإغداق عطفه عليهم وتبشيرهم برحمة الله وعفوه وبعدم المبالاة بموقف الكفار وبخاصة الزعماء منهم. تعليق على الآية وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ والآيات الخمس التالية لها وما فيها من صور وتلقين لقد روى المفسرون في صدد هذه الآيات روايات عديدة «1» جاء في بعضها أن زعماء الكفار كانوا إذا مروا بالنبي صلى الله عليه وسلم وحوله فقراء المسلمين سخروا وقالوا هؤلاء الذين منّ الله عليهم من بيننا فهداهم. وفي بعضها أنهم طلبوا من النبي طردهم حتى يتبعوه أو طردهم إذا ما جلسوا إليه أو أرادوا الاجتماع به. وفي بعضها أن النبي صلى الله عليه وسلم

_ (1) الطبري أكثرهم استيعابا للروايات.

خطر بباله أن يستجيب إلى طلبهم وأن عمر بن الخطاب اقترح عليه ذلك ليظهر مدى موقف الزعماء وأن النبي همّ بأن يكتب لهم عهدا بذلك فأنزل الله الآيات. وهناك رواية تذكر أن الذين طلبوا بعض هذه المطالب هم زعيما قبيلتي تميم وبني فزارة. وهناك رواية تذكر أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اقترفوا ذنوبا كبيرة فجاؤوا إلى النبي نادمين فلم يرد عليهم فأنزل الله الآية [54] ومقتضى هذه الرواية أن هذه الآية نزلت لحدتها مع أنها منسجمة جدا بما قبلها وبعدها. على أن هناك حديثا ذكره مسلم عن سعد جاء فيه: «كنّا مع رسول الله ستة نفر فقال المشركون للنبي اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا. وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسميهما، فوقع في نفس رسول الله ما شاء الله وحدّث نفسه فأنزل الله عز وجل وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ... [52] إلخ «1» . ومهما يكن من أمر فالآيات تنطوي على صورة من صور السيرة النبوية. فكثير من الذين آمنوا في أول الأمر كانوا من الفقراء والمساكين، فكان زعماء الكفار يتخذونهم موضوع سخرية ويعدونهم مظهرا من مظاهر إخفاق النبي صلى الله عليه وسلم في نشر دعوته. وكان بعضهم يتحججون بهم في عدم الاستجابة لئلا يكونوا معهم في مستوى واحد، ويطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم طردهم من مجلسه حينما يريدون أن يجتمعوا به أو يريد أن يجتمع بهم. ومضمون الآيات قد يلهم أن موقف زعماء الكفار كان يؤثر في نفس النبي صلى الله عليه وسلم بعض الشيء، ويوجد فيه أملا في اهتداء زعماء الكفار ويجعله يتشاغل عن تلك الطبقة أو يهملها أو يفكر في إقصاء من يكون في مجلسه منها أحيانا انسياقا وراء هذا الأمل. فنبه في الآيات إلى ما في هذا من خطأ، كما عوتب على موقف مثل هذا الموقف في أوائل سورة عبس التي مرّ تفسيرها. ولقد احتوت سورة الكهف آية فيها صراحة في هذا الباب وهي هذه: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ

_ (1) التاج ج 5 ص 165. الجزء الرابع من التفسير الحديث 7

[سورة الأنعام (6) : الآيات 56 إلى 58]

فُرُطاً (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [28- 29] مما يدل على أن هذا الموضوع كان مما يكثر الأخذ والرد فيه بين النبي وزعماء الكفار أو كانت صوره تتكرر فتقتضي حكمة التنزيل موالاة التنبيه والتحذير والتعليم للنبي صلى الله عليه وسلم. على أنه يتبادر لنا من روح الآيات وعطفها على ما سبقها، ومن روح الآيات التالية لها أنها لم تنزل بمناسبة موقف من مثل هذه المواقف مباشرة، وإنما نزلت استمرارا واستئنافا للسياق الذي فيه حكاية مواقف الكفار وتعجيزاتهم، وإن كان من المحتمل أن يكون حدث حادث من نوع ما ذكرته الروايات والحديث الصحيح في ظروف نزولها أو قبله فأشير إليه. وإنعام النظر في مدى الآيات ومضمونها يجعل الناظر يرى فيها صورة رائعة من سمو الأهداف القرآنية في إعلاء شأن المؤمن الصالح مهما كان فقيرا أو متخلفا في السلّم الاجتماعي وفي تقرير حق تقدمه على الكافر الشرير مهما كان غنيا عالي الدرجة، كما يجعله يرى فيها مبادئ جليلة الشأن حيث يؤذن القرآن عدم إقرار التمايز العلني وتفاضل الناس على أساسه بل ويقضي عليه، ويقرر الأفضلية للعمل الصالح والنية الحسنة وطهارة القلب، ويفتح الباب للمسيء عن جهل للدخول في حظيرة الصلاح بتوبته عن الفساد وبعمله الصالح، ويندد بمن يتبجح بعلوّ طبقته ويحتقر ما دونه. [سورة الأنعام (6) : الآيات 56 الى 58] قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) (1) يقصّ الحق: قال المفسرون معنى يقص هنا يقول. وروى الطبري أن

كلمة (يقص) قرئت (يقضي) ورأى في ذلك وجاهة أكثر لأنها تتسق بذلك مع الجملة التالية لها. (2) الفاصلين: من الفصل بمعنى القضاء بين الناس. (3) الظالمين: هنا بمعنى الطاغين المنحرفين المجرمين. في الآيات أمر رباني للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلن للكفار أن الله تعالى نهاه عن عبادة ما يدعون من دونه من اتباع أهوائهم، لأنه يكون حينئذ ضالا غير مهتد في حين أنه غدا على بينة من ربّه بالرغم من تكذيبهم وجحودهم، وبأن يعلن لهم كذلك أن ما يستعجلونه ليس في يده ولو كان في يده لكان الأمر قد انقضى بينه وبينهم، ولكنه بيد الله الذي يقول الحق ويقضي به وهو خير الفاصلين، وهو الأعلم بالظالمين الباغين. والآيات كما هو المتبادر متصلة بالسياق المستأنف فيه حكاية ما كان يقع بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار من حجاج ونقاش. ومن المحتمل أن تكون جملة لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ ردا على ما كان زعماء الكفار يطالبون النبي صلى الله عليه وسلم به من إقصاء فقراء المسلمين عنه مما تضمنته الآيات السابقة، كما أن من المحتمل أن يكون في صدد ما طالبوا به من التساهل معهم في بعض الشؤون مما تضمنته آيات أخرى مرّ بعضها منها في آيات سورة الإسراء [73- 74] وآيات سورة القلم [9- 10] أما جملة ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ فالجمهور على أنها تعني العذاب الذي أوعد القرآن الكفار به وكان الكفار يتحدون النبي صلى الله عليه وسلم بالتعجيل به استخفافا وإنكارا وهو وجيه. وقد حكته عنهم آيات عديدة مرّ بعضها، مثل آيات سورة يونس [48- 50] وآية سورة هود [8] وآيات سورة الشعراء [202- 208] . ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا عن عائشة جاء فيه: «إنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد، فقال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منه يوم العقبة. إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل

[سورة الأنعام (6) : الآيات 59 إلى 62]

ابن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت. فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب. فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد ظللتني فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك وقد بعثت إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم قال فناداني ملك الجبال وسلم عليّ ثم قال يا محمد إن الله قد سمع قول قومك وقد بعثني إليك لتأمرني بأمرك. إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين فقال رسول الله بل أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئا» . وقال ابن كثير إن الحديث ورد في صحيحي البخاري ومسلم عن طريق الزهري عن عروة عن عائشة. وينطوي في الحديث أولا: مشهد من المشاهد الروحانية التي كشفها الله للنبي صلى الله عليه وسلم لتسكينه وتطمينه. وثانيا: حكمة حكم الله ورسوله فيما كان من عدم التعجيل بالعذاب على قومه الذين ناوأوه وهذا ما تكررت الإشارة إليه في آيات عديدة بعضها في سور سبق تفسيرها. وثالثا: صورة من صدق عاطفة النبي صلى الله عليه وسلم وإشفاقه التي كانت تعتلج بها نفسه صلى الله عليه وسلم. ولقد صدق الله ظنه فآمن كثير من الكافرين وأخرج من أصلابهم مؤمنين مخلصين صادقين. أما عبد ياليل المذكور في الحديث فهو زعيم الطائف حيث ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إليها بعد موت عمه لعله يجد نصيرا، فرد أقبح ردّ ورشق حتى أدمي. وعاد كسيرا حزينا وناجى ربه في الطريق مناجاة سنوردها في سياق تفسير سورة الأحقاف لأن لها مناسبة أكثر ملاءمة فيها، فكان ذلك المشهد والحوار اللذان ذكرا في الحديث. [سورة الأنعام (6) : الآيات 59 الى 62] وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62)

تعليق على الآية وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ... والآيات الثلاث التالية لها

(1) جرحتم: اقترفتم وعملتم. في الآيات تقرير بأن مفاتح الغيب بيد الله لا يعلمها إلّا هو، وقد أحاط علمه بكل صغيرة وكبيرة ودقيقة وجليلة في السموات والأرض والبرّ والبحر والظلمات، وهو الذي يتوفى الناس بالليل ويعلم ما كسبوا في النهار ويمدهم بأسباب الحياة حينما يستيقظون إلى أن تنتهي آجالهم المعينة عنده، ثم يرجعون إليه ليحاسبهم على ما فعلوه، وهو القاهر فوقهم، وعليهم من قبله رقباء وحفظة، وحينما يجيء أجل أحدهم تتوفاه رسله الذين لا يفرطون في شيء مما أمروا به ثم ردوا إلى الله مولاهم الذي له الحكم والذي هو أسرع الحاسبين. والآيات تتمة على ما هو المتبادر للرد الذي احتوته الآيات السابقة في صدد تقرير كون النبي صلى الله عليه وسلم ليس في يده شيء، وكون الأمر كله بيد الله والغيب كله عنده، وهو الأعلم بالظالمين، ولا بد من أن يجزيهم بما يستحقون حينما يحين الوقت المعين في علمه. وهي إذن متصلة بالآيات السابقة. والضمير المخاطب فيها راجع إلى الكفار الذين هم موضوع الرد. تعليق على الآية وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ ... والآيات الثلاث التالية لها 1- أورد المفسرون في صدد جملة وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ أحاديث عديدة منها حديث رواه البخاري عن ابن عمر جاء فيه: «قال النبي صلى الله عليه وسلم مفاتيح الغيب خمس ثم قرأ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ

اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ لقمان: [34] «1» . وهذه الآية هي الآية الأخيرة والذي يلحظ أن هذه الآية لم تصنف الأمور الخمسة صراحة بأنها لا يعلمها إلّا الله ولم تحصر المغيبات التي لا يعلمها إلّا الله بها، وليس فيها ما ينفي بأن الله تعالى قد يلهم بعض ما في علمه لبعض خلقه. ولا ينفي أن يكون هناك أمور مغيبة أخرى يختص الله تعالى بعلمها. وقد ذكر هذا بعض المفسرين مثل الطبرسي والسيد رشيد رضا. ومع أن الطبري أورد حديث البخاري فإنه قال إن تأويل الجملة هو أن الله تعالى هو أعلم بالظالمين من خلقه وما هم مستحقوه وما هو صانع بهم فإن عنده علم ما غاب علمه عن خلقه فلم يطلعوا عليه ولم يدركوه وعنده علم جميع ما يعلمونه فلا شيء يخفى عن الناس أو لا يخفى ولا شيء كان أو هو كائن إلّا علمه عنده. وننبه على أن الآية جاءت بعد جملة وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ فيكون إيضاح الطبري هذا متصلا بهذه الجملة التي عطفت عليها الآيات التي نحن في صددها، وشيء من هذا يرويه البغوي عن الضحاك ومقاتل، ولقد قال الزمخشري إن تعبير مفاتح الغيب مجازي بمعنى أن الله وحده هو الذي يعلم الغيب. حيث يبدو من هذا أن الأحاديث التي تجعل مفاتح الغيب ما ذكرته آية لقمان حصرا لم تؤخذ من قبل بعض علماء التابعين وأئمة المفسرين كقضية مسلمة وفسروا الجملة تفسيرا موضوعيا أو متصلا بما قبلها أو أخذوها على أنها جملة عامة مطلقة تشمل كل ما في علم الله تعالى من أمور مغيبة ويبدو لنا هذا وجيها على مدى النصّ القرآني في مقامه والله أعلم. 2- روى المفسرون عن أهل التأويل أن جملة كِتابٍ مُبِينٍ تعني اللوح المحفوظ الذي روي أن الله أمر بكتابة كل ما هو كائن عليه حين خلقه كما رووا عنهم أنها تعني علم الله الشامل لكل ما كان ويكون. وهذا وذاك مما يتكرر في سياق الجمل المماثلة في هذه السورة والسور الأخرى ومرّ منه بعض الأمثلة. وفي تعليقنا على اللوح المحفوظ والقلم في سورتي القلم والبروج انتهى الأمر بنا إلى أن

_ (1) التاج ج 4 ص 181 والأحاديث الأخرى لم ترد في الصحاح فاكتفينا بهذا الحديث.

مدى التأويلين واحد وهو علم الله بكل ما كان ويكون فنكتفي بهذا التنبيه. 3- روى المفسرون عن أهل التأويل في صدد جملة وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ أن العرب كانوا يعبرون عن النوم بالوفاة الصغرى والموت بالوفاة الكبرى وأن ذلك من قبيل المجاز لما بين النوم والموت من بعض التشارك. ورووا أن هذه الجملة مع جملة وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ أن هذا قد هدف إلى تقرير هيمنة الله تعالى على عباده هيمنة تامة في كل حالاتهم ثم إلى التدليل على قدرة الله تعالى على بعث الناس بعد موتهم وكون ذلك بالنسبة إليه كبعثهم بعد نومهم. وفي هذه التأويلات وجاهة متسقة مع الجملة في مقامها. 4- روى المفسرون عن بعض أهل التأويل أن الضمير في جملة ثُمَّ رُدُّوا عائد إلى رسل الله كما رووا عن بعض آخر أنه عائد إلى الذين يتوفاهم رسل الله، وقد أخذنا في شرحنا السابق بالتأويل الثاني لأنه تبادر لنا أنه أكثر اتساقا مع بقية الآية التي جاءت فيها الجملة. 5- وفي صدد ما جاء في الآية [61] عن الحفظة الذين يرسلهم الله على عباده ورسل الله الذين يتوفون عباده حينما تنتهي آجالهم نقول إن ذلك من الأمور المتصلة بالملائكة وخدماتهم لله تعالى ومن الأسرار الإلهية الغيبية التي يجب الإيمان بها لأنها ذكرت بصراحة وقطعية في القرآن وقد مرت أمثلة عديدة من ذلك في سور سبق تفسيرها، فلا طائل في التخمين والتزيد بسبيل استشفاف الماهيات على ما شرحناه في المناسبات السابقة وبخاصة في سورة المدثر. ويكفي استشفاف الحكمة من ذكر ما ورد في الآية ومطلعها يلهم أن القصد مما جاء فيها من ذلك هو تقرير كون الله تعالى هو المتصرف المطلق في عباده فيكون ذلك من تلك الحكمة. وأسلوب الآيات في جملتها قوي رائع، وقد هدف فيما هدف إليه على ما يتبادر من روحها إلى تقرير إحاطة علم الله تعالى بكل شيء ومطلق تصرفه في كل شيء وإنذار الكفار بتحقيق ما يوعدون به وتوكيد قدرة الله تعالى عليه، وإثارة الرعب في قلوبهم وحملهم على الارعواء، والله تعالى أعلم.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 64 إلى 65]

[سورة الأنعام (6) : الآيات 64 الى 65] قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) (1) يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض: يخلط عليكم الأمور حتى تصيروا فرقا وأحزابا متباغضين ويسلط بعضكم على بعض بالأذى والشدة والقتال والحرب. (2) يفقهون: يفهمون فهما تاما. في الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بسؤال الكفار عن الذي يدعونه سرّا متذللين إليه حينما يكونون في رحلاتهم البرية والبحرية فيكتنفهم الظلام ويحدق بهم الخطر ويرجونه كشف ما هم فيه ويقطعون على أنفسهم العهد بأنهم يكونون شاكرين له معترفين بفضله إذا نجاهم، وبالإجابة على السؤال بأن الله هو المرجى لكل ذلك وهو الذي في يده نجاتهم من تلك الأخطار ومن كل خطر آخر. ومع ذلك فهم يشركون معه غيره في الاتجاه والدعاء في حالة السلامة والظروف العادية. وبإنذارهم بأن الله قادر على أن يبعث عليهم عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم، أو يجعلهم فرقا وأحزابا متباغضة متناحرة ويسلط بعضهم على بعض بالقتال والحرب. وجاءت الآية الأخيرة معقبة على ما احتوته الآيات السابقة لها منبهة إلى أن الله تعالى يقلب وجوه الكلام لهم لعلهم يفقهون مداه فيتدبرون فيما هم فيه ويرتدعون. والآيات كما هو المتبادر هي أيضا متصلة بالسياق واستمرار في الرد على الكفار وإنذارهم. وجملة قُلِ اللَّهُ وإن كانت تقريرا ربانيا فإنها تلهم أنها بسبيل تقرير واقع أمر الكفار الذين يعترفون بالله ويدعونه وحده مخلصين له الدين في الأخطار مما حكته آيات أخرى بصراحة أكثر مرّ بعضها مثل الآيات [40- 41] من

بعض الأحاديث الواردة في صدد الآية قل هو القادر على أن يبعث عليكم وتعليق عليها

هذه السورة والآيات [22- 23] من سورة يونس، ومما تضمن الإلزام والإفحام والتبكيت الشديد كما هو واضح. بعض الأحاديث الواردة في صدد الآية قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ وتعليق عليها لقد روى المفسرون عن بعض أهل التأويل مثل مجاهد وقتادة أن هذه الآية نزلت في أمة محمد وما كان من تفرقها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وحروبها فيما بينها وتسلط الأمراء الطغاة الضالين والعبيد السفلة عليها عدا الخسف والرجم اللذين لم يقعا واللذين سوف يقعان. ورووا في صدد ذلك أحاديث نبوية عديدة منها ما ورد في الصحاح. ومن ذلك حديث رواه البخاري في كتاب التفسير في سياق الآية عن جابر قال: «لمّا نزلت الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما سمع قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أعوذ بوجهك وحينما سمع أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قال أعوذ بوجهك وحينما سمع بقيتها قال هذا أهون أو هذا أيسر» «1» . وحديث رواه الترمذي بسند حسن عن سعد بن أبي وقاص في هذه الآية: «أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد» «2» . وحديث رواه أبو داود والترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «إنها ستكون فتنة تستنظف العرب، قتلاها في النار اللسان فيها أشدّ من وقع السّيف» «3» . وحديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «قال إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي يبلغ ملكها ما زوي لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمتي ألّا يهلكها بسنة عامة وألّا يسلّط عليهم عدوّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإنّ ربي قال يا محمد إني إذا

_ (1) التاج ج 4 ص 98 و 99 أورد الحديث الثاني ابن كثير برواية الإمام أحمد وجاء فيها أن سعد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقال ... » . (2) المصدر نفسه. (3) التاج ج 5 ص 276.

قضيت قضاء فإنه لا يردّ. وإني أعطيتك لأمتك ألّا أهلكهم بسنة عامة وألّا أسلّط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من أقطارها أو من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا» . وفي رواية أبي داود زيادة وهي: «وإنما أخاف على أمّتي الأئمة المضلّين. وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة ولا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمّتي بالمشركين وحتى تعبد قبائل من أمّتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلّهم يزعم أنه نبيّ. وأنا خاتم النبيّين لا نبيّ بعدي ولا تزال طائفة من أمتي على الحقّ ظاهرين لا يضرّهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله» «1» . وحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة وتفرّقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة وتفرّقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة. اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة» «2» . وتعليقا على ما تقدم نقول أولا: إن الآية جزء من آيات موجهة إلى المشركين السامعين على سبيل التنديد بهم وإنذارهم. وليس في الأحاديث الصحيحة ما يؤيد القول إنها نزلت في أمة محمد. والأرجح أن هذا القول قد كان تطبيقيا، ومن وحي الأحداث التي وقعت عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وعبارة الآية تسوغ هذا التطبيق الاجتهادي بالنسبة لكل سامعي القرآن في كل ظرف من المسلمين وغيرهم على سبيل الإنذار في حالة انحرافهم أو ضلالهم وبغيهم واستحقاقهم لمثل هذا العذاب الذي أنذرت به الآية سامعي القرآن الضالين البغاة مباشرة. وثانيا: إن ما جاء في الأحاديث هو من قبيل الاستدراك النبوي المنبعث من الإنذار الرباني في الآية وفيها صورة رائعة للشفقة النبوية على أمته من بعده ومن الحكمة الملموحة

_ (1) التاج ج 5 ص 275 و 276. وجملة (سنة عامة) تعني قحطا عاما أو مجاعة عامة. [.....] (2) التاج ج 1 ص 39 و 40 وهناك أحاديث أخرى رواها أئمة حديث آخرون ليسوا من أصحاب الكتب الخمسة أوردها المفسرون وبخاصة ابن كثير من باب الأحاديث التي أوردناها مع بعض زيادات ونقص فاكتفينا بما أوردناه.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 66 إلى 67]

فيها التحذير والتنبيه. وهما موجهان إلى كل مسلم في كل ظرف بطبيعة الحال وفيها كشف رباني للنبي صلى الله عليه وسلم بما سوف يكون من أحداث في أمته وقع كثير منها بعد وفاته. وفي الأحاديث الصحيحة وعد رباني بأن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم يستبيح بيضتهم. وفي هذا بشرى ربانية بارتداد عدوهم عنهم وعدم تمكنه منهم أبديا. ولقد وقع هذا في مختلف حقب التاريخ الإسلامي ووعد الله حق ولسوف يتم ذلك بالنسبة للعدو اليهودي اللئيم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 66 الى 67] وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) (1) وكيل: هنا بمعنى مسؤول. (2) لكل نبأ مستقر: لكل أمر نهاية يستقر عندها. وروي عن ابن عباس تأويل لكلمة (مستقر) بأنها بمعنى (حقيقة تظهر وتتحقق) وهذا لا يبعد عن المعنى الأول. بعض المفسرين أرجع ضمير (به) إلى القرآن والرسالة المحمدية «1» وبعضهم أرجعه إلى العذاب الذي وعد به الكفار في الآية السابقة لهذه الآية «2» . وهذا هو الأوجه المتسق مع النظم على ما يتبادر لنا. وعلى هذا فتكون الآية الأولى تقريرا لموقف الكفار المكذبين بالعذاب الموعود مع أنه حق لا ريب فيه. وقد أمر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بإعلانهم بأنه ليس مسؤولا عنهم واحتوت الآية الثانية إنذارا بأنه لكل نبأ نهاية يستقر عندها وأن ما وعدوا به سوف يتحقق وسوف يرون مصداق ذلك. والآيتان بهذا الشرح متصلتان بالسياق وتتمة له كما هو المتبادر. ولقد

_ (1) انظر تفسيرها في تفسير ابن كثير والطبرسي. (2) انظر تفسيرها في تفسير الطبري والزمخشري.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 68 إلى 70]

تحققت معجزة الآية بما كان من هلاك رؤساء الكفار الذين ظلوا مصرين على العناد والتكذيب والمناوأة في وقعة بدر الكبرى. ولقد روى ابن كثير عن زيد بن أسلم «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه حينما نزلت الآية السابقة لهاتين الآيتين لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف قالوا له ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله قال نعم فقال بعضهم هذا لا يكون أبدا يقتل بعضنا بعضا ونحن مسلمون فأنزل الله الآيتين» . وهذا لم يرد في كتب الأحاديث المعتبرة وعبارة الآيتين تسوغ التوقف فيها بكل قوة فلا يمكن أن تكون أولاهما عنت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضلا عن أن الآيتين منسجمتان موضوعيا في السياق السابق واللاحق. ويظل شرحنا هو الأوجه الذي يستفاد أيضا من شروح غير واحد من المفسرين والله تعالى أعلم. ولقد قال بعضهم إن جملة قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ قد نسخت بآيات القتال، وهذا يتكرر في كل مناسبة مماثلة وهذا إنما يصح في حالة إذا رافق موقف الكفار والمكذبين طعن وأذى على ما شرحناه في تفسير سورة (الكافرون) . [سورة الأنعام (6) : الآيات 68 الى 70] وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) (1) يخوضون: أصل معنى الخوض العبور في الماء ثم استعير للتعبير عن الدخول في الحديث والإفاضة فيه. ويستعمل على الأغلب في الإفاضة في الجدل والعبث والباطل من الكلام.

تعليق على آية وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره

(2) الإبسال: قيل إنها بمعنى الهلاك. وقيل إنها بمعنى الارتهان والحبس، وهي هنا بالمعنى الأول. (3) وإن تعدل كل عدل: بمعنى وإن تفتد بكل فدية. في الآيات نهي للنبي صلى الله عليه وسلم عن مجالسة الكفار إذا ما سمعهم ورآهم يخوضون في آيات الله خوضا خارجا عن حدود الأدب والحق. وإذا أنساه الشيطان ذلك ثم ذكر النهي فليبادر إلى ترك مجلسهم، وتقرير بأن المتقين لا يتحملون إثم الكفار في عملهم ولكن النهي تذكير لهم ليبتعدوا عن مجالس الظالمين الآثمين. وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بألا يهتم للذين غرتهم الحياة الدنيا وما تيسر لهم فيها من مال وقوة ورغد عيش وجعلوا الدين لعبا ولهوا، وأن يتركهم ويكتفي بتبليغ رسالته وإنذار الناس حتى لا يهلكوا أنفسهم ويصبحوا رهينة بما كسبوا يوم لا يكون لهم من دون الله ولي ولا شفيع، ولا يؤخذ منهم فدية مهما عظمت حيث يعذبون أشد العذاب مع شرب الماء الحار جدا جزاء ما كانوا يقترفون ويفترون. تعليق على آية وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ولقد روى الطبري أن المشركين كانوا يجلسون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحبون أن يسمعوا منه فإذا سمعوا استهزأوا، فنزلت الآية الأولى. وروى الطبرسي والبغوي والخازن أن المسلمين قالوا حينما نزلت هذه الآية: كيف نقعد في المسجد الحرام ونطوف بالبيت وهم يخوضون أبدا ونخاف أن نتركهم ولا ننهاهم! فنزلت الآية الثانية. ويتبادر لنا من عطف الآيات على ما سبقها وانسجام الآيتين الأوليين بالآيات التالية لها أن الآيات وحدة مترابطة، وأنها استمرار للسياق المستأنف في حكاية مواقف الكفار، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتأذى من استهزاء الكفار- الذين يجلس إليهم

ويجلسون إليه- بالقرآن الذي يتلوه عليهم، وبالمواعظ والنذر التي يوجهها إليهم، ويتحرج من ترك مجالستهم وإهمال إنذارهم، فنزلت الآيات تسلية له ورفعا للحرج عنه وبيانا لمدى مهمته ومسؤوليته وإنذار للكفار في الوقت نفسه. ومع أن الخطاب في الآية الأولى قد يكون منصرفا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقرينة ضمير المخاطب المفرد فإن نص الآية الثانية يسوغ القول بأن الحظر الذي احتوته الآية الأولى ليس خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو عام للمسلمين. وقد يكون من دعائم ذلك آية سورة النساء هذه: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ [140] حيث احتوت الآية إشارة إلى آيات الأنعام التي نحن في صددها. ويلحظ أن النهي محدود بوقت الخوض وبمن يقترفونه، وهو المتسق مع مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين التبشيرية. ولقد تكررت الآيات المكية التي فيها إشارة إلى خوض الكفار والمشركين والمنافقين منها آية في سورة المدثر التي سبق تفسيرها وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وآية في سورة الطور الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) وآية في سورة الزخرف فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وآية أخرى في سورة الأنعام ستأتي بعد قليل، حيث يبدو من هذا أن ذلك كان من ديدنهم ومن جملة الصور التي كانوا يواجهون بها دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وآيات القرآن، مع التنبيه إلى أن آية النساء التي أوردناها قد نزلت بخاصة في خوض المنافقين على ما يتبادر من سياقها، على ما سوف يشرح في مناسبته. ولقد قال بعض المفسرين «1» إن آية النساء المذكورة قد نسخت هذه الآية ولسنا نرى في آية النساء نسخا بل نرى توكيدا. فآية الأنعام لم تسمح بالقعود مع

_ (1) انظر تفسير الخازن.

تعليق على جملة وإما ينسينك الشيطان بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم

الخائضين وإنما تسامحت في نسيان أمر الله بذلك وأوجبته في حالة التذكر. ولقد روى الطبري عن قتادة أن الآية قد نسخت بآيات القتال، وهذا صواب إذا كان الخوض طعنا في الدين وفي الله وكتابه ورسوله. فكل هذا صار من مستوجبات القتال بعد الهجرة على ما جاء في آية سورة التوبة هذه: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) وهذه الحالة هي غير حالة الأمر بالصبر على الكفار والإعراض عنهم الذي تكرر في سور مكية عديدة وقال بعض المفسرين إنه نسخ بعد الهجرة بآيات القتال. فإن هذا إنما يصح إذا رافق موقف الكفار طعن وأذى على ما شرحناه في تفسير سورة الكافرون. ومع خصوصية الآيات وصلتها بظروف السيرة النبوية فإنها تضمنت تلقينا جليلا مستمر المدى في حظر مجالسة الهازئين الطاعنين في دين الله ورسله وكتبه والخائضين في مواضيع خارجة عن الأدب والحق كما هو المتبادر. فضلا عن كون الهزء والطعن في الدين من موجبات الجهاد على المسلمين على ما ذكرناه آنفا. تعليق على جملة وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم ولقد وقف بعض المفسرين «1» عند هذه الجملة وتساءلوا عن جواز النسيان على النبي صلى الله عليه وسلم ثم جواز تأثره بالشيطان. والآية صريحة بجواز النسيان عليه، وعلى غيره من الأنبياء. وفي القرآن آيات عديدة أخرى تؤيد ذلك. مثل آية الكهف هذه التي يخاطب بها النبي صلى الله عليه وسلم: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ [24] وآية طه [115] بالنسبة لآدم وآية الكهف [62] بالنسبة لموسى. وقد أمر الله رسوله والمؤمنين بالدعاء لله بأن لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطأوا في الآية الأخيرة من سورة البقرة.

_ (1) انظر تفسير الخازن.

وهو منبثق من طبيعة الأنبياء البشرية. وهناك أحاديث عديدة عن نسيان النبي صلى الله عليه وسلم منها حديث رواه الخمسة عن عبد الله «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى الظهر خمسا فقيل له أزيد في الصلاة، فقال وما ذاك؟ قال صلّيت خمسا فسجد سجدتين بعد ما سلّم وفي رواية قال أنا بشر مثلكم أذكر كما تذكرون وأنسى كما تنسون ثم سجد سجدتي السهو» «1» . ويتبادر لنا أن نسبة الإنساء للشيطان في الجملة هو تعبير أسلوبي أو هو وسوسة الشيطان التي تجوز على كل إنسان، وهي ليست من قبيل سلطان الشيطان الذي نبهت آيات عديدة على أن ذلك ليس واردا بالنسبة لعباد الله المخلصين الذين يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في مقدمتهم. وإنساء الشيطان أيسر من نزغ الشيطان، ومع ذلك ففي آية سورة الأعراف التي سبق تفسيرها ما يجعل النزغ الشيطاني جائزا بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم على ما شرحناه في سياقها. وجواز السهو والنسيان على النبي صلى الله عليه وسلم إنما يحتمل في الشؤون البشرية والدنيوية. أما الشؤون الدينية والتبليغ عن الله تعالى فالمتفق عليه عند الجمهور أنه معصوم عنهما وهو الحق «2» . وقد استنبط بعضهم «3» من الآية الأولى التي فيها هذه الجملة رفع مسؤولية ما يقع من الإنسان من أمور محظورة نسيانا وسهوا وخطأ غير متعمد. وأيدوا ذلك بالحديث النبوي الذي رواه ابن ماجه وأبو داود وجاء فيه: «إنّ الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» «4» . وفي سورة الأحزاب هذه الآية: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5) وقد

_ (1) التاج ج 1 ص 197. (2) انظر تفسير الآيات في الطبرسي ومنار رشيد رضا. (3) انظر تفسير ابن كثير والمنار. (4) التاج ج 1 ص 29.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 71 إلى 73]

علم الله كما قلنا رسوله والمؤمنين بالدعاء بأن لا يؤاخذهم إذا نسوا أو أخطأوا ومقتضى حكمة ذلك الاستجابة لهذا الالتماس. وفي حديث رواه البخاري والترمذي أن الله تعالى كان يوحي للنبي صلى الله عليه وسلم حينما أنزل آخر آيات البقرة بكلمة نعم عند كل مقطع من مقاطع الالتماسات التي في هذه الآية «1» . وننبه على أن في سورة النساء آية ترتب الكفارة والدية على قتل الخطأ، وهي الآية [92] ولا نرى هذا متعارضا مع ذاك لأنه ليس في هذا الترتيب عقوبة على إثم وإنما فيه تعويض عن حق وتوبة إلى الله بالكفارة للتنبيه على ما في إزهاق النفس من خطورة ولو كان ذلك خطأ. والله تعالى أعلم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 71 الى 73] قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) (1) استهوته الشياطين: استجاب لنداء الشياطين وتبعهم، وكان من صور عقائد العرب في الجن أنهم ينادون من يرونه منفردا في القفر فيتبعهم وتختلط عليه الأمور فيضلّ ويضيع ويقع في المهلكة. (2) عالم الغيب والشهادة: الغيب هنا بمعنى المغيب والمخفي والمستقبل والشهادة بمعنى الحاضر والمشاهد. في الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالتساؤل بلهجة استنكارية عما إذا كان يصح في العقل أن يدعو هو والمسلمون غير الله مما لا ينفعهم ولا يضرهم وأن يرتدوا على

_ (1) التاج ج 4 ص 64. الجزء الرابع من التفسير الحديث 8

تعليق على الآية قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا والآيتين التاليتين لها

أعقابهم ضالين بعد أن هداهم الله وأن يصبح شأنهم كشأن الذي استهوته الشياطين في الأرض فاتبعها وتاه ووقف موقف الحائر الذاهل الذي ضل عن الطريق الذي يحسن أن يسلكه لينجو، وله رفاق مهتدون آمنون يدعونه إليهم فلا يتبعهم. وأمر آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يهتف بأن هدى الله هو الهدى الحق، وبأنه أمر ومن معه بإسلام النفس لله وإقامة الصلاة له واتقائه بصالح العمل، فهو الذي يحشر الناس إليه وهو ربّ العالمين، الذي خلق السموات والأرض بالحق، والذي يحيط علمه بكل شيء من حاضر وغائب وسرّ وعلن وماض ومستقبل، والذي يقول الحق ويقضي به، ويكون له الملك والحكم والأمر دائما وفي يوم القيامة أيضا والذي يتم كل ما يشاء وقت ما يشاء بما في ذلك بعث الناس بمجرد تعلق مشيئته بتمامه، وهذا ما عبر عنه بجملة وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ. والمتبادر أن جملة الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أسلوب آخر لما عنته آيات سورة ص [27- 29] على ما سبق شرحه. ومن هذا الباب آيات الأنبياء [16، 33] والدخان [38 و 39] والروم [8] . تعليق على الآية قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا والآيتين التاليتين لها لقد روى الطبري عن ابن عباس أن في الآيات مثلا ضربه الله تعالى للآلهة وعبادها والدعاة إليها ولنفسه سبحانه وتعالى ولمن يدعو إليه وحده. وهذا ملموح فيها. ولقد روى عن السدي أيضا أن المشركين قالوا للمؤمنين اتبعوا سبيلنا واتركوا دين محمد فأنزل الله الآيات. ومقتضى الرواية أن تكون الآيات نزلت في مناسبة خاصة، ومستقلة عن السياق. في حين أن المتبادر من فحواها وفحوى السياق السابق أن الاتصال قائم بينها وبين هذا السياق، وأنها جاءت معقبة عليه. والموضوع الذي تضمنته من المواضيع والصور التي ما فتئت فصول السورة

[سورة الأنعام (6) : الآيات 74 إلى 90]

تحكيها. ولا يمنع هذا أن يكون ما رواه السدي صحيحا في ذاته وأن المشركين كانوا أحيانا يقفون موقف الناصح الواعظ ويدعون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إلى العودة إلى دين الآباء وتقاليدهم التي انحرفوا عنها بزعمهم فاحتوت الآيات إشارة إلى ذلك وهي تعقب على الآيات السابقة وترد عليهم وتسفه عقولهم وتنذر بمنطقهم وتقرر ما هم فيه من ضلال يمنعهم سماع دعوة الحق والهدى. وتعلن وحدة الربوبية لله تعالى وشمول علمه وقدرته وكونه وحده المستوجب للخضوع والعبادة والدعاء. ولقد حكت ذلك عنهم آية العنكبوت هذه وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) . والصورة طريفة من دون ريب في مجال الحجاج والنقاش حيث كان زعماء الكفار ونبهاؤهم يظهرون بمظهر القوة فيصرون على أنهم على الدين الحق ويدعون الذين يدعونهم إلى هدى الله إليهم. ويأتي بعد هذه الآيات فصل قصصي عن الأنبياء مما جرى عليه النظم القرآني واقتضته حكمة التنزيل، بحيث يمكن أن يقال إن هذه الآيات جاءت خاتمة للفصول السابقة التي فيها حجاج ونقاش لمواقف الكفار وتعجيزاتهم، والرد عليهم وإنذارهم، وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين والتي بدأت منذ أوائل السورة. وفيها من الصور المتلاحقة ما يدل على ما كان بين جبهتي التوحيد والشرك من احتكاك وما واجهه النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون من عناد ومكابرة وما لقيه من عناء، مضافة إلى الصور المماثلة الكثيرة التي تضمنتها السور السابقة ثم التي تضمنتها فصول السورة الآتية وكثير من السور الآتية أيضا. ولقد شرحنا موضوع النفخ بالصور في سور سبق تفسيرها فلا نرى ضرورة للإعادة في مناسبة ورود ذلك في الآيات. [سورة الأنعام (6) : الآيات 74 الى 90] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90)

(1) ملكوت السموات والأرض: سعة ملك الله في السموات والأرض أو عظم ملك الله. (2) جن عليه الليل: أظلم. (3) الآفلين: من الأفول وهو الزوال والاحتجاب والتغير والانطفاء والتنقل من حال إلى حال.

(4) بازغا: مشرقا أو ساطعا. (5) ولم يلبسوا إيمانهم بظلم: ولم يشوبوا أو يخلطوا إيمانهم بإثم وظلم وجرم أو شرك. (6) فإن يكفر بها هؤلاء: الجملة تعني كفار العرب الذين كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم. هذا الفصل جاء عقب فصول الحجاج والنقاش وحكاية المواقف التي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار جريا على الأسلوب القرآني وبسبيل التمثيل والتذكير والتثبيت. فهو غير منقطع عن السياق السابق، والآية الأخيرة من الفصل التي وجه الخطاب فيها إلى العرب. وآيات الفصل واضحة المعاني ولا تحتاج إلى أداء بياني آخر. وقصة إبراهيم عليه السلام مع قومه ذكرت في سورتي الشعراء ومريم بأسلوب آخر فيه بعض الزيادات حيث يبدو أن حكمة التنزيل حينما اقتضت ذكرها هنا اقتضت أن تكون بالأسلوب الذي جاءت به. ولقد علقنا على القصة بما فيه الكفاية في سياق تفسير السورتين المذكورتين فلا حاجة إلى الإعادة. غير أننا ننبه هنا إلى أن المفسرين «1» أوردوا تفصيلات كثيرة عن هذه القصة في سياق الآيات التي نحن في صددها معزوة إلى علماء الأخبار والسير مما ينطوي فيه دلالة على أنها كانت مما يتناقل ويتداول في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره. ومما قد يؤيد ترجيحنا بأنها كانت واردة في أسفار وقراطيس يهودية لم تصل إلينا. ولم نر ضرورة ولا طائلا في إيرادها لأنها ليست مما يتصل بهدف الآيات. وفي القصة هنا شيء جديد لم يرد في سورتي الشعراء ومريم وهو نظرة إبراهيم عليه السلام إلى الكواكب ثم إلى القمر ثم إلى الشمس وتبرؤه من عبادتها. واحدة بعد أخرى. والراجح أن هذا أيضا ورد في الأسفار التي كانت في أيدي اليهود.

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن والبغوي وابن كثير.

مواضع العبرة في قصة إبراهيم عليه السلام

مواضع العبرة في قصة إبراهيم عليه السلام أما العبرة فيما جاء في الآيات فهي قائمة في التطابق بين ما حكته من خطاب إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه وتنديده بهم وإعلانه البراءة منهم ونبذة عبادة الكواكب والأوثان التي كانوا يعبدونها واتجاهه إلى الله تعالى وحده ومحاججة قومه له وإفحامه إياهم بالحجج التي ألهمها الله له، وبين ما حكته الفصول السابقة من مواقف مماثلة بين النبي صلى الله عليه وسلم وقومه حيث ينطوي في ذلك تثبيت وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وتنديد وإنذار وإفحام للمشركين. وإذا لا حظنا ما تواترت فيه الروايات من تداول العرب خبر صلتهم بإبراهيم بالنبوة والملة وتقاليد الحج وهو ما احتوى القرآن إشارات عديدة إليه، منها آية سورة الحج هذه وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ [78] وآيات سورة البقرة هذه وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) . ظهرت قوة استحكام الإفحام والتمثيل والتذكير والإلزام. ومن مواضع العبرة في الآيات أيضا التنويه بأنبياء الله وعباده الصالحين وذرياتهم التي سارت على طريقهم وما كان لهم عند الله من الدرجات العليا والإشارة إلى أنهم لم يكونوا يصلون إلى ما وصلوا إليه لو ظلوا على الشرك مثل سائر قومهم، حيث ينطوي في ذلك لفت نظر المشركين إلى أنهم إذا كانوا يكفرون بآيات الله ويشركون معه غيره فقد رمن به أولئك الصالحون الذين أوتوا الحكمة

تعليق على وصف إبراهيم عليه السلام بالحنيف

والنبوة والكتاب، وكانوا موضع تكريم الله وحملة مشعل الهداية إليه، وتقرير استغناء الله تعالى عنهم ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالثبات على موقفهم والاقتداء بهؤلاء الذين هداهم الله. ومن المفسرين من قال إن الآية [82] من كلام إبراهيم عليه السلام لقومه، ومنهم من قال إنه تقرير رباني لتوكيد حجة إبراهيم وأنها مطلقة التوجيه «1» . وهو ما نرجحه استلهاما من أسلوبها. وقد جرى النظم القرآني على مثل هذه الآيات الاستطرادية والاعتراضية كثيرا لقد روى المفسرون «2» في سياقها أن المسلمين شق عليهم ما جاء فيها وتساءلوا قائلين أيّنا يظلم نفسه فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم ليس بالذي تعنون أو تظنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح «إن الشرك لظلم عظيم» وهذه الفقرة من آية سورة لقمان التي يجيء ترتيب أولها بعد سورة الأنعام بسورتين. وعلى كل حال ففي الآية تلقين جليل مستمر المدى. فالمؤمنون هم الآمنون المهتدون على شرط أن لا يشوب إيمانهم شائبة ما من شرك وظلم وإثم. وهذا ما تكرر تقريره في القرآن بأساليب متنوعة مرّت أمثلة منها. والآية الأخيرة جاءت خاتمة قوية للفصل حيث أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول للمشركين إنه لا يسألهم ولا ينتظر منهم أجرا وإنه إنما يقوم بالمهمة التي انتدبه الله إليها وتبليغ القرآن الذي يوحي الله به إليه ليكون تذكرة للناس جميعا. تعليق على وصف إبراهيم عليه السلام بالحنيف وهذه أول مرة وصف بها إبراهيم عليه السلام في القرآن بالحنيف ثم تكرر ذلك. وقد علقنا على هذه الكلمة في سياق تفسير سورة يونس بما فيه الكفاية. غير أننا بمناسبة وصف إبراهيم بها نقول إن بعض المستشرقين ومنهم كايتاني الطلياني

_ (1) انظر تفسير الآية في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والزمخشري والخازن والمنار. (2) المصدر نفسه.

قالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم هو أول من أشار إلى ملة إبراهيم ووصفه بالحنيف وأن هذا كان مجهولا في أوساط العرب. وهذا خطأ فيما نعتقد. فورود الكلمة مكررة في القرآن المكي في صور وصف ملة إبراهيم والروايات المروية عن وجود أشخاص كانوا على ملة إبراهيم موحدين غير مشركين وكانوا يسمونها بالحنيفية على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة يونس دلائل قوية على أن وصف إبراهيم بالحنيف كان مستعملا قبل نزول القرآن وأن ملة إبراهيم الحنيفية كان مما يذكر في أوساط العرب، وأن هذا الوصف كان يعني التوحيد وعدم الشرك كما جاء في آيات عديدة منها إحدى آيات الفصل الذي نحن في صدده ومنها آية سورة الحج هذه حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) ولا سيما أن في القرآن إشارات عديدة كما قلنا تفيد تداول العرب صلتهم البنوية بإبراهيم وملته. والمماراة في هذا مكابرة لا شك فيها. هذا وقد تكلم المفسرون طويلا «1» في صدد التأليف بين اسم أبي إبراهيم آزر المذكور في الآيات واسم تارح المذكور في سفر التكوين المتداول «2» . والذي نراه أن يوقف عند ما جاء في القرآن. ولا نرى ضرورة لهذه المحاولات ولا طائلا من ورائها فسفر التكوين لم يذكر إلا اسما واحدا وقد عربته العرب بآزر وكفى. ولا نستبعد مع ذلك- إن لم نقل إننا نرجح- أن يكون اسم أبي إبراهيم في النسخ المخطوطة التي كانت في أيدي اليهود هو نفس ما ورد في القرآن أو قريبا منه. وأسماء الأنبياء المذكورين في السلسلة قد مرت جميعها في السور السابقة عدا اسم (إلياس) فإنه يأتي هنا لأول مرة. وقد ذكر مرة أخرى في سورة الصافات التي تأتي بعد هذه السورة في ترتيب النزول وهو تعريب إيليا النبي أحد أنبياء بني إسرائيل. وندع الكلام عنه إلى تفسير السورة التالية.

_ (1) انظر تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن. [.....] (2) الإصحاح 12.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 91 إلى 92]

[سورة الأنعام (6) : الآيات 91 الى 92] وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92) (1) تجعلونها قراطيس: تجعلونها أوراقا مفرقة ومجزأة. في الآيات تنديد بالكفار على مكابرتهم وتجاهلهم أو عدم إدراكهم عظم شأن الله وقدره وسابق أحداثه مع أنبيائه ونفيهم نزول أي شيء منه على بشر ما. وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالرد عليهم بسؤالهم بأسلوب استنكاري عمن أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى والذي يذكرونه ويعرفونه ويجعلونه مع ذلك أجزاء مفرقة يبدون أو يعترفون بما يريدون منه ويخفون أو ينكرون ما يريدون وهو الأكثر حسب ما تمليه عليهم أهواؤهم وعلموا أشياء كثيرة لم يكونوا يعلمونها هم وآباؤهم من قبل. وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالهتاف بأن الله تعالى هو الذي أنزله وبأن يدعهم بعد ذلك وشأنهم غارقين في خوضهم وثرثرتهم وغوايتهم لأنهم يقولون ما يقولون مكابرة وعنادا. وتقرير رباني بأن الله قد أنزل القرآن الكتاب المبارك على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم كما أنزل كتاب موسى من قبل، وهو مؤيد لما سبقه من كتب الله ومتطابق معها لينذر به أهل مكة ومن حولها. وتنبيه تنويهي إلى أن الذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون بذلك ويحافظون على أداء عبادتهم وصلاتهم لله تعالى. تعليق على الآية وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ والآيتين التاليتين لها لقد أورد المفسرون روايات عديدة في نزول الآيات ومداها. منها أن حبرا

من يهود المدينة كان يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم بلجاجة وكان سمينا فقال له أنشدك بالله أنزل التوراة على موسى أما تجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين، فغضب وقال: والله ما أنزل الله على بشر شيئا، ومنها أن هذا الحبر أو جماعة آخرين من يهود المدينة أنكروا أن يكون الله قد أنزل القرآن على رسوله فنزلت الآية تندد بهم لأنهم يعرفون أن الله أنزل كتابا على موسى فليس بدعا أن ينزل كتابا على رسول آخر. ومنها أنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل الله عليه كتابا أو ألواحا من السماء كما أنزل على موسى فقال لهم لقد كفرتم بما أنزل على موسى فغضبوا وأنكروا كل شيء. ومنها أن مشركي مكة أرسلوا يسألون أحبار يهود المدينة عن النبي صلى الله عليه وسلم فأنكروا أن يكون نبيا وأن يكون القرآن منزلا عليه من الله فأنزل الله الآية. وليس شيء من ذلك واردا في كتب الصحاح. والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآية الأولى مدينة ولو صحّ ذلك لكان من المحتمل أن تصحّ الروايات الأولى تبعا لذلك. ولم نر تأييدا لمدنية الآية وطابع المكية بارز عليها بقوة وقد رجح الطبري أن يكون القول حكاية عن مشركي مكة في موقف حجاجي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ولا سيما أن السياق في صددهم. ونحن نرجح ذلك أيضا ولا سيما أن رواية المدنية محصورة في الآية الأولى مع أنها منسجمة كل الانسجام مع الآيتين التاليتين لها. وقد يبدو أن عبارة تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً أشبه أن تكون صادرة عن يهود. وأن ترجيح صدورها عن المشركين يبدو غريبا، ونقول في صدد ذلك إن في القرآن آيات تفيد أن المشركين يعرفون رسالة موسى وتوراته ومعجزاته منها آيات سورة القصص [47- 50] التي مرّ تفسيرها. وأن الموقف قد تجدد فكابر المشركون مرة أخرى فحكت عنهم ذلك الآيات التي نحن في صددها. وقد تكون رواية إرسال المشركين لليهود وسؤالهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وجوابهم صحيحة فنزلت الآية لتردّ عليهم وعلى اليهود معا. وجملة وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ بعد العبارة نفسها تلهم بقوة أن الكلام كلام المشركين وأن الخطاب موجه إليهم. هذا وما تقدم من الشرح هو بسبيل تقرير صلة الآيات بالسياق السابق للفصل القصصي والذي دار على مواقف المشركين والتنديد بهم. والمتبادر أن

تعليق على جملة ولتنذر أم القرى ومن حولها

الفصل القصصي جاء استطراديا بعد ذلك السياق جريا على النظم القرآني. ثم جاءت هذه الآيات بعده استئنافا لفصول جديدة أخرى من مواقف المشركين. والله أعلم. تعليق على جملة وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها ويلحظ أن الآية الثانية ذكرت أن الله تعالى أنزل القرآن على نبيه صلى الله عليه وسلم لينذر أم القرى ومن حولها. والمتبادر أن هذا الاختصاص ناشىء من كون الحجاج والجدال قام في أكثر أدوار العهد المكي بين النبي صلى الله عليه وسلم وكفار مكة التي كانت (أمّ القرى) أي عاصمة للبلاد الحجازية ومن يقيم حولها من أهل المدن والقرى والبادية، وليس من شأنه نقض عموم الدعوة الذي تقرر بأساليب عديدة في القرآن مرّت أمثلة منها ولفتنا النظر إلى فحواها. ويبدو أن التنويه الذي احتواه شطر الآية الثاني هو تنويه بالمؤمنين الذين استجابوا للدعوة. فهؤلاء قد صدقوا وآمنوا بالآخرة، وواظبوا على عبادة الله والصلاة إليه. وقد يدل هذا على أن الإيمان بالآخرة كان وظل ميزان استجابة الناس للدعوة النبوية. وفي القرآن آيات عديدة مؤيدة لذلك مرّت أمثلة منها. [سورة الأنعام (6) : الآيات 93 الى 94] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) (1) ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا: بمعنى ومن أشد جرما وإثما ممن افترى على الله كذبا.

تعليق على جملة ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء

(2) غمرات الموت: شدائد الاحتضار عند الموت. (3) فرادى: منفردين مجردين من أموالكم وأولادكم وأنصاركم. (4) خوّلناكم: منحناكم وأعطيناكم ومتعناكم به. (5) تقطع بينكم: انقطعت بينكم الصلات. في الآيات تساؤل إنكاري بمعنى التقرير بأنه ليس من أحد أشد ظلما من الذي يفتري على الله الكذب فينسب إليه ما ليس منه، أو ممن يدعي بأن الله أوحى إليه ولم يكن قد أوحى إليه. أو ممن يجرؤ على القول بأنه سينزل مثل ما أنزل الله. وإشارة إنذارية إلى ما سوف يكون من أمر الظالمين عند الموت وبعده حيث تحيط بهم الملائكة حينما يكونون في غمرات الموت وشدائد الاحتضار ينتظرون خروج أرواحهم ويذكرون لهم ما سوف يلقون من العذاب والهوان عقوبة على ما كانوا يقولونه على الله تعالى من الباطل ويبدو منهم من استكبار على آيات الله. وحكاية لما سوف يخاطبون به من قبل الله تعالى بعد ذلك من خطاب توبيخي حيث يقول لهم إنكم قد جئتمونا منفردين كما خلقناكم لأول مرة مجردين من كل ما كنتم تتمتعون به في الدنيا، من مال وقوة وأنصار، وليس معكم الشفعاء الذين كنتم تعبدونهم كشركاء مع الله وتركنون إلى شفاعتهم وقد غابوا عنكم وتقطعت الصلات بينكم وبينهم. تعليق على جملة وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ والمصحف الذي اعتمدناه روى أن الآية [93] مدنية كذلك. وروى المفسرون روايات عديدة في سياقها «1» ، منها أن المعنى بمن افترى على الله كذبا هما مسيلمة والأسود اللذان ادعيا النبوة وزعما أن الله تعالى أوحى إليهما، ومنها أن المعنى بمن قال سأنزل مثل ما أنزل الله هو عبد الله بن سرح أحد كتاب الوحي

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والخازن والبغوي وابن كثير والطبرسي والزمخشري.

الذي ارتدّ وفرّ من المدينة. وأنه كان يكتب بعض مقاطع قرآنية مخالفة لما كان يمليها عليه النبي صلى الله عليه وسلم فيكتب (غفور رحيم) بدلا من (عزيز حكيم) و (عليم حكيم) بدلا من (خبير عليم) وأنه قال مرة حينما أملى النبي صلى الله عليه وسلم آية سورة المؤمنون هذه: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [14] قال: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قد نزلت كما قلت فاكتبها، فقال: إني إذا أنزل كما أنزل الله. ومنها أن شطر الآية الأولى نزل في مسيلمة والأسود النبيين الكذابين اللذين ظهرا في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم في اليمامة واليمن وأن الشطر الثاني نزل في عبد الله بن سرح. ولقد روي أن عبد الله هذا بعد ذلك الحادث ارتدّ ولحق بمكة ووشى بعمار وجبر وغيرهما من الأرقاء المؤمنين فأخذهم مواليهم وعذبوهم حتى أجبروهم على الكفر ونزل فيه وفيهم آية النحل: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) [106] ولم يرد شيء من هذه الروايات في الصحاح. ويلوح أن رواية مدنية الآية متصلة برواية كونها في شأن مسيلمة والأسود أو برواية كونها في شأن عبد الله بن سرح بعد الهجرة. ولسنا نرى أي حكمة ومعنى لوضع هذه الآية في سياق يحكي مواقف مشركي مكة لو كانت مدنية ومنفصلة عن السياق. وحركة مسيلمة والأسود كانت كما قلنا في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم فتكون صلتها بالآية أكثر بعدا. والروايات في صدد عبد الله بن سرح مضطربة، وسورة المؤمنون التي تروي إحداها قول عبد الله الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم إنما مطابق لما نزل نزلت بعد سورة الأنعام بمدة غير قصيرة. وكذلك سورة النحل التي تروي بعض الروايات أن بعض آياتها نزلت في سعد والمرتدين المكرهين. وعبد الله هو أخو عثمان بن عفان بالرضاعة، وقد عينه في زمن خلافته واليا على مصر بعد أن عزل عمرو بن العاص. وروت الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدر دمه بسبب ارتداده حتى تشفع فيه أخوه، وكل هذا يجعلنا نخشى أن

[سورة الأنعام (6) : الآيات 95 إلى 99]

يكون اسمه قد أقحم لأهواء سياسية ويجعلنا نشك أولا في رواية مدنية الآية وثانيا في الروايات المروية كسبب لنزولها. لأن هذا وذاك يقتضيان أن تكون نزلت منفردة بل ومجزّأة أي إن شطرا منها نزل في مناسبة وشطرا في مناسبة أخرى وأن تكون أقحمت على السياق إقحاما مع أنها منسجمة انسجاما تاما في السياق والموضوع وشطرها الأول متصل بشطرها الثاني. وفحوى الآية التالية لها والتي تعطف عليها وتنذر الظالمين وتحكي ما كان منهم من استكبار عن آيات الله وافتراء عليه يلهم بكل قوة أنها في صدد مشركي العرب موضوع الكلام في الآيات السابقة. وقد رأينا الطبري يتحفظ بعض التحفظ في كون الآية نزلت للأسباب المذكورة في الروايات. وقد يكون حادث ارتداد عبد الله بن سرح ولحوقه بمكة صحيحا «1» ولكن التوقف هو أن تكون الآية نزلت فيه. والذي يتبادر لنا بقوة أن الآية الأولى بخاصة تضمنت ردا على الكفار الذين حكت الآية [90] إنكارهم لإنزال الله شيئا على بشر حيث قررت ضمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف أنه ليس من أحد أشد ظلما ممن ينسب إلى الله ما ليس منه ويدعي بأنه موحى إليه ولم يوح إليه. ثم تبعتها الآيات التالية لها منددة منذرة. وبذلك يتصل السياق. والردّ قوي موجه إلى العقول والقلوب السليمة وقد تكرر في كل مرة حكى القرآن فيها زعم الكفار بافتراء النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن بنفس القوة والنفوذ ومن ذلك آية سورة الأحقاف هذه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) [8] ومن هذا الباب آية سورة الشورى [24] وآية سورة يونس [17] . [سورة الأنعام (6) : الآيات 95 الى 99] إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)

_ (1) روى هذا الحادث ابن هشام أيضا انظر ج 4 ص 28.

(1) فالق الحب والنوى: الفلق بمعنى الشق. والحب للزرع والنوى للشجر ومعنى الجملة الذي يفلق الحب والنوى ويجعلهما ينموان في الأرض فيكون منهما الزرع والشجر. (2) فالق الإصباح: بمعنى مخرج نور الفجر من ظلمة الليل. (3) وجعل الشمس والقمر حسبانا: حسبانا مصدر آخر لفعل حسب أيضا، ومعنى الجملة جعل الله حركات الشمس والقمر بحساب مقدر محدد. (4) ترتيب: مرتب ترتيبا دقيقا. (5) أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع: الشطر الأول يعني وحدة الذكر والأنثى كأنهما نصفان يتمم بعضهما بعضا، وقد تعددت تأويلات الشطر الثاني. ويتبادر لنا أن أوجهها هو (استقرار نسمة الحكمة واستيداعها) ويكون معنى الجملة والله أعلم أن الله خلقكم من نفس واحدة مقسومة إلى ذكر وأنثى. وجعل نسمة الحياة مستودعة في أصلاب الرجال ثم تصبح مستقرة في أرحام النساء. (6) خضرا: الرطب أو الطري من الزرع. (7) حبا متراكبا: حبا منضدا في السنابل. (8) طلعها: ثمرها. (9) قنوان: قطوف. (10) دانية: قريبة أو مدلاة سهلة التناول.

(11) مشتبها وغير متشابه: مشتبه في الخلق والشكل والورق واللون غير متشابه في الثمر والطعم. أو منها ما هو متشابه في الشكل واللون والورق والثمر والطعم ومنها ما هو غير متشابه. (12) انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه: ينعه بمعنى نضجه وبلوغه ومعنى الجملة انظروا كيف يبدأ ثمره ثم ينمو حتى ينضج. احتوت الآيات تنويها تقريريا بمظاهر قدرة الله تعالى وعظمته وبديع نواميس كونه في خلقه الحب والنوى وإخراجه الحي من الميت والميت من الحي. وفي خفاء وحركات الشمس والقمر والليل والنهار والنجوم وما يكون من هدايتها الناس في البر والبحر. وفي الماء الذي ينزل من السماء فينبت به متنوع النبات والشجر ذات الألوان والأشكال المتشابهة في المنظر المتغايرة في الثمر والطعم. وفي الإنسان الذي خلقه الله في الأصل نفسا واحدة ثم جعله سلالة يتوالد بعضها من بعض فتكون نسمة الحياة مستودعة في أصلاب الرجال ثم مستقرة في أرحام النساء. وفي جعله ينتفع بكل هذه المظاهر والنواميس في مختلف ظروف حياته ومعاشه ويقيم به أوده ويحمي به نفسه. وأسلوبها قوي نافذ، وقد انتهى كل مقطع منها بالتنبيه مرة على ما في هذه المظاهر من دلائل على وجود الله واستحقاقه للعبادة والخضوع له وحده، ومرة بالتنديد بالناس لانصرافهم عن التفكير في ذلك، ومرة بالتنويه بأن الله إنما يفصل الآيات للنبهاء والعقلاء والعلماء ليتدبروا فيها وليؤمن من حسنت نيته ورغب في الهدى. وورود ضمير المخاطب الجمع فيها أولا وأسلوب خواتمها ثانيا يدلان على أن الآيات موجهة للكفار في الدرجة الأولى على سبيل التنديد بهم على تجاهلهم ما في الكون من مظاهر رائعة ينتفعون بها، وتدل على قوة الله تعالى وشمول قدرته وربوبيته، ثم على وقوفهم من الدعوة إليه وحده موقف المكابر الجاحد، وافترائهم عليه الكذب وإشراكهم غيره معه. وهي والحالة هذه متصلة بمواقف الحجاج والمناظرة التي ما فتئت فصول السورة تحكيها.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 100 إلى 103]

ولقد تعددت أقوال المفسرين «1» في تأويل معاني بعض الجمل للتوفيق بينها وبين ما هو معلوم من المسائل الفنية والحياتية كما أن هناك من حاول استخراج قواعد فنية وحياتية وفلكية منها. ونكرر هنا ما نبهنا إليه غير مرة من أن الآيات هنا وفي المناسبات المماثلة إنما تخاطب الناس في نطاق مشاهداتهم وما يقع عليه حسهم وتستوعبه أذهانهم بصورة عامة وأن من الواجب إبقاؤها في هذا النطاق وعدم الخروج منه إلى تأويلات واستنباطات ومحاولات في صدد نواميس الكون والحياة وأنظمتها الفنية لأن الآيات لم تهدف إلى ذلك ولأن مثل ذلك من شأنه أن يخرج القرآن من نطاق قدسيته وهدفه الإرشادي الموجه إلى جميع الناس في كل ظرف ومكان ويعرضه للأخذ والرد دونما طائل ولا جدوى. [سورة الأنعام (6) : الآيات 100 الى 103] وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) (1) وخرقوا له: اخترعوا له. (2) بديع: المبدع من العدم. والإبداع فعل ما لم يسبق إلى مثله. (3) صاحبة: زوجة. (4) وكيل: حافظ أو كفيل. في الآيات حكاية لبعض عقائد العرب وردّ عليهم: فقد جعلوا الجن شركاء لله تعالى واخترعوا له بنين وبنات كذبا وبدون بينة في حين أنه هو الذي خلقهم

_ (1) انظر تفسير الآيات في المنار والطبرسي والخازن والجواهر لطنطاوي جوهري. الجزء الربع من التفسير الحديث 9

تعليق على الآية وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم

وليس لمن يشركونه معه يد في خلق، وفي حين أنه هو الذي أبدع السموات والأرض وكل شيء، وليس له زوجة ولا يعقل أن يكون له ولد أو أن يكون في حاجة إلى ذلك، لأنه ربّ كل شيء وخالق كل شيء والوكيل المتصرف المحيط بكل شيء. وليس من إله إلّا هو، لا تحيط بكنهه العقول ولا تدرك ماهيته الأبصار ولا يماثله شيء من خلقه حتى يقاس به وهو المستحق وحده للعبادة. تعليق على الآية وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ من أهل التأويل الذين يروي المفسرون أقوالهم من أخذ الجملة الأولى على ظاهرها، ومنهم من قال إن كلمة الجن تعني الملائكة من حيث إن المشركين العرب كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله. وعلى اعتبار أن كلمة الجن التي تعني الخفاء تصدق على الملائكة ومنهم من قال إن الجملة تعني عقيدة المجوس الذين كانوا يعتقدون أن الجن أو الشياطين آلهة الظلمة والشر. والذين قالوا القول الأول قالوا إن العرب كانوا فعلا يعبدون الجن ويشركونهم مع الله. وأوردوا آيات سورة سبأ هذه للتدليل على ذلك: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) ونرى هذا القول هو الأوجه بالنسبة للنص القرآني. ولا سيما إن آيات سبأ قد جمعت الجن والملائكة فلا يصح أن يكون (الجن) بمعنى الملائكة كما جاء في القول الثاني. وفي سورة الجن آية تشير إلى شيء من عقائد العرب في الجن وهي: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) والكلام كما هو واضح في صدد مشركي العرب فيكون ذكر عقائد المجوس مقحما. ولقد روى المفسرون عن أهل التأويل أن كلمة (بنين) عنت عقيدة اليهود بأن العزير ابن الله وعقيدة النصارى بأن المسيح ابن الله وقد جاء هذا وذاك في آيات

تعليق على جملة لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار

قرآنية «1» . ومع صحة هذا القول في ذاته فلسنا نرى محلا لإقحام اليهود والنصارى أيضا في سياق يدور حول عقائد مشركي العرب. ولقد حكى القرآن عن هؤلاء قولهم إن الله اتخذ ولدا وعنوا بذلك الملائكة كما يستفاد من آيات سورة الأنبياء هذه: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) . وقد يكون ورود كلمة (بنات) يجعل القول أن المقصودين هم الملائكة واردا. غير أن نص الآية يجعلنا نؤكد على ترجيحنا أن الجن هم المقصودون. ومهما يكن من أمر فالذي يتبادر لنا أن الجملة أسلوبية في مقام التنديد بمشركي العرب للتعبير عن ماهية شركهم بجعلهم لله أولادا بنين وبنات والله تعالى أعلم. تعليق على جملة لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ولقد كانت هذه الجملة مناسبة لإدارة المفسرين الكلام حول موضوع رؤية الله عز وجل حيث رآها بعضهم نافية للرؤية ولم ير ذلك بعض آخر. وأوردوا في سياق ذلك أقوالا للمؤولين وبعض الأحاديث النبوية في النفي والإثبات معا مؤيدا كل منهم قوله بما أورده «2» . وتعليقا على ذلك نقول إن الآية جاءت في سياق تنديدي لعقائد المشركين وتنزيهي لله تعالى عن الشركاء وتنويهي لعظمة الله وقدرته وكمال صفاته. وإن الأولى أخذها وفهمها على هذا الاعتبار والوقوف عنده وعدم تحويل الآية إلى ما لم تنزل بسبيله. وإن كانت يمكن أن تكون ضابطا من ضوابط العقيدة التي يجب أن يعتقدها المسلم في الله عز وجل وتنزيهه بها عن الجسمانية

_ (1) عقيدة اليهود ذكرت في آية سورة التوبة [31] وعقيدة النصارى ذكرت في هذه الآية وآيات أخرى. (2) انظر تفسيرها في الطبري والبغوي وابن كثير والزمخشري والطبرسي والخازن ورشيد رضا.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 104 إلى 107]

والحدود والحلول والمشابهة للخلق. ولقد علقنا على موضوع رؤية الله عز وجل بما فيه الكفاية وأوردنا الأقوال المتعارضة والأحاديث الواردة فيه في سياق تفسير سورة القيامة فنكتفي بهذا التنبيه. [سورة الأنعام (6) : الآيات 104 الى 107] قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) في الآيات هتاف بالناس بأنه قد جاءهم من ربهم الهدى والبينات، فمن أبصر واهتدى فلنفسه، ومن عمي عن ذلك وضلّ فإنما يضرّ نفسه. وأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس حفيظا عليهم ولا مسؤولا عنهم. وتقرير رباني بأن الله تعالى يصرف الآيات القرآنية ويقلب فيها وجوه الكلام تبيانا للناس الذين يحبون أن يعلموا ويتبينوا الأمور حتى يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم درست، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أن يتبع ما يوحى إليه من ربه الذي لا إله إلّا هو، وأن يلتزم الحدود المرسومة له وألا يبالي بالمشركين إذا أصروا على شركهم. فلو شاء الله ما أشركوا لأن في قدرته إجبارهم على الهدى، وإنما تركهم لاختيارهم ليظهر الطيب من الخبيث، وسليم القلب الراغب في الهدى من سيء النية المتعمد المكابرة والتكذيب ولم يجعله الله مسيطرا عليهم ولا مسؤولا عنهم. وصلة الآيات بسابقاتها وبمواقف المناظرة والجدل والإنذار واضحة وأسلوبها نافذ وموجه إلى العقل والقلب معا. وواضح من الشرح المستلهم من فحواها أنها تتضمن تقريرا جديدا لما قررته آيات عديدة سبقت أمثلة منها في سور سبق تفسيرها من مهمة النبي صلى الله عليه وسلم التبليغية والإنذارية ومن ترك الناس بعد ذلك لضمائرهم وتحميلهم مسؤولية مواقفهم إزاء رسالة الله بعد ذلك. ولقد روى المفسرون عن أهل التأويل أن معنى جملة وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ أنه بمعنى حتى (يقول الكفار أنك درست وتعلمت ما تتلوه من أهل الكتاب) . ولقد

[سورة الأنعام (6) : آية 108]

قرئت كلمة (درست) بفتح السين وتسكين التاء من الدروس أي بمعنى (حتى يقولوا إن ما تتلوه قديم دارس من أساطير الأولين) . والجمهور على أن كلمة (درست) من الدرس لا من الدروس. وقد خطر لنا تأويل آخر نرجو أن يكون هو الصواب وهو (حتى يقولوا كفاك فقد بلغت وقرأت وكررت وبينت فدع الناس فيؤمن من يبصر ما فيه من هدى ويكفر من عمي قلبه) وقد استلهمنا هذا من الجملة السابقة للجملة وهي وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ فالله يقلب وجوه الكلام ويأمر النبي صلى الله عليه وسلم تبليغه للناس حتى يقولوا كفى فقد بلغت. وفي أسس البلاغة للزمخشري (درست الكتاب) كررت قراءته للحفظ. وجملة وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ليست بمعنى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتركهم بدون تبليغ، فهذا من مهمته الأصلية وإنما هي بمعنى الأمر بعدم الاهتمام بموقفهم. وهذا ما تكرر بأساليب عديدة سبقت أمثلة منها في السور التي سبق تفسيرها. ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن الجملة نسخت بآيات القتال. وهذا إنما يصح إذا رافق مواقف المشركين بعد الهجرة طعن في الإسلام وأذى للمسلمين وحسب على ما شرحناه في مناسبات سابقة. هذا، ونظم الآية الأولى يوهم أن الكلام هو كلام النبي مباشرة ومثل هذا قد تكرر ومرّت أمثلة منه في سور سبق تفسيرها. وقد علقنا على ذلك في سياق الآيات الأولى من سورة هود تعليقا ينسحب على هذه الآية. ومع ذلك فإنه يلحظ أن الآية الثانية احتوت كلاما ربانيا مباشرا في مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم مما ينطوي فيه كون الكلام الأول هو إيعاز رباني بأن يقول ذلك. [سورة الأنعام (6) : آية 108] وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108) (1) عدوا: بغيا وتجاوزا لحدود الأدب.

تعليق على جملة ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله

في الآية نهي للمسلمين عن سبّ آلهة المشركين وعقائدهم، وتنبيه إلى أن هذا قد يحملهم على المقابلة فيسبون الله تعالى بغيا وجهلا واندفاعا في العصبية والحمية الجاهلية. وتقرير بأن الله تعالى قد جبل الناس على طبيعة استحسان ما يعملون أو أن من مقتضى النظام الذي أقام الله عليه الاجتماع البشري أن يستحسن الناس ما يعملون، وأن مرد الجميع إليه حيث ينبئهم بما عملوا ويوفيهم عليه بما استحقوا. تعليق على جملة وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ وقد روى المفسرون أنه لما نزلت آية: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ الأنبياء: [98] أنذر المشركون النبي صلى الله عليه وسلم قائلين: لتكفن عن سب آلهتنا ولنشتمن إلهك فنزلت الآية «1» . وهذه الآية من آيات سورة الأنبياء التي يأتي ترتيبها بعد هذه السورة بثماني عشرة سورة. وقد روى المفسرون أيضا أن بعض زعماء المشركين جاءوا إلى أبي طالب حينما حضرته الوفاة وطلبوا منه أن ينصح ابن أخيه بعدم سب آلهتهم في سياق طويل، فلما يئسوا منه قالوا له: لتكفن عن سب آلهتنا أو نسب إلهك، فنزلت الآية «2» . وأبو طالب توفي أواخر العهد المكي حيث يفرض أن سورة الأنعام نزلت قبل ذلك بأمد غير قصير، ويضاف إلى هذا أن النهي موجه إلى المؤمنين عامة وليس للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة. ومهما يكن من أمر فالآية تدل بدون ريب على أن آلهة المشركين كانت تشتم، وأن المشركين توعدوا بمقابلة الشتيمة بمثلها أو قابلوها فعلا، والظاهر أنه كان يحتدم بين المؤمنين والمشركين نقاش ونزاع وأن المؤمنين كانوا ينالون من عقائد هؤلاء ومعبوداتهم سبّا وتحقيرا فيندفع هؤلاء بالحمية والعصبية إلى المقابلة فنهت الآية المسلمين عن ذلك. ومع ما هناك من خصوصية زمنية فإن إطلاق النهي والتعليل في الآية ينطويان

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبرسي وابن كثير والخازن والبغوي. (2) المصدر نفسه.

تعليق على جملة كذلك زينا لكل أمة عملهم

على تلقين مستمر المدى حيث أوجب على المسلمين في كل زمن ومكان التزام هذا الأدب وعدم شتم أديان غيرهم وعقائدهم، وفي هذا ما فيه من الجلال والروعة التأديبية التي تهدف إلى إبعاد المسلم عن الفحش والبذاءة وإثارة الغير وجرح عاطفته الدينية مهما كانت. ولا سيما أن ذلك متناف مع مبدأ حرية التدين الذي قرره القرآن على ما شرحناه في سياق سورة (الكافرون) شرحا يغني عن التكرار، ومع مبدأ الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة الذي قررته آية سورة النحل هذه: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) . ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا صحيحا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ملعون من سبّ والديه، قالوا يا رسول الله وكيف يسبّ الرجل والديه؟ قال: يسبّ أبا الرجل فيسب الرجل أباه ويسب أمه فيسب أمه» حيث ينطوي في الحديث تأديب نبوي رفيع مستمد من التأديب القرآني ومتساوق معه. تعليق على جملة كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ إن إطلاق العبارة في هذه الجملة ألهمنا أن نؤولها بما أوّلناها في الشرح المباشر للآية. ونرجو أن يكون هو الصواب وفي الجملة التالية قرينة على ذلك حيث تنذر الناس جميعا بأن مرجعهم إلى الله فينبئهم بما عملوا ويجزيهم عليه. وبكلمة أخرى قرينة على أن الجملة لم تعن قط أن الله أغراهم وزيّن لهم ما يعملون حسنا كان أم سيئا. والآية في جملتها تعني أن الله قد وكلهم في ذلك إلى أخلاقهم وقابلياتهم، ولقد ورد في سورة النمل التي سبق تفسيرها آية فيها مثل هذه الجملة مصروفة إلى المجرمين حيث يكون تأويلنا على ضوء ذلك في محله أيضا. ولقد أوردنا في سياق الجملة المذكورة في سورة النمل تأويلات المؤولين والمفسرين وعلقنا عليها تعليقا وافيا، وما قلناه هناك يصح هنا أيضا فنكتفي بهذا التنبيه.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 109 إلى 110]

[سورة الأنعام (6) : الآيات 109 الى 110] وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) في الآيات حكاية لما كان الكفار يحلفونه من الأيمان الغليظة بأنهم ليؤمنن إذا ما جاءتهم آية من الله مؤيدة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يرد عليهم قائلا إنما الآيات عند الله وليست في متناول قدرته. وبأن يسأل مخاطبين قريبين عما إذا كان لا يخطر ببالهم أن الله لو أظهر معجزة أن ينقض الحالفون أيمانهم ولا يؤمنوا بها. وتقرير رباني بأن قلوبهم ستظل قاسية وأبصارهم متعامية كما هو دأبهم قبل. ثم يبقون عمهين في طغيانهم مصرين على مكابرتهم لا يؤمنون كدأبهم منذ البدء أو منذ وقفوا مثل هذا الموقف لأول مرة. تعليق على آية وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها ولقد روى المفسرون أن قريشا قالت للنبي صلى الله عليه وسلم إنك تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر فتنفجر منه عيون الماء وأن عيسى كان يحيي الموتى وأن هودا أتى بمعجزة الناقة لثمود فأتنا بآية حتى نصدقك، قال: فإن فعلت ما تقولون، أتصدقونني؟ قالوا: نعم. والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين. فقال: ما تحبون أن آتيكم به، قالوا اجعل لنا الصفا ذهبا وابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم عنك وأتنا بالملائكة يشهدون لك فقام يدعو ربه فجاءه جبريل يقول له إن الله يبلغك إن شئت أرسل آية فإن لم يؤمنوا أخذهم بالعذاب وإن شئت تركهم حتى يثوب ثائبهم فقال: بل اتركهم حتى يثوب ثائبهم فنزلت الآيات. وروى الطبري أن جملة وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) موجهة إلى المؤمنين لأن هؤلاء قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما طلب المشركون آية وأقسموا أنهم ليؤمنن إذا جاءتهم، سل ربك يا رسول الله ذلك، فوجه الله الخطاب في الآية إليهم.

[سورة الأنعام (6) : آية 111]

والآيات لم ترد في الصحاح ولكنها متساوقة مع فحوى الآيات. وصحتها محتملة وفيها صورة طريفة من صور العهد المكي وما كان يعتلج في صدر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه معا من رغبة ملحة في اهتداء قومهم وهذه الصورة ملموحة في الآية الأولى ولو لم تصح الروايات. ومن المحتمل أن تكون الآيات نزلت للمناسبة المذكورة في الروايات بعد الآيات السابقة فوضعت بعدها، ومن المحتمل أن تكون المناسبة سابقة فأشير إليها في سياق الإشارة إلى مواقف المشركين. ونحن نميل إلى ترجيح الاحتمال الثاني لأن السياق متساوق والآيات معطوفة على ما قبلها. ولقد علقنا على موضوع تحدي الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم بالإتيان بالمعجزات وموقف الوحي القرآني من ذلك وحكمته في سياق تفسير سورة المدثر. وفي هذه الآيات توكيد جديد لهذا الموقف يضاف إلى ما جاء من مثله في سور سبق تفسيرها مثل طه والقصص والإسراء ويونس وهود. وفيها كذلك تعليل جديد لموقف الكفار وهو أن موقفهم ناشىء عن مكابرة وعناد. وليس موقف رغبة صادقة في الإيمان. وبعض العبارات توهم ظاهرا أن الله سبحانه هو الذي يحول دون إيمان الكفار ويذرهم يستمرون ويعمهون في طغيانهم. والذي يتبادر لنا أن العبارات أسلوبية وبسبيل تقرير شدة مكابرة الكفار وإصرارهم على العناد وعدم صدق رغبتهم كما هو شأن الصيغ المماثلة. ونرجو أن يكون الشرح الذي شرحنا به العبارات هو الوجه والصواب. ولقد أرسل الله رسوله بالبينات والهدى للناس وطلب منهم أن يؤمنوا وبشّر المؤمنين وأنذر الكافرين في آيات كثيرة جدا وخاطبهم في آية في سورة الزمر قائلا: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [7] فيتنزه الله عن منعهم من الإيمان. [سورة الأنعام (6) : آية 111] وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)

(1) قبلا: عيانا أمامهم. في الآية تقرير بأن الله لو أنزل الملائكة فرآهم المشركون جهرة وأحيا لهم الموتى فكلموهم ولبى كل ما يقترحون ويطلبون وجعله ماثلا أمامهم عيانا لما آمنوا إلّا أن يشاء الله إيمانهم وأن أكثرهم يجهل هذه الحقيقة ويتصرفون إزاءها تصرف الجهال. والآية كما هو واضح متصلة بسابقاتها اتصال تعقيب وإيضاح، والمتبادر أنها بسبيل تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وتثبيتهم وإقناعهم بعدم صدق رغبة المشركين وتصميمهم على المكابرة والجحود على أي حال. ومع ما هو ظاهر من خصوصية الآية وصلتها بموقف مكابرة الكفار وهدفها من تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فإن بعض المفسرين وقفوا عند عبارة إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وقالوا إنها تقرر أن المشيئة لله تعالى في كل حال وفي كل أمر. فهو الهادي وهو الضال «1» . وقال فريق آخر «2» إنها بمعنى «إلّا أن يجبرهم ويقسرهم على الإيمان» ونحن نرجح المعنى الثاني الذي انطوى في آيات أخرى بصراحة أكثر، منها ما مرّ شرحه في هذه السورة وما قبلها. ولا يقتضي هذا ما يحتج به بعض علماء الكلام أن يقع من الكفار ما لا يشاء الله تعالى وإنما ينطوي فيه معنى أكدته آيات أخرى بصراحة أكثر مرّت أمثلة عديدة منها وهو أن حكمة الله وناموس خلقه اقتضيا أن يكون للناس حرية الاختيار والكسب وإرادتهما. وهذا من مشيئة الله الأزلية فليس هناك تعارض على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة وبخاصة في التعليق الذي علقناه على هذا الموضوع في سورة المدثر ويجب أن نذكر دائما آية سورة الزمر التي أوردناها آنفا فهي من الضوابط في هذا الموضوع وهي تنسب الكفر والشكر للناس.

_ (1) انظر تفسيرها في تفسير ابن كثير مثلا. (2) انظر المنار والزمخشري والطبرسي.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 112 إلى 113]

[سورة الأنعام (6) : الآيات 112 الى 113] وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) (1) ولتصغي إليه: ولتميل إليه. تعليق على الآية وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ في الآيات تقرير لمظهر من مظاهر النظام الذي أقام الله عليه الاجتماع البشري. وهو أن ينبري لكل نبي عدو من شياطين الإنس والجن فيوحي بعضهم إلى بعض بالوساوس وتزيين الباطل بزخرف القول للتغرير والخداع. وقد تضمنت الفقرة الأخيرة من الآية ثم الآية الثانية تسلية وتطمينا للنبي صلى الله عليه وسلم: فعليه أن لا يأبه بمن انبرى له من الشياطين العتاة بل يدعهم وما يفترون. ولن يكون لهم تأثيرا إلا على الناس الذين لا يؤمنون بالآخرة فهؤلاء هم الذين تميل قلوبهم إلى ما يقولونه ويزوقونه ويرضون به ليستمروا في اقتراف ما يقترفونه من آثام. أما جملة وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فجائز أن تكون أسلوبية فيها تتمة للتسلية والتطمين، وجائز أن تكون بقصد تقرير كون الله عز وجل لو شاء لمنعهم من فعل ما يفعلونه ولكنه تركهم لاختيارهم حتى يستحقوا جزاءهم وفاقا له. وبهذا الشرح المستلهم من فحوى الآيات وروحها لا يبقى إن شاء الله محل للتوهم من ظاهر العبارة بأن الله قد شاء أن يجعل أعداء من الشياطين لكل نبي أرسله. وفي حصر الميل للشياطين ووساوسهم بالذين لا يؤمنون بالآخرة قرينة على صواب التأويل السابق من جهة وتعليل لذلك الميل من جهة أخرى. فلا يميل إلى

[سورة الأنعام (6) : الآيات 114 إلى 117]

وساوس الشياطين إلّا الكفار المجرمون الذين لا يؤمنون بالآخرة وهم الذين يستمرون في اقتراف الآثام واتباع الشهوات أكثر من غيرهم لأنهم لا يخشون عاقبة أفعالهم بعد الموت. ولم يرو المفسرون مناسبة خاصة لنزول الآيتين والسياق السابق دار على مواقف الكفار وتعجيزاتهم. والمتبادر أن تعبير شياطين الإنس قد قصد به زعماء الكفار الذين كانوا يقودون المناوأة. أما ذكر شياطين الجن فجائز أن يكون من باب التنديد بزعماء الكفار بتقرير كون مواقفهم متأثرة بوساوس شياطين الجن. وكانوا يعرفون أن الشياطين يوحون إلى الناس ويتنزلون عليهم ويوسوسون لهم على ما يستفاد من آيات عديدة سبق تفسيرها. وقد قرر القرآن في آيات عديدة سبق تفسيرها أن الشياطين إنما يوحون وينزلون على الآثمين الأفاكين وأنهم ليس لهم سلطان على المؤمنين المخلصين فصار التنديد بالكفار مستحكما. [سورة الأنعام (6) : الآيات 114 الى 117] أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) (1) مفصلا: هنا بمعنى واضح مبين. (2) الممترين: الشاكين. (3) يخرصون: يخمنون تخمينا. في الآيات تساؤل استنكاري بلسان النبي صلى الله عليه وسلم عما إذا كان يصح أن يتخذ حكما ومرشدا غير الله تعالى الذي أنزل عليه الكتاب واضحا مبينا ليكون هدى للسامعين المخاطبين. وتقرير رباني بأن الذين أوتوا الكتاب من قبله يعلمون أنه

تعليق على الآية أفغير الله أبتغي حكما والآيات الثلاث التالية لها

منزل بالحق من الله تعالى. وتحذير من الشك والمماراة في ذلك. وتقرير آخر بأن كلمات الله تعالى وأحكامه قد كملت وبلغت الغاية في الإحكام والصدق والعدل بحيث لا يستطيع أحد أن يجرحها ويبدل أو يغير فيها، وهو السميع لكل شيء العليم بكل شيء فلا تصدر أحكامه إلّا عن علم شامل لكل مقتض. وتنبيه إلى أن أكثر الناس إنما يسيرون في عقائدهم وأفكارهم بالظن والتخمين والتوهم، وأن السير على طريقتهم وطاعتهم أو مجاراتهم فيما يقولون يؤدي إلى الضلال والانحراف عن سبيل الله. وتقرير فيه معنى التحدي بأن الله تعالى هو الأعلم بحقائق الناس ومن هو المهتدي ومن هو الضال منهم. والفقرة الأولى من الآية الأولى تقرير بلسان النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الكلام انتقل في بقية الآية إلى التقرير الرباني مما لا يدع مجالا للتوهم بأن الكلام الأول هو كلام النبي المباشر. ولقد تكرر هذا ومن ذلك ما جاء في سور سبق تفسيرها. وقد علقنا عليه في سياق تفسير الآيات الأولى من سورة هود في هذا الجزء بما يغني عن التكرار. تعليق على الآية أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً والآيات الثلاث التالية لها ضمير المفرد المخاطب في الآيات قد يسوغ القول إن العبارات التي ورد فيها موجهة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالذات. وقد يكون في الآيتين [116 و 117] قرينة قوية على ذلك. وفي هذه الحالة تكون العبارات بسبيل تثبت النبي صلى الله عليه وسلم وتدعيمه في موقفه إزاء الأكثرية التي كانت تناوئه وتجادله. وليست بسبيل مفهوم العبارة الحرفي فيقين رسول الله صلى الله عليه وسلم العميق بصدق ما أنزل الله عليه واستحالة جنوحه إلى طاعة الجاحدين والضالين لا يمكن أن تسوغا أخذ العبارة بمفهومها الحرفي الظاهري. وقد تكرر هذا الأسلوب الذي ينطوي فيه هذا المعنى على ما شرحنا في الآيات المماثلة التي سبق تفسيرها.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 118 إلى 121]

والآيات قوية نافذة في ما احتوته من تقرير وتثبيت وتحذير وتحدّ. وبنوع خاص الآية [115] التي انطوت على بشرى وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم بأن كلام الله الذي أنزل عليه صادق كل الصدق عادل كل العدل متحقق بحذافيره ولن يستطيع أحد أن يحدث فيه تبديلا. والمصحف الذي اعتمدناه ذكر أن الآية [114] مدينة ولم نطلع على ما يؤيد ذلك في كتب أخرى. والآية منسجمة مع الآيات التي تأتي بعدها كل الانسجام وليس هناك قرينة في السياق يمكن أن يؤيد ذلك. وروح الآية وفحواها يفيدان أنها جاءت كردّ على الكفار موضوع الكلام السابق. والمفسرون يعزون كل آية فيها إيمان أهل الكتاب وتصديقهم إلى يهود المدينة ولعل الرواية جاءت من هذه الناحية غير أن هذا غير مسلم به على إطلاقه، وهناك آيات لا خلاف في مكيتها تذكر ذلك مثل آيات الإسراء [107 و 108] وهناك روايات تكاد تكون يقينية أن أهل الكتاب في مكة أو فريق منهم على الأقل كانوا آمنوا وصدقوا في مكة ومنهم صهيب الرومي الصحابي الجليل. وصلة الآيات بالسياق السابق واللاحق ملموحة بقوة بحيث يمكن أن تكون من جهة قد جاءت بعد الآيات السابقة للتدعيم والتعقيب. ومن جهة جاءت لتكون مقدمة للآيات اللاحقة في الوقت نفسه، والله تعالى أعلم. وفحوى الآية [114] قوي في تثبيته وتدعيمه والمتبادر منه أن ما ذكر فيها ليس تقريرا لواقع معلوم وحسب بل هو مستند إلى موقف إيماني وتصديقي من أهل الكتاب حيث ينطوي في ذلك شهادة عيانية جديدة لأعلام النبوة المحمدية. وصدق القرآن وصلته بالله تعالى من الفريق الذي تغلب الحق فيه على الباطل والرغبة في الإذعان للحق على المكابرة والهوى تضاف إلى شهادات عديدة أخرى مرّت أمثلة منها في سور سبق تفسيرها مثل الأعراف والقصص والإسراء. [سورة الأنعام (6) : الآيات 118 الى 121] فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)

تعليق على آية فكلوا مما ذكر اسم الله عليه والآيات الثلاث التالية لها

(1) فسق: عصيان الله. في الآيات أمر رباني موجه للمسلمين بأن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، وتحذير لهم بعدم التردد في ذلك لأن الله تعالى قد بين لهم ما حرم عليهم في غير ظروف الاضطرار، وإشارة إلى أن كثيرا من الناس يفعلون ما يفعلون بسائق الهوى فينحرفون عن سبيل الله وتقرير بأن الله تعالى يعلم الذين يتجاوزون الحدود التي رسمها ويعتدون في تصرفاتهم. وأمر آخر للمسلمين بالابتعاد عن الإثم ظاهره وباطنه وعلنه وسرّه، وإنذار للذين يقترفون الإثم بأنهم سينالهم القصاص الحق العادل ونهي للمسلمين عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه لأن ذلك يجعله فسقا وإثما وخروجا على أوامر الله وحدوده. وتنبيه إلى أن الشياطين يوسوسون إلى أوليائهم ليجادلوا المسلمين في هذه المواضيع وتحذير للمسلمين من مجاراتهم ومطاوعتهم لأنهم بذلك يغدون مشركين مثلهم. تعليق على آية فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ والآيات الثلاث التالية لها وجمهور المفسرين على أن الذي أمر المسلمون بأكله إذا ذكر اسم الله عليه في الآيات ونهوا عن أكله إذا لم يذكر اسم الله عليه هو المواشي والذبائح. وهذا مؤيد بآيات قرآنية أخرى جاء فيها ذكر ذلك صراحة وهي آية سورة المائدة:

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) . والآيات وإن كانت تبدو فصلا جديدا فإن مما يمكن أن يستلهم من مضمونها ومضمون سابقاتها أنها غير منقطعة الصلة بالآيات السابقة لها وأنها متصلة بما كان يقوم بين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من جهة، والكفار من جهة ثانية من مواقف جدلية متنوعة مما حكته فصول السورة. ولقد أورد المفسرون «1» في سياقها روايات متنوعة، ذكر فيها أن المشركين أو اليهود كانوا يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم في تحريمه لأكل الميتة التي قتلها الله وتحليل الذبيحة التي قتلها الإنسان وأن مجوس فارس كانوا يكتبون لكفار قريش ليجادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في هذه النقطة. وهناك رواية تذكر أن أناسا من المسلمين قالوا يا رسول الله كيف نأكل ما نقتله ولا نأكل ما يقتله الله فنزلت الآية [114] . ورواية المجوس تبدو غريبة جدا، وأكل الميتة عند اليهود محرم فلا يعقل أن يكون من المنتقدين لعدم أكل الميتة أو المجادلة فيه. وأوثق الروايات هو الرواية الأخيرة فقد رواها الترمذي عن ابن عباس «2» والروايات الأخرى لم ترد في كتب الصحاح. ويلحظ من جهة أن الآيات ليست في صدد أكل الميتة وإنما هي في صدد الحث على الأكل مما ذكر اسم الله عليه والنهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، وأن الآية [114] من جهة أخرى من سلسلة متكاملة فضلا عن الاتصال الملموح بين هذه السلسلة وبين الآيات السابقة.

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي وابن كثير والبغوي والخازن. (2) روى هذا الترمذي، انظر التاج ج 4 ص 101.

ومهما يكن من أمر فالآيات تلهم أنه كان يقع بين المسلمين والمشركين جدل ومناظرات في صدد الذبائح، فالمشركون كانوا يأكلون ما يموت حتف أنفه ولم يكونوا يذكرون كذلك اسم الله تعالى على ما يذبحونه. وتلهم أن بعض النبهاء من الزعماء كانوا يلقنون الذين يتصلون بالمسلمين من الكفار ما يجادلونهم به من حجج، وأن بعض المسلمين كانوا يترددون في هذه الأمور لسابق عهدهم بالتقاليد التي كانوا يجرون عليها قبل إسلامهم. فنزلت الآيات للقضاء على هذا التردد، ولبيان الأمر بصورة حاسمة على الوجه الذي جاءت به، وللتنبيه إلى أن التقاليد الجاهلية ليست قائمة على علم وحق وإنما هي بنت الأوهام والأهواء والظنون وأن السير على هذه التقاليد ومطاوعة المشركين فيها هو شرك. وهكذا تكون الآيات من الفصول الحاسمة التي جاءت لهدم تقليد من تقاليد الشرك والجاهلية. ولقد أشكل على المفسرين محتوى الآية الثانية التي تذكر أن الله قد فصل للمسلمين ما حرم عليهم لأن ذلك لم يرد في السور السابقة في النزول سورة الأنعام. وبعضهم قال إن تفصيل ذلك ورد في آية سورة المائدة التي أوردنا نصها قبل قليل. وبعضهم أنكر ذلك لأن سورة المائدة مدنية وردّ التفصيل إلى ما احتوته آيات تأتي قريبا في سورة الأنعام «1» وهو وجيه مع فرض أن الآيات المذكورة قد نزلت مع هذه الآيات دفعة واحدة وهو فرض في محله. ولم نر المفسرين فيما اطلعنا عليه يتعرضون لتعليل تردد المسلمين في أكل ما كان يذكر اسم الله عليه حتى اقتضت حكمة التنزيل إباحته والحث عليه بالأسلوب القوي الذي جاءت عليه الآيتان الأولى والثانية. ولقد روى المفسرون في سياق آية سورة الحج هذه لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28)

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والخازن والبغوي والطبرسي. الجزء الرابع من التفسير الحديث 10

أن العرب كانوا لا يأكلون مما يقربونه لآلهتهم أو ينذرون تقريبه لهم. فلما أسلم من أسلم منهم وصاروا يذكرون اسم الله على القرابين التي يقربونها لله في موسم الحج وغيره أو ينذرون تقريبها لله ظلوا على عادتهم في الامتناع عن الأكل منها. والمتبادر أن ما ورد في الآية متصل بذلك. وللفقهاء أقوال متنوعة في صدد هذا الموضوع على ما ورد في كتب التفسير فبعضهم أوجب ذكر اسم الله جهرا عند ذبح الذبيحة وبعضهم قال تكفي النية. وبعضهم قال بحل الذبيحة التي يذبحها المسلم ولو نسي ذكر الله عليها أو حتى لو تعمد عدم ذكره. وبعضهم قال بحل ما نسي دون العمد. وبعضهم توقف في الذبيحة التي لا يعرف بجزم أنها ذكر اسم الله عليها. وبعضهم أباح ذلك إذا كان يعرف يقينا أن الذابح مسلم. وهناك أحاديث نبوية صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المدني على الأرجح في هذا الصدد لم نر بأسا في إيراد ما فيه التوضيح في مناسبة التشريع الذي احتوته الآيات التي نحن في صددها. منها ما ورد في الصحاح ومنها ما لم يرد. ومن الأول حديث رواه البخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة «قالوا يا رسول الله إن قوما حديثو عهد بجاهلية يأتوننا بلحمان لا ندري أذكروا اسم الله عليها أم لا، أنأكل منها فقال سمّوا الله وكلوا» «1» . ومن الثاني أحاديث أوردها ابن كثير واحد بتخريج الحافظ بن عدي عن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمّي فقال النبيّ اسم الله على كلّ مسلم» . وواحد بتخريج البيهقي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المسلم يكفيه اسمه إن نسي أن يسمّي حين يذبح فليذكر اسم الله وليأكل» . وواحد بتخريج أبي داود عن الصلت السدوسي قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله أو لم يذكر، إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله» . وتعليقا على ذلك نقول إنه يتبادر لنا أن المقصود بحل أكل ما يذكر اسم الله

_ (1) التاج ج 3 ص 95. [.....]

تعليق على جملة إلا ما اضطررتم إليه

عليه من الذبائح وتحريم ما لم يذكر اسم الله عليه هو تثبيت فكرة الله وحده في نفوس المسلمين ومخالفة المشركين الذين كانوا يغفلون عن ذلك أو يذبحون لشركائهم أو يشركون شركاءهم مع الله عند الذبح. وأن المحرم هو ما ذبحه المشركون الذين يعرف يقينا أنهم لا يذكرون اسم الله وحده. وإن القول بجواز ذكر الله سرّا أو نية من قبل المسلم أو حل ذبيحة المسلم لو نسي ذكر الله صواب حتى لو لم تصح الأحاديث التي أوردها ابن كثير. أما القول بحل ذبيحة المسلم إذا تعمد عدم ذكر الله ففيه نظر فيما يتبادر لنا لأنه مخالف لنص الآية بدون عذر لنسيان. وصفة المسلم لا تكفي هنا إزاء النص فضلا عن إثم هذا المسلم لتعمده إساءة الأدب مع الله بعدم ذكره اسمه مع إيجاب القرآن ذلك. وللفقهاء كلام في صدد ذبيحة الكتابي على ما جاء في كتب التفسير فمنهم من أحلها إطلاقا لنص آية المائدة هذه: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ [5] ومنهم من أحلها إذا تيقن المسلم أنهم لم يذكروا اسم المسيح أو مريم عليها وحرمها إذا تيقن لأن القرآن حرم أكل ما يهل به لغير الله على ما جاء في آية سورة المائدة الثالثة وغيرها وأجازها إذا لم يتيقن من ذلك. ويتبادر لنا أن هذا هو الأوجه والله تعالى أعلم. وهناك أحاديث وأقوال أخرى في صدد المحرمات من الحيوانات وكيفيات الذبح سنوردها في مناسبات آتية أكثر ملاءمة. تعليق على جملة إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ لقد احتوت هذه الجملة مبدأ من المبادئ القرآنية الجليلة وهو رفع الحظر عن المنهيات حين الاضطرار. ومع أنه جاء هنا وتكرر أكثر من مرة في صدد الذبائح والأطعمة المحرمة مما سيأتي مثال له في آيات قريبة من هذه السورة فإن هناك آيات أخرى تلهم أنه من

تعليق على جملة وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين

المبادئ القرآنية العامة، ومنها آية سورة النحل هذه: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) . وواضح أن القرآن في إقراره هذا المبدأ قد تمشى مع ظروف الحياة وطبائع الأمور، من حيث إن الأوامر والنواهي إنما يمكن تنفيذها ضمن نطاق الإمكان والوسع وانتفاء الخطر والضرر والاضطرار. وهذا المبدأ شبيه لمبدأ عدم تكليف الله نفسا إلّا وسعها الذي شرعناه في سياق الآية [42] من سورة الأعراف وأوردنا في مناسبته أحاديث عديدة متساوقة مع التلقين القرآني، والأحاديث واردة بالنسبة لهذا المبدأ كما هي بالنسبة لذاك ويحسن بالقارىء أن يرجع إليها لتكون الصورة ماثلة له وهو يقرأ هذه الكلمة. وبمثل هذا المبدأ وذاك صلحت الشريعة الإسلامية للخلود والتطبيق في كل ظرف ومكان. والمتبادر أن القاعدة الشرعية القائلة «الضرورات تبيح المحظورات» قد استندت إلى هذا المبدأ. وهناك آيات قررت بصراحة أن حالة الاضطرار التي تبيح المحظور يجب أن تكون بقدر الضرورة وعدم تجاوز هذا الحد، منها الآية [145] من سورة الأنعام الآتية قريبا، وهذا مما يقف دون القول إن هذا المبدأ قد يفتح باب التساهل على مصراعيه فينشأ عنه تجاوزات دينية وغير دينية لأن الذين لا يتقيدون بالضرورة عند الاضطرار يعتبرون خارجين عن نطاق الكلام في صدد التقيد بالمبادىء القرآنية والانتفاع بها بطبيعة الحال. تعليق على جملة وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ هذه الجملة وإن كانت متصلة بالموضوع الخامس الذي دار عليه الكلام في الآيات فإن إطلاقها يجعل تنديدها وإنذارها عامين. ولقد قرئت الياء في (ليضلّون)

بالفتح من الضلال وبالضمّ من الإضلال. ومقامها يحتمل القراءتين وإن كنا نرجح الفتح. وعلى كل حال فإن فيها تنديدا بكل من يرتكس في الضلال متأثرا بهواه وهوى الآخرين بدون علم وبرهان. وبكل من يضل الناس بهواه بدون علم وبرهان كذلك معتديا ومتجاوزا لحدود الحق والصدق إلى الباطل والحلال إلى الحرام واليقين إلى الشبهات. مما يمكن أن يشمل كل شأن من شؤون الدين والدنيا. وفي هذا ما فيه من تلقين جليل مستمر المدى بوجوب عدم تنطع أحد من المسلمين للكلام والدعوة والوعظ والإيعاز والفتيا مندفعا بالهوى متجاوزا حدود الحق والصدق غير مستند إلى علم وبرهان، وبوجوب تثبت المسلم في كل قول يسمعه ورأي يلقى إليه أو عمل يوعز به إليه أو مذهب يزين له. فلا يأخذ من ذلك إلّا ما برىء من الهوى وقام على صحته وسلامته وحقه وصدقه علم وبرهان. وفي القرآن آيات كثيرة مكية ومدنية فيها تنديد بمن يتبع الهوى ويأمر به ويتخذه إلهه دون الحق والصدق ويفتري على الله ورسوله فيقول هذا حلال وهذا حرام. وهذا يجوز وهذا لا يجوز وهذا حق وصواب وهذا باطل بدون علم وبرهان. مما مرّ منه أمثلة عديدة حيث يدل هذا على ما أعارته حكمة التنزيل لهذا الأمر من اهتمام وعناية. ولقد روى مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» «1» . وحديث رواه أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه» «2» ، وحديث رواه الشيخان والترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم

_ (1) التاج ج 1 ص 63 و 64 و 65. (2) المصدر نفسه.

تعليق على الآية وذروا ظاهر الإثم وباطنه

بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهّالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا» «1» . تعليق على الآية وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ هذه الآية قد تكون متصلة بالموضوع الذي جاء في الآيات التي هي جزء من سلسلتها. وبسبيل التنبيه إلى وجوب الوقوف في استباحة المحظور في حالة الاضطرار في نطاق الضرورة. وبمعنى آخر بسبيل الاستدراك لما يمكن أن ينشأ عن إباحة المحظورات عند الاضطرار من سوء تأويل وتوسع فعلى المسلم أن يبتعد عن الإثم في سره وعلنه وظاهره وباطنه دون تأول وتوسع ومحاولة تبرير غير صادقة. وهذا تلقين جليل كما هو ظاهر ومستمر المدى، كما أنه يزيل ما توهمه الآية من غرابتها على الموضوع والسياق. على أن إطلاق الأمر الرباني في الآية يجعلها جملة قائمة بذاتها أيضا. ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره في مدى ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ عن أهل التأويل في صدر الإسلام. منها أن (الظاهر هو ما حرم الله من الأنكحة والباطن الزنا السري) ومنها (الظاهر هو كل ما عصي به الله وانتهكت به محارمه علنا، والباطن كل ما كان من ذلك سرا) . ونرى القول الثاني هو الأوجه المتساوق مع إطلاق العبارة. وعلى كل حال فالجملة تنطوي من ناحية الإطلاق على تلقين من أروع التلقينات وأجلها. فيه إيقاظ لضمير المسلم وتنبيه له إلى وجوب تجنب الإثم والبغي مطلقا وليس في حالة العلن التي قد يترتب عليها ضرر للشخص من الناس والسلطان فيجعله يمتنع من ذلك بل وفي حالة السر أيضا التي قد لا يترتب عليها مثل هذا الضرر المانع. ثم ليس بسبيل الانطباق على ظواهر الأمور وتأويل النصوص وحسب بل بسبيل حقائق الأمور ونيات القلوب أيضا. فإن كثيرا من الناس يحاولون إيجاد المخارج للتحلل من الحرام والآثام ويؤولون النصوص تأويلا متسقا مع أهوائهم أو تأويلا أوسع مما تتحمله النصوص. وقد

_ (1) التاج ج 1 ص 63، 64، 65.

[سورة الأنعام (6) : آية 122]

يكونون ممن يعرفون الأمر على حقيقته في قرارة نفوسهم. ولقد جاء في آية في سورة الأعراف شيء مماثل لما جاء في هذه الآية: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [33] . غير أن للآية التي نحن في صددها معنى أوسع كما هو ملموح حيث يراد بها الذنوب والمعاصي والانحرافات التي لا توصف أو لا تعرف بالفواحش. ومن الفروق بين هذه الآية وآية الأعراف أن حكمة التنزيل اقتضت أن تكون آية الأعراف بأسلوب التحريم في جهة أن آية الأنعام جاءت بأسلوب الأمر والحض على ترك الإثم. ومن ذلك أن ما أمر بتركه في آية الأنعام ليس هو ما كان فاحشا لا يسع أحدا اقترافه بدون ترتيب واندفاع بالذنب بل ما يمكن أن يتأوله الناس ويجرأوا عليه في السر والعلن من أمور تكون في حقيقتها معصية غير خافية على مقترفها. وهكذا يمكن أن تكون الآية هنا تتمة للتعليم والتأديب والتشريع ليكون الأمر شاملا للفواحش والآثام الكبيرة وغير الكبيرة ما ظهر منها وما بطن، والله تعالى أعلم. [سورة الأنعام (6) : آية 122] أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122) تتساءل الآية على سبيل التمثيل عما إذا كان يصح في العقل أن يكون من أحياه الله بعد جهله وضلاله بالهدى وجعل له منه نورا يمشي به في الطريق القويم الواضح مثل الذي يتسكع في الظلمات لا يستطيع أن يخرج منها أو أن يرى الطريق القويم الواضح. ثم تقرر تقريرا فيه معنى التنديد والتقريع بأن الكافرين الذين هم الفريق الثاني إنما صاروا كذلك لأنهم زين لهم عملهم المنحرف فرأوه حسنا واستمروا فيه. وقد روى المفسرون أن الآية نزلت في صدد المقايسة بين رجل من المسلمين وآخر من المشركين اختلفت الروايات في اسميهما، منها ما ذكر أنهما عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأبو جهل، ومنها ما ذكر أنهما النبي صلى الله عليه وسلم وأبو

[سورة الأنعام (6) : الآيات 123 إلى 124]

جهل، ومنها ما ذكر أنهما عمار بن ياسر أو حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما وأبو جهل «1» . ومع أن الآيات التي تلي هذه الآية قد تساعد على القول إن هذه الآية في صدد التنديد ببعض أكابر مشركي قريش وبالتالي تساعد على القول بوجاهة إحدى تلك الروايات إجمالا فإن هذا لا يمنع أن تكون جاءت تعقيبا على الآيات السابقة بسبيل التنديد بالذين يسيرون على وهم وجهل ومكابرة، وبسبيل التنبيه إلى ما بينهم وبين الذين يسيرون على علم وهدى من فرق عظيم، بصورة عامة وهو ما رجحه ابن كثير وأن تكون الآيات التالية لها قد جاءت استطرادا لذكر مواقف مكابرة أكابر المجرمين وعنادهم وهذا ما نرجحه. والآية في حدّ ذاتها من روائع الآيات في أسلوبها وتنويهها وتنديدها، وفيها تلقين جليل مستمر المدى ينطبق على كل ظرف ومكان في سبيل المقايسة بين الضالين والمهتدين، والمستقيمين والمنحرفين. ويمكن تأويل جملة (زين لهم) بأن فساد أخلاقهم وارتكاسهم في تقليد الجاهلية وعنادهم هو الذي زين لهم عملهم وبذلك يزول أي وهم وإشكال قد يردان على بال إنسان ما. والله تعالى أعلم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 123 الى 124] وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (123) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124) (1) صغار: هوان وذلة. في الآيات تقرير لمظهر من مظاهر النظام الذي أقام الله عليه الاجتماع البشري وهو وجود زعماء ماكرين مجرمين في كل بيئة دأبهم الكيد والمكر

_ (1) انظر تفسيرها في تفسير الطبري وابن كثير والخازن والطبرسي.

تعليق على آية وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته

والوقوف من رسل الله ودعاة الخير موقف التعطيل والعناد. فإذا جاءتهم آية كابروا وقالوا لا نصدق حتى نرى وندرك ما يراه رسل الله ويدركونه. وردّ عليهم بأن كيدهم لن يضرّ غيرهم ومكرهم لن يحيق إلّا بهم دون أن يشعروا. وتقرير بأن الله تعالى يعلم أين يضع رسالته، وكيف يصطفي ويختار رسله من بين الناس وإنذار قاصم بأن الماكرين المجرمين سيصيبهم هوان وذلة عند الله، وسينالهم العذاب الشديد جزاء مكرهم وكيدهم. والتنديد الشديد بالمجرمين من القرائن على صواب تأويلنا للجملة الأولى الذي أولنا به جملة مماثلة في الآية [112] من هذه السورة والآية [31] من سورة الفرقان، وبه يزول ما يمكن أن يوهمه ظاهر الجملة من أن الله تعالى هو الذي يسوق الأكابر إلى الإجرام والصد أو يجعل أكابر المجرمين يسودون. تعليق على آية وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ وقد روى المفسرون «1» أن الآيات نزلت بمناسبة قول الوليد بن المغيرة من زعماء قريش لو كانت النبوة حقا لكنت أولى منك بها لأني أكبر منك سنا وأكثر مالا، أو بمناسبة قول أبي جهل: «زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إنا صرنا كفرسي رهان فقالوا منا نبي يوحى إليه، والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه» . والرواية متسقة مع مضمون الآيات. وفي سورة ص آية تحكي تساؤل زعماء الكفار بأسلوب الاستكبار والإنكار عن اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بنزول القرآن عليه من دونهم وهي: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا [8] ، وفي سورة الزخرف آية تحكي قول زعماء الكفار بأنه كان يجب أن ينزل القرآن على أحد عظماء مكة أو الطائف وهي: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير البغوي والطبرسي.

عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) حيث يفيد هذا أن مثل هذا القول الذي حكته الآيات قد صدر من زعماء المشركين أكثر من مرة وبأساليب مختلفة. غير أننا نلحظ أن الآيات هنا جاءت بأسلوب مطلق وتقريري ومعطوفة على ما قبلها حيث يلهم هذا أنها استمرار في السياق وفي صدد الإشارة إلى زعماء المشركين وكبار مجرمي مكة الذين تولوا كبر المعارضة والتعطيل للرسالة النبوية بصورة عامة، وفي صدد وصف شدة مكابرتهم وعنادهم. وإن كان هذا لا يمنع أن كان بعضهم حينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخبر بوحي الله إليه وبصلته به وبما يراه من تجليات ربانية ويتلو آيات القرآن يتخذ ذلك وسيلة إلى العناد والمكابرة والتعجيز حسدا ومنافسة ويعلن أنه لن يصدق ما لم يدرك هذا بنفسه وتقوم عليه الدلائل في ذاته. وعلى كل حال ففي الآيات صورة جديدة من صور الحجاج واللجاج والتحدي بين النبي صلى الله عليه وسلم وزعماء المشركين. وفي أسلوبها المطلق تلقينات مستمرة المدى، ففيها تنديد بذوي الزعامة والوجاهة الذين يقفون من الدعوة إلى الخير والإصلاح وأصحابها موقف اللجاج والتعطيل والصد والتعجيز استكبارا وحسدا وغيظا، وفيها تثبيت لأصحاب مثل هذه الدعوة وتشجيع لهم بتقرير كون مكر الماكرين الصادين المعطلين حائقا بهم وحدهم. وفيها تنبيه إلى مسؤولية الزعماء وما ترتكس فيه أممهم من الآثام والانحراف بسبب مكرهم وإجرامهم وعنادهم ومكابرتهم لأنهم القدوة والأسوة. ولعله مما ينطوي فيها التحريض على التمرد على مثل هؤلاء الذين يحاولون إبقاء أممهم في نطاق مصالحهم ومآربهم، فهم مجرمون ماكرون ولا ينبغي الرضوخ لهم والسير في فلكهم. وفي جملة اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ردّ مفحم حاسم من جهة، وتنويه بالغ بقدر النبي صلى الله عليه وسلم وخصائصه من جهة أخرى. فمرتبة النبوة من أعظم المراتب التي لا يوصل إليها إلّا بأعظم الخصائص الروحية والعقلية. والذين يختارهم الله تعالى لرسالته وتجلياته تكون هذه الخصائص قد بلغت فيهم إلى

[سورة الأنعام (6) : الآيات 125 إلى 127]

الدرجة العالية من الكمال. وينطوي في هذا وصف تقريري عظيم لما بلغته خصائص النبي العربي العظيم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الخلقية والعقلية والإنسانية من مرتبة عالية حتى صار بها مظهرا لاصطفاء الله تعالى وتجلياته. وكفى به وصفا يزري بكل ما يصفه به الناس، وقد كانت آية سورة القلم وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) تعبيرا قرآنيا جليلا عن هذه الخصائص التي تحققت فيه قبل بعثته وتأهيل بها للاصطفاء الرباني على ما شرحناه في مناسبته. ولقد احتوى القرآن إشارات عديدة إلى ما ظهر وظلّ يظهر من عظمة أخلاق وكمال صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم وبره وإشفاقه وعمق إيمانه وصميمته ما بلغ الذروة التي تفسر أسباب اصطفاء الله تعالى له للرسالة العظمى، مما نبهنا عليه في سور سبق تفسيرها ومما سوف ننبه عليه في ما يأتي من السور. وفي كتب الأحاديث أحاديث كثيرة جدا فيها ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من كمال الأخلاق والصفات مما بلغ الذروة كذلك وفيها مصداق ذلك أيضا «1» . [سورة الأنعام (6) : الآيات 125 الى 127] فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127) (1) كأنما يصعد في السماء: يتصعد، ومعنى الجملة كأنما يتكلف مشقة ارتقاء مرتفع عال حيث يضيق صدره ونفسه بذلك.

_ (1) انظر ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة الخمسة في التاج مثلا ج 3 ص 204- 220. وهذه الأحاديث هي في صدد أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته وحسبه. وهناك أحاديث كثيرة جدا في هذه الكتب فيها من أوامر النبي صلى الله عليه وسلم ونواهيه ومواعظه وحكمه ومعالجاته لمختلف ما كان يعرض عليه من شؤون نفسية واجتماعية وأخلاقية وسلوكية وقضائية ما يصح أن يكون مظهرا بالغ الذروة من مظاهر صفاته وأخلاقه أيضا.

تعليق على جملة فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا

(2) الرجس: هنا بمعنى الخزي. ينطوي في الآيات تقرير بأن الإيمان والاهتداء إليه والضلال والانحراف عنه مسألة قلب ورغبة وبأن الناس صنفان منهم من طهر قلبه وحسنت نيته وصدقت رغبته في الاهتداء إلى الإيمان، ومنهم من خبثت سريرته وانعدمت فيه الرغبة. فالله سبحانه يشرح صدر الأولين للإسلام حينما توجه الدعوة إليهم، أما الآخرون فيكونون كمن يتكلف ارتقاء مرتفع عال حيث تضيق صدورهم وتتلاحق أنفاسهم ويعتريهم الاضطراب ولا يستجيبون للدعوة ولا يؤمنون فيحق عليهم الخزي والخذلان والعذاب. وإعلان بأن صراط الله قد بان واضحا مستقيما وأن الله تعالى قد فصّل الآيات للناس حتى ينتفع بها الذين يحبون أن يتدبروا ويتذكروا ويهتدوا فيستحقوا بذلك رضاء الله وينزلون عنده في دار السلام والطمأنينة ويكون وليهم وناصرهم بما قدموا وعملوا. تعليق على جملة فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً والآيات متصلة بسابقاتها ومعقبة عليها كما هو المتبادر، وروحها ومضمونها يلهمان أن التأويل الذي أوّلناه بها هو الأوجه المتسق مع روح الآيات القرآنية عامة. وأنها ليست بسبيل تقرير أن الهدى والضلال حتم من الله على أناس بأعيانهم كما قد توهمه العبارة لأول وهلة، والتنديد بغير المؤمنين وتقرير الرجس عليهم وإنذارهم والتنويه بالمؤمنين وتبشيرهم فيها ووصفهم بالمتذكرين قرائن حاسمة على ذلك. ولقد قررت آيات عديدة أن الله تعالى إنما يضل الفاسقين والظالمين ويهدي المنيبين إليه، على ما أوردناه وشرحناه في مناسبات سابقة حيث يكون فيها قرائن حاسمة أخرى ومقيدة للإطلاق ويزول بها التوهم أيضا ويجب أن يذكر آية الزمر وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ [7] ففيها أيضا ضابط حاسم. ومما يتبادر أن الآيات بالإضافة إلى ما شرحناه من تقريراتها قد استهدفت

[سورة الأنعام (6) : الآيات 128 إلى 132]

تسلية النبي صلى الله عليه وسلم إزاء تصامم وعناد زعماء قومه والتنويه بالمؤمنين الذين استجابوا إلى دعوته. ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن عبارة وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً تعني الإسلام. وروى ابن كثير عن بعض أهل التأويل أنها تعني (القرآن) وكلا التأويلين وجيه وهما في الحقيقة شيء واحد. ولقد أول المفسرون عبارة (دار السلام) بالجنة. وهو تأويل وارد وقد مرّ مثل هذه العبارة في سورة يونس مع التنبيه على أننا نلمح في العبارة مدى أقوى في صدد تطمين المؤمنين بما يكون لهم عند الله من أمن وسلام، والله تعالى أعلم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 128 الى 132] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) (1) قد استكثرتم من الإنس: قد أضللتم وأغويتم كثيرين من الإنس. (2) وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا: يكون الظالمون بعضهم أولياء بعض. (3) أهلها غافلون: هنا بمعنى في غفلة وعماء أو غير منبهين إلى الحق والهدى. في الآية الأولى والآية الثالثة حكاية لبعض ما يكون يوم القيامة حيث يوجه الله تعالى الخطاب إلى الجن منددا بهم لكثرة ما أضلوا من الإنس. وحيث يجيب الضالون من هؤلاء على سبيل الاعتذار بأن كلا من الطرفين قد انخدع بالآخر

تعليق على الآية ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس والآيات الأربع التالية لها

واستمتع به غافلا عن المصير، فلم يلبثوا أن اصطدموا جميعا بالحقيقة ورأوا حقيقة الموعد الذي وعدهم الله به، والأجل الذي عينه لهم وحيث يجابون حينئذ أن مثواهم النار بسبب ذلك خالدين فيها إلّا ما شاء الله. وحيث يوجه الخطاب إلى الإنس والجن ثانية بصيغة السؤال الإنكاري والتنديدي عما إذا لم يكن قد جاءهم رسل منهم يتلون عليهم آيات الله وينذرونهم لقاء هذا اليوم فيجيبون بالإيجاب مقررين وشاهدين على أنفسهم بالكفر والاغترار بالحياة الدنيا. أما الآيات الثانية والرابعة والخامسة ففيها تعقيب على الحوار المحكي تنطوي فيه العبرة والموعظة، حيث قررت الثانية أن الظالمين إنما يتولى بعضهم بعضا ويتبع بعضهم بعضا لاتحادهم في الصفات والأفعال. وحيث نبهت الآيتان الرابعة والخامسة إلى أن الله تعالى لم يكن ليهلك القرى ويعذب أهلها ظلما وهم غافلون متروكون في عماء وجهالة وغير منبهين بالدعوة إلى الحق والهدى، وإنما يستحقون ذلك لكفرهم وإثمهم عن بينة وبعد أن يكونوا قد أنذروا بلسان رسل الله. وإلى أن كل امرئ إنما ينال الدرجة والمنزلة التي يستحقها حسب عمله، وأن الله تعالى غير غافل عما يفعله الناس. ولم يرو المفسرون رواية ما كمناسبة لنزول الآيات. والصلة بينها وبين سابقاتها ملموحة. ومع واجب الإيمان بما جاء فيها من خبر المشهد الأخروي فالمتبادر أن من حكمته العظة والتنبيه وإثارة الرعب والخوف والندم في نفوس الكفار أيضا. تعليق على الآية وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ والآيات الأربع التالية لها لقد أوّل المؤولون والمفسرون على ما جاء في كتب التفسير (استمتاع الإنس والجن بعضهم بعضا) الذي حكى عن لسان الإنس في الآية الأولى بأن استمتاع الإنس بالجن هو ما كان العرب يعتقدونه من آثار الجن في نوابغ الشعراء والكهان

السحرة وباستجابة الجن لهم حينما كانوا يستعيذون بهم في الوديان أثناء الليل. وبأن استمتاع الجن بالإنس هو ما كان من تعظيم العرب لشأن الجن والعياذ بهم والتعبد لهم. وهذا التأويل وجيه متسق مع ما أشارت إليه بعض الآيات القرآنية صراحة وضمنا مثل آيات الشعراء [221- 223] وآية الجن [6] وآية الأنعام [100] وقد مرّ تفسير ذلك بحيث يصح أن يقال إن في هذه الإشارة توكيدا جديدا للصور التي كانت في أذهان العرب عن الجن والتي شرحناها في سياق تفسير سورتي الناس والجن. ومن المؤولين والمفسرين على ما جاء في كتبهم من قال إن في الآية [130] دليلا على أن الله يرسل رسلا إلى الجن كما يرسل إلى الإنس. ودعم قائلو ذلك ببعض الآيات العامة مثل آية فاطر [24] التي مر تفسيرها: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ (24) ومثل آية النحل هذه: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [36] ومنهم من قال إن جميع رسل الله وأنبيائه من الإنس وأن الله أرسلهم للإنس والجن معا، وإن كلمة (منكم) في الآية يصح أن تكون للإنس وحدهم وإنه ليس في آيات القرآن صراحة بأن الله أرسل من الجن رسلا. ودعم هؤلاء قولهم بآيات سورة الجن [1 و 2 و 13 و 14] وآيات سورة الأحقاف [29- 31] التي يخبر الله فيها النبي صلى الله عليه وسلم بأن طوائف من الجن استمعوا للقرآن وآمنوا وأنذروا قومهم ودعوهم إلى الإيمان بالنبي والقرآن. حيث ينطوي في الآيات أن الجن اعتبروا أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن موجهان إليهم. ويتبادر لنا أن هذه النصوص لا تحتوي صراحة قطعية تثبت أو تنفي الرسل إلى الجن من الجن ولم نطلع على حديث نبوي صحيح في ذلك. وأن الأولى الوقوف في هذه المسألة عند ما اقتضته حكمة التنزيل الإيحاء به وتفويض حقيقة الأمر وتأويله إلى الله تعالى. مع ملاحظة أن هدف الآيات الجوهري المتبادر منها هو التنديد بالكفار وإلزامهم وإنذارهم وحملهم على الارعواء والندم والله تعالى أعلم.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 133 إلى 135]

وفي الآية [129] تلقين مستمر المدى حيث ينطوي فيها تقرير كون الظالمين لا يتولاهم ولا يتعاون معهم إلا الظالمون أمثالهم. وتحذير للمؤمنين الصالحين من مسايرتهم بأي شكل. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا مرفوعا أخرجه ابن عساكر عن ابن مسعود جاء فيه: «من أعان ظالما سلطه الله عليه» وقد احتوى الحديث تلقينا متسقا مع التلقين التحذيري المنطوي في الآية. وهناك أحاديث وردت في كتب الصحاح فيها تنديد بالظلم والظالمين وحثّ على الوقوف في وجوههم بدون تردد وخوف أوردناها في تعليقنا على موضوع الظلم في سورة الفرقان فنكتفي بهذا التنبيه. هذا، وفي هذه الآيات قرينة على ما قلناه في صدد أسلوب الآيات التي سبقتها ونفي لإرادة الله سبحانه الهدى لأناس والضلال لآخرين دون أن يكون لأخلاقهم واختيارهم تأثير في ذلك. وتعليقا على جملة إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ في صدد خلود الكافرين في النار نقول إن مثل هذه الجملة قد ورد في آيات في سورة هود، وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار فنكتفي بهذه الإشارة. [سورة الأنعام (6) : الآيات 133 الى 135] وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) وجه الخطاب في الآيتين الأولى والثانية إلى الكفار حيث قرر فيهما أن الله تعالى هو غني عن الناس وهو متصف بالرحمة أيضا وأنه يستطيع إذا شاء أن يهلكهم ويستخلف من بعدهم ما يشاء، كما استطاع أن ينشئهم من ذرية قوم قبلهم. وأنه إذا لم يفعل ذلك فورا فلأن رحمته قد وسعت الجميع وحكمته قد

[سورة الأنعام (6) : الآيات 136 إلى 140]

اقتضت التأجيل، وأن ما يوعدون به آت لا ريب فيه وهم غير معجزين لله وغير خارجين عن نطاق قدرته وجبروته. أما الآية الثالثة فقد احتوت أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم ليقول للذين وقفوا منه موقف الجحود والعناد بأسلوب فيه تحدّ ويقين سيروا وابقوا على ما أنتم عليه، وأنا سائر وثابت على ما أنا عليه والمستقبل بيننا حيث يعرف الذي تكون له العاقبة الحسنى والفوز النهائي من الفريقين، ولن يصيب الظالمون نجاحا ولا فوزا. وظاهر أن الآيات استمرار في التعقيب على ما سبق من الآيات وإنذار قوي بأسلوب رصين نافذ إلى العقول والقلوب معا. ومن شأنه بث البشرى والطمأنينة والوثوق في قلب النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأنهم على الحق وأنهم المفلحون في العاقبة وقد تحقق ذلك فعلا فكان فيها معجزة باهرة. وقد جاءت الآيات في الوقت نفسه خاتمة قوية ثانية لمواقف المناظرة واللجاج القائمة بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار والتي ما فتئت الفصول التي جاءت بعد سلسلة قصص الأنبياء تحكي صورها المتنوعة استئنافا لمثلها قبل هذه السلسلة. [سورة الأنعام (6) : الآيات 136 الى 140] وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140)

(1) ذرأ: خلق. (2) الحرث: الزروع وغلاتها. (3) ليردوهم: ليوقعوهم في هوة الضلال والإثم. (4) ليلبسوا عليهم دينهم: ليخلطوا ويشوشوا عليهم في دينهم وعقائدهم. (5) حجر: محجورة أو موقوفة أو ممنوعة. (6) لا يطعمها: لا يأكل منها. (7) الأنعام: الكلمة تشمل الغنم (الضأن والمعز) والإبل والبقر. (8) سفها: جهلا. في الآيات إشارة تنديدية إلى بعض عادات وتقاليد كان العرب يمارسونها ويصبغونها بصبغة دينية، فقد كانوا ينذرون شيئا من أنعامهم وزروعهم لله تعالى وشيئا للشركاء الذين كانوا يدعونهم ويعبدونهم معه. وكانوا يحابون بين قسم الله وقسم الشركاء. فإذا ظهر أن الأول أكثر نتاجا أو غلة بدلوا في التقسيم ليكون هذا من قسم الشركاء ولا يفعلون العكس. وكان بعضهم يقتل أولاده بوسوسة الشياطين وتزيينهم. وكانوا ينذرون تحريم أكل بعض الأنعام وغلات الزروع على أناس دون أناس. وينذرون تحريم ركوب بعض الأنعام وتحميلها ولا يذكرون اسم الله على ما يذبحونه منها. وكانوا ينذرون بعض ما في بطون أنعامهم للذكور دون الإناث إذا ولد حيا ويشركون الإناث فيما يولد ميتا. وكانوا يفعلون كل هذا على اعتبار أنها تقاليد دينية مقدسة. ويظنون أنهم في ممارستهم لها إنما يتقربون إلى الله تعالى ليحقق لهم مطالبهم ورغباتهم التي ينذرون نذورهم من أجلها. وقد نعت الآيات هذه التقاليد والعادات الباطلة وقررت أن الذين يمارسونها

تعليق على «تقاليد المشركين في الأنعام والحرث وحجرهما وقتل الأولاد نذرا لله أو لمعبوداتهم»

يسيرون وراء وسوسة الشياطين وتزييناتهم وأنهم في نسبتها إلى الله سبحانه يفترون الكذب عليه وأن كل من يقتل ولده ويحرّم ما رزقه الله وينسب ذلك إلى أصل ديني إلهي جهلا أو كذبا هو ضالّ وليس على حقّ وهدى. تعليق على «تقاليد المشركين في الأنعام والحرث وحجرهما وقتل الأولاد نذرا لله أو لمعبوداتهم» ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه مناسبة خاصة لنزول الآيات التي تبدو فصلا ذا موضوع جديد. وعطفها على ما سبقها وإضمار الفعل في (وجعلوا) الذي يعود كما هو واضح إلى أناس كانوا موضوع الحديث في الآيات المعطوف عليها وهم المشركون يجعل الصلة قائمة بينها وبين ما سبقها كما هو المتبادر، بحيث يسوغ القول إن الآيات جاءت استطرادية للتنديد بالمشركين بسبب ما كانوا يمارسونه من عادات وتقاليد سخيفة يصبغونها بصبغة دينية وينسبونها إلى الله سبحانه افتراء وجهلا في حين أنها من وساوس الشياطين. وقتل الأولاد المذكور في الآية الثانية ليس هو كما يتبادر لنا من روحها وأد البنات الذي أشير إليه في سورة التكوير التي سبق تفسيرها، ولا قتل الأولاد خشية الإملاق الذي نهي عنه في سورة الإسراء التي سبق تفسيرها أيضا، وإنما هو تقليد من التقاليد الجاهلية الدينية كان يمارسه العرب على سبيل النذر، حيث كانوا إذا ما اشتد على أحدهم خطب أو كان له مطلب عظيم نذر بتقريب أحد أولاده قربانا لله أو للشركاء. وقد روت الروايات «1» أن عبد المطلب جدّ النبي صلى الله عليه وسلم نذر مثل هذا النذر. وأن امرأة بدوية نذرت أن تنحر ابنها عند الكعبة إن فعلت شيئا عينته ففعلته فأرادت أن تفي بنذرها بعد الإسلام فقيل لها إن الله قد حرّم ذلك فأفدت كما فدى عبد المطلب ابنه «2» .

_ (1) انظر سيرة ابن هشام ج 1 ص 141 وما بعدها. (2) انظر تاريخ العرب قبل الإسلام جواد علي ج 5 ص 200.

ومهما قيل في هذه الروايات فإن ورود الإشارة إلى هذا التقليد في القرآن دليل على أن العرب كانوا يمارسونه. ولقد ورد في سورة الصافات آيات تذكر أن إبراهيم عليه السلام أمر في منامه بذبح ابنه قربانا لله كما ترى في هذه الآية: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) وهذه القصة واردة في سفر التكوين أيضا «1» . فلا يبعد أن يكون التقليد الجاهلي مقتبسا من هذا التقليد القديم أو متصلا به ولا سيما أن العرب كانوا كما قلنا في مناسبات سابقة يتداولون صلة بنوّتهم بإبراهيم وسيرهم في تقاليدهم وفق تقاليد إبراهيم وملّته. أما التقاليد الأخرى فالمستفاد مما رواه المفسرون «2» أنها من حيث أساسها كانت تهدف إلى التقرب إلى الله والشركاء بقصد تكثير النسل والغلات أو الشكر إذا كثر النسل والغلات أو إذا تحقق للمشركين مطلب. ويبدو من الآية الأولى أنهم كانوا يحابون شركاءهم ويحولون نصيب الله إليهم إن كان هو الأفضل انسياقا وراء مفهوم مألوف في معاملات الناس وصلاتهم ببعضهم حيث يرون أنهم لا بد لهم من شفعاء لدى الله لتحقيق مطالبهم، وأن الحصول على رضاء هؤلاء الشفعاء هو المهم في نظرهم لأن شفاعتهم مقبولة لدى الله حتما في تصورهم. ومما رواه المفسرون من تفصيل في سياق هذه الآيات أنهم كانوا يجعلون ما لله للضيوف وما للشركاء لسدنة الأوثان الرامزة إلى الشركاء. وأنه كان إذا نزل الماء في أرض منذورة لله دون المنذورة للشركاء أو إذا كانت غلة الأرض أو نتاج الأنعام المنذورة لله أحسن من المنذور للشركاء حولوها للشركاء. وإذا سقط شيء مما هو منذور لله في نصيب المنذور للشركاء أبقوه فيه وإذا سقط شيء مما هو للشركاء في

_ (1) الإصحاح 22. (2) انظر تفسير الآيات في كتب الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.

نصيب الله ردوه إلى نصيب الشركاء وإذا أصابهم جوع أكلوا مما نذروه لله دون المنذور للشركاء، وقالوا إن الله غني عن نصيبه دون الشركاء. والغالب أن هذا كان يجري بإيعاز من السدنة لأنهم أصحاب الحظ والمصلحة. ولم يذكر المفسرون شيئا واضحا في صدد جملة: وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ [138] والمتبادر أنهم كانوا ينذرون بعض الأنعام والزروع لأناس ويحرمونها على أناس. ويعتبرون نذرهم هذا إلزاما دينيا لهم ولم يرووا شيئا واضحا كذلك في صدد الآية [139] وإنما قالوا قولين في تفسير جملة: ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ أحدهما أنها تعني اللبن وثانيهما أنها تعني الجنين. والقول الثاني هو الأوجه بقرينة جملة وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ التي وردت في نفس الآية. والمتبادر أنهم كانوا ينذرون الأجنة قبل ولادتها للذكور فإذا جاءت حية اعتبروا ذلك علامة رضاء الله والشركاء فحرموا أكلها على الإناث وإذا جاءت ميتة اعتبروا أن الله والشركاء لم يرضوا عن نذرهم فأكلوا الميتة هم ونساؤهم معا. أما ما جاء في الآية [139] من الإشارة إلى تحريم ظهور بعض الأنعام فقد كان بسبب اعتبارات ونذور معينة. وكان يطلق على الأنعام نتيجة لها اصطلاحات خاصة. وقد ذكرت هذه الاصطلاحات في آية سورة المائدة هذه: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ [103] وروى المفسرون أنهم كانوا يشقّون أذن الناقة التي تنتج خمسة بطون ويخلون سبيلها شكرا لله فلا يركبونها ولا يحلبونها ولا يجزون وبرها ولا يمنعونها من كلأ وماء ويسمونها (بحيرة) اشتقاقا من (بحر) بمعنى شق الأذن. وكانوا إذا مرض لهم مريض أو كانت لهم أمنية أو طال عليهم غياب غائب نذروا أن يعتقوا ناقة يعينونها فإذا شفي المريض أو تحققت الأمنية أو عاد الغائب (سابوا) الناقة المذكورة وسموها (سائبة) وصار له من المزايا ما ذكرناه في صدد البحيرة وكانوا إذا أنتج الفحل عشرة بطون أعتقوه وسموه (حاميا) أي حمى نفسه وصار له نفس المزايا. وكانوا إذا ولدت الشاة لأول مرة أنثى كانت لهم

[سورة الأنعام (6) : الآيات 141 إلى 142]

فلا يصح عليها ذبح ولا قربان. وإذا ولدت ذكرا كان لآلهتهم وهو الذي يذبح ويقرب فإذا ولدت ذكرا وأنثى في بطن واحد كانت حالة الذكر كحالة الأنثى فلا يصح أن يقرب أو يذبح لله وقالوا إن الأخت وصلت أخاها أي صانت دمه وسموها (وصيلة) ونص آية سورة المائدة صريح بأنهم كانوا يفعلون ذلك كنذر ملزم دينيا. والمتبادر أن الإشارة المنطوية في آية الأنعام [139] التي نحن في صددها هي في صدد الحالات النذرية الثلاث الأولى. وقد روى المفسرون أن القصد من جملة لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا هو أن المشركين كانوا يذكرون على قرابينهم وأضاحيهم المنذورة أسماء شركائهم دون اسم الله عند ذبحها. وهذا متصل بالاعتبارات التي ذكرناها في صدد شرح سبب محاباتهم للشركاء. هذا والآية الرابعة تعطينا صورة لما كان يلحق بالمرأة العربية قبل الإسلام من تهضم واستهانة شأن. مما تعددت صورة في القرآن على ما سوف يأتي بيانه في مناسباته وقد يكون فيها دليل على أن العرب كانوا يأكلون ما يموت من الأنعام حتف أنفه أو ما يخرج من أرحامها من أجنة ميتة. [سورة الأنعام (6) : الآيات 141 الى 142] وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) (1) معروشات: أوجه الأقوال فيها أنها الأشجار المتعرشة والأرجح أنها تعني أشجار العنب. (2) حمولة: للحمل.

تعليق على الآية وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين والآية التالية لها

(3) فرشا: قيل إنها بمعنى الذبح وقيل إنها بمعنى الأثاث الذي يصنع من أوبار الأنعام وأصوافها وأشعارها. معاني الآيات واضحة وفيها تنويه بما خلق الله للناس ويسّر منافعه لهم من الأنعام والزروع والأشجار على اختلاف أنواعها، وإهابة بهم إلى التزام حدود الاعتدال وتجنب الإسراف في الانتفاع بها وأداء حقه منها، وعدم اتباع خطوات الشيطان ووساوسه لأنه شديد العداوة لهم. والمتبادر أن الآيات جاءت معقبة على سابقاتها، وقد انطوى فيها إفحام وإلزام للكفار، فالله سبحانه وحده الذي خلق كل شيء وليس لأي كائن علاقة أو دخل في ذلك. وقد أباح للناس ما خلق أكلا وانتفاعا. وتحريم ما أحلّ إنما هو من وساوس الشيطان المضللة. وواضح أن الإلزام والإفحام في الآيات مستمدان من عقيدة الكفار بالله وكونه هو الخالق البارئ المطلق التصرف في كونه ومخلوقاته، وهو ما قررته آيات عديدة أوردناها في مناسبات سابقة. تعليق على الآية وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ والآية التالية لها ومع أن للآيات خصوصية زمنية وجدلية فإنها انطوت على مبدأ من المبادئ القرآنية العامة المستمرة المدى تكرر في مناسبات متعددة وهو إباحة الاستمتاع بكل طيب حلال مما خلقه الله من ماشية وزرع وشجر في حدود الاعتدال وعدم الإسراف. مع أداء حق الفقراء منه وعدم التحليل والتحريم وفقا لتقاليد وعادات واعتبارات لا تستند إلى شرع إلهي ومحاربة كل تقليد وعادة واعتبار من شأنه أن يخل بذلك في تلك الحدود.

ومع أن جملة وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ تفيد بقوة الأمر بإفراز الزكاة من غلة الأشجار والزروع وتوزيعها على مستحقيها. فإن الطبري وغيره يروون عن بعض أهل التأويل أن هذه الجملة لا تعني الزكاة لأن الزكاة فرضت في المدينة، وإنما عنت الأمر بالتصدّق من ثمار الأرض، وأنها نسخت حين فرضت الزكاة. ويلحظ أنه ليس في السور المدينة ما يفيد بصراحة أن الزكاة إنما فرضت في العهد المدني وكل ما فيه بصراحة آية في سورة التوبة فيها تعيين لمصارف الزكاة. وبقية الآيات تأمر بإيتاء الزكاة مع الصلاة إطلاقا. ولقد علقنا على موضوع الزكاة تعليقا مسهبا في سورة المزمل رجحنا فيه أن الزكاة فرضت على المسلمين ومورست وعينت مقاديرها في العهد المكي. وأوردنا ما لمحناه من قرائن على ذلك في الآيات المكية ومن ذلك كلمة حَقَّهُ في الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها. ومن ذلك آيات سورة المعارج هذه: وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وآية سورة الذاريات هذه: وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) ففي كل ذلك قرائن قوية على ذلك. وآيات المعارج والذاريات تذكر (أموالهم) مطلقا وآية الأنعام التي نحن في صددها تفيد أن غلات الأرض مما كان قد أوجب أداء زكاته أيضا. ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآية الأولى مدنية، وروى البغوي أنها نزلت في ثابت بن قيس الذي صرم خمسمائة نخلة في يوم واحد وقسمها على الفقراء ولم يترك لأهله شيئا فنبهت الآية على أن للفقراء حق ولكن ليست لهم جميع الغلة. والرواية غير واردة في الصحاح، ولعل رواية مدنيتها متصلة بذلك. والآية منسجمة كل الانسجام مع السياق والرواية غريبة في فحواها وتطبيقها. وهذا يسوغ التوقف فيها، والله أعلم. هذا، وفي الآية دليل شرعي أن زكاة غلات الأرض تؤدى في موسم الحصاد ولا تتبع لقاعدة حول الحول عليها المقررة لزكاة الأموال والعروض التجارية إذا ما كانت هذه الغلات قد كانت النصاب المقرر في السنة وزيادة. وسنزيد هذا الأمر شرحا في مناسبة آتية.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 143 إلى 145]

[سورة الأنعام (6) : الآيات 143 الى 145] ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) (1) أزواج: حينما يكون الفرد لحدته يكون فردا وحينما يكون معه واحد آخر من نوعه ومن غير رحم أخرى يسمى كل منهما زوجا. وتعبير الزوجين يقصد به ذكر واحد وأنثى واحدة من نوع واحد. ومنه الآية خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى النجم: [45] ومن الضأن اثنين أي زوجين ذكر وأنثى. وهكذا صار الجميع ثمانية أزواج لأنها أربعة أنواع كل نوع زوجان ذكر وأنثى. (2) نبئوني بعلم: بينوا لي وأخبروني بما عندكم من الدليل العلمي عن الله في ذلك. (3) شهداء: بمعنى حاضرين وشاهدين. (4) فمن أظلم: فمن أشد جرما وضلالا. (5) طاعم يطعمه: مأكول يأكله الناس. (6) دما مسفوحا: دما سائلا. (7) أهلّ: ذبح. (8) باغ: من البغي وهو تجاوز الحد المرسوم. (9) عاد: من العدوان. في الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بمحاججة المشركين في صدد ما يحلونه ويحرمونه

من الأنعام ومطالبتهم بما عندهم من برهان وعلم على أن الله تعالى هو الذي حرّم ما يحرّمون وأحلّ ما يحلّون. وتنديد استطرادي بالذين يفترون على الله الكذب في ذلك. ليضلوا به الناس وإيذان بأن الله لا يمكن أن يسعد ويوفق الظالمين الذين يفعلون ذلك وتقرير بأنه ليس فيما أوحى الله شيء محرم على الآكلين إلّا أربعة: وهي الميت حتف أنفه والدم السائل ولحم الخنزير وما ذبح باسم غير الله. مستثنى من ذلك حالة الاضطرار التي يغفرها الله على شرط عدم تجاوز الضرورة وعدم التوسع في الاستباحة ظلما وعدوانا على حدود الله المرسومة، ومعللا بكون تحريم الثلاثة الأولى ناشئا من نجاستها وخبثها، وتحريم الرابعة ناشئا مما انطوى فيه من الفسق أي الشرك مع الله وذكر اسم الشركاء على الذبيحة. وأسلوب الآيات الأولى أسلوب تقريع وتحدّ وإنكار من جهة، وفيه إلزام وإفحام من جهة أخرى، فالذكور والإناث من الأزواج الثمانية مشتركة في إنتاج النسل من ذكر وأنثى وهذا النسل لا يلبث أن يشترك في إنتاج نسل آخر من ذكر وأنثى، فكيف يمكن أن يكون نتاج ما هو حل محرما أو نتاج ما هو محرم حلالا، أو كيف يمكن أن يكون بعض نتاج ما هو حل محرما وبعضه حلالا أو بعض نتاج ما هو محرم حلالا، وبعضه محرما؟. وصيغة الآيات وأسلوبها يدلان على أنها في صدد حكاية موقف من مواقف الجدل والمناظرة بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين في مواضيع تقاليدهم الجاهلية. ويتبادر لنا أن هذه الحكاية لا تنحصر في هذه الآيات بل تشمل الآيات السابقة لها أيضا ابتداء من الآية [136] لما بين موضوعها وموضوع هذه الآيات من ارتباط وثيق. ومضمون الآيات هنا يدل أيضا على أن العرب كانوا يعتبرون هذه التقاليد التحليلية التحريمية تقاليد دينية أولا، وأنها من شرائع الله الأعظم ثانيا. وقد قررت كذبهم وافتراءهم على الله ونددت بهم أشد تنديد لأنهم يقولون ويفعلون بغير علم ولا برهان.

تعليق على الآية فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم

تعليق على الآية فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ هذه الآية وإن كانت متصلة بالموضوع الخامس الذي دار الكلام عليه في الآيات فإن إطلاقها يجعل ما فيها تنديدا وإنذارا عاما مستمر التلقين. ولقد جاء في الآية [119] من هذه السورة جملة فيها بعض المشابهة وعلقنا عليها بما تبادر لنا أنه المتوافق مع ما يلهمه فحواها ومقامها غير أنه يلحظ فرق بين فحوى الآيتين. حيث جاءت الآية [119] كإخبار وإنذار وجاءت هذه كتنديد وإنذار. وحيث تتحمل الأولى أن تكون تصدت من يضل متأثرا بهواه أو يضلّ غيره بهواه. وجاءت هذه صريحة ضدّ الذين يضلون غيرهم ووصفتهم بالظالمين ومع ذلك فإن ما نبهنا عليه وبخاصة ضد الذين يضلمون الناس بأهوائهم وافترائهم على الله بدون علم وبرهان ينطوي في هذه الآية أيضا. ولقد حرمت الشريعة الموسوية التي تعتبر شريعة مسيحية أيضا من الوجهة النظرية والتي حكتها الأسفار المتداولة عزوا إلى توراة موسى المفقودة وإلى الروايات عنها هذه المحرمات الأربعة، غير أنها حرمت أشياء كثيرة أخرى من المأكولات غير محرمة في الشريعة الإسلامية بدون تعليل برجس أو فسق على ما سوف نذكره بعد. كما أنها لم تذكر حالة الاضطرار التي ذكرها القرآن وعفا عنها في نطاق الضرورة حيث يكون في هذا مصداق لما ذكرته آية الأعراف [157] من مهمة رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم من تحليل الطيبات وتحريم الخبائث ورفع الإصر والأغلال والتكاليف الشديدة التي كانت على اليهود والنصارى وبالتالي يكون في ذلك توكيد لذلك الترشيح. تعليق على الآية قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ واستطراد إلى أسلوب التشريع النبوي في تعليل المحرمات الأربعة في الآية بالرجس والفسق وحصر التحريم فيها ونفي تحريم أي شيء غيرها من المأكولات مبدأ من المبادئ القرآنية المحكمة

بحل كل ما هو طيب وليس فيه معصية ولا خبث ولا نجاسة من المأكولات عامة. ومثل هذا يقال بالنسبة إلى استثناء حالة الاضطرار التي يسمح فيها للمضطر عدم الالتزام بذلك وشرط أن لا يكون في ذلك تحايل ولا تجاوز للضرورة. وفي كل هذا ما فيه من ترشيح الشريعة الإسلامية للخلود والشمول، وهذه المبادئ مما تكرر تقريره في القرآن في مناسبات عديدة مرّ بعضها في السور التي سبق تفسيرها وبخاصة في سورة الأعراف. ويلحظ أن الآية وصفت الدم المحرم بالمسفوح أي السائل بحيث يقال إن هذا هو الأمر المستقر. ولقد روى البغوي عن ابن عباس وغيره أن المسلمين في الصدر الأول كانوا يرون الدم العالق باللحم والمخ والعظم والعروق خارجا عن نطاق التحريم لأنه غير سائل ويرون التحريم منحصرا في ما خرج من الأوداج سائلا في حالة حياة الحيوان، حيث كان العرب يفصدون الحيوان، وهو حي ويطبخون دمه. ولقد أورد المفسرون أحاديث نبوية عديدة في صدد حالة الاضطرار المذكورة في الآية، منها حديث رواه الطبري بطرقه عن أبي واقد الليثي قال: «قلنا يا رسول الله إنا بأرض تصيبنا فيها مخمصة فما يصلح لنا من الميتة؟ قال: إذا لم تصطبحوا أو تغتدوا أو تحتفؤوا بقلا فشأنكم بها» . وروى حديثا آخر عن الحسن جاء فيه: «سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم إلى متى يحل لي الحرام قال إلى أن يروى أهلك من اللبن أو تجيء ميرتهم» . وروى حديثا ثالثا عن مروة جاء فيه: «سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم في الذي حرم الله عليه وأحله له. فقال: يحل لك الطيبات ويحرم عليك الخبائث. إلا أن تفتقر إلى طعام فتأكل منه حتى تستغني عنه. فقال رجل: وما فقري الذي يحلّ لي وما غناي الذي يغنيني عنه؟ فقال: إذا كنت لا ترجو غناء تطلبه فتبلغ من ذلك شيئا فاطعم أهلك ما بدا لك حتى تستغني عنه. فقال أعرابي: وما غناي الذي أدعه إذا وجدته فقال: إذا أرويت أهلك غبوقا من الليل فاجتنب ما حرّم الله» . ولقد أورد ابن كثير هذه الأحاديث في السياق نفسه وعزا أولها إلى الإمام أحمد وأورد بالإضافة إليها حديثا رواه إلى أبي داود جاء فيه: «إن ناقة ضلت لرجل

فوجدها آخر فمرضت عنده فقالت له امرأته أنحرها فأبى فنفقت فقالت له اسلخها حتى نقدد شحمها ولحمها فنأكله فقال لا حتى أسأل رسول الله فأتاه فسأله فقال هل عندك غنى يغنيك قال لا قال كلوها» . والأحاديث وإن لم ترد في الصحاح فإن فيها توافقا لروح الآيات وبيان لمداها. ولقد عقب ابن كثير على هذه الأحاديث فقال إن تناول المحرمات واجب إذا خاف المسلم على نفسه ولم يجد غيرها، وأورد حديثا أخرجه الإمام أحمد وابن حبان عن ابن عمر مرفوعا قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يجب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته» . وحديثا آخر أخرجه الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبل عرفة» . والحديثان وإن لم يردا في الصحاح فإن ما فيهما متسق مع فكرة الرخصة القرآنية كما هو المتبادر. ولقد أورد ابن كثير حديثا رواه الحكم وابن مردويه عن ابن عباس جاء فيه: «كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تعذّرا فبعث الله نبيّه وأنزل كتابه وأحلّ حلاله وحرّم حرامه فما أحلّ فهو حلال وما حرّم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو. وقرأ آية الأنعام التي نحن في صددها» . وهناك حديث رواه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه أيضا جاء فيه: «سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن السّمن والجبن والفراء فقال الحلال ما أحلّ الله في كتابه والحرام ما حرّم الله في كتابه وما سكت عنه فهو ممّا عفا عنه» «1» . وينطوي في الحديث حصر التحريم والتحليل في المأكولات في كتاب الله واعتبار ما سكت عن ذكره القرآن مباحا. غير أن هناك أحاديث عديدة تبدو لأول وهلة أنها مناقضة للمبدأ الذي قرره هذا الحديث، وإخلال لنطاق التحريم الذي حددته الآية التي نحن في صددها. منها حديث رواه أبو داود والترمذي عن المقدام بن معدي كرب عن رسول

_ (1) التاج ج 3 ص 48.

الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه وما وجدتم فيه من حرام فحرّموه. ألا لا يحلّ لكم الحمار الأهليّ ولا كلّ ذي ناب من السبع ولا القطة إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه» «1» . وحديث رواه الترمذي وابن ماجه جاء فيه: «سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الذئب فقال ويأكل الذئب أحد فيه خير» «2» . وحديث رواه ابن ماجه جاء فيه: «قيل يا رسول الله ما تقول في الثعلب؟ قال: ومن يأكل الثعلب» «3» . وحديث رواه الخمسة عن أبي ثعلبة: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كلّ ذي ناب من السّباع» . وحديث رواه مسلم وأبو داود عن ابن عباس قال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلّ ذي ناب من السباع وعن كلّ ذي مخلب من الطيور» «4» . وحديث رواه الخمسة إلا البخاري عن جابر قال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل الهرّ وعن أكل ثمنه» «5» . وحديث رواه أبو داود وأحمد جاء فيه: «ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم القنفذ، فقال خبيثة من الخبائث» «6» . وحديث رواه أبو داود ومسلم عن جابر قال: «نهانا النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل» «7» . وحديث رواه ابن ماجه والحاكم وصححه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أحلّت لنا ميتتان ودمان. فأمّا الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال» «8» . وحديث رواه الخمسة عن ابن أبي أوفى قال: «غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع غزوات أو ستا كنا نأكل معه الجراد» «9» . وحديث رواه الخمسة كذلك عن خالد بن الوليد جاء فيه: «إنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة فأتي بضبّ محنوذ فأهوى النبي يده إليه فقال بعض النسوة أخبروا النبيّ بما يريد أن يأكل فقالوا هو ضبّ يا رسول الله. فرفع يده فقلت أحرام هو يا رسول الله قال لا ولكنّه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه قال خالد فاجتررته فأكلته والنبيّ ينظر» «10» . ومع ذلك فإن رشيد رضا أورد حديثا قال إنه أخرجه أبو داود عن

_ (1) التاج ج 3 ص 86 وما بعدها. (2) التاج ج 3 ص 86 وما بعدها. (3) التاج ج 3 ص 86 وما بعدها. [.....] (4) المصدر نفسه ص 83 وما بعدها. (5) المصدر نفسه ص 83 وما بعدها. (6) المصدر نفسه ص 83 وما بعدها. (7) المصدر نفسه ص 83 وما بعدها. (8) المصدر نفسه ص 83 وما بعدها. (9) المصدر نفسه ص 83 وما بعدها. (10) المصدر نفسه ص 83 وما بعدها.

عبد الله بن شبل: «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الضبّ» . وهذا الحديث لم يرد في التاج الذي جمع مؤلفه فيه أحاديث الخمسة البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي على ما قال في مقدمته. وتعليقا على ذلك نقول: أولا: إن الأحاديث التي فيها تحليل وتحريم جديدان قد صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المدني. والآية التي نحن في صددها مكية فليس ما يمنع أن يكون الله تعالى قد أوحى لرسوله وحيا غير قرآني فيه تعديل وتوسيع لمدى الآية. ثانيا: إن ما جاء في الحديثين اللذين يذكران أن الحلال ما أحله الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو عفو قد صدرا على الأرجح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الأحاديث التي فيها تحليل وتحريم جديدان. ثم أجرى الله على لسانه هذه الأحاديث بقصد التيسير والتوضيح والتنبيه. وهذا ما انطوى في الحديث المروي عن المقدام بن معدي كرب حيث يلمح أن القصد فيه هو بيان أن الله تعالى قد ألهم ويلهم النبي صلى الله عليه وسلم أشياء كثيرة لم ترد في القرآن ليحدث الناس بها أمرا ونهيا وتشريعا وخطة وتحذيرا وتمثيلا وأخبارا مغيبة إلخ ... والأخذ بكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم مما ليس في القرآن واجب لأن الله جعل النبي المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن وأمر بردّ كل ما يتنازع فيه المسلمون إلى الله الذي يمثله القرآن وإلى الرسول الذي تمثله أحاديثه بعد موته إذا ثبتت عنه على ما جاء في آية سورة النساء: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [59] وقد أمر الله بأخذ كل ما أمر به الرسول والانتهاء عن كل ما نهى في آية سورة الحشر هذه: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [7] وقد جعل الله طاعة الرسول من طاعة الله في آية سورة النساء هذه: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [80] .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 146 إلى 147]

وننبه بهذه المناسبة على أن التشريع النبوي المتصل بما ورد في القرآن قد جرى على أساليب منها ما فيه توضيح لغامض أو مبهم ومنها ما فيه تقييد لمطلق. ومنها ما فيه تشديد أو تخفيف لنص عام. ومنها ما فيه تشريعات جزئية تتمة لتشريعات رئيسية في القرآن، ومنها ما فيه تشريع لأمر مسكوت عنه في القرآن من الأمور الكلية الواردة فيه «1» . وليس فيه على كل حال على ما عليه الجمهور نسخ أو نقض أو خلاف أو تغيير لتشريع قرآني قطعي وصريح والله تعالى أعلم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 146 الى 147] وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) . (1) الحوايا: ذكر الطبري أن الكلمة في أصلها تعني ما يحتويه البطن وما اجتمع واستدار وأنها تطلق على بنات اللبن والمباعر والمرابض والأمعاء. (2) أو ما اختلط بعظم: قال المفسرون إن ذلك عنى عظم العصعص في

_ (1) من الأمثلة على هذه الأساليب: (1) إن القرآن فرض الصلاة ولم يعين كيفياتها وأوقاتها. (2) إن القرآن فرض الزكاة ولم يعين مقاديرها وأوقاتها. (3) إن القرآن ذكر المسائل الرئيسية في الإرث دون الجزئيات. (4) إن القرآن وضع حدا للزانية والزاني دون ذكر المحصن وغير المحصن. (5) إن القرآن سكت عن الذين لا يفتدون أنفسهم ولا يمنّ السلطان عليهم من الأسرى بدون فداء. (6) إن القرآن لم يذكر نصاب السرقة الذي يقطع به اليد. ولا وضع حدا على شارب الخمر. ولا عقوبة على المرتد وعلى اللواط. (7) إن القرآن لم يبين كيفيات أداء مناسك الحج. وبعض أركان الصيام ونواقض الوضوء وطهارة الثياب إلخ. فكل هذا وأمثاله تمّ بالتشريع النبوي على ما سوف نشرحه في مناسباته.

تعليق على آية وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر

الإلية وقالوا إن ما اختلط بهذا العظم من الشحم هو المستثنى دون الإلية. في الآية الأولى إشارة إلى ما حرّم الله تعالى على اليهود من لحوم كل ذي ظفر ومن شحوم البقر والغنم، وإلى أن هذا التحريم إنما كان قصاصا على ما بدا منهم من بغي وانحراف وفيها توكيد بأن هذا الصدق لا يتحمل ريبا. أما الآية الثانية فقد وجه الخطاب فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم. بإنذار المشركين إذا كذبوه بأن المجرمين لن ينجوا من عذاب الله القاصم على ما اتصف به من الرحمة الواسعة وقد انطوى في هذا أن المجرمين بإجرامهم قد حرموا من رحمة الله. ولم ير المفسرون مناسبة خاصة لنزول الآيتين والمتبادر أنهما استمرار للمناظرة القائمة بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين وفصل من فصولها. وبالرغم مما يبدو لأول وهلة من غرابة بسبب ذكر اليهود فإن إنعام النظر يؤدي إلى لمس الصلة ووحدة الموضوع بين الآيتين والآيات السابقة. تعليق على آية وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ويتبادر أن هناك ثلاثة احتمالات لقيام تلك الصلة: الأول قصد الاستدراك في صدد التحريمات. فالآيات السابقة أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول إنه لم يجد فيما أوحي إليه من المحرمات إلّا الأربعة المذكورة فأتبعت بالآيتين للإشارة إلى ما حرمه الله على اليهود خاصة إضافة إلى الأربعة المذكورة. وهو لحم كل ذي ظفر وشحم الغنم والبقر. وبذلك تبدو الصلة بين الآيتين وسابقاتهما واضحة من حيث إن التحريم الرباني على اليهود هو وحي رباني. والثاني أن المناظرين الذين كانوا يعرفون على الأرجح أن عند اليهود محرمات أخرى احتجوا في سياق المناظرة بتحريم التوراة لحم كل ذي ظفر وشحم الغنم والبقر بقصد إفحام النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يعلن إيمانه بالتوراة وكونها منزلة من الله، وكون القرآن قد جاء مصدقا لما بين يديه من الكتب المنزلة، ثم بقصد تبرير تقاليدهم على اعتبار أنهم ليسوا بدعا في نسبة ما هم عليه من تقاليد التحريم والتحليل إلى الله تعالى، وفي دعوى كون ذلك متوارثا الجزء الرابع من التفسير الحديث 12

بينهم جيلا بعد جيل. وبهذا أيضا تكون الصلة بين الآيتين وسابقاتها قائمة. والاحتمال الثالث هو أن الآيتين استمرار لما سبقهما في صدد بيان ما حرّم الله، فالله قد حرم الأربعة المذكورة في الآية السابقة لهما مباشرة وحرم كذلك على اليهود ما ذكرته الآية الأولى من الآيتين بالإضافة إلى الأربعة، وبذلك تبدو الصلة قوية أيضا. وعلى فرض وجاهة الاحتمال الثاني تكون الآيتان ردا على المشركين حيث احتوت أولاهما تعليلا لما احتجوا به من تحريم محرمات أخرى عند اليهود فقررت أن ذلك إنما كان عقوبة لليهود وليس للسبب الأصيل الجوهري للتحريم وهو الرجس والفسق. وقد يرد أنه لا يوجد في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم ما يفيد أن ذلك كان عقوبة. وهذا لا يمنع أن يكون قد ورد في أسفار وقراطيس مفقودة. والمفروض أن يكون التحريم في أصله في التوراة التي أوحيت إلى موسى وكتبها في سفر خاص وهي مفقودة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأعراف، ولقد أشير إلى كون ذلك عقوبة من الله في آيات أخرى مكية ومدنية مثل آية النحل هذه: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) وآية سورة النساء هذه: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وكانت تتلى على مسمع اليهود. وفي سورة آل عمران آية تحدّت اليهود بالإتيان بالتوراة وتلاوتها حيث كانوا يحاججون في مسائل المحرمات بما لا يتطابق مع التوراة على ما تلهمه الآية وهي: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) والذي نرجحه أن اليهود أدخلوا على هذه المسألة تحريفا في الأسفار المتداولة اليوم لأنها تسجل عليهم قصاصا ربانيا. ولقد صرف بعض المفسرين ضمير الجمع الغائب في كَذَّبُوكَ إلى اليهود ومنهم من صرفه إلى المشركين «1» . ويلحظ أن المناظرة والحديث هما في

_ (1) انظر تفسير الآيات في الخازن والطبري وابن كثير والبغوي.

صدد تقاليد المشركين وبين هؤلاء وبين النبي صلى الله عليه وسلم. والآيات مكية، ولم يرو خبر أي احتكاك ومناظرة بين النبي صلى الله عليه وسلم واليهود في العهد المكي وهذا ما يجعلنا نرجح القول الثاني ونقول إن ذكر اليهود قد جاء في سياق المجادلة والمناظرة بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين. وفي الآيات التالية تأييد لذلك حيث يستمر الكلام عن المشركين. هذا، وفي سفر الأحبار المسمى أيضا باللاويين ثالث أسفار العهد القديم المتداولة اليوم بيان أمر الله موسى وهرون تبليغه إلى بني إسرائيل مما يحل لهم ويحرم عليهم من الحيوانات على اختلافها ومن الشحوم بشيء من التفصيل، بحيث يقال إن الآية الأولى احتوت ما رأت حكمة التنزيل ذكره كافيا من ذلك. وهناك توافق من جهة وتخالف من جهة أخرى في أمر الشحوم. ففي الإصحاح الثالث من السفر المذكور حرم أكل شحم القرابين الذي على المعي والكليتين والخاصرتين وجعله وقيدة للرب. ومع ذلك ففي آخر الإصحاح هذه العبارة (كل شحم هو للرب برسم الدهر على ممر أجيالكم في جميع مساكنكم. كل شحم وكل دم لا تأكلوها) وهذا كذلك في حين أن الآية استثنت الشحوم التي تحملها ظهور البقر والغنم فقط أو حواياهما أو ما اختلط بعظم. ومهما يكن من أمر فالذي نعتقده أن ما جاء في الآية كان واردا في قراطيس يهودية ومتداولا بين اليهود. أما ذوات الظفر فقد ذكر في الإصحاح الحادي عشر من السفر المذكور أن المحرم منها هو ما كان ذا ظفر غير مشقوقة سواء أكان مجترا أم غير مجتر مثل الجمل والوبر والأرنب والنعام التي هي من المجترات وذوات أظفار غير مشقوقة ومثل الخنزير الذي هو غير مجتر ولكنه من ذوات الأظفار غير المشقوقة. وظاهر أنه ليس هناك تخالف بين هذا وبين مدى الآية. ولقد روى الطبري وغيره عن علماء الصدر الأول أن جملة كُلَّ ذِي ظُفُرٍ تعني كل ما لم يكن مشقوق الأصابع أو منفرج الأصابع من الأنعام والطير كالأيل والنعام. وهكذا يتفق المؤولون القدماء في فهم مدى الجملة مع ما كان متداولا عند اليهود وواردا في أسفارهم التي وصلت إلينا.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 148 إلى 150]

وواضح من هذا أن من المحرمات اليهودية ما هو غير محرم في الشريعة الإسلامية كالأيل والأرنب والنعام والدم المتجمد غير المسفوح. وفي سفر الأحبار محرمات أخرى غير محرمة في الشريعة الإسلامية مثل حيوانات الماء من بحار وأنهار التي ليس لها زعانف في حين أن الله قد أحل للمسلمين صيد البحر مطلقا بدون تفريق كما جاء في آية سورة المائدة هذه: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ [96] وفي ما حلّ للمسلمين وحرم على اليهود في شريعتهم مصداق لما قلناه من تخفيف رباني في الشريعة الإسلامية يرشحها للخلود والعموم. وفي كتب التفسير بعض الأحاديث في صدد الشحوم. حيث روى البغوي بطرقه عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله يقول عام الفتح المكي «إن الله ورسوله حرّما بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام قيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستضيء الناس بها فقال لا هو حرام ثم قال قاتل الله اليهود إن الله عزّ وجلّ لما حرّم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه» . حيث يفيد هذا أن شحم الميتة حرام أكلا واستعمالا دون شحم ما يذبح ذبحا. والحديث لم يرد في كتب الصحاح والذي ورد في هذه الكتب مماثل للشطر الثاني منه حيث روى البخاري عن جابر قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم قاتل الله اليهود لما حرم الله عليهم شحومها جملوها ثم باعوها فأكلوا ثمنها» «1» . حيث يفيد هذا أن الشطر الأول لم يثبت عند البخاري وليس في الشطر الثاني تحريم وإنما فيه تحذير المسلمين من الاحتيال على شرائع الله كما فعل اليهود والله تعالى أعلم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 148 الى 150] سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)

_ (1) التاج ج 4 ص 101.

(1) شهداؤكم: تكرر ورود هذه الكلمة وكلمة شهداء أيضا وجاءت في معان متنوعة، منها الشركاء ومنها سدنة الأصنام ورجال الدين عند المشركين. ومنها جمع للشهيد الذي يشهد على ما يقع بين الناس من أفعال ومعاملات. ومنها جمع للشهيد الذي يحصي على الناس أعمالهم من الملائكة ويشهد عليهم ويشهد محاسبتهم يوم القيامة. ومنها جمع للشهيد الذي يموت شهيدا في الجهاد وفي غير الجهاد. والكلمة هنا رجال دين المشركين على ما يفيده فحوى العبارة. (2) وهم بربهم يعدلون: يجعلون لربهم معادلين وأندادا. في الآيات حكاية لما يمكن أن يقوله المشركون أمام الحقائق التي يقررها القرآن والحجج الدامغة التي يفحمهم بها حيث يعمدون إلى المداورة والمماراة فيقولون إن الله لو شاء لما أشركنا نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا شيئا مما جرينا على تحريمه. وردّ على أقوالهم هذه بأن أمثالهم من قبلهم كانوا يعمدون إلى مثل مداورتهم ومماراتهم في مواقف الجحود والمكابرة والتكذيب التي كانوا يقفونها من أنبيائهم فأدّى ذلك إلى وقوع بأس الله وعذابه فيهم. وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بمطالبتهم بإظهار ما عندهم من علم أو برهان على صحة تقاليدهم وصدق نسبتها إلى الله. وبأن يقرر لهم بأنهم لا يتبعون إلا الظن والتخمين. وبأن يعلن أن لله الحجة البالغة وأنه لو شاء لهدى الناس جميعا. وبأن يتحدى المشركين بالإتيان بشهدائهم الذين يشهدون أن الله حرم ما يحرمون. وأمر آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بعدم اتباع أهواء وأوهام المكذبين الذين لا يؤمنون بالآخرة ويجعلون لله شركاء وأندادا معادلين له إذا ما

تعليق على الآية سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون والآيتين التاليتين لها

جاءوا فعلا بشهدائهم وشهدوا بما يؤيد مزاعمهم وبعدم التسليم بصحة شهادتهم وتصديقهم فيها. وواضح أن الآيات متصلة بالآيات السابقة وفصل من فصول المناظرة القائمة بين المشركين والنبي صلى الله عليه وسلم في صدد تقاليد التحريم والتحليل. وبدء الآية الأولى يتضمن أن القول الذي حكي عن المشركين هو ما يتوقع صدوره منهم. وهذا الأسلوب مألوف في المناظرات كما لا يخفى. ولا يبعد أن يكون قد وقع منهم في موقف مماثل فتوقع أن يقولوه في هذا الموقف. وفي آية في سورة النحل سجل صدور ذلك منهم فعلا وهي هذه: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) . والمتبادر أن المشركين قصدوا إفحام النبي صلى الله عليه وسلم بقولهم إنما يفعلون ما يفعلون بمشيئة الله وأنه لو لم يشأ لما فعلوه. فردت عليهم الآيات ردّين أشارت في أولهما إلى وحدة أخلاق وطبيعة الجاحدين المكذبين دائما في نزوعهم إلى المراوغة واللعب بالألفاظ. وأكدت في ثانيهما أن الله لو شاء لهدى الناس جميعا، حيث انطوى فيه تقرير حكمة الله سبحانه التي اقتضت أن يكون للناس حرية الاختيار والسلوك لتكون له عليهم الحجة الدامغة البالغة. تعليق على الآية سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ والآيتين التاليتين لها ولقد كانت هذه الآيات موضوع بحث وجدل في بعض كتب التفسير بين أصحاب المذاهب الكلامية المختلفة منهم، الذين يقول فريق منهم إن الإنسان

خالق أفعاله وإن الله يقدرها عليه من الأزل تقديرا لا حيلة له فيه. والذين يقولون إنه خالق كل شيء ومقدره ومن ذلك أفعال العباد. والآيات في أصلها حكاية لقول المشركين وردّ عليهم وتكذيب لهم. ومع ذلك فنحن نرى فيها على ضوء الشرح الذي شرحناه بها والذي نرجو أن يكون الصواب ردا مستمر التلقين على كل من يريد أن يقرر أن القرآن يؤيد فكرة التحتيم الجبري الأزلي على الناس في تصرفاتهم وأفعالهم. وعلى كل من يحاول التنصل من مسؤولية ما يقترفه من آثام بحجة أن هذا مكتوب عليه وأن الله لو لم يشأ فإنه لا يكون. وفي الآية الأولى نصا وروحا قرينة على أننا على صواب إن شاء الله حيث حكت حجة المشركين التي عمدوا إليها بأسلوب تنديدي وتسفيهي وأنكرتها إنكارا شديدا وأرجعتها إلى الروح الخبيثة التي يصدر عنها المشركون المكابرون المكذبون في كل ظرف ومكان وهي روح التعطيل والمراوغة والجدل والمكابرة. وفي الآية نكتة لاذعة، فالمشركون حاولوا أن يقيموا الحجة على النبي صلى الله عليه وسلم بقولهم لو شاء الله ما أشركنا والقرآن يردّ عليهم ويقول إن الحجة البالغة لله تعالى فهو لو شاء لهداهم ولكنه تركهم لاختيارهم لتكون حجته هي الدامغة وتدحض بذلك حجتهم. فالله لا يمكن أن يشاء لهم الشرك وإنما يدعوهم إلى الإيمان فإذا كانوا اختاروا الشرك وتقاليده فذلك من حثهم وعدم ارعوائهم لدعوة الحق. ومن تحصيل الحاصل أن نقول إن في كل ما تقدم تقبيحا قرآنيا مستمرا لهذه الروح ودعوة للمسلمين إلى النفرة منها. ولقد تكرر هذا في القرآن كثيرا ومرت أمثلة منه في سور سبق تفسيرها. ولا نرى هذا متنافيا مع واجب الإيمان بما قرره القرآن بأساليب متنوعة بأن مشيئة الله هي النافذة في كونه وخلقه وعباده. ولقد قلنا في مناسبة سابقة بأنه جعل الاختيار والكسب للناس لتحميلهم مسؤولية أعمالهم في الأصل من مشيئة الله أيضا وأن الله لا يمكن أن يشاء لعباده الكفر والكذب والتكذيب لآياته ورسله وقد رتب عليهم الجزاء الذي يستحقه ذلك وهذا مما يصح أن يورد في هذا المقام أيضا. والله أعلم.

تعليق على جملة قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا

تعليق على جملة قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا لم نطلع في كتب التفسير التي اطلعنا عليها على بيان لمدى كلمة الشهداء في مقامها. وروح الآية تلهم أنهم أشخاص أحياء يمكن أن يستشهد بهم وأن يشهدوا، وتلهم أن لهم صفة دينية ما تسوغ لهم الشهادة في الأمور والتقاليد الدينية والفصل في مشاكلها ويستشهد بهم فيها. والذي يتبادر لنا أنهم إما أن يكونوا من اليهود في معرض الاستشهاد على ما عندهم. وقد قلنا قبل قليل في سياق تفسير الآيتين السابقتين إن من المحتمل أن يكون المشركون قد احتجوا بهم. ولقد كان في مكة بعض أفراد من الإسرائيليين على ما تفيده آية وردت في سورة الأحقاف وهي هذه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وإما أن يكونوا سدنة الأصنام أو سدنة الكعبة أو أناسا كان لهم صفة أو مركز ديني عند العرب يرجع إليهم في الشؤون والمشاكل الدينية مما هو مألوف في كل ملة ونحلة. ولقد ذكرت الروايات» أنه كان في مكة طبقة خاصة تسمى الأحماس يعترف العرب لها بالامتياز وكانت تسنّ بعض السنن والعادات فيسير الناس عليها. ونحن نميل إلى أن الآية قد عنت هذه الطبقة أكثر مما عنت اليهود. وفي الآية قرينة على هذا الترجيح حيث انطوى فيها توقع شهادة الشهداء بما يؤيد مزاعم المشركين وتقاليدهم والله أعلم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 151 الى 153] قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)

_ (1) انظر تفسير الآيات في كشاف الزمخشري والجزء الخامس من تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي ص 224- 228 وكتابنا عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته قبل البعثة ص 194- 195.

تعليق على آية قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم والآيتين التاليتين لها

(1) مستقيما: النصب في الكلمة على الحال. (2) ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله: ولا تسيروا في طرق متعددة فتضلوا عن سبيل الله لأن طريق الله التي فيها الهدى واحدة. الآيات واضحة العبارة، والمتبادر أنها متصلة بموقف المناظرة والمحاججة الذي حكته الآيات السابقة لها وتعقيب عليها. وأنها موجهة في الدرجة الأولى إلى المشركين الذين هم الطرف الثاني في المناظرة. تعليق على آية قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ والآيتين التاليتين لها ومع ما في توجيه الخطاب في الآيات من خصوصية زمنية وجدلية فإنها في حد ذاتها من جوامع الآيات القرآنية المشتملة على الأوامر والنواهي الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية العامة التي يمكن توجيهها لجميع الناس ولجميع المسلمين في كل زمن ومكان. ولقد تكرر في القرآن هذا النوع من الجوامع، وقد مرّت اثنتان غير هذه، واحدة في سورة الفرقان وأخرى في سورة الإسراء. ويلحظ أن كلا من المجموعات الثلاث جاء بأسلوب خاص. مجموعة الفرقان جاءت وصفا لأخلاق وسيرة عباد الله

المخلصين المؤمنين ومجموعة الإسراء جاءت كوصايا ربانية مباشرة. وهذه المجموعة جاءت كبيان موجه إلى السامعين بما حرم الله وأمر في سياق مناظرة قائمة بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين مما فيه صور من النظم القرآني وتنوعه. وهذه المجموعة أكثر تشابها وتساوقا مع مجموعة الإسراء، وقد علقنا على هذه المجموعة بما فيه الكفاية في سياق تفسير سورة الإسراء، وجل ما قلناه ينسحب على هذه المجموعة فلا نرى حاجة إلى تكراره. غير أن في هذه المجموعة مبدأين لم يردا في تلك. أولهما: النهي عن محاباة ذوي القربى وقول الحق والعدل دون غيرهما. وثانيهما: إيجاب التزام سبيل الله الواضح الواحد الذي لا يتعدد وعدم التفرق مذاهب وشيعا. والمبدأ الأول ينطوي على وجوب التزام المرء الحق والعدل والإنصاف في كل ظرف، وتجاه أي مؤثر داخلي وخارجي. وفي هذا من السموّ والقوة ما هو ظاهر ولا سيما إن عصبية القرابة من الأمور الراسخة في النفوس. أما المبدأ الثاني فهو مزدوج المدى من حيث إن الآيات موجهة في الدرجة الأولى إلى المشركين تعقيبا على المناظرة وينطوي في ذلك تنبيه إلى أن سبيل الله واحدة لا تعدد فيها وواضحة لا عماء فيها وأن على المشركين الذين يعترفون بالله ويتحججون بمشيئته في ما هم عليه من تقاليد أن يلتزموا هذه السبيل ويدعوا المراوغة والأهواء التي تبعدهم عنها إذا كانوا حقا راغبين في الهدى ودين الله. ومن حيث شمول الخطاب للمسلمين في كل زمان ومكان. والمتبادر أنه ينطوي في هذا بالنسبة للمسلمين تقرير كون سبيل الله واحدة وواضحة فيما يقرره القرآن والرسول من المبادئ المحكمة وإيجاب التزام ذلك وعدم الحيدان عنه، لأن في هذا الضلال عن سبيل الله. وخواتم الآيات الثلاث جديرة بالتنويه من حيث انطواؤها على التنبيه إلى أن هذه الآيات المتضمنة لوصايا الله وبيان ما حرمه إنما تتلى على الناس ليتدبروها ويعقلوها ويتفكروا بواجباتهم فيما يفعلون وليراقبوا الله ويتقوه في أعمالهم. ولقد

أورد ابن كثير في سياق هذه السلسلة أحاديث عديدة منها ما أورده في صدد المجموعة جملة ومنها ما أورده في صدد مفرداتها. فما أورده في صدد المجموعة جملة حديث رواه الحاكم في مسنده عن عبادة بن الصامت قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيكم يبايعني على ثلاث. ثم تلا الآيات ثم قال فمن وفى فأجره على الله ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله به في الدنيا كانت عقوبته. ومن أخّر إلى الآخرة فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه» ، حيث ينطوي في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر هذه المجموعة جامعة لأمهات الأمور. ومن ذلك حديث أخرجه الأودي عن ابن مسعود قال: «من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله التي عليها خاتمه فليقرأ هذه الآيات» . وحديث رواه الحاكم عن ابن عباس قال: «في الأنعام آيات هن أم الكتاب، وقرأ هذه الآيات» . ولقد أوردنا بعض ما أورده في المفردات في سياق سلسلة الإسراء ونورد هنا بعض ما لم نورده. فمن ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي ذر الغفاري قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني جبريل فبشّرني أنه من مات من أمتك ولم يشرك بالله شيئا دخل الجنة» قلت: «الكلام لأبي ذر» وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق وكرّر السؤال فكرّر النبيّ الجواب وفي الرابعة قال على رغم أنف أبي ذرّ» «1» . ومن ذلك حديث رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أحد أغير من الله. من أجل ذلك حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن» . ومن ذلك حديث أخرجه الترمذي عن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحاب الكيل والميزان إنكم ولّيتم أمرا هلكت فيه الأمم السابقة قبلكم» . ومن

_ (1) التاج ج 1 ص 26، ولقد أورد مؤلف التاج بعد هذا الحديث حديثا آخر رواه الشيخان والترمذي أيضا عن أنس (ص 27) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من إيمان» حيث يمكن أن يقال إن الله تعالى إذا لم يغفر للزاني والسارق اللذين يموتان ولا يشركان به شيئا فإنه يعذبهما ما شاء ثم يخرجهما من النار ويدخلهما الجنة. وبعبارة أخرى يكون في هذا الحديث توضيح لمدى الحديث الأول والله أعلم.

تعليق على جملة لا نكلف نفسا إلا وسعها

ذلك حديث رواه الإمام أحمد عن ابن مسعود قال: «خطّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده ثم قال هذا سبيل الله مستقيما، وخطّ عن يمينه وعن شماله ثم قال هذه السبل ليس منها سبيل إلّا عليه شيطان يدعو إليه ثم قرأ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [153] . هذا ويلفت النظر إلى قيد قتل الأولاد خشية الإملاق حيث يجعل هذا القيد الفرق واضحا بين هذا العمل وقتل الأولاد المذكور في الآية [137] من هذه السورة من حيث إن ما ذكر في الآية [137] كان تقليدا دينيا على ما شرحناه في مناسبتها في حين أن ما ذكر في الآية [151] التي نحن في صددها عمل ناتج عن أسباب اقتصادية. هذا، والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أن الآيات الثلاث مدينة ولم نر ما يؤيد ذلك في كتب أخرى. ويلحظ أن الانسجام قوي بينها وبين الآيات السابقة لها حتى لتكاد تكون جزءا غير قابل للانفصال عن المناظرة القائمة في صدد التحليل والتحريم. وأسلوبها أكثر انطباقا على أسلوب الآيات المكية من حيث هو أسلوب حثّ وتشويق ووصية. وأكثر من واحد من المفسرين «1» قالوا إن الآيات موجهة في الدرجة الأولى إلى المشركين ولهذا فإننا نتوقف في هذه الرواية. ولعل الحديث الذي رواه الحاكم عن عبادة بن الصامت وأوردناه قبل قليل أوهم بعض الرواة أنها نزلت في المدينة ولم ينتبه إلى الصلة الشديدة بينها وبين الآيات السابقة. والله أعلم. تعليق على جملة لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ومما يحسن لفت النظر إليه بخاصة تعبير لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها في صدد توفية الوزن والكيل حيث يكون من المألوف شيء من النقص والزيادة فيهما

_ (1) انظر تفسيرها في الخازن والبغوي وابن كثير.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 154 إلى 157]

لا يمكن تجنّبه. والتعبير يلهم تقرير كون المرء إنما يؤاخذ إذا تعمد الغش. أما إذا انتفت نية ذلك فلا محل للتشدد إلى درجة الوسواس. ويكفي المرء أن يبذل جهده. ولقد أورد ابن كثير حديثا أخرجه ابن مردويه عن سعيد بن المسيب قال: «قال رسول الله من أوفى على يده في الكيل والميزان والله يعلم صحة نيته بالوفاء فيهما لم يؤاخذ» . والحديث لم يرد في الصحاح ولكنه متساوق مع روح الآية والمبدأ بإطلاقه أي لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها البقرة: [286] من المبادئ القرآنية المحكمة وقد ورد مثل هذا التعبير في الآية [42] من سورة الأعراف وعلقنا عليه بما فيه الكفاية. [سورة الأنعام (6) : الآيات 154 الى 157] ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157) . (1) أن تقولوا: لئلا تقولوا. (2) عن دراستهم: عن كتبهم أو لغتهم. (3) صدف: أعرض أو انحرف أو انصرف. في الآيات أولا: تقرير رباني بأن الله تعالى قد آتى موسى الكتاب تماما على الذي أحسن ومفصلا لكل ما يحتاج إليه قومه ليكون لهم فيه الهدى والرحمة فيؤمنوا بالله ولقائه وإشارة تنويهية إلى القرآن وتقرير كونه مباركا ودعوة العرب إلى اتباعه وتقوى الله في أعمالهم لعلهم يكونون بذلك مظهر رحمة الله أيضا.

تعليق على الآية ثم آتينا موسى الكتاب والآيات الثلاث التالية لها

ثانيا: تنبيه إلى أن الله قد أراد بإنزال القرآن دفع كل حجة يمكن أن يحتج بها العرب فلا يقولوا إن الكتب السماوية إنما نزلت على طائفتين بلسانهما وهم غافلون عن هذه الكتب ولغتها ودراستها، ولئلا يقولوا كذلك إننا لو أنزل إلينا كتاب من الله بلساننا كما أنزل إليهم لكنا أهدى منهم. ثالثا: رد على الحجج التي فرض أن العرب يتحججون بها بأنه قد جاءهم القرآن بلسانهم وفيه بينة من ربهم وهدى ورحمة. وقد زالت أسباب الاحتجاج بالغفلة عن الكتب السابقة وعدم دراستها ومعرفة لسانها. وأنه ليس بعد هذا من أحد أشد جرما وإثما ممن كذب بآيات الله وانصرف عنها، وأن كل من يفعل ذلك سيناله من الله شديد العذاب. وضمائر الجمع المخاطب في الآيات الثانية والثالثة والرابعة وإن كانت مطلقة فإنها عائدة على ما هو المتبادر إلى المشركين في الدرجة الأولى الذين وجه إليهم الكلام السابق. والآيات والحالة هذه متصلة بموقف المناظرة واستمرار له أو فصل من فصوله. تعليق على الآية ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ والآيات الثلاث التالية لها ولقد تعددت أقوال المفسرين «1» في محل ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فقيل إنها معطوفة على جملة قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ وقيل إنها معطوفة على جملة ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وقيل إن هناك محذوفا مقدرا وهو (ثم اتل عليهم أو ثم أخبرهم) والإشارة إلى القرآن بعد كتاب موسى مما تكرر في أكثر من سورة ومن ذلك ما جاء في آيات سورة الأنعام [90- 91] وما جاء في آية سورة هود [17] التي سبق تفسيرها.

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن والزمخشري. [.....]

ولقد قيلت أقوال عديدة كذلك «1» في تأويل جملة تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ فمنها أنها بمعنى (تام على أحسن الوجوه) ومنها أنها بمعنى (تماما على الذي أحسنه موسى من العلم والشرائع) ومنها أنها بمعنى (إتماما لجزائنا له على ما أحسنه من عمل وطاعة) ومنها أنها بمعنى (إتماما لما أحسن الله إلى موسى من نبوة وتكريم وتكليم) والمعنى الأخير هو الأوجه على ما يتبادر لنا. وقد تبادر لنا معنى آخر وهو (إتماما لإحسانه الذي أحسنه على بني إسرائيل بالنجاة من فرعون وقومه) . ولعل ضمير الجمع الغائب العائد إلى بني إسرائيل في الآية مما يوجه هذا المعنى. ولقد قلنا في سياق شرح الآية أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أنها لإزالة سبب احتجاج العرب بأن لغة الكتب المنزلة بغير لغتهم. وهذا مستلهم من آية سورة الأحقاف هذه: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) وآية سورة فصلت هذه: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) ومن آيات سورة الشعراء [192- 199] التي مرّ تفسيرها. وفي الآية [157] ينطوي على ما هو المتبادر صورة لموقف العرب من أهل الكتب السماوية وكتبهم. وهو أنهم كانوا ينقدون أهل الكتاب على ما هم فيه من خلاف ونزاع وقتال ويقولون لو جاءنا كتاب لكنا أهدى منهم. والآية إن حكت هذا عنهم كشيء متوقع فإن آية سورة فاطر [42] التي مرّ تفسيرها قد حكته عنهم كشيء واقع حيث حكت أنهم كانوا يحلفون بالله لو جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن والزمخشري.

تعليق على موضوع ترجمة الكتب السماوية السابقة

الأمم مع فرق هو أن آية فاطر حكت تمنيهم مجيء نذير وهذه الآية توقعت تمنيهم نزول كتاب. ونظن أننا في غنى عن التنبيه إلى أن الآية [156] ليس من شأنها نقض ما قررناه مرارا من أن العرب قد عرفوا كثيرا من المعارف الدينية وغير الدينية من طريق أهل الكتاب وأن كثيرا مما عرفوه وارد في أسفار العهد القديم والجديد. فالمحكي المفروض هو عدم اطلاعهم ودراستهم وفهمهم هذه الأسفار مباشرة على اعتبار أن الهداية لا تتم إلّا بذلك. تعليق على موضوع ترجمة الكتب السماوية السابقة وقد تفيد الآية [156] أنه لم يكن للكتب التي كانت في أيدي أهل الكتاب في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم ترجمة عربية. وهناك حديث رواه البخاري عن أبي هريرة جاء فيه: «كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم» حيث يفيد الحديث نفس الشيء. ومن الأمور اليقينية أنه كان كتل كبيرة عربية في بلاد الشام وجزيرة الفرات والعراق العربي في عهد دولتي الغساسنة والمناذرة يدينون بالنصرانية. والمستبعد أن لا يكون في أيديهم ترجمة لما كان يتداوله أهل النصرانية من كتب دينية من جملتها التوراة وأسفار العهد القديم التي كان فيها الشرائع التي يلتزمون بها لأن رسالة عيسى عليه السلام لم تنسخ من الشرائع الموسوية إلّا القليل كما يفيد ذلك آية سورة المائدة هذه: وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وآية سورة آل عمران هذه حكاية عن لسان عيسى: وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [50] وهو الأمر

المستمر إلى اليوم حيث يعتبر النصارى أسفار العهد القديم كتابا مقدسا لهم. وإزاء ذلك يمكن القول إن ما ينطوي في الآية [156] وحديث البخاري كان لتسجيل الواقع في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم ومهبط وحيه الذي كان معظم النصارى فيه (وهم قلائل) ومعظم اليهود وهم كتلة كبيرة غير عرب. وفي الحديث الذي رواه الشيخان عن عائشة في صدد بدء نزول الوحي لأول مرة على النبي صلى الله عليه وسلم خبر عن ورقة بن نوفل يذكر أن ورقة كان قد تنصّر وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب ما يفيد أن بعض الذين تنصروا أو تهودوا من العرب في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وهم أفراد تعلموا لغة الكتب الدينية التي يدينون بها. ولقد استمر هذا إلى ما بعد النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعوهم يسألون علماء اليهود الذين أسلموا عن بعض الأمور فيجيبونهم بإجابات يعزونها إلى التوراة فيتقبلون ذلك منهم. وكان من هذه الإجابات ما لا يمكن أن يكون في التوراة. من ذلك مثلا إن أبا هريرة اختلف مع رفيق له على الساعة التي يستجيب الله فيها دعاء سائليه يوم الجمعة على ما إذا كانت في السنة أو في كل جمعة فسألا كعب الأحبار فقال إنها مرة في السنة فأصرّ أبو هريرة أنها مرة في كل جمعة فرجع كعب إلى التوراة ثم عاد فقال إنها كما قال أبو هريرة «1» . حيث يفيد هذا المثل أنه لو صار في أيدي أصحاب رسول الله بعد النبي ترجمة للتوراة لما جرأ كعب على أن يعزو إلى التوراة ما لا يمكن أن يكون فيها. ومن الجدير بالذكر أن النتف التي يذكرها الطبري عزوا إلى التوراة والإنجيل وكتاب تفسيره من أقدم وأطول ما وصل إلينا من كتب التفسير تدل على أنه لم يكن مطلعا على ترجمة لهما لأن فيهما مفارقة وأخطاء كثيرة. وقد تدل بالتالي على أن الترجمة التي رجحنا أنها كانت في أيدي نصارى العرب قبل الإسلام في الشام والعراق وجزيرة الفرات والتي من المحتمل جدا أنها ظلت في أيدي من بقي على

_ (1) انظر هذه الرواية في تفسير سورة الجمعة في تفسير البغوي. الجزء الرابع من التفسير الحديث 13

[سورة الأنعام (6) : الآيات 158 إلى 160]

نصرانيته منهم بعد الفتح الإسلامي إلى بضع عشرات السنين لم تكن منتشرة أو لم تكن تامة. ولقد تبدل الحال بعد ذلك. ففي تفسير البغوي والطبرسي والخازن وابن كثير مثلا وهم من أهل القرون الخامس والسادس والسابع ما يمكن أن يفيد أنهم كانوا مطلعين على ترجمة عربية لأسفار العهد القديم والعهد الجديد أو لبعضها وبخاصة لبعض الأناجيل المتداولة. والله تعالى أعلم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 158 الى 160] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160) (1) ينظرون: ينتظرون. (2) لست منهم في شيء: لست مسؤولا عن عملهم أو أنت بريء منهم. (3) لا يظلمون: لا يكون عليهم حيف وجور إلّا حسب استحقاقهم. في الآيات سؤال استنكاري عما ينتظره الكفار المشركون بعد ما جاءتهم بينة الله وكتابه وهداه وتفصيل طريقه القويم، وهل ينتظرون أن تأتيهم الملائكة أو يأتيهم الله أو تأتيهم بعض آيات الله حتى يؤمنوا؟ وتقرير بأن بعض آيات الله سوف تأتيهم ولكن الفرصة تكون حينئذ قد ضاعت منهم، ولم يعد الإيمان ينفع الذين لم يكونوا قد آمنوا وعملوا الصالحات والخيرات قبلها. وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم على سبيل الإنذار والإمهال انتظروا ذلك فنحن أيضا منتظرون. وخطاب له بأنه ليس مسؤولا عن الذين اتبعوا الأهواء في الدين وتفرقوا فيه شيعا، وأنه بريء منهم وأن أمرهم في يد الله ومرجعهم إليه حيث ينبئهم بما فعلوا ويجزيهم عليه بما استحقوا، ومن فعل الحسنة جوزي بعشر أمثالها ومن اقترف السيئة جوزي بمثلها دون ظلم ولا إجحاف.

تعليق على الآية يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون

والآيات متصلة بالسياق واستمرار له وتعقيب عليه كما هو المتبادر. تعليق على الآية يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ولقد قال المفسرون إن هذه الآية تعني ما يسمى بعلامات الساعة التي تسبق ختام الدنيا كما تضمنت أن باب التوبة والإيمان ينسد حينئذ فلا ينفع نفسا إيمانها وتوبتها. وأوردوا في صدد ذلك أحاديث عديدة منها ما ورد في الكتب الخمسة ومنها ما لم يرد وكثير مما لم يرد في الكتب الخمسة مقارب لما ورد في هذه الكتب. فرأينا أن نكتفي بطائفة مما ورد في هذه الكتب لأنها الأوثق. فمن ذلك حديث رواه البخاري عن أبي هريرة في تفسير الآية قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها» «1» . وحديث رواه الترمذي بسند حسن عن أبي هريرة قال: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاث إذا خرجن لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل: الدجّال والدابة وطلوع الشمس من المغرب أو من مغربها» «2» . وحديث رواه مسلم وأبو داود عن عبد الله بن عمرو قال: «حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لم أنسه بعد، سمعته يقول إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى. وأيّهما ما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريبا» «3» . وحديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن حذيفة الغفاري قال: «اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال ما تذكرون؟ قالوا: نذكر الساعة، قال إنها لن تقوم حتى

_ (1) التاج ج 4 ص 102. (2) المصدر نفسه. (3) التاج ج 5 ص 304- 307. وفي التاج أحاديث أخرى من هذا الباب فاكتفينا بما تقدم.

تروا قبلها عشر آيات. فذكر الدخان والدّجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى ابن مريم ويأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف. خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم» «1» . وحديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله قال: «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبىء اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهوديّ خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود» «2» . وتعليقا على ما تقدم نقول أولا: إنه يلحظ أن الآية التي نحن في صددها جزء من التعقيب الذي احتوته الآيات التي قبلها وتضمنت إنذار الكفار السامعين والتنديد بهم. وإن الأولى أن تصرف في مقامها إليهم وبكلمة أخرى إلى أمر قريب متصل بظرفهم وأشخاصهم. لأن هذا هو الذي يكون له التأثير والمعنى في إنذارهم وحملهم على الارعواء. في حين أن قيام الساعة كما جاء في الأحاديث بعيد جدا عنهم. وليس في الأحاديث إلى هذا صراحة بأن الآية قصدت ذلك وكل ما فيها هو تطبيق ما فيها على ما سوف يكون عند قيام الساعة. ولعل فيها إنذارا للكفار السامعين بغمرات الموت أو بوقوع عذاب من الله عليهم بغتة- وهذا يندرج في معنى بعض آيات ربك- فيحول ذلك بينهم وبين تلافي أمرهم. ودعوة لهم إلى اغتنام فرصة العافية وسعة الوقت قبل فواته. قد تكرر هذا المعنى في آيات عديدة مرت أمثلة منها. ومع خصوصية هذا التوجيه الزمني فإن الآية في حد ذاتها عامة الشمول في إنذارها وتحذيرها بطبيعة الحال. وثانيا: ما دام أن هناك أحاديث عديدة وردت في الكتب المعتبرة بطرق

_ (1) التاج ج 5 ص 304- 307. وفي التاج أحاديث أخرى من هذا الباب فاكتفينا بما تقدم. (2) المصدر نفسه.

تعليق على الآية إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء

متعددة وعن أشخاص متعددين عن علامات الساعة بالإضافة إلى ما في القرآن من إشارات عديدة في هذا الصدد منها آيات سورة الأنبياء هذه: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97) فالواجب على المسلم أن يؤمن بما احتوته من أخبار مغيبة أسوة بكل ما ورد في القرآن وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من مثل هذه الأخبار مع الاستشفاف للحكمة المنطوية في الإخبار بذلك بالأسلوب الذي جاء به. ويستلهم من فحوى الأحاديث أن من هذه الحكمة تنبيه الناس وتحذيرهم وحملهم على الارعواء والاستعداد حتى لا يباغتوا ويضيعوا فرصة الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر والعمل الصالح. والله أعلم. هذا، وفي الأحاديث ذكر لخروج يأجوج ومأجوج ونزول عيسى وظهور الدجال والدابة. ولقد علقنا على موضوع الدابة وأوردنا بعض ما ورد في صددها في سياق سورة النمل، وسنلمّ في مناسبات قريبة أكثر ملاءمة بالأمور الأخرى إن شاء الله. تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ وفي كتب التفسير أحاديث نبوية وروايات عن أهل التأويل في سياق هذه الآية ومداها. وقد استوعب الطبري أكثرها، من ذلك أن عليا رضي الله عنه كان يقرأ فَرَّقُوا فارقوا وكأنه كان يذهب إلى أنها عنت من فارق دينه أو ارتد عنه- وهذا كلام الطبري- ومن ذلك أن جملة إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً عنت اليهود والنصارى. ومن ذلك أنها عنت الخوارج أو أهل البدع والأهواء والضلالة عامة. وقد أورد الطبري حديثا عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أهل البدع وأهل الشبهات وأهل الضلالة من هذه الأمة» . وهناك صيغ أخرى في الطبري والبغوي لهذا الحديث مروية عن عائشة أيضا. وروى الطبري في صدد جملة

لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ قولين: واحد بأنها عنت اليهود والنصارى وأنها نسخت بآيات القتال: وواحد بأنها عنت الذين فرقوا دينهم من أمة محمد وأنها محكمة لأن النسخ إنما يكون لأجل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتعديل موقفه. وحكم الآية هو بالنسبة لمن يكون بعده من أمته. ويكون مداها إعلانا مسبقا لبراءة النبي صلى الله عليه وسلم من أهل البدع والأهواء والضلالة والشبهات من أمته. والأحاديث التي تفسر الآية لم ترد في الكتب الخمسة وإن كان في هذه الكتب أحاديث في التنديد بأهل البدع بدون عطف على الآية على ما سوف نورده بعده. وروح الآية ومقامها وفحواها يلهم بقوة أنها جاءت مثل سابقتها معقبة على الموقف الحجاجي والجدي الذي وقفه المشركون في التحريم والتحليل ومزاعمهم الكاذبة بدون علم بأن ذلك من دين الله وأنها هي الأخرى بسبيل التنديد بمواقفهم ومزاعمهم وتقاليدهم. وفي الآية السابقة لها قرينة على ذلك لأنها تعني المشركين الذين سبق الكلام عنهم كما هو واضح بكل قوة. ومما يؤيد هذا آيات في سورة الروم آية فيها صراحة وهي: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) . ويمكن أن يقال والحالة هذه أن ذكر تفرقة اليهود والنصارى شيعا وفرقا وذكر أهل الأهواء والبدع والضلالة والخوارج في معرض هذه الآية هو من قبيل التطبيق. ولقد ذكر اختلاف أهل الكتاب وتفرقهم في القرآن كثيرا مما مرّ منه أمثلة. ولقد ندد في القرآن بأهل البدع والأهواء أيضا. ولقد حذر المسلمون في القرآن من ذلك فكان هذا وذاك وسيلة إلى هذا التطبيق. هذا من ناحية تفسير وشرح الآية في مقام ورودها وظرفها، غير أن إطلاق عبارتها يجعلها هي الأخرى كما هو المتبادر عامة الشمول مستمرة التلقين في إنذارها وتنديدها بكل من يشذ عن طريق الدين الواضح والذي لا يتحمل فرقة ولا

انقساما على ما قررته الآية [153] التي سبقت هذه الآية، ويسير في سبيل الشقاق والفرقة والخلاف بدافع من الهوى والمآرب الخاصة. ثم في إعلانها المسبق ببراءة النبي صلى الله عليه وسلم ممن يفعلون ذلك من أمته. ولقد أورد الطبري والبغوي وابن كثير في سياق هذه الآية أحاديث نبوية عديدة بالتنديد بالتفرق والاختلاف والبدع والضلالات. منها ما ورد في الكتب الخمسة ومنها ما لم يرد وإن كان مقاربا لما ورد في هذه الكتب فنكتفي بإيراد بعض ما ورد في هذه الكتب. فمن ذلك حديث رواه الترمذي عن العرباض بن سارية قال: «وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال رجل إن هذه موعظة مودّع، فماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبد حبشيّ، فإنه من يعش منكم ير اختلافا كثيرا. وإياكم ومحدثات الأمور فإنّها ضلالة فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين عضّوا عليها بالنواجذ» «1» . وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة وتفرّقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة وتفرّقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة زاد في رواية ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة» «2» . وحديث رواه الشيخان والنسائي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدى هدى محمّد. وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار» «3» . وفي الأحاديث تنبيه وتحذير نبويان يؤيدان ما في عبارة الآية المطلقة من تلقين مستمر المدى للمسلمين في كل زمن ومكان.

_ (1) التاج ج 1 ص 39 و 40. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه ص 37 وهناك أحاديث أخرى في التاج من هذا الباب فاكتفينا بما تقدم.

ويحسن أن ننبه على أمر هام في هذا الصدد، فالذي يتبادر من روح الآيات والأحاديث أن البدعة والأمور المحدثة المندد بها والمنهي عنها هي ما كان مخالفا للتشريعات والأحكام والنصوص الصريحة في كتاب الله والتأثر في سنة رسوله القولية والفعلية. وكذلك لما في كتاب الله وسنته ورسوله من تنبيهات وتعليمات وتلقينات وخطوط ومبادئ عامة. ومعلوم أن أئمة المذاهب المشهورة الذين تواترت الروايات عن حرصهم على اتباع كتاب الله وسنة رسوله ولم يكونوا من أهل البدع والأهواء ومن سار على دربهم من العلماء والمجتهدين يختلفون في أمور كثيرة في المعاملات والعبادات والاستنباطات والأحكام نتيجة لاختلاف التأويلات وتعدد الأحاديث وقوتها ومراتبها. فالمتبادر أنهم لا يدخلون في شمول هذه الآية والآية [153] حيث يكونون قد اجتهدوا وتحروا الحق والحقيقة فيما جاء في كتاب الله وسنة رسوله. أما أصحاب الأهواء المشهورة الذين يعمدون إلى الأخذ بما يرونه متساوقا مع أهوائهم من أحاديث وتأويلات ولو لم تكن صحيحة فإنهم يدخلون في شمول الآيتين وهم من الذين عنتهم الأحاديث فيما هو المتبادر، والله أعلم. وهناك شؤون دنيوية متنوعة ليس فيها شيء في كتاب الله وسنة رسوله. والمتبادر أن ما لم يكن مناقضا للخطوط والتلقينات والمبادئ القرآنية والنبوية العامة، ولما هو متعارف عليه أو متفق عليه بين جمهور المسلمين بأنه من مصلحة المسلمين العامة وأمنهم وأعرافهم من اجتهادات وقرارات وخطوات وعزائم ومشاريع فيها تنظيم وتقويم وتحسين لمختلف الشؤون السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعمرانية والسلوكية يباشرها ويقوم عليها المسلمون أفرادا وجماعات أو حكومات. فالمتبادر أن ذلك لا يدخل في نطاق المنهي عنه المنذر به ولو يكن منه شيء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين. ولو اختلف فيه المسلمون في قطر دون قطر ودولة دون دولة وظرف بعد ظرف ما دام أنه لا يناقض ولا يخالف الخطوط العامة القرآنية والنبوية.

تعليق على الآية من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها

وهناك حديث رواه مسلم والترمذي عن جرير بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم يمكن أن يورد لتدعيم هذا القول قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم من سنّ في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء» «1» . حيث يفيد الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يغب عنه احتمال تطور حياة المسلمين وإحداثهم أمورا لم تكن في عهده ولم يأمر ولم ينه عنها وإنه لم ير بأسا أن يستن المسلمون سننا حسنة فيها صالحهم الخاص والعام لأفرادهم وجماعاتهم وحكوماتهم وعلى مختلف الوجوه وليس فيها مخالفة للكتاب والسنة بوجه ما بل حبذها وشجع عليها وقرر الأجر الدائم لمستنّها. وإن البدع التي عنادها وندد بها في الأحاديث السابقة هي ما كانت سننا سيئة محدثة مخالفة للكتاب والسنة بوجه ما وفيها ضرر وضلالة في الدين والدنيا، والله تعالى أعلم. تعليق على الآية مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها جاءت هذه الآية معقبة على ما سبقها من إنذار وتنديد. وجاءت في الوقت نفسه مطلقة العبارة ليكون فيها حثّ وتشجيع دائمان على الأعمال الحسنة ونهي وتحذير دائمان من الأعمال السيئة، مع تمثل رحمة الله وإحسانه وعدله في زيادة أجر المحسنين وعدم زيادة وزر المسيئين. ولقد احتوت سورة القصص التي سبق تفسيرها آية مماثلة مع فرق هو أن آية القصص ذكرت بالنسبة لعامل الحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها (القصص/ 84) وهذه ذكرت فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها حيث ينطوي في هذا تنوع في أسلوب الحث والتحذير اقتضته حكمة التنزيل وصورة من صوره. وفي سور أخرى صور أخرى من ذلك

_ (1) التاج ج 1 ص 66.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 161 إلى 165]

حيث جاء مثلا في سورة النساء: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) وآية البقرة هذه: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ [260] . ولقد أورد ابن كثير حديثا عزاه إلى الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي لم نجده في مجموعة الكتب الخمسة عن أبي ذر الغفاري على هامش الآية قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صام ثلاثة أيام من كل شهر فقد صام الدهر كله فأنزل الله تصديق ذلك في كتابه من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها» . والحديث يقتضي أن تكون الآية مدينة لأن الصيام فرض في المدينة وليس هناك ما يؤيد ذلك. ولعل ذلك كان من قبيل التطبيق فالتبس على الرواة. وهناك أحاديث أخرى يوردها المفسرون على هامش الآية أيضا متقاربة في المدى لم ترد في الكتب الخمسة نكتفي بواحد منها أورده ابن كثير بإخراج الحافظ أبو يعلى عن أنس بن مالك قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ومن همّ بسيئة فلم يعملها لم يكتب عليه شيء فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة» . وفي رواية «ومن همّ بسيئة لم تكتب عليه حتى يعملها فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة فإن تركها كتبت له حسنة يقول الله إنما تركها من مخافتي» . وفي الأحاديث تساوق مع الهدف القرآني في الترغيب والحثّ على الأعمال الحسنة والتحذير من الأعمال السيئة كما هو ظاهر، والله أعلم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 161 الى 165] قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)

(1) قيما: قرئت بكسر القاف وفتح الياء المخففة وقرئت بفتح القاف وكسر الياء المشددة والمعنى مقارب وهو المستقيم والثابت. (2) الملة: هي الطريقة الدينية، أو الشريعة الدينية، وقالوا في أصل الكلمة إنها من الإملاء كأن ما يأتي به الشرع ويورده الرسول يملى على أمته فيكون لهم ملة متبعة «1» . (3) نسكي: عبادتي. وتأتي النسك كناية عن القربان الذي يتقرب به الإنسان إلى الله. (4) ولا تزر وازرة وزر أخرى: لا تحمل نفس حمل نفس أخرى. (5) ليبلوكم: ليختبركم. في الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلن أن الله قد هداه إلى طريق قويم وهو الدين المستقيم طريق إبراهيم وملته الذي كان موحّدا حنيفا ولم يكن مشركا. وبأن يعلن أيضا أن صلاته وخشوعه وعبادته ونسكه ومحياه ومماته وكل أمر من أموره هو لله رب العالمين لا شريك له، وأنه أمر بذلك وهو أول المسلمين أنفسهم لله. وبأن يتساءل تساؤل المنكر عما إذا كان يصح أن يتخذ غير الله ربّا له وهو ربّ كل شيء. وبأن يعلن أن كل امرئ إنما هو مسؤول عما يقترف ويكسب. ولا يحمل أحد تبعة أحد وإثمه، ومرجع الجميع إلى الله الذي يفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه ويحاسبهم عليه من حيث إنه هو الذي خلقهم وجعلهم خلائف في الأرض ورفع بعضهم فوق بعض ليختبرهم فيما يسّره لهم ومكّنهم فيه، كلا بحسبه ومن حيث هو سريع العقاب على الذين يستحقون عقابه، غفور رحيم للتائبين المؤمنين.

_ (1) انظر تفسير الآيات في مجمع البيان للطبرسي.

تعليق على آية قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا إلخ والآية التالية لها

ولم نطلع في كتب التفسير على رواية خاصة بنزول الآيات. والمتبادر أنها استمرار للسياق ومتصلة به. وقد جاءت خاتمة قوية لفصول المناظرة القائمة بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين، وخاتمة قوية للسورة في ذات الوقت. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيها بإعلان خصومه أن الطريق قد وضح والحجة قد قامت وأنه على ملة إبراهيم المستقيمة التوحيدية وأول من يسلم نفسه لله وأن من يضيع الفرصة الآن فقد لا تواتيه في المستقبل ولن تنفعه إذا ما حل فيه أمر الله ولا يستطيع أحد أن يحمل إثمه ووزره. تعليق على آية قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً إلخ والآية التالية لها وهذه هي المرة الأولى التي ذكر فيها أن الملّة التي هدى الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم إليها هي ملة إبراهيم. وقد ذكرت في آيات سابقة ملّة إبراهيم بوصفه حنيفا غير مشرك في سياق الحديث عن إبراهيم نفسه ثم تكرر هذا وذاك في آيات أخرى مكية ومدنية. ولقد ذكرت الروايات «1» أن فريقا من العرب كانوا يتحدثون عن ملّة إبراهيم قبل البعثة ويصفونها بالحنيفية ويتعبّدون عليها منهم زيد بن عمرو بن نفيل والد سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة وأبو عامر الأوسي المشهور بالراهب ثم بالفاسق ومهما يكن من أمر الروايات فإن تكرر ذكر ملّة إبراهيم في آيات مكية وإعلان كون الله قد هدى النبي صلى الله عليه وسلم إليها في هذه الآية يمكن أن يسوّغا القول بجزم إن ملّة إبراهيم كانت تتردد على ألسنة العرب فجاءت هذه الآية وأمثالها لتقرر بصورة حاسمة أنها هي التوحيد المنافي للشرك ولترد على مزاعم المشركين الذين كانوا يزعمون أنهم على ملّة إبراهيم، ويمارسون تقاليدهم باسمها في حين أنهم

_ (1) انظر كتابنا عصر النبي عليه السلام وبيئته قبل البعثة ص 419- 434، الطبعة الأولى و 696- 720 الطبعة الثانية. وانظر أسد الغابة ج 2 ص 178.

تعليق على جملة ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم

مشركون وأن تقاليدهم مشوبة بشوائب الشرك، ولتعلن أن هذه الملة هي التي هدى الله نبيه إليها، ولتهتف بمن يريد أن يتبعها حقا أن يتبع النبي صلى الله عليه وسلم ويستجيب إلى دعوته، ولتأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان إسلامه إلى الله ربّ العالمين وحده بهذه الصيغة القوية النافذة. تعليق على جملة وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ هذا، وقد توهم جملة وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ أنها بسبيل إقرار تفاضل الناس الطبقي. والذي يتبادر لنا أنها بسبيل تقرير واقع أمرهم في الدنيا وكونه ناموسا اجتماعيا عاما نشأ من طبيعة الاجتماع التي أودعها الله بني آدم ونتيجة لتفاوتهم في المواهب والنشاط والكسب وليست إقرارا للتفاضل بين الناس بدليل أن ذلك ليس مستقرا وإنما هو متقلب متداول بين جميع الناس حسب تقلب وتبدل الظروف والمواهب والأسباب. ثم بسبيل تنبيههم إلى أنهم معرّضون في تفاوتهم إلى اختبار الله تعالى وواجبهم نحوه ونحو الناس، فمن آمن وأصلح واتقى وعرف حده وأدى واجبه له الرحمة والغفران، ومن كفر وأفسد وبغى فله العقاب الشديد. وفي هذا ما فيه من عظة وتلقين جليل مستمر المدى وهذا هو المتسق مع آيات القرآن الأخرى ومبادئه العامة التي لا تقر التفاضل إلّا في التقوى والمكارم والإخلاص والعمل الصالح وتعتبر الناس والمسلمين بخاصة طبقة واحدة متساوية في الحقوق والواجبات نحو الله والناس. وفي سورة الزخرف آية فيها نفس العبارة مع تعليل للناموس الاجتماعي الذي أقام الله عليه الاجتماع البشري الذي منه ذلك المظهر الدنيوي الواقعي أي اختلاف الناس وهو أن ذلك هو لتبادل المنافع والخدمات بين الناس وهذا نصها: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا [32] . وفي سورة الحجرات آية تقرر تساوي الناس في أصلهم وحياتهم وحصر

الفضل بينهم بالتقوى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [13] . وفي السورة نفسها آية تقرر الأخوة العامة بين المسلمين إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [10] حيث تمنع التفاضل الطبقي بين المسلمين. ومن الموانع القرآنية بالنسبة للمسلمين بخاصة الآيات [51- 54] من هذه السورة التي مرّ شرحها بما يغني عن التكرار. وهناك أحاديث عديدة في الكتب الخمسة وغيرها فيها توكيد على الأخوة الإسلامية. منها هذا الحديث الرائع الجامع الذي رواه الشيخان والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبغ بعضكم على بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى هاهنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه» «1» .

_ (1) التاج ج 5 ص 35، والتناجش هو المكايدة في البيع والشراء. [.....]

سورة الصافات

سورة الصافات في السورة حكاية لبعض مواقف وأقوال وعقائد العرب. وفصول من المناظرات والمشاهد بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار. وبيان لمصير المخلصين والجاحدين يوم القيامة. وسلسلة قصص بعض الأنبياء وأقوامهم ومصائرهم وفيها بعض مواضيع السورة السابقة حتى تكاد أن تكون تتمة لها أو تعقيبا عليها مما فيه قرينة على صحة نزولها بعد سورة الأنعام، وفي أسلوبها ونظمها خصوصية فنية. ففيها تسجيع متنوع القوافي وقد ألحقت حلقات سلسلة القصص بلازمة تتكرر عقب كل قصة مثل حلقات سورة الشعراء مع اختلاف الصيغة وفصولها مترابطة منسجمة مما يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة أو فصولا متلاحقة وهي خامسة سور القرآن في عدد الآيات. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10) (1) الزاجرات: المانعات أو الرادعات أو السائقات. (2) المشارق: الجمهور على أنها هنا تعني مشارق الشمس من حيث إن للشمس مشارق عديدة بحسب منازلها ومساراتها في مدار السماء. ويتبادر أن

تكون بمعنى مشارق الأرض أيضا وليس هذا يعني أنه ربّ المشارق فقط، وإنما هو أسلوبي شاءت حكمة التنزيل أن يكون القسم به وحده. (3) لا يسمّعون: بمعنى لئلا يتسمعوا. (4) دحورا: طردا عنيفا أو دفعا عنيفا. (5) واصب: دائم أو ثابت. (6) شهاب ثاقب: شهاب ساطع أو مضيء. في الآيات قسم رباني على سبيل التوكيد بأن إله الناس واحد وحسب، وهو رب السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق، الذي زين السماء الدنيا بالكواكب وجعلها في الوقت نفسه حافظة لها من كل شيطان باغ لمنعه من التسمع إلى الملأ الأعلى وقذفه من كل جانب من جوانبها قذفا شديدا، بالإضافة إلى ما له من عذاب دائم وكل من خطف خطفة من السمع منهم تبعه شهاب ثاقب قضى عليه. ولقد تعددت الأقوال في المقصود بالمقسوم به في الجمل الثلاث الأولى، وأوجهها الذي رجحه جمهور المفسرين أنهم الملائكة. فهم الصافون للعبادة صفا والزاجرون الناس عن المعاصي والتالون لآيات الله والمبلغون لأوامره. وعلى كل حال فالآيات بسبيل توكيد ما بعدها. وهي جارية على الأسلوب القرآني المألوف ونرجح أن سامعيها أو من سامعيها من قد فهم المقصود ولم تكن مبهمة عليه. ويمكن أن يستلهم من الآيات التالية أن هذه الآيات مقدمة لمشهد من مشاهد المناظرة بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار المشركين جرى فيه جدل حول وحدة الله تعالى وحقيقة البعث بعد الموت. وهي مقدمة قوية نافذة، تضمنت لفت نظر السامعين إلى عظمة كون الله تعالى والتدليل على وحدته وربوبيته كما هو المتبادر. ولقد علقنا في سياق تفسير سورتي الجن والحجر على موضوع الشياطين وتسمعهم إلى السماء ورجمهم بالشهب بما فيه الكفاية فلا ضرورة إلى زيادة شيء آخر في هذا المقام بمناسبة ورود ذكر ذلك في الآيات.

[سورة الصافات (37) : الآيات 11 إلى 18]

[سورة الصافات (37) : الآيات 11 الى 18] فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) . (1) طين لازب: طين ملتصق متحجر. (2) يستسخرون: يشتدون في السخرية. (3) داخرون: صاغرون. عبارة الآيات واضحة ولم نطلع في كتب التفسير على رواية خاصة بنزولها. وهي كما هو المتبادر في صدد مشهد من مشاهد المناظرة في البعث والجزاء الأخرويين بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار، أو في صدد حكاية مواقفهم وأقوالهم والردّ عليهم. والسؤال الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتوجيهه إليهم فيه قوة وإلزام. فالسموات والأرض وما بينهما والملائكة والشياطين كل هذه قد خلقها الله وكلها في تصرفه المطلق. والذي خلق كل هذا الخلق العظيم قادر من باب أولى عليهم وهم أضعف من أي منهم وقد جاء الرد والتوكيد في الآية الأخيرة عنيفا ليتناسب مع ما حكته الآيات من مكابرتهم وسخريتهم وجحودهم وتصاممهم. وليس من شك في أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نفذ أمر ربه فقذف الكفار مواجهة بالرد العنيف دون مبالاة بهم وهم الأكثر عددا والأشد قوة حيث تتجلى بذلك قوته المعنوية وموقف الاستعلاء الذي يشعر به بالنسبة لهم وقد تكرر هذا الأسلوب مرارا. ولقد تكررت حكاية مواقف الكفار التي حكتها الآيات وأقوالهم كثيرا. والمتبادر أن ذلك آت من تكرر المشاهد وتجددها. ولقد شرحنا مدى قول الكفار الجزء الرابع من التفسير الحديث 14

[سورة الصافات (37) : الآيات 19 إلى 24]

عن البعث إنه سحر في مناسبات سابقة وعلقنا عليه بما فيه الكفاية فلا ضرورة للإعادة. وقد تكون حكمة صيغة ومحتويات الآيات السابقة هي بيان ضعف الكفار بالنسبة للأكوان وبخاصة لمردة الشياطين الذين يحرقهم الله بقذائف السماء فإن القادر على الأقوى قادر من باب أولى عليهم. ولقد كان الكفار يعتقدون ويتداولون بما جاء في الآيات فردده القرآن واستحكمت فيهم الحجة. [سورة الصافات (37) : الآيات 19 الى 24] فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) . (1) زجرة: صرخة أو صيحة. (2) يوم الدين: يوم الجزاء. (3) الذين ظلموا: الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والإثم. (4) أزواجهم: هنا بمعنى أمثالهم ومن هم على شاكلتهم أو أشياعهم. (5) اهدوهم: أرشدوهم ودلوهم. (6) صراط: طريق. الآيات جاءت معقبة على الأمر الرباني للنبي صلى الله عليه وسلم الذي احتوته الآية الأخيرة من الآيات السابقة كما هو المتبادر. وقد احتوت حكاية ما سوف يكون من أمرهم حينما يأتي وعد الله. فليست إلّا صرخة واحدة فإذا هم أحياء ينظرون إلى ما حولهم نظرة الرعب ويقولون يا ويلنا هذا يوم الجزاء فيقال لهم هذا يوم القضاء الذي كنتم تكذبون به. ويؤمر الملائكة بحشر صنوف الظالمين وفئاتهم المتشاكلة وآلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله بدلا من عبادة الله وحده أو يشركونها مع الله تعالى في العبادة وسوقهم جميعا إلى طريق الجحيم وإيقافهم للسؤال والحساب.

[سورة الصافات (37) : الآيات 25 إلى 33]

والآيات قوية نافذة، ومع واجب الإيمان بما حكته من مشهد أخروي فإن من الحكمة المتبادرة فيها إثارة الخوف والرهبة في السامع وحمله على التراجع إن كان جاحدا. ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن الذين يؤمر بحشرهم مع الظالمين من الآلهة هم الأصنام أو الشياطين أو غير عباد الله الصالحين الذين اتخذهم الناس آلهة ومعبودات وشركاء مثل الملائكة والعزير والمسيح على اعتبار أن هؤلاء غير مسؤولين عن فعل المشركين. وقد حكت بعض الآيات تنصلهم منهم ما مرّ مثاله في الآيات [16- 17] من سورة الفرقان. ولقد روى الترمذي في سياق الآية وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ الصافات: [24] حديثا عن أنس بن مالك قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم ما من داع دعا إلى شيء إلّا كان موقوفا يوم القيامة لازما به لا يفارقه. وإن دعا رجل رجلا ثم قرأ قول الله تعالى وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ» «1» ويلحظ أن الضمير في الآية عائد بصراحة حاسمة للظالمين المشركين خاصة. فإن صح الحديث فيكون النبي صلى الله عليه وسلم هدف إلى استلهام الآية لوعظ المسلمين وتحذيرهم من أي قول أو عمل فيه انحراف وضلال. هذا، وللشيعة تأويل غريب على عادتهم للآية، حيث قالوا إنها في حق الذين أنكروا ولاية عليّ ومنعوها عنه، بل لقد رووا في ذلك حديثا عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم «2» لم يرد في أي كتاب من كتب الأحاديث المعتبرة وتغافلوا عن أن الآية مكية وأنها في سياق التنديد بالمشركين الظالمين وإنذارهم. [سورة الصافات (37) : الآيات 25 الى 33] ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33)

_ (1) التاج ج 4 ص 195. (2) ترجمة مختصر التحفة الإثني عشرية ص 157.

(1) لا تناصرون: لا تتناصرون أي لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم تفعلون في الدنيا. (2) تأتوننا عن اليمين: أوّلها بعضهم بأن الذين أضلوا الناس كانوا يحلفون لهم بأنهم على هدى ويحولون بينهم وبين الإيمان بالله والاستجابة لدعوته. وأوّلها بعضهم بأنها كناية عن الوسوسة والتزيين من جهة يمينهم لأن هذه الجهة هي الميمونة المأمونة والتي اعتاد الناس أن يسروا إلى بعضهم بما يريدون من ناحيتها. الآيات استمرار لحكاية ما سوف يكون من أمر الكفار يوم البعث، فسيسألون سؤال التهكم والتحدي عن سبب عدم تناصرهم كما كانوا يفعلون في الدنيا فلا يكون جوابهم إلّا الاستكانة والاستسلام. ولسوف يقبل بعضهم على بعض يتعاتبون ويتخاصمون. فيقول التابعون للمتبوعين وهم الزعماء: إنكم كنتم تزينون لنا الجحود والغواية وتصدوننا عن الهدى فيجيبهم هؤلاء: إنكم كنتم ضالين طغاة غير مصدقين في قرارة نفوسكم ولم يكن لنا عليكم سلطان قاهر لو استجبتم. ولم نكد نقف موقف الصد والغواية حتى تابعتمونا. ولقد حق علينا حكم الله ووعيده فنحن جميعا ذائقون مرارة أعمالنا وضلالنا. وقد عقبت الآية الأخيرة على هذه المحاورة بتقرير أنهم سيكونون جميعا في العذاب مشتركين ولن يغني الاعتذار والتنصل والتلاوم أحدهم شيئا. والآيات كسابقاتها قوية التصوير ومع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي الذي حكته فإن من حكمة الأسلوب المتبادرة الذي جاءت عليه إثارة الخوف والرعب والارعواء في قلوب الكفار تابعين ومتبوعين. ولعل مما استهدفته تنبيه التابعين الذين كانوا الأكثر إلى أن الزعماء الذين يتبعونهم لن ينفعوهم في الآخرة شيئا.

[سورة الصافات (37) : الآيات 34 إلى 39]

[سورة الصافات (37) : الآيات 34 الى 39] إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) . الآيات كما هو المتبادر معقبة على ما سبقها من حكاية ما سوف يكون من أمر الكفار بعد البعث. فما حكي هو ما سوف يحل بالمجرمين لأنهم كانوا يستكبرون إذا قيل لهم لا إله إلا الله وكانوا يستنكرون أن يتركوا آلهتهم لشاعر مجنون بزعمهم في حين أنه إنما جاءهم بالحق المتطابق مع ما جاء به المرسلون الأولون. ومن أجل ذلك سيقال لهم إنكم لذائقو العذاب الأليم وإنكم لم تجزوا إلّا بما عملتم وقدمتم. وفي الآيات صورة لما كان يقفه الكفار من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ومن شخصه أيضا، وقد تكررت في مناسبات عديدة مماثلة حيث كانت المشاهد والمواقف تتكرر وتتجدد. وقد علقنا على نعت المجنون والشاعر الذي كان الكفار ينعتون به النبي صلى الله عليه وسلم بما فيه الكفاية في المناسبات السابقة فلا نرى ضرورة لزيادة أو إعادة. ويلحظ في الحوار الذي يجري بين الكفار والأقوال التي تقال لهم أنها مقتبسة من مألوفات الدنيا وأساليب خطابها ومشاهدها. وهذا طبيعي لأنه هو الأشد تأثيرا في الوعظ والإنذار والترغيب والترهيب، وهو مما استهدفته الآيات كما قلنا. [سورة الصافات (37) : الآيات 40 الى 49] إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) . (1) معين: لا ينضب أو لا ينقطع أو ظاهر على وجه الأرض.

[سورة الصافات (37) : الآيات 50 إلى 61]

(2) غول: خمار السكر وحدته. (3) ينزفون: تذهب عقولهم. (4) قاصرات الطرف: غاضات الأنظار. والتعبير كناية عن العفاف والطهر. (5) عين: ذات عيون نجلاء. (6) بيض: يطلق مجازا على حبات اللؤلؤ الكبيرة. (7) مكنون: مصون عن الابتذال. في الآيات وصف لما يكون من أمر المؤمنين يوم القيامة مقابل وصف ما يكون من أمر الكفار على سبيل الاستطراد وهو ما جرى عليه النظم القرآني. وقد بدأت بحرف الاستثناء ليعني أن عباد الله المخلصين مستثنون من ذلك المصير الذي حكي أنه سيكون بالنسبة للكفار. فلهم الرزق الوافر والفواكه والتكريم في جنات النعيم حيث يجلسون متقابلين على الأسرّة ويطاف عليهم بشراب أبيض لذيذ من منبع لا ينضب ولا يسبب خمارا ولا نزيفا لشاربه ويتمتعون بالنساء النجل العيون اللاتي كأنهن اللؤلؤ بياضا وجمالا، الطاهرات المصونات عن الابتذال. والآيات متصلة بالسياق كما هو المتبادر. وأسلوبها قوي مثل سابقاتها، ومن شأنها إغراء السامعين وحملهم على الاستجابة وإثارة الطمأنينة والغبطة في قلوب المؤمنين وهو مما استهدفته الآيات على ما هو المتبادر أيضا. والوصف هنا كالوصف هناك مستمد من مألوفات الناس وصور الحياة الدنيا لأنه أقوى على التأثير على ما قلناه في صدد الآيات السابقة. مع واجب الإيمان بحقيقة ما انطوى فيها من مشهد أخروي. [سورة الصافات (37) : الآيات 50 الى 61] فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61)

[سورة الصافات (37) : الآيات 62 إلى 70]

(1) قرين: جليس أو صاحب. (2) مدينون: مبعوثون للقضاء والجزاء. (3) سواء الجحيم: وسط النار. (4) لترديني: لتسقطني وتهلكني. الآيات استمرار في السياق كما هو واضح، وفيها حكاية لما يكون من حوار بين المخلصين بعد أن ينزلوا منازل التكريم في الآخرة حيث يقبل بعضهم على بعض يتجاذبون الحديث فيذكر أحدهم قرينا كان له يسأله سؤال الساخر المستكبر عما إذا كان يصدق ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم من أن الناس مبعوثون للجزاء بعد أن يموتوا ويصبحوا ترابا وعظاما فيجاب القائل أن انظر فينظر فيرى قرينه في وسط النار فيخاطبه مؤنبا مبكّتا لقد كدت تهلكني بوسوستك وجحودك ولو لم تتداركني رحمة الله لكنت معك أقاسي ما تقاسي. ثم يتساءل المخلصون الناجون تساؤل الفرح عما إذا كانوا حقا لن يموتوا بعد الآن ولن يتعذبوا. ويهتفون مغتبطين مسرورين: ألا إن هذا لهو الفوز العظيم. وقد انتهت الآيات بالهتاف بالسامعين أن لمثل هذا المصير الكريم فليعمل من أراد العمل. وقد استهدفت الآيات إثارة الطمأنينة والغبطة في قلوب المؤمنين وإنذار الكفار فيما استهدفته كما هو شأن سابقاتها مع واجب الإيمان بحقيقة المشهد الأخروي الذي حكته. [سورة الصافات (37) : الآيات 62 الى 70] أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)

(1) نزلا: منزلا. (2) الظالمين: هنا كناية عن الكافرين المجرمين. (3) أصل الجحيم: قاع النار. (4) طلعها: ثمرها. (5) شوب من حميم: شراب من الماء الحار. (6) ألفوا: وجدوا. (7) يهرعون: يسارعون في السير. في الآيات سؤال تبكيتي وتقريعي عما إذا كان النعيم الذي أعدّ للمخلصين المذكور في الآيات السابقة خيرا منزلا أم شجرة الزقوم التي أعدها الله لعذاب الظالمين والتي تنبت في قاع الجحيم ولها ثمر كأنه رؤوس الشياطين في القبح والبشاعة. حيث يأكلونه ويملأون به بطونهم ثم يشربون عليه ماء شديد الحرارة فتزداد حرقتهم وعطشهم وعذابهم. ولسوف يكون الجحيم مصيرهم الخالد فقد وجدوا آباءهم ضالين فساروا في السير على طريقهم بدون تروّ ولم يستجيبوا لدعوة الحق والهدى التي وجهت إليهم. وصلة الآيات بالسياق واضحة: حيث جاءت معقبة على وصف مصير المخلصين للتنبيه إلى الفرق العظيم بين هذا المصير ومصير الظالمين. والمتبادر أنها استهدفت فيما استهدفته إثارة الرعب والهلع في الكفار كما هو شأن سابقاتها. مع واجب الإيمان بحقيقة المشهد الأخروي الذي حكته. وقد ذكر بعض المفسرين «1» أن تعبير إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) أريد به

_ (1) انظر تفسيرها في مجمع البيان للطبرسي والكشاف وابن كثير.

[سورة الصافات (37) : الآيات 71 إلى 74]

الإشارة إلى ما أحدثه ذكر وجود شجرة الزقوم في النار من استنكار واستغراب لدى الكفار. على أن بعضهم «1» قال إن كلمة فِتْنَةً هنا بمعنى شدة العذاب. ولقد حكت إحدى آيات سورة الإسراء السابقة لهذه السورة في الترتيب أن الله جعل الشجرة الملعونة في القرآن فتنة للناس وقال جمهور المفسرين إنها عنت شجرة الزقوم. ولعل هذا متصل بذاك ومع ذلك فإن للقول الثاني وجاهته أيضا والله أعلم. وفي تشبيه طلع شجرة الزقوم الجهنمي برؤوس الشياطين دلالة على أن العرب كانوا يتخيلون الشياطين بأشكال قبيحة مفزعة، فجاء التشبيه متسقا مع ما في أذهانهم زيادة في التأثير والتخويف. أما شجرة الزقوم الدنيوية فهي شجرة معروفة في بلاد الحجاز بكثرة شوكها وشدة مرارة ثمرها وإثارته عطشا شديدا في آكله. [سورة الصافات (37) : الآيات 71 الى 74] وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) . وهذه الآيات معقبة على ما قبلها كما هو المتبادر: فأكثر الأمم السابقة ضلوا كما ضلّ أكثر العرب. ولقد أرسل الله إليهم منذرين فلم يستجيبوا، فاستحقوا ما استحقوه من سوء العاقبة باستثناء المخلصين من عباد الله الذين استجابوا واهتدوا، وقد انطوى في الآيات تقريع وإنذار للكفار وتنويه بالمؤمنين. وقد جاءت الآيات في الوقت نفسه مقدمة لسلسلة قصص الأنبياء التي تأتي بعدها جريا على النظم القرآني. [سورة الصافات (37) : الآيات 75 الى 82] وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)

_ (1) انظر تفسيرها في مجمع البيان للطبرسي والكشاف وابن كثير.

(1) الكرب العظيم: الشدة التي كانوا يلقونها من قومهم. (2) تركنا عليه في الآخرين: بمعنى أبقينا له ذكرا حسنا في الناس من بعده أو تكرمة دائمة من التحية والصلاة والسلام. هذه الآيات حلقة من سلسلة قصصية جاءت عقب ذكر مواقف الكفار ومصائرهم جريا على الأسلوب القرآني. وقد شاءت حكمة التنزيل أن تأتي فيها قصة نوح بهذا الأسلوب المقتضب الذي فيه تنويه بنوح عليه السلام وإشارة إلى تنجيته وأهله من الشدة التي كانوا يلقونها من قومهم وجعل ذريته هي الباقية وإغراق الآخرين. وجعله ذا ذكر حسن دائم في العالمين وفقا لعادة الله تعالى في جزاء المحسنين المؤمنين من عباده. ومقصد العبرة والتذكير فيها واضح، حيث انطوى فيها إنذار للكفار وتنويه وتطمين وبشرى للنبي صلى الله عليه وسلم والمخلصين الذين اتبعوه. والآيات [77- 81] قد تكررت بشيء يسير من الاختلاف مع كل حلقة من حلقات السلسلة حيث صارت لازمة مثل اللازمة التي لحقت بسلسلة قصص سورة الشعراء، مما فيه صورة من صور النظم القرآني. ولقد علقنا على قصة نوح عليه السلام وقومه وطوفانه في المناسبات السابقة فلا ضرورة للإعادة. غير أن هناك حديثا نبويا روي في سياق هذه الآيات رأينا أن نؤيده حيث روى الترمذي عن سمرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «حام وسام ويافث» وفي رواية رواها الحاكم وأحمد مع الترمذي «سام أبو العرب وحام أبو الحبش ويافث أبو الروم» «1» . وفي الإصحاح التاسع من سفر التكوين ذكرت الأسماء الثلاثة

_ (1) التاج ج 4 ص 195.

[سورة الصافات (37) : الآيات 83 إلى 113]

كالأبناء الباقين مع نوح وأنهم الذين انبث منهم الناس في الأرض بعد الطوفان وذكرت أجناس نسلهم بما يتسق مع الاقتضاب الذي جاء في الحديث حيث يفيد هذا أن الأمر كان معروفا على هذا الوجه في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته. [سورة الصافات (37) : الآيات 83 الى 113] وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) . (1) من شيعته: من فئته أو جماعته أو أمثاله. (2) أئفكا آلهة دون الله تريدون: أتتخذون من دون الله آلهة إفكا وزورا. (3) نظر نظرة في النجوم: إشارة إلى ما كان تبينه من الضلال في عبادة النجوم على ما جاء في سورة الأنعام السابقة. (4) قال إني سقيم: قال إني مريض، من قبيل الاعتذار. (5) فتولوا عنه مدبرين: فتركوه وخلفوه.

تعليقات على قصة إبراهيم عليه السلام وتمحيص مسألة الذبح من ولديه

(6) فراغ: مال وانعطف. (7) يزفون: يسرعون. (8) فلما أسلما: فلما انقادا لله وأرادا تنفيذ أمره. (9) تله للجبين: سحبه وطرحه على الأرض وجعل جبينه نحوها تهيؤا لذبحه. (10) إن هذا لهو البلاء المبين: إن هذا لهو الامتحان والاختبار الشديد الذي تعرّض له إبراهيم وأقدم على تنفيذه. (11) ذبح: ذبيحة، كناية عن الحيوان الذي يذبح. تعليقات على قصة إبراهيم عليه السلام وتمحيص مسألة الذبح من ولديه وهذه حلقة ثانية من السلسلة احتوت قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه وأصنامهم وقصة رؤياه في المنام أنه يذبح ابنه وإقدامه على تنفيذ ذلك على اعتبار أنه أمر رباني وفدائه بذبيحة ربانية. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. والشطر الأول من القصة لم يرو في سفر التكوين المتداول اليوم ولكن ذلك لا يمنع أن يكون ورد في أسفار وقراطيس مفقودة وهو ما نعتقده. وفي سورتي الشعراء ومريم ورد شيء مما جاء في هذا الشطر وجاء هنا بشيء من الخلاف الأسلوبي وشيء من الزيادة كما اقتضته حكمة التنزيل لتتكامل القصة وعبرتها. ولقد علقنا على ما جاء في السورتين المذكورتين اللتين سبق تفسيرهما ونبهنا على ما فيهما من عبرة بالنسبة للعرب فلا نرى ضرورة للإعادة. والزيادة الجديدة هنا هي تآمر قوم إبراهيم عليه وإلقاؤهم إياه في النار وإحباط الله كيدهم وتنجيته، وقد جاء ذلك في القرآن مرتين أخريين واحدة في سورة الأنبياء وأخرى في سورة العنكبوت. ولقد أورد المفسرون في سياق الآيتين [68- 69] من سورة الأنبياء اللتين ذكر فيهما الخبر الزائد الجديد بيانات معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

وتابعيهم في كيفية تأجيج قوم إبراهيم النار وشدة وهجها واتقادها وتسجيرها سبعة أيام ورميهم إبراهيم فيها بالمنجنيق بإشارة من إبليس وصيرورة النار عليه بردا وسلاما حتى إنها لم تحرق وثاقه وتلقى جبريل له فيها إلخ إلخ مما يفيد أن هذا الخبر بتفصيلاته مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم. ولم يرووا ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس له مصدر والحالة هذه إلّا اليهود كما هو المتبادر. والعبرة في الزيادة هنا واضحة فيما كان من عناية الله تعالى بإبراهيم الذي أخلص لله وأسلم نفسه له وتنجيته إياه من كيد الكفار ونارهم. أما الشطر الثاني من القصة فقد ذكر في الإصحاح (22) من سفر التكوين المتداول بأسلوب متوافق إجمالا مع ما جاء في الآيات [102- 107] مع ذكر كون الذبيح اسحق عليه السلام. وفي كتب التفسير أحاديث نبوية وروايات معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم في صدد ذلك منها ما يفيد أن الذبيح اسحق ومنها ما يفيد أنه إسماعيل. وفيها مع ذلك استنباطات اجتهادية للمفسرين وللعلماء منها ما انتهى إلى أنه إسحق ومنها ما انتهى إلى أنه إسماعيل أيضا. وقد شغل هذا الموضوع جزءا كبيرا في هذه الكتب. والذين استنبطوا من القرآن أنه اسحق قالوا إنه ليس في السلسلة إلّا اسم إسحق وفيها بشارة به وهو غلام وبشارة بنبوته. وإنه ليس في القرآن بشارة إلّا بإسحاق. حيث ورد ذلك صراحة في آيات سورة هود [69 و 70] التي سبق تفسيرها وضمنا في آيات في سورة الذاريات فيها قرينة قوية على ذلك ومماثلة لآيات هود: فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) . والذين استنبطوا من القرآن أنه إسماعيل قالوا إن الله ذكر البشارة بإسحاق في آيات هذه السورة بعد الفراغ من قصة الرؤيا والذبيح. وأن الله بشر بإسحاق ومن ورائه يعقوب في آيات سورة هود فلا يصح أن يكون أمر بذبحه لأنه بشره بأنه سيكون له نسل، ونحن نرى في هذا وجاهة وسدادا.

وننبه أولا: على أنه ليس شيء من مما يعزى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من ذلك واردا في كتب الصحاح. وثانيا: على أن معظم الأحاديث والروايات في جانب كون الذبيح هو إسماعيل وكون الحادث وقع في منطقة مكة بعد أن أسكن إبراهيم إسماعيل عليهما السلام فيها. وإسكان إبراهيم لإسماعيل في منطقة مكة مؤيد بآيات وردت في سورتي البقرة وإبراهيم حيث جاء في سورة إبراهيم: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) وحيث جاء في سورة البقرة هذه الآية التي تفيد كون الذي أسكنه إبراهيم هو إسماعيل: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) . ولقد روى البغوي فيما روى أن عمر بن عبد العزيز سأل رجلا يهوديا كان أسلم وحسن إسلامه عن شخص الذبيح فقال إنه إسماعيل ولكن اليهود زعموا أنه إسحق حسدا للعرب لأن إسماعيل الذي كرّمه الله بالنداء هو أبوهم فأرادوا أن يجعلوا الفضل لأنفسهم حيث ينطوي في هذا اتهام لليهود بتحريف الخبر في كتبهم. ومثل هذا التحريف ملموح في سفر التكوين حيث تعمد كاتبوه تفضيل إسحق على إسماعيل مع أن هذا بكر إبراهيم وتفضيل يعقوب على عيسو مع أن عيسو بكر إسحق لأن يعقوب وإسحق هما أصلا بني إسرائيل دون إسماعيل وإخوته الآخرين ودون عيسو مما نبهنا عليه وعلى أمثاله في سياق تعليقنا على التوراة والإنجيل في تفسير سورة الأعراف، وفي القرآن ورد أكثر من مرة أنهم كانوا يحرفون كتاب الله ويقولون عما يكتبون إنه من الله وما هو من الله فليس ذلك التحريف بعيدا عن طباعهم والله تعالى أعلم. وفي الإصحاح (22) من سفر التكوين إن الفداء كان كبشا وجده إبراهيم قربه، وبعض الروايات التي يرويها المفسرون عن علماء الصدر الأول تذكر أنه كبش أقرن أملح نزل من الجنة. وبعضها يذكر أنه تيس من الأروى هبط إلى إبراهيم من جبل ثبير بين عرفات ومنى. ومما ذكرته هذه الروايات أن إبليس تعرض

لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وحاول التشويش عليهما وتعويقهما عن تنفيذ ما أمر إبراهيم بفعله في المنام الذي اعتبره وحيا ربانيا فكان إبراهيم يرجمه بالحصى مرة بعد مرة. وكان هذا الرمي هو أصل تقليد رمي الحصى الذي يرميه الحجاج في منى بعد نزولهم من عرفات. وهذه الروايات من جملة الروايات التي تفيد أن الذبيح إسماعيل والله أعلم. وعلى كل حال فالذي نرجحه أن سامعي القرآن كانوا يعرفون القصة. وأن المهم فيها هو ضرب المثل بعباد الله الصالحين الذين منهم إبراهيم عليه السلام حيث أقدم على تنفيذ ما ظنه وحيا من الله مهما كان فيه تضحية بالغة للتدليل على انقياده وإسلامه النفس لله تعالى، وحيث وافق ابنه الصبي على ذلك بطيبة خاطر ورضاء نفس للتدليل كذلك على انقياده وإسلامه النفس لله تعالى، وبذلك استحقا ثناء الله وتنويهه وتكريمه وكانا مظهر رعايته وتجلياته. ولقد انطوى في جملة وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ تقرير واقع الأمر بالنسبة لذرية إبراهيم وإسحق عليهما السلام حيث كان منهم المحسن الصالح والمنحرف الآثم المهلك نفسه بانحرافه وإثمه. ومن الممكن أن يلمح في هذا ردّ على دعوى بني إسرائيل بأنهم شعب الله المختار. فهم مثل سائر البشر منهم الصالح الذي يستحق تكريم الله ورحمته والآثم المنحرف الذي يستحق عذاب الله وسخطه وغضبه. وفي آية في سورة المائدة ذكر هذا التأويل بصراحة وهي هذه: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) . مع التنبيه على أن في القرآن آيات كثيرة «1» تفيد أن جميعهم إلّا قليلا صاروا موضع سخط الله وغضبه ولعنته بما كان منهم من نقض لميثاقه وانحراف ديني وخلقي ومواقف مؤذية لرسل الله ثم لخاتم رسله.

_ (1) سلسلة البقرة [40- 160] وسلسلة آل عمران [65- 120] وسلسلة النساء [44- 56] و [150- 162] والمائدة [12- 15] .

تعليق على جملة والله خلقكم وما تعملون

ويلحظ أن الشطر الأول من القصة احتوى إشارة إلى ما كان من نظرة إبراهيم عليه السلام في النجوم التي ذكرت في السورة السابقة حيث يمكن أن يكون ما جاء هنا زيادة بيانية عما جرى بين إبراهيم عليه السلام وبين قومه قد جاء تتمة للكلام في سورة الأنعام وحيث يمكن أن يكون في ذلك دلالة على صحة رواية نزول هذه السورة بعد سورة الأنعام. تعليق على جملة وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ونريد أن ننبه إلى أمر كان من مواضيع الجدل بين المفسرين وعلماء الكلام حيث استند بعضهم على آية وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ في تقرير كون الله عز وجل قد خلق الناس وخلق أعمالهم وأن أعمال الناس غير مكتسبة منهم وإنما هي مقدرة محتمة عليهم، بينما أنكر ذلك فريق آخر «1» . وبقطع النظر عن عدم اتساق التقرير المذكور مع تقريرات القرآن الحاسمة الكثيرة التي تؤكد بأساليب مختلفة قابلية الناس على الكسب والاختيار واستحقاقهم الجزاء، وفاق ذلك على ما ذكرناه في مناسبات عديدة سابقة، فإن الآية المذكورة ليست تقريرا قرآنيا مباشرا في صدد خلق الناس وأعمالهم، وإنما هي من جملة ما حكي من أقوال إبراهيم عليه السلام لقومه في صدد محاججتهم والتنديد بهم. فهم يعبدون أصناما ينحتونها بأيديهم فقال لهم إن الله خلقكم وخلق ما تنحتون على سبيل الإفحام والإلزام، وإن إيراد الآية في معرض الاستدلال على خلق الله لأعمال الناس في غير محله. ولقد جاء في سورة العنكبوت آية حكي فيها قول لإبراهيم عليه السلام لقومه أيضا نسب فيه الخلق إليهم وهي هذه: إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً [17] مما فيه تأييد لما نقول.

_ (1) انظر تفسير الآية في الخازن والبغوي والزمخشري

تعليق على ما وصف بكذبات إبراهيم عليه السلام

ولقد تكرر هذا كثيرا من علماء الكلام والمفسرين لدعم مذهب أو رأي أو تأويل حيث يعمد بعضهم إلى اقتطاع آية من سلسلة أو جملة من آية ويوردونها دليلا، في حين أن بقية الآية أو بقية السلسلة في صدد آخر لا تتحمل ما أرادوا تحميله لهما مما مرّ منه أمثلة عديدة. تعليق على ما وصف بكذبات إبراهيم عليه السلام ويورد المفسرون في سياق جملة إِنِّي سَقِيمٌ المحكية عن لسان إبراهيم في هذه الآيات وفي سياق جملة: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ في الآية [63] من سورة الأنبياء حديثا رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة جاء فيه: «قال النبي صلى الله عليه وسلم لم يكذب إبراهيم عليه السلام قطّ إلا ثلاث كذبات ثنتين في ذات الله قوله إِنِّي سَقِيمٌ وقوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا وواحدة في شأن سارة. فإنه قدم أرض جبّار ومعه سارة وكانت أحسن الناس فقال لها إنّ هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك فإن سألك فاخبريه أنك أختي فإنك أختي في الإسلام فإنّي لا أعلم في الأرض مسلما غيري وغيرك. فلمّا دخل أرضه رآها بعض أهل الجبّار فأتاه فقال له لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي أن تكون إلّا لك فأرسل إليها فأتي بها فقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها فقبضت يده قبضة شديدة فقال لها ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرّك ففعلت فعاد فقبضت يده أشدّ من الأولى فقال لها مثل ذلك ففعلت فعاد فقبضت أشدّ من القبضتين الأوليين فقال لها ادعي الله أن يطلق يدي فلك الله ألّا أضرّك ففعلت فأطلقت يده، ودعا الذي جاء بها فقال له إنك إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان فأخرجها من أرضي وأعطها هاجر. قال فأقبلت تمشي فلما رآها إبراهيم عليه السلام انصرف الخادم فقال لها مهيم (ماذا جرى؟) قالت خيرا كفّ الله يد الفاجر وأخذ الجزء الرابع من التفسير الحديث 15

[سورة الصافات (37) : الآيات 114 إلى 122]

منّي خادما قال أبو هريرة فتلك أمّكم يا بني ماء السماء» «1» . ومع ذلك فإن بعض المفسرين أرادوا صرف صفة الكذب الصريح عن إبراهيم عليه السلام فقالوا إن كلامه كان من المعاريض وبعضهم لم ير بأسا في الوصف وقد جاء صريحا في الحديث النبوي. ومعظمهم رأوا في مثل هذه الكذبات وظروفها أسوة يمكن أن يسار عليها ويتأسى بها. ولا سيما إذا كانت في سبيل الله ودرء ضرر فادح. ولا يخلو هذا وذاك من وجاهة وسداد استنادا إلى نص الحديث النبوي فضلا عن المبدأ الحكيم بالإذن بالمحظور عند الاضطرار والخطر على ما شرحناه في سياق آية سورة الأنعام [145] وهناك حديث نبوي يصح أن يساق في هذا المساق رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أم كلثوم بنت عقبة قالت: «سمعت رسول الله وهو يقول ليس الكذّاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيرا وينمي خيرا. قالت ولم أسمع يرخّص في شيء مما يقول الناس كذب إلّا في ثلاث الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل لامرأته وحديث المرأة لزوجها» «2» . هذا وقصة إبراهيم وسارة والجبار واردة في الإصحاح (12) من سفر التكوين بفروق طفيفة غير جوهرية. والقصة كانت مع فرعون مصر. وهذا يؤيد ما قلناه مرارا من أن هذا السفر كان متداولا معروف المحتوى في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته. أما القولان الآخران فلم يذكرا في هذا السفر تبعا لعدم ورود قصص إبراهيم مع قومه فيه على ما نبهنا عليه من قبل. [سورة الصافات (37) : الآيات 114 الى 122] وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)

_ (1) التاج ج 3 ص 262 و 263 وتلك أمكم يعني هاجر أم العدنانيين لأنها أم إسماعيل على ما ذكرته الروايات. (2) التاج ج 5 ص 40.

[سورة الصافات (37) : الآيات 123 إلى 132]

(1) المستبين: المبين الواضح. وهذه حلقة ثالثة فيها إشارة تنويهية إلى موسى وهرون عليهما السلام بالأسلوب الذي اقتضته حكمة التنزيل والسياق. وعبارتها واضحة، والعبرة فيها ملموحة وهي ضرب المثل والتذكير بما كان من عناية الله ونصره وهدايته لموسى وهرون بسبب أنهما من عباد الله المؤمنين المحسنين. [سورة الصافات (37) : الآيات 123 الى 132] وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) . (1) فإنهم لمحضرون: فإنهم لمحشورون إلى الله وعذابه. (2) إلياسين: من المفسرين من قال إن الكلمة جمع (الياس) تشمل أتباعه المنسوبين إليه. وهناك من قرأها (آل ياسين) وهناك من خرجها على التعريب لأن إلياس ليست صريحة العروبة، وقد يكون القول الأول هو الأوجه، والله أعلم. تعليق على قصة إلياس عليه السلام وهذه حلقة رابعة فيها قصة النبي إلياس مع قومه الذين كانوا يعبدون البعل من دون الله أحسن الخالقين ربهم وربّ آبائهم الأولين. وقد حكت تأنيب إلياس

تعليق على اسم بعل

عليه السلام لقومه وتكذيبهم له وتنويها به وثناء عليه لأنه من عباد الله المحسنين المؤمنين. وإلياس هذا هو النبي إيليا الذي ورد ذكره في السفر الأول من أسفار الملوك حسب الطبعة البروتستانتية، والثالث حسب الطبعة الكاثوليكية، وما ورد في الآيات مقتضبا قد ورد مسهبا في الإصحاحات (16 و 17 و 18 و 19) من السفر المذكور حيث ذكر فيها ما كان من استشراء عبادة البعل وكثرة معابده وأنبيائه في زمن آحاب ملك دولة إسرائيل بتأثير زوجته إيزابيل بنت ملك صور وما كان من إنذار إيليا لهما بأمر الله وغضبهما عليه ومحاولتهما اعتقاله والبطش به وتسليط الله عليهما غزوات خارجية وقحطا وجفافا بسبب ذلك في سياق طويل. والمتبادر أن هذا مما كان معروفا متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم من طريق اليهود فأشير إليه في معرض التذكير والتمثيل والموعظة. وهو الهدف الملموح والجوهري في الحلقة، حيث ذكرت ما كان من إنذار إلياس لقومه وتأنيبه لهم وتكذيبهم له وعقاب الله لهم والتنويه به بسبب إخلاصه وإيمانه وإحسانه. وفي كتب التفسير «1» نقلا عن محمد بن إسحاق والقرظي وغيرهما من رواة الأخبار ومسلمة اليهود بيانات كثيرة حول قصة إلياس، فيها ما ذكر في إصحاحات السفر المذكور آنفا وما لم يذكر حيث يدل هذا على أن القصة مما كان متداولا في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلم وعصره. ولم نر طائلا في اقتباس ما جاء في كتب التفسير أو في إصحاحات السفر المذكور لأن القصد منها، وهو العبرة، قد حصل بما اقتضت حكمة التنزيل ذكره منها. تعليق على اسم بعل وبعل هو معبود بلاد الشام جميعها: أي سورية ولبنان وشرق الأردن

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن.

[سورة الصافات (37) : الآيات 133 إلى 138]

وفلسطين قبل الميلاد المسيحي «1» . وكان يعني إله القمر أو إله السماء. وكان كذلك في جنوب جزيرة العرب وفي العراق أيضا حيث يبدو أنه من آلهة الجنس العربي الرئيسية وقد قرىء في آثار اليمن اسم (بعل سمين) بمعنى إله السماء «2» . وقد دخلت كلمة بعل في عداد اللغة العربية الفصحى قبل الإسلام وصارت بمعنى الزوج ومالك الشيء. وقد وردت عديدة في القرآن بمعنى الزوج ومن ذلك آية سورة هود [72] التي مر تفسيرها. [سورة الصافات (37) : الآيات 133 الى 138] وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) . (1) في الغابرين: في الهالكين من قوم لوط. تعليق على قصة لوط عليه السلام وهذه حلقة خامسة فيها إشارة إلى قصة لوط مع قومه إشارة مقتضبة. وقد وردت هذه القصة بتفصيل أكثر في سور سابقة. وفي الحلقة شيء جديد متصل بأهل الحجاز حيث تذكرهم بأنهم يمرون على مساكن قوم لوط التي دمرها الله في الصباح وفي الليل وتندد بهم لأنهم لا يعقلون ولا يعتبرون بما يرون. وهذه المساكن على شواطىء بحر الميت في غور أريحا في فلسطين. وكانت قوافل الحجازيين التجارية تمر بها حينما تأتي من الحجاز إلى مصر أو ترجع من مصر إلى الحجاز. وكانوا يرون آثار التدمير التي ما تزال موجودة إلى اليوم. وكانوا يعرفون قصة قوم لوط وتدمير الله لمساكنهم من طريق اليهود، وبذلك استحكم فيهم

_ (1) انظر الجزء الرابع من تاريخ الجنس العربي تأليفنا ص 97 و 194 و 296. (2) انظر الجزء الثالث من تاريخ العرب قبل الإسلام، لجواد علي ص 157.

[سورة الصافات (37) : الآيات 139 إلى 148]

الإفحام والتنديد. وهذا ما انطوى في الحلقة من عبرة وعظة بالإضافة إلى ما في ذكر نجاة لوط وأهله من عذاب الله بسبب إيمانهم واستثناء امرأته من النجاة بسبب انحرافها من عبرة وعظة. [سورة الصافات (37) : الآيات 139 الى 148] وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148) . (1) أبق: فرّ متمردا. (2) المشحون: المملوء. (3) ساهم: دخل في المساهمة وهي القرعة. (4) المدحضين: الساقطين. (5) التقمه: ابتلعه. (6) مليم: ملوم أي أتى بما يلام عليه. (7) نبذناه: طرحناه وألقيناه. (8) العراء: وجه الأرض الخالي من الشجر والظل. تعليق على قصة يونس عليه السلام وهذه حلقة سادسة من سلسلة القصص وهي الأخيرة. وقد ذكر فيها قصة يونس مع قومه وقد وردت هذه القصة في سورة القلم ووردت إشارات خاطفة إليها في سورة يونس التي مرت وفي سورة الأنبياء الآتية بعد قليل وجاءت هنا بشيء من الزيادة اقتضتها حكمة التنزيل.

ولقد قلنا في سياق تفسير آيات في سورة القلم ذكرت (صاحب الحوت) أن قصة يونس مذكورة في سفر يونان من أسفار العهد القديم وأوردنا خلاصة ما جاء في السفر. وهي متطابقة إجمالا مع ما جاء عنها في الآيات التي نحن في صددها وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار. واسم يونس جاء هذا بصراحة مع ذكر التقام الحوت له وهذا الاسم معرب يونان على ما هو المتبادر. وإذا كان من شيء يزاد هنا فهو تباين بين خبر شجرة اليقطين في الآيات وشجرة الخروعة في السفر. وهناك تباين آخر ففي الآيات أن الله أنبت الشجرة لامتحانه وليس لوقايته بعد خروجه من بطن الحوت. فقد غضب يونس لعدم اتباع الله العذاب الموعود من الله على قومه- وهذا ما يمكن أن يفيده فحوى آية في سورة الأنبياء وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً ... [87] فأنبت الله الخروعة وهو ذاهب مغاضب لقومه ليستظل بها فأرسل الله دودة فجففتها، فعاتب ربّه على ذلك فقال له الله أشفقت على شجرة لم تتعب بها أفلا أشفق على مدينة عظيمة فيها أكثر من اثنتي عشرة ربوة من أناس لا يعرفون يمينهم من شمالهم عدا ما فيها من بهائم، والذي نعتقده أن ما جاء في القرآن أيضا كان مما كان واردا في قراطيس ومتداولا بين أوساط اليهود. والعبرة التي انطوت في آيات القصة هنا وهي الجوهرية فيها ذكر ما كان من مغادرة يونس لقومه خلافا لأمر الله حتى نعت بالآبق. ومجازاة الله تعالى له بما كان من قذفه في البحر والتقام الحوت له لتنبيهه وزجره. وقد ندم وسبح الله واستغاث كما ذكرت الآيات هنا وفي آية سورة الأنبياء وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فتاب الله عليه وأنقذه من بطن الحوت ثم أرسله إلى قومه فاستأنف دعوتهم إلى الله فآمنوا. وكل هذا مما احتواه السفر أيضا وهذه النهاية هي المهمة في مساق العبرة حيث ينطوي فيها تأميل بإيمان من لم يكن قد استجاب للدعوة النبوية إذا ما واظب النبي على دعوتهم.

[سورة الصافات (37) : الآيات 149 إلى 157]

هذا، وننبه على صيغة الآية [147] حيث قد يتبادر إلى الوهم منها أن هناك شكا في عدد قوم يونس مما لا يجوز على الله تعالى فنقول إنه أسلوب مألوف من الأساليب الخطابية والأساليب القرآنية. وهو ما ظللنا نعبر عنه بجملة (التعبير الأسلوبي) والقصد من التعبير هو التنويه بكثرة عدد الذين أرسل إليهم وآمنوا كما هو المتبادر. والمناسبة قائمة لإيراد حديث رواه البخاري والتعليق عليه حيث روى عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب» «1» . وقد أوضح الشراح أن القصد هو النهي عن تفضيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على يونس عليه السلام. ولقد روى الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «فضّلت على الأنبياء بست أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلّت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون» «2» . هذا بالإضافة إلى أن القرآن يذكر بصراحة أن الله فضل بعض النبيين على بعض كما جاء في الآية [55] من سورة الإسراء التي سبق تفسيرها وفي آية [253] من سورة البقرة: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وشراح حديث الترمذي يقولون إما أن يكون هذا الحديث قد صدر من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يعلم أنه فضل على النبيين وإما أن يكون من قبيل التواضع وتعليم المسلمين لواجب احترام جميع أنبياء الله، والله أعلم. [سورة الصافات (37) : الآيات 149 الى 157] فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157)

_ (1) التاج ج 4 ص 195 و 196. (2) التاج ج 1 ص 205. [.....]

تعليق على انصباب التنديد بالمشركين، على زعم اتخاذ الله بنات دون البنين

(1) أم لكم سلطان مبين: أم لكم برهان من الله واضح على ما تزعمون. في الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بسؤال المشركين مستفتيا مبكتا عما إذا كان يصح أن يكون لله البنات ولهم البنون، وعما إذا كانوا حاضرين حينما خلق الله الملائكة فرأوا أنه خلقهم إناثا كما يزعمون. وتنبيه إلى ما في زعمهم من اتخاذ الله أولادا من كذب. وتسفيه في صيغة الأسئلة الإنكارية لزعمهم أن الأولاد الذين اتخذهم واصطفاهم بنات وليسوا بنين، وخروجهم في زعمهم وحكمهم عن نطاق المنطق والعقل وتحدّ لهم بإظهار ما عندهم من بينة أو كتاب على صحة زعمهم إن كانوا صادقين فيه. وفي الآيات التفات خطابي إلى المشركين الذين كانوا موضوع الحديث قبل سلسلة القصص حيث استؤنف فيها موقف المناظرة والجدل الذي حكته آيات السورة الأولى والتحم السياق بين أولها وآخرها. وبذلك تكون الآيات التي جاءت بين الآيات الأولى من السورة وهذه والتي احتوت بيان مصير الكفار والمخلصين وقصص بعض الأنبياء وأقوامهم قد جاءت من قبيل الاستطراد والاستشهاد والتذكير. وقد تكرر هذا في سور عديدة بحيث يصح أن يقال إنه من أساليب النظم القرآني. تعليق على انصباب التنديد بالمشركين، على زعم اتخاذ الله بنات دون البنين وقد يبدو لأول وهلة أن آيات الاستنكار مصبوبة بقوة أكثر على نسبة البنات لله تعالى دون البنين من قبل المشركين، وعلى تقرير كون البنين هم المفضلين على البنات. وهذا ما يبدو في مناسبات أخرى ذكرت فيها عقيدة المشركين بأن الملائكة بنات الله وقد مرّ مثال ذلك في سورة النجم.

[سورة الصافات (37) : الآيات 158 إلى 159]

والحقيقة أن هذا هو من قبيل المساجلة والجدل كما تلهم روح الآيات القرآنية وصيغتها. فالتكذيب القرآني لأساس الفكرة أي لاتخاذ الله أولادا قاطع وحاسم. غير أن العرب لما كانوا يكرهون ولادة البنات على ما حكته عنهم آيات عديدة في سياق مجادلة المشركين في هذه العقيدة وتسفيه عقولهم منها آيات سورة النحل هذه: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) سلكت الآيات سبيل التأنيب في مساجلتهم تسفيها لعقولهم وسخرية من تناقضهم إذ يفضلون الذكر ويسيغون أن يكون لله غير المفضل. وقد علّقنا بما فيه الكفاية على عقيدة الكفار في الملائكة وكونهم بنات الله وعبادتهم لهم ليكونوا شفعاء لديه في سياق تفسير سورة النجم فلا نرى ضرورة للإعادة. غير أننا ننبه إلى أن مضمون الآيات هنا يلهم أن العرب المشركين كانوا يرون أنهم على حقّ في عقيدتهم هذه وكانوا يجادلون عنها بقوة وعناد، فتحدتهم الآيات بقوة مماثلة وشددت عليهم بالتسفيه والسخرية. [سورة الصافات (37) : الآيات 158 الى 159] وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) . في الآية الأولى إشارة تبكيتية إلى عقيدة من عقائد المشركين، وهي زعمهم بوجود نسب بين الله والجنة. وردّ تكذيبي عليهم في صورة تقرير كون الجنة يعلمون أن قائلي هذا الزعم محضرون إلى عذاب الله يوم القيامة، واحتوت الآية الثانية تعقيبا تنزيهيا عما يصفه المشركون ويزعمونه. والمتبادر أن الآيتين غير منفصلتين عن السياق، وقد جاءت تحكي عقيدة أخرى من عقائد المشركين بالإضافة إلى ما ذكرته الآيات السابقة عنهم.

تعليق على جملة وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا

تعليق على جملة وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً ولقد تعددت الأقوال والروايات في مفهوم ومدى العقيدة التي حكتها الآية الأولى» فمنها أن كلمة الْجِنَّةِ تعني الملائكة لأنهم مغيبون لا يرون، وأن الآية بسبيل التنديد بعقيدة المشركين بأن الملائكة بنات الله. ومنها أن الجنة قبيل من الملائكة الذي منه إبليس. ومنها أنها تعني عقيدة إشراك الجن مع الله وعبادتهم. وهي ما ذكرت في آية سورة الأنعام [100] السابقة ومنها أن الله أصهر إلى الجن فكان الملائكة نتاج ذلك. ونحن نستعبد أن يكون المقصود أحد القولين الأولين ونرى القولين الأخيرين أوجه بل ونرى أن مضمون الآية يجعل الرجحان للقول الأخير منهما. وقد ذهب إلى ذلك الزمخشري وأبو السعود وابن كثير في تفسيرهم للآية. ونص الرواية التي أوردها الأخير «قال مجاهد قال المشركون: الملائكة بنات الله، فقال أبو بكر: فمن أمهاتهن؟ قالوا: بنات سروات الجن» . وفي هذه العقيدة العربية إذا صحت الروايات التي قد تلهم الآية صحتها طرافة في مجال الخيال الديني. فالجن ناريون والملائكة نورانيون ومصاهرة الله للجن صفّت من نارهم نورا فكان منه الملائكة. [سورة الصافات (37) : الآيات 160 الى 163] إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163) . (1) فاتنين: مضلين. (2) صال الجحيم: الذي أهّلته أعماله ليكون من أهل النار أو يصلى النار.

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي وابن كثير والزمخشري والبغوي والخازن.

[سورة الصافات (37) : الآيات 164 إلى 166]

الآية الأولى ترديد لآية صارت بمثابة لازمة في هذه السورة حيث تكررت عقب فصولها مرارا وفيها تنزيه واستثناء لعباد الله المخلصين من أن يكونوا كالكفار والمشركين وأن يصيروا إلى مصائرهم. والآيات الثلاث التالية احتوت خطابا تنديديا موجها إلى الكفار المشركين بضمير المخاطب، تقول لهم فيه إنكم وما تعبدون من دون الله لن تستطيعوا أن تفتنوا وتضلوا إلّا من خبثت نيته واستحق أن يصلى النار. والآيات متصلة بما سبقها كما هو المتبادر. ولعلها تنطوي على دلالة على ما كان من جهد زعماء المشركين بسبيل المناضلة والمجادلة عن عقائدهم ومحاولتهم إقناع الناس بفضلها وصحتها حيث ينطوي في ذلك صورة من صور السيرة النبوية واعتداد المشركين بأنفسهم وعقائدهم وقد تكرر ذلك على ما نبهنا إليه في بعض المناسبات السابقة. [سورة الصافات (37) : الآيات 164 الى 166] وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) . وفي الآيات تقرير صادر من عباد مخلصين بأن كلا منهم عارف حده ومقامه وأنهم جميعا صافون لله مسبحون مقدسون له. تعليق على آية وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ والآيتين التاليتين لها وقد قال المفسرون «1» إن المحكي كلامهم هم الملائكة، وإن فيها تكذيبا للمشركين الذين عبدوا الملائكة على اعتبار أنهم بنات الله أو قالوا إن بينه وبينهم

_ (1) انظر تفسيرها في تفسير ابن كثير والطبرسي والخازن والبغوي والطبري.

[سورة الصافات (37) : الآيات 167 إلى 170]

نسبا. والقول وجيه مؤيد بسبق ذكر عقائد المشركين في الملائكة وعلى هذا فيكون بين الآيات وسابقاتها صلة وإن بدت كأنما جاءت معترضة في السياق. ويلفت النظر إلى أن العبارة لا تحتوي ما يدل على أنها حكاية لأقوال المقررين وإنما هي تقرير مباشر منهم. ولا يذكر المفسرون تعليلا وتأويلا فيما اطلعنا عليه. والآيات مماثلة أسلوبيا لآيات سورة مريم [64- 65] التي سبق تفسيرها وفيها كذلك مماثلة موضوعية لأن آيات مريم تحكي كلاما للملائكة أيضا ولقد علقنا على هذه الصورة الأسلوبية من صور الوحي القرآني بما فيه الكفاية في سياق تفسير آيات سورة مريم فلا نرى ضرورة للزيادة. [سورة الصافات (37) : الآيات 167 الى 170] وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) . في الآيات حكاية لما كان يقوله الكفار وهو: لو جاءهم ما جاء الأمم السابقة من ذكر الله وكتبه لآمنوا وكانوا عبادا مخلصين لله وحده. وردّ تنديدي عليهم فقد جاءهم ما كانوا يتمنون فكفروا به ونقضوا عهدهم وقولهم. وإنذار لهم على موقفهم، فلسوف يعلمون ويرون عاقبته السيئة. والآيات غير منقطعة عن السياق، ومعطوفة على ما سبقها ومن نوعه من حيث حكايتها لأقوال الكفار وردها عليهم. وهذا الذي حكته الآيات عن الكفار قد حكي عنهم أكثر من مرة في القرآن، وحكي عنهم في السورة السابقة لهذه السورة. ويظهر أن ذلك كان رغبة أو أمنية واسعة النطاق كثيرة الترديد فاستحكمتهم الحجة والتنديد استحكاما شديدا لتناقضهم بين القول والفعل. ولقد علقنا على الموضوع في سياق تفسير الآيات [42- 43] من سورة فاطر

[سورة الصافات (37) : الآيات 171 إلى 182]

والآيات [155- 157] من سورة الأنعام بما فيه الكفاية فلا ضرورة للإعادة والزيادة. [سورة الصافات (37) : الآيات 171 الى 182] وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182) . (1) وأبصرهم فسوف يبصرون: أنظرهم أو أنذرهم فسوف يرون تحقيق ما ينذرون. في الآيات تقرير رباني بأن الله تعالى قد وعد أنبياءه ورسله بالنصر وبأن جنده وحزبه هم الغالبون في النهاية. وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن الكفار وعدم المبالاة بهم واستمهالهم إلى الأمد المحدود المعين في علم الله فسوف يرون تحقيق وعيده. وتساؤل ينطوي على التبكيت والوعيد عما إذا كان الكفار يستعجلون عذاب الله حقا. وتقرير بأن هذا العذاب حينما يقع عليهم فإن صباح وقوعه يكون عليهم سيئا مشؤوما. وتكرار الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يعرض عنهم ويمهلهم إلى الأمد المحدود ويؤكد لهم رؤية ما يوعدون به. وتنزيه لله عما يصفه به الكفار وينسبونه إليه وتحية ربانية لرسل الله وتقرير بحمد الله رب العالمين الجدير وحده بذلك. والآيات كما هو المتبادر جاءت معقبة على ما انتهت إليه الآيات السابقة من إنذار الكفار وخاتمة لفصول المناظرة وخاتمة للسورة معا. وقوة هذه الخاتمة ملموسة نافذة، شأن كثير من خواتم حكاية مواقف الكفار ومشاهد مناظراتهم مع النبي صلّى الله عليه وسلم. وقد استهدفت فيما استهدفته توكيد الإنذار الرباني وإثارة الخوف في قلوب الكفار وتطمين النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وتثبيتهم.

وصيغة الآيات تحتمل أن يكون الإنذار فيها بما سيحدث للكفار في الدنيا، ويحتمل أن يكون بمصيرهم في الآخرة، ويحتمل أن يكون بما يكون لهم في الدنيا والآخرة على السواء. وهذا مما تكرر في القرآن ومن شأنه بعث القوة والثقة والثبات والشعور بالاستعلاء والنصر النهائي في نفس النبي وأصحابه من دون ريب. على أن الآيات قد صارت مصداقا لمعجزة ربانية بما تحقق من وعد الله بالنصر الذي تم للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على زعماء المشركين وبصيرورة كلمة الله هي العليا وكلمة الكافرين السفلى. وجملة فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ مما تكرر معناها بأساليب متنوعة مرّت أمثلة منه في السور التي سبق تفسيرها. وهي هنا كما هي في المواضع الأخرى بسبيل التثبيت والتسلية والتبشير والتطمين بنصر الله الذي وعد بالآيات التالية لها. وليست بقصد الإيعاز للنبي صلى الله عليه وسلم بالانصراف عن إنذارهم ودعوتهم. لأن هذا من مهمة النبي صلى الله عليه وسلم الأساسية التي لا يمكن أن ينقطع عنها وتوالي نزول القرآن بذلك مما يؤيد هذا.

سورة لقمان

سورة لقمان في السورة تنويه بالمؤمنين المحسنين وتقريع للكافرين المعطلين المستكبرين. وحكاية لبعض أقوالهم. وردود مفحمة عليهم وإشارة إلى لقمان وحكمته وجملة من مواعظ لابنه على سبيل ضرب المثل والحث على كريم الأخلاق والمبادئ. واستدراك في صدد طاعة الوالدين وتنويه بعظمة الله وسوابغ نعمه على الناس. وحث على الاستجابة إلى الدعوة وعدم إضاعة الفرصة. وتنديد بتمسك المشركين بتقاليد الآباء رغم سخفها وبطلها. وأسلوب السورة وترابط فصولها يسوغان القول إنها نزلت دفعة واحدة أو فصولا متتابعة. وقد روى المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآيات [27- 29] مدنية والرواية تتحمل التوقف لانسجام الآيات وتواثقها مع سائر الآيات السابقة واللاحقة لها. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) (1) المحسنون: هنا بمعنى الذين يعملون الأعمال الحسنة أو الذين يحسنون فيما يعملون أو يعملون أكثر مما يجب عليهم عمله.

[سورة لقمان (31) : الآيات 6 إلى 11]

بدأت السورة بحروف الألف، واللام، والميم، لاسترعاء السمع والذهن لما بعدها. وأعقبها إشارة تنويهية إلى آيات الكتاب المحكم في أسلوبه وأهدافه وعظاته، الذي فيه الهدى والرحمة لمن حسنت نيتهم وأعمالهم، التي منها إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإيمان اليقيني بحقيقة الحياة الأخروية وما وعد الله فيها. فهؤلاء هم على هدى الله وهم الناجحون الفائزون. وصيغة الآية الخامسة تنطوي كما هو المتبادر على التنويه بشأن الذين تحققوا بالصفات الثلاثة التي جمعت الآية الرابعة بينها، وينطوي فيها بطبيعة الحال حثّ على التحقق بها. وروح الآية الثالثة ومضمونها يلهمان تقرير كون الذين ينتفعون بآيات الكتاب ويكون لهم فيها هدى ورحمة هم ذوي القلوب السليمة والروح الطيبة الراغبة في الحق والخير والهدى. ولقد نبهنا إلى ما في التنويه بالمحسنين من مقصد جليل في تعليق كتبناه على الكلمة في سورة المرسلات التي سبق تفسيرها. وهذا المقصد الجليل بارز في هذه الآيات بروزا قويا كما هو المتبادر. [سورة لقمان (31) : الآيات 6 الى 11] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11) . (1) لهو الحديث: الباطل من الحديث الذي يلهي عن الحقيقة. (2) وقر: صمم. الجزء الرابع من التفسير الحديث 16

(3) عمد: جمع عمود أو عماد أي سند. (4) تميد بكم: تتحرك بكم. (5) من كل دابة: من كل نوع من أنواع الحيوان. (6) زوج: بمعنى صنف. في الآيات تنديد بفريق من الناس يتمسكون بالأحاديث الباطلة ليضلوا بها سامعيها عن سبيل الله دون علم. وحينما تتلى عليهم آيات الله استكبروا وولوا كأنهم لم يسمعوها أو كأن في آذانهم صمما يحول دون سماعها. وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بإنذار هؤلاء وتبشيرهم بعذاب الله المهين الأليم. وهناك مقابلهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات فقد وعدهم الله جنات النعيم وعدا حقا وهو العزيز القادر على تحقيق وعده الحكيم الذي يفعل كل شيء بحكمة وإتقان، والذي من آياته الباهرة خلق السموات وإمساكها بدون سند يراه الناس، وإرساء الجبال فوق الأرض لئلا تتحرك من تحتهم وتكبهم، وبثّه فيها من كل نوع من أنواع الدواب وإنزاله الماء من السماء وإنباته به من كل صنف كريم من صنوف النبات. وقد انتهت الآيات بالهتاف بالسامعين وتحديهم: فهذا ما خلق الله وأبدع فما الذي خلقه غيره من الآلهة التي يشركها الناس معه بالعبادة والاتجاه. ثم قررت حقيقة أمر الظالمين الذين يدعون غير الله فهم في ضلال ليس بعده ضلال. وقد روى بعض المفسرين «1» أن الآية الأولى عنت النضر بن الحرث الذي كان يرحل إلى بلاد فارس ويعود منها فيقول للناس إن محمدا يحدثكم عن عاد وثمود وأنا أستطيع أن أحدثكم عن رستم وإسفنديار وإن حديثي لأشهى من حديثه. والرواية محتملة مع التنبيه على أنها تكررت في مناسبات عديدة ومع التنبيه كذلك على أن الآيات وحدة منسجمة بحيث يمكن القول إنها نزلت جميعها- وليست الآية الأولى فقط- في صدد الموقف الذي ذكرته الرواية أو موقف مماثل له فيه تشويش من بعض نبهاء الكفار على القرآن. ومقابلته ما يتلى عليه منه بالاستهزاء

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الخازن.

تعليق على الآية ومن الناس من يشتري لهو الحديث وحديث ورد في صددها في الغناء والمغنيات

والاستخفاف والإعراض والاستكبار. ومن المحتمل أن يكون هذا الموقف وجاهيا كما أن من المحتمل أن تكون الآيات الأولى من السورة جاءت كمقدمة تمهيدية له. تعليق على الآية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ وحديث ورد في صددها في الغناء والمغنيات ولقد روى المفسرون عن أهل التأويل في الصدد الأول أن جملة لَهْوَ الْحَدِيثِ تعني الغناء. وأوردوا حديثا رواه الترمذي أيضا عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبيعوا القينات ولا تشتروهنّ ولا تعلّموهنّ ولا خير في تجارة فيهن وثمنهنّ حرام» «1» وفي مثل هذا أنزلت الآية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) ولقد علق ابن كثير على الحديث قائلا إنه غريب وإن أحد رواته وشيخه والراوي عنه كلهم ضعفاء. ومع هذه العلل فإذا صح الحديث فيكون فيه استلهام نبوي في العهد المدني من تلقين الآية وحسب. ومع أن الغناء في حدّ ذاته يمكن أن يوصف بصفة (اللهو) فالمتبادر من روح الآيات ومضمونها أن المقصود من الكلمة هو أوسع شمولا من الغناء بحيث يمكن أن تتناول كل باطل من قول وعمل مؤدّ إلى احتلال الناس وصرفهم عن الحق والطريق السوي والتلهي بذلك والاستهزاء والاستهانة به عن الحق. ولقد أورد الطبري الأقوال ثم قال إن الكلمة عامة تتناول الغناء والشرك وتتناول كل ما نهى الله ورسوله عن سماعه والاشتغال به، وهذا هو المتبادر من روح الآيات كما ذكرنا.

_ (1) انظر التاج ج 4 ص 180 والقينات تعني المغنيات.

تعليق على وصف الجبال بأنها جعلت لئلا تميد الأرض بالناس وعلى وصف السماء بأنها رفعت بدون عمد

تعليق على وصف الجبال بأنها جعلت لئلا تميد الأرض بالناس وعلى وصف السماء بأنها رفعت بدون عمد ووصف الجبال بأنها جعلت لئلا تميد الأرض بالناس ووصف السماء بأنها رفعت بدون عمد يراها الناس قد تكرر في سور أخرى ترتيبها متأخر عن هذه السورة. والإيمان بما جاء في القرآن في صدد المشاهد الكونية واجب مع واجب الوقوف عند ما اقتضت الحكمة وحيه بالأسلوب الذي جاء به واستشفاف الحكمة في ذلك. والمتبادر من ذلك أن هذا الوصف مما كان مستقرا أيضا في أذهان السامعين الذين كانوا يعترفون بالله وكونه خالق السموات والأرض على ما ذكرناه في مناسبات سابقة فاقتضت حكمة التنزيل التذكير بها من خلال ذلك بقدرة الله وإبداعه والتدليل على شمول قدرته للبعث والجزاء الأخرويين أيضا. وعلى كل حال إن القرآن لم يقصد تقريرات فنية لأن ذلك خارج عن هدفه في الهداية والإرشاد على ما شرحناه في مناسبات سابقة. وعلى ضوء هذا الشرح تبدو الآيات قوية رائعة في تذكيرها وتنويهها وتحديها، والله أعلم. [سورة لقمان (31) : الآيات 12 الى 19] وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)

(1) الحكمة: حسن التدبر والإدراك وبعد النظر وسعة العقل. (2) الجمهور على أن جملة (أن أشكر لله) وما بعدها هي خطاب رباني للقمان أي أننا آتيناه الحكمة وأمرناه أن يشكر الله إلخ. (3) وهنا على وهن: ضعفا على ضعف. أي حملته أمه على ضعفها فزاد ضعفها بحمله. (4) فصاله في عامين: إرضاعه عامين ثم فطمه حيث كان العرب يرون ذلك هو الأفضل. وقد جاء هذا صريحا في آية سورة البقرة هذه: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [233] والفصال بمعنى الفطام. (5) إن جاهداك: إن بذلا جهدهما معك وألحّا عليك. (6) وصاحبهما في الدنيا معروفا: وعاشرهما وكن لهما صاحبا رفيقا في الدنيا مما هو متعارف عليه ومحمود من الأبناء للآباء. (7) من أناب إليّ: من آمن بي وسلك سبيلي واتجه إليّ. (8) المعروف: كل ما هو متعارف على أنه خير وصالح وطيب. (9) المنكر: كل ما هو متعارف على أنه شر وضار وخبيث. (10) لا تصعّر خدك للناس: تصعير الخد بمعنى لوي الوجه أو العنق والجملة بمعنى النهي عن التكبّر والزهو والخيلاء. (11) مرحا: بطرا وزهوا. (12) المختال: الذي يمشي متمايلا منتفخا بالكبر والزهو. (13) فخور: الذي يتفاخر بنفسه وقوته وماله. (14) اقصد في مشيك: اعتدل وتوسط في مشيك أو تأنّ بدون اختيال. (15) اغضض من صوتك: اخفض صوتك وخففه.

(16) أنكر الأصوات: أقبح الأصوات وأشدها بعثا على الإنكار والاشمئزاز، ولعل المناسبة هي علو صوت الحمير حيث جاء التشبيه مقابل الأمر بالغض من الصوت وعدم رفعه. الآيات احتوت إشارة إلى لقمان الحكيم ومواعظه لابنه، فذكرت أن الله قد آتى لقمان الحكمة وأوجب عليه الشكر من أجلها، ونبهه على أن الذي يشكر فإنما يفيد نفسه وأن الله غني عمن يكفره حميد لمن يشكره. وأنه وقف من ابنه موقف الواعظ فنهاه عن الشرك بالله واصفا له بالظلم العظيم. ونبهه إلى بعض مظاهر عظمة الله وقدرته وإحاطته بسبيل التدليل على حقه وحده بالخضوع والعبادة. فلو كانت حبة من خردل وكانت في داخل صخرة أو في أي ناحية من أنحاء السماء أو الأرض لأحاط علم الله بها واستحكمت سيطرته عليها. وأمره بإقامة الصلاة لله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر في الخطوب والملمات وعدم الجزع. وبيّن له ما في ذلك من الدلالة على قوة النفس والخلق والعزيمة. وحذره من التكبر والظهور بمظهر الزهو والبطر والاختيال، وحثّه على الاعتدال والتواضع والدماثة وحسن الخلق في صلاته بالناس وفي حديثه وفي سيره ومشيه. وقد تخلل المواعظ حكم واستطرادات، منها ما هو حكاية عن لسان لقمان. ومنها ما هو تقرير قرآني مباشر: 1- فالله سبحانه غني عن شكر الناس له كما أنه لا يضرّه كفرهم، فالشاكر ينفع نفسه والكافر يضر نفسه. والله مستوجب للحمد والوجود بذاته مستغن عن غيره سواء أحمده الناس أم لم يحمدوه واعترفوا به أم جحدوه. 2- والله أوجب على الإنسان البر بوالديه والشكر لهم وقد حملته أمه بخاصة، وقاست في سبيل ذلك، ثم في سبيل إرضاعه عامين جهدا ومشقة، فضلا عما بعد ذلك. غير أن واجب الشكر عليه لوالديه لا يجوز أن يصل إلى طاعتهما في الشرك بالله. ففي حالة طلبهما منه ذلك وإلحاحهما عليه لا يكون عليه لهما حق الطاعة وكل ما يكون عليه معاملتهما ومعاشرتهما بالمعروف والحسنى في شؤون

تعليق على شخصية لقمان وما في مواعظه من تلقين

الدنيا من جهة، واتباع من يكون مهتديا بهدي الله وسائرا في سبيله في أمور الدين من جهة أخرى. فمرجع الناس جمعيهم إلى الله وهو ينبئهم بما عمل كل منهم ويحكم على كل منهم بحسب عمله. 3- والله لا يحب الذين يتكبرون على الناس ويختالون ويتفاخرون بأنفسهم وقوتهم ومالهم. 4- وليس في رفع الصوت وترعيده أي مزية ومحل زهو فأعلى الأصوات ارتفاعا هو صوت الحمير وهو أنكرها وأبشعها. وروح الآيات ومضمونها يلهمان أنها جاءت على سبيل الاستطراد وضرب المثل وأنها غير منقطعة عن الآيات السابقة لها، حيث احتوت تلك وصف مواقف التكبر والزهو والتعطيل التي يقفها الكفار حينما تتلى عليهم آيات الله ويدعون إلى سبيله. واحتوت هذه تقبيحا لهذه الأخلاق وتنديدا بالشرك على لسان حكيم مهتد بهدي الله وسائر في سبيله. وقد وصف المشركون في الآيات السابقة بوصف الظالمين ووصف الشرك في هذه بالظلم العظيم، مما فيه تساوق وترابط بين المجموعتين. تعليق على شخصية لقمان وما في مواعظه من تلقين وقد تعددت الأقوال في شخصية لقمان، فهو عبد حبشي حكيم وصالح في قول، ونبي في قول، وقاض من قضاة بني إسرائيل في قول، وابن باعوراء بن ناحور بن تارخ أي حفيد أخي إبراهيم عليه السلام في قول، وعبد أسود عظيم الشفتين مشقق القدمين من سودان مصر أو النوبة في قول، أو عبد لبني الحسحاس في قول، وجميع الأقوال غير موثقة «1» . ومهما يكن من أمر فروح الآيات تلهم أن اسم لقمان ليس غريبا على السامعين بل وليس غريبا عن العرب والعربية. فصيغته صيغة عربية، ونرجح أنه

_ (1) انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن والزمخشري.

مشتق من (لقم) وهذا وذاك قد يدلان على عروبة المسمى. ولقد ذكرت الروايات «1» أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي في مكة زعيما من زعماء الأعراب اسمه سويد بن الصامت فدعاه إلى الإسلام فقال له: لعلك تدعو إلى دعوة لقمان وإن معي مجلته ثم تلا ما فيها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هذا حسن ولكن اسمع مني كلام الله فهو أحسن. ولا بد من أن تكون مجلة لقمان عربية اللغة كما هو المتبادر مما يمكن أن يرجح أصله العربي. ولقد أورد المفسرون بعض أقواله ونوادره والامتحانات الربانية التي تعرض لها، عزوا إلى علماء السير والأخبار «2» . منها المعقول ومنها الغريب. وتدل على كل حال على أن اسم لقمان وأخباره مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ما جاء عنه في القرآن مما كان متسقا مع ما يعرفونه عنه وعن حكمته. ومما أورده ابن كثير عنه أن رجلا وقف عليه فقال له: (أنت لقمان عبد بني الحسحاس؟ قال نعم، قال أنت راعي الغنم؟ قال نعم. قال أنت الأسود؟ قال أما سوادي فظاهر. فما الذي يعجبك من أمري؟ قال وطء الناس بساطك، وغشيانهم بابك، ورضاؤهم بقولك. قال له يا ابن أخي إن صغيت إلى ما أقول لك كنت كذلك. ثم قال: «غضّي بصري وكفّي لساني وعفة طعمتي وحفظي فرجي وصدقي بقولي ووفائي بعهدي وتكريمي لضيفي وحفظي جاري وتركي ما لا يعنيني. ذاك الذي صيرني إلى ما ترى» . ومما أورده الطبري «إن مولاه أمره بذبح شاة وإخراج أطيب مضغتين فيها فأتاه بلسانها وقلبها. ثم أمره بذبح شاة أخرى وإخراج أخبث ما فيها. فأتاه بلسانها وقلبها. فسأله مولاه فقال له ليس أطيب منهما إن طابا ولا أخبث منهما إن خبثا» . وهذا متسق مع ما يقرره القرآن بأسلوبه الرائع من الحكمة التي آتاه الله إياها. وحكاية مواعظ لقمان لابنه ليس من شأنها بطبيعة الحال أن تفقد الآيات وأسلوبها قوة ما احتوته من المبادئ وروعة الأسلوب ولذعته سواء أفي التنفير من الكبر والخيلاء وسلاطة اللسان أم في الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن

_ (1) سيرة ابن هشام ج 2 ص 34- 36. (2) انظر كتب التفسير المذكورة سابقا.

المنكر والصبر في الخطوب وعدم الجزع أم في وجوب الشكر لله وفائدة ذلك للإنسان مع تقرير استغناء الله عنهم شاكرين كانوا أم كافرين. أم في تعظيم ما في الشرك من ظلم وإثم وسخف. من حيث إن ما يرد في القرآن من ذلك ولو جاء على لسان لقمان هو أيضا مما يجب على المسلم أن يعتبره موجها إليه وأن يلتزم به، وينسحب هذا على ما ورد في القرآن من أوامر ونواه أخلاقية واجتماعية محكية عن الله عز وجل وموجهة إلى الأنبياء وأقوالهم، أو محكية عن رسل الله وغيرهم. والمفسرون يعتبرون ذلك كذلك ويديرون الكلام عنه على هذا الاعتبار. وقد نبهنا على ما في كلام ملكة سبأ عن الملوك وعلى ما في كلام قوم قارون لقارون، من ذلك في سورتي النمل والقصص، وعلى ما في كلام الله الموجه لرسله وكلام رسله الموجه إلى أقوامهم من ذلك في سياق السور التي سبق تفسيرها وفيها قصص الأنبياء. وعلى اعتبار أن في مواعظ لقمان أخلاقيات متنوعة وأن ما وجه من الله إليه هو موجه إلى المسلمين أيضا. فإن المفسرين وبخاصة ابن كثير أورد على هامش هذه الآيات أحاديث متنوعة. منها ما ورد في الصحاح ومنها ما لم يرد، وقد أوردنا بعض ما ورد في الصحاح منها في سياق مجموعة سورة الإسراء ونورد فيما يلي بعض ما لم نورده. من ذلك في صدد جملة وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ حديث قدسي رواه مسلم عن أبي ذرّ عن رسول الله عن الله تعالى قال: «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئا إلّا كما ينقص المخيط إذا دخل البحر» . وفي صدد حسن الخلق وحسن التعامل مع الناس حديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خياركم أحاسنكم أخلاقا» . وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكثر ما يدخل الناس الجنة قال تقوى الله وحسن الخلق» . وحديث رواه مسلم

تعليق على حدود واجب الأولاد إزاء الآباء

وأبو داود عن عياض عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد» . ولقد علقنا في سورة الأعراف على موضوعي واجب الشكر لله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأوردنا ما ورد في ذلك من أحاديث فنكتفي بهذا التنبيه دون الإعادة. تعليق على حدود واجب الأولاد إزاء الآباء والآيتان [14 و 15] وإن كانت صيغتهما تلهم أنهما تقريرات مباشرة وأنهما منفصلتان عن حكاية مواعظ لقمان أو معترضتان بينهما فإنهما تلهمان كذلك وجود مناسبة بين ما احتوتاه وبين هذه المواعظ. ولقد ورد في سورتي الإسراء والأنعام اللتين سبق تفسيرهما آيات قررت وجوب البرّ بالوالدين والإحسان في معاملتهما وخفض جناح الذل لهما إطلاقا، فجاءت الآيتان هنا للاستدراك بأن الله إذ يوصي الأولاد بالبرّ بآبائهم وشكرهم فإنه يجعل طاعتهم في حدود طاعة الله تعالى والإيمان به والإخلاص له وحده. فإذا دعا الوالدان أو أحدهما ابنهما إلى الشرك بالله فلا تجب عليه طاعتهما، وكل ما يجب عليه معاملتهما بالبر في الحياة الدنيا، ثم اتباع سبيل الله والذين يدعون إليه ويسيرون فيه. وهكذا يتقرر مبدأ قرآني جليل وهو أن الطاعة لمن تجب له لا يجوز أن تتجاوز حدود الحق والمعروف، فلا طاعة لمخلوق في معصية وباطل وإثم. وفي آية سورة الممتحنة هذه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) وفي حديث رواه الخمسة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحبّ أو كره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» «1» .

_ (1) التاج ج 3 ص 40.

ولقد ذكرت الروايات «1» أن الآيتين نزلنا في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأمه. فقد آمن سعد في شبابه في جملة من آمن من شباب قريش فأخذت أمه تحاول ردّه عن الإسلام وتهدد بالإضراب عن الطعام مما كان يثير فيه أزمة نفسية فأنزل الله الآيتين لتقرير كون طاعة الوالدين والبرّ بهما إنما تجب في حدود الإخلاص له وعدم الشرك به. والرواية تقتضي أن تكون الآيتان نزلتا لحدتهما مع أنهما منسجمتان في السياق. وهذا لا ينفي أن تكون حالة سعد مع أمه واقعة صحيحة، وتكون الآيتان والحالة هذه قد تضمنتا الإشارة على سبيل الاستطراد إلى هذه الحالة أو ما يماثلها من حالة فيها فساد بين والد أو أم من المشركين وولد مؤمن، وكان فيه تساؤل وحيرة وأزمة نفسية. وقد تكرر هذا في سورة العنكبوت أيضا حيث جاء فيها هذه الآية: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) مما يسوغ القول أن المسألة لم تكن مسألة شخص سعد لحدته، وإنما كانت أكثر من شخص. وهذا مما أوضحته روايات السيرة «2» التي ذكرت عددا غير يسير من شباب قريش وفتيانهم آمنوا بالرسالة المحمدية رغم بقاء آبائهم على الكفر والشرك، وتعرضوا لاضطهاد وضغط آبائهم، وهاجروا إلى الحبشة نتيجة لذلك مثل خالد بن سعيد بن العاص وامرأته أمينة بنت خلف، وأخوه عمرو وامرأته فاطمة بنت صفوان، والأسود بن نوفل بن خويلد وعامر بن أبي وقاص، والمطلب بن أزهر بن عوف وامرأته رملة بنت أبي عوف، وعبيد الله بن جحش وامرأته رملة بنت أبي سفيان، وعثمان بن ربيعة، ومعمر بن عبد الله ومالك بن ربيعة بن قيس بن عبد شمس وامرأته عمرة، ويزيد بن زمعة بن الأسود وغيرهم وغيرهم رضوان الله عليهم. ومما روي عن سعد «3» أن أمه اشتدت في الإلحاح عليه وقالت له: لأضربن

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري. (2) انظر ابن هشام ج 1 ص 340 وما بعدها. (3) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري.

تعليق على وصف الشرك بالظلم العظيم

عن الطعام حتى أهلك فيعيرك الناس، فقال لها: يا أمه والله لو كان لك مائة نفس وخرجت منك واحدة بعد أخرى ما تركت ديني وفي هذا صور رائعة من صور السيرة النبوية. ومن المتبادر أن يكون الشباب الذين آمنوا رأوا أنفسهم في حرج لأن آيات الإسراء والأنعام تأمرهم بالبرّ والإحسان بوالديهم إطلاقا فأفضوا بحرجهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقتضت حكمة التنزيل نزول هذه الآيات للاستدراك ورفع الحرج وفي هذه صورة من صور تطور التنزيل القرآني. تعليق على وصف الشرك بالظلم العظيم ووصف الشرك بالظلم العظيم جدير بالتنويه لما فيه من تعظيم إثم الشرك. ويتضح عظم هذا الإثم ومصداق هذا الوصف إذ يلاحظ أن المشرك يجني على نفسه جنايات متنوعة فهو أولا يناقض نفسه ويظهرها في مظهر السخف والغباء في اعترافه بالله الخالق المدبر النافع الضار، ثم إشراك غيره معه في الدعاء والاتجاه والعبادة. وثانيا يعرض نفسه لسخط الله وغضبه في شذوذه عن الحق وما يجب عليه من الإخلاص له وحده وفي تسويته بينه وبين بعض خلقه. وثالثا يخضع نفسه لمفهومات وتصورات وقوى باطلة لا حقيقة لها وليس من شأنها أن تجلب له خيرا أو تدفع عنه ضرا. تعليق على اختصاص الأم بالذكر واختصاص الأم بالذكر جدير بالتنويه أيضا حيث ينطوي فيه من ناحية تنبيه إلى الحنان العظيم الذي تمنحه الأم لوليدها، ومن ناحية تنبيه إلى ما يجب على الأولاد نحو أمهاتهم خاصة من واجب البر والرحمة. ولقد أخرج البخاري ومسلم حديثا عن أبي هريرة جاء فيه أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من أحقّ الناس بحسن صحبتي يا رسول الله؟ قال له: أمّك، قال: ثمّ من؟ قال: أمّك، قال: ثم

[سورة لقمان (31) : الآيات 20 إلى 21]

من؟ قال: أمّك، قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك «1» . وأخرج الترمذي وأبو داود حديثا عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت يا رسول الله من أبرّ؟ قال: أمّك، ثم أمّك ثم أمّك ثم أباك ثم الأقرب فالأقرب «2» . وأخرج الطبراني حديثا عن طلحة بن معاوية السلمي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا رسول الله إني أريد الجهاد في سبيل الله، قال: أمّك حيّة؟ قلت: نعم، قال: الزم رجلها فثمّ الجنة «3» . وأخرج الطبراني أيضا حديثا عن أبي أمامة جاء فيه إن أول ما تفوّه به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أن وصّى بالأمهات «4» ، حيث يبدو التساوق بين تنويه كتاب الله عز وجل ووصايا رسوله صلى الله عليه وسلم. [سورة لقمان (31) : الآيات 20 الى 21] أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) . (1) أسبغ: أتمّ أو أوفى. وجّه الكلام في الآية الأولى إلى السامعين المخاطبين على سبيل الالتفات فنبهوا إلى ما سخّره الله لهم من وسائل وقوى في السموات والأرض، وما أسبغه عليهم من نعمه الظاهرة والباطنة مما يقع تحت مشاهدتهم الحسية، ويرون آثاره في أنفسهم وما يحيط بهم ومما يكفل لهم السلام والقوة والرخاء. ثم أشير إشارة تنديدية إلى الذين يجادلون رغم ذلك في الله ووحدته وعظمته وحقه وحده بالخضوع والإخلاص جدالا لا يستند إلى علم وهدى ولا كتاب. واستمرت الآية

_ (1) التاج ج 5 ص 4. (2) الجزء نفسه ص 5. (3) مجمع الزوائد ج 8 ص 138. [.....] (4) الجزء نفسه ص 139.

تعليق على الحملة القرآنية على التمسك بتقاليد الآباء

الثانية في التقريع بهم، وحكت ما يقولون إذا ما دعوا إلى اتباع ما أنزل الله حيث كانوا يجيبون أنهم يفضلون اتباع ما وجدوا عليه آباءهم. وانتهت الآية بسؤال استنكاري لاذع عما إذا كان هؤلاء يقفون هذا الموقف العنيد ولو كان الشيطان هو الذي يمليه عليهم ويدفعهم به إلى عذاب السعير في الحقيقة وواقع الأمر. وفي الآيتين وصل بين أجزاء المشهد الذي بدىء بحكايته في آيات السورة الأولى والذي اعترضته آيات لقمان على سبيل الاستطراد وضرب المثل إذا ما أمعن النظر فيها. وقد روي «1» أن الآيتين نزلتا في الحارث بن النضر وآخرين من زعماء المشركين كانوا يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم في صفات الله وشفاعة الملائكة وصلة عقائدهم بالله وكون ما هم عليه وما كان آباؤهم عليه هو الأولى بالاتباع. وروح الآيتين تتسق إجمالا مع الرواية وتلهم أنهما بسبيل وصف موقف جدل وحجاج مع زعماء الكفار مثل الآيات الأولى من السورة. وكل ما هناك أن تسلسل السياق يلهم أن الآيتين لم تنزلا لحدتهما من أجل هذا الموقف وإنما احتوتا الإشارة إليه في سياق حكاية مواقف الكفار ومشاهد جدلهم بصورة عامة. ولذعة الفقرة الأخيرة من الآية الثانية قوية حقا، وفيها صدى للصرخة القوية الجريئة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يوجهها بلسان القرآن إلى الكفار وزعمائهم حينما تنعقد بينهم وبينه مواقف مناظرة أو يحتدم الجدل واللجاج. تعليق على الحملة القرآنية على التمسك بتقاليد الآباء والآية التي احتوت حكاية قول الكفار بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا والتنديد بهم فيها بسبب قولهم تأتي بصيغتها لأول مرة. وقد تكرر فحواها مرارا في القرآن المكي والمدني حيث يدل هذا على شدة تمسك كفار العرب بتقاليد آبائهم واعتبارهم إياها مقدسة واعتبار الدعوة إلى تركها بدعة وعدوانا. ومن المرجح أن الموقف الشديد الذي وقفوه من الدعوة النبوية التي فيها تهديم لكثير من تلك

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الخازن والطبرسي وغيرهما.

تعليق على جملة ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة

التقاليد متأتّ من ذلك أو أن ذلك من أهم أسبابه. ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن هذا ليس خاصا بالعرب وإنما هو قدر مشترك بين الناس جميعا حيث لا يستسيغ التساهل في التقاليد الموروثة أو تركها إلّا الفئة النيرة الفتية التي تفتحت أذهانها ولم تكن تلك التقاليد راسخة فيها. ولعل هذا يفسّر لنا حكمة الله عز وجل في اختصاص النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة ولما يتجاوز سنّ الشباب، ويفسر لنا كون معظم أفراد الرعيل الأول من السابقين إلى الإسلام هم من زمرة الشباب وغير المتقدمين في السن كأبي بكر وعمر وعثمان وسعد وعلي وأبي عبيدة وجعفر وأبي سلمة وخالد بن سعيد وطلحة والزبير وسعيد وغيرهم وغيرهم رضوان الله عليهم. ولعل بين هذا الذي نقرره في مناسبة الآيتين وبين آيات لقمان ثم بينه وبين تقرير سقوط حق الطاعة على الأبناء إذا ما أرادهم آباؤهم على الشرك مناسبة قوية أيضا. فكثير من أفراد هذا الرعيل من قريش شبّانا وفتيات آمنوا رغم آبائهم بل ومنهم من كان آباؤهم يقودون حملة المعارضة الشديدة ضد النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته. ولقد بقي معظم شيوخ بني هاشم عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم الأقربين على الشرك تمسكا بتقاليد الآباء وفي مقدمتهم أبو طالب عمّه وحاميه وأبو جعفر وعليّ اللذين اتبعا دين ابن عمهم وأسلما في أول الدعوة، مع أنهم كانوا يعلنون حمايتهم له بدافع العصبية. وغني عن البيان أن التنديد القرآني بالتمسك بتقاليد الآباء التي لا تستند إلى علم وحق ومنطق يحتوي تلقينا عاما مستمر المدى في صدد تقبيح التمسك بالتقاليد الموروثة تمسكا أعمى والاعتذار بها عن اتباع ما هو الأفضل، وفي هذا ما فيه من روعة وجلال. تعليق على جملة أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وجملة أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ

[سورة لقمان (31) : الآيات 22 إلى 24]

ظاهِرَةً وَباطِنَةً مستمدة من مشاهدات الناس وممارساتهم وأن سامعي القرآن مباشرة يعرفون مداها، فقصدت حكمة التنزيل تنبيههم إلى ما يعرفون ويتمتعون به من فضل الله عليهم، وواجب الاعتراف به والشكر على ذلك. ولا نراها من جهة أخرى تقتضي أن يكون معناها إن الله خلق السموات والأرض وما فيهما لأجل بني الإنسان خاصة ولكنها قد تنطوي مع ذلك على تقرير اختصاصهم دون غيرهم من الأحياء بالتغلب على ما في السموات والأرض من قوى ونواميس وتسخيرها والانتفاع بها نتيجة لما اختصهم به من تكامل عقلي. وهكذا يكون هذا المعنى قائما واسع المدى متساوقا مع تطور العقل والفكر والمعارف الإنسانية والنشاط الإنساني في كل ظرف ومكان. ويكون قد انطوى على حث الإنسان والمسلمين بخاصة على الانتفاع بهذه القوى والنواميس بمختلف الأساليب والوسائل والصور. وقد تكرر تقرير ذلك فيما يأتي من السور. وفي بعضها يبدو المعنى أوضح على ما سوف ننبه عليه في مناسباته. [سورة لقمان (31) : الآيات 22 الى 24] وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24) . معاني الآيات واضحة، وقد جاءت معقبة على سابقاتها كما هو المتبادر، واحتوت في الوقت نفسه تسلية للنبي على عناد الكفار وأقوالهم وتمسكهم بتقاليد الآباء الباطلة وإنذارا لهم فلا ينبغي للنبي صلى الله عليه وسلم أن يحزن من كفرهم. وقصارى أمرهم متعة قصيرة الأمد ثم يصيرون إلى العذاب الشديد الخالد الذي استحقوه. واحتوت كذلك حثّا على إسلام النفس لله عز وجل والاتجاه إليه وحده والجمع بين ذلك وبين الأعمال الحسنة الصالحة وتنويها بالذين يفعلون ذلك. فإنهم يستمسكون بعروة وثقى لا تنفصم. وأسلوب الآيات من الأساليب الصريحة المحكمة التي تقرر كسب الناس

[سورة لقمان (31) : الآيات 25 إلى 26]

لأعمالهم واستحقاقهم للجزاء وفق ذلك والتي تكرر أمثالها كثيرا. [سورة لقمان (31) : الآيات 25 الى 26] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) . الآيتان استمرار في السياق التعقيبي وفيهما التفات إلى المشركين وتنديد بهم بسبب ما يبدو منهم من تناقض، فلو سئلوا عمن خلق السموات والأرض لأجابوا أنه الله ثم يقفون من الدعوة إليه وحده ومن رسوله موقفهم العنيد العجيب. وقد أمرتا النبي صلى الله عليه وسلم بأن يحمد الله على هداه، وقررتا حقيقة أمر الكفار وهي أن أكثرهم جاهلون فيقعون في التناقض جهلا وحمقا. كما قررتا حقيقة من حقائق الله عز وجل وهي أن كل ما في السموات والأرض له، وأنه الغني عن الناس، المستوجب للوجود والحمد، سواء آمنوا به أم جحدوه. والآية الأولى صريحة في تقرير عقيدة مشركي العرب بكون الله هو الخالق الرازق المتصرف في الكون مما حكته آيات عديدة أخرى مرّت أمثلة منها في السور السابقة. ومن هنا جاء الإفحام قويا مستحكما ضدهم. [سورة لقمان (31) : الآيات 27 الى 30] وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) . (1) كلمات الله: المتبادر أنها تعني آياته ومخلوقاته ومشاهد ربوبيته ونواميسه الكونية وحكمه. الجزء الرابع من التفسير الحديث 17

في الآيات: 1- تقرير بأنه لو قطّعت كل شجرة في الأرض وجعلت قطعها أقلاما وصار البحر ومعه سبعة أبحر مدادا لتدوين آيات الله وآلائه ومشاهد ربوبيته ونواميسه ومخلوقاته وحكمه لنفدت الأقلام والمداد ولم تنفد هذه الآيات والآلاء والمشاهد والنواميس والمخلوقات والحكم، فهو العزيز الجانب القادر الحكيم في كل ما يقضي ويخلق ويشاء. 2- وتقرير آخر بأن خلق الناس جميعا وبعثهم جميعا بالنسبة إليه ليس إلّا كخلق نفس واحدة وبعثها. وهو السميع لكل ما يقال، البصير لكل ما يكون. 3- وسؤال في معنى التقرير بأن الله هو الذي يعاقب بين الليل والنهار فيدخل الليل على النهار والنهار على الليل. وأنه هو الذي سخر الشمس والقمر ليجريا وفقا للنظام الذي رتبه لهما إلى الأجل المعين في علمه وحكمته. وأنه هو الخبير بكل ما يفعله الناس، وأن في هذه المشاهد التي يراها الناس بأعينهم ويتمتعون بفوائدها أقوى الأدلة على قدرته وعظمته وأفضاله، وأنه هو الحق وحده المستحق للعبادة والدعاء والخضوع وحده، وأن ما عداه مما يدعوه المشركون باطل، وأنه هو العلي الكبير الذي لا يدانيه شيء في علوه وعظمته. والمتبادر أن الصلة بين هذه الآيات والآيات السابقة وثيقة وأنها استمرار في تقرير المعاني التي احتوتها تلك الآيات وتوكيد لها من جهة، ولإفحام المجادلين المكابرين الذين حكيت أقوالهم ومواقفهم وعقائدهم في تلك الآيات من جهة أخرى. وقد جاءت بأسلوب قوي نافذ إلى القلوب والعقول معا، وتضمنت فيما تضمنته حقيقة يقينية يظهر كل يوم مظهر من مظاهرها وأثر من آثارها فيما ينكشف للناس نتيجة لتقدم العلوم من عظمة كون الله ونواميسه وحكمته وتجاوز ذلك كل معنى من معاني التحديد مما يثير الدهشة والذهول. والآية الثانية [28] جاءت بأسلوب المخاطب. ونرجح أنها موجهة للمشركين الذين ينكرون البعث الأخروي بسبيل الرد عليهم. فهم يعترفون بأن الله

تعليق على رواية مدنية الآيات [27، 28، 29]

هو الذي خلق السموات والأرض كما جاء في الآية [25] وهم يعترفون بأن الله هو الذي خلقهم كما جاء في آية سورة الزخرف هذه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) فمن المناقضة أن يعترفوا بقدرة الله بدءا وينكروها إعادة، ومن الغباء أن يظنوا أن هناك تحديدا لقدرة الله وفرقا بالنسبة إليها بين خلق فرد وبين خلق جميع الناس وبعثهم، وفي ما هو ماثل أمامهم من عظمة كون الله الذي يعترفون بخلقه إياه وبآياته ونواميسه الباهرة فيه برهان لا يدحض على ذلك. وجملة أَلَمْ تَرَ التي تبدأ بها الآية الثالثة قد تلهم أن سامعي القرآن يعرفون ويفهمون مدى ما احتوته الآيات من نواميس كونية ربانية، وبذلك يستحكم في المشركين منهم التنديد القرآني بقوة أشد، والله تعالى أعلم. وفي القرآن آيات فيها جملة أَوَلَمْ يَعْلَمُوا في مقام (أولم يروا) كما هو الأمر في الآية [37] من سورة الروم والآية [52] في سورة الزمر. تعليق على رواية مدنية الآيات [27، 28، 29] ولقد روى المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآيات [27 و 28 و 29] مدنيات. ولقد روى الطبري عن ابن عباس: «أن أحبار يهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة يا محمد أرأيت قوله وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا الإسراء: [85] . إيانا تريد أم قومك فقال: كلاكما. فقالوا ألست تتلو فيما جاءك إنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان كل شيء؟ فقال: إنها في علم الله قليل وعندكم من ذلك ما يكفيكم فأنزل الله فيما سألوه عنه من ذلك وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ ... إلخ [27] ونحن نتوقف في هذه الرواية وفي رواية مدنية الآيات بالتبعية لأنها منسجمة مع ما قبلها وبعدها انسجاما وثيقا سبكا ومعنى وتوجيها وموضوعا على ما يبدو عند إنعام النظر. ولا تفهم أي حكمة لوضعها لو كانت مدنية في هذا السياق. وقد روى بعض المفسرين «1» أن بعض المشركين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم ذلك

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير البغوي.

[سورة لقمان (31) : الآيات 31 إلى 32]

السؤال بإيعاز من اليهود. وقد يكون هذا صحيحا لأن من المشركين من كان يحاول إفحام النبي صلى الله عليه وسلم ومحاجته في ما يتخيله من تناقض في ما يتلوه من الفصول القرآنية. وقد كان في مكة والمدينة يهود كثيرون، ولا يبعد أن يكون بعضهم وسوس لبعض المشركين بإلقاء ذلك السؤال بقصد التعجيز والإفحام وإظهار التناقض أيضا. غير أن الذي نرجحه أن الآيات لم تنزل لحدتها منفصلة عن ما سبقها ولحق بها، والصلة الوثيقة بين ما سبقها ولحق بها بارزة. وكل ما يحتمل أنها احتوت ردا على ما أورده أو احتج به بعض المشركين أو بعض الكتابيين في موقف من المواقف. [سورة لقمان (31) : الآيات 31 الى 32] أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) . (1) صبّار: شديد الصبر والثبات. (2) الظلل: جمع ظلة. وهي هنا كناية عن عظمة الموج وارتفاعه حتى كأنه يظلل الركاب والسفن. (3) مقتصد: معتدل في جحوده وغلوائه. ومن المفسرين «1» من أوّل الكلمة بأنه الذي كفّ عن غلوائه ووفى بعهده بالإخلاص لله بعد أن نجاه الله من خطر البحر. ولا يخلو التأويل من وجاهة بقرينة الجملة التي أتت بعد الكلمة. (4) ختّار: شديد الختل والغدر.

_ (1) انظر تفسير الآية في الطبري والطبرسي.

[سورة لقمان (31) : الآيات 33 إلى 34]

في الآية الأولى سؤال تقريري بقصد لفت النظر إلى أحد النواميس الكونية في سير المراكب فوق البحار، وما في ذلك من نفع للناس، وفرص لمشاهدتهم آثار الله وآياته في كونه. فإن ذلك هو من نعم الله، وفيه دلائل راهنة على عظمته وقدرته، يدركها الصابرون الثابتون عند حدود الله، الشاكرون لنعمه وأفضاله. وفي الآية الثانية حكاية تنطوي على التعجب والتقريع لحال بعض الناس الذين يركبون البحر، فإذا تعاظمت أمواجه حتى أصبحت كالظلل من فوقهم، وأحدق بهم الخطر ذكروا الله وحده ودعوه وحده مخلصين له الدين. فإذا ما نجاهم إلى البرّ فمنهم من يكفّ عن غلوائه ويبقى على إخلاصه الذي عاهد الله عليه، ومنهم من ينكث ويغدر، وهذا دأب الختار الجحود. والمتبادر أن الآيتين متصلتان بما سبقهما اتصال سياق وموضوع وأسلوب. ولقد روي «1» أنهما نزلتا في عكرمة بن أبي جهل الذي فرّ من مكة حينما فتحها النبي صلى الله عليه وسلم وركب البحر فأحدق به الخطر فعاهد الله لئن نجاه ليؤمنن فنجاه فآمن. ويلحظ أن الآيتين مكيتان ولم نقع على رواية لمدنيتهما أولا. وأنهما منسجمتان مع السياق أسلوبا وموضوعا ثانيا. وأن مثل هذا قد تكرر في آيات مكية كما جاء في آيات سورة يونس [22- 23] التي سبق تفسيرها ثالثا. ومع ذلك فقد يلمح فيهما صورة جديدة في حادث واقعي. ولا يبعد أن يكون بعض المكيين قاموا برحلة بحرية فأحاق بهم الخطر فدعوا الله وحده وعاهدوه على البقاء على ذلك أو الإيمان برسالة النبي صلّى الله عليه وسلم فلما نجوا وعادوا إلى مكة وفّى بعضهم بعهده، فكفّ عن موقفه الجحودي واعتدل أو آمن، في حين نكث الآخرون عهدهم وغدروا وعادوا إلى مواقف الجحود والعناد. وهذا لا يعني فيما نرى أن الآيتين نزلتا منفصلتين عن السياق، فنحن نرجح أنهما جزء منه. وأن الإشارة إلى الحادث جاءت للاستطراد والإفحام. [سورة لقمان (31) : الآيات 33 الى 34] يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبرسي.

(1) لا يجزي: بمعنى لا ينوب ولا يسد. في الآية الأولى هتاف بالناس ودعوة لهم إلى تقوى الله والخوف من يوم القيامة، حيث لا يسد فيه والد مسد ولد، ولا ولد مسد والد، وحيث يكون كل امرئ مسؤولا عن عمله ومشغولا بنفسه عن غيره، وإن كان أقرب الناس إليه وألصقهم به، وتوكيد لهم بأن وعد الله هذا حق، وتحذير لهم من الاغترار بالحياة الدنيا والاستماع إلى وساوس الشيطان وإغراءاته. وفي الثانية تقرير بأن علم موعد يوم القيامة هو عند الله الذي ينزل الغيث، ويعلم ما تحمل الأرحام، وبأنه ليس من أحد يستطيع أن يعرف ماذا يفعل غدا وماذا يكسب، وفي أي أرض يموت، فالله وحده هو العليم بكل شيء، الخبير بحقائق الأمور وسيرها ونتائجها. ولقد روى الطبري «1» أن الآية الأخيرة نزلت في مناسبة سؤال رجل النبي صلّى الله عليه وسلم قائلا: «إن امرأتي حبلى فأخبرني ماذا تلد، وبلادنا محل جدبة فأخبرني متى ينزل الغيث، وقد علمت متى ولدت فأخبرني متى أموت. فأنزل الله إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ إلى آخر الآية» . وروى البغوي أنها نزلت في الحارث بن عمرو من أهل البادية الذي جاء إلى النبي فسأله هذه الأسئلة. وروح الآيتين تلهم وجود ترابط قوي بينهما أولا وبينهما وبين الآيات السابقة لهما ثانيا. وتلهم كون الآية الثانية جاءت لتدعيم ما احتوته الآية الأولى من إنذار وتحذير، هذا فضلا عن تساوق الفاصلة في الآيتين وتساوقها كذلك في الآيات السابقة. وكل هذا يجعلنا نرى أن

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والخازن والبغوي.

تعليق على آية إن الله عنده علم الساعة إلخ وحديث مفاتيح الغيب

الآيتين متصلتان بسابقاتهما سياقا وسبكا وموضوعا، وأنهما جاءتا خاتمة للسورة وما احتوته من فصول المناظرة أو مشاهدها معا. وقد تضمنتا هتافا قويا للناس محذرا منذرا داعيا إلى الله وتقواه. وما قلناه لا يمنع أن يكون بعض الناس قد وجهوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأسئلة وأن الآية الأخيرة قد احتوت إجابات عليها. تعليق على آية إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ إلخ وحديث مفاتيح الغيب ولقد أورد المفسرون «1» في مناسبة الآية الأخيرة حديثا نبويا عن ابن عمر جاء فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مفاتيح الغيب خمس ثم تلا الآية. وأوردوا «2» كذلك حديثا آخر عن ابن عمر أيضا جاء فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهنّ إلا الله، فلا يعلم ما في غد إلّا الله، ولا يعلم متى ينزل الغيث إلّا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلّا الله، ولا يعلم ما في الأرحام إلّا الله، ولا تدري نفس بأيّ أرض تموت. والحديث الأول مما أخرجه البخاري «3» ، ونحن في حيرة من ذلك. لأن بدء كل من الحديثين يفيد الحصر ويعني أن الأمور الخمسة هن مفاتح الغيب مع أنهن لسن كل ما يغيب عن الناس علمه، ثم إن جملة وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ في الآية لا تعني أنه لا يعلم وقت نزول الغيث إلّا الله، والله أعلم.

_ (1) انظر تفسير الآية في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن. وفي هذه الكتب صيغ لأحاديث أخرى من هذا الباب أيضا لم ترد في كتب الصحاح. (2) المصدر نفسه. (3) التاج ج 4 ص 181.

سورة سبأ

سورة سبأ في السورة حكاية لأقوال وعقائد الكفار، وفصول مناظرة بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وإشارة إلى جهود الزعماء في التعطيل والصدّ واعتدادهم بالأولاد والأموال. وتنويه بالمؤمنين المخلصين. وإشارة إلى داوود وسليمان وما كان من إسباغ الله عليهما نعمه وشكرهما إيّاه. وإلى سبأ وما كان من رغدها وعدم شكرها ونقمة الله عليها، وفيها صور لما كان عليه الموقف في مكة بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين وزعماء الكفار وسوادهم ومعتدليهم ومتطرفيهم. وفصول السورة مترابطة مما يسوّغ القول أنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة. والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي أن الآية [6] مدنية والرواية تتحمل التوقف لانسجام الآية الوثيق في السياق. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة سبإ (34) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) . (1) يلج: يدخل. (2) يعرج: يصعد. الآيتان مطلع بارز للسورة، ومقدمة لما بعدهما. وقد احتوتا تقرير الحمد لله في كل وقت والتنويه بحكمته ورحمته وإحاطته ومطلق تصرفه في السموات

[سورة سبإ (34) : الآيات 3 إلى 5]

والأرض وما فيهما وشامل علمه بما يقع فيهما مما هو من موجبات استحقاقه للعبادة والحمد والثناء. [سورة سبإ (34) : الآيات 3 الى 5] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) . (1) لا يعزب: لا يبتعد ولا يختفي. (2) كتاب مبين: كناية عن علم الله وشموله. (3) رجز: صفة لشدة العذاب وسوئه. في الآيات حكاية لإنكار الكفار لمجيء الساعة، أي البعث والحياة الأخروية. وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالتوكيد بمجيئها مقسما على ذلك بالله الذي يعلم الغيب والذي لا يخفي عليه ولا يخرج عن شمول علمه وتصرفه مثقال ذرة في السموات والأرض ولا أكبر ولا أصغر من ذلك. وقد اقتضت حكمته وعدله أن تأتي الساعة ويبعث الناس للحساب ليجزي المؤمنين الذين عملوا الأعمال الصالحة بما يستحقون من المغفرة والرزق الكريم. والكافرين الذين يسعون في تعطيل دعوة الله وإطفاء نورها بما يستحقون من العذاب الشديد الموجع. ومن المحتمل أن تكون الآيات ترديدا لقول قاله الكفار في موقف وجاهي، وهي على كل حال تحتوي مشهدا من مشاهد الجدل بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار ومواقفهم منه. وتلهم أن مطلع السورة جاء كما قلنا مقدمة لحكاية هذا المشهد أو الموقف وما بعده من مشاهد ومواقف. وقد تكررت حكاية مثل هذا المشهد وحكاية إنكار الكفار للبعث وتوكيد القرآن له كثيرا حيث يدل كما قلنا قبل على أن

[سورة سبإ (34) : آية 6]

هذا الأمر من أهم ما كان يثور الجدل والحجاج حوله بين النبي صلّى الله عليه وسلم وبين مختلف فئات الكفار. والتوكيد بالقسم نافذ والحجة على قدرة الله على تحقيق الوعد قوية. فعلم الله وقدرته وتصرفه المطلق في الكون، كل هذا مما يعترف به الكفار، وكل هذا مما يجعل تحقيق الوعد في نطاق قدرة الله تعالى. وحكمة ذلك ظاهرة لأنه مقتضى صفة العدل في الله عز وجل حتى ينال كل من المحسنين والمسيئين جزاء أعمالهم. [سورة سبإ (34) : آية 6] وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) . (1) يرى: هنا بمعنى يعلم أو يدرك. الآية معطوفة على سابقاتها، وقد احتوت تقرير كون ما احتوته الآيات القرآنية من توكيد البعث الأخروي وقدرة الله تعالى عليه وحكمته فيه، شأنه أن يجعل الذين أوتوا العلم يتأكدون من أن ما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من ربّه هو الحق الهادي إلى صراط الله العزيز المستحق للحمد وحده. تعليق على جملة وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وعلى رواية مدينة الآية [6] التي جاءت فيها وقد تعددت أقوال المفسرين للمقصود في جملة الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ حيث قال بعضهم: إنها عنت أهل الكتاب أو بعض مسلمي اليهود منهم، وبعضهم إنها عنت أولي العلم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وبعضهم إنها عنت أولي العلم والفهم

[سورة سبإ (34) : الآيات 7 إلى 9]

إطلاقا «1» . ونحن نرجح القول الأخير حيث يكون معنى الآية: «إن كل ذي علم وفهم وإذعان يدرك صدق ما أكدته الآيات القرآنية من حكمة البعث وقدرة الله عليه ويتأكد من أن القرآن لا بدّ من أن يكون حقا منزلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الله عز وجل ليهدي الناس إلى صراط الله القويم. ومع هذا فالأقوال الثانية لا تخلو من وجاهة، وقد ورد في بعض آيات السور المفسرة السابقة حكاية اعتراف أهل العلم والكتاب بصحة نزول القرآن من الله هاديا للناس مثل آيات سورة الأنعام [114] وآيات سورة الإسراء [107- 109] والقصص [52- 55] . وقد روى المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآية مدنية، وروى بعض المفسرين «2» أنها نزلت في عبد الله بن سلام أو غيره من مسلمة يهود المدينة الذين شهدوا بصدق القرآن ونبوة النبي صلّى الله عليه وسلم. والروايات غير موثقة، والآية إلى ذلك منسجمة أشد الانسجام مع ما قبلها وما بعدها. وفي حالة انفرادها في النزول لا تؤدي المعنى الذي شرحناه شرحا نرجو أن يكون الصواب والحق. وحتى على فرض أن يكون المقصود من جملة الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أهل الكتاب، فإن هذا لا يقتضي أن يكون المقصودون هم مسلمة يهود المدينة. فقد كان في مكة يهود ونصارى، وقد أسلموا وشهدوا بصحة الرسالة المحمدية وصدق صلة القرآن بالله على ما ذكرته آيات مكية عديدة مرّ بعضها في السور المفسرة السابقة المذكورة آنفا. [سورة سبإ (34) : الآيات 7 الى 9] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)

_ (1) انظر تفسير الآية في تفسير الطبري والكشاف والطبرسي. (2) انظر تفسير الطبري.

(1) مزقتم كل ممزق: كناية عما يصير إليه الناس بعد الموت من البلى والتفتت والانتثار. (2) جنة: الجن والجنون وهنا بمعنى الجنون. في الآيات حكاية لأقوال أخرى للكفار حول البعث حيث كانوا حينما يكرر النبي صلّى الله عليه وسلم أخبار الآخرة وأهوالها وينذر بها ويؤكد حقيقية البعث يستنفرون الناس استنفار تشويش واستنكار وهزء قائلين لهم تعالوا ندلكم على الرجل الذي ينبىء الناس أنهم سيخلقون خلقا جديدا بعد أن يموتوا وتبلى أجسادهم وعظامهم وتتفتت وتنتثر في الأرض. وكانوا يتساءلون على سبيل التهويش والاستنكار عما إذا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يقوله يفتري على الله الكذب أو أنه اعتراه الجنون. ورد عليهم بأن الذين لا يؤمنون بالآخرة هم الذين في حقيقة الأمر في ضلال وأن لهم من أجل ضلالهم هذا العذاب الشديد. ثم انتقل الكلام في الآيات إلى البرهنة على قدرة الله وعظمته، فكيف يشكون في ذلك وهم يرون مشاهد عظمة الله تعالى وقدرته ماثلة في السماء والأرض وبين أيديهم وخلفهم. ثم أنذرتهم الآية الأخيرة إنذارا رهيبا فلو شاء الله لعجل عليهم بلاءه القاصم فخسف بهم الأرض أو أسقط عليهم كسفا من السماء، وأهابت بأصحاب النوايا الحسنة ففي الكون من الآيات الدالة على قدرة الله براهين يدركها كل من حسنت نيته فأناب إلى الله واعترف بالعبودية له. وصلة الآيات بسابقاتها واضحة من حيث إنها استمرار في حكاية إنكار المشركين للبعث أو استمرار في حكاية المشهد الجدلي والحجاجي حوله بين النبي صلّى الله عليه وسلم وبينهم. وأسلوب الآيات إجمالا يدل بصراحة أكثر من المناسبات السابقة على أن تساؤلهم هو تساؤل المستغرب المندهش وأن نسبتهم الجنون إلى النبي صلى الله عليه وسلم كانت

[سورة سبإ (34) : الآيات 10 إلى 14]

تعبيرا عما يخالجهم في أنه يقول ما لا يصدق وما لا يعقل. كما أن أسلوبها ومضمونها يدلان أكثر من المناسبات السابقة على أن البعث الأخروي كان من الأسباب الرئيسية لكفر الكفار ووقوفهم من الدعوة موقف الإنكار والعناد. [سورة سبإ (34) : الآيات 10 الى 14] وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14) . (1) أوّبي: رجّعي. والقصد رجّعي التسبيح مع داود. (2) سابغات: دروع وافية كاملة لجميع الجسم. (3) قدر في السرد: التقدير بمعنى الحساب وحسن التدبير. والسرد صفة لنسج الحديد وقيل صفة للمسمار، والمقصود من الجملة أمر بإتقان عمل الدرع ونسجه. والدرع زرد وحلقات، ومن هنا يكون معنى النسج. (4) غدوّها شهر ورواحها شهر: الغدوّ من الصباح إلى منتصف النهار والرواح من بعد منتصف النهار إلى المساء. والغدوّ هو الذهاب في الصباح، والرواح هو العودة في المساء أيضا. ومعنى الجملة أن ما كان يسار في وقت الغدوّ على الريح من المسافة ذهابا يعدل مسيرة شهر وما كان يسار في وقت الرواح يعدل مسيرة شهر آخر. (5) عين القطر: قال المفسرون: إنها نبع نحاس ذائب أجراه الله لسليمان.

والذي نرجحه أنها تعني نبعا من النفط أو عينا من النفط. حيث يكون أسود كثيفا، وأن هذا كان يسمى القطر، ومنه القطران أو الزفت. وقد ذكر القطر في آية في سورة الكهف بما يلهم أنه الزفت الذي يزفت به البناء وهي: آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) وقد ذكر القطران في آية في سورة إبراهيم وهي: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) وكان العرب يعرفون القطر والقطران ويستعملونها بدليل وجود اللفظين في لغتهم من قبل البعثة. (6) يزغ: يحيد ويتهرب. (7) محاريب: قيل إنها جمع محراب مكان العبادة، وقيل إنها القصور والمساكن عامة. (8) تماثيل: الهياكل المخلقة. (9) جفان: جمع جفنة وهي طبق الطعام الكبير. (10) الجواب: جمع جابية وهي الحوض. وشبهت الجفان بالجواب للدلالة على عظمها. (11) قدور: جمع قدر. وهي آنية الطبخ. (12) راسيات: ثابتات. (13) دابة الأرض: اسم الدودة المعروفة بالسوس والتي تنخر الخشب وهي الأرضة. (14) منسأته: عصاه. (15) خرّ: وقع. احتوت الآيات إشارة إلى ما كان من أفضال الله على داود وسليمان عليهما السلام حيث آتى الأول فضلا فأمر الجبال والطير بترجيع تسابيحه وترانيمه. وألان في يده الحديد وألهمه عمل الدروع السابغة أو أمره بإتقان صنعها، وبفعل الأعمال الصالحة، ونبهه إلى أنه بصير بما يعمله رقيب عليه فيه وحيث سخر للثاني الريح فكانت تقطع مسيرة شهر في الغدو ومسيرة شهر في الرواح. وأسال له عين القطر

تعليق على قصة داود وسليمان في السورة

لينتفع بها شتى الانتفاعات. وسخر له الجن يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان واسعة كأنها الأحواض وقدور عظيمة ثابتة. وأمرهم بالائتمار بأمره وأنذر من يحاول التملص والتفلت بالعذاب الشديد. وقد أمر الله آل داود أي داود وسليمان شكر نعمة الله وفضله عليهم، والشاكرون من عباده قليلون. ولما قضى الله الموت على سليمان لم يعرف الجن ذلك إلا بعد أن خرّ على الأرض بسبب انقصاف عصاه التي كان يتكىء عليها من نخر السوس. وجاء ذلك برهانا على أن الجن لم يكونوا يعلمون الغيب، إذ لو كانوا يعلمونه لعلموا بموت سليمان حينما مات، ولما ظلوا يقاسون العذاب المهين فيما كانوا يقومون به من الخدمات الشاقة مدة طويلة بعد موته. تعليق على قصة داود وسليمان في السورة والمتبادر الذي تلهمه روح الآيات أنها بسبيل التذكير بما كان من إخلاص داود وسليمان واعترافهما بفضل الله وشكرهما له مع ما كان لهما من سعة ملك وسلطان، وضرب المثل بهما للكفار الذين يقفون من آيات الله ونعمه موقف العناد والمكابرة والجحود والتكذيب. وعلى ذلك تكون الآيات استطرادية متصلة من ناحية التمثيل والتذكير بالآيات السابقة لها التي احتوت ذكر مواقف الكفار وجحودهم شأن القصص القرآنية عامة. ولعله أريد بالآيات تسلية النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الكفار يقفون من دعوته إلى الله ذلك الموقف فإن من عباده من يشكره على نعمه ويقف منه موقف العابد الأواب المسبح دائما بحمده وهم من أعظم الناس شأنا وسلطانا كداود وسليمان عليهما السلام. ولقد جاء في سورتي «ص» و «النمل» اللتين سبق تفسيرهما فصلان طويلان عن داود وسليمان في أعقاب ذكر ما كان من مواقف تكذيب الكفار ومكابرتهم وعنادهم. ولمحنا فيهما هذا القصد حيث تكون حكمة التنزيل اقتضت أن ينزل مثل ذلك مرة أخرى في مناسبة مماثلة متجددة.

ولقد علقنا بما فيه الكفاية على قصص داود وسليمان في سياق تفسير السورتين المذكورتين فلا نرى ضرورة لإعادة ما قلناه، غير أننا ننبه إلى أن في الآيات هنا أشياء لم ترد في السورتين مثل: إلانة الحديد لداود وصنعه الدروع، وإسالة عين القطر لسليمان، ومثل تعيين المسافة التي كان يقطعها الريح المسخر لسليمان في الغدوّ والروح، وتفصيل ما كان يصنعه الجن لسليمان من منشآت عظيمة. وهذه الزيادات أيضا لم ترد في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم التي تقص سيرة داود وسليمان عليهما السلام، غير أن هذا لا يعني أنها لم ترد في أسفار أخرى كانت متداولة وفقدت بل نحن نعتقد ذلك كما هو الأمر فيما ورد في القرآن مما لم يرد في الأسفار المتداولة من قصص بني إسرائيل وأنبيائهم على ما ذكرناه في المناسبات السابقة. ولقد أورد المفسرون «1» في سياق هذه الآيات بيانات كثيرة في صدد هذه الزيادات منسوبة إلى علماء السير والأخبار. ولسنا نرى طائلا في إيرادها هنا لأن ذلك لا يتصل بأهداف القصص القرآنية فضلا عما فيها من تزيد ومفارقات، مع التنبيه إلى أن ذلك مما يدل على أن هذه الزيادات ليست غريبة عن سامعي القرآن، ومما كان متداولا بينهم، ومصدره على الأرجح بنو إسرائيل الذين كانوا بين ظهرانيهم. ولقد كان من جملة ما أوردوه حديث أورده الطبري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان سليمان نبيّ الله إذا صلّى رأى شجرة نابتة بين يديه فيقول لها ما اسمك فتقول كذا فيقول لأيّ شيء أنت فإن كانت تغرس غرست وإن كانت لدواء كتبت فبينما هو يصلّي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه فقال لها: ما اسمك؟ قالت: الخروب. قال: لأيّ شيء أنت؟ قالت: لخراب هذا البيت. فقال سليمان:

_ (1) انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري والخازن وابن كثير والطبرسي مثلا، وانظر أيضا تاريخ الطبري ج 1 ص 336- 350.

[سورة سبإ (34) : الآيات 15 إلى 19]

اللهمّ عمّ على الجنّ موتي حتّى يعلم الإنس أنّ الجنّ لا يعلمون الغيب فنحتها عصا فتوكّأ عليها حولا ميتا والجنّ تعمل فأكلتها الأرضة فسقط فتبيّنت الإنس أنّ الجنّ لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولا في العذاب المهين» . وقد أورد الطبري أحاديث من باب هذا الحديث معزوة إلى ابن مسعود وأناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دون عزو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه الأحاديث غير واردة في كتب الأحاديث الصحيحة، فإذا كانت صحيحة فيكون فيها توضيح لأمور مغيبة وردت الإشارة إليها في الآيات فيوقف عندها. والله أعلم. ولقد سبقت تقريرات قرآنية متنوعة عن الجنّ وعلقنا عليها بما فيه الكفاية فلا نرى ضرورة لزيادة شيء هنا إلّا تقرير واجب الإيمان بما يخبر به القرآن عنهم وكون ذلك في نطاق قدرة الله تعالى ومقتضى حكمته المغيبة عنا. وقد يكون في ذكر حالتهم بالأسلوب الذي ورد في الآيات وتقرير جهلهم ما غاب عنهم وتسخيرهم هذه السخرة وتكليفهم هذه الخدمات وإجبارهم عليها مع ما فيها لهم من عذاب مهين هدفا استهدفته الآيات للتنبيه إلى هوان شأن هذه المخلوقات التي كان لها صورة فخمة مفزعة في أذهان العرب حتى وصل أمرهم منها إلى عبادتها والاستعاذة بها والتقرب إليها مما مرّت أمثلة لها في السور المفسرة السابقة، وتقرير كونها ليست إلّا من عباد الله يسخرها لعباده المخلصين، وليس من شأنها أن تعلم الغيب أو تجرا على ملكوت الله، أو تطلع على أسراره أو تستحق عبادة وتزلفا والله أعلم. هذا، ومما يجدر التنبيه إليه التناظر بين أوائل سورة لقمان السابقة وبين أوائل هذه السورة، وما يلهمه من وحدة الأهداف من جهة، ومن صحة ترتيب السورتين في النزول واحدة بعد أخرى من جهة ثانية. [سورة سبإ (34) : الآيات 15 الى 19] لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)

(1) العرم: قيل إنه اسم واد كانت تتجمع فيه المياه، وقيل إنه المطر الشديد. وقيل إنه اسم سدّ كان يحبس فيه الماء. (2) الخمط والأثل والسدر: أشجار طبيعية تنبت في الصحارى ذات شوك. وثمرها غير صالح تعافه النفس. (3) القرى التي باركنا فيها: قيل إنها بلاد الشام التي كان موسعا عليها برزقها ومناخها، وقيل إنها بلاد المقدس التي باركها الله كما جاء في سورة الإسراء، والعجيب ألّا يذكر القائلون بلاد الحجاز التي كانت هي الأخرى مباركة. فهي أقرب إلى بلاد سبأ أي اليمن من بلاد الشام، وبينها وبين سبأ قرى ومدن عديدة. ونحن نرجح أنها هي المقصودة. (4) ظلموا أنفسهم: جنوا عليها بانحرافهم وكفرهم. في الآيات إشارة إلى سبأ وما كان من أمر أهلها. فقد يسّر الله لهم رغد العيش في مسكنهم، وكانت لهم جنات عن اليمين وعن الشمال ليأكلوا من رزق ربهم ويشكروا له نعمه، فبلدتهم طيبة الرزق وربهم غفور. ولكنهم أهملوا واجب الشكر وكفروا بنعمة الله فعاقبهم الله على جري عادته فأرسل عليهم سيل العرم فاجتاح جناتهم وخربها وبدلها بجنات من أشجار كريهة المنظر كثيرة الشوك مرة الطعم من الخمط والأثل والسدر. ولقد كان من نعمة الله عليهم أن جعل العمران متصلا بين بلادهم والبلاد التي بارك فيها بقرى ظاهرة متتابعة بحيث يستطيعون أن يسيروا ليالي وأياما آمنين شر أخطار الأسفار ومشاقها،

تعليق على قصة سبأ وسيل العرم

فلم يقدروا هذه النعمة أيضا حق قدرها وتحدوا الله بأقوامهم أو أفعالهم أن يباعد بين أسفارهم فظلموا بذلك أنفسهم وآذوها إذ سببوا انصباب نقمة الله وغضبه عليهم، فمزقهم في الأرض كل ممزق وجعلهم أحاديث الناس وموضوع نقدهم وتثريبهم ومضرب مثلهم. وقد انتهت الآيات بتقرير رباني بأن في كل ذلك آيات وعبرا لا يدرك مغزاها ولا ينتفع بها إلّا كل صبار ثابت على الإخلاص لله، شاكر لنعمه وأفضاله قولا وعملا. تعليق على قصة سبأ وسيل العرم والآيات كما هو المتبادر تحتوي مثلا ثانيا مضروبا لمشركي العرب وجاحدي النبوة المحمدية تعقيبا على المثل الأول، فداود وسليمان شكرا الله وعملا الصالحات على ما كان لهما من ملك وعظمة شأن، فأسبغ الله عليهما نعمه وأفضاله وسخر لهما قوى الكون المتنوعة. وأهل سبأ انحرفوا عن جادة الحق وكفروا بنعمة الله فعاقبهم ومزقهم وجعلهم أحاديث للناس. ومن هنا يظل الاتصال قائما مستمرا بين هذه الآيات والآيات السابقة. وروح الآيات ومضمونها يلهمان أن ما كان من أمر سبأ وما صاروا إليه ليس غريبا على السامعين، وهذا ما يجعل العبرة والمثل قويين وملزمين هنا أيضا. وسيل العرم من الحوادث التي أطنبت فيها الكتب العربية القديمة بناء على الروايات المتداولة من عهد الجاهلية «1» . وقد ذكرت فيما ذكرته أن السيل اقتلع السدّ وطغى على القرى والجنات فخربها فأدى ذلك إلى هجرة كثير من قبائل اليمن إلى شمال جزيرة العرب وسواحلها الشرقية وبلاد الشام والعراق، منهم الأوس والخزرج الذين نزلوا في يثرب «المدينة المنورة» ، ومنهم الغساسنة الذين أنشئوا

_ (1) انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري وابن كثير والخازن والبغوي والطبرسي والزمخشري، انظر أيضا بلوغ الأرب في أحوال العرب للآلوسي ج 3 ص 287- 288.

دولة في بلاد الشام، ومنهم اللخميون الذين أنشئوا دولة في بلاد العراق، ومنهم بنو عبد القيس الذين أنشئوا دولة في عمان. وقد قدر المؤرخون أنه حدث قبل البعثة النبوية بنحو أربعمائة عام. ولقد سبق تعريف لسبأ في سياق آيات في سورة النمل ذكر فيها هذا الاسم، وإذا كان من شيء نقوله هنا زيادة على ذلك فهو أن النقوش اليمنية ذكرت خبر وقوع خراب وعطب على سد مأرب العظيم مرة بعد مرة خلال القرون الخمسة التي سبقت البعثة النبوية. إن اسم سبأ ظل على ما تلهم الآيات إلى حادث سيل العرم يطلق على البلاد التي كان يطلق عليها من القديم وإن هذه البلاد ظلت مزدهرة عامرة إلى ذلك الوقت يتصل عمرانها بالبلاد المباركة التي رجحنا أنها الحجاز أكثر من بلاد الشام إلى أن أحدث السيل فيها ما أحدثه من تخريب وتدمير. ولقد أورد المفسرون «1» بيانات كثيرة في سياق الآيات عن بلاد سبأ وسدها وجناتها وقراها وعمرانها وسيل عرمها وما أحدثه من خراب وما أدى إلى ذلك من هجرة أهلها وتفرقهم في أنحاء الأرض وما نبت في أرض جناتها من أشجار الأثل والخمط والسدر معزوة إلى علماء التابعين فيها الغث والسمين لم نر ضرورة إلى إيرادها، وفيها دلالة على أن أخبار سبأ وسيل العرم مما كان متداولا في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلم وعصره في نطاق ما ورد في الآيات، فاقتضت حكمة التنزيل التذكير بذلك على سبيل العبرة والتمثيل. هذا، ولقد أورد ابن كثير في مناسبة جملة إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [إبراهيم/ 5] في الآية الأخيرة من الآيات حديثين أحدهما رواه الإمام أحمد عن سعد بن أبي وقاص قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: عجبت من قضاء الله تعالى للمؤمن، إن أصابه خير حمد ربّه وشكر، وإن أصابته مصيبة حمد ربّه وصبر، يؤجر المؤمن في كلّ شيء حتّى في اللّقمة يرفعها إلى في امرأته» . وثانيهما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة جاء فيه: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: عجبا

_ (1) انظر الهامش السابق. [.....]

[سورة سبإ (34) : الآيات 20 إلى 21]

للمؤمن لا يقضي الله تعالى له قضاء إلّا كان خيرا له. إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضرّاء صبر كان خيرا له وليس ذلك لأحد إلّا للمؤمن» . حيث ينطوي في هذا توضيح نبوي للجملة القرآنية وحثّ للمسلمين على أن يكونوا من الصابرين على الضرّاء الشكورين للسرّاء. [سورة سبإ (34) : الآيات 20 الى 21] وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) . (1) حفيظ: هنا بمعنى رقيب. جاءت الآيتان معقبتين على الآيات السابقة حيث قررتا أن إبليس قد توسم فيهم قابلية الانحراف فوسوس لهم فتحقق ظنه وتوسمه فيهم فاتبعوه باستثناء فريق منهم كانوا مؤمنين فلم يؤثر عليهم. وأن إبليس لم يكن في الحقيقة له عليهم أي سلطان نافذ، وإنما كان امتحانا ربانيا ليظهر من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك. وأن الله رقيب على كل شيء من أعمال الناس. وقد قال بعض المفسرين «1» : إن الضمير في «عليهم» عائد إلى أهل سبأ. ومنهم من قال إنه عائد إلى الناس إطلاقا، ونحن نرجح أنه عائد إلى كفار مكة بقرينة الآيات التي جاءت بعدها وأمر النبي صلّى الله عليه وسلم فيها بتوجيه الخطاب إلى كفار مكة ومشركيهم متحديا منددا، وعلى هذا فإن الآيتين تكونان بمثابة انتقال من حكاية الماضي وعظته إلى حكاية موقف الكفار وواقع أمرهم وتعليل لذلك بعد ما جاءهم من الموعظة ما جاءهم. والتعليل والاستدراك في شأن إبليس وتسلطه على الناس وعدم استطاعته

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير وغيرهما.

[سورة سبإ (34) : الآيات 22 إلى 28]

التأثير إلّا على الذين فيهم قابلية الغواية قويان محكمان. فالناس بإبليس ووسوسته أمام امتحان يميز طيبهم من خبيثهم وصالحهم من فاسدهم. وفي كل مرة ذكرت فيها قصة إبليس أو وسوسته أو وسوسة الشيطان ورد هذا التعليل والاستدراك مما يمكن أن يسوغ القول إنه أريد بذلك توكيد مبدأ قرآني عام بأن الفاسدين في قلوبهم وأرواحهم وأخلاقهم هم الذين يتأثرون بالوساوس ولا يؤمنون بالآخرة ولا يستجيبون إلى دعوة رسل الله. وقد توهم الآية الثانية بأن الله لم يكن يعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك قبل امتحان الناس بإبليس، ولما كان علم الله شاملا لكل ما كان ويكون فالوجه في العبارة أن تؤول بأن المراد منها هو إظهار نتائج الوسوسة عيانا حتى تسقط حجة المحتج. وقد تكرر هذا في القرآن كثيرا. وهو من التعابير الأسلوبية المعتادة بين الناس في التخاطب أيضا، والفقرة الأخيرة من الآية نفسها من شأنها أن تزيل الوهم أيضا وتؤيد هذا التأويل. [سورة سبإ (34) : الآيات 22 الى 28] قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) . (1) شرك: بمعنى شركة وشراكة. (2) ظهير: معين ومظاهر.

(3) حتى إذا فزع عن قلوبهم: التفزيع هو إزالة الفزع وكشفه. ومعنى الجملة: حتى إذا زال أثر الدهشة والفزع عن قلوبهم. (4) أجرمنا: من الإجرام وهو اقتراف الذنب. (5) يفتح: بمعنى يحكم ويقضي. (6) كافة للناس: أوّلها بعض المفسرين بمعنى مانع وكاف أي يمنع الناس ويكفّهم عن الكفر، وأوّلها بعضهم بمعنى جميع الناس. وكلا القولين وجيه ومؤيد بنصوص أخرى حيث يؤيد الأول جملة: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء/ 107] ، ويؤيد الثاني جملة: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف/ 158] وإن كان أسلوب الآية يجعل الرجحان للقول الأول. في الآيات: 1- أمر للنبي عليه السلام بتحدي الكفار بدعوة من يزعمون أنهم شركاء الله. 2- وتقرير بكون أولئك الشركاء لا يملكون مثقال ذرة في السموات والأرض وليس لهم فيهما شركة ما، وليس لله منهم معين ومظاهر. 3- وتقرير بأن الشفاعة عند الله لن تنفع أحدا إلا بإذن الله ورضائه. 4- وتقرير ما سوف يكون من أمر الكفار يوم القيامة حينما يبعثون وتزول آثار الدهشة والفزع عنهم ويسألون عما وعدهم الله حيث يعترفون بأن ما وعد الله هو الحق وأن الله هو العلي الكبير الذي لا يدانيه أحد في علوّه وعظمته. 5- وأمر آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بتحديهم بتعيين الشركاء الذين أشركوهم مع الله وألحقوهم به وجعلوا لهم صلة به أو جعلوهم جزءا منه. وبنفي ذلك عن الله عز وجل لأنه العزيز القوي الذي لا يحتاج إلى شريك، الحكيم الذي تكون كل أعماله وفقا لمقتضيات الحكمة.

6- وأمر آخر بسؤالهم عن الرازق الحقيقي لهم من السماء والأرض وبالإجابة على ذلك بأنه هو الله وحده. 7- وأمر آخر بتوجيه الكلام إليهم على سبيل المساجلة والجدل بأنه لا بد من أن يكون أحد الفريقين (النبي والمؤمنون من ناحية، وهم أي الكفار من ناحية) ضالا وأحدهما على هدى وبأن كل فريق هو المسئول وحده عن عمله وما قد يقترفه، وبأن الله سيجمع بينهما معا ثم يقضي بينهما بالحق وهو الحاكم العادل العليم بأعمال الناس ونواياهم وأحوالهم. 8- وانتهت الآيات بآية وجّه الخطاب فيها للنبي عليه السلام بأن الله إنما أرسله كافة للناس بشيرا ونذيرا ولو لم يدرك هذا أكثرهم. والآيات بمجموعها احتوت- كما هو المتبادر- صورة لموقف من مواقف الجدل والمناظرة بين النبي صلّى الله عليه وسلم والمشركين الكفار. وهي قوية في لذعها وتحديها وتنديدها ومساجلتها وإنذارها، وتدل على أن موقف النبي صلّى الله عليه وسلم كان موقف الواثق المستعلي، أو هي بسبيل بثّ الوثوق والاستعلاء في نفسه. ولم نطلع على رواية خاصة بسبب نزولها، ويتبادر لنا أنها ليست فصلا مستأنفا وإنما هي استمرار في السياق المستمر في حكاية مواقف الكفار. والمتبادر أن الآية الأخيرة قد انطوت على تطمين للنبي عليه السلام وتسلية، فهو ليس مسؤولا عن موقف الجحود والعناد الذي يقفه الكفار وليس إلا بشيرا ونذيرا للناس. وهو ما تكرر كثيرا في المواقف المماثلة. والآيات [24 و 25 و 26] قد جاءت بالأسلوب الذي جاءت به على سبيل المساجلة، وليس من محل للشك في قصد تقريرها أن فريق النبي صلّى الله عليه وسلم وأتباعه هم الفريق المهتدي الفائز بحكم الله ورضائه، وهذا أسلوب مألوف في التخاطب وبخاصة في مواقف الجدل والمناظرة. ومع ذلك فقد يكون فيها مظهر من المبدأ القرآني المقرر لحرية التدين بالنسبة لمختلف الأطراف وفي نطاق ما قررته سورة

(الكافرون) وشرحناه شرحا وافيا في سياقها. ولقد روى البخاري والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة في سياق جملة حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ حديثا جاء فيه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا قضى الله الأمر في السّماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنّه سلسلة على صفوان فإذا فزّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربّكم؟ قالوا للذي قال الحقّ وهو العليّ الكبير فيسمعها مسترقو السّمع فيلقيها إلى من تحته ثمّ يلقيها الآخر إلى من تحته حتّى يلقيها على لسان السّاحر أو الكاهن فربّما أدركه الشّهاب قبل أن يلقيها وربّما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا فيصدّق بتلك الكلمة التي سمعت من السّماء» «1» . ونحن في حيرة من هذا الحديث لأن مضمون الآية وسياقها وروح الآيات بصورة عامة تلهم أنها في صدد تحدي المشركين وشركائهم وحكاية مشهد من مشاهد البعث الأخروي أو نفي الشفاعة عند الله إلّا لمن أذن له. وليس لها صلة قريبة أو بعيدة باستماع الشياطين لكلام السماء وأوامر الله حين يقضي قضاءه في شؤون خلقه في الحياة الدنيا. على أن الطبري والبغوي وابن كثير الذين أوردوا هذا الحديث وحديثا آخر من بابه رووا تأويلات أخرى للجملة القرآنية عن بعض علماء التابعين مثل مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير تفيد أن ما تضمنته الجملة هو ما يكون من أمر المشركين يوم القيامة أو حين ينزل فيهم الموت حيث يسألهم الملائكة سؤال التبكيت عن ما قال الله فيقروا أنه الحق حين لا ينفعهم الإقرار. وهذا التأويل متسق مع روح الجملة القرآنية أكثر كما هو المتبادر ويدل على أن هؤلاء العلماء لم يأخذوا الحديث على أنه تفسير للجملة. وقد رأينا الزمخشري والخازن والطبرسي والنسفي والنيسابوري يؤولون

_ (1) التاج ج 4 ص 191- 192.

[سورة سبإ (34) : الآيات 29 إلى 30]

الجملة كذلك على أنها حكاية محاورة بين الكفار والملائكة يوم القيامة أو عند الموت. [سورة سبإ (34) : الآيات 29 الى 30] وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30) والآيتان استمرار في حكاية مواقف الجدل والمناظرة بين النبي صلّى الله عليه وسلم والكفار ومعطوفتان على ما سبقهما. وقد تكررت حكاية سؤال الكفار الوارد في الآية الأولى مما يدل على أن الكفار كانوا كلما تكرر وعيدهم بالبعث والعذاب الأخرويين بادروا إلى هذا السؤال الذي ينطوي فيه تحد واستهانة واستهتار، وقد احتوت الآية جوابا رزينا فيه توكيد وقوة وإنذار معا. وهو ما تكرر مثله أيضا. [سورة سبإ (34) : الآيات 31 الى 33] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33) . (1) الذي بين يديه: كناية عن كتب الله السابقة للقرآن. (2) أندادا: شركاء معادلين. (3) أسرّوا الندامة: قال بعض المفسرين: إن (أسروا) من الأضداد ومعناها هنا (أظهروا الندامة) ، وقال بعضهم: إن كلا من الفريقين أخفى ندمه الذي شعر به

عن الآخر خوف الخزي والفضيحة على نحو ما يجري بين الناس في الدنيا، ويمكن أن تكون بمعنى شعروا في داخل صدورهم بالندامة. بدأت الآيات بحكاية قول للكفار، وهو توكيدهم القاطع بعدم تصديقهم وإيمانهم بالقرآن ولا بما جاء قبل القرآن من الكتب السماوية. وأعقبت حكاية قولهم بسرد ما سوف يكون من أمرهم في الآخرة حينما يقفون أمام الله ويرون يقين ما أوعدوا به من حساب وعذاب وأغلال في الأعناق حيث يستشعرون الندامة على ما كان منهم، وحيث تقع محاورة بين المستضعفين والمتكبرين أو التابعين من العامة والمتبوعين من الزعماء فيقول الأولون للآخرين لولا أنتم لكنا آمنا وصدقنا ويردّ الآخرون منكرين منعهم عن الهدى وملقين تبعة ضلالهم عليهم ومقررين أنهم كانوا مجرمين ضالين بطبيعتهم ويردّ التابعون مرة أخرى على الزعماء مذكّرين بما كان منهم من تحريض وتآمر واجتماعات في الليل والنهار وحثّ على التمسك بالشركاء والكفر بالله ورسوله. وقد انتهت الآيات بسؤال إنكاري فيه معنى التنديد والتقرير بأنهم إنما يجزون بما كانوا يعملون. ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزول هذه الآيات، والمتبادر أنها متصلة بموقف المناظرة والجدل الذي ما فتئت الآيات السابقة تشير إليه ثم بموقف إصرار الكفار على عنادهم وجحودهم وبمثابة ردّ تنديدي وإرهابي عليهم أولا. وفيها إشارة إلى الدور الذي كان يلعبه الزعماء في الصدّ والتعطيل والتحريض ضدّ النبي صلّى الله عليه وسلم ودعوته، وما كان لهم من أثر فعال في بقاء الأكثرية الكبرى في صف الكفر والجحود في العهد المكي من السيرة النبوية ثانيا. وفيها أمارة ما على ما أثارته الدعوة المحمدية من حركة في أوساط مكة وأفكار أهلها على اختلاف فئاتهم ثالثا. ويلحظ أن الآية الأولى قد حكت قول الكفار بأنهم لن يؤمنوا في حين أن من الثابت اليقيني أن كثيرا من الذين حكي عنهم هذا القول قد آمنوا وحسن إيمانهم قبل الهجرة وبعدها حيث يسوغ القول إن هذا من باب تسجيل واقع الكفار حين

تعليق على المحاورة بين الضعفاء والمستكبرين

نزول الآيات وإنه ليس على التأبيد إلا بالنسبة للذين ظلوا وماتوا كفارا على ما شرحناه في سياق سورة البروج. تعليق على المحاورة بين الضعفاء والمستكبرين والمحاورة التي حكت الآيات أنها ستقع بين الضعفاء والمستكبرين يوم القيامة جديرة بالتعليق. ولقد تكرر هذا في مواضع أخرى مثل آيات سورة غافر هذه: وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) وآية سورة إبراهيم هذه: وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) . والإيمان بما أخبر به القرآن من المشاهد الأخروية واجب، مع ملاحظة أنه لا بدّ لذكره بالأسلوب الذي جاء به من حكمته، والحكمة الملموحة في هذا المشهد هي قصد إثارة الخوف والرهبة في نفوس الكفار وبخاصة التابعين الذين هم السواد الأعظم وفصلهم عن الزعماء. وتدل الآيات التي نحن في صددها بخاصة على شدة جهد الزعماء ونشاطهم في التأثير على السواد الأعظم وحملهم على الإعراض والتصامم عن الدعوة النبوية. ولعل هذا نظير حكمة التنزيل فيما أنذرته للزعماء بالعذاب المضاعف في آيات عديدة منها آية النحل هذه: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88) . تعليق على جملة لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ولقد قال بعض المفسرين: إن جملة وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ مصروفة إلى

يوم القيامة «1» وقال آخرون: إنها مصروفة إلى الكتب السماوية السابقة للقرآن «2» . وهذا هو الأصح بقرينة ذكر القرآن قبل الجملة. ولم نر مع ذلك أحدا من الذين صرفوا الجملة إلى الكتب السماوية علل صدورها عن الكفار في مقامها ويتبادر لنا تعليل لذلك وهو كون الكتب السماوية وأهلها كانوا موضوع استشهاد في آيات قرآنية عديدة سابقة على صحة نبوة النبي صلّى الله عليه وسلم وصحة صلة القرآن بالوحي الرباني وإشادة بهم لإيمانهم بهما من جهة وكونهم من جهة ثانية مصدرا لمعارف العرب الدينية واعتقاد هؤلاء أن الكتب التي في أيديهم منزلة من عند الله على ما حكته آيات عديدة ورد بعضها في سور سابقة مثل آية سورة القصص هذه: فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى إلخ [48] . ومثل آيات سورة الأنعام هذه: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ ... [155- 157] فمن المحتمل أن يكون الحديث في هذا الصدد قد تجدد بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وبين بعضهم وأن النبي صلّى الله عليه وسلم ذكرهم بما كان منهم وما كان من الكتابيين. بل وفي الآية [6] من آيات السورة ما يمكن أن يكون مناسبة جديدة لذلك حيث تذكر ما كان من تصديق أهل العلم بما يقوله القرآن ويعد به. ولكنهم ظلوا مكابرين معاندين وقالوا ما حكته عنهم الآية الأولى غيظا واستكبارا. وقد حكت عنهم ذلك آيات سورة فاطر: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ... [42- 43] . وفي كل هذا صورة لقوة ما كان عليه الزعماء الكفار من عناد ولجاج ومكابرة أمام الدعوة النبوية.

_ (1) انظر تفسير الطبرسي. (2) انظر تفسير الزمخشري والطبري والخازن.

[سورة سبإ (34) : الآيات 34 إلى 39]

[سورة سبإ (34) : الآيات 34 الى 39] وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) . (1) مترفوها: كناية عن الزعماء والأغنياء وذوي الجاه. (2) ويقدر: هنا بمعنى يقبض أو يقتر. (3) زلفى: على وزن قربى وبمعناها. (4) جزاء الضعف: الجزاء المضاعف والقصد من الكلمة في الآية الزيادة. (5) الغرفات: البيوت العالية والعليات. (6) ويبسط: هنا بمعنى يوسع ويمد. في الآيات تقرير رباني عن عادة الزعماء ذوي النعمة والترف في الأمم من الوقوف موقف الجحود والعناد من رسل الله، وحكاية لما يقولونه حيث كانوا يقولون: إننا الأكثر أموالا وأولادا، وإننا سنكون من أجل ذلك في نجوة من العذاب. وأمر رباني للنبي صلى الله عليه وسلم بالرد عليهم بأن الله هو الذي يوسع الرزق على من يشاء ويضيقه على من يشاء، وبأن أموالهم وأولادهم التي يزهون ويعتدون بها لن تفيدهم شيئا عند الله ولن تقربهم إليه، وبأن الذين يؤمنون بالله ويعملون الأعمال الصالحة في الحياة الدنيا هم وحدهم الذين ينالون جزاء أعمالهم مضاعفا ويكونون آمنين في غرفات الجنة. أما الذين يقفون من دعوة الله موقف المنكر المعطل المعجز والمكابر العنيد فلن ينجو من عذاب الله وهم محضرون إليه وواقعون فيه.

وأمر آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بتوكيد القول الأول بأن ربه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويضيقه على من يشاء وأنه هو الذي يخلف على المنفقين ما أنفقوه وهو خير الرازقين. ولقد أورد ابن كثير حديثا رواه ابن أبي حاتم عن أبي رزين قال: «كان رجلان شريكين خرج أحدهما إلى السّاحل وبقي الآخر فلمّا بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم كتب إلى صاحبه يسأله ما فعل فكتب إليه إنّه لم يتبعه أحد من قريش إنّما اتّبعه أراذل الناس ومساكينهم فترك تجارته ثم أتى صاحبه فقال: دلّني عليه وكان يقرأ الكتب فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إلى ما تدعو؟ قال: أدعو إلى كذا وكذا، قال: أشهد أنك رسول الله، قال: وما علمك بكذا؟ قال: إنّه لم يبعث نبيّ إلّا اتّبعه أراذل الناس ومساكينهم فنزلت الآية: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) فأرسل إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم إنّ الله عزّ وجلّ قد أنزل تصديق ما قلت» . وهذه الرواية لم ترد في مساند الصحاح وهي غريبة فليس صحيحا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتبعه في بدء أمره أحد من قريش ولم يتبعه إلا أراذل الناس ومساكينهم فقط. والثابت اليقيني أن خديجة وأبا بكر وعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد والزبير بن العوام وفاطمة بنت الخطاب زوجة سعيد رضي الله عنهم كانوا من الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد بعثته في برهة قصيرة» . وهم من بيوتات قريش ثم تبعهم في السنين الثلاث الأولى عشرات الرجال والنساء من مختلف بيوتات قريش من بني أمية وبني هاشم وبني مخزوم وبني عبد الدار وبني التيم وبني عدي وبني جمح وبني سهم وبني عامر رضي الله عنهم بحيث يكفي هذا الواقع اليقيني لتفي الرواية كسبب لنزول الآية أو تصديقا لما روي من قول الرجل إنه لا يتبع الأنبياء إلّا أراذل الناس ومساكينهم.

_ (1) اقرأ أسماء المهاجرين الأولين في ابن هشام، ج 1 ص 321 وما بعدها.

تعليق على جملة نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين (35)

وإذا كانت الآية تذكر مواقف المترفين من رسل الله فليس ضروريا أن يكون كل ابن بيت ونعمة مندرجا في صفهم بطبيعة الحال. والآية بعد غير منقطعة عن السياق السابق كما أنها والآيات التي بعدها سياق واحد بحيث يصح القول إنها جاءت من جهة معقبة على الآيات السابقة. ومن جهة منددة منذرة لطبقة المترفين المنحرفين الذين يقودهم الترف والانحراف إلى الوقوف من رسل الله والدعوة إليه موقف الجحود ثم لمثل هذه الطبقة من مترفي مكة الذين كانوا هم الواقفين من النبي مثل هذا الموقف. ومن جهة مسلية للنبي صلى الله عليه وسلم مؤذنة أن هذا الموقف من هذه الطبقة ليس بدعا وخاصا به. تعليق على جملة نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) ويبدو أن الزعماء كانوا يوازنون في معرض التبجح بينهم وبين النبي وأتباعه في الأموال والبنين. ويجرون في هذا على ما اعتادوه من كون أصحاب الأموال والأولاد يكونون أكثر قوة وأضمن نصرا فاقتضت الحكمة الرد عليهم بالرد القوي الذي جاء في الآيات وبتكرار التوكيد بأن سعة الرزق لن تغني عن أصحابها شيئا عند الله. وأنها ليست اختصاصا لهم من الله مستمرا، فالله هو الذي يداول الرزق بين الناس بسطا وضيقا وفقا للنواميس التي أودعها في خلقه وكونه. وليس لذلك أثر في منازلهم عند الله التي إنما تكون حسب أعمالهم. وفي هذا المستلهم من فحوى الآيات وروحها وما فيه من تلقين مستمر المدى يضاف إلى ما فيها من تلقين بتقبيح الترف الذي يقود أصحابه إلى الوقوف من رسل الله والدعوة إليه موقف الجاحد المعطل والتنديد بهم والتحذير منهم. أحاديث واردة في سياق الآية وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ولقد أورد البغوي حديثا عن أبي هريرة رواه بطرقه في سياق الآية الأخيرة من

[سورة سبإ (34) : الآيات 40 إلى 42]

هذه الآيات جاء فيه: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من يوم يصبح العباد فيه إلّا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا» . وحديثا ثانيا عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: أنفق يا ابن آدم أنفق عليك» وأورد ابن كثير حديثا أخرجه ابن أبي حاتم عن حذيفة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن بعد زمانكم هذا زمان عضوض يعض الموسر على ما في يده حذر الإنفاق ثم تلا هذه الآية: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) . حيث ينطوي في هذه الأحاديث صور من التطبيق والاستلهام النبوي للتقريرات القرآنية وحث للمسلمين على الإنفاق والإيمان بوعد الله تعالى بالإخلاف على المنفقين. ولقد مرت آيات كثيرة في الحث على إطعام المساكين، وفي السور الآتية وبخاصة المدنية آيات كثيرة في الحث على الإنفاق في سبيل الله والتصدق على الفقراء والمساكين ومنها ما جاء ذلك في سياق التشريعات المالية في الدولة الإسلامية. وهناك أحاديث كثيرة أخرى في ذلك حيث يبدو أن هذا الأمر قد شغل حيزا كبيرا في الدعوة الإسلامية لما له من خطورة بعيدة المدى في حياة المجتمع الإسلامي الذي وضع القرآن والحديث له أقوى الأسس ليكون المجتمع الفاضل المتعاون المتكافل الذي يجد فيه المحتاج والفقير ما يسد فيه عوزه وحاجته ويتيح له الحياة الكريمة. وأكثر الآيات والأحاديث بل جلها قد نزلت وصدرت في العهد المدني لأن هذا العهد قد فتح المجال لقيام المجتمع الإسلامي في ظل الدولة الإسلامية تحت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد رأينا أن نؤجل إيراد الأحاديث الأخرى واستيفاء التعليق على هذا الأمر إلى مناسبات الآيات المدينة والاكتفاء هنا بما تقدم. [سورة سبإ (34) : الآيات 40 الى 42] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42)

[سورة سبإ (34) : الآيات 43 إلى 45]

(1) الذين ظلموا: أي الذين ظلموا أنفسهم وأضروها بشركهم وانحرافهم. في هذه الآيات حكاية لمواجهة يجريها الله بين الكفار المشركين والملائكة ونتيجتها حيث يجمع الله بين الفريقين. ثم يسأل الملائكة عما إذا كان المشركون يعبدونهم فعلا فيجيبون منزهين الله تعالى عن الشركاء قائلين إنه هو وليهم من دونهم وإن المشركين إنما كانوا يعبدون الجن وإن أكثرهم كانوا مؤمنين بهم. وحينئذ يقول الله عز وجل للمشركين إن أحدا منكم لا يملك للآخر ضرا ولا نفعا فذوقوا عذاب النار التي كنتم تكذبون بها. والمتبادر أن الآيات استمرار لما احتوته الآيات السابقة من الرد على الكفار وتسفيههم وإنذارهم ووصف ما يكون من أمرهم في الآخرة وفيها صورة أخرى لما يكون فيها، وقد استهدفت بالإضافة إلى ذلك تقرير ضلال المشركين وإفكهم وتكذيبهم في عقائدهم في صدد الملائكة وتقرير كونهم إنما يعبدون الجن لا الملائكة وهم الذين يوسوسون لهم ويضلونهم. لأن الملائكة مخلصون لله عارفون لحدودهم ودائبون على تنزيهه وتقديسه. وهذا ينطوي في الوقت نفسه على هدف إفحام الكفار وحملهم على الارعواء والتدبر كما هو ظاهر. وهذه هي المرة الثانية التي تحكى فيها هذه الحكاية حيث حكيت في سورة الفرقان التي مر تفسيرها وحيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت تكرار ذلك بسبيل التحذير والتنديد والإفحام لأن عقيدة المشركين في الملائكة كانت واسعة النطاق. [سورة سبإ (34) : الآيات 43 الى 45] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45)

[سورة سبإ (34) : الآيات 46 إلى 50]

(1) نكير: أي نكيري بمعنى قصاصي وعقابي وعاقبة إنكاري وغضبي. في الآيات حكاية لأقوال الكفار حينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتلو عليهم آيات القرآن الواضحة وحججه البالغة حيث كانوا يقولون للناس إن النبي صلى الله عليه وسلم ليس إلّا رجلا يريد أن يصرفكم عما كان يعبد آباؤكم، وإن القرآن ليس إلّا كذبا مفترى على الله، وإن يوم الحساب الحق الذي كانوا ينذرون به ليس إلّا من قبيل السحر والتخييل ولا حقيقة له. وتقرير ينطوي على التبكيت بأن الكفار يقولون هذا في حين أن الله لم ينزل إليهم قبل القرآن كتبا ولم يرسل إليهم قبل النبي رسلا حتى يكون كلامهم مستندا إلى علم وتجربة. وتذكير بالأمم السابقة لهم والتي كذبت رسلها مثلهم وما كان من تدمير الله لها في حين أن الكفار العرب لم يبلغوا في القوة والعظمة معشار ما بلغته. ولم نطلع على رواية خاصة بمناسبة هذه الآيات، والسياق غير منقطع بينها وبين سابقاتها كما هو المتبادر من حيث تتابع الكلام عن الكفار ومواقفهم. فهي استمرار له، وفحواها يدل على أن الكلام المحكي عن الكفار صادر عن الزعماء وموجه إلى عامة الناس على سبيل الصد والتعطيل والحض على الجحود وعدم التصديق. وأسلوبه ينطوي على صورة لما كان هؤلاء الزعماء عليه من عناد، وما كانوا يبذلونه من جهد في ذلك السبيل. [سورة سبإ (34) : الآيات 46 الى 50] قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)

(1) أعظكم بواحدة: أنصحكم أو أطلب منكم شيئا واحدا أو مسألة واحدة. (2) أن تقوموا لله: أن تتفكروا بتجرد مخلصين لله. (3) مثنى وفرادى: اثنين اثنين أو واحدا واحدا. (4) ما يبدىء الباطل وما يعيد: معنى الجملة الحرفي أن الباطل لا يخلق أصلا ولا يعيد ثانية، ومعناها ليس للباطل أصل ولا دوام ولا بقاء. في الآيات أوامر للنبي صلى الله عليه وسلم: 1- بمخاطبة الكفار وطلب شيء واحد منهم وهو: أن يخلصوا النية لله ويتجردوا عن الهوى والعناد، ثم يتفكروا كل واحد لنفسه أو كل اثنين لحدتهما معا فيما يدعوهم إليه حيث يتأكدون أن صاحبهم أي النبي صلى الله عليه وسلم ليس مجنونا وأنه إنما هو نذير من الله بعذاب شديد إذا لم ينيبوا إليه ويسيروا في طريق الهدى. 2- بالتوكيد لهم بأنه لا يطلب على إنذاره أجرا، فأجره ونفعه لهم وحدهم وأن أجره هو على الله الشهيد على كل شيء والعالم بكل شيء. 3- وبالهتاف بأن الله هو الذي يقرر الحق ويؤيده وهو العليم بما هو خفي من نوايا الناس وضمائرهم، وبأن الحق قد جاء واضحا جليا كاسحا للباطل الذي لا أصل له ولا بقاء ولا قرار أمام الحق. 4- وبالإعلان بأنه إذا كان ضالا فضلاله عائد إليه، وإن كان مهتديا فإنما ذلك بوحي ربّه السميع لكل شيء والقريب من كل شيء. ولم نطلع على رواية عن سبب نزول هذه الآيات وهي غير منقطعة عن السياق واستمرار له فيما هو المتبادر. وقد جاءت بمثابة إنهاء لموقف المناظرة والجدل بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار أو لما هو في مقامهما. وقد تكرر مثل هذه الخواتم

تعليق على جملة إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى

لمثل هذه المواقف ولذلك يمكن أن تعد أسلوبا من الأساليب النظمية القرآنية البديعة. وقد جاء أسلوب الآيات هنا قويا أخاذا رائعا من شأنه أن ينفذ إلى الأعماق. وقد خوطب به العقل والقلب معا. وفي الهتاف بالحق وقوته وضلال الباطل ومحقه بنوع خاص روعة لا تزال قائمة ما قام الجدل بين الحق والباطل، وتوطيد قرآني مستمر المدى والتلقين للحق ودعوة قرآنية مستمرة المدى ضد الباطل. وأسلوب النفي لطلب النبي صلى الله عليه وسلم أجرا في هذه المرة جاء أقوى من المرات السابقة حيث أمر بأن يهتف في الناس أن كل ما يرجوه من نفع من رسالته هو لهم، وأن أجره إنما هو على الله وحده. ومن تحصيل الحاصل أن نقول إن الآية الأخيرة لا تعني الشك في حقيقة الواقع من أمر الدعوة النبوية، وإنما جاءت بأسلوبها على سبيل المساجلة كما هو الأمر في آيات سابقة من هذه السورة نبهنا عليه، وكما تكرر غير مرة فيما مرّ من السور أيضا. تعليق على جملة إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى وفيما احتوته الآية الأولى حكمة اجتماعية عامة وصورة من صور ما كان عليه موقف النبي صلى الله عليه وسلم من الكفار وموقفهم منه أيضا، فالاجتماعات العامة يختلط فيها الحابل والنابل، وتسود فيها الأهواء وتضعف فيها قوة المنطق، ولا يؤدي الجدال فيها إلى نتيجة حاسمة ومرضية. والزعماء الذين تولوا كبر المعارضة والتعطيل بدافع الاستكبار والمكر السيء على ما ذكرته آيات سورة فاطر [42- 43] التي أوردناها قبل وغيرها كانوا يتوخون التشويش والتهويش على الناس. ولعلهم كانوا يعقدون الاجتماعات العامة للحث على التمسك بعقائد الآباء وللتحريض على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أشارت الآية [33] من

[سورة سبإ (34) : الآيات 51 إلى 54]

هذه السورة إلى شيء من ذلك. ولذلك طلب القرآن من الناس أن يتفكروا في أمر الدعوة النبوية وهم منفردون بإخلاص وتجرد وأن يترووا ويحكموا العقل ولا يؤخذوا بالتهويش والتشويش والعصبية والهوى، وحينئذ تبان لهم الحقيقة ساطعة ناصعة. والخطاب في الآية وإن كان موجها للناس عامة فلا يبعد أن يكون قد قصد فيه بنوع خاص ذلك الفريق المعتدل الذي كان يعترف في نفسه بصدق النبي صلى الله عليه وسلم وكان خجله أو وجاهته أو مصلحته الخاصة أو مركزه في قومه وعشيرته أو سنّة تمنعه من الإسلام، وفي سورة القصص التي مرّ تفسيرها آيات تشير إلى بعض هؤلاء على ما نبهنا إليه في سياق تفسيرها. وقد وردت روايات عديدة تذكر ذلك أيضا وقد أوردنا بعضها في سياق تفسير بعض السور السابقة مثل القلم والمدثر والإسراء والقصص والأنعام وغيرها. وكل ما انطوى في الآية من هذا مستمر التلقين في صدد مواقف التهويش والتشويش التي يقفها ذوو النيات السيئة والمآرب الخاصة من دعوة الإصلاح والحق كما هو المتبادر. [سورة سبإ (34) : الآيات 51 الى 54] وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54) . (1) فزعوا: خافوا واندهشوا. (2) فلا فوت: لن يفوت منهم أحد أو يقال لهم ذلك. (3) التناوش: التناول أو التمسك. (4) ويقذفون بالغيب: كناية عن الاندفاع وراء الظنون والتخمينات، وحكاية

لما كانوا يفعلونه ويرمون به النبي صلى الله عليه وسلم. (5) حيل بينهم: بمعنى منعوا وحجبوا. (6) أشياعهم: بمعنى أمثالهم. في الآيات إشارة إلى ما سوف يكون من حال الكفار حينما يحل فيهم وعد الله وقد بدأت بأسلوب فيه معنى التنبيه والإنذار ووجّه الخطاب فيه إلى السامع أو إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فحينما يحل وعد الله وعذابه سترى حال الكفار عجيبا وموقفهم رهيبا. حيث يعتريهم الفزع وتستولي عليهم الدهشة لأنهم يرون أنفسهم قد أخذوا بكل سرعة ومن أقرب مكان وآمنه في ظنهم. ودون أن يفوت أو يفلت منهم أحد. وحيث يهتفون بالإيمان ولكن هذا لا يكون مجديا لأن الأمر قد بعد عنهم وفرصة تناوله والانتفاع به قد ضاعت عليهم. فقد كفروا به من قبل وذهبوا في التخمين والظنون والرجم بالغيب في سياق التكذيب والجحود أبعد المذاهب. وسيحال بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأمثالهم الكافرين المكذبين من الأمم السابقة لهم، وحينئذ يرون حقيقة ما كانوا يشكون فيه شكهم الشديد المريب الذي لا يستندون فيه إلى عقل وحق وعلم. وقد جاءت الآيات خاتمة للسورة، وهي في ذات الوقت استمرار للآيات السابقة لها بسبيل إنهاء موقف الجدل والمكابرة أو حكايته، وهي قوية نافذة، وقد استهدفت فيما استهدفته على ما يتبادر إثارة الخوف والندم في السامعين من المشركين وحملهم على الارعواء قبل فوات الفرصة. ولقد أورد المفسرون تأويلا معزوا لبعض علماء التابعين لجملة وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) بأنها تعني أخذهم بعذاب دنيوي أو خسف أو انكسار في حرب أو في يوم بدر، وروح الآيات تلهم بقوة أنها بسبيل وصف مشهد الكفار يوم القيامة وتبكيتهم وإنذارهم. ولقد أورد الطبري حديثا عن ربعي بن حراش قال: «سمعت حذيفة بن

اليمان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وذكر فتنة تكون بين أهل المشرق والمغرب. قال: فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم السّفيانيّ من الوادي اليابس في فورة ذلك حتى ينزل دمشق فيبعث جيشين جيشا إلى المشرق وجيشا إلى المدينة حتى ينزلوا بأرض بابل في المدينة الملعونة والبقعة الخبيثة فيقتلون أكثر من ثلاثة آلاف ويبقرون بها أكثر من مائة امرأة ويقتلون بها ثلاثمائة كبش من بني العباس ثم ينحدرون إلى الكوفة فيخربون ما حولها ثم يخرجون متوجّهين إلى الشام فتخرج راية هذا من الكوفة فتلحق ذلك الجيش منها على الفئتين فيقتلونهم لا يفلت منهم مخبر ويستنقذون ما في أيديهم من السّبي والغنائم ويخلي جيشه التالي بالمدينة فينتهبونها ثلاثة أيام ولياليها ثم يخرجون متوجهين إلى مكة حتى إذا كانوا بالبيداء بعث الله جبريل فيقول يا جبرائيل اذهب فأبدهم فيضربها برجله ضربة يخسف الله بهم فذلك قوله في سورة سبأ: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ [51] الآية، ولا ينفلت منهم إلّا رجلان أحدهما بشير والآخر نذير وهما من جهينة فلذلك جاء القول وعند جهينة الخبر اليقين» . وعقب الطبري على هذا برواية تفيد الشك في رواية الحديث عن سفيان الثوري الذي ذكر في سلسلة الرواة. والحديث متهافت ومحل شك بدون ريب وفيه صورة من صور التطبيق على الأحداث والأهواء والفتن التي كانت في الصدر الإسلامي وزمن الأمويين وبعدهم مما يقع المرء على كثير منه على هامش الآيات القرآنية. ولقد أورد الطبري بعد إيراده الحديث والرواية المشككة فيه أقوالا معزوة إلى عطاء ومجاهد وقتادة تفيد أن الجملة القرآنية هي في صدد مشهد المشركين يوم القيامة أو جهة خروجهم من قبورهم وهو ما تلهم روح الآيات على ما نبهنا عليه آنفا.

سورة الزمر

سورة الزّمر في السورة دعوة إلى الله وحده وتنويه بقدرته وعظمة مشاهد الكون، وحكاية لبعض عقائد المشركين وأقوالهم وحملة عليهم ومقايسات بين المؤمنين والكافرين، وتنويه بالقرآن وأثره في النفوس الطيبة، وتصوير رائع للبعث والقضاء بين الناس. وقد تخلل آيات السورة أمثال ومواعظ ومبادئ عامة، وتلهم بعض آياتها أن فيها إذنا للمؤمنين بالهجرة. والمقايسات التي فيها جاءت بأسلوب نظمي خاص يجعله خصوصية من خصوصيات السورة، وفصولها مترابطة تسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة. وقد روى المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآيات [52- 54] مدنية، وانسجامها في السياق موضوعا وسبكا يسوغ الشك في ذلك. ولقد روى الترمذي عن عائشة «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل» حيث ينطوي في الحديث عناية نبوية خاصة بهاتين السورتين لا بد لهما من حكمة قد يكون منها ما احتوتاه من مواعظ وحكم وتنويه بالقرآن. وفي الحديث دلالة على أن هذه السورة كانت تامة الترتيب معروفة الاسم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الزمر (39) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4)

_ (1) التاج ج 4 ص 17.

(1) الدين: هنا بمعنى الخضوع والاتجاه والعبادة. (2) لا يهدي: هنا بمعنى لا يوفق ولا يسعد، على ما تلهمه روح الآية. بدأت السورة بتقرير كون الكتاب أي القرآن هو تنزيل من الله العزيز الذي عظمت قدرته وعز جانبه، الحكيم الذي جميع أفعاله حكمة وصواب. ثم وجه الخطاب في الآيات التالية للمطلع للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الله قد أنزل إليه الكتاب بالحق وأمره بعبادة الله وحده والإخلاص له في الخضوع والاتجاه لأن ذلك إنما يجب له وحده. وأشير بعد ذلك إلى المشركين إشارة تنطوي على التقريع لأنهم اتخذوا من دون الله أولياء يشركونهم معه في الخضوع والاتجاه زاعمين أنهم إنما يفعلون ذلك ليكونوا أسباب قربى وحظوة لهم عند الله. ثم قرر بأسلوب إنذاري بأن الله سوف يحكم بينهم فيما هم فيه مختلفون ومرتكسون ويجزيهم على ما يزعمون بما يستحقون وأن الله لا يمكن أن يوفق ويسعد كل كاذب كافر. وانتهت الآيات بحجة جدلية من قبيل المساجلة وهي أن الله لو أراد أن يتخذ ولدا لاصطفى أحسن ما يخلق، ثم أكدت تنزهه عن ذلك فهو الواحد القهار الغني عن الولد والمحيط بكل شيء والذي يعنو لحكمه كل شيء. ولم نطلع على رواية في سبب نزول الآيات، ويلوح من حكاية اعتذار المشركين عن شركهم وزعمهم أنهم إنما يعبدون الشركاء ليكونوا لهم سبب قربى إلى الله أن الآيات نزلت بسبيل التعقيب على مشهد مناظرة وجدل بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينهم أو بسبيل تسجيله والتنديد بهم من أجله. والآية الأخيرة توضح مفهوم الأولياء الذين ورد ذكرهم في ما قبلها وتوضح

تعليق على جملة إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار (3)

مفهوم عقيدة المشركين فيهم. وبذلك تتضح الحجة الجدلية التي احتوتها من قبيل المساجلة كما قلنا ونعني عقيدة العرب بكون الملائكة بنات الله وكونهم يعبدونهم ليكونوا شفعاء لهم عنده. وفي أسلوب الآيات التنديدي في هذه العقيدة توكيد جديد بأن أي اتجاه إلى غير الله بأي معنى وصفة- حتى ولو بقصد التوسل والتقرب إليه- يعتبر شركا لا يرضى عنه الله قط مما تكرر كثيرا ومما هو مبدأ أساسي محكم من مبادئ القرآن والإسلام. تعليق على جملة إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) وتأويلنا لجملة إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) مستمد من وصف الكاذب الكافر المتحقق في أصحابه لأن هذا الوصف يعني فيما يعنيه أيضا فساد الخلق وسوء النية وعدم الرغبة في الحق والهدى وأن ذلك هو الدافع للمتصفين به إلى المواقف الباغية التي يقفونها. ويتبادر لنا إلى هذا معنيان أو مقصدان آخران في الجملة وأمثالها مثل (إن الله لا يهدي القوم الفاسقين والكافرين والمجرمين والمفسدين) . أولهما مستلهم من سياق الآيات التي ترد فيها وهو مقصد التنديد والتبكيت والإنذار وحمل أصحاب الصفات المذكورة على الارعواء والتوبة عن مواقفهم. وثانيهما أنها قاصرة على من يبقى متصفا به، وأنها لا تعني مع ذلك أنه من المحتم على الموصوفين به أن يبقوا في الضلال والفسق والفساد والظلم والإجرام والكفر والكذب محرومين من توفيق الله وعنايته وهدايته. فما دام أن الله تعالى قد جعل فيهم قابلية للتدبر والتفكر والاختيار فإن احتمال عودتهم عن مواقفهم إلى الحق والصواب ونيلهم لرضاء الله وتوفيقه يظل قائما. ويدعم هذا الآيات الكثيرة التي نزلت للتوبة وفتح الباب تجاه الكافرين المجرمين المنافقين الظالمين الكاذبين لينيبوا إلى الله، على ما شرحناه في سياق سورة البروج وأوردناه من الآيات الكثيرة في صدده. ولقد وقع ذلك فعلا فإن معظم الذين كانت هذه النعوت تعنيهم قد تابوا وأنابوا إلى الله وآمنوا بالقرآن

[سورة الزمر (39) : الآيات 5 إلى 7]

والرسالة المحمدية وغدوا موضعا لعناية الله تعالى وأهلا لرضائه وحملوا مشعل الهداية الإسلامية إلى مشارق الأرض ومغاربها. واستحقوا وصف الله عز وجل: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة/ 100] . [سورة الزمر (39) : الآيات 5 الى 7] خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) . (1) يكوّر: بمعنى يلفّ بعضه على بعض أو يدخل بعضه على بعض. (2) أنزل لكم: هنا بمعنى أوجد لكم أو سخر لكم. (3) ثمانية أزواج: ذكر وأنثى من كل من الضأن والماعز والإبل والبقر وقد عبر عن ذلك بنفس التعبير في آيات سورة الأنعام [143- 144] . (4) أنى تصرفون: أين تذهب أفكاركم وتنصرف عقولكم. جاءت هذه الآيات معقبة على ما سبقها وبسبيل توكيد استحقاق الله وحده للخضوع والعبادة، وقد استعمل فيها ضمير المخاطب الجمع كأنما هي موجهة للسامعين وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى بيان آخر. وهي قوية رائعة في أسلوبها ولفتها النظر إلى مشاهد عظمة الله ونواميس

تعليق على جملة خلقكم من نفس واحدة وما بعدها

ملكوته وخلق الناس والأنعام وأفضاله على خلقه، بسبيل البرهنة على استحقاقه وحده للعبادة وضلال الذين يشركون غيره معه فيها. تعليق على جملة خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وما بعدها وقد قرر جمهور المفسرين «1» أن جملة خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها تعني الإشارة إلى أصل خلق بني آدم حيث خلق الله آدم من تراب ثم نفخ فيه من روحه ثم خلق زوجته حواء من ضلع من أضلاعه. وهذا ما ورد في الإصحاح الأول من سفر التكوين. وقد يكون القصد من الجملة الإشارة العامة إلى النوع الإنساني الذي خلقه من زوجين من جنس واحد فكأنما هما نفس واحدة، وقد يكون ضمير الجمع المخاطب من القرائن على هذا القصد في هذا المقام. وقد قرر جمهور المفسرين كذلك «2» أن جملة خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ تعني الصور التي تتطور بها الأجنة في بطون الأمهات وأن جملة فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ تعني ظلمة صلب الرجل حيث تكون النطفة أولا ثم ظلمة رحم المرأة حيث تنمو النطفة ثم ظلمة المشيمة التي تلف الجنين في الرحم. وقرروا كذلك «3» أن جملة: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [6] في معنى خلق لكم زوجين من كل نوع من الأنعام الأربعة وهي الضأن والمعز والإبل والبقر على ما جاء بصراحة في آيات سورة الأنعام [143- 144] التي مرّ تفسيرها. ولقد علقنا على ما جاء في الآيتين الأولى والثانية في سياق آيات مماثلة في

_ (1) انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري والخازن والزمخشري والطبرسي وابن كثير والبغوي. (2) انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري والخازن والزمخشري والطبرسي وابن كثير والبغوي. (3) انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري والخازن والزمخشري والطبرسي وابن كثير والبغوي.

تعليق على جملة إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم

سورتي الأعراف ويس بما يغني عن التكرار «1» . ونكتفي بالقول هنا بمناسبة ما ورد في الآية الثانية من الإشارات إلى كيفيات الخلق أن في أسلوب الآيات ومضمونها ما يدل على أن القصد منها كما هو في أمثالها الكثيرة على ما نبهنا إليه في مناسبات سابقة هو التنبيه إلى مشاهد عظمة الله وقدرته ونعمه على الناس بأسلوب يتسق مع أفهام الناس على اختلاف فئاتهم وبما هو ماثل أمام أعينهم وفي أنفسهم وما يتمتعون به من وسائل الحياة وليس تقرير نواميس كونية وخلقية من وجهة فنية وأن الواجب عدم تجاوز هذا النطاق في هذه الآيات لأن ذلك ليس من المقاصد القرآنية. تعليق على جملة إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ والآية الأخيرة من الآيات الحاسمة في تقرير كون كفر الكافرين وإيمان المؤمنين وما ينشأ عن ذلك من الهدى وعمل الصالحات والضلال والكفر واقتراف الآثام إنما هو من مكتسبات الإنسان وقابليته الاختيارية التي شاء الله أن يودعها فيه. وفي تقرير تنزيه الله عز وجل عن تحتيم الكفر والإثم على أحد تحتيما لا يجعل له مناصا منهما. فهو الغني عن الناس إن كفروا به ولا يرضى بذلك ولا يحبه لهم قط في حين أنه يرضيه منهم أن يعترفوا به ويشكروه ويحبه لهم. ومع وضوح الآيات ومقاصدها في التنويه بالشكر والتنديد بالكفر فإن أصحاب المذاهب الكلامية «2» تشادوا حولها فقال بعضهم: إن عدم الرضا وعدم الإرادة في معنى واحد وإن الكفر لا يمكن أن يقع بإرادة الله. ورد عليهم مخالفوهم فقالوا: إن هناك فرقا بين الرضا والإرادة ولا يقع في ملك الله إلّا ما أراد وإن كان

_ (1) آيات سورة الأعراف [54 و 189] وسورة يس [38- 40] و [71- 73] . (2) انظر تفسير الآية في الكشاف للزمخشري وما عليه من تعليقات لابن المنير الإسكندري (الطبعة الأولى مطبعة مصطفى محمد) وانظر أيضا تفسيرها في تفسير الخازن.

[سورة الزمر (39) : آية 8]

لا يرضى عن بعض ما يقع. ونحن نرى التشاد حول الآية تكلفا لا تقتضيه ولا تتحمله ولو كان مقصد كل فريق تقديس الله من وجهة نظره. ونرى الأولى أخذ الآية وأمثالها على مقصدها الواضح فيها وهو الحث على الإيمان والشكر والتنديد بالكفر والتحذير معه. [سورة الزمر (39) : آية 8] وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8) . (1) خوله: بمعنى منحه أو مكنه. في الآية تنديد بخلق من أخلاق كثير من الناس، فإذا أصاب أحدا ضرر أو أحدق به خطر لجأ إلى الله تعالى وحده واستغاث به فإذا ما استجاب له وكشف عنه ما ألمّ به وبدّله نعمة بعد سوء نسيه وجعل له أندادا وشركاء في الدعاء والعبادة متخليا عن موقفه الأول ضالا بذلك عن سبيل الله. وفي آخر الآية أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لذلك الإنسان وأمثاله تمتع بكفرك قليلا في الدنيا فإنك من أصحاب النار جزاء ما أنت فيه من ضلال وتناقض. ولقد قال البغوي في صدد نزول الآية: (قيل إنها نزلت في عتبة بن ربيعة. وقال مقاتل: نزلت في أبي حذيفة بن المغيرة المخزومي، وقيل هي عامة في كل كافر) ونحن نرجح القول الأخير استلهاما من روحها وعطفها على ما سبقها ونرى أنها متصلة بالآيات السابقة سياقا وموضوعا في صدد الجدل القائم بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين وأنها جاءت استطرادية لتندد بموقف التناقض الذي يقفه المشركون من الله عز وجل في حالتي الشدة والفرج. وهذا لا يمنع أن يكون حدث في ظروف نزولها موقف من بعض المشركين مماثل لما حكته الآية فكان مناسبة لما اقتضته حكمة التنزيل من التنديد بتناقض المشركين.

[سورة الزمر (39) : آية 9]

وفي الآية توكيد لما احتوته آيات في سور أخرى سبق تفسيرها من اعتراف المشركين في قرارة نفوسهم بالله وبأنه هو وحده كاشف الضرّ والسوء ومن عادتهم في اللجوء إليه وحده حينما يحدق بهم خطر أو يلم بهم ضرر. وفي ذلك توكيد حاسم آخر بأن الله لا يقبل من عباده إلّا أن يكون اتجاههم إليه وحده في كل ظرف وبأن غير ذلك هو شرك وكفر. وفي الآية تلقين مستمر المدى في صدد من لا يذكر الله إلّا في وقت الشدة وينساه وينحرف عن جادة الحق والتقوى في وقت الرخاء وما في ذلك من قبح وبشاعة وإثم عند الله. [سورة الزمر (39) : آية 9] أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9) . (1) قانت: خاضع أو خاشع أو طائع. في الآية تساؤل عما إذا لم يكن الأفضل هو الخاضع لله وحده العابد له، آناء الليل وأطراف النهار، والذاكر له وقت الشدة والرخاء معا، يحسب حساب الآخرة وأهوالها، ويرجو من ربّه أن يشمله برحمته. وأمر رباني للنبي صلى الله عليه وسلم بالتساؤل ثانية عما إذا كان يصح أن يسوّى بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون أو أن يكون الفريقان في مقام واحد. وتقرير بأن أرباب العقول الراجحة السليمة هم فقط الذين يتذكرون ويدركون حقائق الأمور. ولقد روى البغوي عن عطاء أن الآية نزلت في أبي بكر، وعن الضحاك أنها نزلت في أبي بكر وعمر، وعن ابن عمر أنها نزلت في عثمان، وعن الكلبي أنها نزلت في ابن مسعود وعمار وسلمان رضي الله عنهم جميعا «1» . وليس ذلك واردا

_ (1) انظر أيضا تفسير الزمخشري والخازن حيث رويا بعض هذه الأسماء.

تعليق على جملة قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون

في مساند الصحاح وأسلوب الآية عام مطلق وبينه وبين أسلوب الآية السابقة تناظر. فالموضوع في كلتيهما مطلق عام. وفي كلتيهما أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالاستنكار وإعلان الحقيقة الواجب إدراكها. وهذا ما يسوغ القول إن هذه الآية متصلة أولا بالآية السابقة وإن كلتيهما متصلتان بالسياق وقد جاءتا على سبيل الاستطراد والتنبيه. ولا نريد بما قلناه أن ننفي خبر استغراق بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأولين في التهجد بالليل بنوع خاص واشتهار ذلك بحيث جعلتهم حكمة التنزيل مناسبة للمفاضلة بينهم وبين أشخاص بطرين مستكبرين من الكفار. والمتبادر أن التساؤل الأول على سبيل المقايسة بين المؤمن الصالح والكافر المشرك الذي أشارت إليه الآية السابقة والذي لا يذكر الله إلّا في وقت الشدة وينحرف عن سبيله وقت الرخاء. وأن التساؤل الثاني تعقيب على الأول وبسبيل التنويه بالفريق الصالح الذي هو وحده يدرك ويعلم والتنديد بالفريق المنحرف بسبب عدم فهمه وعلمه. وواضح أن الشطر الثاني من الآية ينطوي على التقرير الإيجابي بأفضلية المؤمن الصالح على المشرك المنحرف الضال بقطع النظر عن المركز الاجتماعي لكل منهما. واستنكار التسوية بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون. وفي هذا- وبخاصة في تقرير أفضلية المؤمن الصالح- تلقين جليل مستمر المدى. تعليق على جملة قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ومع أنه قد يكون المقصود القريب من هذه الجملة المؤمنين والكافرين حيث أدرك الأولون وعلموا حقائق الأمور فاتبعوا طريق الهدى وعميت أبصار الآخرين عن ذلك فإن في إطلاق عبارتها مسوغا للقول إنها تتناول كل ما يصح أن يكون موضوع مقايسة بين أمرين أو بين رجلين أو بين جماعتين أحدهما يدعم رأيه أو موقفه بالحجة الواضحة ويستند فيه إلى علم وتفكير والثاني مهوش مضلل لا يعي الحقيقة ولا يدرك موضع الحق ولا يستند في موقفه إلى علم وبينة. ولهذا فإن الجزء الرابع من التفسير الحديث 20

[سورة الزمر (39) : الآيات 10 إلى 15]

التعبير قد أصبح مثلا من الأمثلة القرآنية يتمثل به في كثير من المناسبات لما انطوى فيه من حكمة وصواب وحق. ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآية حديثا ورد في مسند الإمام عبد بن حميد عن أنس: «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على رجل وهو في الموت فقال له: كيف تجدك؟ فقال: أرجو وأخاف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلّا أعطاه الله عزّ وجلّ الذي يرجو وأمّنه الذي يخافه» . وقد ذكر ابن كثير أن الترمذي والنسائي وابن ماجه قد رووا هذا الحديث أيضا وينطوي في الحديث تطبيق نبوي للتلقين القرآني في المناسبات على سبيل الوعظ والتنبيه. [سورة الزمر (39) : الآيات 10 الى 15] قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) . في الآيات أوامر ربانية للنبي عليه السلام وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى بيان آخر. وهي كما يتبادر لنا غير منفصلة عن السياق السابق وقد احتوت تقريرات حاسمة كأنها تقريرات ختامية للموقف الذي ظل فيه الكفار مصرين معاندين وتعقيبا عليه. وقد هتف فيها بالمؤمنين بما هتف تثبيتا لقلوبهم وتطمينا لروعهم وحثا لهم على الصبر والتمسك بأهداب التقوى والإيمان والعمل الصالح. وتبشيرا لهم بالعاقبة الحسنى في الدنيا والآخرة. واحتوت الآية الأخيرة تنديدا وإنذارا وتعنيفا لاذعا للمشركين متناسبا مع الموقف وباثا في الوقت نفسه الوثوق والاستعلاء في النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه. فليعبدوا ما شاءوا من دون الله فهم الخاسرون يوم القيامة ومن يكن خاسرا يوم القيامة فهو الخاسر لكل شيء.

تعليق على تكرر أمر الله في السورة للنبي صلى الله عليه وسلم بعبادة الله وحده مخلصا له الدين

تعليق على تكرر أمر الله في السورة للنبي صلى الله عليه وسلم بعبادة الله وحده مخلصا له الدين والمتبادر أن أمر الله عز وجل للنبي عليه السلام بإعلان ما أمر بإعلانه هو لأجل قطع أي أمل لدى المشركين في تساهله معهم في صدد آلهتهم وشركائهم وتراجعه عما كان المشركون يبذلون جهدهم في سبيل تحقيقه على ما حكته آيات في سور أخرى سبق تفسيرها مثل سورتي القلم والإسراء. ويلحظ أن مثل هذا الأمر ورد في مطلع السورة، وقد تكرر هذا الثالث مرة في موضع آخر في أواخر السورة أيضا حيث يمكن أن يدل على أن المشركين قد جددوا جهودهم واقتراحاتهم في ظروف نزول السورة. تعليق على إلهام جملة وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ بالهجرة إلى الحبشة والآية الأولى تلهم بالإضافة إلى ما قلناه أنها تحتوي إذنا ربانيا أو حثا ربانيا للمضطهدين من المؤمنين على الهجرة من مكة وتبشيرا لمن يهاجر بأنه سوف يجد في أرض الله سعة وبأن الله سييسر له ما تقر به عينه ويؤتيه أجر صبره وافيا بغير تقتير ولا حساب على ما يناله من أذى وجهد وفراق. وهذا ما يستفاد من تأويلات الصدر الأول التي رواها المفسرون حيث رووا عن ابن عباس ومقاتل وغيرهما أن فيها أمرا للمسلمين بالهجرة من مكة. ولقد قال البغوي دون عزو إلى أحد: إنها نزلت في مهاجري الحبشة، وقال الخازن دون عزو إلى أحد: قيل إنها نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين هاجروا إلى الحبشة، ونرجح أن هذا القول من وحي الهجرة التي كانت في أواخر الهجرة الخامسة على ما يستفاد من روايات السيرة وبعبارة أخرى بعد هذه الآيات التي

يخمن نزولها في مثل هذا الوقت، إذا ما لوحظ المقدار الذي نزل من القرآن قبلها. والروايات تذكر «1» أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى ما يصيب أصحابه من البلاء وأنه لا يقدر على منعهم. قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإنّ فيها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم، فخرجت أولى قافلة منهم مؤلفة من عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت النبي وأبي حذيفة بن عتبة وزوجته سهلة بنت سهيل والزبير بن العوام ومصعب بن عمير وعبد الرحمن بن عوف وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي وزوجته وعثمان بن مظعون وعامر بن ربيعة وزوجته ليلى وأبو سبرة بن أبي رهم وسهيل بن بيضاء رضي الله عنهم. والأسماء تدل على أن المهاجرين كلهم أو جلهم من بيوتات قريش حيث يزيل هذا ما يقع في الوهم أنهم من الفئات الضعيفة أو الفقيرة. وكل ما كان من أمر هو أن آباءهم وذويهم نقموا عليهم إسلامهم واضطهدوهم وحاولوا أن يفتنوهم عن دينهم فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإذن الله بالهجرة. والروايات تذكر أنه بلغ المهاجرين خبر إسلام قريش فعادوا إلى مكة بعد أشهر فظهر لهم خطأ ما بلغهم فعاد أكثرهم ثانية إلى الحبشة وهاجر معهم عدد كبير آخر حيث بلغ عدد قافلتهم هذه المرة 83 رجلا و 17 امرأة جلهم من قريش. ولقد حقق الله وعده للمهاجرين، وظهر صدق قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم حيث وجدوا الحماية والعناية من ملك الحبشة فأقاموا فيها آمنين مطمئنين إلى السنة السادسة بعد الهجرة أي إلى أن انعقد صلح الحديبية بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش. فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم من أتى بهم إلى المدينة معززين مكرمين وهكذا ضرب الرعيل الأول من المسلمين أروع الأمثلة في التمسك بدين الله وتحمل مشاق الهجرة ومخاطرها ومفارقة الوطن والحرمان في سبيله.

_ (1) انظر سيرة ابن هشام ج 1 ص 321 وما بعدها.

التلقين المنطوي في الآية قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم.. إلخ

التلقين المنطوي في الآية قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ.. إلخ وبالإضافة إلى ما احتوته هذه الآية من حث المسلمين الأولين على الهجرة إلى أرض الله الواسعة فإنها بأسلوبها العام تتضمن هتافا دائما بما احتوته إلى عباد الله المخلصين. وتتضمن تلقينا مستمر المدى بوجوب عدم الخنوع للظلم والكفر وبغي أهلهما والهجرة من أرضهما إلى أرض الله الواسعة التي يجد المؤمن فيها الأمن والحرية والطمأنينة، ووعدا ربانيا دائما للمتقين المحسنين الصابرين بالعاقبة الحسنة في الدنيا قبل الآخرة. ولقد تكرر هذا الهتاف والوعد في آيات أخرى منها آية سورة النحل هذه: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) وآية سورة النساء هذه: وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100) . ولقد اجتمع في الآية ثلاثة أخلاق من أكثر ما حث عليها القرآن ووعد المتخلقين بها بأحسن العواقب في الدنيا والآخرة وهي التقوى والإحسان والصبر وبذلك تكون من الآيات المفردة في ذلك. [سورة الزمر (39) : الآيات 16 الى 20] لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20) . (1) ظلل: جمع ظلة وهي ما يخيم فوق الرأس ويحيط فوق الشيء.

وهي هنا بمعنى إحاطة النار بهم من فوقهم ومن تحتهم. (2) الطاغوت: الراجح أنها صيغة مبالغة من الطغيان على وزن جبروت وملكوت. واستعملت في القرآن في معان متعددة متقاربة حيث استعملت في معنى الأصنام وفي معنى الشرك وفي معنى الشيطان وإبليس وفي معنى الشخص الشديد الكفر والبغي. والجامع في هذه المعاني شدة الطغيان والبغي والشر وأسبابها. (3) غرف: جمع غرفة. وأصل معناها العلية أو المسكن العالي، والقصد هنا بيان أن أصحاب الجنة يسكنون القصور العالية المشرفة. في الآيات: 1- بيان لمصير الخاسرين الذين ذكروا في الآية السابقة لها، فالنار ستحيط بهم من فوقهم ومن تحتهم. 2- ولفت نظر عباد الله الصالحين إلى ما في هذا المصير من هون. 3- وتقرير كون الله إنما يوحي بذلك ليحذرهم منه ويدعوهم إلى اتقائه بالإيمان وصالح الأعمال. 4- وثناء وتنويه بالذين يجتنبون عبادة الأصنام ويخلصون في الاتجاه إلى الله وحده. فلهؤلاء البشرى وعلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبشر عباد الله الذين يتروون فيما يسمعون ثم يتبعون أحسن ما فيه وهو دعوة الخير والهدى. فهم الذين يكون الله قد هداهم وهم ذوو العقول السليمة. 5- وتساؤل في معنى المقايسة بين من استحق العذاب بالكفر وبين المؤمنين المتقين. فإن مصير الأولين النار في حين أن الآخرين يحلون في الغرف العالية التي تجري من تحتها الأنهار. 6- وتقرير بكون هذا هو وعد الله الحق وأن الله لن يخلف الوعد. 7- وسؤال للنبي صلى الله عليه وسلم عما إذا كان مستطيعا إنقاذ من في النار كأنما أريد بهذا السؤال تقرير كون الكافرين الذين استحقوا النار قد بيتوا الجحود والعناد فهم بمثابة

من ألقى نفسه في النار، وإفهام النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التطمين والتسلية أنه ليس من مهمته إرغام هؤلاء على الإيمان ولا هو بمستطيع ذلك. ويلفت النظر إلى الآية [18] وما في شطرها الأول بخاصة من قوة التنويه والتلقين والمدى. فذو العقل السليم واللب الطيب هو الذي يتروى في كل ما يسمعه ثم يتبع ما يكون فيه من الصواب والهدى دون أن يؤثر فيه غرض وهوى. ولذلك فإنه يصح أن يكون من تلقينات القرآن العامة المدى والاستمرار في صدد من يتروى فيما يسمع ويتبع الصواب منه وفي وجوب ذلك. ولقد روي «1» أن الآية [17] نزلت في إسلام عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد الذي تمّ على يد أبي بكر، كما روي أنها نزلت في زيد بن عمرو وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي رضي الله عنهم جميعا، ويلحظ أن الآية منسجمة مع السياق قبلها وبعدها انسجاما تاما وأن معظم الذين ذكرت الرواية أسماءهم أسلموا منذ عهد مبكر، ومنهم من أسلم في العهد المدني مثل أبي ذر وسلمان في بعض الروايات. على أن هناك من قال إنها بقصد التنويه بالمؤمنين بصورة عامة «2» . وهو الأوجه لا سيما أنه لم يرو أحد أنها نزلت لحدتها وإنما هي من سلسلة تامة متصلة السياق بما قبلها وما بعدها على ما هو المتبادر. ولقد روى البغوي بطرقه في سياق الآية الأخيرة حديثا عن أبي سعيد الخدري قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم إنّ أهل الجنّة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغهم غيرهم؟ قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدّقوا المرسلين» . وأورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن علي قال: «قال رسول الله: إنّ في الجنة غرفا يرى بطونها من ظهورها

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والطبرسي والخازن وابن كثير. [.....] (2) المصدر نفسه.

[سورة الزمر (39) : آية 21]

وظهورها من بطونها. فقال أعرابي: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وصلّى بالليل والناس نيام» . وصيغة أخرى لهذا الحديث رواها الإمام أحمد أيضا عن أبي مالك الأشعري قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدّها الله لمن أطعم الطعام وألان الكلام وتابع الصّيام وصلّى والناس نيام» . حيث ينطوي في الأحاديث صورة مما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلق به على الآيات القرآنية على سبيل التبشير والتشويق والتوضيح. [سورة الزمر (39) : آية 21] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21) . (1) يهيج: يتم جفافه. (2) حطاما: فتاتا أو محطما مهشما. المتبادر أن الآية غير منفصلة عن سابقاتها وأنها جاءت بمثابة استطراد وتعقيب عليها لتنبيه الناس إلى ما يقع تحت مشاهدتهم من نزول المطر من السماء وتسربه إلى باطن الأرض ثم خروجه منها ينابيع وانسياحه على سطحها وما ينبت به من زرع مختلف الألوان ثم يتم نضجه وجفافه ثم يصفر ثم يصبح حطاما. وفي كل هذا ذكرى لذوي العقول والإذعان. وقد قال بعض المفسرين: إن فيها تنبيها على أنه لا بد أن يكون للكون صانع مدبر، ودليلا على قدرة الله على بعث الناس وإعادتهم ثانية. وقال بعضهم: إن فيها تمثيلا لمظاهر الحياة للتحذير من الاغترار بها فكل ما يبدو فيها بهيجا عاقبته إلى الجفاف والدمار. وكلا القولين وجيه، مع التنبيه إلى أن ما في القول الثاني من قصد التحذير من الاغترار بالدنيا لا يعني الدعوة إلى نفض اليد منها. فذلك ما نفاه القرآن في

[سورة الزمر (39) : آية 22]

مواضع عديدة بل واستنكره في آية سورة الأعراف هذه: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) وإنما يعني التحذير من الاستغراق فيها استغراقا مسرفا ينسي المرء واجبه نحو الله والناس والمصير الأخروي الذي سوف يلقى فيه جزاء ما قدم بين يديه من خير وشر. [سورة الزمر (39) : آية 22] أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) . تساءلت الآية تساؤلا إنكاريا عمن هو الأفضل، أليس هو الذي شرح الله صدره فاهتدى وهو على نور من ربّه؟ ثم أنذرت ذوي القلوب القاسية التي لا تخشع ولا تلين عند ذكر الله وقررت أنهم في ضلال مبين. وقد انطوى في الآية كما هو المتبادر جواب إيجابي بأفضلية الأولين كما احتوت تنويها بهم وتقريعا للكافرين وذوي القلوب القاسية. والآية كما يبدو جاءت معقبة على الآية السابقة في صدد استخراج العبرة التي انطوت فيها والتي دعي أولو الألباب إلى تدبرها فإذا كان الناس متنوعين في مشاربهم وميولهم فالأفضلية بطبيعة الحال هي للصالحين المهتدين بهدى الله ونوره. ولقد روى البغوي بطرقه في سياق هذه الآية حديثا عن عبد الله بن مسعود قال: «تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فقلنا يا رسول الله كيف انشراح صدره؟ قال: إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح، قلنا: يا رسول الله وما علامة ذلك، قال: الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور. والتأهّب للموت قبل نزول الموت» . حيث ينطوي في الحديث صورة من ما كان يقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من محاورات في صدد الآيات القرآنية ومداها وما كان من انتهاز الرسول صلوات الله عليه الفرصة لوعظ أصحابه وتهذيبهم وحفزهم على صالح الأعمال.

[سورة الزمر (39) : آية 23]

[سورة الزمر (39) : آية 23] اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) . (1) متشابها: الراجح أن الكلمة هنا بمعنى حسن التساوق والانسجام في نظم القرآن ومحتوياته وأنها غير ما تعنيه جملة وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ في آية سورة آل عمران هذه: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ.... (2) مثاني: جمع مثنى، وهي إما أن تكون من التثنية بمعنى التكرار والترديد مرة بعد مرة، وإما من الثناء. وكلاهما مما يتحمله مفهوم الآية. فالمعنى الأول يعني ما جاء الأسلوب القرآني به من تكرار الوعظ والقصص والأمثال وترديدها. والمعنى الثاني يعني ما احتواه القرآن من صفات الله وأسمائه ومشاهد قدرته وتقرير استحقاقه للثناء والحمد. في الآية تنويه بالقرآن الكريم وأثره، فالله قد أنزل على رسوله أحسن الكلام. وقد جاء في حسن التساوق والانسجام والمواعظ الروحانية وتنوع أساليب الإنذار والتبشير والقصص وصفات الله وأسمائه الحسنى ومشاهد قدرته وعظمته ما من شأنه أن يثير في الذين يؤمنون بالله ويخافونه شعور الرهبة والهيبة والخشوع فتقشعر جلودهم لذكر الله ثم لا تلبث أن تستشعر بالسكينة والطمأنينة. وهذا من أثر هداية الله التي يوفق الله إليها من يشاء من عباده، أما من لم يوفقه إليها فلن ينتفع بذلك. ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له: لو حدثتنا فنزلت الآية. ومقتضى الرواية التي لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة أن الله أنزل الآية ردا عليهم. والرواية في المعنى المتبادر منها محل توقف من دون ريب لأن أصحاب رسول الله الأولين رضوان الله عليهم أجل من أن يظنوا أن

حديث رسول الله يضارع حديث الله أو يغني عنه. والشطر الثاني من الآية يدعم ذلك ويفسر مدى شطرها الأول حيث يسوغ القول إنها في صدد التنويه بالمؤمنين الأولين الذين اهتدوا وتأثروا بالقرآن ومواعظه وتساوقه وانسجامه وروحانيته أقوى التأثر. والآية بعد فيما هو المتبادر متصلة بسابقتها ومعقبة عليها. فقد احتوت السابقة تنويها بمن شرح الله صدره للإسلام وتنديدا بقساة القلوب عند ذكر الله فجاءت هذه الآية تبين ما هو ذكر الله وما هو أثره في القلوب الصافية السليمة. ولقد روى البغوي بطرقه في سياق هذه الآية عن عروة بن الزبير قال: «قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلون إذا قرىء عليهم القرآن؟ قالت: كانوا كما نعتهم الله عزّ وجلّ تدمع أعينهم وتقشعرّ جلودهم» . حيث ينطوي في الحديث توكيد تطبيقي لأثر القرآن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأولين رضي الله عنهم. ومعجزة الآية في المؤمنين مستمرة المدى في كل ظرف ومكان، فلن يسمع القرآن مؤمن يخاف الله ولا يكابر في آياته إلّا استشعر بروحانيته وخشع قلبه له. ويستوي في هذا العربي الذي يفهم لغة القرآن والأعجمي إذا سمع ترجمة معانيه ترجمة صادقة. هذا، وليس من محل للاستشكال في الآية بسبب الإطلاق في عبارة: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) فإن الإشكال يزول بآيات عديدة أخرى قرنت فيها هداية الله وإضلاله بأسبابها ونص فيها على أن الله إنما يضل الفاسقين والظالمين أي الذين فسدت أخلاقهم وساءت نياتهم، وإنما يهدي إليه من أناب أي من رغب في الحق والهدى على ما نبهنا إليه في مناسبات عديدة سابقة. ولقد روى البغوي بطرقه في سياق هذه الآية حديثا عن عباس بن عبد المطلب قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اقشعرّ جلد العبد من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه كما يتحاتّ عن الشجرة اليابسة ورقها» . وحديثا آخر جاء فيه: «إذا اقشعر

[سورة الزمر (39) : الآيات 24 إلى 26]

جلد العبد من خشية الله حرمه الله على النار» . حيث ينطوي في الحديثين حثّ وترغيب للمسلمين في صدد مدى هذه الآية. هذا، ولقد علقنا على موضوع ذكر الله وأثره وأوردنا ما ورد في ذلك من آثار فنكتفي هنا بهذا التنبيه بمناسبة ما احتوته الآيات من أثر ذكر الله في المؤمنين المخلصين. [سورة الزمر (39) : الآيات 24 الى 26] أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26) . في الآيات: 1- تساؤل في معنى المقايسة بين الذي لا يجد ما يتقي به عذاب الله يوم القيامة إلا وجهه لأنه لم يقدم عملا صالحا يتقي به، وبين من يقدم هذا العمل الذي يتقي به من النار. 2- وحكاية تتضمن معنى الإنذار والتبكيت لما سوف يقال للظالمين الذين جنوا على نفوسهم بالكفر والانحراف عن طريق الحق والخير حينما يذوقون طعم ذلك العذاب حيث يقال لهم ذوقوا اليوم جزاء ما اجترحتم من الآثام. 3- وتذكير للكفار بالأمم السابقة التي كذبت رسلها مثلهم فحلّ فيها عذاب الله من حيث لا تشعر ولا تحسب وأذاقها الخزي في الحياة الدنيا. 4- وتقرير ينطوي على الإنذار بأن عذاب الآخرة الذي ينتظرهم سيكون أكبر وأشدّ لو فكروا وعلموا. والآيات كما هو المتبادر متصلة بسابقاتها كذلك اتصال سياق وأسلوب وموضوع وقد جاءت في معرض التوكيد والبيان. ومما يلفت النظر إليه تكرر التساؤل في معرض المقايسة في آيات السورة مما

[سورة الزمر (39) : الآيات 27 إلى 29]

يسوغ القول إنها في صدد حكاية مواقف جدل ومناظرة أو ما هو بسبيل ذلك. ولعلها في ذات الوقت ردود على بعض كفار غلوا في الزهو والاعتداد بالنفس والمال والقوة، وفي الاستخفاف بالمؤمنين وضعفهم وفقرهم. فردت الآيات في معرض المناظرة والجدل ردودا متتابعة استهدفت بيان الفضل الحقيقي والتفوق الحقيقي في تقوى الله والمصير السعيد الذي سيصير إليه المؤمنون، والعذاب الأكبر الذي سيكون من نصيب الكافرين. وفي مضامين الآيات يمكن أن يرى المتمعن قرائن على هذا أولا، كما أن مثل هذا الزهو والتبجح والاستخفاف مما حكته آيات قرآنية عديدة ثانيا. [سورة الزمر (39) : الآيات 27 الى 29] وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) . (1) متشاكسون: متنازعون. (2) سلما: بمعنى خالصا بدون منازع. في هذه الآيات: 1- تنويه بما احتواه القرآن من الأمثال المتنوعة التي ضربها الله تعالى للناس فيه بقصد حملهم على التدبر والتذكر. 2- وإشارة إلى أن القرآن الذي احتوى هذه الأمثال هو قرآن عربي لا عوج فيه ولا إغراب ولا تعقيد، وقد جعله الله كذلك حتى يفهمه السامعون بسهولة وتبعث فيهم أمثاله شعور تقوى الله. 3- ومثل مستأنف من جملة هذه الأمثال على سبيل المقايسة: فحالة المشركين والموحدين مثل حالة مملوكين أحدهما يملكه شركاء عديدون متنازعون

تعليق على جملة قرآنا عربيا غير ذي عوج واستطراد إلى ما روي من معاني حديث نزول القرآن على سبعة أحرف ومداه وإلى كتابة القرآن

عليه كل واحد منهم يجذبه إليه، وآخر لمالك واحد خالصا له لا ينازعه فيه أحد. فكما أن حالة هذين المملوكين ليست متساوية وكما أن المنطق يؤدي إلى تفضيل حالة المملوك لصاحب واحد، كذلك حالة المشرك والموحد لا يمكن أن تكون متساوية لأن المشرك مقسم بين معبودات عديدة هو بينها بين جذب ودفع في حيرة من أمره لا يدري أيها أنفع وأيها يجب أن يخلص له الاتجاه أكثر من غيره في حين أن الموحد قد نجا من هذه الحيرة حيث عرف له ربا واحدا فأسلم نفسه إليه وجعل اعتماده عليه وحده. والمنطق يؤدي إلى تفضيل حالة الموحد على المشرك. وانتهت الآيات بتقرير استحقاق الله وحده للحمد بعبارة أريد بها عدم تجويز العقل والمنطق أن يسوى بين الله والشركاء وتقريع المشركين على ما يبدو منهم من حمق وعدم إدراك وعلم لما في شركهم من سخف وضلال. الآيات كما هو المتبادر تعقيب على سابقاتها واستمرار لها في السياق. والمثل الذي احتوته الآيات مقتطع من حياة العرب الذين كانوا أول من وجه القرآن إليهم، حيث كان المملوك الواحد يقع أحيانا في ملك عدة شركاء وارثين فيكون في صدده مشادات ومشاحنات فيما بينهم. ومع ذلك فإنه مما يصح أن يكون عاما أيضا لأنه قائم على منطق صحيح يتسق مع كل ظرف وحال. تعليق على جملة قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ واستطراد إلى ما روي من معاني حديث نزول القرآن على سبعة أحرف ومداه وإلى كتابة القرآن والمتبادر أن الآية الثانية ليست في صدد تقرير كون لغة القرآن هي اللغة العربية لأن هذا تحصيل الحاصل، وإنما هي في صدد تقرير كون لغته العربية سليمة مأنوسة لا إغراب فيها ولا تعقيد ليستطيع السامعون على مختلف طبقاتهم أن يفهموه ويفهموا ما فيه من مواعظ وأمثال. وفي هذا ردّ قرآني على من قال: إن لغة القرآن كانت فوق مستوى مدارك العرب وأفهامهم وتوكيد بأن لغته هي اللغة التي

كان يفهمها السامعون أو معظمهم على اختلاف فئاتهم ومنازلهم. ولقد أشرنا إشارة عرضية إلى حدوث نزول القرآن على سبعة أحرف في سياق تعليقنا على التوراة والإنجيل في سورة الأعراف. وقد رأينا أن نستوفي الكلام عن ذلك ونستطرد إلى قراءات القرآن في الوقت نفسه في مناسبة هذه الجملة. فنقول إن هناك أحاديث وردت في الكتب الخمسة عن نزول القرآن على سبعة أحرف منها حديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أبيّ بن كعب جاء فيه: «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار فأتاه جبريل عليه السلام فقال: إنّ الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإنّ أمتي لا تطيق ذلك. ثم أتاه الثانية فقال: إنّ الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإنّ أمتي لا تطيق ذلك. ثم جاءه الثالثة فقال: إنّ الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإنّ أمتي لا تطيق ذلك. ثم جاءه الرابعة فقال: إنّ الله يأمرك أن تقرأ أمتك على سبعة أحرف فأيّما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا» «1» . ولفظ الترمذي: «يا جبريل إنّي بعثت إلى أمة أمّيين منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتابا قطّ، قال: يا محمّد إنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف» «2» . وحديث رواه مسلم عن أبيّ قال: «كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه ثمّ دخل رجل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه فلما قضيا الصلاة دخلنا جميعا على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقلت إنّ هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه ودخل هذا فقرأ سوى قراءة صاحبه فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأا فحسّن النبي صلى الله عليه وسلم شأنهما فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني ضرب في صدري ففضت عرقا وكأنما أنظر إلى الله عز وجل فرقا، فقال لي: يا أبيّ أرسل إليّ أن اقرأ القرآن على حرف فرددت إليه أن هوّن على أمتي فردّ إليّ الثانية اقرأه على حرفين فرددت إليه أن هوّن على أمتي فردّ إليّ الثالثة اقرأه على سبعة أحرف فلك

_ (1) التاج ج 4 ص 27. (2) المصدر نفسه.

بكلّ ردة رددتكها مسألة تسألنيها فقلت اللهمّ اغفر لأمتي اللهمّ اغفر لأمتي وأخّرت الثالثة ليوم يرغب إليّ الخلق كلّهم حتى إبراهيم» «1» . وحديث رواه الشيخان عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أقرأني جبريل على حرف فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدوني حتى انتهى إلى سبعة أحرف» «2» . وحديث رواه الأربعة أن عمر بن الخطاب قال: «سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها، فكدت أن أعجل عليه ثمّ أمهلته حتى انصرف، ثم لبّبته بردائه فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إنّي سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسله، ثمّ قال: اقرأ يا هشام، فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزلت. ثمّ قال لي: اقرأ فقرأت فقال: هكذا أنزلت إنّ هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسّر منه» «3» . ولقد تعددت تخريجات علماء القرآن للأحرف السبعة حتى بلغت اثنين وعشرين تخريجا منها الغريب الذي لا علاقة له بقراءة النص القرآني «4» . وأوجهها وأرجحها عندنا هو أن المراد به سبعة أوجه للقراءة، أو سبعة أوجه يقع فيها تغاير في فتح ورفع وكسر وتقديم وتأخير وتخفيف وتشديد وإدغام. وروح الأحاديث تدعم ذلك فيما هو المتبادر، ويتسق مع روح الآية التي نحن في صددها، ومن الجدير بالتنبيه أن الاختلاف بين القراءات الصحيحة التي يعدها بعضهم سبعا وبعضهم عشرا «5» يدور على الأغلب على:

_ (1) التاج ج 4 ص 26 و 27 و 28. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه ص 26 و 27. (4) الإتقان للسيوطي ج 1 ص 48 وبعدها. (5) القراءات السبع تنسب إلى سبعة أئمة من القراء هم: نافع بن أبي رويم في المدينة، وعبد الله بن كثير في مكة، وأبو عمرو بن العلاء في البصرة، وعبد الله بن عامر في الشام، وعاصم بن أبي النجود، وحمزة بن حبيب الزيات، وعلي الكسائي في الكوفة. وهناك من يلحق بهم أبا جعفر بن يزيد في المدينة، ويعقوب الحضرمي في البصرة، وخلف البزاز في الكوفة فتبلغ القراءات بذلك عشرا.

1- مخارج الحروف كالترقيق والتفخيم والميل إلى المخارج المجاورة. 2- والأداء كالمدّ والقصر والوقف والوصل والتسكين والإمالة والإشمام. 3- والرسم كالتشديد والتخفيف والإدغام والإظهار والهمز. 4- والتنقيط والحركات النحوية. وهذا كما هو واضح متصل بأمر التيسير والتسهيل في القراءة وبالتالي متسق مع وجهة النظر التي رجحناها. وهناك مسألة هامة متفرعة عن هذه المسألة وهي كتابة القرآن، فإن من العلماء وقراء القرآن من أوجب الاحتفاظ في كتابة القرآن برسم المصحف العثماني، ومنهم من كره كتابته برسم آخر، ومنهم من حرّمها. ولم نطلع على أقوال وأحاديث موثوقة متصلة برسول الله صلى الله عليه وسلم أو أصحابه في هذا الشأن، حيث يسوغ أن يقال إنها أقوال اجتهادية. ولما كان من المتواتر السائغ عند جميع المسلمين كتابة القرآن بخط غير خط مصحف عثمان الذي هو قريب من الرقعة حيث كتب المسلمون مصاحفهم بالخط الكوفي والخط الفارسي والخط الهمايوني والخط المغربي والخط المعلق والخط الثلث إلخ ... بدون حرج ولا إنكار فيكون التشدد هو في صدد طريقة الكتابة أي إملائها وليس في صدد الخط ذاته. ويبدو أن التشديد متصل بروايات القراءات السبع أو العشر وبالقول إن هذه القراءات صحيحة كلها لأنها تقع في نطاق وحدة الرسم «1» من ناحية، ومتصلة بالسماع المتسلسل الواصل إلى قراء الصحابة الذين تلقوا القرآن عن النبي صلى الله عليه وسلم من ناحية أخرى، بحيث يراد القول إن من شأن كتابة القرآن بغير الرسم العثماني. وبالخطوط الدارجة في الأزمنة التالية أن تحول دون قراءة الكلمات القرآنية بقراءات مختلفة يحتملها الرسم العثماني ومتصلة بقراء الصحابة فيكون في ذلك تحكم في تصويب قراءة دون قراءة وإبطال قراءة دون قراءة أو مؤد إليهما. وإن هذا هو ما

_ (1) مثلا: يفعلون وتفعلون، ويغشى ويغشّى، وتبينوا وتثبتوا، وفتحت وفتّحت، وملك ومالك، وكتب وكتاب، ومسجد ومساجد ... الجزء الرابع من التفسير الحديث 21

تحرز العلماء والقراء في مختلف العصور تورعا وتدينا وزيادة في التحري في تلاوة القرآن تلاوة قويمة صحيحة متصلة بالنبي صلى الله عليه وسلم والذين سمعوا منه وتلقوا عنه. ومهما يبدو من وجاهة القول ونتائجه وبخاصة فوائده التي من أهمها احتفاظ المصاحف خلال ثلاثة عشر قرنا برسم واحد قد كتب وفاقا لما يكتب في عهد النبي وبإملائه وحفظ القرآن بذلك من التحريف والتشويه، ومن الخلافات التي لا بد من أن تنشأ بسبب تطور الخطوط من وقت لآخر وتبدلها في زمن لم يكن فيه مطابع ولا تصوير شمسي. والحيلولة دون تكرر المأساة التي أفزعت الخليفة عثمان بن عفان حينما علم أن المسلمين يقرأون القرآن قراءات مختلفة من مصاحف مختلفة في الإملاء والهجاء، وكلّ يدعي أن قراءته هي الصحيحة فحمله ذلك على توحيد هجاء القرآن وكتابته، فإننا نعتقد أنه ليس من شأن ذلك أن يمنع جواز كتابة المصحف بالخط الدارج على شرط مراعاة قراءة من القراءات المشهورة والنص على ذلك في مقدمة المصحف. لأنه لا يوجد نص صريح ثابت متصل بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يمنع ذلك فيما اطلعنا عليه، ولأننا نعتقد أن في ذلك تيسيرا واجبا لتعليم القرآن وتعلمه وحسن ضبطه وإلقائه. والرسم العثماني ليس توقيفيا كما قد يظن البعض، فليس هناك نص وثيق بل وغير وثيق متصل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو أصحابه في ذلك وإنما هو في حقيقة الأمر الطريقة الدارجة للكتابة في ذلك العصر ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ ويكتب وإنما كان يملي ما يوحى إليه به على كتّابه فيكتبونه وفق ما يعرفونه من طريقة الكتابة. وبين الرسم العثماني والخط الدارج فروق غير يسيرة، ومن العسير أن يتعلم القارئ الرسم العثماني بالإضافة إلى الرسم الدارج الذي ألفه في كتابته وقراءاته الأخرى. وما دامت طريقة الكتابة قد تطورت فإن تسويغ كتابة المصحف وفق الطريقة الدارجة طبيعي أيضا وخاصة بعد أن صار الاحتفاظ بالرسم العثماني ليكون المرجع والإمام مطبوعا ومصورا كما قلنا ممكنا إلى ما شاء الله. ويجب أن يلاحظ أن هناك مسلمين وغير مسلمين لا يتيسر لهم تلقي القرآن من قراء مجازين أو قراء تلقوا أو قرأوا أو سمعوا من قراء مجازين مما يصعب معه إتقان تلاوة القرآن برسمه العثماني بدونه. والمصاحف في متناول جميع الناس على

[سورة الزمر (39) : الآيات 30 إلى 31]

اختلاف الملل والأجناس. وفي كتابته بالرسم الدارج منع لمغبة الغلط في قراءة كتاب الله وتشويهه وسوء فهمه وتفسيره، وتيسير واجب لنشر القرآن الذي هو من أهم واجبات المسلمين أيضا. ولا سيما أن الرسم العثماني محفوظ لن يبيد بما يوجد منه من ملايين النسخ المطبوعة وغير المطبوعة وبالتصوير الشمسي الذي فيه ضمانة لبقائه المرجع الإمام أبد الدهر. وقد رأينا للإمام ابن كثير في كتابه «فضائل القرآن» قولا يبيح كتابة المصحف على غير الرسم العثماني، وفي هذا توكيد وتوثيق لوجهة نظرنا. [سورة الزمر (39) : الآيات 30 الى 31] إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) . (1) تختصمون: تقفون موقف الخصومة والتقاضي. وجه الخطاب في الآية الأولى إلى النبي صلى الله عليه وسلم مقررة أنه سوف يموت وأنهم سوف يموتون والراجح أن ضمير (إنهم) عائد إلى المشركين. ووجه الخطاب في الآية الثانية للجميع بأسلوب الجمع المخاطب أي للنبي صلى الله عليه وسلم والمشركين معا على ما هو المتبادر، مقررة أنهم سيقفون يوم القيامة أمام الله موقف الخصومة والتقاضي. ولم نطلع على رواية في سبب نزول الآيات. ويتبادر لنا أنها ليست منقطعة عن السياق السابق وأنها حلقة في سلسلة الجدل والمناظرة بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين. ولقد ورد في سورة الطور هذه الآيات: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) التي تفيد أن المشركين الكفار كانوا يقولون إن محمدا لن يلبث أن يموت فتنتهي حركته. ولقد

تعليق على أحاديث مروية في سياق جملة ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون (31)

ورد في سورة الأنبياء هذه الآية: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) التي تفيد ذلك أيضا. حيث ينطوي في هذا صورة من صور السيرة النبوية والتشاد الناشب بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين. والظاهر أنهم قالوا هذا أيضا في ظروف نزول السورة فاحتوت الآية الأولى ترديدا لقولهم واحتوت الثانية استدراكا وإنذارا بأن أمر الفريقين لن ينتهي بالموت حيث يرجعان إلى الله جميعا فيقضي بينهما بالحق. تعليق على أحاديث مروية في سياق جملة ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) ولقد روى البغوي وابن كثير وغيرهما في سياق هذه الآية حديثا جاء فيه: «أنه لمّا نزلت هذه الآية قال الزبير: يا رسول الله أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواصّ الذنوب؟ قال: نعم ليكررن عليكم حتّى يؤدى إلى كلّ ذي حقّ حقّه. قال الزبير: والله إنّ الأمر لشديد» «1» . حيث ينطوي في هذا الحديث صورة من صور تعليق أصحاب رسول الله على الآيات وتوضيح نبوي ينطوي فيه العظة والتنبيه. وإلى هذا الحديث روى المفسران المشار إليهما بضعة أحاديث أخرى منها حديث عن ابن عمر رضي الله عنه قال: عشنا برهة من الدهر وكنّا نرى هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين قلنا كيف نختصم وديننا واحد وكتابنا واحد حتّى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسّيف فعرفت أنها فينا نزلت. ورووا مثل ذلك عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنّا نقول ربّنا واحد وديننا واحد ونبيّنا واحد فما هذه الخصومة فلمّا كان يوم صفين وشدّ بعضنا على بعض بالسّيوف قلنا نعم هو هذا. ورووا أيضا حديثا ثالثا عن إبراهيم قال: لمّا نزلت هذه الآية قالوا

_ (1) ورد هذا الحديث في مسند الترمذي بنص آخر وهذا نصه: «قال يا رسول الله أتكرر علينا الخصومة بعد الذي كان بيننا قال: نعم، فقال: إن الأمر إذن لشديد» التاج ج 4 ص 198- 199.

[سورة الزمر (39) : الآيات 32 إلى 35]

كيف نختصم ونحن إخوان؟ فلمّا قتل عثمان قالوا: هذه خصومتنا. وهذه الأحاديث لم ترد في مساند الصّحاح. والمتبادر أنها مما أخذ يروى أو يساق على هامش الآيات القرآنية نتيجة للخلاف والنزاع الذي وقع في آخر عهد عثمان وبعده واندمج فيه بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. لأن نصّ الآية وما قبلها وما بعدها يدل دلالة قاطعة على أنها في حقّ فريقي الكفار المشركين والنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ولا يتحمل أن يصرف إلى المسلمين فقط في حال. [سورة الزمر (39) : الآيات 32 الى 35] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35) . (1) مثوى: مقام أو منزل. (2) جاء بالصدق: كناية عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء برسالة الله وقرآنه وأصحابه الذين صدقوا به. عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تقريرا تنديديا بأنه ليس من أحد أشد ظلما وجناية على نفسه ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه وهو القرآن ورسول الله صلى الله عليه وسلم. وبأنه من الطبيعي أن تكون جهنم مثواه. ثم تقريرا تنويهيا بالمقابلة بمن جاء بالصدق وصدق به الذين هم المتقون والذين من الطبيعي أن يكون لهم عند الله ما يشتهون ويشاؤون لأن هذا هو جزاء المحسنين عنده. ولسوف يكفر الله عنهم أسوأ ما فرط منهم من ذنوب ويغفرها ويجزيهم أجرهم بأحسن ما عملوا جزاء استجابتهم وتصديقهم وتقواهم. ولقد روى المفسرون أقوالا عديدة عن علماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم في المقصود بمن جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ منها أن الأول جبريل

[سورة الزمر (39) : الآيات 36 إلى 37]

والثاني النبي صلى الله عليه وسلم ومنها أن الأول النبي صلى الله عليه وسلم والثاني أبو بكر ومنها أن الأول النبي صلى الله عليه وسلم والثاني علي. وهذه الرواية انفرد فيها الطبرسي الذي عزاها إلى ابن عباس وقال إنها المروية عن أئمة الهدى من آل محمد. ومنها أن الأول النبي صلى الله عليه وسلم والثاني كل مصدق مؤمن إلى يوم القيامة. والذي يتبادر لنا أن الآيات جاءت معقبة على الآيتين السابقتين لها لتقرر نتائج الخصومة بين يدي الله استكمالا للاستدراك والإنذار ولتظهر حالة فريقي المؤمنين والمكذبين، وأنها استهدفت فيما استهدفته إثارة الخوف والارعواء في المشركين وتبشير المؤمنين وتطمينهم. وأنها والحالة هذه عامة بحق الفريقين حاضرين ثم مستمرتا الشمول لكل مكذب كافر ولكل مصدق مؤمن. وأن ذكر أبي بكر وعلي رضي الله عنهما هو من قبيل ما أخذ يروى على هامش الآيات القرآنية من روايات تنافسية نتيجة لما صار يقع من تشاد بين الأحزاب الإسلامية في صدر الإسلام وما كان يساق من روايات وأقوال في المفاضلة بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي الآية الأخيرة تلقين جليل مستمر المدى في بثّ الأمل بالغفران الرباني لما يمكن أن يقترفه المؤمن المخلص من ذنوب. وهو ما تضمنته آيات عديدة مرّت أمثلة منها. [سورة الزمر (39) : الآيات 36 الى 37] أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37) . (1) كاف: بمعنى كافل وحافظ. في الآيات سؤال في معنى التقرير والتوكيد بأن الله حافظ لعبده ورسوله وكافله. وإشارة وجه الخطاب فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى تخويف المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم بشركائهم من دون الله وتعقيب على ذلك بأن الذي يضله الله لا يمكن أن يهديه أحد

[سورة الزمر (39) : آية 38]

والذي يهديه لا يمكن أن يضله أحد. وسؤال آخر في معنى التقرير والتوكيد والإنذار بأن الله قوي منتقم لن يعجز عن جاحديه ولن يفوته الانتقام منهم. وقد روى المفسرون «1» في سياق الآيات أن المشركين كانوا يخوفون النبي صلى الله عليه وسلم من انتقام معبوداتهم بسبب ما كان يوجهه إليهم من تسفيه وتنديد كما رووا «2» أن المشركين خوفوا خالد بن الوليد من بطش العزّي حينما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم ليهدم بيتها. والحادث الأخير كان بعد فتح مكة. والخطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يجب استبعاد الرواية الثانية والأخذ بالرواية الأولى مع القول إن الآيات لم تنزل لمناسبة جديدة من ذلك وإنما جاءت لتردد أقوال المشركين وترد عليها في سياق سلسلة الجدل والمناظرة التي هي حلقة منها وليست منفصلة عنها. وعلى كل حال ففي الآيات صورة أخرى مما كان يقع بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين. ولقد نبهنا في مناسبات سابقة إلى وجوب الرجوع إلى الآيات التي تفيد إضلال الله للظالمين والفاسقين وهداية الله للمنيبين إليه المتقين لإزالة الإشكال الذي قد يرد في الآيات التي يرد ذلك فيها مطلقا. ونكرر هذا التنبيه بمناسبة هذه الآيات. [سورة الزمر (39) : آية 38] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) . جاءت الآية معقبة على ما سبقها حيث تقرر أولا تناقض المشركين العجيب في اتخاذهم شركاء مع الله مع أنهم لو سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عمن خلق السموات والأرض لاعترفوا بأنه الله عز وجل وحيث تأمر النبي صلى الله عليه وسلم ثانيا بسؤالهم سؤالا يتضمن جواب النفي والتحدي والتهوين عما إذا كان هؤلاء الشركاء قادرين على

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والخازن. (2) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والخازن.

[سورة الزمر (39) : الآيات 39 إلى 40]

دفع ضرّ يريده الله به أو منع رحمة يناله بها، وحيث تأمر النبي ثالثا بأن يعلن أن الله هو حسبه وكافيه وهو وحده الجدير بأن يتوكل عليه المتوكلون. والآية كما هو ظاهر قوية نافذة في سؤالها وتحديها وأمرها للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلن أن حسبه الله الذي يتوكل عليه المتوكلون. والآية وإن كانت موجهة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لتثبيته إزاء مواقف المشركين فإن تلقيها مستمر المدى لكل مسلم في كل وقت. يستمد منها القوة والطمأنينة وعدم الخوف من غير الله وعدم الاعتماد والتوكل على غير الله، والوقوف في وجه المشركين به المنحرفين عن صراطه موقف القوة والتحدي والنضال. ولقد علقنا في مناسبة سابقة على التوكل عليه وما يهدف القرآن من الأمر بذلك من معالجة وتثبيت للمؤمنين المتوكلين على الله فنكتفي بهذا التنبيه. [سورة الزمر (39) : الآيات 39 الى 40] قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40) . (1) مكانتكم: هنا بمعنى على حالتكم. والآيتان معقبتان أيضا على ما سبقهما، وقد احتوتا أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول للمشركين استمروا إذا شئتم على حالتكم وضلالكم وأنا مستمر على ما أنا عليه. ولسوف تعلمون وترون أيّا منا يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم دائم. وفي ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله للمشركين تثبيت له من ناحية وإشعار بأنه في موقف المستعلي عليهم المتحدي لهم الواثق بأن عذاب الله وخزيه إنما سوف يحلان فيهم، وقد تكرر هذا في المناسبات العديدة المماثلة. [سورة الزمر (39) : آية 41] إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)

[سورة الزمر (39) : آية 42]

والآية أيضا استمرار في التعقيب والتثبيت. وقد وجه الخطاب فيها للنبي صلى الله عليه وسلم فالله قد أنزل عليه الكتاب لإنذار الناس ودعوتهم إلى الحق ثم هم وشأنهم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه وينفع نفسه وينقذ نفسه ومن ضل فإنما يضر نفسه ويهلك نفسه وليس هو وكيلا عليهم ولا مسؤولا عنهم. ولعل الآية قد جاءت إنهاء لموقف الجدل والمناظرة التي ما فتئت الآيات السابقة تذكر صوره، مما تكرر في المواقف المماثلة ومرت منه أمثلة عديدة. وجملة فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها من التعبيرات الحاسمة والمحكمة المقررة لقابلية الناس للاختيار بين الهدى والضلال وتحمل مسؤولية اختيارهم والتي تكررت كثيرا ومرت أمثلة عديدة منها في السور السابقة. وتصح أن تكون ضابطا من الضوابط القرآنية في مداها، ومرجعا لإزالة ما قد يبدو في بعض الآيات من إشكالات ظاهرة. [سورة الزمر (39) : آية 42] اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) . تعددت الأقوال والتأويلات التي أوردها المفسرون «1» للشطر الأول من الآية. من ذلك أنه يعني أن الله يقبض أرواح الناس إذا ماتوا وأرواح الأحياء إذا ناموا فتلتقي وتتعارف ما شاء الله ثم يمسك التي تكون ماتت ويرسل الأخرى لتعود إلى أجسام أصحابها إلى أن ينتهي الأجل المعين لها. ومن ذلك أنه يعني أن لكل إنسان نفسين نفس الحياة وهي التي تفارقه عند الموت فيكون الموت ونفس التمييز وهي التي تفارقه عند النوم وإن الله تعالى يتوفاهما كلتيهما فيمسك التي قضى على

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.

[سورة الزمر (39) : الآيات 43 إلى 44]

أصحابها الموت ويرسل التي لم يكن قضاه على أصحابها. ومنها أن للروح شعاعا مخيما تخرج الروح من الجسم بالنوم يبقى شعاعها الذي فيه مظاهر حياته فإذا ما قضى الله على صاحبها الموت يخرج الشعاع أيضا. وإذا لم يكن قضى عليه الموت تعود إليه الروح فتكون اليقظة. وليس شيء من هذه التعريفات معزوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو واردا في مساند الصحاح. والذي يتبادر لنا أولا أن الآية غير منقطعة عن السياق الذي قررت بعض آياته أن الله هو وحده النافع الضار، خالق الأكوان والمتصرف فيها وأن المعبودات التي يشركها المشركون قد لا تملك جلب نفع ولا دفع ضرّ فجاءت هذه الآية تقرر شيئا آخر مماثلا في صدد الموت والحياة وكونهما في يد الله وحده كذلك. وأن أسلوبها تمثيلي وتقريبي بسبيل التدليل على شمول حكم الله وتصرفه في كونه ومخلوقاته تصرفا مطلقا في كل حال وأن ما جاء فيها هو مستمد مما كان السامعون يشاهدونه ويعتقدونه في حالات النوم واليقظة والموت. وفي الشطر الثاني من الآية دليل على هذا القصد حيث يهتف بالسامعين بأن في ذلك آيات دالة على قدرة الله ومطلق تصرفه لمن يريد أن يتدبر ويتفكر في آياته. ولسنا نرى والحالة هذه طائلا في التخمين أو التوفيق بين ما جاء في الآية وما عرف من نواميس الحياة ونرى الأولى الوقوف في الأمر حيث وقف القرآن واستهدفه من العبرة والتدليل في نطاق ما شرحناه ونرجو أن يكون فيه الصواب إن شاء الله. [سورة الزمر (39) : الآيات 43 الى 44] أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) . في الآيات تساؤل ينطوي على التقريع والتسفيه عن حقيقة الشفعاء الذين اتخذهم المشركون من دون الله وأشركوهم معه في العبادة والدعاء، وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم أن يسألهم سؤالا ينطوي على التحدي والتنديد عما إذا كان يجوز في عقل ومنطق

[سورة الزمر (39) : الآيات 45 إلى 46]

أن يشركوهم مع الله ولو لم يكن لهم من أمر الكون شيء ولو لم يعقلوا شيئا مما يوجه إليهم من دعاء وعبادة. وأمر آخر له بأن يقرر أن الشفاعة جميعا هي لله وحده الذي له ملك السموات والأرض وإليه مرجع الجميع في النهاية. في الآيات عود على بدء في صدد محاججة الكفار وحكاية عقائدهم وتسفيههم عليها. وهي من هذه الناحية ليست منقطعة الصلة بالآيات السابقة سياقا وموضوعا، ولعلها من ناحية ما استمرار لما احتوته تلك الآيات من حجج مفحمة بسبيل توكيد عجز شفعائهم وشركائهم عجزا تاما في جميع الحالات. وتعبير لِلَّهِ الشَّفاعَةُ هنا تعبير أسلوبي على ما يتبادر لمقابلة تعبير شُفَعاءَ وما يرتجى منهم من الشفاعة. والمقصد منه تقرير كون دفع الضرر وجلب الخير اللذين يتوسل بالشفعاء لدى الله لنيلهما هما في يد الله وحده وأنه هو وحده المرجّى. وتعبير وَلا يَعْقِلُونَ (43) في الآية الأولى يلهم أن المقصود من الشفعاء هنا هو الأصنام لا الملائكة. هذا في حين أن آيات عديدة أخرى ومنها ما ورد في هذه السورة تقرر أن المشركين كانوا يتخذون الملائكة شفعاء لهم عند الله. ولقد ذكرنا في سياق تفسير سورة النجم أن المشركين كانوا يعبدون أصنام اللاة والعزى ومناة على اعتبار أنها رموز للملائكة أو هياكل لها في الأرض، استلهاما من روح الآيات ومضامينها. فيقيمون عندها طقوسهم ويقربون عندها قرابينهم على هذا الاعتبار، وبهذا يزول الإشكال ويتم التساوق كما هو المتبادر. على أن من المحتمل أن يكون بعض المشركين كانوا ينسون الرمزية في الأصنام ويتوسلون بها إلى الله مباشرة، وأن الآية قد قصدت ذلك في تنديدها ووصفها. [سورة الزمر (39) : الآيات 45 الى 46] وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)

(1) اشمأزت: نفرت وانقبضت. (2) يستبشرون: يظهرون البشر والفرح والسرور. (3) عالم الغيب والشهادة: العالم الظاهر والخفي أو الحاضر والمستقبل، والشهادة تعني الحاضر أو الظاهر. (4) تحكم: تقضي. في الآية الأولى صورة من صور مواقف الكفار. فإذا ذكر الله وحده انقبضت قلوبهم ونفروا في حين أنهم يسرّون ويستبشرون إذا ما ذكر شركاؤه. وفي الآية الثانية أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالاتجاه إلى الله تجاه هذا الموقف الباطل السخيف قائلا اللهم خالق السموات والأرض عالم الخفي والظاهر والحاضر والمستقبل أنت الذي تقضي بين عبادك فيما هم فيه مختلفون فتؤيد الحق وأهله وتزهق الباطل وحزبه وتجزي كلا منهم بما يستحقه. والآيتان متصلتان بما سبقهما اتصال سياق وموضوع كما هو واضح، وقد انطوى فيهما تبكيت على سخف المشركين وضلالهم في موقفهم بعد أن لزمتهم الحجة التي كان من مظاهرها إظهار عجز الشركاء عجزا مطلقا في كل شيء. كما انطوى فيهما تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم وإشعار بالوثوق والاستعلاء في موقفه من المشركين. وجملة الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ كوصف للمشركين تنطوي على توكيد كون موقفهم ناشئا عن عدم إيمانهم بالآخرة وبعبارة أخرى عن عدم خوفهم من العواقب بعد الموت. وقد تكرر هذا أكثر من مرة. ومرت أمثلة منه. وينطوي فيه حكمة من حكم الله عز وجل في الحياة الأخروية والإنذار القرآني المستمر بها، لأن الخوف منها يجعل الإنسان يرعوي عن مواقف الإثم والضلال والانحراف.

[سورة الزمر (39) : الآيات 47 إلى 48]

ولقد روى البغوي في سياق الآية الثانية أن عائشة قالت: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح صلاة الليل بقوله اللهمّ ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحقّ بإذنك إنّك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» . وأورد ابن كثير في سياقها حديثا رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال اللهمّ فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إنّي أعهد إليك في هذه الدنيا أني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمّدا عبدك ورسولك فإنّك إن تكلني إلى نفسي تقرّبني من الشرّ وتباعدني من الخير وإنّي لا أثق إلّا برحمتك فاجعل لي عندك عهدا توفّينيه يوم القيامة إنّك لا تخلف الميعاد إلّا قال الله عزّ وجلّ لملائكته يوم القيامة: إنّ عبدي قد عهد إليّ عهدا فأوفوه إيّاه فيدخله الله الجنة» . وحديثا آخر رواه الإمام أحمد عن أبي راشد الحبراني قال: «أتيت عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما فقلت له حدّثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقى بين يديّ صحيفة فقال: هذا ما كتب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظرت فيها فإذا فيها أنّ أبا بكر الصديق قال: يا رسول الله علّمني ما أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت فقال له: قل اللهمّ فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة لا إله إلا أنت ربّ كلّ شيء ومليكه أعوذ بك من شرّ نفسي وشرّ الشيطان وشركه أن أقترف على نفسي سوءا أو أجرّه إلى مسلم» حيث ينطوي في الأحاديث صورة من صور استلهام رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية في مناجاة ربّه في الليل وتعليمه مثل ذلك لأصحابه. [سورة الزمر (39) : الآيات 47 الى 48] وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48) . (1) ما لم يكونوا يحتسبون: ما لم يكن قد خطر ببالهم من هول وعذاب.

[سورة الزمر (39) : الآيات 49 إلى 52]

(2) سيئات ما كسبوا: سوء نتائج آثامهم التي ارتكبوها بظلمهم وشركهم. في الآيتين إشارة إلى هول ما سوف يلقاه المشركون الظالمون لأنفسهم يوم القيامة، حيث يعرضون لعذاب يكون من الشدة ما يهون عليهم معه أن يفتدوا منه بملك الدنيا وما فيها ومثله معه لو كانوا يملكونه، وحيث يرون من نكال الله وغضبه ما لم يكن يخطر لهم ببال وحساب، وحيث يعاينون سوء آثامهم التي ارتكبوها وحيث يحيق بهم ما كانوا يستخفون به ويستهزئون منه. والآيتان متصلتان بما سبقهما اتصال سياق وموضوع أيضا، وقد استهدفتا فيما استهدفتاه على ما هو المتبادر إثارة الرعب في قلوب المشركين وحملهم على الارتداع والارعواء، وينطوي فيهما صورة لما كان عليه المشركون من شدة عناد ومكابرة وما كان يبدو منهم من استخفاف واستهتار وهزء بالدعوة النبوية والنذر الأخروية. [سورة الزمر (39) : الآيات 49 الى 52] فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) . (1) فتنة: اختبار وامتحان. (2) فما أغنى عنهم: فما نفعهم. (3) والذين ظلموا: هنا بمعنى والذين أجرموا وأثموا وانحرفوا عن الحق. الآية الأولى تشير إلى خلق في الناس، فإذا ما نزل في إنسان ضرّ وضيق وعسر دعا الله لكشفه فإذا استجاب له وأزاله عنه وبدله نعمة ويسرا جحد الله وزعم أن ما ناله إنما ناله بسعيه وعلمه وبراعته. وقد احتوت الآية ردا على هذا الجحود

تعليق على جملة فإذا مس الإنسان ضر وما بعدها وما فيها من تلقين

حيث قررت أن ما يمنحه الناس من نعم وما يصابون به من مصائب هو من قبيل الامتحان الرباني ولكن أكثر الناس يغفلون عن هذه الحقيقة. والآيتان الثانية والثالثة تقرران أن مثل هذا الجحود وتلك الدعوى قد كان من الأمم السابقة فلم ينفعهم ما نالوه وكسبوه ولم يلبثوا أن وقعوا في شرّ جحودهم وأصابهم ما استحقوا من عقاب الله عليه. وأن الظالمين من السامعين للقرآن هم أيضا سيقعون في شرّ آثامهم ويصيبهم ما يستحقون من عقاب الله بدورهم، وليس الله عاجزا عنهم ولن يستطيعوا الإفلات منه. أما الآية الرابعة فقد احتوت سؤالا استنكاريا موجها لهؤلاء السامعين الظالمين عما إذا كانوا لا يعلمون أن بسط الرزق وقبضه هما في يد الله يبسطه لمن يشاء ويضيقه على من يشاء وفقا لمقتضيات حكمته. ثم انتهت بتقرير كون هذا ينطوي على آيات ربانية لينتفع بتدبرها المؤمنون، وصيغة السؤال وروح الآية معا تلهمان أن السامعين يعلمون ما قررته الآية، ولهذا فإن التنديد جاء قويا محكما. وقد سجلت آيات عديدة عليهم ذلك من جملتها الآية [39] من هذه السورة، والآية [31] من سورة يونس هذه: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) . وهذه الآيات أيضا متصلة بالسياق أو استمرار له في صدد تقريع الكفار المشركين على مواقف عنادهم وجحودهم على مختلف صورها، و (فاء) التعقيب التي بدأت بها قرينة على ذلك بالإضافة إلى ما فيها من تساوق في صدد مواقف الكفار التي ما فتئت الآيات السابقة تحكيها. تعليق على جملة فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ وما بعدها وما فيها من تلقين ومع ما يتبادر من خصوصية هذه الآيات الزمنية فإنها تصح أن تكون موعظة

[سورة الزمر (39) : الآيات 53 إلى 59]

من مواعظ القرآن وتلقيناته الشاملة المستمرة في صدد تنبيه الناس أولا: إلى ما في جحود نعم الله وما في ذكره في الشدة ونسيانه في الرخاء من تناقض وإثم. وثانيا: إلى كون ما يمنحه الناس من نعمة ويسر بدءا أو بعد شدة وضر هو اختبار رباني وليس حظوة منه واختصاصا. وثالثا: إلى ما يجب على أمثال هؤلاء الناس من ذكر الله وشكره والقيام بواجباتهم نحوه ونحو الناس وعدم الاستشعار بالبطر والزهو والاعتداد بالنفس في حالة اليسر والصبر في حالة العسر. وقد انطوى في الفقرة الأخيرة من الآية الأخيرة تلقين جليل خاص وهو تقرير أثر الإيمان في رضاء النفس وطمأنينتها حيث يساعد صاحبه على لمس يد الله وقدرته في جميع الأمور فيشكره في حالة اليسر ويتحمل صابرا راضي النفس مطمئن القلب في حالة الشدة والعسر. ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآية [52] مدنية، ويلحظ أنها منسجمة انسجاما تاما مع الآيات سبكا وموضوعا وأن فيها تتمة لما قبلها، وكل هذا مما يسوغ الشك في رواية مدنيتها. [سورة الزمر (39) : الآيات 53 الى 59] قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59) . في الآيات:

تعليق على آية يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله وما بعدها

1- أمر للنبي صلى الله عليه وسلّم بأن يهتف بعباد الله أن لا يقنطوا من رحمته مهما أسرفوا على أنفسهم وأن لا يظنوا أن باب الإنابة قد سد في وجههم بسبب ذلك، فالله يغفر كل ذنب مهما عظم وهو المتصف بالغفران والرحمة إذا تاب صاحبه منه وأناب إليه. وبأن يحثهم على سرعة الإنابة والرجوع إلى الله وإسلام النفس له وهم في متسع من الوقت وقبل أن يأتيهم عذاب الله فلا يكون لهم منه مخلص ولا محيص ولا نصير. وبأن يدعوهم إلى اتباع أحسن ما أنزل الله إليهم من دعوة الهدى والحق والخير من قبل أن يحل فيهم عذابه بغتة دون أن يشعروا بمقدماته. 2- وتحذير للمذنبين من إضاعة الفرصة المواتية للتوبة والإنابة إلى الله حتى لا يندموا على ما فرط منهم من آثام ومواقف ساخرة مستهترة. ولا يتنصلوا من مسؤولية آثامهم قائلين إن الله لو هداهم لكانوا من المتقين. ولا يتمنوا أن يعودوا إلى الدنيا ثانية فيكونوا من المحسنين، وهتاف بهم بأن ذلك سوف يكون عبثا حيث يقال لهم: لقد جاءتكم آيات الله ودعوته فكذبتم بها واستكبرتم وكنتم من الكافرين. والآيات قد تبدو فصلا مستأنفا لا صلة لها بسابقاتها. غير أن العودة إلى مخاطبة الكفار في الآية الأخيرة تجعل الاستمرار في السياق قائما، ولعل مما يصح أن يقال إنها جاءت استطرادية لتهتف بما هتفت به وتنذر بما أنذرت به وتحذر مما حذرت منه، وهذا أسلوب مألوف في النظم القرآني، وقد مرّ منه أمثلة عديدة. تعليق على آية يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وما بعدها وقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآيتين 53 و 54 مدنيتان. وروى المفسرون بعض الروايات «1» في سبب نزول الآية [53] منها ما ذكر

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والخازن والزمخشري والبغوي. وانظر أيضا تفسير سورة الزمر في كتاب التفسير من صحيح البخاري وتفسير سورة الزمر في فصل التفسير في مجمع الزوائد الجزء 7. [.....]

عزوا إلى ابن عباس أنها نزلت في حق وحشي الحبشي قاتل حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه عمّ النبي صلى الله عليه وسلم في وقعة أحد حيث استعظم ذنبه فأنزل الله آية الفرقان [70] التي فيها هذه الجملة: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فقال وحشي: هذا شرط شديد. فأنزل الله آية سورة النساء [48] التي فيها هذه الجملة: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فقال: أراني بعد في شبهة فأنزل الله آية الزمر [53] التي نحن في صددها فقال: هذا نعم، ثم جاء فأسلم. فسأل المسلمون: هل هذه له خاصة أم للمسلمين عامة؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: بل للمسلمين عامة «1» . ومنها ما ذكر عزوا إلى ابن عمر أن الآيات نزلت في نفر من المسلمين منهم عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد كانوا أسلموا ثم عذبوا وفتنوا فافتتنوا فكان المهاجرون يقولون: لا يقبل الله لهم صرفا ولا عدلا أسلموا ثم تركوا دينهم من العذاب. فأنزل الله الآيات فكتبها عمر بن الخطاب وأرسلها إليهم فأسلموا وهاجروا «2» . ومنها ما ذكر عزوا إلى ابن عباس أيضا أن ناسا من أهل الشرك كانوا قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا فأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أنّ لما عملنا كفارة فنزل: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ إلخ الفرقان: [68] ونزل: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً الزمر: [53] ورواية ابن عباس الأخيرة قد رواها البخاري أيضا «3» . وقال المفسرون فيما قالوه بصدد الآية: إنها موجهة للمؤمنين وفي حقهم عامة وإنها أرجى آية في القرآن وأبعثها أملا وسكينة لقلوب المذنبين منهم «4» . بل

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن وانظر التاج ج 4 فصل التفسير ص 199. (2) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن وانظر التاج ج 4 فصل التفسير ص 199. (3) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن وانظر التاج ج 4 فصل التفسير ص 199. (4) انظر كتب التفسير السابقة الذكر أيضا.

قال بعضهم إن الإطلاق في الآية يجعل تقييد غفران الذنوب بالتوبة خلاف الظاهر «1» واستندوا في قولهم هذا إلى آية النساء [47] المار ذكرها ونصها. وقد أوردوا في مناسبتها أحاديث نبوية منها حديث رواه أبو أيوب الأنصاري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لولا أنّكم تذنبون لخلق الله عزّ وجلّ قوما يذنبون فيغفر لهم» . وحديث رواه أنس بن مالك أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «والذي نفسي بيده لو أخطأتم حتّى تملأ خطاياكم ما بين السّماء والأرض ثمّ استغفرتم الله تعالى لغفر لكم. والذي نفس محمد بيده لو لم تخطئوا لجاء الله عزّ وجلّ بقوم يخطئون ثم يستغفرون فيغفر لهم» «2» . ومنها حديث عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما أحبّ أنّ لي الدنيا وما فيها بهذه الآية يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ إلى آخر الآية فقال رجل: يا رسول الله فمن أشرك؟ فسكت النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم قال: ألا ومن أشرك ثلاث مرات» «3» . وحديث عن عمرو بن عنبسة قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيخ كبير يدّعم على عصا له فقال: يا رسول الله إنّ لي غدرات وفجرات فهل يغفر لي؟ قال: ألست تشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: بلى وأشهد أنك رسول الله. فقال: قد غفر لك غدراتك وفجراتك» «4» . وحديث عن علي بن أبي طالب قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الله تعالى يحبّ العبد المفتّن التوّاب» » . ويلحظ أولا: أن روايات وحشي غريبة في مناسبتها وظرفها ثم في تدرجها لأجل إقناعه وجعله يسلم وهي لم ترد في كتب الصحاح. وفضلا عن ذلك إن آية النساء [48] التي تروي هذه الروايات أنها نزلت لإقناعه ليست في صدد تأميل غير المشركين وإنما هي في صدد تعظيم جريمة الشرك بالله كما هو ظاهر بقوة في أسلوبها.

_ (1) انظر تفسير الخازن. (2) انظر تفسير ابن كثير. (3) النصوص من ابن كثير. (4) النصوص من ابن كثير. (5) النصوص من ابن كثير.

وثانيا: إنها مروية عن ابن عباس مع أن رواية كون الآية نزلت بمناسبة مراجعة أناس من المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم التي رواها البخاري قد رواها ابن عباس أيضا. وثالثا: إن الآية منسجمة انسجاما تاما مع الآيات التالية لها إلى آخر الآية [59] وإن القول إنها أو إنها والآية [54] فقط مدنيتان غير مستقيم. وتبعا لذلك نشك في رواية مدنية الآية أو الآيتين ونشك بالتالي في رواية كونهما نزلتا في شأن وحشي أو في شأن النفر الذين ارتدوا ولم يهاجروا مع المهاجرين. وكل ما يمكن احتماله أن تكون الآية ذكرت لهم أو لهم ولو حشي على سبيل الترغيب والتشجيع والتأميل. والرواية الثانية التي رواها البخاري هي الأكثر احتمالا ولا يضعف هذا الاحتمال جمع الرواية هذه الآية مع آية الفرقان التي نزلت قبلها بمدة طويلة. فمن الممكن أن يفرض أن مراجعات أناس من المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم في مكة قد تكررت فنزلت أولا آيات الفرقان ثم آيات الزمر التي نحن في صددها فجمع ابن عباس رضي الله عنه المناسبات المتكررة مع بعضها في روايته. وروح الآيات ومضمونها تدعم هذه الرواية أو بعبارة ثانية تدعم كون الآيات موجهة في الدرجة الأولى إلى المشركين والكفار. وقد حكت ما سوف يبدونه من ندم وحسرة لإضاعتهم الفرصة. وفي الآية الأخيرة دليل حاسم. وكل هذا يسوغ القول بجزم أن الآيات سلسلة واحدة متماسكة لا يصح فصل بعضها عن بعض وهي في مجموعها في صدد حث الكفار على الإنابة إلى الله والاستجابة إلى دعوة الإسلام والترغيب في ذلك وهم في سعة من الوقت والتحذير من إضاعة الفرصة بالإهمال والتباطؤ. وروح الآيات ومضمونها مجتمعة تسوغ استغراب ما قاله بعض المفسرين أو رووه عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الآية الأولى أرجى آية في القرآن أو أن الإطلاق فيها يجعل تقييد غفران الذنوب بالتوبة هو خلاف الظاهر. فإذا كانت الآية تقول: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً فإن الآية التي تلتها ردفت ذلك بالحث على سرعة الإنابة إلى الله واتباع أحسن ما أنزل وبالتحذير من التباطؤ والإهمال وما

تعليق على جملة واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم

يجرانه من حسرة وندم. وهذا فضلا عن أن القول إن الله يغفر جميع الذنوب والآثام دون توبة وندم وتلاف للذنوب بصالح العمل والإصلاح هو إفراط لا يتسق مع آيات القرآن التي لا تكاد تحصى كثرة في صدد الإنذار والتبشير والوعد والوعيد وتقبيح القبيح وتحسين الحسن وتوفية الناس جزاء أعمالهم كلا بحسب عمله. وما ورد من الأحاديث النبوية يحمل فيما نعتقد في حالة صحتها ولا ننفي ذلك على قصد الترغيب في التوبة والحث عليها وعلى تقرير كون الله تعالى يغفر للنادم والتائب المستغفر وبهذا يتم التساوق ويزول التناقض. على أن الآيات تتضمن تلقينا بليغا مستمر المدى يتسق مع مبدأ التوبة القرآني الذي شرحناه في سياق تفسير سورة الفرقان وهو عدم إيئاس أي كائن دون تلافي أخطائه والرجوع عن آثامه المتنوعة من كفر ومما دون الكفر، وإصلاح نفسه دينيا ودنيويا وإبقاء باب العفو مفتوحا لمن حسنت فيهم النيات واستيقظت الضمائر إذا ما ترووا وندموا وأنابوا إلى الله واتبعوا أحسن ما أنزل منه وهم في متسع من الوقت وفسحة من العمر والعافية. ونقطة أخرى جديرة بالتسجيل عن الآيات، من حيث إنها تنطوي على تقرير محكم حاسم يضاف إلى التقريرات المحكمة الحاسمة الكثيرة بأهلية الإنسان للكسب والاختيار بين الهدى والضلال وبمسؤوليته عن كسبه واختياره. والآية [57] بخاصة قوية جديرة بالتنويه في هذا الباب حيث تندد بالذي يقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين. وقد ردت عليه الآية التي تلتها فقررت أن الله قد أراه طريق الهدى بآياته التي أنزلها على رسوله صلى الله عليه وسلم ولكنه كذّب واستكبر وكان من الكافرين فاستحق عذاب الله. تعليق على جملة وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وقد يوهم تعبير وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ أن فيما نزل ما هو حسن وما هو أحسن. ولسنا نرى محلا للتوهم ونرى أن التعبير أسلوبي. هذا

[سورة الزمر (39) : الآيات 60 إلى 63]

فضلا عن إمكان صرف تعبير أَحْسَنَ إلى الهدى والخير والحث عليهما بالنسبة لما حذر منه القرآن من الشر والضلال والآثام. فالله قد بيّن طريق الخير وحقيقة الخير وأنواعه ودعا إليه، وبيّن طريق الشر وحقيقة الشر وأنواعه وحذر منه. وأحسن ما أنزل هو الأول، والناس مدعوون إلى اتباعه دون الثاني. وجميع المأمورات الإيمانية والأخلاقية تدخل في شمول الأول كما هو المتبادر. [سورة الزمر (39) : الآيات 60 الى 63] وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) . (1) مفازتهم: بمعنى فوزهم أي بما فازوا به من رضاء الله بسبب تقواهم. (2) مقاليد: هنا بمعنى أمور وشؤون وحكم. ويؤول المؤولون من التابعين كلمة مقاليد بمفاتح خزائن السموات والأرض أيضا. الآيات معقبة على ما قبلها تعقيب توضيح وتقرير كما هو المتبادر حيث احتوت بيان مصير الكافرين الذين كذبوا على الله بالشرك حيث تسوّد وجوههم وتكون جهنم مثواهم، وبيان مصير المؤمنين بالمقابلة جريا على الأسلوب القرآني حيث ينجيهم الله لأنهم فازوا برضائه بسبب تقواهم. فالله خالق كل شيء وهو شهيد على كل شيء وعالم بكل شيء. وفي يده مقاليد السموات والأرض. فمن يكفر بهذه الحقائق فهم الخاسرون حتما. والمتبادر أنها استهدفت فيما استهدفته تدعيم الإنذار والتحذير والتخويف للذين يهملون اغتنام الفرصة وهم في فسحة من العمر والوقت والتنويه والتطمين لمن آمن واتقى، مع التنبيه على واجب الإيمان بما احتوته من مشهد أخروي.

[سورة الزمر (39) : الآيات 64 إلى 66]

[سورة الزمر (39) : الآيات 64 الى 66] قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) . في الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتوجيه سؤال استنكاري فيه معنى التقريع للكفار عما إذا كانوا يريدونه أن يعبد غير الله كما يفعلون بجهلهم في حين أن الله قد أوحى إليه وإلى الأنبياء من قبله أن الذي يشرك بالله يحبط عمله ويكون خاسرا، وأن عليه أن يعبد الله وحده ويكون له شاكرا. وفي توجيه الخطاب في الآية الأولى للكافرين عود على بدء في صدد محاججتهم والتنديد بهم، وربط بين هذه الآيات وما قبلها سياقا وموضوعا، وقرينة على أن الآيات السابقة لها متصلة أيضا بموقف الجدل والحجاج بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار وبسبيل دعوة الكفار إلى الله وحده. ولقد قال المفسرون «1» في سياق تفسير الآية الأولى: إنها جواب لطلب الكفار من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعبد آلهتهم ليعبدوا إلهه. وروى ابن كثير عن ابن عباس أن ذلك سبب نزول الآية. ونحن نرجح أن الآية متصلة بالسياق السابق واللاحق ولم تنزل منفصلة لسبب جديد. وهذه ثالث مرة يتكرر فيها مثل هذا الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم في السورة، ولقد نبهنا إلى ذلك في مناسبة سابقة منها وعلّلناه بما تبادر لنا ونرجو أنه الصواب فنكتفي بذلك. [سورة الزمر (39) : الآيات 67 الى 70] وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70)

_ (1) انظر تفسير الآية في كتب تفسير الخازن وابن كثير والزمخشري.

تعليقات على الآية وما قدروا الله حق قدره والآيات الثلاث التي بعدها

(1) الشهداء: الجمهور على أن الشهداء هنا هم الملائكة الذين يحصون على الناس أعمالهم ويكتبونها. في الآيات إشارة تعنيفية إلى الكفار المشركين على عدم إدراكهم حق الإدراك وتقديرهم حق التقدير مدى عظمة الله وقدرته وشأنه واستحقاقه وحده للخضوع والعبادة وتنزهه وتعاليه عن الشركاء. واستطراد إلى ذكر ما يكون يوم القيامة من دلائل عظمته وقدرته وشمول تصرفه حيث تكون الأرض في قبضته والسموات مطويات بيمينه. وحيث ينفخ في الصور للمرة الأولى فيخرّ من في السموات والأرض إلا من شاء الله مصعوقا. ثم ينفخ فيه للمرة الثانية فيقومون جميعا مندهشين ينتظرون مصائرهم. وحيث يتجلى الله حينئذ على الأرض فتمتلىء إشراقا بنوره. وينعقد مجلس القضاء ويؤتى بكتب أعمال الناس وبالنبيين والشهداء ويقضى بين الناس بالحق دونما إجحاف وظلم وتوفّى كل نفس ما عملت والله أعلم بما يفعلون. تعليقات على الآية وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ والآيات الثلاث التي بعدها ولقد روى الترمذي عن ابن عباس قال: «مرّ يهوديّ بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال له: يا يهوديّ حدّثنا، فقال: كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السموات على ذه والأرض على ذه والماء على ذه والجبال على ذه وسائر الخلق على ذه؟ وأشار الراوي محمد بن الصلت بخنصره أولا ثم تابع حتى بلغ الإبهام فأنزل الله تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ

بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) «1» . ومقتضى الرواية أن تكون الآية مدينة وأن تكون نزلت لحدتها. ولم يرو أحد مدنية الآية، وارتباطها بما بعدها قوي. وهي بعد معطوفة على ما قبلها. وضمير الفاعل في وَما قَدَرُوا اللَّهَ هو عائد على المعطوف عليه وهم الكفار موضوع الكلام في الآية السابقة. ولقد روى البغوي بطرقه في سياق هذه الآيات عن عبد الله بن مسعود قال: «جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله، فقال: يا محمّد إنّا نجد أنّ الله يجعل السموات على إصبع والأرض على إصبع والشجر على إصبع والماء على إصبع والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع فيقول: أنا الملك. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ثمّ قرأ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ولعل التباسا ما وقع في الرواية حيث يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد تلا هذه الآية حين ما سأل اليهودي فظن الراوي أنها نزلت في مناسبة السؤال. وكل ما تقدم يسوّغ التوقف في الرواية كسبب لنزول الآية في المدينة والقول إن الآيات وحدة تامة ومعطوفة على ما قبلها ومتصلة به. وأنها استهدفت كما قلنا في شرحها فيما استهدفته التنويه بعظم قدرة الله تعالى ومطلق تصرفه في خلقه ثم توكيد البعث الأخروي ومحاسبة الناس على أعمالهم وجزائهم بما يستحقون عليها. ولقد روى البغوي في سياق الآية حديثا عن عبد الله بن عمر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يطوي الله السموات يوم القيامة ثمّ يأخذهنّ بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبّارون، أين المتكبّرون ثم يطوي الأرضين ثم يأخذهنّ بشماله ثم يقول: أنا الملك أين الجبّارون أين المتكبّرون» . ولقد روى ابن كثير هذا الحديث من إخراج الإمام أحمد بصيغة أخرى فيها مماثلة وفيها زيادات قال: «قرأ رسول

_ (1) التاج ج 4 ص 199- 200.

الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على المنبر: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ورسول الله يقول هكذا بيده يحرّكها. يقبل بها ويدبر، يمجّد الربّ نفسه أنا الجبّار، أنا المتكبّر، أنا العزيز، أنا الكريم فيرجف المنبر برسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى قلنا ليخرّنّ به» . والحديث لم يرد بهذا النص أو ذاك في كتب الصحاح ولكن ورد شيء منه فيها حيث روى الشيخان حديثا جاء فيه: «يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين الملوك» «1» . وفي هذه الأحاديث صورة من تعليقات رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الآية للتنويه بعظمة الله بما هو إلهام من عند الله عز وجل. والنفخ في الصور في الآيات رافقه صعق واستثناء، ومع أن القرآن استعمل الصعق بمعنى الإغماء كما جاء في آية سورة الأعراف هذه: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ فإن الجمهور على أنها هنا بمعنى الموت الصاعق. وفي جملة: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) ما قد يدعم هذا الرأي. ولقد كرر المفسرون هنا ما قالوه في سياق آيات سورة النمل [87- 90] في جملة إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ حيث قالوا إن المستثنين هم الشهداء أو كبار الملائكة. ثم يقضي الله على هؤلاء بالموت فلا يبقى إلّا الله عز وجل. ونص الاستثناء صريح بأن هناك فريقا قد يشاء الله تعالى أن يستثنى من الصعق. وهذا ما يجعل ما يقولونه موضوع توقف في نطاق النص القرآني. وليس هناك حديث صحيح في ذلك فنرى الوقوف عند ما اقتضته حكمة التنزيل التي قد يلمح أن منها قصد بيان ما يكون عليه وقت البعث والحشر من رهبة وهول. ولقد اختلفت الأقوال في مدى تعبيري قبضته ويمينه. وقد ألمحنا بهذا الموضوع في تعليق عقدناه في آخر تفسير سورة القصص فنكتفي بهذا التنبيه.

_ (1) التاج ج 4 ص 200.

[سورة الزمر (39) : الآيات 71 إلى 75]

ويلحظ ما بين المشهد الذي احتوته الآية [69] وما اعتاده الناس في الدنيا من مجالس القضاء لإحقاق الحق والعدل. حيث يتسق هذا مع حكمة التنزيل التي نوهنا بها في تعليقاتنا على الحياة الأخروية بوصف مشاهد هذه الحياة بأوصاف مألوفة للناس على سبيل التقريب والتمثيل والتأثير مع التنبيه على واجب الإيمان بحقيقة المشهد المذكور في الآية. وقد يكون في الآيتين [69 و 70] تعليم رباني للناس وبخاصة للحكام بوجوب حرصهم على إظهار الحق والعدل بالبينات بقطع النظر عن ما يمكن أن يكون لهم علم بحقيقة وواقع القضايا المعروضة عليهم، مما عبر عنه بالقاعدة المشهورة (الحاكم لا يحكم بعلمه) . [سورة الزمر (39) : الآيات 71 الى 75] وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75) . (1) زمرا: جمع زمرة، والكلمة هنا كناية عن الأفواج أو الجماعات بعضها وراء بعض. الآيات استمرار للسياق، وتتمة لما سبقها من مشاهد المحاسبة والقضاء. وعبارتها واضحة.

والصورة التي احتوتها الآيات رائعة من شأنها أن تثير في المؤمنين المتقين شعور السكينة والغبطة وفي الكفار شعور الخوف والرهبة. وهذا مما استهدفته كما هو المتبادر مع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي المغيب المذكور فيها. وقد جاءت خاتمة لفصول الجدل والحجاج وحكاية مواقف الكفار كما جاءت خاتمة للسورة بطابع ختامي رائع شأن كثير من السور وبخاصة المكية. وما احتوته الآيات من استقبال خزنة الجنة والنار للمؤمنين والكفار وكون الملائكة حافين بالعرش يسبحون بحمد ربهم بعد القضاء بين الناس هو متصل بأمر الملائكة المغيب الواجب الإيمان به مع الإيمان بأن لا بد من أن يكون لوروده بالصيغة التي ورد بها حكمة ربانية، ويتبادر لنا أن ما كان في أذهان السامعين من صورة فخمة عن الملائكة وأن قصد تصوير عظمة الله تعالى وروعة سلطانه من هذه الحكمة والله أعلم. ويلحظ أن المشاهد المذكورة في الآيات من سوق أهل الجنة وأهل النار وقيام خزنة على الجنة وعلى النار ووجود أبواب للجنة والنار مشابهة لما في الحياة الدنيا مما هو متساوق مع الحكمة المتوخاة من اتساق كثير من أوصاف المشاهد الأخروية مع مألوفات الدنيا للتأثير والتمثيل مع واجب الإيمان بحقيقتها المغيبة على ما نبهنا عليه في المناسبات المماثلة السابقة. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية التي تذكر سوق المتقين إلى الجنة أحاديث نبوية عديدة في وصف الجنة ومشاهد منازل المتقين فيها أوردنا بعضها في مناسبات سابقة «1» وعلقنا عليها بما يغني عن الإعادة. ولقد أورد هذا المفسر أيضا في سياق الآيات أحاديث عديدة عن أبواب الجنة. منها حديث رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أنفق زوجين من ماله في سبيل الله دعي من أبواب الجنة وللجنة أبواب، فمن كان

_ (1) انظر تعليقنا على الجنات الأخروية في سورة القلم وتفسير الآية [85] من سورة مريم.

من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الرّيان. فقال أبو بكر: يا رسول الله ما على أحد من ضرورة دعي من أيها دعي فهل يدعى منها كلّها أحد يا رسول الله؟ قال: نعم وأرجو أن تكون منهم» «1» . وحديث رواه مسلم عن عمر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما منكم من أحد يتوضّأ فيبلغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا عبده ورسوله إلّا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيّها شاء» . وحديث روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «يقول الله تعالى يا محمّد أدخل من لا حساب عليه من أمّتك من الباب الأيمن وهم شركاء الناس في الأبواب الأخر. والذي نفس محمّد بيده إنّ ما بين المصراعين من مصاريع الجنة ما بين عضادتي الباب لكما بين مكّة وهجر وفي رواية مكة وبصرى» . وحديث روي عن سهل بن سعد قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ في الجنة ثمانية أبواب منها باب يسمّى الرّيان لا يدخله إلّا الصائمون» . وواضح من روح الأحاديث أنها تنطوي على البشرى للمؤمنين وإثارة الغبطة في قلوبهم مع الرغبة في الاستكثار من الأعمال الصالحة المقربة إلى الله تعالى والمؤدية إلى الجنة الموعودة مما هو متساوق مع الهدف القرآني العام. ولقد ذكر في الآية [44] من سورة الحجر أن لجهنم سبعة أبواب. فاكتفى المفسرون بالإشارة إلى ذلك في سياق الآيات. ولقد أوردنا ما روي في صدد أبواب جهنم السبعة وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار.

_ (1) ذكر ابن كثير أن هذا الحديث رواه البخاري ومسلم أيضا. [.....]

سورة غافر

سورة غافر في هذه السورة حملة شديدة على الكفار وحكاية لمواقفهم الجدلية والساخرة. وإنذار لهم بالخزي في الدنيا والآخرة. ولفت نظر إلى مشاهد قدرة الله تعالى ونواميسه وأفضاله وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وتنويه بالمؤمنين واختصاصهم باستغفار الملائكة وشفاعتهم دون المشركين. وإشارة تذكيرية إلى ما كان من مواقف الكفار الأولين من رسل الله وعاقبتهم وندمهم وحسرتهم وعدم انتفاعهم بالإيمان بعد فوات الفرصة. وفيها فصل قصصي عن موسى وفرعون ومؤمن آل فرعون بسبيل التذكير والعظة. وقد سميت السورة باسم (المؤمن) أيضا اقتباسا من ذكر مؤمن آل فرعون، وهي أولى سلسلة السور المعروفة بالحواميم. وقد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الحواميم ديباج القرآن «1» . وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: لكلّ شيء لباب ولباب القرآن الحواميم «2» . ولقد كثر في هذه السور ذكر القرآن على سبيل التنويه والتعظيم وفي معرض لجاج الكفار فيه وفي طرق وحيه ولعل ما روي متصل بذلك. وفصول هذه السورة مترابطة مما يسوغ القول أنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة، ولقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآيتين [56- 57] مدنيتان والرواية تتحمل الشك والتوقف.

_ (1) انظر تفسير هذه السورة في تفسير الطبرسي والخازن. (2) المصدر نفسه.

[سورة غافر (40) : الآيات 1 إلى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة غافر (40) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6) . (1) ذي الطّول: ذي القدرة والفضل على الغير. (2) لا يغررك: لا يخدعنك ذلك ولا يجعلك تيأس. (3) تقلبهم في البلاد: كناية عما أصابوه من قوة ونجاح وطول يد في الدنيا والبلاد. (4) الأحزاب: كناية عن الأمم التي تحزبت ضد رسلها. (5) همت: حاولت أو قصدت. (6) ليدحضوا: ليبطلوا ويوهنوا ويزيلوا ويتغلبوا. بدأت السورة بحرفي الحاء والميم اللذين تعددت الأقوال في تخريجهما فقيل إنهما من أسماء الله أو إنهما يرمزان إلى اسمي الله الرحمن الرحيم أو إنهما قسم أقسم الله به أو إنهما بمعنى القضاء من حمّ أو إنهما حروف مفردة كسائر الحروف المفردة الأخرى للتنبيه والاسترعاء، وهو ما نرجحه كما رجحناه بالنسبة للمطالع المماثلة. وعبارة الآيات واضحة. وقد احتوت تنويها بالقرآن وتقريرا لما اتصف به الله تعالى- الذي أنزله- من صفات العزة والعلم والغفران للتائبين والشدة على المكابرين الذين هم وحدهم الذين يجادلون في آيات الله. وتحذيرا للنبي صلى الله عليه وسلم من الانخداع بما أصابوه من قوة ونجاح وطول يد وتطمينا له. فقد كذبت قبلهم أمم أخرى عديدة من لدن قوم نوح وما بعدهم وجادلوا بالباطل لإزهاق الحق

تعليق على جملة ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا

وطمسه وحاولوا أن يبطشوا برسلهم فأخذهم الله أخذا قويا ما تزال آثاره قائمة وأخباره دائرة يراها الناس ويسمعونها، ولقد حقت كلمته بالإضافة إلى أخذه الشديد في الدنيا بأن الكافرين هم أصحاب النار في الآخرة. والآيات كما هو المتبادر مقدمة قوية نافذة في صدد إنذار الكفار العرب في الدنيا والآخرة وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته. ويلفت النظر إلى ما بين هذه المقدمة وبين آيات السورة السابقة الأخيرة من تساوق تأكيدي في صدد غفران الذنوب وقبول التوبة وتقرير كون كلمة العذاب إنما حقت على الكافرين المكابرين على الله المكذبين بآياته مما يمكن أن يكون قرينة ما على صحة ترتيب نزول هذه السورة بعد سورة الزمر. تعليق على جملة ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وجملة: ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا في الآية الرابعة تضمنت تقرير كون الذين يجادلون في آيات الله وينكرونها هم الذين تعمدوا العناد وبيتوا الكفر والمكابرة فقط. حيث انطوى في ذلك معنى محكم يصح أن يزال على ضوئه إشكال ما يرد مطلقا في آيات أخرى، وانطوى فيه تبعا لذلك تحميل الكافرين مسؤولية موقفهم الذي يقفونه عن عمد وباطل. وقد انطوى في هذا وذاك في الوقت نفسه تسلية وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وتعنيف قارع للكفار، وكل هذا مما استهدفته الآيات. وفي السور السابقة آيات وعبارات انطوى فيها ذلك، مما يصح أن يعد من المبادئ القرآنية المحكمة. [سورة غافر (40) : الآيات 7 الى 9] الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)

تعليق على ما جاء عن الملائكة في هذه الآيات

(1) قهم السيئات: من الوقاية. ومضمون الآية يسوغ تأويلها بالدعاء لله بأن يغفر للمؤمنين ما بدر منهم في الحياة من سيئات وهفوات. أو بالدعاء بأن يحميهم من الوقوع في السيئات في الحياة. في الآيات إشارة ضمنية إلى الملائكة وإيمانهم بالله وتقديسهم له، واستغفارهم للمؤمنين والدعاء لهم، بأسلوب قوي رائع وعبارة واضحة لا تحتاج إلى بيان آخر. والمتبادر أن الآيات جاءت معقبة على الآيات السابقة لتنوه بالمؤمنين المنيبين إلى الله المتبعين سبيله والملتفين حول رسوله، ولتبثّ فيهم الطمأنينة والغبطة والبشرى بما ينتظرهم من قرة العين وعظيم الفوز في الآخرة، وما بسبيل ذلك من استغفار الملائكة لهم والدعاء إلى الله من أجلهم مقابلة لذكر مصير الكفار وما احتوته الآيات السابقة من التنديد بهم وإنذارهم. تعليق على ما جاء عن الملائكة في هذه الآيات ومع التنبيه إلى أن ما ذكر عن الملائكة في هذه الآيات متصل من حيث ذاتية الأمر بسرّ الملائكة المغيب الذي يجب الإيمان به، على ما شرحناه في سياق سورة المدثر، فإن مما يتبادر والله أعلم أن ذكرهم بالصيغة الرائعة التي ذكروا بها قد قصد به الإشارة إلى أن أكثر الملائكة قربا إلى الله وهم حملة العرش ومن حوله هم أكثر المخلوقات خضوعا له واعترافا بعظمته أولا، وإلى أن شفاعتهم واستغفارهم إنما هما للمؤمنين المتقين ثانيا. وفي هذا وذاك أسلوب من الرد القوي على المشركين العرب فيما يعتقدونه من كون الملائكة بنات الله وإشراكهم معه في العبادة على أمل

شفاعتهم لهم عند الله. وفيهما كذلك أسلوب من التنويه القوي بالمؤمنين المستجيبين إلى دعوة النبي صلى الله عليه وسلم. ولقد ذكرنا في سياق تفسير سورة البروج أن تعبير عرش الله أولى أن يصرف إلى قصد تصوير عظمة الله، وأنه تعبير تمثيلي لأن الناس في الدنيا اعتادوا أن يروا عروش الملوك وأن يقيسوا عظمتهم بعظمة ملكهم وعروشهم وأن يروا هذه العروش رمزا لملكهم وسلطانهم وقوتهم بل وأن يعبروا عن ذلك بها. ويتبادر لنا والله أعلم أنه يحسن أن يفسّر قصد ذكر حمل الملائكة العرش والتفافهم حوله على ضوء ذلك. ولقد أورد بعض المفسرين في سياق هذه الآيات بيانات حول ماهية الملائكة وخلقهم وكيفية حملهم العرش ومواقفهم حوله فيها كثير من الإغراب. من ذلك ما رواه البغوي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش ما بين شحمة أذنيه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام» . عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه قال: «إنّ ما بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية خفقان الطير المسرع ثلاثين ألف عام والعرش يكسى كلّ يوم سبعين ألف لون من النور لا يستطيع أن ينظر إليه خلق من خلق الله والأشياء كلّها في العرش كحلقة ملقاة في فلاة» . وعن وهب بن منبه أنّ حول العرش سبعين ألف صفّ من الملائكة صفّ خلف صفّ يطوفون بالعرش يقبل هؤلاء ويقبل هؤلاء. فإذا استقبل بعضهم بعضا هلّل هؤلاء وكبّر هؤلاء ومن ورائهم سبعون ألف صفّ قيام أيديهم إلى أعناقهم قد وضعوها على عواتقهم فإذا سمعوا تكبير أولئك وتهليلهم رفعوا أصواتهم فقالوا: سبحانك وبحمدك ما أعظمك وأجلّك أنت الله لا إله غيرك أنت الأكبر، الخلق كلّهم راجون، ومن وراء هؤلاء مائة ألف صفّ من الملائكة قد وضعوا اليمنى على اليسرى ليس منهم أحد إلّا وهو يسبّح بتحميد لا يسبّحه الآخر. ما بين جناحي أحدهم مسيرة ثلاثمائة عام وما بين شحمة أذنه إلى عاتقه أربعمائة عام، واحتجب الله من الملائكة الذين حول العرش بسبعين حجابا من نور وسبعين حجابا من ظلمة وسبعين حجابا من درّ أبيض وسبعين حجابا من

ياقوت أصفر وسبعين حجابا من زبرجد أخضر وسبعين حجابا من ثلج وسبعين حجابا من ماء وسبعين حجابا من برد وما لا يعلمه إلّا الله تعالى. ولكلّ واحد من حملة العرش ومن حوله أربعة وجوه وجه ثور ووجه أسد ووجه نسر ووجه إنسان. ولكلّ واحد منهم أربعة أجنحة جناحان على وجهه مخافة أن ينظر إلى العرش فيصعق وجناحان يهفو بهما كما يهفو الطائر بجناحيه إذا حرّكهما ليس لهم كلام إلّا التسبيح والتحميد والتكبير والتمجيد. ومن ذلك ما رواه الخازن عن ابن عباس أنّ ما بين أحد أحد الملائكة الذين يحملون العرش إلى أسفل قدميه مسيرة خمسمائة عام، وأقدامهم في تخوم الأرضين والأرضون والسموات إلى حجزهم وقيل إنّ أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم خرقت العرش وهم خشوع لا يرفعون طرفهم وهم أشدّ خوفا من أهل السماء السابعة وأهل السماء السابعة أشدّ خوفا من التي تليها والتي تليها أشدّ خوفا من التي تليها وحملة العرش هم أشرف الملائكة وأفضلهم لقربهم من الله عزّ وجلّ وهم على صورة الأوعال» . وعن ابن وهب أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنّه يحمل عرش الله اليوم أربعة ويوم القيامة ثمانية من الملائكة أقدامهم في الأرض السابعة ومناكبهم خارجة من السموات عليها العرش. وأنّ الله لما خلقهم سألهم أتدرون لم خلقتكم؟ قالوا: خلقتنا ربّنا لما تشاء، قال: تحملون العرش. ثمّ قال: سلوني من القوة ما شئتم أجعلها فيكم. فقال واحد منهم: قد كان عرش ربّنا على الماء فاجعل فيّ قوة الماء. قال: قد جعلت. وقال آخر: اجعل فيّ قوة السّموات. قال: قد جعلت. وقال آخر: اجعل فيّ قوّة الأرض، قال: قد جعلت. وقال آخر: اجعل فيّ قوّة الرياح. قال: قد جعلت ثمّ قال: احملوا فوضعوا العرش على كواهلهم فلم يزولوا قال: فجاء علم آخر إنّما كان علمهم الذي سألوه القوة فقال لهم: قولوا لا حول ولا قوة إلا بالله فقالوا، فجعل الله فيهم من الحول والقوة ما لم يبلغه علمهم فحملوا» . وفي تفسير البغوي زيادة في وصف الملائكة قال: إنها من حديث نبوي دون أن يذكر راويا أو سندا وفي الزيادة: «أنّ الملائكة على صورة الأوعال بين أظلافهم إلى ركبهم كما بين سماء إلى سماء» . وفي رواية من حديث آخر بدون راو ولا سند

تعليق على جملة ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم

«أنّ لكلّ منهم وجه رجل ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر» . وفي تفسير ابن كثير حديث عن جابر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أذن لي أن أحدّثكم عن ملك من حملة العرش بعد ما بين شحمة أذنه وعنقه مخفق الطير سبعمائة عام» . وفي تفسير الطبري في سياق تفسير آية الأحقاف هذه: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17) قول منسوب إلى ابن عباس أن الثمانية هي ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عدتهم إلّا الله، وهذه غير موثقة الإسناد وغير واردة في كتب الأحاديث الصحيحة. وهناك حديث رواه الترمذي وأبو داود عن العباس رضي الله عنه قال: «كنت جالسا في البطحاء في عصابة ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم إذ مرّت عليهم سحابة فنظروا إليها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تدرون ما اسم هذه؟ قالوا: نعم هذا السّحاب. فقال: والمزن قالوا: والمزن قال: والعنان قالوا: والعنان ثم قال: هل تدرون كم بعد ما بين السماء والأرض؟ فقالوا: لا قال: إن بعد ما بينهما واحدة أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة والسماء التي فوقها كذلك حتى عدّهنّ سبع سموات ثم قال: فوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله كما من السماء إلى السماء وفوق ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهنّ وركبهنّ ما بين سماء إلى سماء فوق ظهورهنّ العرش بين أسفله وأعلاه ما بين سماء إلى سماء والله فوق ذلك» «1» . ومهما يكن من أمر فإن من واجب المسلم أن يؤمن بما جاء في القرآن والحديث النبوي الصحيح وبقدرة الله على كل شيء مع تنزيهه عن الجسمانية والمماثلة لأي شيء من خلقه ومع الإيمان بأن ما ورد في القرآن والحديث الصحيح على الوجه الذي ورد به لا بد من أن يكون لحكمة سامية، منها ما ذكرناه في بداية هذا التعليق، والله تعالى أعلم. تعليق على جملة وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إن المعنى في هذه الجملة تكرر في آيات أخرى، وجاء تقريرا مباشرا من الله

_ (1) التاج ج 4 ص 244.

[سورة غافر (40) : الآيات 10 إلى 12]

عز وجل مثل آية الرعد هذه: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) وآية سورة الطور هذه: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) . ويتبادر لنا بالإضافة إلى الحقيقة الإيمانية المغيبة التي يجب الإيمان بها أنه قد هدف بذلك أولا إلى تطمين المؤمنين الصالحين بمصير من يمتّ إليهم برحم قريب بمصير يجمعهم معهم في مصير سعيد واحد تساوقا مع الظاهرة الانسانية المعروفة أي شغف الناس بذوي رحمهم القريبين، وهذا متساوق مع نظم القرآن وحكمة الله في كون مشاهد الحياة الأخروية مماثلة لمألوفات الدنيا على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. وثانيا: إلى التنبيه على أن ذلك رهن بصلاح ذوي رحم المؤمنين الصالحين، وأنه ليس من شأن نسبتهم إليهم وحسب أن تجعل لهم سبيلا إلى ذلك المصير السعيد المماثل لمصير ذويهم الصالحين إذا لم يكونوا مؤمنين صالحين مثلهم. وفي هذا ما فيه من تلقين جليل شامل ومستمر المدى. [سورة غافر (40) : الآيات 10 الى 12] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) . (1) المقت: الغضب الشديد. في الآيات بيان لما سوف يكون من أمر الكفار يوم القيامة حيث يصرخ فيهم صرخة التبكيت والتقريع ويقال لهم: إن مقت الله وغضبه عليكم أشد من مقتكم أي نقمتكم على أنفسكم بسبب امتناعكم عن الاستجابة إلى دعوة الله ومقابلتها

تعليق على جملة أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين

بالمكابرة والجحود. وحيث ترتفع أصواتهم بالندم قائلين: ربنا إنك أمتنا مرتين وأحييتنا مرتين وقد أدركنا الآن خطأنا واعترفنا بذنوبنا فهل لنا من سبيل نخرج به من ورطتنا. فيقال لهم: إن ما أنتم فيه الآن هو حق وعدل لأنكم كنتم حينما يدعى الله وحده تستكبرون وتجحدون وحينما يشرك به تؤمنون. فالملك اليوم لله وقد حكم عليكم بما استحققتموه حكمه العادل وهو العلي عن كل شريك الكبير الذي لا يدانيه شيء. وواضح أن في الآيات عودا على بدء في صدد ذكر ما أعد للكفار يوم القيامة، وهي متصلة بالسياق. وقد استهدفت فيما استهدفته إنذار الكفار وإثارة الرعب والندم في نفوسهم، مع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي الذي أخبرت به. تعليق على جملة أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ولقد تعددت أقوال المفسرين في مفهوم جملة أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ورووا عن ابن مسعود وغيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم أحاديث في سياقها وفي سياق آية سورة البقرة [28] التي جاء فيها: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) «1» وأوجه ما فيها أنهم فسروا هذه الجملة بآية البقرة وفسروا الموت الأول في آية البقرة بحالة الإنسان قبل الحياة. والحياة الأولى بحياة الإنسان في حالة الجنين فالولادة. والموت الثاني بموت الأجل، والحياة الثانية بحياة البعث الأخروي. على أن روح الآيات تلهم أن مجيء القول على لسان حال الكفار قد قصد به حكاية ما سوف يصدر منهم من اعتراف بقدرة الله على الإماتة والإحياء، والإحياء

_ (1) انظر تفسير هذه الآية وتفسير آية البقرة المذكورة في كتب تفسير الطبري وابن كثير والخازن والطبرسي مثلا.

[سورة غافر (40) : الآيات 13 إلى 17]

والإماتة المرة بعد المرة في سياق استشعارهم بالندم والتماسهم الوسيلة للخروج من ورطتهم في رجعة ثانية إلى الدنيا هي في قدرته مما تضمنت آيات أخرى حكايته عن لسانهم منها الآية [58] من السورة السابقة التي تقول: أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وآية سورة فاطر هذه: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) . [سورة غافر (40) : الآيات 13 الى 17] هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17) . (1) رزقا: هنا بمعنى الماء على اعتبار ما يكون من أثر المطر في تيسير الرزق. (2) الروح: هنا كناية عن الوحي الرباني. (3) يوم التلاق: يوم الاجتماع وهو كناية عن يوم القيامة. الآيات كما هو المتبادر استمرار وتعقيب للآيات السابقة في إنذار الكفار والتنويه بالمؤمنين وبيان أهوال يوم القيامة ومهمة الرسول في تنبيه الناس وإنذارهم. وقد احتوت تنويها بمشاهد قدرة الله وعظمته ونعمته بسبيل التدليل على قدرته على تحقيق وعده ووعيده. وأسلوبها قوي رائع، وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى بيان آخر.

تعليق على جملة وما يتذكر إلا من ينيب (13)

تعليق على جملة وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) وجملة وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) في الآية الأولى من هذه الآيات تضمنت تقرير كون الذين يرغبون في الحق والإنابة إلى الله هم وحدهم الذين يفهمون آياته ويشعرون بعظمة كونه ويؤمنون به حينما يدعون ويذكرون وهي مقابل جملة ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا في الآية الرابعة من السورة حيث انطوى فيها كذلك معنى محكم يصح أن يزال على ضوئه إشكال ما يرد مطلقا في آيات أخرى. تعليق على آية فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) وفي الآية [14] تكرار للأوامر الربانية التي تكررت في السورة السابقة بعبادة الله وحده وإخلاص الدين له مع زيادة ذات مغزى وهي حث النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على ذلك ولو أغاظ الكفار وكرهوه. حيث قد يفيد هذا أن الأوامر الربانية الأولى قد أغاظت الكفار وجعلتهم ييأسون من تراجع النبي صلى الله عليه وسلم عن موقفه تجاه شركهم وتقاليدهم. وحيث قد يكون قرينة أخرى على صحة ترتيب نزول هذه السورة بعد السورة السابقة. ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآية حديثا رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن الزبير أنه كان يقول دبر كلّ صلاة حين يسلّم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير لا حول ولا قوة إلّا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلّا إيّاه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلّا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. وكان يقول: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يهلّل بهذه الكلمات دبر كلّ صلاة. حيث ينطوي في الحديث صورة من صور التعليم النبوي المستلهم من الآيات القرآنية بسبيل إعلان الإخلاص له وحده.

[سورة غافر (40) : الآيات 18 إلى 20]

[سورة غافر (40) : الآيات 18 الى 20] وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) . (1) الآزفة: القريبة أو التي تسوق الناس وتزفهم بالسرعة. وهي كناية عن الساعة أو يوم القيامة. (2) إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين: الكظم بمعنى الكتم والإمساك. ومعنى الجملة إذ القلوب ترتفع من شدة الاضطراب إلى الحناجر فتكتم حلوق أصحابها وأنفاسهم فلا تستطيع خروجا ولا تستطيع العودة إلى أماكنها. وهي بسبيل تصوير حالة الهلع الشديد التي تعتري الكفار. (3) حميم: صديق مشفق. (4) خائنة الأعين: ما ينطوي في نظرات الأعين من مقاصد يريد أصحابها إخفاءها فتخونهم هذه النظرات. وهذه الآيات احتوت كذلك إنذارا وتنديدا بأسلوب آخر. فهي تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإنذار الكفار بيوم القيامة القريب الذي يزف الناس فيه زفا ويساقون سوقا وبما سوف تكون حالتهم فيه من الهلع والرعب بحيث يشتد اضطرابهم حتى ترتفع قلوبهم إلى حناجرهم وتكاد أن تسد عليهم مجرى النفس ولا يجد الظالمون صديقا مشفقا ولا شفيعا مستجابا مطاعا. وقد أشارت إلى سعة إحاطة الله بأعمال الناس ونواياهم فهو يعلم كل حركة من حركاتهم خفيها وظاهرها حتى ما يدق على المشاهدين مما تنطوي عليه لحظات العيون وتخفيه الصدور من النوايا المريبة. فهو السميع لكل شيء النافذ بصره إلى كل شيء. وهو الذي سيقضي بين الناس بالحق وفق أعمالهم، أما الشركاء الذين يدعوهم المشركون مع الله فليس لهم أي قدرة على شيء أو القضاء في أي شيء أو النفوذ إلى أي شيء.

[سورة غافر (40) : الآيات 21 إلى 22]

وواضح أن هذه الآيات هي أيضا استمرار للآيات السابقة وأنها استهدفت فيما استهدفته إثارة الخوف والرعب واليأس في قلوب المشركين وحملهم على الارعواء. [سورة غافر (40) : الآيات 21 الى 22] أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22) . تساءلت الآيات تساؤل المنكر المندد المذكر عما إذا كان الكفار لم يسيروا في الأرض ولم يروا من الآثار ما كان عاقبة الذين من قبلهم حيث أخذهم الله بذنوبهم أخذا قويا مدمرا ما تزال آثاره قائمة مشاهدة ولم يكن لهم منه نصير ولا واق وقد كانوا أشد منهم قوة وتمكنا وآثارا في الأرض، وذلك بسبب كفرهم حينما كانت تأتيهم رسل الله بالبينات وتدعوهم إليه. ولقد أخذهم الله وهو قوي شديد العقاب قادر على أخذ أمثالهم أيضا. والآيات كما هو المتبادر متصلة بالآيات السابقة اتصال تعقيب وتذكير وإنذار واستطراد وروحها ومضمونها يلهمان أن العرب كانوا يشاهدون آثار الأمم السابقة المدمرة ويتداولون فيما بينهم أنها دمرت ببلاء رباني مما تكرر تقريره في آيات عديدة أخرى مرت أمثلة منها في السور السابقة وهذا ما يقوي الآيات في إنذارها وتنديدها. [سورة غافر (40) : الآيات 23 الى 44] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27) وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44)

(1) سلطان مبين: حجة واضحة مستعلية. (2) استحيوا نساءهم: أبقوا نساءهم أحياء دون الذكور. (3) ظاهرين في الأرض: غالبين وظافرين في الأرض. (4) دأب: عادة أو عمل. (5) يوم التناد: كناية عن يوم القيامة حيث يتنادى الناس للاستغاثة أو بالويل والثبور. (6) ما لكم من الله من عاصم: ليس لكم من يحميكم ويمنعكم من الله. (7) كبر مقتا عند الله: ما أكبر ما يستوجبه من المقت والغضب عند الله. (8) الصرح: البناء الظاهر المرتفع. (9) أسباب السموات: طريق السموات أو أبوابها. (10) تباب: هلاك وخسران وضياع. (11) لا جرم: هنا بمعنى لا ريب من قبيل التوكيد. جاء هذا الفصل معقبا على الآيات السابقة التي ندد فيها بالكافرين المشركين وأنذروا وبخاصة على الآيتين السابقتين مباشرة اللتين ذكّروا فيهما بآثار الأمم السابقة المدمرة بالبلاء الرباني قصاصا منها على تكذيبها رسل الله وكفرها بدعوتهم مما جرى عليه النظم القرآني في إيراد القصص على ما نبهنا إليه في المناسبات السابقة وقد احتوى تفصيل ما كان من موقف فرعون وقومه من موسى ورسالته وعبارته واضحة.

تعليق على قصة موسى وفرعون ومؤمن آل فرعون وما فيها من تماثل مع صور السيرة النبوية والتقريرات القرآنية المباشرة في صددها وما في ذلك من عبر وتلقين

تعليق على قصة موسى وفرعون ومؤمن آل فرعون وما فيها من تماثل مع صور السيرة النبوية والتقريرات القرآنية المباشرة في صددها وما في ذلك من عبر وتلقين والجديد في القصة جمع قارون إلى فرعون وهامان وكون موسى أرسل إليه أيضا. وحكاية موقف الرجل المؤمن من آل فرعون وخطابه إلى فرعون وقومه، وقول فرعون ذروني أقتل موسى. أمّا ما عدا ذلك فهو متسق إجمالا مع ما جاء في السور السابقة خلال قصص موسى وفرعون مما علقنا عليه بما تبادر لنا أنه الصواب إن شاء الله فنكتفي بذلك بالنسبة لما اتسق بين ما جاء في هذه السورة والسور السابقة. ولقد ذكر قارون في سورة القصص وأنه كان من قوم موسى فبغى عليهم، ولم يذكر فيها أنه كان في زمن موسى ولم ينف ذلك أيضا. وفي تعليقنا على قصة قارون في السورة المذكورة رجحنا أن قصة قارون وهويته مما كان واردا في بعض أسفار اليهود المتداولة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بما يتسق مع ما ورد عنها إجمالا في القرآن، وأن سامعي القرآن من العرب أو بعضهم كان يعرف ذلك عن طريق اليهود. وهذا يشمل فيما هو المتبادر وما ذكر عنه في هذه السورة ولم يذكر في سورة القصص. ولقد ذكر في سورة القصص أن رجلا حذر موسى وحثه على الخروج، ورجحنا في سياق تفسير ذلك أنه مما كان متداولا بين اليهود وواردا في بعض أسفارهم التي كانت في أيديهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا ما يصح أن يقال بالنسبة للرجل المؤمن من آل فرعون وموقفه. وهذا يقال أيضا في صدد قول فرعون ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى الذي ليس واردا في الأسفار المتداولة اليوم. وفي كتب التفسير روايات معزوة إلى تابعين وتابعي تابعين فيها بعض البيانات عن مؤمن آل فرعون واسمه وهويته ووقت إيمانه مما يمكن أن يدل على

تداول قصته في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته ويؤيد ما رجحناه «1» . ومن ذلك أنه ابن عم لفرعون وأن اسمه جبريل أو حزبيل أو حبيب وأنه هو الذي حذر موسى ونصحه بالخروج على ما جاء في سورة القصص وأنه خرج مع موسى حينما خرج ببني إسرائيل من مصر. وأسلوب آيات القصة ومضمونها يؤكدان أن هدفها هو إنذار الكفار العرب وتخويفهم وتطمين النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن ما يلقونه هو ما كان يلقاه الرسل والمؤمنون السابقون الذين أيدهم الله ونصرهم وأهلك أعداءهم. ولقد ذكرت الروايات بعض مواقف لبعض المؤمنين استنكروا ما كان يبدو من بغاة قريش من عدوان وطغيان ضد النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم من كان هذا سببا لإيمانه وإعلانه مناصرة النبي صلى الله عليه وسلم مثل حمزة عمه الذي ثار غضبه على أبي جهل حينما علم بموقف شديد بذيء له مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث ضربه فشجه، ثم أعلن إسلامه أمام ملأ من قريش في فناء مكة. ولقد وجد أبو بكر يوما بعض بغاة قريش محدقين بالنبي صلى الله عليه وسلم وأحدهم يشد رداءه على عنقه فأخذ يصرخ باكيا: «أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله» حتى تعرض هو نفسه للأذى والشر. ولقد ذكرت الروايات فيما ذكرت أن بعض زعماء قريش المعتدلين كانوا ينصحون قومهم بترك النبي صلى الله عليه وسلم وشأنه فإن نجح كان في جناحه عزهم وقوتهم. ومنهم من كان يبدي دهشته من بلاغة القرآن وروحانيته وينكر أن يكون شعر شاعر وسجع كاهن وتخييل ساحر. ففي قصة الرجل المؤمن مماثلة لبعض هذه الصور «2» وتذكير بمواقف مماثلة في

_ (1) انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري وابن كثير والطبرسي وغيرهم. (2) انظر الجزء الأول والثاني من سيرة ابن هشام والجزء السادس من كتابنا (تاريخ الجنس العربي) ففيها هذه الصور وصور عديدة مماثلة أخرى. وموقف أبي بكر رضي الله عنه ذكر في حديث أخرجه البخاري جاء فيه: «سئل عبد الله بن عمرو عن أشدّ ما صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبيّنات من ربّكم. التاج ج 4 ص 203 وانظر روايات أخرى لهذا الموقف في تفسير ابن كثير والبغوي لهذه الآيات.

سياق قصة رسول من رسل الله السابقين. وفي آيات القصة حكاية لأقوال عديدة من أقوال مؤمن آل فرعون مشابهة لجمل قرآنية عديدة وجهت مباشرة إلى كفار العرب منها إنذار مؤمن آل فرعون لقومه بمصير الأمم السابقة المكذبة مثل قوم نوح وعاد وثمود، ومنها تنبيه المؤمن قومه إلى أن الحياة الدنيا متاع وأن الآخرة هي دار القرار وأن من عمل سيئة فلا يجزى إلّا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب. ففي كل هذا يظهر هدف العظة والزجر والدعوة والتأسي والتسلية والتثبيت والتنديد في آيات القصة قويا بارزا كما ينطوي فيه تلقينات مستمرة المدى. وهذا بالإضافة إلى ما في موقف هذا المؤمن الجريء المندد بفرعون وقومه والداعي إلى الله والمنذر بعذابه للمصرّين على الكفر رغم كونه وحيدا من تلقين في إيجاب المواقف المماثلة على المؤمنين المخلصين دون خوف ورهبة من الظالمين. ولقد روى أصحاب السنن حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر أو أمير جائر» «1» . حيث يتساوق التلقين النبوي مع ما استلهمناه من التلقين القرآني. ولقد جاء في آيات هذه السورة والسورة السابقة لها فضلا عما قبلهما أوامر قرآنية مباشرة للنبي صلى الله عليه وسلم بعبادة الله وحده وإخلاص الدين له ورفض دعوة المشركين إلى مشاركتهم في عبادتهم وتقاليدهم، وبين هذا وبين ما جاء في القصة من كلام الرجل المؤمن لقومه [الآيات/ 41- 44] تماثل. ولقد جاءت في آيات هذه القصة مقاطع فيها تعليقات وتنبيهات وعظية بليغة جريا على الأسلوب القرآني البديع، منها ما هو تعليقات وتنبيهات مباشرة، ومنها ما جاء على لسان مؤمن آل فرعون، فالله لا يسعد ولا يوفق البغاة

_ (1) التاج ج 5 ص 203.

استطراد إلى مذهب التقية بصورة عامة وعند الشيعيين بصورة خاصة وتعليق عليه

الكذابين [الآية 28] . والله لا يريد ظلما لعباده ولذلك جرى على سنة إرسال رسله لإنذارهم ودعوتهم [الآيات 29- 30] والله إنما يضل البغاة المرتابين الذين يجادلون في آيات الله بالباطل والذين استوجبوا مقت الله وإنما يطبع على قلوب المتكبرين الجبارين [الآيات 33- 34] . وإنه من عجيب أمرهم أنه بينما يدعوهم إلى النجاة يدعونه إلى النار ويريدون أن يكفر بالله ويشرك به غيره الذي لا يملك من الأمر شيئا، وإن مرد الناس جميعهم إلى الله وأن المفسرين في الانحراف هم وحدهم أصحاب النار [41- 43] ولسوف يذكرون ما يقوله لهم في يوم ما ويندمون على مواقفهم وأنه يفوض أمره إلى الله البصير بأمور عباده [44] . وبين هذه التعليقات ما جاء في كثير من التقريرات القرآنية المباشرة التي مرّت أمثلة منها في السور السابقة تماثل كذلك. وواضح أن هذا التماثل مما يبرز قصد القصة الوعظي والتذكيري والتمثيلي. استطراد إلى مذهب التقية بصورة عامة وعند الشيعيين بصورة خاصة وتعليق عليه إن مفسري الشيعة وفقهاءهم يقفون عند جملة رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ فيسوقونها كدليل من جملة الأدلة على مذهب التقية الذي يعتنقونه. وقد روى المفسر الطبرسي في سياقها قولا لأبي عبد الله أحد الأئمة جاء فيه: «إنما هذا الرجل كان يكتم إيمانه تقية من القتل، وإن التقية من ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقية له، والتقية ترس الله في الأرض» . والمتبادر أن في اتخاذ الشيعة هذه الآية سندا لمذهب التقية تجوزا، فهي من سياق فيه حكاية قصة من قصص رسالة موسى عليه السلام وليست تشريعا للمسلمين، وفي السياق إلى هذا حكاية الموقف الجريء الذي نوهنا به والذي يتناقض مع فكرة التقية والمداراة.

ويستند الشيعة إلى آية سورة آل عمران هذه أيضا: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) والآية إنما تجيز التقية إزاء الكفار وحسب في حين أن الشيعة يتوسعون في مذهبهم ويسوغونه في كل حالة وموقف وإزاء الكفار والمسلمين على السواء ويعتبرونه أساسا مهما من أسس الدين أو المذهب كما تفيده الرواية المروية عن أبي عبد الله التي أوردناها آنفا، ويسوقون مع هذه الرواية أحاديث نبوية أخرى لتأييد مذهبهم التوسعي لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. من ذلك حديث يرويه العياشي أحد محدثيهم عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «لا دين لمن لا تقيّة له» «1» . وهذه الجملة وردت في القول المنسوب لأبي عبد الله ومنها حديث رواه الديلمي جاء فيه: «إنّ الله أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض وفي رواية بعثت بالمداراة» «2» . ومنها حديث رواه ابن عدي وابن عساكر جاء فيه: «من عاش مداريا مات شهيدا قوا بأموالكم أعراضكم وليصانع أحدكم بلسانه عن دينه» . ويسوقون مع هذه الأحاديث رواية طريفة يرويها المفسر العسكري جاء فيها: «إن الباقر وهو إمامهم الرابع نظر إلى بعض شيعته وقد دخل خلف بعض المنافقين إلى الصلاة- والمقصود إنّه صلى مؤتما بإمام سني غير شيعي- وأحسّ الشيعي أن الباقر عرف ذلك منه فقصده وقال له: أعتذر إليك يا ابن رسول الله عن صلاتي خلف فلان فإنها تقية. ولولا ذلك لصليت وحدي. فقال له الباقر: يا أخي إنما كنت تحتاج أن تعتذر لو تركت. يا عبد الله المؤمن ما زالت ملائكة السموات السبع والأرضين السبع تصلي عليك وتلعن إمامك ذاك. وإنّ الله تعالى أمر أن تحسب صلاتك خلفه بسبعمائة صلاة لو صليتها وحدك فعليك بالتقية» «3» .

_ (1) مختصر ترجمة التحفة الإثني عشرية ص 288- 289. (2) مختصر ترجمة التحفة الإثني عشرية ص 288- 289. (3) التفسير والمفسرون للذهبي ج 2 ص 96- 97 عزوا إلى المفسر الشيعي العسكري.

تعليق على ذكر عاد وثمود ورسالة يوسف عليه السلام في الآيات

وبقطع النظر عن صحة هذه الأحاديث وعدمها فقد يصح أن يقال إن مذهب التقية أو المداراة وجيه وحق في حالة مواجهة الخطر والضرر المؤكدين اللذين لا يمكن اتقاؤهما بغير ذلك وسواء أكان هذا إزاء الكفار أم إزاء شرار المسلمين وبغاتهم والقادرين على الكيد والضرر والأذى منهم مما قد يلهمه تلقين آية سورة النحل هذه: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ... وآية سورة البقرة هذه: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وحديث رواه ابن ماجه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «إنّ الله وضع عن أمّتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» «1» . وحديث رواه الأربعة عن عائشة قالت: «استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس ابن العشيرة أو أخو العشيرة ثم أذن له فألان له القول فلمّا خرج قلت: يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول، فقال: يا عائشة، إنّ من شرّ الناس من يتركه الناس اتقاء فحشه» «2» . غير أن التوسع في هذا المذهب وتشميله لأيّة حالة وموقف إطلاقا هو من مميزات المذهب الشيعي الذي لا نراه معقولا إلّا في حالة الخطر والضرر الأكيدين والله أعلم. هذا، وهناك أقوال وحدود أخرى للمؤولين والمفسرين وردت في سياق آية سورة آل عمران [38] سنوردها ونعلّق عليها عند تفسير هذه الآية. تعليق على ذكر عاد وثمود ورسالة يوسف عليه السلام في الآيات وفي الآية [31] ذكر لعاد وثمود مع قوم نوح، وقصتا عاد وثمود لم تردا في الأسفار اليهودية المتداولة. وهما، على ما قلنا قبل، عربيتا الموطن أي كانتا في

_ (1) التاج ج 1 ص 29. (2) التاج ج 5 ص 25.

[سورة غافر (40) : الآيات 45 إلى 50]

جزيرة العرب. وقد يورد هذا سؤالا عما إذا كان يصح أن تورد قصتهما على لسان مؤمن آل فرعون. ولسنا نرى محلا لهذا النقد فليس ما يمنع أن يكون خبر عاد وثمود مما كان معروفا في ظروف رسالة موسى عليه السلام. وأن يكون ذلك واردا في قراطيس يتداولها اليهود في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته. وفي الأسفار المتداولة اليوم اسم سبأ وددان وبلاد العرب وملوك العرب متكرر الورود. وفي الآية [34] خطاب لفرعون وقومه يتضمن خبر كون يوسف عليه السلام مرسلا من الله لفرعون وقومه في وقت وجوده في مصر. وفي الإصحاح الواحد والأربعين من سفر التكوين المتداول الذي يحكي قصة حلم فرعون مصر وتفسير يوسف له ذكر أن يوسف قال: إنه يفسر الأحلام بأمر الله. وإن فرعون قال له: «بعد ما عرفك الله هذا كله فليس فيهم حكيم مثلك. أنت تكون على بيتي وإلى كلمتك ينقاد كل شعبي ولا أكون أعظم منك إلّا بالعرش» وفي هذا ينطوي مصداق ما جاء في الآية وبالتالي كون ما جاء فيها مما كان معروفا متداولا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته. [سورة غافر (40) : الآيات 45 الى 50] فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46) وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50) . (1) وما دعاء الكافرين إلّا في ضلال: بمعنى أن دعاءهم عبث لا جدوى من ورائه ولا استجابة له.

تعليق على جملة النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة [46] واستطراد إلى الأحاديث عن عذاب القبر

في الآيات تعقيب على الفصل القصصي كما هو الظاهر، واحتوت تقرير وقاية الله للمؤمن وحكاية ما سوف يكون من أمر فرعون وقومه بعد الموت ويوم القيامة وما سوف يذوقونه من شديد العذاب ومحاورة التابعين والمتبوعين وإلقاء هؤلاء التبعة على أولئك وندم الجميع وحسرتهم ويأسهم من النجاة وأنيب خزنة النار لهم حينما طلبوا منهم دعاء الله بالتخفيف عنهم. وأسلوبها قوي نافذ، والهدف الذي استهدفه الفصل القصصي وهو الزجر والعبرة والتذكير والموعظة والإنذار والتنديد قد انطوى في هذا التعقيب أيضا، ويلفت النظر إلى المحاورة المحكمية بين الضعفاء والمستكبرين، حيث ورد مثلها على لسان المستضعفين والمستكبرين العرب أيضا في سورة سبأ السابقة لهذه السورة، وحيث ينطوي في هذا التماثل قصد الإنذار والزجر للسامعين أيضا كما هو المتبادر. تعليق على جملة النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ [46] واستطراد إلى الأحاديث عن عذاب القبر ولقد وقف المفسرون عند هذه الجملة وأوردوا تأويلات صحابية وتابعية وأحاديث نبوية في صددها. من ذلك ما رواه الطبري عن البلخي قال: «سمعت الأوزاعي وسأله رجل قال: رحمك الله رأينا طيورا تخرج من البحر تأخذ ناحية الغرب بيضا فوجا فوجا لا يعلم عددها إلا الله فإذا كان العشيّ رجع مثلها سودا قال: وفطنتم إلى ذلك قالوا: نعم قال: تلك الطيور في حواصلها أرواح آل فرعون يعرضون على النار غدوّا وعشيّا فترجع إلى وكورها وقد احترقت رياشها وصارت سودا فتنبت عليها من الليل رياش بيض وتتناثر السود ثم تغدو يعرضون على النار غدوّا وعشيا ثم ترجع إلى وكورها فذلك دأبها في الدنيا فإذا كان يوم القيامة قال الله: أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب قالوا: وكانوا يقولون إنهم ستمائة ألف» . والحديث لم يرد في كتب الصحاح وهو على غرابته يقتضي أن يكون آل فرعون

فقط هم الذين يعرضون على النار!. وقد روى الطبري إلى هذا عن قتادة أنها تعني أن منازلهم من النار تعرض عليهم غدوا وعشيا توبيخا ونقمة وصغارا لهم. وعن مجاهد أنهم يعرضون على النار غدوّا وعشيا- ما كانت الدنيا- وهذا يعني أن هذا العرض قبل يوم القيامة. ثم قال الطبري ما مفاده: أن الأولى أخذ الجملة على ظاهرها والوقوف عند ذلك. فالله قال: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ فنقول ذلك وحسب. ومن ذلك ما رواه البغوي عن قتادة ومقاتل والسدي والكلبي أن روح كلّ كافر تعرض على النار بكرة وعشيا ما دامت الدنيا. ومن ذلك قول ابن كثير أنهم- يعني العلماء والمفسرين قبله- استدلّوا بهذه الآية على عذاب القبر الذي ورد خبره في أحاديث صحيحة وأورد حديثا رواه الإمام أحمد عن عائشة جاء فيه: «كانت تخدمنا يهودية فلا نصنع لها شيئا من المعروف إلا قالت: وقاك الله عذاب القبر فدخل عليّ رسول الله فقلت يا رسول الله هل للقبر عذاب قبل يوم القيامة؟ قال: لا من زعم ذلك قالت: هذه اليهودية لا أصنع معها شيئا من المعروف إلّا قالت وقاك الله عذاب القبر قال: كذبت يهودية وهم على الله أكذب لا عذاب دون يوم القيامة. ثم مكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث فخرج ذات نصف النهار مشتملا بثوبة محمرّة عيناه وهو ينادي بأعلى صوته: «القبر كقطع الليل المظلم، أيّها الناس لو تعلمون ما أعلم بكيتم كثيرا وضحكتم قليلا. أيّها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر فإنّ عذاب القبر حقّ» . وننبه على أن ابن كثير أورد أيضا صيغة مختصرة لهذا الحديث رواها البخاري جاء فيها: «إنّ يهودية دخلت على عائشة فقالت: نعوذ بالله من عذاب القبر فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر فقال: نعم عذاب القبر حقّ. ثم قالت: فما رأيت رسول الله بعد صلى صلاة إلّا تعوّذ من عذاب القبر» . ومع ذلك فإن ابن كثير لاحظ أن الآية مكية وأن هذه الأحاديث مدنية واستشكل في صواب الاستدلال بالآية على عذاب القبر ثم قال: إن الآية دلت على عرض الأرواح على النار غدوا وعشيا وليس فيها دلالة على اتصال تألمها بأجسادها في القبور إذ قد يكون ذلك مختصا بالروح فأما حصول ذلك للجسد في البرزخ- أي بعد الموت وقبل القيامة- وتألمه بسببه فلم

يدل عليه إلّا السنة في الأحاديث. ومهما يكن من أمر فإن صيغة الجملة في ذاتها تفيد أن العرض هو بعد الموت وقبل يوم القيامة أو فيما يسمونه البرزخ. وأن من الواجب الإيمان بما ذكرته الجملة وبقدرة الله على ذلك. ومع ما في تأويل قتادة ومقاتل والسدي والكلبي من وجاهة فإن فيما التزمه الطبري من الوقوف عند الجملة بدون تخمين الصواب ما دام ليس هناك أثر نبوي صحيح يفسرها. وهذا لا يمنع القول إن الجملة قد استهدفت أيضا إثارة الرعب في الكفار من مثل هذا المصير الرهيب. وما دام عذاب القبر قد ذكر في سياق هذه الجملة فنرى أن نستطرد هنا إليه فنقول إن هناك أحاديث نبوية عديدة في ذلك في ذلك بالإضافة إلى الحديثين اللذين أوردهما ابن كثير ونقلناهما آنفا عنه. فمن ذلك حديث يرويه البغوي في سياق هذه الجملة عن عبد الله بن عمر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشيّ إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فيقال له هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة» . ومن ذلك حديث رواه الخمسة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولّى عنه أصحابه وإنّه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان ما كنت تقول في هذا الرجل- أي محمّد صلى الله عليه وسلم- فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله فيقال له انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة فيراهما جميعا، وأما الكافر أو المنافق فيقال له ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس فيقال لا دريت ولا تليت ويضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين» «1» . وحديث رواه الشيخان والنسائي عن أسماء قالت: «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم حمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: ما من شيء لم أكن أريته إلّا رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار. فأوحي إليّ أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبا من فتنة المسيح الدجال يقال: ما عملك بهذا الرجل فأما المؤمن أو الموقن، فيقول هو محمّد

_ (1) التاج ج 1 ص 338.

رسول الله جاءنا بالبيّنات والهدى فأحببناه واتبعناه هو محمّد ثلاثا فيقال: نم صالحا قد علمنا إن كنت لموقنا به. وأما المنافق أو المرتاب فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته» «1» . وحديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال: «مرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: إنّهما ليعذّبان وما يعذّبان في كبير ثم قال: بلى أمّا أحدهما فكان يسعى بالنّميمة وأمّا الآخر فكان لا يستتر من بوله، وفي رواية لا يستبرىء من بوله ثمّ أخذ عودا رطبا فكسره باثنين ثم غرز كلّ واحد منهما على قبر ثمّ قال: لعلّه يخفّف عنهما ما لم ييبسا» «2» . وحديث رواه الشيخان والنسائي جاء فيه: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو اللهمّ إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب النار ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال» «3» . وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قبر الميت أو قال أحدكم أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما منكر والآخر نكير فيقولان ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول ما كان يقول هو عبد الله ورسوله أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقولان قد كنّا نعلم أنك تقول هذا ثمّ يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين وينور له فيه ثم يقال له: نم فيقول أرجع إلى أهلي فأخبرهم فيقولان نم نومة العروس الذي لا يوقظه إلّا أحبّ أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك. وإن كان منافقا قال: سمعت الناس يقولون فقلت مثلهم لا أدري فيقولان قد كنا نعلم أنك تقول هذا فيقال للأرض التئمي عليه فتلتئم عليه حتى تختلف أضلاعه فلا يزال فيها معذّبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك» «4» . وهناك أحاديث عديدة أخرى في صيغ متقاربة. وهناك حديث طويل عن البراء أورد في سياق تفسير الآية [27] من سورة إبراهيم سنورده في سياقها فنكتفي هنا بما أوردناه «5» .

_ (1) التاج ج 1 ص 338- 340. [.....] (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه. (4) النص منقول عن ابن كثير للآية 27 من سورة إبراهيم. (5) انظر تفسير آية إبراهيم المذكورة في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.

[سورة غافر (40) : الآيات 51 إلى 55]

وتعليقا على الموضوع نقول إنه ما دام قد ورد فيه أحاديث صحيحة فمن واجب المسلم أن يؤمن به كواجبه بالإيمان بأخبار الغيب المتنوعة التي تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو لم يدركها العقل العادي ويقف عند ذلك كما هو الشأن فيما جاء من ذلك في القرآن مع الإيمان بأن ذلك في نطاق قدرة الله وبأنه لا بدّ لذكر ذلك من حكمة. وقد يتبادر أن من هذه الحكمة في هذا الموضوع هو تطمين المؤمن وتثبيته وتشويقه والحثّ على الإيمان والإخلاص وتخويف الكافر والمنافق وتقبيح الكفر والنفاق. [سورة غافر (40) : الآيات 51 الى 55] إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55) . (1) يوم يقوم الأشهاد: الأشهاد جمع شاهد، والجملة كناية عن يوم القيامة. (2) الظالمين: المنحرفين المجرمين. في الآيات توكيد بأن الله سينصر رسله والذين آمنوا معهم في الحياة الدنيا أولا ثم في الآخرة حيث لا ينفع الظالمين المجرمين ما سوف يقدمونه من أعذار وتدمغهم شهادة الشهود وتحقّ عليهم لعنة الله وخزيه وينزلون أسوأ المنازل. وإشارة إلى ما كان من هدى الله وفضله على موسى وبني إسرائيل ليكون في ذلك هدى وذكرى لأولي العقول السليمة. وقد انطوى في هذه الإشارة على ما هو المتبادر قصد التدليل على نصر الله وفضله لرسله والمؤمنين في الحياة الدنيا. وقد التفتت الآية الأخيرة في خطابها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرته بالصبر وطمأنته

تعليق على جملة إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا

بتحقيق وعد الله الحق بالنصر والتأييد، وأمرته بالثبات في موقفه متكلا على الله مستغفرا لذنبه مسبحا بحمد ربه صبحا ومساء. تعليق على جملة إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا والآيات استمرار للتعقيب على الفصل القصصي كما هو واضح. وقد استهدفت تطمين النبي والمؤمنين وتثبيتهم وبعث الأمل والوثوق في نفوسهم إزاء ما يلقونه من عنت الكفار وبغيهم. ولقد سبق تطمين قوي مثل هذا التطمين في سورة الصافات التي نزلت قبل قليل من هذه السورة حيث يمكن القول إن ظروف السيرة في مكة كانت تقتضي مواصلة ذلك. وإنه كان من عوامل ما كان يبدو من النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الأولين من قوة وثبات وجرأة ويقين واستغراق في الله ودينه ودعوته. ونكرر هنا ما قلناه قبل من أن الله تعالى قد حقق وعده للنبي والمؤمنين فعلا فنصرهم الله وصارت كلمته هي العليا وتحققت بذلك المعجزة القرآنية. ومع خصوصية هذا التطمين وصلته بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم فإنّ في إطلاق العبارة القرآنية تلقينا جليلا مستمر المدى يستمد منه كل مؤمن يدعو إلى الله ودينه ومبادئه السامية ويناضل في سبيلها اليقين والقوة والجرأة ويجعله يستبشر بنصر الله وتأييده إذا ما كانت دعوته ونضاله بصدق وإخلاص. تعليق على جملة وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ هذه الجملة في الآية [55] هي أولى المرات التي يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالاستغفار لذنبه، وهناك آيات من بابها في سور أخرى. ولقد تعددت تخريجات المفسرين لهذه الجملة «1» منها أنه خوطب بذلك

_ (1) انظر تفسير هذه الآيات وتفسير آيات سورة النساء [105- 107] وآية سورة محمد [19] في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.

لتستن أمته بسنته. ومنها أنها بمعنى استغفر لذنوب أهل بيتك ومنها أن اشتغاله بأمر الناس كان يشغله عن التفرغ لعبادة الله فكان هذا عنده تقصيرا أو ذنبا من قبيل حسنات الأبرار سيئات المقربين. ولقد أورد المفسرون حديثا جاء فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في كلّ يوم مائة مرة» «1» . وفسروا الغين بالغيم الرقيق الذي يغشى السماء وفسروه بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم بالفترات والغفلات فكان يعتبر ذلك ذنبا نحو الله تعالى ويستغفره منه. وهذا أوجه التخريجات. ولقد خطر ببالنا تخريج آخر نرجو أن يكون صوابا. وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحيانا يأمر بشيء أو ينهى عن شيء أو يفعل شيئا اجتهادا منه بغير وحي ويكون ذلك أحيانا غير الأولى في علم الله ويعاتب عليه في القرآن مما مرّ منه بعض الأمثلة فكان يستغفر الله تعالى ويؤمر بالاستغفار لنفسه من مثل ذلك. ومن هذا الباب آيات سورة النساء هذه: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) وليس هذا ولا ما ورد في التخريج السابق من الغين ذنبا فيه تقصير في حق الله تعالى أو انحراف عن أوامره مما يجب الاعتقاد بعصمته منه صلى الله عليه وسلم. وبالإضافة إلى الحديث السابق أورد المفسرون أحاديث عديدة في صدد استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه فيها حديث عن أبي هريرة جاء فيه: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم سبعين مرّة. وفي رواية أكثر من سبعين مرة» «2» . وحديث عن ابن عمر قال: «إن كنا لنعدّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة قوله ربّ اغفر لي وتب عليّ إنك أنت التوّاب الرحيم» «3» . وحديث جاء فيه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في آخر الصلاة: اللهمّ اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به

_ (1) روى هذا الحديث مسلم وأبو داود. انظر التاج ج 5 ص 135. (2) روى هذا الحديث بالصيغة الأولى فقط البخاري. انظر التاج ج 5 ص 135. (3) روى هذا أبو داود والترمذي انظر التاج ج 5 ص 135.

[سورة غافر (40) : آية 56]

مني أنت إلهي لا إله إلّا أنت» «1» . وحديث جاء فيه: «يا أيّها الناس توبوا إلى ربّكم فإني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» «2» . وحديث جاء فيه: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: اللهمّ اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني. اللهمّ اغفر لي هزلي وجدّي وخطئي وعمدي وكلّ ذلك عندي» . حيث ينطوي في كل هذا صورة رائعة لعمق شعور النبي صلى الله عليه وسلم بعظم مسؤوليته نحو الله عز وجل وعظم خوفه من أن يكون قد أتى في حالة من حالاته ما لا ينبغي أن يصدر عنه. هذا، وجملة وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) يجب أن تؤخذ على أنها في صدد ما خلفه موسى عليه السلام في بني إسرائيل أو سلمه إليهم من المدونات التي فيها شرائع الله وتبليغاته والتي ذكرنا خبرها في سياق تفسير سورة الأعراف استنادا إلى آيات القرآن من ناحية، وبعض نصوص ما هو متداول في الأيدي اليوم من أسفار من ناحية أخرى وحسب، وليست في صدد تقرير اقتصار إرث كتاب الله عليهم لأن المسلمين قد أورثوا كتاب الله تعالى بدورهم. ولا في صدد كون ذلك شاملا جميع ما في أيديهم من أسفار لأنها مكتوبة بأقلام بشرية في أزمنة مختلفة فيها الغثّ والسمين والمناقضات والمبالغات وما تنزّه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عنه من أوامر وتبليغات وإن كان يجوز أن يكون فيها بعض ما بلّغه الله لموسى وغيره من أنبيائه وبلّغوه بدورهم لبني إسرائيل، والله تعالى أعلم. [سورة غافر (40) : آية 56] إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) . في الآية تنديد بالذين يجادلون في آيات الله ويكابرون فيها بغير برهان وعلم، وتقرير لواقع أمرهم من حيث إنهم يكونون مندفعين في ذلك بسائق الكبر والغرور.

_ (1) النص من تفسير ابن كثير لسورة محمد وقد وصف المفسر الحديث بالصحيح. (2) النص أيضا من تفسير ابن كثير سورة محمد وقد وصف بالصحيح كذلك.

تعليق على موضوع المسيح الدجال ونزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان

وتطمين وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم حيث تأمره بالاعتصام بالله والاستعاذة به فهو السميع الذي يسمع كل شيء والبصير الذي يرى كل شيء، وليكون على ثقة من أنهم لن يصلوا إلى ما يرمون إليه من تعطيل آيات الله ودحضها. تعليق على موضوع المسيح الدجال ونزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان وقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن هذه الآية مدنية، وروى بعض المفسرين أنها نزلت في اليهود ومكابرتهم وقولهم للنبي صلى الله عليه وسلم إن المسيح الدجال هو صاحبهم وإنه سوف يظهر ويملك الدنيا وتعم دعوته ويعيد لليهود سابق سلطانهم وملكهم. وقال المفسرون الذين رووا ذلك: إن الله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة من فتنته «1» . ويلحظ أن آية قريبة في الصيغة إلى هذه الآية قد وردت في الفصل القصصي السابق [الآية/ 34] في صدد التنديد بالكافرين المتكبرين مما يسوغ القول إن هذه الآية أيضا مكية وفي صدد الكافرين وفيها عود على بدء بالتنديد بهم وتطمين النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته من ناحيتهم. ويلحظ أيضا أن الآية السابقة لهذه الآية مباشرة قد وجه الخطاب فيها للنبي صلى الله عليه وسلم وأمر بالصبر والاعتماد على الله وتسبيحه عشيا وبكورا، وأن الفقرة الأخيرة قد احتوت شيئا مثل ذلك من حيث توجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأمره بالاستعاذة بالله، فهذا التماثل أيضا مما يقوي ترجيح مكية الآية وصلتها بالسياق سبكا وموضوعا. ولقد كانت رواية مدنية الآية وقول اليهود إن المسيح الدجال هو صاحبهم وسيلة للمفسرين لذكر الدجال وظهوره وصفته ونزول عيسى بعده وقتله له «2» ولإيراد أحاديث نبوية عديدة في ذلك مختلفة الرتب والنصوص، مما دعانا إلى

_ (1) انظر تفسير الآية في تفسير الخازن والبغوي. ومن العجيب أن المفسر الطبري لم يذكر شيئا من ذلك في سياق هذه الآية. (2) انظر تفسير الآية في تفسير الخازن والبغوي. ومن العجيب أن المفسر الطبري لم يذكر شيئا من ذلك في سياق هذه الآية.

شيء من التعليق لأن كتب المفسرين مستفيضة به فنقول: إن كلمة المسيح هي نفس كلمة (مسيا) العبرانية والمقصود بها رجل يمسح الرئيس الديني بالدهن على رأسه ويملك على اليهود وفقا لتقاليدهم. وفي سفري صموئيل الأول والثاني في الطبعة البروتستانتية وسفري الملوك الأول والثاني في الطبعة الكاثوليكية خبر مسح أول ملك بالدهن وهو طالوت حيث طلب بنو إسرائيل من كاهنهم الأكبر أن يجعل لهم ملكا فاختار لهم طالوت بأمر الله ومسح رأسه بالزيت وقال له: إن الربّ مسحك قائدا على ميراثه» وصار يدعى مسيح الرب «2» . وكان هذا شأن داود وملوك بني إسرائيل من بعدهما. واليهود يعتقدون استنادا إلى ما في أيديهم من أسفار وبخاصة في سفر نبوءة أشعيا من بشارات بظهور مسيح للربّ يملك عليهم ويصلح حالهم ويقوم معوجهم ويعيد لهم مجدهم. ولما ظهر عيسى عليه السلام ظن بعضهم أنه المسيح المنتظر «3» فلما رأوه يخالف منهجهم ويهاجم رجال الدين المنحرفين عن الشريعة ويدعو جميع الناس إلى الله عز وجل بدون اختصاص لبني إسرائيل ويبشر بملكوت السموات دون ملكوت الأرض كذبوه وناوأوه وصاروا يلقبونه بمسيح الربّ وملك اليهود استهزاء وسخرية «4» . ثم ظلوا ينتظرون مسيحا، وقد ظهر عدة مسحاء من اليهود بعد عيسى ولكنهم جحدوهم ونعتوهم بالكذابين أيضا. وكلمة الدجال وردت في الأحاديث النبوية المروية، ومعنى الكلمة: المضلل الكذاب. فمن الطبيعي أن يكون هذا الوصف غير يهودي لأنه لا يعقل أن يسمي اليهود مسيحهم المنتظر به كما ذكرت الرواية التي رواها المفسرون وأوردناها قبل. والمتبادر أنه نعت نصراني على اعتبار أن المسيح الصادق قد ظهر وهو عيسى وأن ما ينتظره اليهود مسيح كذاب ودجال. وأن هذا النعت مقابلة مسيحية لما كان ينعت به اليهود عيسى ابن مريم عليه السلام

_ (1) انظر الإصحاحين 9 و 10 من صموئيل الأول. (2) انظر الإصحاح 24 من السفر نفسه. [.....] (3) انظر مثلا الإصحاح 16 من إنجيل متى. (4) انظر مثلا الإصحاح 27 من إنجيل متى والإصحاح 15 من إنجيل مرقس.

من نعوت بذيئة حيث كان العداء مشتدا بين اليهود والنصارى. وكلمة (الدجال) عربية فصحى وردت كما قلنا في الأحاديث النبوية. ونرجح أنها كانت مستعملة قبل البعثة في نعت المسيح الذي ينتظره اليهود من قبل النصارى، بل نكاد أن نجزم بذلك. وفي الإصحاح الثاني من سفر رسالة القديس يوحنا الأولى وهذا السفر من ملحقات العهد الجديد ذكر للمسيح الدجال بصيغة تؤيد ذلك على ما سوف نورده بعد قليل. ومن المحتمل أن يكون نصارى العرب الصرحاء الفصحاء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في بلاد الشام والعراق أو جزيرة العرب قد استعملوها كذلك. كما أن من المحتمل أن يكونوا ترجموها من لغة النصارى غير العرب الصرحاء من سريانيين وفينقيين وكلدانيين وأقباط وأشوريين أو روم. ولقد قلنا إن أحاديث نبوية عديدة مختلفة الرتب والنصوص قد رويت في المسيح الدجال وصفته وظهوره وفتنته ونزول عيسى عليه السلام من السماء في النهاية وتمكنه من قتله. ومن هذه الأحاديث ما رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود. منها حديث رواه مسلم عن أنس بن مالك جاء فيه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يتبع الدجال من يهود أصفهان سبعون ألفا عليهم الطيالسة» . ومنها حديث رواه مسلم والترمذي عن أبي بكر جاء فيه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الدجال يخرج من أرض بالمشرق يقال لها خراسان يتبعه أقوام كأنّ وجوههم المجانّ المطرقة» . ومنها حديث عن ابن عمر رواه البخاري ومسلم والترمذي جاء فيه: «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في الناس فأثنى على الله بما هو أهله ثمّ ذكر الدجال فقال: إنّي لأنذركموه وما من نبيّ إلّا وقد أنذر قومه، ولكنّي سأقول لكم فيه قولا لم يقله نبيّ لقومه، إنّه أعور وإنّ الله ليس بأعور» . ومنها حديث رواه البخاري ومسلم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «ليس من بلد إلّا سيطؤه الدجّال إلّا مكة والمدينة، وليس نقب من أنقابها إلّا عليه الملائكة صافّين تحرسها، فينزل بالسبخة فترجف المدينة ثلاث رجفات فيخرج إليه منها كلّ كافر ومنافق» . ومنها حديث عن عبد الله بن عمر رواه مسلم جاء فيه: «أنّ رسول الله قال: يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين لا أدري أربعين يوما أو أربعين شهرا أو أربعين عاما فيبعث الله عيسى ابن مريم عليه

السلام كأنّه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة» «1» . ومنها حديث رواه أبو داود والحاكم والإمام أحمد عن أبي هريرة جاء فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس بيني وبين عيسى عليه السلام نبيّ. وإنّه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه. رجل مربوع إلى الحمرة والبياض بين ممصّرتين وكأنّ رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل فيقاتل الناس على الإسلام فيدقّ الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويهلك الله في زمانه الملل كلّها إلّا الإسلام ويهلك المسيح الدجال ثم تقع الأمنة على الأرض حتى ترتع الأسد مع الإبل والنمار مع البقر والذئاب مع الغنم وتلعب الصبيان بالحيّات، فيمكث عيسى في الأرض أربعين سنة ثم يتوفّى فيصلّي عليه المسلمون» «2» . ومنها حديث رواه الشيخان وأحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والذي نفسي بيده ليوشكنّ أن ينزل فيكم ابن مريم عليه السلام حكما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها» ثم قال أبو هريرة: واقرأوا إن شئتم: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) «3» [سورة النساء: 159] . ومنها حديث رواه الشيخان والنسائي جاء فيه: «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو اللهمّ إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب النار ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجّال» «4» . ومنها حديث طويل رواه مسلم عن فاطمة بنت قيس أخبر فيه

_ (1) انظر التاج ج 5 ص 313- 327 وفي هذه الصحف أحاديث أخرى اكتفينا منها بما أوردناه. وجملة (إن الله ليس بأعور) تتضمن كون الدجال سيدعي الألوهية. (2) التاج ج 5 ص 325- 326. (3) المصدر نفسه. (4) التاج ج 1 ص 340.

النبي صلى الله عليه وسلم الناس بحديث حدثه به تميم الداري عن مسيح الدجال فقال له إنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلا من لخم وجذام. فلعب بهم الموج شهرا في البحر ثم أرفأوا إلى جزيرة في البحر حين مغرب الشمس فجلسوا في أقرب السفينة فدخلوا الجزيرة فلقيتهم دابة أهلب كثير الشعر لا يدرون ما قبله من دبره من كثرة الشعر فقالوا: ويلك ما أنت فقالت: أنا الجسّاسة قالوا: وما الجسّاسة قالت: أيّها القوم انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير فإنّه إلى خبركم بالأشواق فخافوا أن تكون شيطانة وانطلقوا سريعا حتى دخلوا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رأوه خلقا وأشدّه وثاقا مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد فسألهم عن نخل بيسان هل يثمر وعن ماء بحيرة طبريا هل لا يزال فيها ماء وعن عين زغر هل فيها ماء وهل يزرع أهلها فأجابوه نعم. فسألهم عن نبيّ الأميين ما فعل قالوا: قد خرج من مكة ونزل يثرب قال: أقاتله العرب قالوا: نعم قال: كيف صنع بهم فأخبروه أنه ظهر عليهم وأطاعوه فقال لهم: إني مخبركم إني أنا المسيح وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلّا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة فهما محرّمتان عليّ، كلما أردت أن أدخل واحدة استقبلني ملك بيده السيف صلتا يصدّني عنها وأنّ على كل نقب منها ملائكة يحرسونها قالت الراوية قال رسول الله: وطعن بمخصرة في المنبر هذه طيبة هذه طيبة هذه طيبة يعني المدينة ألا هل كنت حدثتكم ذلك فقال الناس: نعم قال: فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت أحدثكم عنه وعن المدينة ومكة» «1» . وفي رواية الترمذي من هذا الحديث عن تميم الداري: «أنّ أناسا من أهل فلسطين ركبوا سفينة في البحر فجالت بهم حتى قذفتهم في جزيرة من جزائر البحر فإذا هم بدابة لبّاسة ناشرة لشعرها فقالوا: ما أنت؟ قالت: أنا الجسّاسة قالوا: فأخبرينا قالت: لا أخبركم ولا أستخبركم ولكن ائتوا أقصى القرية فإنّ ثمّ من يخبركم ويستخبركم. فأتينا أقصى القرية فإذا رجل موثق بسلسلة فقال: أخبروني عن عين زغر قلنا ملأى تدفّق. قال: أخبروني عن البحيرة؟ قلنا: ملأى تدفّق.

_ (1) التاج ج 5 ص 313- 315.

قال: أخبروني عن نخل بيسان الذي بين الأردن وفلسطين هل أطعم؟ قلنا: نعم. قال: أخبروني عن النبيّ هل بعث؟ قلنا: نعم. قال: أخبروني كيف الناس إليه؟ قلنا: سراع. قال: فنزا نزوة حتى كاد قلنا فما أنت؟ قال: إنه الدجّال وإنه يدخل الأمصار كلّها إلا طيبة وطيبة المدينة» «1» . وحديث رواه الشيخان عن المغيرة قال: «ما سأل أحد النبي صلى الله عليه وسلم عن الدجال ما سألته وإنه قال لي: ما يضرّك منه؟ قلت: لأنهم يقولون إن معه جبل خبز ونهر ماء، قال: هو أهون على الله من ذلك» «2» . وحديث رواه الشيخان والترمذي عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لأنا أعلم بما مع الدجّال منه معه نهران يجريان أحدهما رأي العين ماء أبيض والآخر رأي العين نار تأجّج، كلما أدركن أحدا فليأت النهر الذي يراه نارا وليغمض ثم ليطأطىء رأسه فيشرب منه فإنه ماء بارد، وإن الدجّال ممسوح العين عليها ظفرة غليظة مكتوب بين عينيه كافر، يقرأه كلّ مؤمن كاتب وغير كاتب» «3» . وحديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن النواس بن سمعان قال: «ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة فخفّض فيه ورفع حتى ظننّاه في طائفة النخل، فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا فقال: ما شأنكم؟ قلنا: يا رسول الله ذكرت الدجال غداة فخفّضت فيه ورفّعت حتى ظننّاه في طائفة النخل. فقال: غير الدجال أخوفني عليكم إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم وإن يخرج ولست فيكم فكل امرئ حجيج نفسه والله خليفتي على كلّ مسلم، إنه شاب قطط، عينه طافئة كأنّي أشبّهه بعبد العزّى بن قطن. فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف إنه خارج خلّة بين الشام والعراق فعاث يمينا وعاث شمالا، يا عباد الله فاثبتوا. قلنا: يا رسول الله وما لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يوما يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم. قلنا: يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا له قدره. قلنا: يا رسول الله وما إسراعه في الأرض؟ قال: كالغيث استدبرته الريح. فيأتي

_ (1) التاج ج 5 ص 316. (2) المصدر نفسه ص 318. (3) المصدر نفسه.

على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرا وأسبغه ضروعا وأمدّه خواصر ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردّون عليه قوله فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمرّ بالخربة فيقول أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل. ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل ويتهلّل وجهه يضحك. فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم عليه السلام فينزل عند المنارة البيضاء شرقيّ دمشق بين مهرودتين (حلتين) واضعا كفّه على أجنحة ملكين. إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدّر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحلّ لكافر يجد ريح نفسه إلّا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه. فيطلبه حتى يدركه بباب لدّ فيقتله. ثم يأتي عيسى ابن مريم قوم قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويحدّثهم بدرجاتهم في الجنة، فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى إنّي قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم، فحرّز عبادي إلى الطور. ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كلّ حدب ينسلون فيمرّ أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمرّ آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرّة ماء ويحصر نبيّ الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم فيرغب نبيّ الله عيسى وأصحابه فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة. ثم يهبط نبيّ الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلّا ملأه زهمهم ونتنهم فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله ثمّ يرسل الله مطرا لا يكنّ منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة. ثمّ يقال للأرض أنبتي ثمرتك وردّي بركتك، فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلّون بعجفها ويبارك في الرّسل حتى أن اللّقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس واللّقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كلّ مؤمن وكلّ مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة» «1» .

_ (1) التاج ج 5 ص 321- 324.

وهناك أحاديث أخرى يرويها البغوي وهو من أئمة الحديث في سياق تفسير هذه الآية، منها حديث عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يأتي المسيح الدجّال من قبل المشرق وهمته المدينة حتى ينزل دير أحد ثم تصرف الملائكة وجهه قبل الشام وهناك يهلك» ، وحديث عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يتبع الدجّال من أمتي سبعون ألفا عليهم التيجان» وعن أبي أمامة: «مع الدجّال يومئذ سبعون ألف يهودي كلّهم ذو تاج وسيف محلى» . وحديث عن أسماء بنت يزيد الأنصارية قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي فذكر الدجّال فقال إن بين يديه ثلاث سنين تمسك السماء فيها في أول سنة ثلث قطرها والأرض ثلث نباتها والثانية تمسك السماء ثلثي قطرها والأرض ثلثي نباتها والثالثة تمسك السماء قطرها كلّه والأرض نباتها كلّه فلا يبقى ذات ظلف ولا ذات ضرس من البهائم إلّا هلك وإنّ من أشدّ فتنته أنه يأتي الأعرابي فيقول أرأيت إن أحييت لك إبلك ألست تعلم أني ربّك؟ فيقول بلى فيتمثل له الشيطان نحو إبله كأحسن ما تكون ضروعا وأعظم سناما، ويأتي الرجل قد مات أخوه ومات أبوه فيقول: أرأيت إن أحييت لك أباك وأخاك ألست تعلم أني ربك؟ فيقول: بلى، فيتمثل له الشيطان نحو أبيه ونحو أخيه. قالت: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته ثم رجع والقوم في اهتمام وغمّ ممّا حدثهم قالت: فأخذ بلحمتي الباب فقال: مهيم أسماء فقلت يا رسول الله لقد خلعت أفئدتنا بذكر الدجّال، قال: إن يخرج وأنا حيّ فأنا حجيجه وإلّا فإن ربي خليفتي على كل مؤمن. قالت أسماء: فقلت يا رسول الله والله إنا لنعجن عجينا فما نخبره حتى نجوع فكيف بالمؤمنين يومئذ؟ قال: يجزئهم ما يجزىء أهل السماء من التسبيح والتقديس» . فتعليقا على ذلك نقول: إن من واجب المسلم أن يؤمن بما يرد في القرآن وبما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخبار غيبية متصلة بالدنيا والآخرة وأنها في نطاق قدرة الله تعالى ويفوض الأمر فيما لم يدرك عقله مداها إلى الله تعالى الذي لا بد من أن يكون له فيها حكمة وإن لم تظهر للناس أو تدركها عقولهم. ومن جملة

ذلك أن يؤمن بما جاء في الأحاديث التي أوردناها إذا صحت ويؤمن بأنها قد استهدفت عظة أو عبرة أو تنبيها أو إنذارا مما يتصل بالرسالة النبوية، وهذه نقطة مهمة جدا في الموضوع. والموضوع بعد ليس من الأمور التي تدخل في صميم الدين ومبادئ الإسلام المحكمة، فلا طائل من التوقف عنده والتزيد والتخمين فيه. ومع ذلك فهناك ما يسوّغ القول إن ما جاء في الأحاديث من خبر ظهور الدجّال ونزول عيسى عليه السلام وقتله إياه كان مما يتداوله أهل عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته وبخاصة النصارى بسبب ما كان من عداء وتناحر وتناظر بينهم وبين اليهود. وليست أخبارا غيبية بحتة، فكان ذلك مناسبة للأحاديث التي هدفت إلى العظة والتحذير والإنذار والتنبيه والعبرة فيما هدفت إليه. ولقد كان من جملة الأحاديث حديث رواه مسلم وأبو داود والحاكم عن الدجال حدث به تميم الداري النبي صلى الله عليه وسلم. وقد جاء في الحديث أن تميما هذا كان نصرانيا يقيم في فلسطين حيث قد يكون في هذا تأييد لذلك الاحتمال. وفي الإصحاح الثاني من رسالة القديس يوحنا الأول من أسفار العهد القديم هذه العبارة: «أيها الأولاد هذه هي الساعة الأخيرة وكما أنكم سمعتم أن المسيح الدجّال يأتي، يوجد الآن مسحاء دجالون كثيرون، فمن هذا نعلم أن هذه هي الساعة الأخيرة. منّا خرجوا ولكنهم لم يكونوا منا، لأنهم لو كانوا منا لاستمروا معنا ولكن ليتبين أن ليسوا جميعا منا أما أنتم فإن لكم مسحة من القدوس وتعلمون كل شيء. فلم أكتب إليكم لأنكم لا تعرفون الحق بل لأنكم عارفون به وبأن كل كذب ليس من الحق من الكذاب إلّا الذي ينكر أن يسوع هو المسيح. هذا هو المسيح الدجال الذي ينكر الأب والابن. لأن كل من ينكر الابن ليس له الأب ومن يعترف بالابن له الأب أيضا» . وفي الإصحاح العشرين من سفر رؤيا هذا القديس وهذا السفر هو كذلك من ملحقات العهد الجديد هذه العبارة: «وإذا تمت الألف سنة يحل الشيطان من سجنه ويخرج ليضل الأمم الذين في زوايا الأرض الأربع يأجوج ومأجوج ليحشدهم للقتال في عدد كرمل البحر. فطلعوا على سعة الأرض

[سورة غافر (40) : الآيات 57 إلى 59]

وأحاطوا بمعسكر القديسين وبالمدينة المحبوبة. فهبطت نار من عند الله من السماء وأكلتهم وطرح إبليس الذي أضلّهم في بحيرة النار والكبريت حيث الوحش والنبي الكذاب. هناك يعذبون نهارا وليلا إلى دهر الدهور» . وهذان السفران متداولان اليوم وقد كانا متداولين بين أيدي النصارى في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وقبله. وهناك عبارات وردت في رسائل بولس أحد رسل وحواريي عيسى وهي مجموعة رسائل من ملحقات الأناجيل أيضا قد تفيد أن المسيح سيظهر ويجيء. من ذلك في الإصحاح الثالث من سفر رسالة بولس إلى أهل كولسي «ومتى ظهر المسيح الذي هو حياتنا فأنتم أيضا تظهرون حينئذ معه في المسجد» وفي الإصحاح الثاني من رسالته إلى أهل تسالونيكي: «ماذا رجاؤنا أو فرحنا أو إكليل فخرنا. أليس إياكم أمام ربنا يسوع المسيح عند مجيئه» . وفي الإصحاح الرابع من هذه الرسالة: «إنا نحن الأحياء الباقين إلى مجيء الرب لا نسبق الراقدين لأن الرب نفسه عند الهتاف عند صوت رئيس الملائكة وبوق الله سينزل من السماء» حيث ينطوي في هذه النصوص تأييد لتلك الاحتمالات أيضا والله تعالى أعلم «1» . [سورة غافر (40) : الآيات 57 الى 59] لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59) . في الآيات: (1) تنبيه إلى أن خلق السموات والأرض أعظم من خلق الناس مما ينطوي فيه قصد تقرير كون الله الذي خلق السموات والأرض على عظم ما فيها من دليل على قدرة الله قادرا من باب أولى على خلق الناس وإعادتهم.

_ (1) سنعلق على موضوع ظهور يأجوج ومأجوج في سورة الكهف لأنهم ذكروا فيها بصراحة.

[سورة غافر (40) : الآيات 60 إلى 63]

(2) وتنديد بأكثر الناس الذين يغفلون عن هذه الحقيقة البديهية فيجادلون في مسألة البعث. (3) وتنبيه إلى عدم جواز التسوية بين الأعمى والبصير وبين المؤمنين الصالحين والكافرين المسيئين، وتنديد بالذين لا يدركون هذه الحقيقة البديهية الثانية التي تنطوي فيها حكمة الله في البعث والجزاء الأخروي ليوفى كل امرئ بما قدم. (4) وتوكيد حاسم بمجيء الساعة وحقيقة البعث وتنديد بالذين يصرون على جحودهما مع ثبوت قدرة الله عليهما وحكمته فيهما. وقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآية الأولى من هذه الآيات مدنية، ويلحظ أنها في صدد التدليل على قدرة الله على البعث وخلق الناس ثانية على ما شرحناه مما احتوت توكيده الآية الثالثة ومما ظلت الآيات السابقة تشير إليه وتؤكده. وليس فيها صورة ما للعهد المدني، وهي أشد مماثلة للأسلوب والآيات المكية. وهذا ما يجعلنا نتوقف في رواية مدنيتها ونرجح مكيتها ثم نرجح صلة الآيات بالسياق السابق وموضوعه. [سورة غافر (40) : الآيات 60 الى 63] وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) . (1) داخرين: صاغرين. (2) تؤفكون: تنصرون وتذهبون ومعنى فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ إلى أين تذهبون بعيدا عن الحق والحقيقة.

في الآيات: 1- بيان بأن الله فرض على الناس أن يتجهوا إليه وحده في الدعاء والعبادة ووعدهم بالاستجابة لدعائهم وشمولهم بعطفه وعنايته، وأوعد الذين يستكبرون عن عبادته ودعائه وحده بجهنم يدخلونها صاغرين. 2- وتنبيه إلى بعض مظاهر عظمة الله وأفضاله على الناس. فهو الذي جعل الليل مظلما ليسكن الناس فيه ويرتاحوا، وجعل النهار مضيئا ليسعوا فيه في سبيل الرزق ومظاهر الحياة. فهو صاحب الفضل على الناس المستحق من أجله شكرهم وإخلاصهم له. 3- وتنديد بأكثر الناس الذين يهملون هذا الواجب ولا يؤدون حق الله عليهم من الشكر والإخلاص. 4- وتقريع للجاحدين لفضل الله الحائدين عن سبيله، فالله رب الناس جميعهم وخالق كل شيء لا إله إلا هو فكيف ينصرف الناس عن سبيله ويذهبون بعيدا عن الحق والحقيقة ويجحدون فضله وعظمته. 5- وقد احتوت الآية الأخيرة استدراكا هاما فالذين يذهبون بعيدا عن الحق والحقيقة وينصرفون عن سبيل الله إنما هم الذين يكابرون في آيات الله ومشاهد عظمته ويجحدونها. والآيات استمرار في موضوع الآيات التعقيبية التي جاءت بعد الفصل القصصي كما هو المتبادر، وقد احتوت التفاتا أو انتقالا من الغائب للمخاطب ودعوة وتنويها وإنذارا وتنديدا، وقد يدل هذا على أن السياق كله في صدد مشهد من مشاهد الجدل والحجاج أو في صدد التعقيب عليه. وقد انطوى في الآية الأخيرة شيء من الوعيد للجاحدين الغافلين وتقرير كون الجحود إنما يحدث ممن خبثت نياتهم ورغبوا عن الحق والحقيقة، ولذلك يتحملون مسؤولية عملهم.

[سورة غافر (40) : الآيات 64 إلى 65]

[سورة غافر (40) : الآيات 64 الى 65] اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65) . (1) قرارا: مستقرّا. والآيتان استمرار للسياق في التعقيب على مشهد الجدل والحجاج أو في صدده وقد احتوت كالآيات السابقة لها تنبيها إلى مشاهد فضل الله وعظمته ورحمته في جعل الأرض للناس مستقرا والسماء فوقهم بناء وتصويرهم على أحسن الصور وتيسير الطيبات من الرزق لهم، واحتوت كذلك إهابة بالناس بدعائه وحده والإخلاص له وحده والشكر له وحده فهو ربهم الذي لا إله إلا هو ربّ العالمين تبارك وتعالى. [سورة غافر (40) : آية 66] قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66) . عبارة الآية واضحة، وهي صريحة الدلالة أكثر مما قبلها على أن السياق في صدد مشهد جدلي أو صدد التعقيب عليه، وقد تكرر ما جاء في الآية من نهي وأمر في هذه السورة مباشرة وعلى لسان مؤمن آل فرعون وفي السورة السابقة حيث يدل ذلك على أن المشركين ظلوا يواصلون اقتراحاتهم للنبي صلى الله عليه وسلم في التساهل معهم والمشاركة فيما هم عليه من طقوس وتقاليد. [سورة غافر (40) : الآيات 67 الى 68] هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)

[سورة غافر (40) : الآيات 69 إلى 76]

في الآيات تقرير موجه للمخاطبين بأن الله ربّ العالمين الذي نوهت به الآيات السابقة بمشاهد قدرته هو الذي خلقهم أيضا من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم أخرجهم إلى الدنيا أطفالا ثم يبلغون أشدهم رجالا ومنهم من يتوفى ومنهم من يفسح في عمرهم فيصيرون شيوخا ويعيشون الأجل المعين في علم الله وتتاح لهم الفرصة لتدبر آيات الله وتعقلها وهو الذي بيده كذلك الحياة والموت وهو الذي يوجد كل ما يريده بمجرد اقتران إرادته بوجوده. والآيات استمرار للسياق في صدد البرهنة على عظمة الله وقدرته واستحقاقه وحده للعبادة والإخلاص والشكر. ويلفت النظر إلى ما في أسلوب هذه الآيات والتي قبلها من قوة وروعة، وقد وجه الخطاب فيها إلى العقول والقلوب معا مما من شأنه أن يؤثر في ذوي النيات الطيبة والعقول السليمة والرغبات الصادقة فيجعلهم يدركون ما في عبادة غير الله من سخف وضلال واستحقاق الله وحده للعبادة والدعاء والاعتماد. والأسلوب متساوق مع مشاهدات المخاطبين في الكون وفي أنفسهم ثم مع مدركاتهم وليس هو بسبيل تقريرات فنية على ما نبهنا إليه في سياق الفصول المماثلة الكثيرة ومنها ما ورد في هذه السورة. وجملة وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ في الآية [67] قد تلهم أن اختصاص بني آدم بالذكر بأطوار خلقهم التي يشترك فيها معهم غيرهم من الحيوانات إنما هو بقصد التنويه بما اقتضت حكمة الله من تمييزهم عن غيرهم بالعقل والتكليف ومن ترتيب نتائج ذلك عليهم مما لم يرتب على غيرهم من الحيوانات، والله أعلم. [سورة غافر (40) : الآيات 69 الى 76] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)

(1) يسجرون: من سجر بمعنى وضع وقودا في التنور، ومعنى الجملة الواردة فيها أنهم يلقون في النار ليكونوا فيها وقودا. (2) ضلوا عنا: هنا بمعنى غابوا عنا. (3) كذلك يضل الله الكافرين: بمعنى لا يسعدهم ولا يوفقهم. (4) تمرحون: بمعنى تبطرون ويشتد فرحكم أو زهوكم ولهوكم. وجه الخطاب في الآيات إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى السامع إطلاقا بأسلوب قصد به استثارة تعجبه من انصراف الكفار عن آيات الله ومكابرتهم فيها وتكذيبهم لكتاب الله ورسله وما أرسلهم به من رسالة الحق والهدى. ثم أخذت الآيات تصف ما سوف يلقونه يوم القيامة من نكال وعذاب وخزي وخذلان. وتذكر ما سوف يوجه إليهم من التنديد والتقريع وما سوف يكون منهم من الندم والحسرة والاعتراف بما كانوا فيه من ضلال. والآيات كما هو المتبادر تعقيب على تلك السلسلة القوية الرائعة المملوءة بالشواهد العقلية والقلبية على عظمة الله وآياته وربوبيته وقدرته التي جاءت في صدد المشهد الجدلي الحجاجي. والإنذار والوصف اللذان احتوتهما الآيات قويان رهيبان من شأنهما إثارة الرعب والندم والارعواء وهو مما استهدفته الآيات كما هو المتبادر. ولعل فيها كذلك تطمينا للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وتسلية لهم بما سوف يكون من مصير المكذبين المكابرين وحسرتهم وندمهم.

تعليق على جملة كذلك يضل الله الكافرين (74)

تعليق على جملة كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) وهذه الجملة جاءت بمثابة تعقيب أو تعليق على اعتراف المشركين كما هو واضح، وقد تضمنت تقرير كون الذين يضلهم الله ولا يوفقهم ولا يسعدهم هم الكافرون أي الذين بيتوا أو تعمدوا الكفر والجحود والمكابرة وهي من نوع: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ في آية سورة إبراهيم [27] وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ في آية سورة البقرة [26] ويصح أن تكون محكمة يزول بها الإشكال في ما يرد من الآيات المطلقة. ولما كان معظم الكافرين من العرب الذين كانت هذه الآية وأمثالها تشير إليهم وتندد بهم وتذكر مصائرهم السيئة في الآخرة قد أسلموا فيصح أن يقال إنها من جهة تسجيل لواقع أمرهم حين نزول القرآن من جهة وأن فحواها إنما يبقى قائما بالنسبة للذين يظلون على كفرهم وظلمهم حتى الممات. [سورة غافر (40) : الآيات 77 الى 78] فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) . في الآيات: 1- أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يراه من المشركين من مكابرة وعناد. 2- وتطمين له بأن وعد الله فيهم حق محتم التحقيق سواء أعاش حتى يراه بعينه أم مات قبل ذلك. 3- وتقرير بأنهم على كل حال سوف يرجعون إليه وهو القادر عليهم في كل آن.

تعليق على روايات عدد الأنبياء

4- وتنبيه موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى سنة الله في الرسل من قبله. فقد أرسل الله من قبله رسلا كثيرين منهم من قص عليه أخبارهم ومنهم من لم يقصها. وأن سنة الله جرت على أن لا يأتي أحد من رسله بآية مما يتحداه به الكفار أو فيها عذاب الله إلا بإذنه وحيثما تقتضيه حكمته وأن الذي عليه هو انتظار أمر الله وقضائه فإذا ما جاء كان النصر للحق وأصحابه والخسران للباطل وأهله. ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيات، ومع أن المتبادر منها أنها استمرار للآيات السابقة في التعقيب والتطمين والتسلية فإن مضمونها قد يلهم احتمال تضمنها ردا على تحدّ للكفار بدر منهم في ظروف نزول السورة باستعجال العذاب الموعود أو الإتيان بآية وهو ما تكرر منهم على ما حكته آيات أخرى في سور مرّ تفسيرها أو أن يكون فيها جواب على ما كان يقوم في ذهن النبي صلى الله عليه وسلم أو المؤمنين من تساؤل عن موعد تحقيق وعيد الله فيهم أو رجاء بإحداث آية تقنعهم أو ترهبهم حتى ينتهوا من موقف عنادهم وجحودهم. وهذا أيضا مما حكته آيات أخرى في سور مرّ تفسيرها. وقد علق المفسر ابن كثير على هامش الآية الأولى أن الله سبحانه وتعالى قد أرى نبيه مصارع كثير من كبار زعماء الكفار في بدر وغيرها كما أراه علو كلمة الله وانخذال الكفر والشرك في جزيرة العرب فحقق له بذلك بعض ما وعده الله به من نصر. تعليق على روايات عدد الأنبياء ولقد كانت الآية الثانية وسيلة لإيراد بعض الأحاديث والروايات في عدد الأنبياء حيث روى الطبرسي في «مجمع البيان» بدون سند ولا اسم راو أن عددهم مائة وأربعة وعشرون ألفا وروى كذلك رواية أخرى ذكرت أن عددهم ثمانية آلاف منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل. وقد روى الطبري الرواية معزوة إلى أنس بن مالك بدون رفعها إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما روى رواية عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن الله بعث أربعة آلاف نبي. ورواية عن علي بن أبي طالب أن الله بعث نبيا عبدا حبشيا

وهو الذي لم يقصصه عليه. ولقد أورد ابن كثير بعض هذه الأحاديث بنصها أو مع التغاير، كما أورد أحاديث أخرى من بابها في سياق تفسير الآية [163] من سورة النساء. ومن ذلك حديث طويل عن أبي ذرّ جاء فيه فيما جاء: «قلت يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: مائة وأربعة وعشرون ألفا. قلت: كم الرسل منهم؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير. قلت: يا رسول الله آدم نبي مرسل؟ قال: نعم. ثم قال: يا أبا ذر أربعة سريانيون وهم آدم وشيت ونوح وخنوخ وهو إدريس وأربعة من العرب هود وشعيب وصالح ونبيك. وأول أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى، وأول الرسل آدم وآخرهم محمد. قلت يا رسول الله كم كتاب أنزله الله؟ قال: مائة كتاب وأربعة كتب. أنزل على شيت خمسين صحيفة وعلى خنوخ ثلاثين وعلى إبراهيم عشرا، وعلى موسى قبل التوراة عشرا وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان» . ومن ذلك عن أنس حديث جاء فيه: «إنّ الله بعث ثمانية آلاف نبي أربعة آلاف بني إسرائيل وأربعة آلاف إلى سائر الناس» . وحديث روي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إني خاتم ألف نبي أو أكثر» وفي رواية: «إني أختم ألف ألف نبي أو أكثر» وليس شيء من هذه الأحاديث واردا في كتب الصحاح. وقد أورد ابن كثير أقوال بعض أئمة الحديث في صددها. من ذلك أن الإمام أبا الفرج بن الجوزي ذكر حديث أبي ذر في «الموضوعات» واتهم به إبراهيم بن هشام أحد رواته وقال المفسر: إن غير واحد من أئمة الجرح والتعديل تكلموا في إبراهيم من أجل هذا الحديث. ومن ذلك قول المفسر عن الحديث المروي عن أنس أنّ إسناده ضعيف وفيه رواة ضعفاء. ومن ذلك قوله عن الرواية الثانية من حديث أبي سعيد أنها قد تكون مقحمة. وفي متن حديث أبي ذرّ مآخذ أخرى فليس أول أنبياء بني إسرائيل موسى، فإنّ الأسباط هم أيضا بنو إسرائيل الذي هو اسم آخر ليعقوب. وهم أنبياء موحى إليهم ومنزل عليهم على ما يستفاد من آية سورة البقرة هذه: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ ... وآيات سورة النساء هذه التي فيها نصّ مماثل للنصّ الذي نحن في صدده: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى

إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) [163- 164] . وقد ذكر يوسف الذي هو أحد الأسباط باسمه الصريح كرسول في إحدى آيات سورة غافر نفسها، وذكر كذلك في سورة الأنعام في عداد الأنبياء. وآية سورة البقرة المذكورة آنفا تفيد أنه أنزلت كتب على الأسباط بالإضافة إلى إسماعيل وإسحق ويعقوب. ولم يذكر هؤلاء في عداد من أنزل عليهم كتب الله في الحديث. واللغة السريانية لهجة من اللغة الآرامية لم تتميز باسمها إلّا قبيل الميلاد المسيحي أو بعده بقليل. في حين يذكر الحديث أنها لغة آدم ونوح وشيت وخنوخ. وكل هذا يوجب التحفظ والتوقف في هذا الأمر الذي هو من الأمور الغيبة التي لا يصح الأخذ فيها إلّا بما صح وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والله تعالى أعلم. ومهما يكن من أمر فالآيات صريحة أن الله تعالى أرسل رسلا لم تشأ حكمة التنزيل أن يقصهم على رسوله. وفي القرآن ورد أربعة وعشرون ذكروا في سور متعددة بأن الله أوحى إليهم وأنزل عليهم وهم: آدم ونوح وإدريس وهود وصالح وإبراهيم ولوط وإسماعيل وإسحق ويعقوب ويوسف وأيوب وشعيب وموسى وهرون ويونس وداود وسليمان وإلياس واليسع وزكريا وعيسى ويحيى وذو الكفل وهناك اسم مختلف فيه وهو لقمان. وهناك الأسباط الذين لم يذكر منهم باسمه إلّا يوسف، وقد ذكرنا أسماءهم في سياق تفسير سورة الأعراف نقلا عن الإصحاح (46) من سفر التكوين. وفي القرآن آيات تفيد أن هناك أنبياء ورسلا آخرين من بني إسرائيل مثل آية سورة البقرة هذه: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) وآية سورة آل عمران هذه: الَّذِينَ

قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) . وفي أسفار العهد القديم المتداولة اليوم أسماء عديدة لأنبياء كانوا يظهرون في بني إسرائيل ويأمرهم الله بتبليغ أوامره وإنذاراته مثل دبوره وابينوعيم وناتان وياهو وأحيا «1» وغيرهم وغيرهم. وبين أسفار هذا العهد أسفار عديدة منسوبة إلى رجال يبدو من صيغتها وعناوينها أنهم من أنبياء الله أيضا مثل يشوع وعزرا ونحميا وطوبيا وأشعيا وأرميا وباروك وحزقيال ودانيال وهوشع ويوئيل وعاموس وعوبديا وميخا ونحوم وحبقوق وصفنيا وحجاي وملاخي. ويصح أن يسلك في هذا السلك تلامذة أو حواريو عيسى عليه السلام الذين ذكرت بعض آيات القرآن خبرهم مثل هذه الآية من سورة المائدة: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111) وهذه الآية من سورة الصف: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ والذين ذكرت الأناجيل المتداولة أن عيسى عليه السلام أمرهم بالتبشير بين الناس فقاموا بذلك في حياته وبعد وفاته. وهم سمعان المدعو بطرس ثم اندراوس أخوه ويعقوب بن زبدى ويوحنا أخوه وفيلبس وبرتلماوس وتوما ومتى العشار ويعقوب بن حلفى وتداوس وسمعان القانوني ويهوذا الاسخريوطي الذي أسلمه. وقد يستثنى الأخير لخيانته «2» والله أعلم. ومنطقة الرسل والأنبياء المذكورين في القرآن بما فيهم الأسباط ولقمان المختلف فيه والأنبياء الآخرون من بني إسرائيل والحواريون هي جزيرة العرب وما

_ (1) انظر الإصحاح 4 من سفر القضاة و 12 من سفر الملوك الثاني في الطبعة الكاثوليكية الأول في الطبعة البروتستانتية و 15 من سفر الملوك الثالث و 16 من هذا السفر أيضا. (2) انظر الإصحاح 10 من إنجيل متى و 3 من إنجيل مرقس و 6 من إنجيل لوقا. [.....]

جاورها باستثناء بعض حواريي عيسى الذين وصلوا إلى سواحل أوروبا الجنوبية الشرقية وبشروا فيها. ولقد ذكر القرآن أن الله تعالى شاءت حكمته أن يبعث في كل أمة رسولا كما جاء في آية سورة النحل هذه: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) وفي سورة فاطر التي مرّ تفسيرها آية من هذا الباب وهي إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ (24) بحيث يمكن القول إن من الرسل الذين لم تشأ حكمة الله ذكرهم في القرآن رسلا أرسلوا إلى مختلف أنحاء الدنيا ومختلف أجناس البشر في مختلف الأدوار السابقة للبعثة النبوية. وليس ما يمنع أن يكون الرجال العظام الذين تنسب إليهم الشرائع والأديان والكتب المتنوعة التي فيها أحكام وتعاليم ووصايا اجتماعية وأخلاقية في بلاد الهند والصين وجاوا والفرس واليابان وغيرها منهم أيضا. وليس لمسلم أن ينفي ذلك جزافا، وقد يكون فيما ينسب إلى بعضهم من وصايا مخالفة لمبادىء القرآن كذبا أو محرفا، والشأن في ذلك مثل الشأن في الأسفار التي يتداولها اليهود والنصارى. وفي سورة الحديد آية مهمة في هذا الباب وهي: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) فذكر ذرية نوح من ذرية إبراهيم يفيد أنه قصد من ذلك تقرير ظهور أنبياء آخرين من غير ذرية إبراهيم التي منها معظم أنبياء بني إسرائيل وبخاصة موسى وعيسى عليهما السلام اللذين تنسب إليهما اليهودية والنصرانية. وأنزلت عليهم كتب الله مثل ما أنزل على الأنبياء من ذرية إبراهيم. وقد ذكر القرآن أن الله تعالى نجّى نوحا من الطوفان مع أهله وجعل ذريته هم الباقون كما جاء مثلا في آية سورة الصافات [77] وفي سفر التكوين «1» أول أسفار العهد القديم ذكر أن الذين نجوا

_ (1) انظر الإصحاحات 7- 10.

[سورة غافر (40) : الآيات 79 إلى 81]

مع نوح من الطوفان هم زوجته وأبناؤه سام وحام ويافث ونسوتهم وأن هؤلاء الأبناء الثلاثة صاروا أجدادا لأمم كثيرة نمت وانتشرت في آسيا وإفريقية، ومقتضى ذلك أن يكون ظهر منهم أنبياء وأنزلت عليهم كتب، والله تعالى أعلم. [سورة غافر (40) : الآيات 79 الى 81] اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) . في الآيات عودة إلى خطاب المشركين ولفت نظرهم إلى بعض أفضال الله عليهم منطوية على التنديد بجحودهم ومكابرتهم. فالله سبحانه هو الذي خلق لهم الأنعام وسخرها ليركبوا بعضها ويأكلوا بعضها وفي الجملة لينتفعوا بها في شتى وجوه النفع وقضاء الحاجات. وهو الذي سخر لهم كذلك الفلك في البحر لتحملهم أيضا بالإضافة إلى الأنعام ويقضوا بذلك حاجاتهم ومنافعهم. وفي كل ذلك آيات ربانية أقوى من أن تنكر وأسطع من أن تجحد. وصلة الآيات بالسياق ظاهرة كما هو المتبادر. وفي أسلوب الآيات ومضمونها دلالة على ما قلناه من أن القرآن يخاطب الناس في صدد آيات الله ومشاهد كونه ونواميس خلقه بما يتسق مع واقع مدركاتهم ومشاهداتهم وممارساتهم استهدافا لإثارة ضمائرهم وتنبيههم إلى ما يتحقق لهم من أفضال الله ومنافع ما أوجده في كونه. ولقد تكرر في القرآن تذكر السامعين بنعمة الأنعام وتذليلها وما فيها من منافع كثيرة لهم مما مرّ منه أمثلة حيث يدل هذا على ما كان لها عند السامعين من خير فاقتضت حكمة التنزيل مواصلة تذكيرهم بذلك. [سورة غافر (40) : الآيات 82 الى 85] أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85)

(1) بأسنا: عذابنا وشدتنا وبلاءنا عليهم. احتوت الآيات تساؤلا استنكاريا عما إذا كان كفار العرب لم يسيروا في الأرض ويشاهدوا آثار عذاب الله في أمثالهم من الأمم السابقة. ثم أخذت تذكر حالة هذه الأمم: فقد كانوا أكثر منهم عددا وأشد قوة وأوسع آثارا وتمكنا في الأرض فلم يغن ذلك عنهم شيئا. ولقد اغتروا بما كانوا عليه من كثرة وغنى ومعارف فلما جاءتهم رسل الله بآياته وبيناته كذبوهم فحاق بهم شرّ موقفهم وحلّ عليهم غضب الله. ولقد اضطربوا حينما رأوا بلاء الله يحلّ فيهم فأظهروا الندم وأعلنوا إيمانهم بالله وحده ونبذوا ما كانوا يشركونهم معه من الشركاء، ولكن هذا لم يكن لينفعهم لأنه جاء بعد فوات الفرصة، وقد حلّ فيهم الخزي والخسران. وهذه سنة الله التي قد جرى عليها في عباده. وواضح أن الآيات متصلة بالسياق وما جاء بسبيله من تعقيب على موقف المشركين الجدلي والحجاجي. وقد استهدفت تذكير المشركين وحملهم على الارعواء والاعتبار بما كان من أمر أمثالهم الذين كانوا أقوى وأغنى منهم. وأسلوبها قوي نافذ، وقد جاءت في ذات الوقت خاتمة للسورة وربطت بين أولها وآخرها حيث احتوت أوائل السورة آية مماثلة للآية الأولى منها. وفي الآية الأخيرة تلقين مستمر المدى، فالتراجع عن مواقف البغي والانحراف والجريمة، والإنابة إلى الله إنما يمكن أن ينفع قبل فوات الوقت إلى

قبل وقوع العذاب أو الموت. وقد تكرر تقرير هذا في سور مكية ومدنية عديدة وبعضها في سور سبق تفسيرها. وقد نبهنا على ذلك في تعليقنا على التوبة في سورة البروج. وفي تكرار ذلك حكمة سامية وهي مواصلة الإهابة بالضالين والمنحرفين إلى الارعواء، والرجوع إلى الله والاستقامة واتباع طريق الحق والهدى في فسحة من العمر والعافية.

سورة فصلت

سورة فصّلت في السورة تنويه بالقرآن وإحكامه ولغته وحكاية لما كان من مواقف الكفار الحجاجية وشدة إنكارهم وإعراضهم وتحدّيهم للقرآن وردود عليهم وإنذارهم وتذكير لهم بما كان من أمثالهم. وفيها صور لما سوف يكون من أمرهم يوم القيامة من خزي وحسرة. وفيها لفت نظر إلى مشاهد قدرة الله وعظمته في الكون واستحقاقه للعبادة والخضوع وحده، وتنويه بالمؤمنين ومصائرهم وبشرى لهم وحثّ على مكارم الأخلاق والتزامها وتطمين بنصر الله وتأييده وإرغام الجاحدين في الدنيا قبل الآخرة. وفصول السورة مترابطة تلهم أنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة، وتسمى السورة باسم السجدة أيضا اقتباسا مما ورد فيها كما هو شأن الاسم الأول الموضوع عنوانا. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة فصلت (41) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) .

بدأت السورة بحرفي الحاء والميم كسابقتها وما قلناه في حرفي سابقتها نقوله هنا. وقد أعقبهما تنويه بكتاب الله تعالى وتقرير بكونه منزلا من الرحمن الرحيم مفصل الآيات واضح البيان والغايات بلسان عربي لقوم يستطيعون أن يفهموه ويدركوا ما احتواه ليكون لهم بشيرا ونذيرا. ثم أعقب ذلك تنديد بالكفار الذين أعرضوا عنه ولم يستمعوا له وكانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم إن قلوبنا محجوبة فلا يتسرب إليها شيء مما تدعونا إليه، وإن في آذانهم صمما يجعلهم لا يسمعون ما يتلوه عليهم وإن بيننا وبينك سدا لا ينفذ إلينا منه شيء من أقوالك ونذرك، وإنهم ثابتون مصرون على ما هم عليه فليفعل ما يشاء. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرد عليهم فيها بقوله لهم إنه بشر مثلهم يوحى إليه أن إله الناس جميعا واحد، وإن كل ما عليه أن يدعوهم إليه وإلى السير في طريقه المستقيم والاستغفار عما بدا منهم من ذنوب وأخطاء، وأن ينذر المشركين الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يؤتون زكاة أموالهم بالويل وأن يبشر المؤمنين الذين يعلمون الصالحات بأجر الله الدائم. والآيات كما هو المتبادر بسبيل حكاية موقف جدلي حجاجي بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين، وبدء السورة بمثابة مقدمة لحكاية هذا الموقف مما جرى عليه النظم القرآني. ووصف سامعي القرآن بوصف لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) ينطوي على صورة لما كان عليه المخاطبون العرب أو زعماؤهم ونبهاؤهم على الأقل من الفهم والإدراك. وينطوي على الأقل على تقرير كونهم يفهمون اللغة القرآنية ومعاني الآيات القرآنية. ولذلك جاءت الآيات التالية للآية الثانية التي احتوت هذه الجملة تعلل موقفهم بكونه موقف المكابر العنيد المتصامم عن قصد وتصميم. ولقد روى البغوي بطرقه في سياق الآية الأخيرة وتوضيحا لمدى جملة لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) حديثا عن عبد الله بن عمر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة ثمّ مرض قيل للملك الموكل به اكتب له مثل عمله إذا كان طليقا حتى أطلقه أو أكفته إليّ» . حيث ينطوي في الحديث

توضيح لمدى الجملة وتبشير وتطمين مستمران للمؤمنين المخلصين متساوقان مع ما انطوى فيها. ووصف المشركين بوصفي الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) جدير بالتنويه حيث يمكن أن يكون بقصد وصفهم بأظهر سببين جعلاهم يقفون موقف الجحود من الرسالة النبوية. ولقد شغل هذان السببان حيزا كبيرا في القرآن وبخاصة المكي منه مما مرت منه أمثلة كثيرة حيث يؤيد هذا ما قلناه من أنهما أظهر سببين فاقتضت حكمة التنزيل وصف المشركين بهما هنا. ولقد روى بعض المفسرين «1» في سياق تفسير هذه الآيات رواية ينطوي فيها صورة لما كان من تأثير القرآن على بعض زعماء قريش حينما كانت تتيح لهم الفرص سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم على انفراد حيث روي أن زعماء قريش كلفوا أحدهم عتبة بن ربيعة ليأتي النبي صلى الله عليه وسلم فينصحه بالكفّ عما هو فيه ويعرض عليه باسمهم ما يرضاه من مطالب الدنيا فجاء إليه وقال له فيما قال: إنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا لعلك تقبل منها بعضها. فقال له: قل أسمع. فقال: إن كنت تريد مالا جمعنا لك أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد شرفا سودناك حتى لا نقطع دونك أمرا، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا- جنيا- طلبنا لك الأطباء وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك. فلما انتهى قال له: استمع مني ثم أخذ يقرأ هذه السورة حتى بلغ موضع السجدة منها فسجد، فسجد معه عتبة ثم انصرف إلى قومه متغير الوجه فسألوه فقال لهم: إني سمعت كلاما حلوا نافذا ما هو بقول شاعر ولا سجع كاهن ولا نفث ساحر ثم اقترح عليهم أن يخلوا بينه وبين العرب فإن تصبه العرب فقد كفوه بغيرهم وإن يظهر عليهم فملكه ملكهم وعزه عزهم وكانوا أسعد الناس به. فقالوا له: سحرك والله

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير ابن كثير والبغوي.

[سورة فصلت (41) : الآيات 9 إلى 12]

بلسانه ثم ظلوا مصرّين على عنادهم وجحودهم. [سورة فصلت (41) : الآيات 9 الى 12] قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) . (1) قدر فيها أقواتها: جعل فيها كل ما هي في حاجة إليه وكل ما يكون أهلها في حاجة إليه من وسائل الحياة. (2) سواء للسائلين: قرئت سواء بالنصب وبالجر على ما قاله المفسرون الذين قالوا إنها على الجر صفة لأربعة أيام لتفيد أن الأيام الأربعة هي مدة خلق جميع ما في الأرض وعلى النصب تكون تمييزا بمعنى أربعة أيام كاملة مستوية. وقالوا في تأويل لِلسَّائِلِينَ إما أنها بمعنى: هذا هو مقدار المدة لمن أراد أن يسأل عنها وإما أنها بمعنى إن الله قد أوجد في الأرض كل شيء ليستوفي كل سائل فيها ما هو في حاجة إليه. (3) وأوحى في كل سماء أمرها: وضع ورتب أمر كل سماء من السموات. في الآيات: أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتوجيه سؤال استنكاري فيه معنى التقريع عما إذا كان يصح منهم أن يكفروا بالله ويجعلوا له شركاء معادلين في حين أنه هو وحده رب العالمين جميعا وأنه خلق الأرض في يومين، وأوجد فيها ما تحتاج إليه هي وأهلها في يومين آخرين، وأنه هو الذي خلق السموات السبع ورتب أمر كل سماء بما يقتضيه في يومين آخرين، وزين السماء الدنيا بمصابيح وشهب لحفظها. وكانت السماء دخانا فأمرها وأمر الأرض بالخضوع له طوعا أو كرها فلم يكن لهما إلا الإذعان

تعليق على خلق السموات والأرض الوارد في السورة

والخضوع والطاعة. وكل هذا تقدير العزيز العليم القادر على كل شيء والعليم بكل شيء. والآيات كما هو المتبادر استمرار في التقريع والإنذار والجدل الذي ابتدأ في الآيات السابقة لها. وهي قوية الأسلوب والمضمون بسبيل ذلك، ولقد كان المشركون الذين توجه إليهم الآيات يعترفون بأن الله تعالى هو خالق السموات والأرض وما بينهما وما فيهما على ما حكته آيات عديدة عنهم مرّ بعض أمثلة منها في السور السابقة. ومنها هذه الآية في سورة الزخرف: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) فجاءت الحجة فيها مفحمة لهم. تعليق على خلق السموات والأرض الوارد في السورة ولقد علقنا بما رأينا فيه الكفاية على مواضيع خلق السموات والأرض في ستة أيام وعدد السموات السبع وتزيين سماء الدنيا بالمصابيح والكواكب والشهب الحافظة لها في سياق سور عديدة سابقة مثل (ص) و (ق) و (الأعراف) و (الجن) و (الحجر) فلا نرى حاجة إلى تعليق آخر إلا أن نقول إن أسلوب الآيات هنا أيضا مع واجب الإيمان بما جاء فيها من كيفيات الخلق والإبداع وواجب إيكال كنه ذلك وحكمته إلى الله عز وجل واضح الدلالة على أن البيان الذي احتوته إنما قصد به استرعاء الأذهان إلى بالغ قدرة الله وعظمته في مشاهد الكون وأرضه وسمائه ووسائله ونواميسه الماثلة لعيون الناس والمالئة أفكارهم حيرة وروعة ليكون من ذلك وسيلة إقناع وإفحام باستحقاق الله عز وجل وحده للعبادة وسخف اتخاذ شركاء له وضلال من كفر برسالة رسوله وكتابه الذي أنزله عليه. ولعل تكرار ورود هذه المواضيع في القرآن مرات عديدة بأساليب متنوعة مما يؤيد ذلك. والأولى والحالة هذه هو الوقوف من هذا الأمر عند هذا القصد الذي هو القصد القرآني فيما نعتقد وعدم التزيد فيما لا طائل من ورائه في هذا الباب من وجهة نظر التفسير

[سورة فصلت (41) : الآيات 13 إلى 18]

القرآني ومحاولة استنباط النظريات الفنية أو تطبيقها وإخراج القرآن من نطاق قدسيته وقصد هدايته وتعريضه للنقاش مع ملاحظة أن قدرة الله عز وجل لا تحد بأيام ووقت وكيفية وأنه إذا قضى أمرا فيكون كما قضاه بمجرد اقتران إرادته وقضائه وأن ما ورد من البيانات قد يكون بسبيل التقريب والتمثيل. والله أعلم. [سورة فصلت (41) : الآيات 13 الى 18] فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (18) . (1) صاعقة: هنا هي على الأرجح صفة لعذاب الله الصاعق. (2) صرصرا: شديد البرد أو شديد الهبوب والصوت. (3) نحسات: مشؤومات. (4) فهديناهم: بينا لهم وأرشدناهم ودللناهم على طريق الهدى. (5) الهون: الهوان والخزي. في الآيات: أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بإنذار الكفار إذا لم يرعووا ويعترفوا بحق الله وحده في العبادة ولم تقنعهم دلائل عظمة الله في كونه وفي أنفسهم بعذاب مثل العذاب الرباني الذي حلّ في قومي عاد وثمود. فقد جاءتهم رسل الله ودعوهم إلى عبادته وحده فأجابوا على سبيل التحدي والإنكار أن لو شاء الله لأرسل رسلا من الملائكة لا من البشر

[سورة فصلت (41) : الآيات 19 إلى 23]

وأعلنوا كفرهم بالرسل. وكان من أمر عاد أن اغتروا بما هم عليه من قوة واستكبروا في الأرض وتساءلوا متبجحين عمّن هو أشد منهم قوة دون أن يفكروا بأن الله الذي خلقهم هو بطبيعة الحال أشد منهم قوة. فأرسل الله عليهم ريحا شديدة قاصمة في أيام متوالية كانت عليهم شؤما ونحسا إذ ذاقوا فيها الخزي والبلاء في الدنيا جزاء جحودهم، وسيكون عذابهم في الآخرة أشد وأقوى ولن يكون لهم عاصم ولا نصير من الله. وكان من أمر ثمود أن أعرضوا هم الآخرون عن طريق الهدى التي دلهم الله عليها وفضلوا الضلال على الهدى والعمى على النور والباطل على الحق فسلط الله عليهم عذابا صاعقا مهينا بما كسبوا، وقد نجى الله من عاد وثمود أولئك الذين آمنوا به واتقوه بصالح الأعمال. والآيات كسابقاتها استمرار في التقريع والإنذار وبسبيل حكاية مواقف مكابرة المشركين الكفار، ويلحظ فيها تماثل بين ما كان يقوله عاد وثمود لرسلهم وبين ما قاله العرب للنبي صلى الله عليه وسلم من أقوال وما تحدوه من تحد ومن جملة استنزال الملائكة وما أظهروه من كبر واعتداد بالمال والنفس والقوة وما كان من استحبابهم الحياة الدنيا على الآخرة على ما حكته عنهم آيات عديدة في هذه السورة والسور السابقة. وهذا التماثل يزيد في قوة الإنذار والتقريع والتنديد من جهة وينطوي فيه حكمة القصص القرآنية بالأسلوب الذي وردت به من جهة أخرى كما هو المتبادر. وفي بعض الآيات القرآنية ما يفيد أن المشركين كانوا يعرفون بلاد ثمود وعاد حيث كانوا يرحلون إليها أو يمرون بها في رحلاتهم التجارية الصيفية والشتوية وأنهم رأوا آثار تدمير الله فيها كما ترى في آية سورة العنكبوت هذه: وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) . فاستحكمت فيهم حجة الآيات وقوة إنذارها وتقريعها من هذه الناحية أيضا. [سورة فصلت (41) : الآيات 19 الى 23] وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23)

(1) يوزعون: يجمعون إلى بعضهم ويحبس أولهم إلى آخرهم حتى يوقفوا أمام الله جميعا. (2) أرداكم: أوقعكم وأسقطكم. وجاءت هذه الآيات معقبة على الآيات السابقة لبيان ما سوف يكون من أمر الكفار في الآخرة وقد أنذروا وذكروا ووعظوا بما حلّ فيمن قبلهم من أمثالهم فأعرضوا ولم يرعووا. ففي يوم القيامة يحشر أعداء الله الكفار ويساقون إلى النار. وحينما يوقفون- قبل سوقهم إلى النار- أمام الله للحساب ينطق الله آذانهم وعيونهم وجلودهم فتشهد عليهم بما اقترفوه من آثام. ولسوف يعاتبون جوارحهم على شهادتها فترد عليهم بأن الله الذي أنطق كل شيء هو الذي أنطقها بالحق. وقد عقبت الآيات على جواب الجوارح بتوكيد قدرة الله على ذلك وقد خلق الناس أول مرة وإليه يرجعون. ووجه الخطاب- بعد حكاية المشهد والتعقيب عليه- إلى الكفار وفيه تأنيب وتقريع وتقرير لحقيقة الأمر في جرأتهم على الكفر والإثم فهم لم يكونوا يبالون أن تشهد عليهم جوارحهم ولم يكونوا يرون ضرورة التستر في آثامهم لأنهم كانوا لا يخطر ببالهم في الحقيقة أن الله يراقبهم ويحصي عليهم أعمالهم وكانوا يظنون أن الله لا يعلم كثيرا مما كانوا يعملون، وهذا الظن الخاطئ هو الذي أسقطهم في شرّ أعمالهم وجعلهم خاسرين. والآيات متصلة بسابقاتها كما هو واضح، وأسلوبها قوي نافذ من شأنه أن

تعليق على التباين في المشاهد الأخروية

يثير الرعب والخوف والارعواء في النفوس وهو مما استهدفته كما هو المتبادر. ولقد روى الشيخان والترمذي في سياق الآية [22] عن عبد الله حديثا جاء فيه: «اجتمع عند البيت قرشيّان وثقفيّ أو ثقفيان وقرشيّ كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع ما نقول؟ قال الآخر: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا. وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه ليسمع إذا أخفينا فأنزل الله عزّ وجل: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ الآية» «1» . ومقتضى الرواية أن تكون الآية نزلت لحدتها مع أن التمعن في الآيات يظهر أنها وحدة تامة منسجمة وأن هذه الآية والتي بعدها تعقيب إفحامي لأعداء الله على ما حكي عنهم من معاتبتهم لجوارحهم وأن جميع الآيات متصلة بسابقاتها كما قلنا آنفا. ولقد روى الطبري بطرقه في سياق هذه الآيات حديثا عن أنس بن مالك قال: «ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم حتى بدت نواجذه ثم قال: ألا تسألوني ممّ ضحكت؟ قالوا: ممّ ضحكت يا رسول الله؟ قال: عجبت من مجادلة العبد ربّه يوم القيامة يقول يا ربّ أليس وعدتني أن لا تظلمني قال: فإنّ ذلك لك. قال: فإنّي لا أقبل عليّ شاهدا إلّا من نفسي، قال: أو ليس كفى بي شهيدا وبالملائكة الكرام الكاتبين فيختم على فيه وتتكلم أركانه بما كان يعمل فيقول لهنّ بعدا لكنّ وسحقا عنكنّ كنت أجادل» . ولقد أوردنا هذا الحديث بصيغة مقاربة نقلا عن ابن كثير في سياق الآية [65] من سورة يس وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار. تعليق على التباين في المشاهد الأخروية ولقد يرد على الذهن سؤال أو حيرة بسبب التباين والتغاير في الصور الأخروية ومشاهدها ووسائلها. فليس هناك محل لذلك لأنه ليس هناك ما يمنع أن

_ (1) التاج ج 4 ص 202 وروى هذه الرواية الطبري والبغوي بطرقهما أيضا.

[سورة فصلت (41) : الآيات 24 إلى 25]

يكون ذلك بقصد استكمال وصف صور الحياة الأخروية وبيان ما اقتضته حكمة الله من تنوعها. وهذا لا يقلل من اعتبار أن ذلك هادف في الوقت نفسه إلى إثارة الرعب والخوف والغبطة والطمأنينة فيمن يستمع للقرآن من الجاحدين والمؤمنين بأساليب تقريبية لما ألفوه من أسباب ووسائل، وأن تعدد وتنوع المواقف وأصحابها من مقتضيات ذلك. والله أعلم. [سورة فصلت (41) : الآيات 24 الى 25] فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25) . (1) يستعتبوا: يطلبون العفو ويبدون الأعذار. (2) فما هم من المعتبين: لا يقبل اعترافهم واعتذارهم. (3) قيّضنا: بعثنا وهيأنا. جاءت الآيتان نتيجة لسابقاتهما في صدد الإنذار واستمرارا فيه، فقررت أولاهما أن النار ستكون مثوى الكفار المشركين سواء تجلدوا وصبروا أم جزعوا وشكوا. ولن يكون لهم عنها مفرّ حتى لو ندموا واعترفوا بخطئهم واعتذروا عنه لأن الفرصة قد فاتتهم. واحتوت الثانية تعليلا لما صاروا إليه من المصير السيء. فقد استمعوا إلى وسوسة الشياطين وقرناء السوء الذين امتحنهم الله بهم فزينوا لهم ما هم فيه وحسنوا لهم الإثم والكفر فحقّ عليهم هذا المصير كما حقّ على أمثالهم من قبلهم من الجن والإنس وكانوا خاسرين في النهاية. تعليق على جملة وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ وقد أولنا جملة وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ بما أولناها به لأن هذا هو

[سورة فصلت (41) : آية 26]

المتسق مع فحوى وروح الآيات التي وردت في معرض التنديد بالكفار وتقرير استحقاقهم للعذاب وخسرانهم نتيجة استماعهم لوسوسة أولئك القرناء. وقد أراد الله بامتحانهم إظهار المتقي من الآثم والطيب من الخبيث منهم ليحقّ على كل منهم ما يحقّ من عقاب وثواب حسب ذلك. على أن في سورة الزخرف آيات بينها وبين هذه الآية تماثل مع زيادة تساعد على تأويل آخر يزول به كل وهم قد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة من العبارة والعبارات المماثلة في آيات أخرى أيضا وهي: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) . حيث ينطوي فيها تقرير كون الشيطان ووسوسته إنما يؤثران بإذن الله على من يتعامى عن نور الهدى وينصرف عن ذكر الله ولا يرغب فيه وبمعنى آخر على من فسدت طويته وخبثت نيته وانحرف عن الحق متعمدا وهذا متسق مع المبدأ القرآني المحكم الذي تكرر في قصة إبليس المتكررة: إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ سورة [ص/ 83] وإِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا سورة [الإسراء/ 65] . وما قلناه في سياق آيات سابقة استدلالا من إسلام أكثر سامعي القرآن من المشركين العرب من أنها تسجيل لواقع أمرهم وأن فحواها يظل محكما بالنسبة لمن أصر على الكفر ومات عليه نقوله هنا في مناسبة هذه الآيات. وهذا ما جعلنا نقول إنها استهدفت فيما استهدفته إثارة الخوف والرعب في قلوب الكفار حتى يرتدعوا ويرعووا، وقد تحقق الهدف بمقياس واسع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. [سورة فصلت (41) : آية 26] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) . (1) الغوا فيه: شوشوا عليه بلغو الكلام.

[سورة فصلت (41) : الآيات 27 إلى 29]

في الآية حكاية لبعض أقوال ومواقف الكفار إزاء القرآن حيث كانوا يتواصلون فيما بينهم على التشويش على النبي صلى الله عليه وسلم حينما يتلو القرآن أو معارضته باللغو والتجريح والتهويش ذهابا منهم إلى أن هذا مما يضمن لهم الغلبة والفوز على النبي صلى الله عليه وسلم وإحباط دعوته وإزالة أثر القرآن في نفوس سامعية منهم. ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزول الآية، وهي معطوفة على ما قبلها بحيث يسوغ القول إنها نزلت لتحكي صورة أخرى من مواقف المشركين وعنادهم وأنها استمرار للسياق ومتصلة به. ولقد نبهنا في المناسبات السابقة إلى ما كان من كثرة جدل المشركين في القرآن وطلبهم أحيانا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي بقرآن آخر أو يبدله ويكفّ عن تسفيه أحلامهم وسبّ آلهتهم فيه على ما حكته آيات عديدة مرّت أمثلة منها في السور السابقة. وكان القرآن يردّ عليهم ثم يستمر في إنذارهم والتنديد بهم وبشركائهم. ولقد كانت بلاغته وروحانيته وهداه تنفذ إلى أعماق بعضهم وتحمل ذوي القلوب الصافية وخاصة من الشباب على الدخول في الإسلام على ما حكته الروايات الكثيرة ونوهت به الآيات العديدة. فالظاهر أن كبار المناوئين من المشركين يئسوا من تراجع النبي صلى الله عليه وسلم من جهة واشتد خوفهم من استمرار نفوذ القرآن إلى الناس من جهة أخرى فكان منهم هذا التواصي الذي حكته الآية والذي ينطوي فيه صورة من صور السيرة النبوية، ولقد روى الطبري عن مجاهد أن الكفار كانوا يوصون بعضهم بالتشويش على القرآن بالمكاء والصفير. وروى البغوي عن ابن عباس أنهم كانوا يتواصون بالتشويش عليه ومعارضته بالرجز والشعر والتخليط واللغو والعبارة القرآنية تتحمل كل ذلك. [سورة فصلت (41) : الآيات 27 الى 29] فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)

[سورة فصلت (41) : الآيات 30 إلى 33]

جاءت هذه الآيات معقبة على الآية السابقة التي حكت موقف الكفار من القرآن متوعدة إياهم بأشد العذاب والخلود في النار جزاء كفرهم وجحودهم. وفي الآية الأخيرة حكاية لطلبهم حينما يرون تحقيق وعيد الله فيهم بأن يمكنهم الله من الذين أضلوهم من الجن والإنس حتى يجعلوهم تحت أقدامهم في النار انتقاما منهم لأنهم كانوا سبب المصير الرهيب الذي صاروا إليه. والمتبادر أن الآية الأخيرة بالإضافة إلى ما انطوى فيها من حقيقة العذاب الأخروي الإيمانية هي بسبيل وصف شعور الندم والحسرة الذي سينتاب الكفار وأنها استهدفت فيما استهدفته إثارة الرعب فيهم وحملهم على الارعواء بل وإثارة نقمة جمهورهم على زعمائهم الذين يمنعونهم من الإسلام لأن الكلام المحكي في الآية هو بلسان الجمهور أكثر منه بلسان الزعماء. ولقد روى المفسرون عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم أن المقصود من الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إبليس من الجن وقابيل قاتل أخيه هابيل ولدي آدم من الإنس لأنهما أصل الضلال والجريمة. ويتبادر لنا أن العبارة القرآنية أشمل من ذلك وأنها تتناول كل فعل موسوس وقرين شرّ وسوء من إنس وجنّ. والزعماء يأتون في الطليعة بالإضافة إلى كونها صورة عن حكاية الحسرة والندم اللذين يشعر بهما ويعبر عنهما الكفار تحقيقا للهدف الذي نوهنا به آنفا. والله أعلم. [سورة فصلت (41) : الآيات 30 الى 33] إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)

تعليق على آية إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا وما بعدها

(1) توعدون: تطلبون أو تتمنون. (2) نزلا: ما يكون من حقّ الضيف النزيل على الناس من ضيافة وقرى وإكرام. تعليق على آية إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا وما بعدها جاءت هذه الآيات لمقابلة ما جاء عن موقف الكافرين ومصيرهم الأخروي جريا على الأسلوب القرآني: وقد احتوت بشرى عظيمة للمؤمنين السابقين إلى الاستجابة للدعوة وتنويها بهم من جهة وانطوى فيها وصف محبب لما كان لهؤلاء من إخلاص وتمسك واستقامة والتفاف حول النبي صلى الله عليه وسلم من جهة أخرى في مجال المقايسة بينهم وبين الجاحدين كالذين قالوا ربنا الله وآمنوا به ثم استقاموا على طريق هداه ولم ينحرفوا حيث تتنزل عليهم الملائكة حينما ينتهي أجلهم فيهدئون من روعهم وينفون عنهم شعور الخوف والحزن ويبشرونهم بالجنة التي وعدوا بها قائلين لهم نحن أولياؤكم ونصراؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة التي لكم فيها كل ما تشتهي أنفسكم وتتمناه تكريما لكم من الله الغفور الرحيم الذي يعامل عباده الصالحين بالغفران الشامل والرحمة الواسعة. وقد جاءت الآية الأخيرة بمثابة تعليق بأسلوب التساؤل الذي يتضمن التقرير الإيجابي بأنه ليس من أحد أفضل وأحسن ممن دعا إلى الله وأسلم النفس إليه وعمل الأعمال الصالحة. ومما يحسن لفت النظر إليه مقايسة أخرى تتضمنها الآيات بالإضافة إلى الآيات السابقة فالمؤمنون المستقيمون على الإيمان والعمل الصالح تتوفاهم الملائكة وتبشرهم وهم أولياؤهم في حين أن أولياء الكفار هم قرناء السوء من الجن والإنس يضلونهم ويورطونهم. والمقايسة مألوفة في النظم القرآني وقد مرّت

أمثلة عديدة منها وتستهدف التنديد والتقريع للكفار والتنويه والتطمين للمؤمنين. وما في أذهان العرب من صور عن الملائكة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته يجعلها أقوى تأثيرا كما هو المتبادر، فالملائكة الذين كان المشركون يشركونهم مع الله ويتخذونهم شفعاءهم لديه إنما هم أولياء المؤمنين المستقيمين وحسب. والآيات وإن كانت كما قلنا تتضمن التنويه بالمؤمنين الأولين فإن إطلاق الكلام فيها يجعلها مستمدا لإلهام مستمر قوي التلقين في كل ظرف ومكان سواء في الاستقامة على دين الحق والإخلاص له أم في التنويه بفضل من يدعو إلى الله ويسلم النفس إليه ويعمل الصالحات ويستشعر بأنه يكون بذلك قائما بأفضل الواجبات ومتمسكا بأفضل الأخلاق والصفات. وخلق الاستقامة على الحق والصدق والواجب والمعروف وعدم الروغان والحيدان عن ذلك من أعظم الأخلاق وأفضلها. ولذلك تكرر الأمر بها في القرآن بمتنوع الأساليب وقد مرت أمثلة من ذلك في السور السابقة. ولقد روى بعض المفسرين «1» عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما أن الآية الأخيرة عنت المؤذنين أو نزلت فيهم، وأوردوا في سياق ذلك «2» بعض الأحاديث النبوية في فضل المؤذنين وأجرهم عند الله. وهذا غريب في هذا المقام لأن فحوى الآية أوسع وأشمل من ذلك بل هي من أوسع وأشمل ما يكون في بابها من حيث التنويه بالمؤمن الصالح في عمله المسلم نفسه لله الداعي غيره إلى مثل ذلك. ولأن الأذان إنما بدأ أو شرع في العهد المدني ولا خلاف على مكية هذه الآية. ومن العجيب أن الطبري وهو من الذين رووا ذلك روى عن الحسن وقتادة من علماء التابعين أنها بصدد كل من صدق قوله عمله ومولجه مخرجه وسرّه علانيته وشاهده مغيبه وهو خيرة الله وولي الله وأحب الخلق إلى الله كما روي عن السدي أنها عنت النبي صلى الله عليه وسلم. وليس من ريب في أن النبي صلى الله عليه وسلم أول وأعظم من تنطبق

_ (1) انظر تفسير الآية في تفسير الطبري وابن كثير والخازن. (2) المصدر نفسه.

[سورة فصلت (41) : الآيات 34 إلى 36]

عليه الآية، ولكنها مع ذلك أوسع وأشمل كما قلنا وعلى ما هو المتبادر من نصها وروحها. [سورة فصلت (41) : الآيات 34 الى 36] وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) . (1) ولي حميم: نصير صديق شديد الولاء والإشفاق. (2) وما يلقّاها: بمعنى وما يتصف بها وما يكون عليها وما ينالها. في الآية الأولى: تقرير بأفضلية الحسنة على السيئة وعدم إمكان التسوية بينهما، وأمر للسامع بمقابلة السيئة بالحسنة وإشارة إلى أن مثل هذه المقابلة من شأنها أن تقلب العداوة إلى صداقة وولاء شديدين. وفي الآية الثانية تنويه بهذه المقابلة وفاعلها وإشارة إلى أن ذلك لا يكون إلّا من الذين تجملوا بالصبر وضبط النفس وكانوا على حظ عظيم من كرم الخلق. وفي الآية الثالثة تنبيه موجه للسامع بأن الشيطان إذا حاول أن يوسوس له بسوء ليحول بينه وبين فعل الخير أو يدفعه إلى الشر ويثير فيه الغضب والنزق فليسارع إلى الاستعاذة منه بالله السميع العليم. تعليق على آية وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وما بعدها والآيات الثلاث منسجمة مع بعضها أولا، ومتصلة بسابقتها اتصال سياق وموضوع ثانيا، فليس من أحد أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا في

مجال المقايسة والمفاضلة كما أنه لا يمكن التسوية بين الحسنة والسيئة، ومن حسن خلق المسلم الذي قال ربي الله ثم استقام أن يتخلق بكل خلق كريم. والمتبادر أن كلمتي الحسنة والسيئة تتناولان الأفعال والأقوال معا، وصيغة الأمر في الآيات يمكن أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم ويمكن أن تكون موجهة للسامع وبخاصة للسامع المسلم، ونحن نرجح هذا لأنه متسق مع روح الآيات. على أنها إذا كانت موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم فإن الخطاب يشمل أيضا كل مسلم كما هو المتبادر. وفي الآيات تعليم قرآني جليل مستمر الإلهام والمدى، فمقابلة السيئة بالسيئة يورث العداء والأحقاد بعكس مقابلة السيئة بالحسنة التي تقلب العدو صديقا وتدل على نبل النفس وكرم الخلق. وقد يندفع المرء أحيانا إلى مقابلة السيئة بالسيئة ففي هذا الموقف يجب على المسلم أن ينتبه إلى أن هذا إنما يكون من نزعات الشيطان ووساوسه وألا يندفع فيه وأن يجنح إلى الأفضل الذي يليق بإسلامه وهو الصبر ودفع السيئة بالحسنة. ولقد مرّ في سورة الأعراف آيتان مماثلتان لهذه الآيات بعض الشيء في العبارة والهدف وهما: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) حيث يبدو من ذلك اهتمام القرآن العظيم لبثّ روح الخير والتسامح وضبط النفس والبعد عن النزق والغضب ومقابلة السوء بمثله في نفس المسلم. بل إن القرآن لم يكتف بهذا حيث احتوى آيات أوجبت على المسلم أن تكون صلاته ومعاملاته مع جميع الفئات من أقارب وأجانب وأغنياء وفقراء وعبيد على أساس الإحسان وحثته على ألا يكتفي بما يجب عليه من العدل وتقوى الله بل يتجاوزهما إلى ما هو خير منهما وهو الإحسان كما ترى في هذه الآيات: 1- وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ

السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً [النساء/ 36] . 2- لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة/ 93] . 3- إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل/ 90] . وقد توهم جملة وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) أنها بسبيل بيان صعوبة الأمر. وعلى احتمال ذلك فإنها قصدت إلى التنويه بالفعل وفاعله وتعظيم شأنهما أيضا بل نحن نظنّ أن هذا القصد هو الأكثر ورودا إن شاء الله. وليس من محلّ لتوهم التناقض بين هذا التلقين المنطوي في الآيات وبين ما جاء في آيات مكية ومدنية عديدة على ما سوف يأتي بعد من تسويغ مقابلة العدوان بمثله وانتصار المسلم من بغي ينزل به وبإخوانه. فهذا التلقين كما يتبادر لنا هو في صدد السلوك الشخصي بين الناس وبين المسلمين. ويمكن أن يصرف إلى ما يكون فيه بغي وعدوان شديدا النكاية والأذى. كما أن التنوع في التلقين يمكن أن يصرف إلى ما هو طبيعي من تنوع ظروف البشر أفرادهم وجماعاتهم ليسير الناس فيما يواجههم من هذه الظروف سيرا منسجما مع روح القرآن عامة. وهي العفو عند المقدرة حينما لا يكون سببا في ازدياد الشر والبغي. ويؤدي إلى الهدوء والسكينة والرضا ومقابلة البغي بمثله حينما لا يكون بدّ من ذلك. والنظام العام هو عدم بدء المسلم غيره بالسوء والبغي وأن يكون هذا منه مقابلة ودفاعا. وفي سورة الشورى التي تلي هذه السورة فصل احتوى تلقينا في صدد هذه المواقف المتنوعة يصح أن يكون فيه قرينة على صواب ما نقرره إن شاء الله، على ما سوف يأتي شرحه بعد هذه السورة.

تعليق على رواية عجيبة في صدد نزول الآية [35]

ولقد رويت أحاديث عديدة صحيحة في موضوع معاملة الناس بالحلم والصبر وحسن الخلق، منها حديث رواه الثلاثة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» «1» . وحديث رواه أبو داود والترمذي عن سهل بن معاذ عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيّره من أيّ الحور العين شاء» «2» . وحديث رواه البخاري والترمذي وأحمد عن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: علّمني شيئا ولا تكثر عليّ لعليّ أعيه. قال: لا تغضب فردّد ذلك مرارا كلّ ذلك يقول لا تغضب» «3» . وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن أبي الدرداء قال: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن وإنّ الله ليبغض الفاحش البذيء» «4» . وحديث رواه أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم عن عائشة قالت: «سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول إنّ المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم» «5» . وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: تقوى الله وحسن الخلق. وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال: الفم والفرج» «6» . وحديث رواه الترمذي عن أبي ذرّ قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن» «7» . وحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خياركم أحاسنكم أخلاقا» «8» . حيث ينطوي في هذه الأحاديث تلقين نبوي جليل متساوق مع التلقين القرآني مثل كل شأن. تعليق على رواية عجيبة في صدد نزول الآية [35] ولقد روى البغوي عن مقاتل أن الآية [35] نزلت في أبي سفيان بن حرب

_ (1) التاج ج 5 ص 43- 44. (2) التاج ج 5 ص 43- 44. (3) التاج ج 5 ص 43- 44. (4) المصدر نفسه 57- 58. (5) المصدر نفسه 57- 58. (6) المصدر نفسه 57- 58. (7) المصدر نفسه 57- 58. (8) المصدر نفسه 57- 58.

[سورة فصلت (41) : الآيات 37 إلى 38]

لأنه لان للمسلمين بعد شدة عداوته بالمصاهرة التي حصلت بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ثم أسلم وصار وليا بالإسلام حميما بالقرابة. وهذه الرواية من أعجب الأمثلة على الأخذ بالروايات دون تمعن في النص والملابسة. فزواج النبي صلى الله عليه وسلم ببنت أبي سفيان وقع بعد الهجرة بست سنوات ولم يكن لأبيها يد فيه حيث كانت في الحبشة مترملة عن عبد الله بن جحش الذي هاجرت معه في الهجرة الأولى. وقد خطبها النبي وعقد له عليها وهي في الحبشة وقدمت إليه رأسا منها. وإسلام أبيها كان في ظرف فتح مكة بعد سنتين ولم يرو أحد بعد أن الآية مدنية، وعبارة الآية المنسجمة مع ما قبلها وما بعدها لا يمكن أن تتسق مع الرواية قط. هذا، ولقد احتوت سورة الأعراف آية مماثلة للآية [36] من الآيات التي نحن في صددها. وعلقنا على مداها بما يغني عن التكرار. [سورة فصلت (41) : الآيات 37 الى 38] وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38) . المتبادر أن جملة فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ تعني الملائكة الذين ذكرت تسبيحهم الدائم والتفافهم حول الله وعرشه آيات كثيرة ومنها ما جاء في السورتين السابقتين لهذه السورة وهو ما قاله جمهور المفسرين مباشرة أو رواية. وعبارة الآيتين واضحة، والخطاب فيهما موجه إلى المشركين، وفي الثانية تأنيب وتسفيه لهم بأسلوب حكيم، فإذا كانوا حقا يعترفون بالله ويعبدونه فلا يصح أن يسجدوا للشمس والقمر كما يفعلون بل عليهم أن يسجدوا له وحده. أما إذا استكبروا فلن يضيره استكبارهم فإن أعظم المخلوقات خطورة في أذهانهم وهم الملائكة دائبون على تقديسه، والحجة مفحمة لهم لأنهم يعترفون بالله ويعبدونه أيضا. وليس هناك رواية خاصة في سبب نزول الآيات، والأرجح أنها جاءت بمثابة

تعليق على عبادة الشمس والقمر عند العرب

تعقيب واستطراد بعد الآية السابقة لها، فقد انتهت الآية بوصف الله سبحانه بالسميع العليم فاستطردت هذه إلى ذكر بعض آياته وتأنيب الذين لا يحصرون العبادة والسجود فيه ويشركون الشمس والقمر معه فيهما. تعليق على عبادة الشمس والقمر عند العرب وتأليه الشمس والقمر وعبادتهما مما كان سائدا في الأزمنة القديمة في بلاد اليمن من جزيرة العرب ثم في بلاد العراق والشام ومصر المجاورة لجزيرة العرب والتي جاء معظم سكانها القدماء من هذه الجزيرة. وقد عرف من الروايات المتعددة أن العرب في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته كانوا يتسمون باسم عبد شمس ومن ذلك جدّ بني أمية. ولا بد من أن يكون ذلك متصلا بعقيدة من عقائدهم، وقد ذكرت بعض الروايات أن قبيلة كنانة كانت تعبد القمر وأن قبيلة تميم كانت تعبد الشمس. وأن هذه القبيلة صنعت تمثالا للشمس ووضعته في بيت خاص «1» ، حيث يفيد هذا أن عبادة الشمس والقمر كانت ممارسة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض القبائل العربية. وصيغة الآيات تفيد ذلك حتما لأنها تنهى عنه وإن كانت لا تسوغ الجزم بما إذا كان الخطاب موجها إلى فريق من عباد الشمس والقمر وجاها أم خطابا عاما لعبادهما من المشركين وإن كنا نرجح الاحتمال الأول مع التوجيه العام في الوقت نفسه جريا على الأسلوب القرآني. [سورة فصلت (41) : آية 39] وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) . (1) خاشعة: لعلها بمعنى جافة أو جامدة، وفسّر بعض المفسرين الكلمة

_ (1) تاريخ العرب قبل الإسلام جواد علي ج 5 ص 112- 113. [.....]

[سورة فصلت (41) : آية 40]

بأنها لا نبات ولا زرع فيها. (2) اهتزت: لعلها هنا بمعنى تشققت أو تحركت. (3) ربت: نمت وزادت. الآية استمرار في السياق ومعطوفة على ما سبقها كما هو ظاهر. وقد تضمنت التنبيه إلى مشهد آخر من مشاهد قدرة الله في الأرض التي تكون يابسة خامدة لا نبات ولا حياة فيها فإذا هي إذا ما أنزل الله عليها الماء اهتزت وانتعشت وأخذت تتكشف عن أنواع النبات وتعج بمظاهر الحياة. ثم استطردت الآية إلى التنبيه إلى قدرة الله على إحياء الموتى استدلالا من ذلك. فالذي أحيا الأرض بعد موتها على هذا الوجه الذي يشاهده الناس جميعا قادر على إحياء الموتى بعد موتهم أيضا وهو قادر على كل شيء في كل حال. وقد تكرر هذا المثل في القرآن على اعتبار أنه مثل مشاهد في كل آن ومكان لا ينكر ولا يدحض. [سورة فصلت (41) : آية 40] إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) . (1) يلحدون: أصل الإلحاد الانحراف عن الشيء أو عن الحق ولعلها هنا بمعنى الجحود والمكابرة. من المحتمل أن تكون هذه الآية تعقيبية على الآيات السابقة، كما أن من المحتمل أن تكون مقدمة للآيات التالية. وعلى الاحتمال الأول يكون تأويلها إن آيات الله في كونه ماثلة للعيان كافية للإقناع والبرهنة على ربوبيته واستحقاقه وحده للعبادة ولا ينكرها إلّا المكابرون الذين يتعامون عن الحق عمدا. وهؤلاء لا يخفون على الله، ومصير الناس سيكون حسب مواقفهم وأعمالهم. ولا يمكن أن يكون الذي مصيره النار خيرا من الذي يأتي يوم القيامة آمنا مطمئنا، فليعمل الكافرون

[سورة فصلت (41) : الآيات 41 إلى 45]

المكابرون ما يشاءون فمصيرهم إلى الله وهو عليم بصير بما يعملون ومجزيهم عليه بما يستحقون. وعلى الاحتمال الثاني يكون الإلحاد الوارد فيها أي المكابرة والانحراف والجحود بالنسبة للقرآن الذي ذكر في الآيات التالية، وما جاء في الآية من مقايسة وإنذار يبقى واردا بالنسبة للاحتمالين. والفقرة الأخيرة بسبيل الإنذار. وهي أيضا من العبارات القرآنية الحاسمة في الدلالة على تقرير قابلية الإنسان واختياره وإرادته وكسبه. والصلة بين الآية والسياق السابق لا تنقطع في حالة صحة الاحتمال الثاني، فالسياق السابق ذكر بعض آيات الله ومشاهد عظمته وربوبيته والقرآن هو الذي يقص ذلك، فالمناسبة تظل قائمة كما هو المتبادر. [سورة فصلت (41) : الآيات 41 الى 45] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) . (1) الذكر: هنا كناية عن القرآن. (2) عزيز: قد تكون الكلمة بمعنى كريم معزز وقد تكون بمعنى منيع لا يرام ولا يستطيع أحد أن ينفذ إليه بتحريف أو باطل أو زيادة أو نقص والمعنى الثاني أكثر توافقا مع الآية الثانية.

(3) ينادون من مكان بعيد: كناية عن عدم استماعهم لأن المرء لا يسمع صوت من يدعوه إذا كان الداعي بعيدا جدا عنه. (4) إنهم لفي شك منه مريب: بمعنى أن الذين يشكون فيه هم في ريب مما يشكون أي غير مستيقنين ومتثبتين في شكهم. على احتمال أن تكون الآية السابقة مقدمة لهذه الآيات تكون هذه الآيات استمرارا للسياق. فالذين يتعامون عن الحق عمدا ويلحدون في آيات الله هم الذين كذبوا بالقرآن لما جاءهم. وعلى احتمال أن تكون الآية السابقة تعقيبا على ما قبلها تكون هذه الآيات فصلا جديدا متصلا في الوقت نفسه بالسياق السابق أيضا حيث حكي فيه صورة من صور إلحاد الملحدين في آيات الله التي منها القرآن. وعلى كل حال ففي الآيات صورة من صور الجدل الذي كان يدور حول القرآن بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار المكابرين: 1- فالذين كابروا في آيات الله الماثلة في الكون هم الذين كابروا أيضا في القرآن لما جاءهم وحاولوا التشويش عليه وهو الكتاب المنيع العلي المعتد الذي لا يرام والذي لا يأتيه الباطل والتحريف من أي جهة لأنه تنزيل من الله الحكيم الذي يفعل ما يفعل على غاية من الصواب والإحكام ويستوجب على كل ما يفعل الحمد والثناء. وما يقوله الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم قد قاله أمثالهم للرسل من قبله، وإن الله لرقيب عليهم وهو ذو العقاب الأليم كما هو ذو المغفرة الواسعة لمن يستحقها. 2- ولو أنزل الله القرآن بلسان غير عربي لاعترض الكفار أيضا وتساءلوا عن عدم تفصيل آياته بلسان يفهمونه فكيف يكون قرآنا عربيا وأعجميا في آن واحد. 3- وعلى النبي أن يعلن- ردا على ما يقولونه- أن القرآن هو هدى وشفاء للذين آمنوا وصدقوا وحسنت نياتهم وصفت طواياهم ورغبوا في الحق في حين أن الكافرين لن ينتفعوا به لأن في آذانهم صمما وفي عيونهم ظلمة أو كأنهم ينادون من مكان بعيد فلا إمكان لإسماعهم النداء. 4- ولقد كان هذا شأن الناس تجاه الكتاب الذي آتاه الله موسى عليه السلام،

تعليق على جملة ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته

فقد اختلفوا فيه بين مصدق ومكذب. 5- والله قادر على أن يقضي بين الناس قضاء عاجلا فيمحق الكافرين المكذبين وينجي المصدقين المؤمنين، ولكن حكمته اقتضت تأجيل هذا القضاء إلى يوم القيامة الذي هو آت لا ريب فيه. والفقرة الأخيرة من الآية الأخيرة تحتمل أن تكون في صدد القرآن أو في صدد يوم القيامة أو في صدد كتاب موسى، وفيها تقرير بأنهم غير متثبتين فيما يشكون وهم في ريب منه. والوصف الذي وصف به الذين لا يؤمنون بالقرآن في الآية [44] هو بقصد وصف شدة عنادهم ومكابرتهم، وقد تكرر في المناسبات المماثلة بهذا القصد ومرّ من ذلك أمثلة في السورة السابقة. ولقد قال بعض المفسرين: إن جملة وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ بمعنى أنه لو أنزل القرآن أعجمي اللغة لاعترضوا أيضا وقالوا كيف ينزل قرآن أعجمي على رسول عربي؟ ومع أن هذا لا يخلو من وجاهة فإن ما أوردناه في الشرح هو الذي تبادر لنا أنه الصواب. والله أعلم. تعليق على جملة وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ والآية [44] تلهم أن الكفار كانوا يتساءلون عن سبب عدم وحدة اللغة بين القرآن والكتب السماوية الأولى ما دامت كلها من عند الله. وكانوا يعرفون أن الكتب السابقة بلغة غير عربية ومن المحتمل أن يكون هذا التساؤل إذا صح استلهامنا إن شاء الله قد وقع منهم في معرض التحدي والطعن والتكذيب. فردت الآيات ردا فيه تسفيه قوي مفحم للمكابرة التي دفعتهم إلى هذا التساؤل. ومن المحتمل أن يكون هذا قد وقع في مواجهة جدلية فنزلت الآيات بسبيل حكاية ما وقع الرد عليه. كما أن من المحتمل أن يكون هذا مما كانوا يتقولونه في مختلف

تعليق على جملة لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه

المواقف على سبيل التحدي والمكابرة وهو ما نرجحه بدليل آيات وردت في سورة الشعراء التي سبق تفسيرها، فيها شيء ما مما في هذه الآية وهي: وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) وقبل هذه الآيات جاءت الآيات [193- 195] ، تقرر أن الله أنزل القرآن بلسان عربي مبين، كأنما احتوت تعليلا لإنزاله باللسان العربي دون اللسان الأعجمي. وفي سورة إبراهيم التي نزلت بعد هذه السورة بمدة ما آية جاء فيها وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ حيث يمكن أن يكون قد بدأ اعتراض آخر مماثل منهم فاقتضت حكمة التنزيل أنزل هذه الآية محتوية على توكيد آخر لهذا التعليل، وحيث يمكن أن فيها تدعيم لما استلهمناه من الآية التي نحن في صددها. ولقد قال بعض المفسرين إن الجملة بمعنى أنه لو نزل القرآن أعجمي اللغة لاعترضوا أيضا وقالوا كيف ينزل. تعليق على جملة لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ والتقرير الذي احتوته جملة لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ هو في صدد كون القرآن في محكماته وأحكامه وأهدافه ومبادئه وتلقيناته متساوق كل التساوق كله حق ليس فيه أي تناقض ولا اختلاف فضلا عن أنه مبرأ من كل باطل أو شبهة باطل. وكل من أنعم النظر في فصوله بأناة وتدبر ومقارنة ومقابلة وربط بعض فصوله ببعض وتفسير بعض فصوله ببعض وكان منصفا بعيدا عن الهوى والمكابرة يظهر على هذه المعجزة العظمى التي تقررها هذه الجملة. وفي سورة النساء هذه الآية: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) حيث ينطوي فيها توكيد تقريري آخر فيه معنى التحدي مع الوثوق بصحة التقرير. وقد يكون في الفصول المتشابهة والوسائلية من قصص ومشاهد كونية وأخروية وغيبية شيء من التنوع والتباين أو ما لا يدركه عقل الإنسان ولكن ذلك لا يمكن أن ينطبق عليه وصف باطل قط. وإنما جاء بالأسلوب الذي اقتضته حكمة التنزيل لتحقيق

[سورة فصلت (41) : الآيات 46 إلى 48]

غاية التدعيم والتأييد لرسالة الله من إنذار وتبشير واسترعاء بما هو ماثل في الأذهان أو على سبيل التقريب والتمثيل على ما نبهنا إليه في المناسبات العديدة السابقة. وقوة العبارة التأكيدية جديرة بالتنويه من حيث انطواؤها على توكيد كون القرآن تنزيلا من الله وكون ما ينزل الله لا يمكن أن يتسرب إليه باطل أو شبهة من باطل، وينطوي في العبارة إلى هذا بثّ شعور قوي في النبي صلى الله عليه وسلم بالوثوق والاستعلاء على الكفار كما يتبادر لنا وقد يكون هذا من أهداف العبارة القرآنية والله أعلم. [سورة فصلت (41) : الآيات 46 الى 48] مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) . (1) أكمامها: براعمها. (2) آذناك: بمعنى اعترفنا لك وأعلناك. (3) ما منا من شهيد: ما منا أحد يشهد أن لك شريكا. (4) ضل عنهم: غاب عنهم. (5) ظنوا: هنا بمعنى أيقنوا والكلمة من الأضداد. (6) محيص: مفر أو ملجأ. المتبادر أن هذه الآيات جاءت معقبة على الفصل السابق لتقرر: أولا: مسؤولية كل امرئ عن عمله صالحا كان أو سيئا وجزاؤه عند الله عليه حسب ذلك دون ظلم ولا إجحاف لأن الله لا يمكن أن يظلم عبيده. ثانيا: ولتعلن أن مرد علم الساعة أي موعد يوم القيامة إلى الله الذي عنده كل شيء كان أو سيكون حتى لا تخرج ثمرة من برعمها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلّا بعلمه.

[سورة فصلت (41) : الآيات 49 إلى 51]

ثالثا: ولتحكي ما سوف يكون من أمر المشركين يوم القيامة حيث يسألهم الله عن شركائه الذين أشركوهم معه فلا يجدون مناصا من الاعتراف بحقيقة الأمر والتراجع عما كانوا يقولون به وتنزيه الله عن الشركاء وقد غاب عنهم شركاؤهم الذين كانوا يدعونهم وتيقنوا أن لا محيد لهم ولا مخلص من عقاب الله وعذابه. والآيات في مجموعها في معرض إنذار المشركين والتنديد بهم. وقد استهدفت فيما استهدفته إثارة الندم والارعواء فيهم إذ يسمعون ما سوف يكون من أمرهم وخذلان شركائهم لهم يوم القيامة. والآية الأولى من الآيات الحاسمة في صراحتها وقطيعتها بأن المرء إنما يعمل ما يعمل من أعمال صالحة وسيئة- ومن ذلك الإيمان والكفر- باختياره وإرادته وأنه يتحمل من أجل ذلك تبعة عمله وأن الثواب والعقاب إنما يكونا وفق هذا الاختيار ونتيجة له. وجملة وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) على لسان الله عز وجل تأتي هنا مرة أخرى وقد جاءت في الآية [29] من سورة (ق) التي سبق تفسيرها. وقد علقنا على مداها بما يغني عن التكرار فنكتفي بهذا التنبيه. [سورة فصلت (41) : الآيات 49 الى 51] لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51) . (1) دعاء: بمعنى طلب أو رغبة. ذكر الكفار في الآيات وإنذارهم يجعلان الصلة قائمة بينها وبين السياق.

[سورة فصلت (41) : الآيات 52 إلى 54]

ويسوغان القول إنها جاءت استطرادية لتصف أخلاق الكفار الذين كانت تتألف منهم أكثرية الناس في البيئة التي تنزل فيها: فالإنسان من هذه الأكثرية لا يسأم من طلب الخير والاستمتاع به فإذا مسّه شرّ وقع في اليأس واستولى عليه القنوط، وإذا كشف الله ضرّه وبدله بنعمة ورحمة فإنه يجحد فضل الله ويعتبر ما أصابه من ذلك طبيعيا وحقا ولا يلبث أن يستغرق في الدنيا ويطمئن إليها وينسى الله والآخرة وما فيها من خير للصالحين، وعذاب للجاحدين، ويجحد أن يكون ما ينذر به بعد الموت من خير وحسنى، وهكذا يكون ديدنه، فإذا أنعم الله عليه انصرف عنه وجحده وإذا مسّه شرّ هلع وملأ الدنيا دعاء وشكوى، والله محص على الكافرين الجاحدين ما فعلوه ومخبرهم به ومذيقهم بسببه أشدّ العذاب. والآيات قوية نافذة في تقريرها وتنديدها. وهي وإن كانت بسبيل وصف أخلاق أكثرية الناس الذين يسمعون القرآن الجاحدين لله ونعمه فإنها تمثل حالة من المجتمعات الإنسانية بصورة عامة في كل ظرف فيما يبدو من أفرادهم من تقصير في حق الله وجحود لفضله ونسيانه في أوقات الرخاء واستغراقهم في الدنيا وشهواتها ومطالبها دون تفكير في الواجبات والعواقب، وهذا يجعلها مستمد إلهام وفيض دائم للمسلم يذكره بواجبه نحو الله والناس دون ما بطر ولا جحود ولا إسراف ولا استغراق ولا قنوط. [سورة فصلت (41) : الآيات 52 الى 54] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) . (1) شقاق بعيد: هنا بمعنى شدة الخلاف والمشاققة والمعارضة. الأمر بمخاطبة الكفار يجعل الصلة قائمة بين هذه الآيات والآيات السابقة أيضا.

وقد احتوت الآية الأولى أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بتوجيه سؤال إنكاري وتقريعي للكفار عما تكون حالتهم إذا كان ما يسمعونه هو من عند الله حقا ثم كفروا به وعما إذا كان هناك من هو أشد ضلالا وأبعد في السخف والباطل ممن يقف موقف المعارضة والمشاققة بدون علم وبينة، وقد انطوى في صيغة الآية وروحها تقرير ضلالهم وسخفهم وموقفهم الباطل. واحتوت الآية الثانية إنذارا لهم بأن الله سيريهم آياته في أنفسهم وفي الآفاق حتى يجعلهم يتيقنون بأن ما جاءهم هو الحق، وتدليلا على قدرة الله على ذلك بأنه شهيد على كل شيء. واحتوت الآية الثالثة تقريعا بأسلوب التنبيه والتعجب للكفار على شدة شكهم في لقاء الله والوقوف بين يديه وتذكيرا بأسلوب التنبيه بأن الله يحيط بكل شيء مما فيه برهان على قدرته عليهم وأنهم لن يفلتوا منه ولن يعجزوه. وقد جاءت الآيات خاتمة قوية لموقف الجدل والإنذار وخاتمة قوية للسورة معا مما جرى عليه الأسلوب القرآني ومرت أمثلة عديدة له. وقد استهدفت فيما استهدفته تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتطمينه من جهة وإثارة الندم والخوف والارعواء في نفوس المشركين من جهة أخرى. وقد تعددت تأويلات المفسرين لجملة سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ حيث قالوا إنها عنت آيات الله ودلائل وحدانيته وربوبيته في مختلف مشاهد الكون ونواميسه وفي تركيب أجسامهم أنفسهم كما قالوا إنها عنت ما تحقق من وعد الله ووعيده بما كان من هلاك طواغيت الكفر منهم في بدر وغيرها وفتح مكة واعتراف جمهور العرب بأن الإسلام هو دين الحق ودخولهم فيه ثم انتصار الإسلام وانتشاره في آفاق الدنيا. وكلا القولين وجيه ووارد، والقول الثاني متسق مع البشائر والتطمينات القرآنية العديدة التي مرّ بعض أمثلة منها.

وبعض الباحثين الحديثين يسوقون هذه الجملة في ظروف ما يقع من اكتشافات كونية كدليل على إعجاز القرآن في إخباره بذلك قبل اكتشافها بعشرات القرون. ونحن نرى في هذا شيئا من التكلف الذي لا ضرورة له ولا طائل منه بسبيل إثبات وجود الله وقدرته وعظمته ببديع نواميس كونه الماثلة للعيان في كل زمان. والخطاب يعدّ للسامعين مباشرة الجاحدين للرسالة على سبيل التنديد والوعيد. ولذلك نرى الأولى أن تبقى الجملة في نطاق أحد الوجهين اللذين قال المفسرون إنها عنتهما.

سورة الشورى

سورة الشورى في السورة حملة على المشركين وإفحام لهم في سياق مواقف ومشاهد حجاجية وجدلية. وتقرير لوحدة المنبع والمبادئ بين الدعوة المحمدية ودعوة الأنبياء السابقين وتعليل اختلاف أهل الكتاب وعزوه إلى البغي والهوى ونفي كونه من أصل طبيعة الدعوة الربانية وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم في دعوته وموقفه. وتنويه بأخلاق المؤمنين وتوجيههم إلى خير سبل الحق والعدل والكرامة والقوة وتنويه بمصيرهم ومصير الكافرين ولفت نظر إلى بعض مشاهد قدرة الله وعظمته وشمول حكمه ومشيئته، وبيان لطرق اتصال الله بأنبيائه. وخاتمة السورة متصلة بمطلعها كما أن فصولها مترابطة مما يسوغ القول أنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة، وقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات [23- 25] مدنيات، وسياقها وأسلوبها يسوغان الشك في ذلك. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) . (1) يتفطرن: يتشققن.

(2) من فوقهن: قيل إن الضمير راجع إلى السموات، ومعنى الجملة على ذلك أن كل سماء تتفطر من فوق التي تليها. وقيل إنه راجع إلى الأرض. ومعنى الجملة على ذلك أن السموات تكاد تتشقق من فوق الأرض وأكثر المفسرين على أن الجملة على سبيل الاستفظاع من اتخاذ المشركين أولياء من دون الله الذي ذكر في الآية السادسة. وقد جاء في سورة مريم آيات من هذا القبيل فيها بيان أوضح: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) . 3- حفيظ عليهم: مراقب لهم ومحيط بهم ومحص لأعمالهم. ابتدأت السورة بخمسة حروف متقطعة، وقد رسمت في آيتين خلافا لمثيلاتها التي جاءت بأكثر من حرفين مثل (كهيعص) و (المص) و (المر) وقد روى البغوي أن سبب ذلك هو الاختلاف في تلاوة الحروف هنا دون السور الأخرى. وقد روى هذا المفسر أن (حم) مبتدأ و (عسق) خبر. وروى الطبري أن ابن عباس كان يقرأ هذه الحروف بدون (ع) أي (حم سق) ويقول إن السين عمر كل فرقة كائنة، والقاف كل جماعة كائنة. ومما روي في معاني الحروف أنها ترمز إلى صفات الله تعالى وقسمه بها حيث تضمنت قسما ربانيا بحلمه ومجده وعلمه وسنائه وقدرته «1» . كذلك مما روي من معانيها أنها ترمز إلى كلمات (حرب) يعز فيها الذليل ويذل العزيز من قريش و (ملك) يتحول من قوم إلى قوم و (عدو) لقريش يقصدهم و (سبي) يكون فيهم و (قدرة) الله النافذة في خلقه «2» . ونحن نتحفظ إزاء هذه الأقوال التخمينية ونرجح أنها للتنبيه والاسترعاء، كما رجحنا ذلك بالنسبة للحروف المتقطعة الأخرى. وقد أعقب الحروف توكيد وجّه الخطاب فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله العزيز الحكيم الذي له ما في السموات وما في الأرض العلي العظيم هو الذي يوحي إليه

_ (1) تفسير البغوي. (2) المصدر نفسه.

رواية عجيبة عن سر (حم عسق)

كما كان يوحي إلى النبيين من قبله. وأنه مراقب حفيظ على الذين اتخذوا من دونه أولياء وشركاء وليس هو مسؤولا ولا وكيلا عنهم، وأن السموات تكاد تتشقق من فوق الأرض من فظاعة ذلك لولا أن الملائكة يسبحون بحمد ربهم ويطلبون المغفرة لأهل الأرض ولولا أن الله سبحانه وتعالى قد اتصف بالغفران والرحمة مع علوّ شأنه وبالغ عظمته وقوته. وأسلوب الآيات قوي نافذ، وهي تمهيد لما يأتي بعدها. رواية عجيبة عن سرّ (حم عسق) ولقد روى الطبري حديثا في تفسير المقطعين وصفه المفسر ابن كثير وهو من أئمة المحدثين بأنه غريب عجيب منكر نورده كمثال لما كان يساق على هامش الآيات القرآنية نتيجة لما وقع من نزاع وخلاف سياسي بين الأمويين والهاشميين وبين العباسيين والعلويين. والحديث معزو إلى حذيفة بن اليمان وقد جاء فيه: أن رجلا جاء إلى ابن عباس فسأله عن تفسير المقطعين فأعرض عنه مرة ثم مرة فقال حذيفة له: أنا أنبئك به إنهما نزلا في رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم يقال له عبد الله أو عبد الإله ينزل على نهر من أنهار المشرق تبنى عليه مدينتان، يشق النهر بينهما شقا فإذا أذن الله في زوال ملكهم وانقطاع دولتهم ومدتهم بعث الله على إحداهما نارا ليلا فتصبح سوداء مظلمة قد احترقت كأنها لم تكن مكانها وتصبح صاحبتها متعجبة كيف أفلتت، فما هو إلّا بياض يومها ذلك حتى يجتمع فيها كل جبار عنيد منهم ثم يخسف الله بها وبهم جميعا، فلذلك قوله حم (1) عسق (2) يعني عزيمة من الله وفتنة وقضاء، حم عين يعني عدلا منه، سين يعني سيكون، وقاف يعني واقع بهاتين المدينتين!. [سورة الشورى (42) : الآيات 7 الى 8] وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8)

(1) أم القرى: كناية عن مكة. (2) يوم الجمع: كناية عن يوم القيامة. الآيتان معقبتان على الآيات السابقة، ومتممتان لما احتوته الآية السادسة بخاصة، التي وجه فيها الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم حيث احتوت أولاهما تنبيها له أيضا بأن الله إنما أوحى إليه بالقرآن بلسان عربي لينذر أهل مكة وما حولها ويدعوهم إليه وينذرهم بيوم القيامة الذي لا ريب في مجيئه والذي سوف يكون الناس فيه فريقين فريقا في الجنة وفريقا في النار. وهذه هي مهمته وهو غير وكيل على أحد ولا مسؤول عن أحد كما ذكرت الآية التي قبلها. وقد احتوت الآية الثانية تنبيها آخر للنبي صلى الله عليه وسلم على أن الله قادر لو شاء على جعل الناس أمة واحدة ولكن حكمته اقتضت أن يكون منهم الصالحون المستجيبون الذين يهتدون بهديه ويدخلهم في رحمته وينالون برّه، والظالمون المنحرفون الفاسدون الذين لن يكون لهم ولي ولا نصير. والآيتان مع الآية السادسة التي قبلها هي بسبيل بيان مهمة النبي صلى الله عليه وسلم الإنذارية والتبشيرية من جهة وتسليته عن موقف الجحود الذي يقفه الكفار المشركون من جهة أخرى كما هو المتبادر. وفي كلمة وَالظَّالِمُونَ في الآية الثانية من الآيتين دليل على أن المقصود من (الذين يشاء الله تعالى أن يدخلهم في رحمته) هم الفريق الذي تحلى بحسن النية ورغب في الحق والهدى وابتعد عن الظلم والهوى. بحيث يمكن أن يقال إن هذه الآية بسبيل بيان حكمة الله تعالى في جعل الناس ذوي إرادة واختبار. فالراغبون في الحق والهدى وذوو النيات الحسنة يختارون الهدى فيدخلون في رحمة الله وينالون رضاءه. والمنحرفون عن الحق ذوو النيات الخبيثة يختارون الضلال فيستحقون غضب الله ومقته ولا يمكن أن يكون لهم ولي يحميهم ولا ناصر ينصرهم. وفي آية سورة الأعراف: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ

تعليق على حديث مروي في صدد الفقرة فريق في الجنة وفريق في السعير (7)

فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) ضابط محكم في صدد من يدخلهم برحمته. وفي الآية الأولى من الآيتين عود على بدء في صدد عروبة القرآن التي حكت بعض آيات السورة السابقة ما كان من المشركين من جدل فيها. فالله قد جعل القرآن عربيا حتى يفهمه أهل مكة ومن حولهم، واعتراضهم على هذا لا محل له. فالله كما أوحى إلى الأنبياء من قبل النبي صلى الله عليه وسلم بلسان أقوامهم أوحى الله إليه بلسان قومه. وقد توهم الآية الأولى- لأول وهلة- اقتصار الدعوة على أهل مكة وما حولها وعلى العرب الذين أنزل القرآن بلسانهم. ولما كان شمول الدعوة قد تقرر في آيات كثيرة تقريرا حاسما مما مرت منه أمثلة عديدة فالعبارة هنا تحمل على ما كان من ظرف خاص بين النبي صلى الله عليه وسلم من جهة وبين أهل مكة وما حولها من العرب من جهة أخرى على ما ذكرناه في مناسبات سابقة مماثلة. تعليق على حديث مروي في صدد الفقرة فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) ولقد روى البغوي بطرقه في صدد جملة فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) حديثا عن عبد الله بن عمرو قال: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم قابضا على كفّيه ومعه كتابان فقال: أتدرون ما هذان الكتابان؟ قلنا: لا يا رسول الله إلّا أن تخبرنا. فقال للذي في يده اليمنى: هذا كتاب من ربّ العالمين فيه أسماء أهل الجنّة وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقرّوا نطفا في الأصلاب وقبل أن يستقرّوا نطفا في الأرحام. إذ هم في الطينة منجدلون فليس بزائد فيهم ولا بناقص منهم إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة. ثمّ قال للذي في يساره: هذا كتاب من ربّ العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقرّوا نطفا في الأصلاب وقبل أن يستقرّوا نطفا في الأرحام. إذ هم في الطينة منجدلون فليس بزائد فيهم ولا بناقص منهم إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة.

[سورة الشورى (42) : الآيات 9 إلى 12]

قال عبد الله بن عمرو: ففيم العمل إذا يا رسول الله؟ فقال: اعملوا وسدّدوا وقاربوا فإنّ صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أيّ عمل. وإنّ صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أيّ عمل ثم قال فريق في الجنة فضل من الله وفريق في السعير عدل من الله» » . والحديث على الأرجح مدني والآية مكية وإذا صح فإن المتبادر منه أولا: أن عبارة (كتابان) في يمينه ويساره هي بسبيل التمثيل وليست بسبيل كتابين حقيقيين فيهما جميع أسماء بني البشر في جميع أدوار الدنيا. وثانيا: إنه بسبيل التنبيه على سبق علم الله الأزلي بأهل الجنة وأهل النار وليس في نصه ولا روحه ما ينتقض ما تبادر لنا من الآية الثانية. [سورة الشورى (42) : الآيات 9 الى 12] أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) . (1) يذرؤكم: يكثركم وينميكم أو يخلقكم ويظهركم. في الآية الأولى تساؤل استنكاري عن اتخاذ المشركين أولياء من دون الله، ورد تقريري بأن الله هو وحده الجدير بالولاء لأنه هو الذي يحيي الموتى وهو القدير على كل شيء. وفي الآية الثانية بيان صادر عن النبي صلى الله عليه وسلم موجه إلى الناس أو على الأرجح إلى الكفار بقصد إشهاد الله وتحكيمه فيما بينه وبينهم من خلاف، فإلى

_ (1) والبغوي بالإضافة إلى روايته هذا الحديث بطرقه يعزو روايته إلى الإمام أحمد أيضا. وقد أورده ابن كثير عزوا إلى هذا الإمام.

تعليق على جملة ليس كمثله شيء

الله تعالى مرجع كل شيء وهو الحكم العدل بين الناس فيما اختلفوا فيه وهو ربّه الذي عليه يتوكل وإليه ينيب ويستند، وينطوي في البيان معنى الوثوق واليقين بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو على حق في الخلاف القائم بينه وبين المشركين كما هو المتبادر. وجاءت الآيتان الأخريان للبرهنة على استحقاق الله وحده الولاء والاعتماد والإنابة والربوبية الشاملة جريا على الأسلوب القرآني: فهو الذي خلق السموات والأرض، وجعل للناس أزواجا من أنفسهم لينموا ويكثروا، وخلق لهم من الأنعام أزواجا كذلك. وهو الذي لا يماثله شيء في عظمته وقدرته وصفاته وكنهه السميع لكل شيء البصير بكل شيء الذي في يده تصريف السموات والأرض وبسط الرزق وقبضه وفقا لمقتضيات علمه وحكمته لأنه عليم بكل شيء. والمتبادر أن الآيات جاءت معقبة على الآيات السابقة ومؤكدة لها. والآية الثانية كما قلنا موجهة مباشرة من النبي صلى الله عليه وسلم إلى المخاطبين وفي مثل هذه الحالة يفرض محذوف بعد كلمة (من شيء) وهو (قل) فيتسق حينئذ الفصل القرآني. وهذا مما جرى عليه الأسلوب القرآني وقد مرّ منه أمثلة عديدة. وجملة وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ موجهة إلى مخاطبين حاضرين. وتحتمل أن يكون التوجيه فيها مطلقا وتحتمل أن يكون خاصا لفريق في موقف من المواقف. وروح الفصل والآيات السابقة معا التي تستعمل ضمير الغائب بالنسبة للكفار تجعلنا نرجح الإطلاق في التوجيه. تعليق على جملة لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وجملة لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ- وإن جاءت في مقامها لتنفي أي احتمال للتماثل بين الله تعالى في قدرته وعظمته وشمول تصرفه وحكمته وكمال صفاته وبين أي كان ممن يتخذهم المشركون شركاء له في الدعاء والعبادة وفي معرض

[سورة الشورى (42) : آية 13]

التنديد بالمشركين- فإنها من حيث هي حاسمة في صدد الذات الإلهية وسرها، ويصح أن تكون ضابطا عاما تجب ملاحظته في كل ما ذكر في القرآن من صفات الله الذاتية والفعلية ومن كل ما نسب إليه سبحانه من أعضاء وحركات وحواس كاليد والعين والوجه والمجيء والنزول والعروج والاستواء والرؤية والسمع والبصر والكلام والروح والغضب والفرح والكيد والمكر إلخ واعتبار كل مماثلة يمكن أن يتصورها الإنسان بين الله سبحانه في أي شيء وبين أي شيء آخر ممتنعة ومنتفية. [سورة الشورى (42) : آية 13] شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) . (1) شرع: بيّن أو فرض أو سن أو خط. في الآية: 1- تقرير بأن ما شرعه الله من الدين للناس الذين يوجه إليهم القرآن على لسان النبي صلى الله عليه وسلم هو ما شرعه ووصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام. وقد وصاهم أن يثبتوا عليه دون خلاف ولا فرقة. 2- وإشارة إلى ما كان من استعظام المشركين لما يدعوهم النبي صلى الله عليه وسلم إليه من وحدة الله مع أن ذلك هو ما دعا إليه الأنبياء من قبله. 3- وتقرير بأن الله إنما يختار ويقرب إليه من يشاء ويهدي إليه أولئك الذين ينيبون إليه ويرغبون في هداه. والآية متصلة بالسياق الذي يندد بالمشركين لاتخاذهم أولياء من دون الله. وجملة اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) من الجمل التي يصح أن تكون مفسرة ومقيدة للجمل التي تأتي مطلقة في آيات أخرى كما

تعليق على آية شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك

هو واضح. وكمناسبة قريبة فإن فيها تدعيما لما شرحناه في صدد الآية الثامنة من السورة. تعليق على آية شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ والآية في حدّ ذاتها احتوت تنويها بوحدة المنبع والمبادئ في الأديان التي جاء بها رسل الله. وتوكيدا بوجوب الثبات على ذلك وعدم الانقسام والتفرق فيه. ثم تقريرا بأن الرسالة المحمدية تنبع من نفس المنبع، وتقوم على نفس المبادئ، وتتقيد بالواجب الذي أمر الله بالثبات عليه وعدم الانقسام والتفرق فيه. وقد استهدفت بالإضافة إلى ذلك إقناع العرب بأن الرسالة المحمدية ليست بدعة جديدة وإنما هي نفس الدعوة التي دعا إليها الأنبياء السابقون وهذا يلهم أن العرب كانوا يعرفون ويعترفون بأن الله تعالى أرسل قبل النبي صلى الله عليه وسلم أنبياء. وهو ما حكته عنهم آيات عديدة منها آية سورة الأنبياء هذه: بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) ومنها آية سورة القصص هذه: فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى [48] ومنها آية سورة الأنعام هذه: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ [157] وهذا ما يجعل حجة الآية دامغة لهم. ويلحظ أن الآية اقتصرت على ذكر أربعة أنبياء. ومن المتبادر أن الذين ذكروا هم الأكثر شهرة وتداولا وعمومية عند سامعي القرآن. ولقد ذكر الطبري في سياق تفسير الآية [7] من سورة الأحزاب التي فيها ذكر الأنبياء الأربعة مع النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذه الآية وهي: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ... عزوا إلى قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم

كان يقول: «كنت أول الأنبياء في الخلق وآخرهم في البعث» . وأورد هذا البغوي وابن كثير في سياق آية الأحزاب كذلك. وهذا يذكر أن الحديث من مرويات ابن أبي حاتم أحد أئمة الحديث وأنه رواه مسلسلا إلى قتادة عن الحسن عن أبي هريرة بهذا النص: «روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ الآية، أنه قال: «كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث فبدأ بي قبلهم» وعقب ابن كثير على الحديث بقوله: إن أحد رواته سعيد بن بشير فيه ضعف وإن آخرين رووه عن قتادة مرسلا أو موقوفا والله أعلم. ولقد أورد ابن كثير في سياق آية الأحزاب حديثا آخر رواه أبو بكر البزار مسلسلا إلى أبي هريرة أنه قال: «خيار ولد آدم خمسة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وخيرهم محمد» وعقب ابن كثير على هذا الحديث بقوله إنه موقوف وإن في أحد رواته حمزة الزيات ضعفا. والأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة وفيها من العلل ما يسوغ التوقف فيها كما هو ظاهر. ونكرر ما قلناه إن اختصاص الأنبياء الأربعة بالذكر مع النبي صلى الله عليه وسلم هو بسبب كونهم الأكثر شهرة وتداولا وعمومية عند سامعي القرآن. فقد كانوا ينتسبون إلى إبراهيم عليه السلام وينسبون إليه تقاليدهم الدينية ويزعمون أنهم على ملّته. وموسى وعيسى هما أصل الديانتين اليهودية والنصرانية اللتين كانت لهم بهما وبأتباعهما صلات وثيقة متنوعة. وكانوا متأثرين بهما إلى حد كبير. وكانتا في نظرهم هي الديانات السماوية الكتابية، ونوح هو أبو البشر بعد الطوفان حيث تفرعت الأجناس من أولاده سام وحام ويافث على ما ورد في سفر التكوين الذي كان اليهود والنصارى يتداولونه ويعتبرونه من أسفارهم الهامة والذي كان العرب يعرفون كثيرا مما جاء فيه من أخبار وقصص عن طريقهم. ولقد روى المفسرون «1» أقوالا عديدة معزوة إلى علماء التابعين في المقصود

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير.

[سورة الشورى (42) : آية 14]

من (الدين) الذي شرعه الله ووصى به الأنبياء السابقين ومحمدا صلى الله عليه وسلم. منها أنه تحليل الحلال وتحريم الحرام. ومنها أنه تحريم الأمهات والبنات والأخوات، ومنها أنه إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإقرار لله بالطاعة. والمتبادر أن الجملة تشمل كل ذلك أو بكلمة ثانية تشمل المبادئ المحكمة الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية في رسالات أنبياء الله تعالى. ولعلها مما هدفت تقرير كون ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ليس بدعا بل إنه متسق مع ما وصى الله تعالى به الأنبياء من قبله عامتهم وخاصتهم لا سيما الذين يعرفون أنهم أصل الشرائع الممارسة والله أعلم. [سورة الشورى (42) : آية 14] وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) . تضمنت الآية: 1- إشارة تنديدية إلى اختلاف الذين جاءهم أنبياء الله بالدين الذي شرعه الله للناس. 2- وتقريرا بأن ذلك إنما كان منهم بغيا وشذوذا عن الحق وعن أمر الله الذي أكّد بوجوب عدم التفرق في الدين. 3- وتقريرا بأن الله كان جديرا بالقضاء بينهم في الدنيا فيؤيد الحق وأهله ويزهق الباطل وأصحابه لولا أن حكمته اقتضت تأجيل ذلك إلى أجل معين عنده. 4- وتقريرا بأن الذين ورثوا كتب الله التي أنزلها على أنبيائه السابقين قد وقعوا منها في شكوك شديدة أدت إلى ما هم فيه من خلاف وفرقة وبلبلة. والآية متصلة بسابقتها كما هو واضح، ومن المحتمل أن يكون ما فيها من تعليل للخلاف القائم بين الناس في دين الله الذي جاء به أنبياؤه الأولون

تعليق على جملة وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم

جوابا على احتجاج وجاهي احتج به المشركون، كما أن من المحتمل أن يكون ذلك توضيحا لأسباب واقع الأمر من الفرقة والخلاف بين الذين يتبعون الأديان التي أتى بها أنبياء الله السابقون، وقد تسوغ الآية التالية لهذه الآية ترجيح الاحتمال الثاني. تعليق على جملة وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ولقد تضمنت الآية تقرير كون الخلاف والانقسام والنزاع بين أهل الأديان السماوية ليس ناشئا من طبيعة دين الله الذي شرعه للناس على لسان رسله وأنبيائه والذي أمر الله بالثبات عليه. وإنما هو نتيجة لما كان من بغي وأهواء ومآرب وسوء تأويل وشذوذ بين الذين ورثوا كتب الله عن أنبيائهم، لأن الدين الذي شرعه الله والذي هو- على ما هو المستمد من القرآن وجوهر الكتب السماوية- وحدة الله وربوبيته الشاملة وعدم إشراك أي شيء به والتزام الفضائل والمكارم الأخلاقية الشخصية والاجتماعية ونبذ الآثام والفواحش والمنكرات لا يتحمل انقساما ولا خلافا ولا نزاعا في أي ظرف ومكان. وقد تكرر تقرير ذلك والنعي على أهل الكتاب والتنديد بهم بسببه في مواضع كثيرة من السور المكية والمدنية. وفي هذا ما فيه من خطورة وتلقين جليل مستمر المدى. [سورة الشورى (42) : آية 15] فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) . (1) لا حجة بيننا وبينكم: ليس بيننا وبينكم مجال للمحاججة والخصومة. في الآية أمر للنبي صلى الله عليه وسلم:

تعليق على آية فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب

1- بأن يدعو إلى ما أمر به ويثبت عليه بعد أن بيّن الله له في الآية السابقة أن الخلاف والنزاع والشك الذي وقع فيه أهل الأديان والكتب المنزلة ليس من طبيعة دين الله الذي شرعه على لسان أنبيائه الأولين ولا يتبع أهواءهم وميولهم. 2- وبأن يعلن أنه مؤمن بما أنزل الله من كتب ومأمور بأن ينصف الناس ويعدل بينهم فيكتفي ببيان الحق وتبليغ وحي الله والقول لهم بعد ذلك أنتم وشأنكم وليس بيني وبينكم مجال للخصومة والتنازع، ولكم أعمالكم وأنتم مسؤولون عنها ولنا أعمالنا ونحن مسؤولون عنها ومرد الجميع إلى الله وهو يحكم بيننا بالعدل ويقضي بالحق. تعليق على آية فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ والآية استمرار في السياق كما هو واضح، ومن المحتمل أن ينصرف ضمير الجمع المخاطب فيها إلى الذين ورثوا الكتاب وتفرقوا في دين الله كما أن من المحتمل أن ينصرف إلى المشركين. ومع أن معظم المفسرين «1» صرفوه إلى المشركين فإن روح العبارة ومقامها يلهمان أن صرفه إلى الذين ورثوا الكتاب هو الأولى. وعلى كل حال فإن فيها تثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين وتوكيدا عليهم بالاستقامة على ما هم عليه من حق وهدى وعدم متابعة الأهواء والنزعات التي أدت إلى انحراف الأمم السابقة عن كتب الله ودينه الذي شرعه. وإعلانا للعقيدة الإسلامية في صدد ربوبية الله الشاملة للجميع، وفي صدد الكتب السماوية وأصحابها حيث تقرر وحدة الله وربوبيته الشاملة للجميع، وتؤمن بما أنزل الله من كتاب وتأمر

_ (1) انظر تفسيرها في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والزمخشري والطبرسي.

بالعدل والإنصاف مع الذين لا يدينون بالإسلام وبتركهم وشأنهم إذا ما التزموا نفس الموقف إزاء المسلمين وتفوض أمر الجميع إلى الله عز وجل ليؤيد من كان على الحق وثبت فيه، ويخزي ويعاقب من انحرف عنه. وفي هذا ما فيه من اتساق مع المبادئ القرآنية المحكمة والتلقين الجليل المستمر المدى. وفي أمر الله للنبي صلى الله عليه وسلم بالقول إنه أمر بإعلان إيمانه بكل ما أنزل من كتاب وبأن ربه وربهم واحد بعد أن قررت الآيات السابقة لهذه الآية وحدة المنبع والمنهج بينهم هدف عظيم المدى وهو فتح باب اللقاء والتفاهم على مصراعيه بين أهل القرآن وأهل الكتب السابقة ليتكون منهم جبهة واحدة متحدة في توحيد الله والدعوة إليه وإلى المبادئ السامية الأخلاقية والاجتماعية التي احتوتها كتب الله والتزامها تحت راية الإسلام التي هي راية أهل الكتاب وأنبيائهم معا تبعا لوصفهم بالإسلام والمسلمين في آيات كثيرة مكية ومدنية منها آيات سورة البقرة هذه: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) ، وكذا: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ... [128] ، وآية سورة آل عمران هذه: وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وآية سورة المائدة هذه: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111) ، وآية سورة يونس هذه: وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) وآية سورة القصص هذه: وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) وآية سورة الحج هذه: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ... «1» [78] . ولقد ظلت أوامر القرآن بعد هذه الآية تترى على النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان ما أمر

_ (1) هناك آيات كثيرة أخرى من هذا الباب مكية ومدنية.

بإعلانه في هذه الآية. ومنها آيات واسعة شاملة مثل آية سورة البقرة هذه: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) «1» تحصيلا لذلك الهدف العظيم. ولقد تحقق هذا الهدف بمقياس واسع بما كان من إيمان معظم النصارى وفريق من أهل العلم من اليهود في الحجاز في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالنبي والقرآن وانضووا إلى الراية الإسلامية على ما قررته آيات عديدة مكية ومدنية أوردناها في مناسبات سابقة «2» . كما آمن بها معظم الكتابيين من مسيحيين وموسويين في بلاد الشام والعراق ومصر وشمال افريقية وجنوب أسبانية نتيجة لما ظهر لهم من أعلام نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وصدق القرآن وحملة رايته وإذا كان بقي منهم من لم يؤمن بهما فمرد ذلك إلى أسباب أخرى قررتها آيات قرآنية عديدة أوردناها في مناسبات سابقة أيضا «3» . وما يزال هذا الهدف قائما إلى الآن وإلى ما شاء الله حتى يتحقق وعد الله الحق في آية سورة الفتح هذه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) . هذا، والمتبادر أن الآية وهي تقرر العقيدة الإسلامية بالإيمان بما أنزل الله من كتاب إنما عنت كتب الله التي لا تحريف فيها. هذا في حين أن ما هو متداول اليوم من أسفار العهدين القديم والجديد لا يمكن أن يتصف بصفة كتاب الله وفيها دلالات حاسمة على أنها من تأليف كتّاب متعددين في ظروف مختلفة. وفيها ما

_ (1) هناك آيات أخرى من بابها أيضا. (2) اقرأ آيات سور: آل عمران [112- 113 و 199] والنساء [162] والمائدة [83- 84] والأنعام [114] والرعد [36] والإسراء [107- 108] والقصص [51- 53] والعنكبوت [46] والأحقاف [10] . (3) اقرأ آيات سور: البقرة [40- 148] وآل عمران [69- 120] والنساء [44- 55] والمائدة [12- 19 و 59- 66] والتوبة [29- 34] .

هو منسوب إلى الله ورسله مع تنافيه مع المبادئ القرآنية المحكمة الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية والسلوكية مثل ربوبية الله الشاملة ووحدته المطلقة المنزهة عن كل شائبة ومبادئ الحق والعدل والرحمة والإنسانية والمساواة وحظر الربا والظلم والبغي والعدوان والمنكرات والآثام إلخ على ما شرحناه في سياق سورة الأعراف. ولقد أكد القرآن وقوع تحريف وإخفاء ونسيان في كتب الله المنزلة كما جاء في آيات سورة البقرة هذه: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) ، وهذه: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) ، وسورة آل عمران هذه: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) ، وسورة المائدة هذه: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ

[سورة الشورى (42) : آية 16]

رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) . والمتبادر من هذا أن العقيدة الإسلامية تظل مقيدة بالنص القرآني المطلق آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وعدم الاعتراف بنسبة أي شيء إلى الله ورسله إذا كان يتنافى مع المبادئ والمثل العليا المحكمة الإيمانية والأخلاقية. ولقد جاء في سورة المائدة هذه الآية: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ... [48] بحيث يسوغ القول إن الله عز وجل قد جعل القرآن- الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد- للمسلم مقياسا يقيس عليه ما ينسب إلى الله مما في المتداول من الكتب الدينية فما اتسق فيه من المبادئ والمثل المحكمة مع مثلها في القرآن جاز أن يكون من عند الله وحسب والله تعالى أعلم. وقد ركزنا الكلام على الكتب التي في أيدي النصارى واليهود لأنهم الذين يعنيهم القرآن بالدرجة الأولى بتعبير أهل الكتاب والذين كان بينهم وبين العرب قبل الإسلام ثم بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم اتصال مباشر على ما ذكرناه في التعليق على أهل الكتاب في سورة المدثر. وقد نبهنا في هذا التعليق على أن تعبير أهل الكتاب أوسع من أن يقتصر على اليهود والنصارى وأنه لا مانع من أن يشمل كل ملة تدعي أن في يدها كتابا منسوبا إلى الله وموحى به إلى أحد رجالها العظماء القدماء وعليه سمة من سمات كتب الله المعروفة ومن ذلك الكتب المنسوبة إلى عظماء رجال من الهند والصين وغيرهما وفيها شرائع ووصايا وتعاليم وعقائد ولو كان ما فيها أو بعض ما فيها مخالفا للقرآن لأن هذا شأن الكتب التي يتداولها اليهود والنصارى اليوم فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار. [سورة الشورى (42) : آية 16] وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16)

تعليق على آية والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة

(1) داحضة: ساقطة أو باطلة. تقرر الآية بأن حجة الذين يجادلون في وحدة الله وصفاته واستحقاقه للعبادة والولاء وحده وما في دعوة رسوله من حقّ وصدق قد سقطت وبطلت بعد أن ظهر الحق واستجاب إلى الدعوة أصحاب الرغبة الصادقة في الحق البريئون من العناد والمكابرة وعلى الذين يحاجون ويكابرون بعد ذلك غضب الله وعذابه الشديد. تعليق على آية وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ والآية جاءت معقبة على الآية السابقة لها مباشرة في الدرجة الأولى وعلى الفصل القرآني جميعه بصورة عامة. وقد انطوى فيها ردّ على المشركين الذين رجحنا أنهم هم الذين كانوا يتحججون بما عليه أهل الكتاب من انقسام وخلاف، ومعنى الاستعلاء عليهم والإفحام لهم في الآية قوي. والمتبادر أن الآية قد عنت استجابة من استجاب إلى دعوة النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب بالإضافة إلى من استجاب إليها من العرب. وهذا مما يقوي في الآية ذلك المعنى، ومما يقويه بقوة وروعة وشمول أن الذين استجابوا إلى الدعوة في العهد المكي كانوا يمثلون البشرية جميعا تقريبا تمثيلا تاما على اختلاف الطبقات والألوان والأقطار والأجناس والأديان والنحل حيث كان فيهم الغني والفقير والشريف والمسكين والزعيم والصعلوك والشباب والشيوخ والنساء والرجال والصبيان والفتيات والأحرار والأرقاء والتاجر والصانع والزارع والراعي والحضري والبدوي والقرشي وغير القرشي والشامي والمصري والعراقي واليمني والفارسي والرومي والحبشي والسوداني والمشرك والصابئي والحنيفي والوثني والكوكبي والمجوسي واليهودي والنصراني. فكان في الجماعة الإسلامية الأولى التي تكونت تحت زعامة النبي صلى الله عليه وسلم نموذج رائع للمجتمع الإنساني الذي استهدفت الرسالة المحمدية إقامته

[سورة الشورى (42) : الآيات 17 إلى 18]

من جميع الأجناس والألوان والطبقات يدينون لربّ واحد شامل الربوبية، متصف بجميع صفات الكمال منزه عن الشوائب في نطاق الأخوة والمساواة والحرية والعدل والإحسان والبر والتعاون والتضامن والتوادّ والمحبة والسلام والتسامح. لا يطغى فيه ولا يتعالي قوي على ضعيف ولا غني على فقير ولا زعيم على صعلوك، يؤخذ من غنيهم لفقيرهم ويرحم قويهم ضعيفهم، ويعين قادرهم عاجزهم ويؤيد أعلاهم أدناهم. ويجيز أدناهم على أعلاهم ويتساوى نساؤهم مع رجالهم في الحقوق والواجبات والتكاليف والنتائج الدنيوية والأخروية يتفانون في الله ورضوانه ويجاهدون في سبيله ويحملون راية دعوته ويدعون إليها بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن إلّا من ظلم وبغى. لا يستبد أحد منهم في رأي، وأمرهم شورى بينهم. يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر يجتنبون الفواحش ما ظهر منها وما بطن ويتقون الله في السر والعلن ويقومون بواجبهم نحو الله والناس لا يبغون ولا يعتدون على أحد ولا يرضخون لظلم ولا بغي، لا يضيقون بمن يريد أن يحتفظ بدينه إذا هو وادّهم وسالمهم بل يبرونه ويعطونه حقه ويحكمون له إذا تقاضى عندهم بالحق وتكون له حريته الدينية والمدنية والقضائية يطيعون ولاة أمورهم الذين يجب أن يكونوا منهم فيما لا معصية فيه. ويأخذون حظهم من الدنيا كسبا وسعيا ومتاعا. ويستمتعون بزينة الله التي أخرجها لعباده والطيبات من الرزق من دون إسراف وينتفعون بكل ما في الكون من نواميس ومنافع مما احتواه القرآن في مختلف فصوله المكية والمدنية واحتوته السنة النبوية الثابتة القولية والفعلية. وهذا التمثيل للبشرية في الإسلام ظل مستمرا بعد الهجرة مع اتساع نطاقه ثم ظل مستمرا بعد النبي صلى الله عليه وسلم مع اتساع نطاقه كذلك إلى الآن وسيظل إلى ما شاء الله حتى يتحقق وعد الله ويظهر الإسلام على الدين كلّه مما يزيد معنى العبارة القرآنية قوة بعد قوة. [سورة الشورى (42) : الآيات 17 الى 18] اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18)

[سورة الشورى (42) : الآيات 19 إلى 20]

(1) الميزان: هنا كناية عن العدل أو العقل الذي يزن المرء به الحق والباطل، أو القدرة على الموازنة بين الحق والباطل وكل هذا ما أورده المفسرون في تأويل الكلمة، وبعضهم روى أنه الميزان العادي ولكن هذا لا يتوافق مع روح العبارة القرآنية. احتوت الآيتان توكيدا بأن الله هو الذي أوحى بالكتاب لرسوله وهو حقّ لا يتحمل مراء، ووهب الناس قوة الموازنة بين الحق والباطل ليستطيعوا تمييز الحق واتباعه، وعين لهم موعدا بعد الموت يبعثهم فيه ليحاسبوا فيه على أعمالهم. وتنبيها على أن هذا الموعد أقرب مما يظنه السامع، وبيانا بأن الذين يستعجلون هذا الموعد هم الذين لا يؤمنون به في حين أن المؤمنين يعرفون أنه حق لا ريب فيه ويحسبون حسابه في تهيب وإشفاق، وتقريعا للكفار بتقرير كونهم في مماراتهم وشكّهم في الآخرة موغلين في الضلال والباطل. والآيتان متصلتان بما سبقهما فقد جاء في الآية السابقة لهما أن الله يجمع بين الناس وأن المصير إليه فجاءت الآيتان لتوكيد ذلك. والاستعجال الذي ذكر في الآية الثانية كان يقع من الكفار على سبيل التحدي وفي معرض الإنكار والجحود والاستخفاف مما تكررت حكايته عنهم ومرت أمثلة عديدة منه حيث يبدو أنهم لا يفتأون يكررونه تحديا واستخفافا. [سورة الشورى (42) : الآيات 19 الى 20] اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) . (1) الحرث: هنا بمعنى الثواب أو الحظ أو النفع.

[سورة الشورى (42) : الآيات 21 إلى 22]

في الآية الأولى تنبيه إلى لطف الله بعباده ورزقه لمن يشاء دون مانع ولا حائل، وتنويه بصفتي القوة والعزة اللتين يتصف بهما. وفي الثانية تنبيه إلى أن الذين يبتغون الآخرة بإيمانهم وعملهم الصالح يزيد الله حظهم فيها وأن الذين يكتفون بحظ الدنيا ولا يحسبون حساب الآخرة قد ينالون منها ما يبتغون ثم لا يكون لهم في الآخرة حظ ولا نصيب. والآيتان متصلتان بما سبقهما حيث ذكر في الآيات السابقة الساعة أو يوم القيامة أو الآخرة فجاءت الآيتان في صدد ذلك أيضا. والظاهر أن الكفار كانوا يتبجحون بما أوتوا من رزق وقوة ويرون في هذا دليلا على حظوتهم عند الله. فأريد بالآيتين الردّ عليهم وتقرير حقيقة الأمر في أحوال الناس الدنيوية وكونها مظهرا من مظاهر ناموس الله في ملكوته. وبيان كون ما يتيسر للناس في الدنيا من حظ لا يغني عنهم شيئا إذا لم يبتغوا وجه الله ويحسبوا حساب الآخرة بالإيمان والعمل الصالح. وتبجح الكفار بقوتهم وما أوتوه من سعة عيش وكثرة أموال وأولاد قد تكرر، وفي آية من سورة سبأ حكى عنهم اعتقادهم أن ذلك سوف يقيهم من العذاب على ما مرّ شرحه في تفسير السورة المذكورة. وقد ردت آيات من السورة عليهم برد قوي مماثل في روحه للرد الوارد في هذه الآيات أو المنطوي فيها الذي شرحناه في التعقيب الذي أوردناه آنفا. [سورة الشورى (42) : الآيات 21 الى 22] أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) . في الآية الأولى تساؤل استنكاري عما إذا كان للمشركين شركاء شرعوا لهم

[سورة الشورى (42) : آية 23]

دينا لم يشرعه الله ولم يأذن به. وإنذار للظالمين المنحرفين عن حدود الله المتمردين على عبادته وحده بالعذاب الأليم على ما بدا منهم من الجرأة والزعم، وتعليل لتأخر هذا العذاب بالحكمة الربانية التي اقتضت تأجيل الفصل بين الناس إلى يوم القيامة. وفي الآية الثانية صورة لما سوف يكون من أمر الظالمين في ذلك اليوم حيث يستولي عليهم الخوف من نتائج تمردهم وسوء أعمالهم التي هي واقعة عليهم حتما في حين يكون الذين آمنوا بالله وحده وقدموا صالح الأعمال منعمين في روضات الجنات يتمتعون بما يشاءون واحتوت الفقرة الأخيرة تنويها بهذا المصير السعيد الذي هو فضل عظيم للمؤمنين على الظالمين. والآيتان استمرار للسياق والموضوع كما هو المتبادر، ولقد كان المشركون يزعمون أن ما هم عليه متصل بما شرعه الله وأن الله راض عنهم مما حكته آيات عديدة عنهم مرت أمثلة منها في السور السابقة. والظاهر أنهم كرروا ذلك في ظروف نزول هذه السورة وما ورد فيها من الإشارة إلى ما شرعه الله للناس على لسان أنبيائه فاحتوت الآيات تنديدا وردّا وإنذارا واستطرادا إلى ذكر المؤمنين الصالحين ومصيرهم بالمقابلة، جريا على الأسلوب القرآني. [سورة الشورى (42) : آية 23] ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) . في الآية تنبيه على أن ما ذكر في الآية السابقة من المصير السعيد هو الذي يبشر الله به عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات. وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول للمخاطبين إني لا أسألكم أجرا إلّا المودة في القربى، وتقرير بأن الذي يفعل الحسنة يزاد له فيها ويضاعف أجره لأن الله غفور شكور يعامل عباده الصالحين بالمغفرة والتقدير. وكلمة ذلِكَ تبدو بمثابة الرابطة بين هذه الآية وما سبقها كما هو المتبادر.

تعليق على جملة قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى

وفي الآية أمر مؤكد للأوامر السابقة للنبي بإعلان قومه بأنه لا يطلب منهم على مهمته نفعا ولا أجرا إلا المودة في القربى. وفيها حث على الاستجابة إلى الله وترغيب في عمل الصالحات وتبشير بصفات الله الغفور الشكور وتقرير لقابلية الناس على الاختيار وجزاؤهم على اختيارهم أيضا. ويلحظ أن الفقرة الأخيرة من الآية احتوت توكيدا للمعنى الذي انطوى في الفقرة الأخيرة من الآية [20] السابقة بأسلوب آخر حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت مواصلة تطمين الذين يفعلون الأفعال الحسنة التي ترضي الله تعالى بمضاعفة ثوابهم في آيات متتالية. وفي هذا ما فيه من حثّ على العمل الصالح وقد تكرر كثيرا ومرت منه أمثلة عديدة. تعليق على جملة قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ولقد تعددت الأقوال والروايات في معنى الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن هذه الآية والآيتين اللتين بعدها مدنيات. وروى الطبرسي في مجمع البيان نقلا عن تفسير أبي حمزة الثمالي عن ابن عباس أن الأنصار جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن استحكم الإسلام في المدينة فقالوا له: إن تعرك أمور فهذه أموالنا تحكم فيها في غير حرج ولا محظور عليك فنزلت الآية فقرأها عليهم وقال: تودون قرابتي من بعدي فخرجوا من عنده مسلمين فقال المنافقون: إن هذا لشيء افتراه في مجلسه أراد أن يذلنا لقرابته من بعده فأنزل الله الآية: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ... فتلاها عليهم فبكوا واشتد عليهم فأنزل الله الآية التي بعدها: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ فأرسل في أثرهم فبشرهم، وقد أخرج الطبراني حديثا عن ابن عباس مقاربا لما جاء في هذه الرواية «1» .

_ (1) انظر مجمع الزوائد ج 7 ص 102- 103.

هذا من جهة رواية مدنية الآية والآيتين اللتين بعدها، وسبب نزولها، وهناك روايات وأقوال عديدة في تأويل الآية بصورة عامة استقصاها الطبري والطبرسي أكثر من غيرهما فمما رواه الطبري أن ابن عباس سئل عن الآية فقال ابن جبير: القربى فيها هي قربى آل محمد. فقال ابن عباس: «عجلت إنّ النبيّ لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة فنزلت الآية تذكر ذلك وتقول لقريش (إلا أن تصلوا القرابة التي بيني وبينكم) وقد روى البخاري والترمذي هذه الرواية في كتابيهما أيضا «1» . ومما رواه الطبري عن ابن عباس قوله: «كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة في جميع قريش فلما كذبوه وأبوا أن يبايعوه قال: يا قوم إذا أبيتم أن تبايعوني فاحفظوا قرابتي فيكم لا يكن غيركم من العرب أولى بحفظي ونصرتي منكم وذلك قول الآية: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ومما رواه الطبري أيضا عن ابن عباس في الآية قوله: «قال محمد لقريش: لا أسألكم من أموالكم شيئا ولكنّي أسألكم أن لا تؤذوني لقرابة ما بيني وبينكم فإنّكم قومي وأحقّ من أطاعني وأجابني» ومثل هذه الأقوال ومن بابها أقوال مروية في الآية عن عكرمة وحصين بن مالك وقتادة ومجاهد والضحاك وعطاء بن دينار وابن وهب. وإلى جانب هذه الأقوال التي يرويها الطبري يروي أيضا روايات مناقضة لها حيث يروي أن رجلا من أهل الشام قال لعلي بن الحسين لما جيء به إلى دمشق بعد مقتل أبيه: الحمد الله الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرن الفتنة. فقال له: أقرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: أما قرأت قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى؟ قال: نعم وإنّكم لأنتم هم؟ قال: نعم. وحيث يروى أيضا أنّ سعيد بن جبير قال: إن كلمة الْقُرْبى في الآية تعني قربى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن عمرو بن شعيب أوّلها بمثل ذلك. وقد روى الطبري إلى جانب هذه الروايات وتلك عن الحسن أن القربى في الآية بمعنى القربى إلى الله. وعن قتادة أن الجملة في الآية بمعنى التودد والتقرب إلى الله بالطاعة.

_ (1) انظر التاج ج 4 ص 203- 204.

ومما رواه الطبرسي في تفسيره (مجمع البيان) عن الحسن والجبائي وأبي مسلم أن معنى الآية: «لا أسألكم أجرا إلا التواد والتحابب وما يقرب إلى الله من العمل الصالح» أو «التقرب إلى الله والتودد إليه بالطاعة» . كما روى عن ابن عباس أنها تعني: «لا أسألكم إلّا أن تودّوني في قرابتي منكم وتحفظوني لها» . وعن قتادة ومجاهد: «أن تودوني لأجل القرابة التي بيني وبينكم» . وعن سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب وأبي جعفر وأبي عبد الله: «أن تودوا قرابتي وعترتي وتحفظوني فيهم» . وعن الحسن: «إنّا أهل البيت الذين افترض الله مودّتهم على كلّ مسلم فقال: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» . وعن ابن عباس: «لما نزلت الآية قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين أمرنا الله بمودّتهم؟ فقال: هم عليّ وفاطمة وولدهما» «1» . وتعليقا على ما تقدم نقول: أما من ناحية مدنية الآية فالملحوظ أنها متصلة أوثق اتصال بالآية السابقة لها نظما وموضوعا. وهذا ما يلحظ أيضا بالنسبة للآيتين التاليتين لها اللتين ذكرت الروايات أنهما مدنيتان مثلها، ويلحظ أن رواية نزولها في المدينة معزوة إلى ابن عباس الذي رويت روايات عديدة عنه في تأويل الآية تأويلا يصرفها عن قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنها حديث صحّ عند البخاري والترمذي وليس يخفى ما في رواية نزولها في المدينة من غرابة بل وتهافت وقصد تلفيق وتطبيق. ولعل قصد صرف الآية إلى أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو صلة بها لأن ذلك يكون ممتنعا البتة في حالة مكية الآية حيث كان أكثر أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم في العهد المكي ومنهم أعمامه أبو طالب وأبو لهب والعباس كفارا، ولم تكن فاطمة رضي الله عنها قد تزوجت، ولم يكن الحسن والحسين قد ولدا بعد. ولذلك فنحن نشك في رواية مدنية الآية والآيتين التاليتين لها. وأما من ناحية صرف الآية إلى أقارب

_ (1) علق ابن كثير على هذه الرواية بقوله: إسناد ضعيف فيه مبهم لا يعرف عن شيخ شيعي مخترق وهو حسين الأشقر ولا يقبل خبره في هذا المحل والآية مكية ولم يكن لفاطمة إذ ذاك أولاد.

النبي صلى الله عليه وسلم أو فاطمة وعلي وولدهما فمع أن البرّ بالصالحين المتقين من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومودتهم واحترامهم واجب مسلّم به بقطع النظر عما إذا كان هناك نصّ قرآني أو حديث نبوي «1» فإن حمل العبارة على ذلك في معرض أجر للنبي صلى الله عليه وسلم على مهمته ودعوته لا يتسق قط مع علوّ شأن النبوة ومصدرها الرباني ولا مع الآيات العديدة التي تضمنت أوامر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول للناس إنه لا يسألهم على مهمته أجرا ولا خرجا وليس له أي غاية شخصية دنيوية مما مرّ منه أمثلة عديدة. ولذلك نرى التأويلات الأخرى التي وردت في صدد الزيادة الاستثنائية التي نشأ عنها ذلك المفهوم هي الأولى والأصوب من حيث إنها قصدت أن تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان قومه أنه لا يسألهم على رسالته أجرا ولا يقصد نفعا خاصا وكل ما يطلبه أو يرجوه هو هدايتهم أو مودته أو عدم أذيته أو عدم الصد عن دعوته وأن هذا هو ما توجبه القرابة التي بينه وبينهم، ولا سيما أن من هذه التأويلات ما صح عند

_ (1) ومن الواجب أن نذكر أن هناك أحاديث عديدة في وجوب محبة واحترام أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وعترته منها ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة. وهذا يجعل ذلك الواجب أمرا دينيا وإيمانيا ملزما. ومن ذلك حديث رواه مسلم والترمذي عن زيد بن أرقم قال: «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطيبا بماء يدعى خمّا بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكّر ثم قال: أما بعد، ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه ثم قال وأهل بيتي أذكّركم الله في أهل بيتي أذكّركم الله في أهل بيتي أذكّركم الله في أهل بيتي» . فقال الحصين- راوي الحديث عن زيد- لزيد: «ومن أهل بيته يا زيد أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده. قال: ومن هم يا زيد؟ قال: هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس» . التاج ج 3 ص 308- 309. وهناك صيغ عديدة أخرى لهذا الحديث من طرق أخرى، وهذه الصيغة أوسعها إسهابا وأوثقها سندا، وروى الترمذي عن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحبّوا الله تعالى لما يغذوكم من نعمه وأحبّوني بحبّ الله وأحبّوا أهل بيتي بحبّي» . تفسير الآية لابن كثير. وهناك أحاديث أخرى منها ما هو في صدد أفراد معينين من آل البيت. وفيها الجيد السند وفيها الضعيف فاكتفينا بما أوردناه الوارد في جميع أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم عامة والقوي الإسناد.

[سورة الشورى (42) : آية 24]

البخاري والترمذي عن ابن عباس وهو من أقارب النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في التأويلات الأخرى ما في رتبة ذلك ولا قريب منه. وقد ذكر في سياق الحديث الذي أخرجه الطبراني أن بعض رواته ضعفاء، ولقد قال الطبري بعد أن أورد جميع الأقوال: «إن أولى الأقوال في ذلك بالصواب وأشبهها بظاهر التنزيل قول من قال لا أسألكم إلا أن تودوني في قرابتي منكم وتصلوا الرحم التي بيني وبينكم وإن دخول حرف (في) مما يؤيد ذلك إذ لو كان قصد الآية مودة قربى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل هذا الحرف ولكانت الجملة «إلا مودة القربى» لا «المودة في القربى» . ولقد قال ابن كثير بعد أن أورد كثيرا من الأقوال والروايات التي أوردناها والأحاديث التي وردت في وجوب مودة واحترام ذوي قربى النبي صلى الله عليه وسلم: «والحق هو تفسير هذه الآية بما فسرها به حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس» . يعني التفسير الذي رواه البخاري والترمذي ولا ننكر الوصاة بأهل البيت والأمر بالإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم، فإنهم ذرية طاهرة من أشرف بيت وجدّ على الأرض فخرا وحسبا ونسبا، ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الواضحة الجليلة «1» ، وجمهور المفسرين في جانب هذا التفسير «2» أيضا. [سورة الشورى (42) : آية 24] أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24) . في الآية تساؤل استنكاري عما إذا كان الكفار يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم يفتري على الله الكذب وردّ مفحم على ذلك بأن الله قادر لو كان قولهم صحيحا على أن يختم على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ويطمس على بصيرته ويمحو الباطل المفترى عليه ويحق الحق. فهو العليم بما في الصدور المحيط بكل شيء القادر على كل شيء. والآية غير منقطعة عن السياق وإن كانت تحكي زعما للكفار وترد عليه.

_ (1) انظر تفسير الآية في تفسير ابن كثير. [.....] (2) انظر تفسير الزمخشري والخازن والبيضاوي والبغوي والقاسمي أيضا.

[سورة الشورى (42) : الآيات 25 إلى 26]

واتصالها ملموح بصورة خاصة بالآية [21] وما قبلها حيث حكت تلك الآيات أقوال المشركين ومواقفهم وحيث احتوت هذه حكاية قول آخر من أقوالهم. ولقد ذكرنا في سياق تفسير الآية السابقة أن هذه الآية مما روى مدنيتها معها، وشكنا في رواية الآية السابقة ينسحب على رواية هذه الآية بطبيعة الحال. ويلحظ أن أسلوب هذه الآية ومضمونها مما تكرر في آيات مكية وأن الصورة التي انطوت فيها هي من صور العهد المكي على الأعم الأغلب. وفي إعلان النبي صلى الله عليه وسلم ما أوحى إليه به في الآية يتجلى فيه بصورة رائعة إخلاص النبي صلى الله عليه وسلم وعمق شعوره بصدق صلته بالوحي الرباني واستشعاره هيبة الله عز وجل وانتفاء أي احتمال لنسبة شيء ما إليه لم يكن قد أوحى إليه به، ومن شأن ذلك أن يفحم كل مكابر متعنت. [سورة الشورى (42) : الآيات 25 الى 26] وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26) . في الآيات تقرير بأن الله تعالى يقبل توبة التائبين إليه ويعفو عن السيئات ويعلم جميع ما يفعله الناس فيستجيب للذين تابوا وآمنوا وعملوا الصالحات ويمنحهم عطفه ويزيدهم من فضله أما الذين كفروا فليس لهم عنده إلا شديد العذاب. وكلمة وَهُوَ التي تبدأ بها الآيتان تدل على اتصالهما بما قبلهما كما هو المتبادر. ولا سيما أن الآيات السابقة قد ذكر الله تعالى فيها وجاءت هذه الآيات بعدها فاكتفت بالعطف عليه والإشارة إلى الله عز وجل بلفظ (هو) . ومن المحتمل أن يكون استهدف في الآيتين إعلان كون باب الله مفتوحا للناس الذين يدعوهم النبي صلى الله عليه وسلم ويبشرهم مما ذكر في الآيات السابقة وبذلك يبدو الاتصال واضحا.

[سورة الشورى (42) : الآيات 27 إلى 31]

والمتبادر أن جملة وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ مرتبطة بالجملة التي قبلها ونتيجة لها ومتضمنة تقرير عفو الله عن سيئات الذين يتوبون إليه ويرجعون عن تصرفاتهم وأعمالهم الآثمة. وفيها تشجيع رباني على التوبة مما تكرر في مواضع كثيرة في القرآن وعلقنا على ما فيه من مبدأ قرآني عظيم في سياق سورة البروج. ولقد ساق المفسرون «1» في سياق هذه الجملة بعض أحاديث نبوية فيها تشجيع كبير على التوبة منها حديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه جاء فيه: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» . ومنها حديث رواه الأغر بن بشار المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيّها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة» . ومنها حديث رواه عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها حتى إذا اشتدّ الحرّ والعطش أو ما شاء الله قال أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها طعامه وشرابه» . [سورة الشورى (42) : الآيات 27 الى 31] وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31)

_ (1) انظر تفسير الخازن وابن كثير.

في الآيات: 1- تنبيه على خلق من أخلاق الناس بصورة عامة وهو ميلهم إلى تجاوز الحد والظلم والبطر إذا ما بسط الله لهم الرزق ووسع عليهم أسبابه. 2- وتقرير بأن حكمته اقتضت من أجل ذلك أن تكون أرزاقهم بأقدار معينة وفقا لما يعرفه من أحوالهم وأخلاقهم فهو الخبير البصير بعباده. 3- وتنبيه على أن الله عز وجل هو الذي ينزل المطر بعد ما يكون الناس قد يئسوا وانقطعت آمالهم فتنتشر مشاهد رحمته في الأرض. فهو وليّهم الذي يبرّ بهم ويرعاهم ويتولى شؤونهم وهو المستحق وحده للحمد. 4- وتنبيه على بعض مشاهد عظمة الله وقدرته في غير إنزال الغيث، فهو الذي خلق السموات والأرض وأوجد فيها أنواع الدواب والحيوان وهو قادر بطبيعة الحال على جمعهم حينما يشاء لأنه هو الذي خلقهم في البدء. 5- وتنبيه بأسلوب التفاتي إلى المخاطبين السامعين على أن ما يصيبهم من مصائب إنما هو نتيجة لما تكسبه أيديهم، ومع ذلك فإنهم لا يصابون إلّا بقليل مما يستحقون لأن الله يعاملهم بالعفو والتجاوز عن الكثير. 6- وتنبيه بأسلوب الإنذار للمخاطبين السامعين أيضا على أنهم ليسوا معجزي الله وليسوا ناجين منه فلا ينبغي لهم أن يغتروا، فهو محيط بهم قادر عليهم وليس لهم من دونه من ولي ولا نصير يحميهم ويمنع عنهم غضبه وبطشه. وبين هذه الآيات والآيتين السابقتين شيء من التماثل الأسلوبي والموضوعي، مما يسوغ القول إنها متصلة بهما واستمرار لهما. وقد احتوت تقريرات قوية موجهة إلى العقول والقلوب. ومستمدة من مشاهدات الناس في الآفاق وفي أنفسهم، وهادفة إلى توكيد استحقاق الله تعالى وحده للعبادة والخضوع والشكر وسخف المشركين في اتخاذ الشركاء والأولياء من دونه. ولقد كان المشركون يعترفون

تعليق على آية وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم إلخ

بصفات الله تعالى وأفعاله المذكورة في الآيات، وهذا مما يزيد في قوة الآيات ومداها كما هو المتبادر. تعليق على آية وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ إلخ ويلوح لنا أن الآية [30] وهي تنبه إلى أن ما يصيب الناس من مصائب هو من كسب أيديهم قد قصدت تقرير ما هو متسق مع الواقع والحق والعقل وهو أن ما يصيب الناس في أغلب الأحيان من مصائب وبلاء وشرور وأضرار وأخطار إنما هو نتيجة لتصرفاتهم وأعمالهم، فليس لهم أن يوجهوا لومهم على ذلك إلى غيرهم. ومن واجبهم أن يترووا في أعمالهم وتصرفاتهم ليتقوا تلك الأضرار والأخطار. ومع ما قلناه أنه المتبادر اللائح من الآية [30] فهناك أحاديث نبوية يرويها المفسرون في سياقها، منها حديث رواه البغوي بطرقه عن الحسن قال: «لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمّد بيده ما من خدش عود ولا عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلّا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر» . وحديث رواه البغوي بطرقه أيضا عن أبي سخيلة قال: «قال علي بن أبي طالب: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله عزّ وجلّ حدّثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير» . قال وسأفسرها لك يا علي. «ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم والله عز وجل أكرم من أن يثني عليه العقوبة في الآخرة. وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أحلم من أن يعود بعد عفوه» . ولسنا نرى في الحديثين نقضا لما تبادر لنا بل فيهما تدعيم له وإن كان فيهما بالإضافة إلى ذلك تبشير وتطمين للمسلمين يجعلانهم يتقبلون ما يقع عليهم بالرضاء والإذعان، وفي هذا ما فيه من تلقين جليل. ولقد أورد ابن كثير في سياقه أحاديث فيها تدعيم لهذا التلقين الإضافي. منها حديث رواه الإمام أحمد عن عائشة قالت: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفرها ابتلاه الله تعالى بالحزن ليكفّرها» . وحديث رواه الإمام أحمد أيضا عن معاوية بن

تعليق على آية ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض

أبي سفيان قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من شيء يصيب المؤمن في جسده يؤذيه إلا كفّر الله تعالى عنه من سيئاته» . تعليق على آية وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآية [27] وهي أولى هذه الآيات مدنية. وروى المفسر الخازن رواية مؤيدة لذلك عن خباب بن الأرت رضي الله عنه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن هذه الآية نزلت فينا وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع فتمنيناها فأنزل الله الآية» . والذي نلحظه أن الآية منسجمة في الآيات الأخرى سبكا وموضوعا انسجاما تاما. وأن آيات لا خلاف في مكيتها قد احتوت شيئا مما احتوته مرت أمثلة منها في السور السابقة وبخاصة في سورة سبأ. ولا تظهر حكمة لوضعها في السياق المكي الذي وضعت فيه لو كانت مدنية وهذا فضلا عن أن مضمونها لا ينطبق تماما على فحوى الرواية وبناء على ذلك كله فنحن نتوقف في رواية مدنيتها. وهذا لا يمنع من أن يكون بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظهروا عجبهم مما في أيدي يهود المدينة من ثروات فتلا النبي صلى الله عليه وسلم الآية مذكرا بحكمة الله ومشيئته ونواميسه في بسط الرزق وقبضه، فظن بعضهم أنها نزلت حديثا. وقد يكون نزول الآية في مكة متصلا بسبب مثل ذلك حيث يكون الكفار قد تبجحوا بثروتهم وغناهم وقد حكت آيات عديدة عنهم ذلك، أو يكون بعض المسلمين قد تساءلوا عن حكمة ذلك فجاءت لترد على أولئك أو تطمئن هؤلاء وظلت تساق في هذا المعرض، وفي الآية [36] الآتية بعد قليل قرينة ما على ذلك على ما سوف نشرحه بعد. ولقد روى الطبري عن قتادة أن الآية حينما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخوف ما أخاف على أمتي زهرة الدنيا وكثرتها، فقال قائل: هل يأتي الخير بالشرّ يا نبي الله؟ فردّد السؤال ثم نزل عليه الوحي فلما فصل عنه قال: إن الخير لا يأتي إلّا

بالخير ثلاثا ولكنه والله ما كان ربيع قط إلّا أحبط أو ألمّ (هذا مثل عربي يراد به مخالطة المواد الضارة في نبات الربيع مع المواد النافعة) فإما عبد أعطاه الله مالا فوضعه في سبيل الله التي افترض وارتضى فذلك عبد أريد به خير وعزم له على خير. وإما عبد أعطاه الله مالا فوضعه في شهواته ولذاته وعدل عن حق الله عليه فذلك عبد أريد به شرّ وعزم له على شرّ. ولقد ساق المفسر البغوي في سياق تفسير الآية حديثا قدسيا رواه أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل جاء فيه: «يقول الله عز وجلّ: من أهان لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة وإنّي لأغضب لأوليائي كما يغضب الليث الحرد، وما تقرب إليّ عبدي المؤمن بمثل أداء ما افترضت عليه وما يزال عبدي المؤمن يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه، وإن من عبادي لمن يسألني الباب من العبادة فأكفه عنه أن لا يدخله عجب فيفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلّا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك. وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلّا بالفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك. وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلّا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك. وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلّا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك، إني أدبر أمر عبادي بعلمي بقلوبهم إني عليم خبير» «1» . وفي الحديث تطمين بأسلوب آخر لما قصدته الآية من تطمين على ما شرحناه قبل.

_ (1) انظر تفسير البغوي للآية، والحديث رواه البغوي سماعا عن راو عن راو حتى يصل إلى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن الله عز وجل. ونقله عنه الخازن وغيره من المفسرين.

تعليق على الآية ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير (29)

تعليق على الآية وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29) ولقد قال واحد من الذين يحبون أن يستدلوا بالآيات على ما في الكون من أسرار وعوالم مغيبة إن في هذه الآية دليلا على أن الكواكب مأهولة بالأحياء. وأن القرآن بذلك يتطابق مع ما صار معلوما عند العلماء في هذه الأيام. والآية لا تثبت ذلك ولا تنفيه، وهذا أمر ما يزال قيد الظن والتخمين وقد يثبت وقد لا يثبت. والآية لم تنزل بسبيل ذلك، وإنما كانت تتلى على أناس يرون ما في الأرض والسماء من مختلف الأحياء الدابة على الأرض والطائرة في السماء لتنبههم إلى ما في ما يشاهدونه من مظاهر قدرة الله وعظمته وكونه هو الأحق بالعبادة والاتجاه وحده. ولقد نبهنا على هذا في مناسبات سابقة مماثلة وقلنا إن في محاولة استنباط المعارف والأسرار والمغيبات الكونية من الآيات تكلفا لا طائل من ورائه وإخراجا للقرآن عن قدسيته وهدفه وتعريضا له للجدل والتكذيب بدون وجه ومبرر. وأن الواجب على المسلمين أن يقفوا من هذه الآية وأمثالها عند ما يقف عنده القرآن دون تزيد ولا تكلف مع ملاحظة الهدف الذي ترمي إليه والذي تخاطب في صدده السامعين خطابا متصلا بما يشاهدونه ويحسونه ويمارسونه. [سورة الشورى (42) : الآيات 32 الى 36] وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) . (1) الجواري: جمع جارية وهي هنا كناية عن سفن البحر. (2) الأعلام: كناية عن ارتفاعها فوق سطح البحر كأنها جبال.

(3) رواكد: جمع راكدة أي واقفة عن السير. (4) يوبقهن: يحطمهن. في الآيات: 1- تنبيه على ما في سير السفن في البحر من آيات قدرة الله ونواميسه. فالسفن البارزة على ظهر البحر كالجبال تجري وفقا لنواميس الكون التي قدرها الله ومنها أن تتحرك الريح فتجري السفن أو تسكن فتقف راكدة. وأن تكون عاصفة شديدة فتحطمها عقوبة على ما كسبت أيدي الذين فيها، ومع ذلك فالله قادر على إنقاذهم من ذلك متجاوزا بذلك عن كثير من سيئاتهم وهفواتهم وفي كل هذا آيات ربانية جديرة بالتمعن لإثبات قدرة الله وإحاطته لا يقدرها قدرها إلّا الصبار الشكور الثابت على إيمانه الصابر على ما يصيبه الشاكر لله على فضله. ومن شأنها أن تجعل المكابرين في آيات الله يتيقنون أن قدرة الله محيطة بهم على كل حال وأنهم ليس لهم منها مفر ولا مفلت. 2- وتنبيه موجه للسامعين بصيغة الجمع المخاطب على أن ما أوتوه في الدنيا من وسائل الرزق وأسباب الحياة ليس إلّا متاعا قصير الأمد لن يلبث أن يزول وأن ما عند الله هو خير وأبقى للذين يؤمنون به ويتوكلون عليه. والآيات مثل سابقاتها واستمرار لها في قصد بيان مشاهد الله تعالى ونواميس كونه وإنذار المكابرين والحث على الإيمان بالله والاتكال عليه وتنويه بالمؤمنين الصابرين الشاكرين. وما فيها هو كذلك مستمد من مشاهد الناس وممارساتهم كسابقاتها كما هو المتبادر، والتنبيه الذي نبهنا إليه قبل ينحسب عليها بطبيعة الحال. والمرجح أن ضمير الجمع المخاطب عائد إلى الكفار وأن الآية بسبيل الرد على ما كانوا يتبجحون به من تمتعهم بأسباب الحياة وسعة الرزق أكثر من المسلمين حيث نددت باغترارهم وتبجحهم وأنذرتهم بأن ما هم فيه ليس إلّا متاعا قصير الأمد وطمأنت المؤمنين بأن ما لهم عند الله هو خير وأبقى. وينطوي في هذا

[سورة الشورى (42) : الآيات 37 إلى 43]

صور من صور ما كان بين المسلمين والكفار وقرينة على صحة ما أوردناه في سياق تفسير الآية [27] وشكنا في رواية مدنيتها. ويلحظ هنا أيضا أن الآية [34] انطوت على توكيد المعنى الذي انطوى في الآية [30] حيث يبدو كذلك أن حكمة التنزيل اقتضت التنبيه في آيتين متتاليتين على أن الذين يقترفون الآثام والأخطاء يلقون نتائج أعمالهم. ونكرر هنا في مناسبة الفقرة الأولى من الآية [36] ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة مماثلة من أنها لا تنطوي على دعوة المسلمين إلى نفض أيديهم من الدنيا وإنما هي بسبيل التنبيه على عدم الاستغراق فيها استغراقا ينسي المرء واجباته نحو الله والناس وبسبيل الحث على الأعمال الصالحة التي تقرب إلى الله وكونها هي التي تكون ثمراتها دائمة عند الله إذا كان أصحابها من المؤمنين المتوكلين على الله. وفي الآية الأولى كما يتبادر لنا دليل على ما فتئنا ننبه عليه من كون مشاهد الكون والحياة في القرآن جاءت بأسلوب متسق مع ما كان سامعوه الأولون يعرفونه ويشاهدونه ويمارسونه. فالذي يظل راكدا على ظهر البحر حينما يمسك الله الريح هو السفن الشراعية، وهي التي قصد بها في جملة الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) ولم يكن تسيير السفن بالبحار وغيره قد عرف فنبهت الآية إلى ما يعرفه الناس بسبيل التنويه بآيات الله وقدرته. وطبيعي أن آيات الله وقدرته متمثلة في كل ما يكتشف ويعرف من نواميسه ومن الجملة تسيير السفن بالبحار وغيره. [سورة الشورى (42) : الآيات 37 الى 43] وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)

(1) شورى: مصدر بمعنى التشاور والمشاورة وهي تبادل الرأي والتفاوض فيه. (2) ينتصرون: من الانتصار بمعنى مقابلة العدوان بمثله ودفعه. (3) الظالمين: هنا بمعنى المعتدين. (4) ما عليهم من سبيل: ليس من محل للومهم ومؤاخذتهم. الآيات الثلاث الأولى معطوفة على الآية السابقة مباشرة لها في صدد وصف المؤمنين الذين أعد الله لهم عنده هو خير وأبقى: 1- فهم الذين يبتعدون عن كبائر الإثم والفواحش وإذا ما أثار غضبهم أمر ما لم يندفعوا بالغضب بل يعمدون إلى الغفران والتسامح. 2- وهم الذين استجابوا إلى دعوة الله وأخلصوا دينهم له وتساموا عما عداه وأقاموا الصلاة له وحده وجعلوا اعتمادهم عليه وحده. ولا يقطعون في أمر من أمورهم إلّا بعد التشاور فيما بينهم للوصول إلى أحسن الوجوه والحلول. 3- وهم الذين ينفقون مما رزقهم الله في شتى وجوه البرّ ويأبون أن يساموا خسفا وضيما فإذا ما بغى عليهم باغ سارعوا متضامنين إلى التناصر ودفع البغي والعدوان. والآيات الأربع الأخيرة احتوت تعليقا توجيهيا على ما جاء في الآيات الثلاث: 1- فإذا كان من حق المبغى عليه أن يدفع عنه البغي ويقابله فينبغي أن يكون ذلك في حدود المماثلة دون تجاوز ولا إسراف، فجزاء السيئة سيئة مثلها. ومع ذلك فإذا عفى وأصلح فذلك خير له وأجره على الله.

2- والله لا يحب الظالمين الذين يبدأون الناس بالعدوان أو يسرفون في المقابلة بحيث يكون في إسرافهم جور وجنف. 3- وليس من سبيل ولا لوم على الذين يدفعون الظلم عنهم إذا ما بغي عليهم وإنما ذلك على الذين يبدأون الناس بالظلم والعدوان ويبغون ويفسدون في الأرض بغير حق فهؤلاء جديرون بكل لوم ومستحقون للعذاب الأليم. 4- ومع ذلك فإن التحلي بالصبر والمغفرة والإغضاء خلق عظيم ومزية كبرى على كل حال. ويستفاد من سياق بعض المفسرين «1» أن هذه الآيات أو بعضها نزل في الأنصار والثناء على أخلاقهم، ومن سياق بعض آخر «2» أنها أو أن بعضها نزل حينما أخذ المسلمون يجاهدون بعد الهجرة لينتقموا من كفار مكة. وهذا يقتضي أن تكون الآيات مدنية مع أننا لم نقع على رواية تذكر ذلك. والآيات بعد متصلة بما قبلها وما بعدها اتصالا وثيقا من جهة والطابع والأسلوب المكيّان غالبان عليها من جهة أخرى. ولعلها استهدفت توجيه بعض المسلمين الذين كانوا يودون مقابلة الكفار في مكة على أذاهم بالمثل ولا يرون الرضوخ أو الصبر على هذا الأذى ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، مما احتوت آيات مكية أخرى الإشارة إليه صراحة أو ضمنا. مثل آية سورة الأعراف: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) ، وآية سورة الجاثية: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [14] وآية سورة النحل: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) ولا يبعد أن تكون هذه الآيات قد سيقت في معرض الأحداث الهامة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، أو عقب وفاته وفي زمن الخلفاء الراشدين فالتبس الأمر على الرواة.

_ (1) انظر تفسير الآية في تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير. (2) انظر تفسير الآية في تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير.

تعليق على آيات والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ... إلخ

تعليق على آيات وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ ... إلخ وعلى كل حال فإن أسلوب الآيات يساعد على القول إنها من جهة وصف لما كان عليه الرعيل الأول من المؤمنين الذين استجابوا لدعوة الإسلام وأيدوا النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المكي من إخلاص وتضامن وتشاور وإباء وتسامح وأخلاق كريمة، وتوجب من جهة أخرى على كل مسلم أن يكون على هذه الأخلاق، أو تقرر بأن هذه الأخلاق هي من خصائص المسلم المخلص أو من نتائج الإسلام والإخلاص فيه. وهي جليلة خالدة على مرّ الدهر جديرة بالإجلال والإعظام، ومن شأن المجتمع المتصف بها والسائر عليها أن يتمتع بالطمأنينة والكرامة والقوة والعزة ورفعة الشأن والصلاح في كل مكان ومجال. وهي متمشية مع طبيعة البشر وأسس العدل والحق من جهة، وموجهة للمسلمين أفرادهم وجماعاتهم إلى خير المثل والمكارم الأخلاقية. وحرية بأن تعدّ من روائع المجموعات القرآنية. وتعبير كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ قد ورد في الآية [34] من سورة النجم التي مرّ تفسيرها. وقد شرحنا مداه وأوردنا طائفة من الأحاديث النبوية الواردة فيه في سياق تفسيرها فنكتفي بهذا التنبيه. وجملتا إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) ووَ أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ جديرتان بالتنويه بصورة خاصة. فالأولى تعني أنهم يتضامنون في الدفاع ويقفون في وجه العدوان وقفة شديدة ولا يقرون الضيم والخسف فيهم. والثانية تعني أنه ليس بينهم مستبد طاغية وأنهم جميعا متساوون لا يفتئت أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد. ينظرون في أمورهم العامة نظرا مشتركا ويحلون مشكلاتهم بما يتفقون عليه بعد التشاور فيما بينهم، وهذا من أرقى صور ما نسميه اليوم بالديموقراطية. وقد يبدو لأول وهلة شيء من التناقض في تقريرات الآيات وتوجيهاتها. غير

أن هذا الوهم يزول إذا ما أمعن فيها حيث يظهر أن في الآيات ما هو مظهر من مظاهر أخلاق المسلمين حين نزولها وما ينبغي أن يكون خطة لهم بعضهم تجاه بعض. وإن فيها ما ينبغي أن يكون خطة تجاه أعدائهم. فجملة: وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) عائدة للمعنى الأول وللمعنى الثاني معا. وجملة: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) عائدة للمعنى الثاني. وجملة: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وجملة: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ ... إلخ عائدتان للمعنى الثالث. وهناك أحاديث نبوية عديدة في فضيلة كظم الغيظ والغضب وتحمل الأذى والعفو فيها تلقين متساوق مع التلقين الذي احتوته الآيات في هذا الصدد. منها حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس الشديد بالصّرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» «1» . وحديث رواه أبو داود والترمذي عن سهل بن معاذ عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتّى يخيّره من أيّ الحور العين شاء» «2» . وحديث رواه البخاري والترمذي وأحمد عن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: علّمني شيئا ولا تكثر عليّ لعلّي أعيه. قال: لا تغضب. فردّد ذلك مرارا، كل ذلك يقول لا تغضب» «3» . وحديث رواه الشيخان عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله تعالى، إنهم يجعلون له ندا ويجعلون له ولدا وهو مع ذلك يرزقهم ويعافيهم» «4» . وحديث رواه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «المسلم إذا كان مخالطا للناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» «5» . وحديث رواه الخمسة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أعطي أحد عطاء خيرا

_ (1) التاج ج 5 ص 43- 44. (2) التاج ج 5 ص 43- 44. (3) التاج ج 5 ص 43- 44. (4) التاج ج 5 ص 44- 47. (5) التاج ج 5 ص 44- 47.

وأوسع من الصّبر» «1» . وحديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلّا عزا وما تواضع أحد لله إلّا رفعه الله» «2» . وحديث رواه الطبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأه الله أمنا وإيمانا» «3» . وحديث أخرجه أبو يعلى عن أنس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كفّ غضبه كفّ الله عنه عذابه» «4» . وحديث أخرجه ابن مردويه عن ابن عمر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تجرّع عبد من جرعة أفضل أجرا من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله» «5» . والمتبادر من فحوى الأحاديث وأسماء رواتها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المدني في المناسبات التي اقتضتها للتعليم والتأديب، وأن الآيات التي نحن في صددها قد احتوت مبادئ عامة، وهذا من سمات القرآن المكي على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة والله تعالى أعلم. وننبه على أن في سورة آل عمران آية تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمشاورة المسلمين، والمتبادر أن هذا متصل بالدرجة الأولى بسياسة الحكم والسلطان في حين أن جملة وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ الواردة في هذه الآيات عامة تشمل هذه السياسة وتشمل سائر حالات ومواقف المسلمين فيما بينهم. ونكتفي هنا بما ذكرناه في صدد ذلك على أن نشرح أمر الشورى المتصل بسياسة الحكم والسلطان في سياق آية سورة آل عمران.

_ (1) التاج ج 5 ص 44- 47. (2) التاج ج 5 ص 44- 47. (3) التاج ج 5 ص 44- 47. (4) تفسير الآية [134] من سورة آل عمران. [.....] (5) تفسير الآية نفسها في تفسير ابن كثير، وننبه على أن الأحاديث التي نقلناها عن تفسيري الطبري وابن كثير لم ترد نصا في كتب الأحاديث الصحيحة، وهذا لا يمنع صحتها وهي من باب ما ورد في هذه الكتب ونقلناه عنها.

وجملة: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ جديرة كذلك بالتنويه، وقد حثت على خلقين من مكارم الأخلاق. ولقد تكرر ذلك كثيرا في سور مكية ومدنية أخرى. ففي صدد الحث على العفو آيات سورة البقرة هذه: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ... [109] وهذه: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ... [237] وآية سورة آل عمران هذه: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) ، وآية سورة النساء هذه: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149) ، وآية سورة النور هذه: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) ، وآية سورة التغابن هذه: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) . وفي صدد الحث على الإصلاح آيات سورة البقرة هذه: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) ، وهذه: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) ، وآيات سورة النساء هذه: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) ، وهذه: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ... [128] وهذه: وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) ، وآيات سورة الأنعام هذه: فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) ، وهذه: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) ، وآية سورة الأعراف هذه: فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وآية سورة الأنفال هذه: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ ... [1] ، وآيات سورة الحجرات هذه: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ

فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) . حيث يبدو من ذلك ما أعارته حكمة التنزيل من اهتمام لترسيخ هذين الخلقين في نفوس المؤمنين لأنهما من شأنهما أن يوطدا المحبة والمودة والأخوة والتسامح والتعاون ويمنعا المشاكسات والمهاترات والأحقاد بينهم. وهناك أحاديث نبوية عديدة في صدد ذلك منها في صدد الإصلاح حديث يندد بالذين يلجون في الخصومة والمشاكسة رواه الشيخان والنسائي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخصيم» «1» . وحديث يبرر استعمال أي أسلوب في سبيل الصلح رواه أبو داود والبخاري عن أم كلثوم بنت عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس بالكاذب من أصلح بين الناس فقال خيرا أو نمى خيرا» «2» . وحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين وفساد ذات البين الحالقة» «3» . وزاد الترمذي هذه الجملة في روايته: «لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدّين» «4» . وهناك حديث مهم في بابه فيه تلقين أن الصلح يجب أن لا يحرّم حلالا ولا يحلّ حراما وقد رواه البخاري وأبو داود والترمذي عن عمرو بن عوف المزني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصلح جائز بين المسلمين إلّا صلحا حرّم حلالا أو أحلّ حراما، والمسلمون على شروطهم إلّا شرطا حرّم حلالا أو أحلّ حراما» «5» . أما في صدد العفو فمن ذلك حديث رواه مسلم عن أبي هريرة قال: «إن رجلا قال: يا رسول الله إنّ لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيئون إليّ وأحلم عنهم ويجهلون عليّ. فقال: لئن كنت كما قلت فكأنما تسفّهم الملّ ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على

_ (1) التاج ج 3 ص 63- 64. (2) التاج ج 3 ص 63- 64. (3) التاج ج 3 ص 63- 64. (4) التاج ج 2 ص 202- 203. (5) التاج ج 2 ص 202- 203.

[سورة الشورى (42) : الآيات 44 إلى 46]

ذلك» «1» . وحديث رواه أبو داود والترمذي عن ابن عمر قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كم تعفو عن الخادم؟ فصمت، فأعاد الكلام فصمت، فلما كان في الثالثة قال: في كلّ يوم سبعين مرة» «2» . وحديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلّا عزّا وما تواضع أحد لله إلّا رفعه الله» «3» . هذا، ولقد زعم بعض الأغيار أن فكرة الجهاد في الإسلام إنما وجدت في العهد المدني وأن مبادئ العفو والتسامح مع غير المسلمين إنما نزلت في العهد المكي ثم أهملت في العهد المدني. وهذا تجنّ وخطأ معا، فالذي ينعم النظر في هذه الآيات يرى فيها نواة فكرة الجهاد على نفس الأسس التي قام عليها تشريع الجهاد في القرآن المدني على ما شرحناه في سياق تفسير سورة (الكافرون) وهي قتال المعتدي ودفع البغي وتأمين حرية الدعوة الإسلامية وعدم الإسراف في المقابلة بالمثل. كما أن الذي ينعم النظر في كثير من الآيات المدنية يجد أن الباب ظل كما هو الحال في القرآن المكي مفتوحا دائما للتائبين والمنيبين والمنتهين عن مواقفهم الجحودية العنيدة المؤذية، وأن القرآن المدني حثّ في كثير من آياته على العفو والتسامح والغفران والوفاء بالوعود والعهود والعدل والبرّ مع غير المسلمين الموادين والمسالمين «4» . [سورة الشورى (42) : الآيات 44 الى 46] وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)

_ (1) التاج ج 5 ص 9 و 11 و 46. (الملّ: الرماد الحار) . (2) التاج ج 5 ص 9 و 11 و 46. (الملّ: الرماد الحار) . (3) التاج ج 5 ص 9 و 11 و 46. (الملّ: الرماد الحار) . (4) انظر مثلا آيات سورة البقرة [108] والنساء [26 و 90 و 94 و 145 و 146] والمائدة [2 و 8 و 23 و 32- 33 و 42] والأنفال [18 و 38- 39 و 61- 72] والتوبة [4 و 7] والممتحنة [8- 9] .

(1) الظالمين: يمكن أن تكون الكلمة تعني الكفار المشركين كما يمكن أن تعني البغاة المعتدين. والمعنى الأول هو الأكثر ورودا في هذا المقام مع انطوائه على معنى العدوان والبغي في الكفر والشرك. (2) مردّ: هنا بمعنى رجعة أو عودة إلى الدنيا. في الآيات تنبيهات تضمنت إنذارات قوية للظالمين، فالذين يستحقون غضب الله وخذلانه بسبب ظلمهم وجحودهم لن يكون لهم نصير ولا ولي بعده، ولسوف يندمون على ما بدا منهم حينما يرون عذاب الله ويتساءلون تساؤل المضطرب المتحسر الفزع عما إذا لم يكن من سبيل للعودة إلى الدنيا لتلافي ما كان منهم. ولسوف يرون حينما يعرضون على النار وقد انهدت قواهم وتزلزلت أعصابهم من الفزع يرسلون نظرات الرعب والذل من تحت أحداقهم كما يفعل الذليل الجبان حينما يواجه الشدائد والأخطار وحينئذ يتيقن المؤمنون ويقولون إن الخاسرين الحقيقيين هم الذين يخسرون يوم القيامة أنفسهم وأهليهم حيث يكونون في عذاب دائم لا نهاية له ولا مخلص منه. ولن يكون لهم أولياء ينصرونهم وهذا هو مصير من يستحق غضب الله وخذلانه حيث لا يكون له منفذ ينفذ منه أو طريق يصل منه إلى الأمن والسلامة. وواضح أن الآيات قد جاءت تعقيبا على الآيات السابقة لها وفي معرض المقابلة والمفاضلة بين حالتي المؤمنين والكفار ومصير كل منهم. والاتصال بينها وبين ما سبقها قائم والحالة هذه. والصورة قوية مفزعة حقا. وقد استهدفت كما هو المتبادر فيما استهدفته إثارة الرعب في قلوب الكفار الآثمين وإثارة الطمأنينة في قلوب المؤمنين، ونعت الذين يضلهم الله بالظالمين والخاسرين وتقرير كونهم فقدوا النصير والولي قرائن مؤيدة لشرحنا العبارة

[سورة الشورى (42) : الآيات 47 إلى 48]

وتوجيهها، وللتعليقات التي علقناها على ما يماثلها من عبارات سابقة كما هو المتبادر. [سورة الشورى (42) : الآيات 47 الى 48] اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48) . (1) مردّ: هنا بمعنى لا راد له ولا دافع. (2) نكير: هنا بمعنى نصير، وأصل معناها الذي ينكر ما يحدث من الأمور ويعترض عليها. في الآية الأولى وجه الخطاب للسامعين بصيغة الجمع المخاطب فهتفت بهم حاثة على الاستجابة إلى دعوة الله والارعواء عما هم فيه من انحراف عن طريق الحق قبل أن يأتي اليوم الذي لا راد له ولا مفلت من الله فيه والذي لن يكون لأحد فيه ملجأ ولا نصير من دون الله. وفي الثانية وجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم على طريقة الانتقال والالتفات فنبهته إلى أن الله تعالى لم يجعله رقيبا على الناس ومسؤولا عنهم وضامنا لاستجابتهم إذا هم ظلوا على ضلالهم وإعراضهم عن الدعوة وأنه ليس عليه إلا الإنذار والبلاغ. واحتوت الآية بعد ذلك تعقيبا تقريعيا للإنسان أو للجنس الإنساني بصورة عامة، فهو إذا منحه الله نعمة بطر وفرح واغترّ ونسي الله تعالى، وإذا أصابته سيئة بسبب آثامه وأخطائه يئس وكفر. والآيتان جاءتا على ما هو المتبادر معقبتين على الآيات السابقة لها، والاتصال بين السياق قائم والحالة هذه. والآية الأولى وإن كانت موجهة للسامعين إطلاقا فإن روح الآية الثانية

[سورة الشورى (42) : الآيات 49 إلى 50]

وفحواها يلهمان أن الخطاب فيها موجه للكفار وأنها بسبيل حثهم على الانتهاء من موقف الجحود والمكابرة قبل فوات الوقت والندم على ذلك. كذلك الأمر بالنسبة للتقريع الذي احتوته الآية الثانية والمقصود به في الدرجة الأولى كما هو المتبادر هم الجاحدون الظالمون. ويلحظ أن ما احتوته الآية الثانية قد احتوت مثله إحدى الآيات الأخيرة من السورة السابقة وقد وجه التقريع فيها للكافرين. [سورة الشورى (42) : الآيات 49 الى 50] لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) . (1) يزوجهم: هنا بمعنى ينوعهم ويجعلهم أصنافا خليطا من ذكور وإناث. في الآيتين تنويه بشمول ملك الله وقدرته ومشيئته: فكل ما في السموات والأرض ملك له. وبيده خلق كل شيء وعلى الوجه الذي تتعلق به إرادته ومشيئته. ويدخل في ذلك حمل الأمهات ونوعه. فهو الذي يهب لمن يشاء إناثا فقط ولمن يشاء ذكورا فقط. وهو الذي يهب لمن يشاء أصنافا متنوعة من ذكور وإناث معا، وهو الذي يجعل من يشاء عقيما وكل ذلك وفقا لمقتضيات علمه وحكمته فهو العليم بكل شيء القادر على كل شيء. وقد يبدو أن الآيتين منقطعتان عن الموضوع والسياق السابقين، غير أنه تبادر لنا شيء من الصلة بينهما وبين ما جاء في آخر الآية الأخيرة التي احتوت تنديدا بما جبل عليه الإنسان من البطر عند النعمة والكفر واليأس عند المصيبة. ولقد كان العرب يحبون ويشتهون الذكور ويكرهون ولادة البنات ويسخطون على نسائهم حينما يلدن إناثا ويعتبرون ذلك مصيبة على ما تفيده آيات قرآنية عديدة منها سورة

[سورة الشورى (42) : الآيات 51 إلى 53]

النحل هذه: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) . فلعل شيئا مما ذكرته الآية الأخيرة السابقة لهذه قد وقع في ظروف نزول السورة فاحتوت الآيتان ردا على ذلك وتنديدا بالفرحين البطرين، أو باليائسين الساخطين، وتقريرا بأن ذلك مشهد من مشاهد نواميس الله في خلقه ونتيجة لتقديره ومشيئته. فلا موجب للبطر ولا لليأس. وهكذا تكون الآيتان في هذه الحالة قد استهدفتا معالجة نفسية لحالة قائمة يتساوى فيها المسلمون وغير المسلمين. والمعالجة مستمرة التلقين والمدى لأنها تعالج حالة مستمرة تثير الفرح والسخط كما هو المتبادر. فكل شيء يجري وفق النواميس التي أودعها الله في خلقه وفي نطاق تقديره ومشيئته وعلى الناس والمسلمين منهم أن يذكروا ذلك فلا يبطروا ولا يسخطوا ويرضوا بتقدير الله ومشيئته اللذين هما خارجان عن نطاق قدرتهم ومشيئتهم. [سورة الشورى (42) : الآيات 51 الى 53] وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) . في الآية الأولى إشارة إلى مشاهد ثلاثة لاتصال الله في الكلام بالبشر أو اتصالهم به في ذلك. فالله لم يكن ليكلم أي إنسان مواجهة. والناس الذين يصطفيهم للاتصال به يتصل بهم إما بطريق الوحي أو من وراء حجاب أو بواسطة رسول من قبله فيوحي إليهم ما يشاء بأمره وإذنه، وهو العلي المتسامى في شأنه وكنهه، الحكيم الذي يفعل ما يفعل ويختار ما يختار وفقا لمقتضى حكمته.

تعليق على آية وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء وما بعدها

وفي الآيتين الثانية والثالثة إشارة إلى ما كان من اتصال الله سبحانه بالنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وقد وجّه الخطاب في أولاهما له. فبمقتضى حكمة الله وسننه أوحى إليه روحا من أمره وإذنه. ولم يكن يدري قبل ذلك حقيقة كتب الله ووحيه وكيفية الإيمان به دراية يقينية ولقد جعل الله ذلك نورا يهدي به من يشاء من عباده. وكان من شأن النبي صلّى الله عليه وسلم بعد أن اهتدى به أن صار يهدي به غيره إلى صراط مستقيم وهو صراط الله الذي له ما في السموات والأرض والذي ترجع جميع الأمور إليه. تعليق على آية وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ وما بعدها وقد روى المفسر البغوي وتابعه الخازن أن هذه الآيات نزلت بناء على سؤال وقع من بعض يهود المدينة ويقتضي هذا أن تكون الآيات مدنية. ولم نطلع على رواية تفيد ذلك ويلحظ كذلك أن الأسلوب القرآني على الإجابة على السؤال هو حكايته أو حكاية موضوعه أولا وهذا غير موجود هنا. والذي يتبادر لنا أن هذه الآيات التي جاءت خاتمة للسورة متصلة بمطلع السورة الذي احتوى إشارة إلى أن الله سبحانه يوحي إلى النبي صلّى الله عليه وسلم كما يوحي إلى الأنبياء من قبله. وأن حكمة التنزيل قد اقتضت ربط أول السورة بخاتمتها. وهذا مما كان في سور أخرى أيضا مرّ منه بعض الأمثلة. فإذا صح ما قلناه ففيه مشهد من مشاهد النظم القرآني كما فيه دلالة على أن السورة نزلت دفعة واحدة أو فصولا مترابطة متتابعة مهما بدا على هذه الآيات أنها جاءت كفصل مستقل عن الآيات السابقة لها مباشرة. وهذا لا ينفي بطبيعة الحال احتمال كون الإيضاح الذي احتوته الآيات قد

جاء جوابا على سؤال صدر من مسلمين أو كتابيين أو كفار في ظروف نزول السورة أو قبيلة أو إجابة على حيرة الناس بما كان يخبر به النبي صلّى الله عليه وسلم من صلة بالله. فهذه المسألة مما يحار فيها كل امرئ ويود أن يعرف كنهها أو ما يشفي غليله منها. وفي الآيات الأولى من السورة ذكر أن الله شرع من الدين ما وصّى به الأنبياء من قبل محمد وما أوحاه الله إليه مثلهم، مما يمكن أن يكون المناسبة للتساؤل والاستيضاح، وهذه المناسبة قائمة في الآيات الأولى من السورة أيضا. ونقول تعليقا على مدى الآيات: إن الآية الأولى احتوت الإشارة إلى مشاهد ثلاثة في صدد اتصال الله بمن يشاء من عباده بالكلام: الأول أن يكون وحيا، والثاني من وراء حجاب، والثالث برسول يرسله ويوحي بواسطته وبإذنه ما يشاء. وأصل معنى (الوحي) هو السرعة أو اللمحة الخاطفة. أو الإلهام والقذف في القلب. وقد يعني هذا أن الوحي في الآية يعني شعورا ذاتيا وقلبيا بما ينقذف في نفس الموحى إليه من أفكار ومواضيع كإشعاع تضيء به نفسه فيشعر أنه يلهم إلهاما علويا ربانيا في قالب كلامي. والرسول الوارد ذكره في الآية والذي هو المشهد الثالث من المشاهد هو على ما قاله جمهور المفسرين: «الملك الذي كان ينزل على النبي صلّى الله عليه وسلم» . واستعمال تعبير «فيوحي إليهم» بالنسبة إليه يلهم أن اتصال الملك بالنبي صلّى الله عليه وسلم هو كذلك اتصال روحي أو قلبي. وقد ذكر هذا بصراحة في آيات سورة الشعراء هذه: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) ، وفي آية سورة البقرة هذه مع صراحة باسم الملك: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) [97] . ولعل الفرق بين المشهدين الأول والثالث هو أن النبي صلّى الله عليه وسلم لا يشعر في الأول بملقن منفصل عن ذاتيته لما ينقذف في قلبه من وحي الله في حين أنه يشعر بذلك في المشهد الثالث.

أما المشهد الثاني وهو: مِنْ وَراءِ حِجابٍ فالمستلهم من العبارة أن النبي صلّى الله عليه وسلم يسمع كلاما مفهوما يلقى عليه فيعيه دون أن يرى من يلقيه مع شعوره أنه الله عز وجل. وهو على كل حال اتصال خارجي وليس باطنيا وقلبيا، ومن ذلك على ما هو المتبادر ما أخبرت به آيات سورة الأعراف والنمل والقصص وطه، من الكلام الرباني الذي كلّم به موسى عليه السلام على ما مرّ تفسيره. ونحن إذ نشرح هذا إنما نفعل بالنسبة للعبارات الواردة، أما فهم حقيقة هذا الاتصال وحقيقة الشعور به وإدراكهما فهما في الحقيقة خصيصان بالذين يصطفيهم الله تعالى لوحيه وصلته وكلامه. وهما بالنسبة لغيرهم حقيقة إيمانية يجب الإيمان بها لأنها مما أخبر به هؤلاء المصطفون، وهم صادقون فيما أخبروا به وقد عبروا عنه بأمر الله ووحيه بما يمكن أن تتسع له الألفاظ التي يتفاهم البشر بها، وأما كنه الأمر فهو سرّ متصل بسرّ واجب الوجود وأنبيائه الذي يعجز العقل الإنساني عن إدراكه مع ما يقوم عليه من الدلائل المتنوعة التي لا ينكرها إلّا المكابرون. وما قلناه هو في صدد شرح المراتب أو المشاهد التي احتوت الآية الأولى الإشارة إليها. أما مشهد الاتصال الرباني بالنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم فقد استعمل في بيانه كلمتا أَوْحَيْنا ورُوحاً. وجمهور المفسرين على أن الكلمة الثانية تعني الملك جبريل. ومع أن اسم هذا الملك قد ذكر في آية البقرة التي أوردناها آنفا والتي ذكر فيها أنه كان ينزل القرآن على قلب النبي صلّى الله عليه وسلم ومع أن كلمة الروح استعملت في آيات سورة الشعراء التي مرت في مقام تنزيل الروح بالقرآن على قلب النبي صلّى الله عليه وسلم أيضا فإن العبارة تلهم كون مشهد الاتصال النبوي بالله المشار إليه هنا خاصة هو مشهد إلهامي وإيحائي وروحاني، وأن مشهد تنزيل جبريل يمكن أن يكون هو المشهد الثالث الذي عبر عنه بجملة أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا. على أنه ليس في الحقيقة تعارض بين ما تلهمه العبارة هنا وما تلهمه آيات سورتي الشعراء والبقرة، لأن الإنزال على القلب لا يعدو كما يستلهم من روح الآيات مشهدا إلهاميا وإيحائيا وروحانيا أيضا.

ولقد أوردنا حديثا رواه البخاري عن عائشة في سياق سورة العلق عن أول نزول الوحي على النبي صلّى الله عليه وسلم، وفيه صورة من صور الوحي. ونورد هنا ثلاثة أحاديث روى أحدها البخاري ومسلم والترمذي وروى ثانيها وثالثها مسلم، فيها صور أخرى لتتم بذلك وبما جاء في الأحاديث الصحيحة، صورة الوحي الرباني بما أمكن استلهامه، ونرجو أن يكون فيه الصواب. ولقد روي الأول عن عائشة وجاء فيه: «إنّ الحارث بن هشام سأل النبي صلّى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي؟ فقال: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدّه عليّ فينفصم عني وقد وعيت عنه ما قال. وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلّمني فأعي ما يقول. قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فينفصم عنه وإن جبينه ليتفصّد عرقا» . وروي الثاني والثالث عن عبادة بن الصامت، وجاء في الثاني: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربّد وجهه» . وجاء في الثالث: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي نكس رأسه ونكس أصحابه رؤوسهم فلما انجلى عنه رفع رأسه» «1» . هذا، وفيما احتوته الآية الثانية من تقرير كون النبي صلّى الله عليه وسلم لم يكن يدري ما الكتاب ولا الإيمان قبل الاتصال الرباني به صراحة على أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يكن يعرف من أمر نبوته شيئا إلّا بعد اتصال وحي الله به. وهذا نفي قاطع قرآني للروايات المتداولة في كتب الموالد والشمائل وهذا لا ينفي أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يفكر في آلاء الله وملكوته وتضطرب نفسه في سبيل تحري حقيقة الله وملّة إبراهيم الحنيفية وطريق الدين القويم الذي يجب أن يسلكه. وتنقبض نفسه مما كان يراه من سخف عقائد قومه وتقليدهم وشركهم كما لا ينفي أن يكون قد انتهى إلى الإيمان بالله وحده ربّا للعالمين يجب الاتجاه إليه وحده وعبادته وحده والاستعانة به وحده ونبذ ما عداه قبل نزول الوحي عليه. ولقد كان هذا حقا، وهو ما كان يحمله على اعتكافاته الروحية في غار حراء

_ (1) انظر الأحاديث الثلاثة في التاج ج 3 ص 225.

على ما شرحناه في سورة الضحى فتصفو روحه، حتى تأهّل للاتصال العلوي وتلقي وحي الله وروحه وشعّت في نفسه حقيقة الإيمان اليقيني نورا إلهيا اهتدى به وحمل رسالته والدعوة إليه ليهدي به الناس إلى صراط الله المستقيم. ولقد قال بعض المفسرين «1» إن قصد العبارة هو نفي معرفة النبي صلّى الله عليه وسلم لشرائع الإيمان والإسلام التفصيلية وأشكال الصلاة ومواقيتها معرفة مستندة إلى وحي رباني توقيفي، وأن العبارة لا تنفي أن يكون قد حصل عند النبي صلّى الله عليه وسلم إيمان عام عقلي، وهذا لا ينقض ما قررناه بل يتسق معه كما هو المتبادر.

_ (1) انظر تفسير الآية في كتب تفسير البغوي والخازن والطبرسي.

سورة الزخرف

سورة الزخرف في السورة حملة على المشركين بسبب عقيدتهم بأن الملائكة بنات الله وتمسكهم الأعمى بتقاليد الآباء واستكبارهم عن الاستجابة للنبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه لم يكن من العظماء. وحكاية لاعترافهم بأن الله خالق السموات والأرض وخالقهم أيضا. وفصول من المناظرة بينهم وبين النبي صلّى الله عليه وسلم حول عقائدهم. وتذكير بإبراهيم وموقفه من قومه وبموسى ورسالته لفرعون وبعيسى ورسالته وتقرير لمسؤولية قوم النبي صلّى الله عليه وسلم عن القرآن ورسالته، وتطمين للنبي وتسليته. وتنويه بعظمة الله وشمول ربوبيته، ووصف رائع لمصائر المتقين والمجرمين في الآخرة. وفصول السورة مترابطة ومتساوقة، وبدايتها مرتبطة بنهايتها أيضا مما فيه الدلالة على نزولها دفعة واحدة أو متتابعة. وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآية [54] مدنية، وهي منسجمة في السياق والموضوع انسجاما تاما وهذا ما يحمل على الشك في تلك الرواية. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)

تعليق على آية أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين (5) وحكمة متابعة الله في إرسال رسله

(1) أفنضرب عنكم الذكر صفحا إن كنتم قوما مسرفين: بمعنى هل ننصرف عن تذكيركم بسبب أنكم قوم مسرفون في المكابرة والعناد. وابتدأت السورة بحرفي الحاء والميم للاسترعاء إلى ما بعدهما ثم أعقبهما قسم رباني بالكتاب المبين الواضح في أهدافه ودعوته بأن الله إنما أنزل القرآن باللغة العربية ليستطيع العرب المخاطبون به أن يفهموه ويعقلوه. وأنه- في أم الكتاب عند الله- عليّ الشأن حكيم الأسلوب والمقاصد. واحتوت الآيات بعد ذلك: 1- سؤالا استنكاريا موجها للكفار السامعين المخاطبين عما إذا كانوا يظنون أن الله تعالى يترك تذكيرهم بسبب إسرافهم في المكابرة والعناد أو تجاوز حدوده. 2- وتذكيرا بأن الله أرسل قبلهم أنبياء عديدين فكان أقوامهم يستهزئون بهم فأهلكهم وكانوا أشد بطشا منهم، وعلى هذا جرت سنة الله في الأمم السابقة لهم. تعليق على آية أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) وحكمة متابعة الله في إرسال رسله والمتبادر أن الآيات بسبيل تسجيل موقف وجاهي من مواقف المناظرة والجدل واللجاج بين النبي صلّى الله عليه وسلم والكفار، وأن الآية [5] احتوت ردا على قول يمكن أن يكونوا قالوه للنبي صلّى الله عليه وسلّم بعد أن طال إنذار القرآن وتقريعه وأصروا على موقفهم وعنادهم وهو لماذا تتعب نفسك بعد كل هذا ولا تيأس منا وتتركنا وشأننا؟. فأوحى الله بالآيات للردّ عليهم وبيان حكمة الله في متابعة إرسال رسله رغم استهزاء أقوامهم بهم حيث اقتضت حكمته سبحانه تذكير الناس دورا بعد دور ولم تكن

تعليق على تعبير أم الكتاب

مكابرة الناس وإسرافهم ليجعلاه يحيد عن هذه الحكمة حتى يظل طريق الهدى والحق واضحا بينا، وفي هذا ما فيه من روعة وجلال وتلقين مستمر المدى في وجوب متابعة الدعاة إلى الحق لدعوتهم والصبر عليها والثبات فيها برغم ما يمكن أن يلقوه من إعراض وصدّ واستخفاف لأن ذلك من مقتضى حكمة الله لما فيه من قوام المجتمع البشري وحياته. تعليق على تعبير أُمِّ الْكِتابِ وجمهور المفسرين على أن تعبير أُمِّ الْكِتابِ هو اللوح المحفوظ «1» . غير أن الذي يتبادر لنا أنه بمعنى مصدر التنزيل على سبيل توكيد كون القرآن صادرا عن الله تعالى. ولعل هذا التوكيد متصل بما حكته آيات سورة فصلت ثم آيات سورة الشورى السابقتين لهذه السورة لما كان يحتج به الكفار في معرض الإنكار باختلاف لغة القرآن عن لغة الكتب السماوية الأولى. فالقرآن صادر عن الله تعالى الذي صدرت عنه هذه الكتب. وإذا كانت لغته عربية فإن ذلك بقصد أن يفهمه المخاطبون ولا يحتجوا بعجمته كما احتجوا بعجمة الكتب السماوية الأولى مما انطوى في آية سورة الأنعام هذه: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) . على أن هذا التأويل لا يتعارض مع مفهوم اللوح المحفوظ الذي شرحناه في تفسير سورة البروج شرحا يغني عن التكرار. تعليق على تكرار توكيد عروبة القرآن وصلته بالله هذا، ويلحظ أن عروبة القرآن وصلته بالله تعالى كانتا موضوعا رئيسيا في السور الثلاث السابقة وبخاصة في سورتي فصلت والشورى ثم في هذه السورة

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري إلخ.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 9 إلى 14]

فضلا عمّا قبلها مما يدل على اشتداد لجاج الكفار في هذا الموضوع، وعلى صحة ترتيب هذه السور وتتابعها في النزول. وهو على ما هو المتبادر سبب ما روى عن سلسلة الحواميم وأوردناه في مقدمة سورة غافر من أحاديث. وأسلوب الآيات والتوكيد يؤيد ما قلناه أكثر من مرة من أن المقصد من تعبير القرآن والكتاب كان في بدء الأمر القسم الذي احتوى الآيات المحكمات في مبادئ الدعوة وأسسها. [سورة الزخرف (43) : الآيات 9 الى 14] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14) . (1) مهدا: المستقر أو الممهد. (2) سبلا: طرقا ومسالك. (3) بقدر: بحساب. (4) أنشرنا: أخرجنا وهنا بمعنى أحيينا. (5) الأزواج: كناية عن أنواع المخلوقات وأصنافها. (6) وما كنا له مقرنين: ما كنا قادرين على جعله قرينا مطيعا لنا. وجه الخطاب في الآية الأولى إلى النبي صلّى الله عليه وسلم: فلو سألهم عمن خلق السموات والأرض لما وسعهم إلّا أن يجيبوا بأنه هو الله العزيز القوي الغني عن الغير العليم بكل شيء.

أما الآيات التالية فقد احتوت تقريرات عن مشاهدة قدرة الله ونعمه على السامعين. وعباراتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وقد انتهت بتقرير كون ذلك مما يوجب ذكر نعمة الله وحمده على ما يسرّه للسامعين من وسائل الاعتراف به وإنابتهم إليه. وضمير الجمع المخاطب والجمع الغائب في الآيات عائد إلى الكفار على ما يفيده فحواها. وهي والحالة هذه متصلة بسابقاتها في صدد محاججة الكفار وإفحامهم كما أنها تمهيد لما في الآيات التالية لها، وهذا مما جرى عليه أسلوب النظم القرآني. والجواب في الآية الأولى حكاية مفروضة على لسان الكفار، وأسلوبها يلهم أن جواب الكفار لن يكون إلّا إيجابا، فهم لا ينكرون الله تعالى وإنما يشركون معه غيره للاستشفاع والزلفى ويعترفون أنه الخالق الرازق المدبر المتصرف في الكون النافع الضار وحده. ويدعونه وحده في الشدائد والأخطار على ما حكته آيات عديدة مرّت أمثلة منها، ومن هنا جاء الإفحام والإلزام. ولقد روى البغوي بطرقه عن علي بن أبي ربيعة أنه: «شهد عليا رضي الله عنه حين ركب فلما وضع رجله في الركاب قال بسم الله فلما استوى قال الحمد لله ثم قال سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنّا له مقرنين وإنّا إلى ربّنا لمنقلبون، ثم حمد ثلاثا وكبّر ثلاثا ثم قال: لا إله إلا الله ظلمت نفسي فاغفر لي ذنوبي فإنّه لا يغفر الذنوب إلا أنت ثم ضحك فقيل له: ما يضحكك يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل مثل ما فعلت وقال مثل ما قلت ثم ضحك فقلنا ما يضحكك يا نبيّ الله؟ قال: عجبت للعبد إذا قال لا إله إلا الله ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلّا أنت يعلم أنه لا يغفر الذنوب إلّا هو» «1» . وأورد ابن كثير حديثا عن

_ (1) أورد ابن كثير هذا الحديث أيضا عن الإمام أحمد بفرق مهم وهو: «يعجب الرب تبارك وتعالى من عبده إذا قال ربّ اغفر لي ويقول علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري» وقال الترمذي والنسائي رويا هذا الحديث أيضا. [.....]

[سورة الزخرف (43) : الآيات 15 إلى 19]

عبد الله بن عمر رواه الإمام أحمد قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ركب راحلته كبّر ثلاثا ثم قال: سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنّا له مقرنين وإنّا إلى ربّنا لمنقلبون. ثم يقول: اللهمّ إني أسألك في سفري هذا البرّ والتقوى ومن العمل ما ترضى اللهم هوّن علينا السفر واطو لنا البعيد. اللهمّ أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل. اللهمّ اصحبنا في سفرنا وأخلفنا في أهلنا» . وكان إذا رجع إلى أهله قال: «آئبون تائبون إن شاء الله عابدون لربنا حامدون» . حيث ينطوي في الأحاديث صورة من صور استلهام النبي صلى الله عليه وسلم للآيات القرآنية فرأى أن في الآيتين الأخيرتين من الآيات التي نحن في صددها تعليما له وللمسلمين أيضا بما ينبغي أن يفعلوا إذ يتمتعون بما سخّره الله لهم من وسائل الركوب فكان ما روته الأحاديث منه وصار ذلك سنة شريفة للمسلمين من بعده. [سورة الزخرف (43) : الآيات 15 الى 19] وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19) . (1) جعلوا له من عباده جزءا: كناية عن نسبتهم الأولاد إلى الله تعالى على اعتبار أن الأولاد جزء من آبائهم. (2) أصفاكم بالبنين: بمعنى خصكم بالبنين واصطفاهم لكم. (3) بما ضرب للرحمن مثلا: بما جعله ندا ومماثلا للرحمن. (4) كظيم: كتوم لغيظه على شدته. (5) ينشأ في الحلية: الحلية هي ما تتزين به النساء ومعنى الجملة ينشأ في الزينة، وهو شأن النساء بوجه الإجمال والقصد من الجملة التنديد بهم لأنهم جعلوا

تعليق على ما احتوته الآيات [16 - 18] من وصف الإناث وتوضيح لنظرة القرآن للمرأة ومركزها في الإسلام

النساء- اللاتي يقضين حياتهن في التزين واللهو- أندادا لله تعالى. (6) في الخصام غير مبين: غير بليغ وغير قوي في الجدل والخصومة. وهذا كذلك من شأن النساء وفي هذه الجملة ما في الجملة الأولى من القصد. (7) أشهدوا خلقهم: هل كانوا حاضرين حينما خلقهم الله. في الآية الأولى إشارة تنديدية إلى عقيدة المشركين الكفار في الملائكة وفي الآيات التالية لها مناقشة وردّ وتسفيه وإنذار لهم بسببها. فقد سوّغوا أن يكون بعض عباد الله جزءا منه أي أولادا وفي هذا ما يدل على شدة جحود الإنسان وانحرافه عن الحق والمنطق. ثم سوّغوا أن يكون أولاد الله من البنات فقط في حين أنهم يتمنون أن يكون أولادهم ذكورا وفي حين أن أحدهم إذا بشّر بالبنات التي ينسبونهن إلى الله اسودّ وجهه وامتلأ صدره غيظا ولم يكد يقدر على كتمه وكظمه. وهذا يدل على شدة سخفهم لأن النساء في العادة والإجمال ضعيفات في قوة الخصومة والنضال يقضين حياتهن في التزين واللهو وهذا مما لا ينبغي أن يكون عليه أولاد الله إذا كان يصح أن يكون له أولاد سبحانه وتعالى. والبنات اللاتي نسبوهن إلى الله هم الملائكة وهم عباده فهل كانوا حاضرين حينما خلقوا ليقولوا هذا القول الذي لا يجوز أن يقوله إلا شاهد عيان، ولسوف يحصي الله على الكفار المشركين هذه الأقوال ليسألهم عنها ويحاسبهم عليها حسابا عسيرا. والآيات متصلة بسابقاتها واستمرار لها كما هو المتبادر. وأسلوبها جدلي، والحجة في الجدل تكون أقوى بطبيعة الحال إذا كانت مستمدة مما يسلم به الفريق الثاني ولهذا جاءت الحجة هنا قوية ملزمة والسخرية لاذعة محكمة. تعليق على ما احتوته الآيات [16- 18] من وصف الإناث وتوضيح لنظرة القرآن للمرأة ومركزها في الإسلام وقد يبدو لأول وهلة من فحوى الآيات [16- 18] أنها بسبيل الانتقاص من

[سورة الزخرف (43) : الآيات 20 إلى 22]

قدر البنات والإناث ومركزهن وتهوين شأنهن بالنسبة للبنين والذكور والذي يتبادر لنا أن ما ورد في الآيات هنا وفي آيات أخرى جاءت في مثل المناسبة التي جاءت فيها هذه الآيات هو تعبير عما كان سائدا في أذهان العرب الذين تندد الآيات بمشركيهم واعتباراتهم لتكون الحجة فيها أشد إلزاما وإفحاما. وليس هو رأي القرآن المباشر في المرأة وبخاصة المسلمة، أما هذا الرأي فإن ما ورد في القرآن المكي والمدني معا يسوّغ القول إنه قد رفع من شأنها ومركزها اللذين كانا منخفضين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته، بل جعلها مساوية للرجل في كل شيء تقريبا. فقد اعتبرها والرجل متساويين في أصل الخلقة، ونشوء الجنس والرابطة الزوجية على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة، واعتبرها أهلا لكل تكليف كلّف به الرجل، وكل واجب أوجب عليه وكل خطاب خوطب به، وأباح لها كل ما أباح له وحرّم عليها كل ما حرّم عليه ومنحها كل ما منحه، ورتب عليها كل نتيجة ر؟ ها عليه من كل ذلك في الحياة الدنيا والآخرة معا. واعتبرها صاحبة الحق في كل تصرف من التصرفات الشخصية والمدنية والملية المشروعة دون أن يتوقف ذلك على إذن الرجل مهما كانت نسبته إليها، وثبت حقها في الإرث ومنحها فيه ما فيه الكفاية بل وأكثر من الكفاية مما هو من مفاخر الشريعة الإسلامية ومفرداتها ومعجزاتها الباهرة التي رشحتها للخلود. وما قد يكون هناك من بعض التحفظات والاستدراكات القرآنية فإنه متصل بالحياة الزوجية أو بطبيعتها الجنسية وليس من شأنه أن ينتقص مما ذكرناه شيئا على ما سوف نشرحه في مناسباته إن شاء الله، وهو من الكثرة والتنوع بما لا يتسع له المقام هنا. [سورة الزخرف (43) : الآيات 20 الى 22] وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) . (1) ما عبدناهم: الضمير راجع إلى الملائكة.

تعليق على آية وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم وما بعدها

(2) يخرصون: يظنون أو يخمنون أو يتوهمون. (3) من قبله: الضمير راجع إلى القرآن. (4) أمة: هنا بمعنى ملة أو طريقة أو دين. في الآيات: 1- حكاية لما كان يعتذر به المشركون عن عبادة الملائكة حيث كانوا يقولون إن الله لو لم يشأ أن نعبدهم لمنعنا من عبادتهم. 2- وردّ تسفيهي على هذه الحجة الواهية بتقرير كونهم لا يستندون فيها إلى علم وبيّنة وإنما هم متوهمون توهما. 3- وتساؤل على سبيل الاستنكار والتحدي عما إذا كان الله تعالى قد أنزل عليهم قبل القرآن كتابا يستندون إليه فيما هم عليه من عقائد ويدلون به من حجج ويستمسكون به دون القرآن. 4- وحكاية لما كانوا يقولون حينما تلزمهم الحجة حيث كانوا يقولون: إنا وجدنا آباءنا على طريقة ونحن سائرون على هداهم وسيرتهم فيها. والآيات كما هو ظاهر متصلة بسابقاتها اتصال سياق وموضوع وتعقيب. وتلهم أن المشركين العرب كانوا يعتقدون أن ما هم عليه متصل بشريعة ربانية يتوارثونها جيلا عن جيل. وقد تكررت حكاية هذه الحجة عنهم مرارا مرت منها أمثلة في السور السابقة حيث يبدو أنهم كانوا يكررونها في كل مناسبة ومناظرة. والروايات تذكر وبعض الآيات تلهم أنهم كانوا يظنون أن ما هم عليه من عقائد وتقاليد هو من ملّة إبراهيم على ما شرحناه في سياق سورة (الأعلى) وغيرها من السور السابقة. تعليق على آية وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ وما بعدها والآيات تنطوي على معنى التنديد بالحجة التي كان المشركون يحتجون بها

وتقرير كون صحة العقيدة والفكرة وبطلانهما لا يجوز أن يكون مستندا إلى قدمها وتوارثها عن الآباء وإنما يجب أن تكون قائمة على بينة وعلم ومصلحة، وفي هذا تلقين جليل قرآني مستمر المدى. وفي الآية الأولى ردّ مستمر التلقين والمدى أيضا على كل حجة مماثلة لتبرير الآثام والاعوجاجات التي يرتكبها الناس ويقولون إن الله لو شاء لما ارتكبوها. وفيها كذلك تسفيه مستمر التلقين والمدى لكل من يلقي الكلام على عواهنه من غير سند إلى علم وبينة أو يتمسك برأيه تمسكا أعمى بدون منطق ودليل. ولقد اعتبر الزمخشري الآية الأولى دليلا على صحة مذهب المعتزلين الذين يقولون باكتساب الإنسان أعماله بمشيئته بما في ذلك الكفر والشرك والإيمان لأنها نددت بالمشركين الذين يقولون لو شاء الله ما أشركنا وقررت ضمنا أن شركهم إنما كان باختيارهم وكسبهم فاستحقوا التنديد والإنذار. وغمز المجبرة الذين يخالفون مذهب المعتزلة في ذلك. وقد ردّ عليه القاضي ابن المنير وقابل الغمز بمثله «1» . والآية هي بسبيل حكاية قول المشركين والتنديد بهم لأنهم أرادوا تبرير شركهم. والأولى أن تبقى في هذا النطاق لتظل الحجة فيها والتلقين المستمر قويين. وقد تكرر فحواها في مثل هذه الحجة والتلقين في آيات سورة الأنعام [149- 150] التي سبق تفسيرها والتي احتوت زيادة هامة في بابها من حيث تقريرها أن الله لو شاء لجعل جميع الناس مهتدين ولكنه ترك ذلك لاختيارهم حيث يدل هذا على أن المشركين كانوا يكررون إيراد هذه الحجة ويرون فيها تبريرا لعقائدهم وردا على النبي صلى الله عليه وسلم وما يتلوه عليهم من آيات فيها تسفيه وتنديد لهم. ولقد حمل بعض المفسرين «2» ما حكته الآية الأولى من قول المشركين على محمل الاستهزاء والتعجيز وآيات الأنعام المشار إليها آنفا تؤيد كون ذلك صادرا عنهم في معرض التبرير. وقد وردت آيات تتضمن تقرير كون المشركين يعتقدون

_ (1) انظر تفسير الكشاف والتعليق عليه لابن المنير طبعة مصطفى محمد ج 3 ص 414. (2) انظر تفسير النسفي.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 23 إلى 25]

أنهم على حق في عقائدهم، منها ما حكته آية سورة الأعراف هذه: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28) ونحن نرجح أن قولهم هنا من هذا الباب. وهذا ما يستفاد من شرح معظم المفسرين أيضا «1» . ولعل في الآية التالية لها قرينة قوية على ذلك حيث تساءلت تساؤل المنكر عما إذا كان لديهم كتاب من الله يستندون إليه ويستمسكون به. [سورة الزخرف (43) : الآيات 23 الى 25] وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) . (1) مترفوها: زعماؤها ووجهاؤها الذين استغرقوا في الترف وأبطرتهم النعمة والوصف هنا في مقام الذم والتنديد. جاءت الآيات معطوفة على ما قبلها ومعقبة عليه: 1- فلم يكن الله يرسل نذيرا قبل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمة أو مدينة إلا قال له مترفوها إنا وجدنا آباءنا على طريقة ونحن مقتدون بهم. 2- ولقد كان أنبياؤهم يسألونهم منددين عما إذا كانوا يصرون على طريقة آبائهم حتى ولو أتوهم بما هو أهدى وأصلح منها فيجيبونهم بأنهم كافرون بما أتوا به على كل حال. 3- ومن أجل ذلك فقد انتقم الله منهم.

_ (1) انظر تفسير الطبري والكشاف وابن كثير والبغوي والخازن والطبرسي.

تعليق على آية وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وما بعدها

وانتهت الآيات بأمر السامع بالنظر كيف كانت عاقبتهم وبالاتعاظ والاعتبار بها. تعليق على آية وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وما بعدها وفي الآيات تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ما يلقاه من قومه هو ما كان يلقاه الأنبياء من قبله. وإنذار للكفار بعاقبة مثل عاقبة أمثالهم الأولين، والأمر بالنظر إلى عاقبة السابقين يتضمن كون آثار انتقام الله مما يشاهد ويرى من قبل السامعين كما هو المتبادر مما فيه تدعيم للإنذار وإلزام للكفار. واستعمال كلمة مُتْرَفُوها قد يدل على أن المتصدين للصدّ والحجاج مع النبي صلى الله عليه وسلم هم الزعماء وأصحاب الوجاهة والقوة من المشركين، وهو ما أكدته آيات كثيرة أخرى مرّت أمثلة عديدة منها. وفي الآيات توكيد للتلقين الذي نبهنا إليه قبل قليل بعدم جواز التمسك الأعمى بتقاليد الآباء دون ما سند وبيّنة ومصلحة وحقّ. وفي الآية الثانية بخاصة دعم قوي له بما احتوته من التنديد المفحم بالتعصب لتقاليد الآباء حتى في حال الدعوة إلى ما هو الأهدى والأصلح والأحق، وفي هذا تلقين مستمر المدى بوجوب الأخذ دائما بما هو الأهدى والأصلح والأحق بقطع النظر عن مصدره وبقطع النظر عن جدته وقدمه. [سورة الزخرف (43) : الآيات 26 الى 28] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) . (1) عقبه: كناية عن ذريته.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 29 إلى 32]

وهذه الآيات تعقيب ثان على أقوال الكفار في صورة تذكير بإبراهيم عليه السلام، فقد قال لأبيه وقومه: إني نابذ ما تعبدون من أصنام وبريء منها ولائذ بالذي خلقني وحده فهو الذي يهديني إلى طريق الحق القويم. وقد جعل إبراهيم هذا الأمر وصية دائمة لأنساله من بعده حتى يسيروا عليه ويتذكر من يضلّ منهم فيعود عن ضلاله إليه. والآيات قد تلهم أنه أريد بها تذكير العرب السامعين بطريقة ووصية من يعرفون ويعترفون بأنه أبوهم الأكبر على سبيل التنديد والإفحام. فإذا كانوا يريدون التمسك بتقاليد الآباء فهذا هو تقليد أبيهم الأكبر وعليهم أن يعودوا عن ضلالهم إليه. وقد شرحنا ما كان يتداوله العرب العدنانيون من تقليد بنوتهم لإبراهيم عليه السلام في سورة الأعلى فلا نرى حاجة إلى الإعادة. [سورة الزخرف (43) : الآيات 29 الى 32] بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) . (1) متعت: هنا بمعنى يسرت لهم الأسباب والوسائل. (2) القريتين: كناية عن مدينتي مكة والطائف. (3) سخريا: من التسخير والسخرة بمعنى الاستخدام لقضاء المصالح. احتوت الآيات صورة أخرى من صور الجدل واللجاج بين النبي صلى الله عليه وسلم وزعماء الكفار: 1- فالله قد أنعم على السامعين وآبائهم من قبل ويسّر لهم وسائل الحياة

تعليق على آية وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم (31) والآية التالية لها

ورغدها فاغتروا وانحرفوا عن جادة الحق فأرسل إليهم رسوله بالحق فظلوا في انحرافهم. 2- وقابلوا الدعوة بالجحود ووصفوها بالسحر وكفروا بها. 3- ثم قالوا إن القرآن لو كان حقا من عند الله لأنزل على عظيم من عظماء مكة أو الطائف. 4- وقد ردت الآية الأخيرة على هذا القول منددة منكرة في صيغة التساؤل عما إذا كانوا يتحكمون في قسمة رحمة الله وتوزيعها وتعيين من هو الأحق بعطف الله واصطفائه لقرآنه، ثم دعمت الردّ بتقرير كون الله هو الذي قسم بينهم معيشتهم، وكون ما هو قائم بينهم من الفروق وارتفاع بعضهم فوق بعض إنما هو مظهر من مظاهر الحياة الدنيا وطبيعتها ليتمكن الناس من استخدام بعضهم لبعض وانتفاع بعضهم من بعض في المصالح والحاجات، وكون رحمة الله وعطفه هما خير مما يجمعه الناس ويتمتعون به من مال وجاه وبسطة عيش، فلا يحظى بهما إلّا الذين يصطفيهم الله ويراهم أهلا لهما. والآيات متصلة بالسياق من حيث احتواؤها صورة لمواقف زعماء الكفار وعقائدهم وأقوالهم التي ما فتئت فصول السورة تذكرها. تعليق على آية وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) والآية التالية لها والمتبادر من الآيات أن زعماء الكفار كانوا يرون أنفسهم أحقّ بالنبوة ومهمة الدعوة لأنهم أصحاب الحول والمكانة في بيئتهم. أو أن بعضهم كان يرى نفسه أحقّ بذلك لأنهم كانوا على شيء من العلم بالأديان والمعارف السابقة بالإضافة إلى حوله ومكانته في بيئته. ولقد روى الطبري عن بعض التابعين بعض الأسماء التي كان المشركون يقصدونها من عظماء مكة والطائف مثل الوليد بن المغيرة أو

تعليق على جملة ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا

عتبة بن ربيعة من مكة وحبيب بن عمرو بن عمير أو عروة بن مسعود أو ابن عبد ياليل من الطائف. ولقد روى أن النضر بن الحرث بن كلدة أحد زعماء الكفار كان يعرف كثيرا من تاريخ الفرس وغيرهم وكان واقفا على شؤون الأديان السابقة فكان يقول على سبيل الصدّ عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن حديثه ليس أطلى من حديثي، وإنه إنما يحدثكم بأساطير الأولين فتعالوا إليّ وأنا أحدثكم عن رستم وإسفنديار بحديث أطلى مما يحدثكم «1» . وقد احتوت الآيات ردا عليهم ثم تنويها بالنبي صلى الله عليه وسلم وتقريرا لأهليته لاصطفاء الله له لمهمة الرسالة العظمى. ومع ما في الآيات من خصوصية زمنية وجدلية وموضوعية فإنها تحتوي تلقينا جليلا عاما بأفضلية الصلاح الروحي والخلقي، على البهرج المادي وكثرة الثروة واتساع الجاه في الدنيا. وإلى هذا فإن الآيات تدل على أن الوجاهة والزعامة كانتا تلعبان دورا كبيرا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره. وعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن زعيما ذا شأن نافذ، وتنطوي على سبب من أسباب امتناع زعماء الكفار من الاستجابة إلى دعوته ومناوأتها، وهو الاعتداد والاستكبار والأنفة والغيظ من اختصاصه بالنبوة والقرآن دونهم. وهو ما انطوى في آيات سورة فاطر هذه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) ، وآية سورة ص هذه: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) . تعليق على جملة وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ولقد قلنا في شرح الآيات: إن جملة وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا هي بسبيل التنبيه على أن ذلك مظهر من مظاهر الحياة

_ (1) انظر تفسير آية الأنفال [21] في كتب تفسير الطبري وابن كثير والطبرسي وغيرهم.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 33 إلى 35]

وطبيعتها ونزيد على هذا أن العبارة لا تفيد أن في ذلك اختصاصا ربانيا وعناية ربانية للطبقة المرتفعة أو حطا ربانيا من شأن الطبقة المنخفضة ولا ثباتا مستمرا لارتفاع أفراد الطبقة المرتفعة وانخفاض أفراد الطبقة المنخفضة. وأن الذي تفيده كما هو المتبادر من روحها وفحواها ومقام ورودها أن حكمة الله اقتضت أن يتفاوت الناس من حين إلى حين ومن جيل إلى جيل ومن بيئة إلى بيئة في الفهم والقدرة والقابلية والنشاط والثروة والمركز الاجتماعي. فيضمن هذا التفاوت تبادل قضاء المصالح والحاجات بين الناس على اختلاف درجات فهمهم وقدرتهم وقابليتهم ونشاطهم وثروتهم ومركزهم الاجتماعي. وفي بقية الآية التي جاءت فيها الجملة دليل على أن الارتفاع ليس اختصاصا ولا عناية ربانية وأن الانخفاض ليس انتقاصا ولا خفضا ربانيا. [سورة الزخرف (43) : الآيات 33 الى 35] وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) . (1) معارج: سلالم ودرجات للصعود عليها. (2) زخرفا: بعض المفسرين واللغويين يقولون إن هذه الكلمة كانت تعني (الذهب) . (3) لمّا: هنا بمعنى إلّا. في الآيات: 1- تنبيه على أن الله قادر على منح الكافرين به جميعا بيوتا مسقوفة بالفضة مجهزة بسلالم من الفضة وبسرر وأبواب من الفضة ومزخرفة بأنواع الزخارف الذهبية أو يغدق عليهم الذهب فيتمتعون بذلك لولا أن حكمته اقتضت أن لا يكون

الناس أمة واحدة وصنفا واحدا أو على طريقة واحدة. 2- وتقرير بأن كل ما يمكن أن يتمتع به الكفار من بهارج الدنيا وزخارفها وذهبها وفضتها ليس إلّا متاعا قصير الأمد قاصرا على الدنيا وأن المتعة الحقيقية إنما هي متعة الآخرة للمتقين عند الله لأنها المتعة الخالدة. وظاهر أن الآيات جاءت معقبة على سابقاتها وبخاصة الأخيرة منها ومتصلة بموضوعها، والفقرة الأخيرة من الآية الأخيرة احتوت تطمينا للمؤمنين المتقين وتنويها بمقامهم عند الله بالمقابلة. وقد قال بعض المفسرين «1» في صدد الفقرة الاستدراكية الواردة في أول الآية الأولى إنها في معنى (لولا أن يغري الناس بالكفر فيكونوا جميعهم كافرين لمنح الله للكافرين تلك البهارج الدنيوية) . ولا يخلو هذا من وجاهة وإن كان المعنى الذي أولناها به هو الذي يتبادر لنا أن الآية تلهمه أكثر والله أعلم. ولقد روى البغوي بطرقه في سياق هذه الآيات حديثا عن سهل بن سعد قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها قطرة ماء» . وحديثا عن المستورد بن شداد قال: «كنت في الركب الذين وقفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السخلة الميتة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترون هذه هانت على أهلها حتى ألقوها. قالوا: من هوانها ألقوها، قال: فالدنيا أهون على الله من هذه على أهلها» . ولم يرو البغوي علاقة ظرفية بين الحديثين والآيات غير أن هذه العلاقة ملموحة بشكل ما، فالحديثان بسبيل بيان تفاهة وهوان شأن الدنيا ومتاعها وبهرجها مما يجعل الكفار والمشركين يظنون أنهم في إحرازهم لها يكونون أصحاب الحق في الحظوة عند الله أو أن ذلك مظهر من مظاهر عناية الله بهم. وبسبيل التنبيه على أن العواقب الحسنة الطيبة هي من نصيب المؤمنين المتقين وعلى ضوء هذا الشرح

_ (1) انظر تفسيرها في تفسير الخازن وابن كثير والبغوي.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 36 إلى 39]

المتبادر من روح الآيات والأحاديث ونصها لا يكون في الحديثين ولا في الآيات دعوة للمسلمين إلى نفض يدهم من الدنيا إذا كانوا قائمين بواجباتهم نحو الله والناس. [سورة الزخرف (43) : الآيات 36 الى 39] وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39) . (1) يعش: يعمى أو لا يرى، والعبارة كناية عن الانصراف عن ذكر الله ودعوته وتجاهلهما. (2) نقيّض: نرتب ونهيىء ونجعل. (3) قرين: ملازم. (4) بعد المشرقين: جمهور المفسرين على أن الجملة بمعنى بعد ما بين المشرق والمغرب. في الآيات: 1- تنبيه على أن الذي يتعامى عن ذكر الله وآياته وبيناته يسمح الله سبحانه بأن يلازمه شيطان ويتسلط عليه فيزين له ما هو فيه ويجعله يحسب أنه على هدى ويصده عن سبيل الله الحق. 2- وتقرير بأن الحقيقة سوف تنكشف لهذا وأمثاله حينما يقف أمام الله حيث يعرف أنه إنما كان يتبع وسوسة الشيطان وإغراءه فيشعر بالندم ويصرخ في وجه شيطانه قائلا له: يا ليت بيني وبينك بعد ما بين المشرق والمغرب لأنك بئس القرين السوء الذي أضلّني وأعماني.

تعليق على جملة ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا

3- وحينئذ يخاطب الله الكافرين فيقول لهم: إنكم وقد ظلمتم أنفسكم بالشرك والإعراض عن دعوة الله والاستماع إلى وسوسة الشيطان لن ينفعكم ندمكم وعتابكم لشياطينكم الذين هم شركاؤكم في العذاب ولن يخفف عن أحد منكم عذابه كون قرينه مشتركا معه فيه. والآيات معقبة أيضا على سابقاتها ومتصلة بالسياق والموضوع كما هو المتبادر، وأسلوبها قوي ولاذع، والمتبادر أنها استهدفت فيما استهدفته التنديد بالكفار وإثارة خوفهم وحملهم على الارعواء. تعليق على جملة وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً وقد أوّلنا تعبير نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً بما أوّلناه لأنه المتسق مع روح الآيات وروح التقريرات القرآنية عامة. فالضلال والتعامي كان من المتعامي عن ذكر الله أصلا كنتيجة لسوء نيته وخبث طويته فكان للشيطان سبيل عليه. ولقد كان هذا التعبير مما دار حوله جدل بين أصحاب المذاهب الكلامية في معرض كون الله هو الذي يضل أو لا يضل الكافرين «1» . ولسنا نرى المقام يتحمل ذلك. ولا سيما أن الآيات تنطوي على إنذار الكافرين والتنديد بهم وتقرير استحقاقهم للعذاب بسبب تعاميهم واستماعهم للشيطان الذي صدهم عن سبيل الله واستهدفت إثارة ندم الكفار والأولى أن تبقى في هذا النطاق، وفي الآيات التالية ما فيه دعم وتأييد لذلك. [سورة الزخرف (43) : الآيات 40 الى 45] أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)

_ (1) انظر تفسيرها في الكشاف المذيل بحواشي ابن المنير ج 3 ص 419- 420.

(1) وإنه لذكر لك ولقومك: إن فيه لشرفا لك ولقومك، أو إن فيه لتذكيرا لك ولقومك والأكثر على القول الأول. وجّه الخطاب في الآيات للنبي صلى الله عليه وسلم لتقول له: 1- إنه ليس من شأنه ولا واجبه أن يسمع الأصم أو يجعل الأعمى يرى أو يقنع من كان مرتكسا في الضلال عن عمد ومكابرة وعناد. 2- وإن هؤلاء لن يعجزوا الله في أي حال، فهو قادر عليهم منتقم منهم سواء أعاش حتى يرى تحقيق وعيد الله فيهم بعينيه أم جاءه قضاء الله قبل ذلك وذهب به. 3- وإن المطلوب منه هو الاستمساك بما أوحى الله إليه به فهو على طريق الله المستقيم، وفيه ذكر وشرف خالدان له ولقومه وهم مسؤولون عن تبعته وحقه أمام الله. 4- وإن الله لا يمكن أن يكون قد أذن للناس أن يعبدوا إلها غيره، وهذا مؤيد بشهادة الرسل الذين أرسلهم الله قبله فليسألهم ليتأكد من ذلك. والآيات متصلة بموضوع الآيات السابقة التي نددت بالكفار المشركين ووصفت شدة عنادهم ومكابرتهم. وفيها تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم في موقفه ودعوته، وتسرية عنه لما يلقاه من عناد الكفار ومكابرتهم. وفيها تدعيم للتأويل الذي أولنا به الآيات السابقة وبخاصة تعبير وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) . والآية الأخيرة هي على ما يتبادر للرد على المشركين في زعمهم أن ما هم عليه هو من هدى الله وأن لو شاء لما عبدوا الملائكة وأشركوهم معه. وأسلوبها

تعليق على آية وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون (44)

أسلوب تحدّ ونفي معا. والمفسرون «1» يروون عن ابن عباس قولين في المقصود من جملة: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أحدهما أن الله عز وجل جمع المرسلين للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء وأمره أن يسألهم ولكنه لم يشك ولم يسأل، وثانيهما أن الجملة عنت أهل الكتاب أو مؤمني أهل الكتاب، ومعظم المفسرين أخذوا بهذا القول وهو الأوجه. وفي القرآن آيات عديدة فيها أمر للنبي صلى الله عليه وسلم باستشهاد أهل الكتاب مما يدعم هذا القول. ومن ذلك آية سورة يونس هذه: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وفي سورة الأنبياء آية في نفس الصدد الذي جاءت فيه الآية وهي: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وجملة وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بمعنى كتب الأنبياء من قبلي أو أخبارهم. تعليق على آية وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) وجملة وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) تحتمل أن يكون معناها: إنه لشرف لك ولقومك، أو: إنه لتذكير لك ولقومك وسوف تسألون عن موقفكم منه وجهدكم في سبيله، وأكثر الأقوال والروايات في جانب القول الأول، وهو ما يؤيده إشراك النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب. وهي على هذا تتضمن معنى جليلا في صدد ما ناله النبي صلى الله عليه وسلم وقومه من كرامة وشرف بسبب الرسالة المحمدية سواء أكان تعبير وَلِقَوْمِكَ كناية عن العرب كما قال بعض المفسرين أم عن قبيلة قريش كما قال بعض آخر، وتعبير وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44)

_ (1) انظر تفسير الآية في كتب تفسير الطبري وابن كثير والخازن والطبرسي والبغوي والزمخشري.

يتضمن تقرير كون قوم النبي صلى الله عليه وسلم قد حملوا من قبل الله تعالى واجبا عظيما مقابل ما نالوه من شرف وكرامة إزاء الدعوة ومبادئها وتعاليمها سواء في الاستجابة إليها والعمل بموجبها أم في القيام بعبء نشرها وبثّها والدفاع عنها. وفي هذا ما فيه كذلك من معنى جليل وواجب خطير، وتلقين مستمر المدى وتقرير لشأن العرب عامة أو قريش خاصة ومسؤوليتهم بين سائر الأمم الإسلامية، وحفز لهممهم وجهدهم وجهادهم، وسنزيد هذا الموضوع شرحا في تفسير الآية الأخيرة من سورة الحج إن شاء الله. وفي سورتي البقرة والحج آيات تؤيد هذا التلقين والتقرير وهي هذه: 1- وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ... [البقرة/ 143] . 2- وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ... [الحج/ 78] . وتأييد آية سورة الحج بنوع خاص أقوى وأوكد لأن قصد العرب أو قريش فيها أصرح من حيث إنها ذكرتهم بأبوة إبراهيم لهم التي يعرفونها ويعترفون بها على ما تقدم ذكره قبل قليل. وكلمة وَسَطاً تعني الخيار بين الناس لأن خير الأمور أوسطها، وكلمة شُهَداءَ تعني مراقبين وعدولا نتيجة لكونهم وسطاء. ولقد أوّل بعض المفسرين «1» كلمة وَلِقَوْمِكَ بأمتك وجعلوها شاملة لجميع المسلمين، ونحن ما زلنا نرجح المفهوم السابق لأن العرب وقريشا بخاصة

_ (1) انظر تفسيرها في تفسير النسفي.

كانوا هم موضوع الكلام والخطاب والدعوة حين نزول الآية، ولأن تأييد آية سورة الحج بخاصة قوي بل حاسم. وتبعا لهذا أو نتيجة له يصح أن يقال إنه صار للعرب رسالة إنسانية وعالمية خالدة لما في القرآن والحكمة النبوية من معجزات باهرة وتشريعات ومبادئ خالدة تستجيب لكل حاجة من حاجات البشر وتحلّ كلّ مشكلة من مشاكلهم في كلّ ظرف من ظروفهم. وسواء في ذلك المسائل والمشاكل والشؤون الاجتماعية والعلمية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية والأسرية والإنسانية أم المسائل والمشاكل الروحية والإيمانية والعقيدية مع سعة غير محدودة في الأفق، ومرونة كبرى في التطبيق وسمو لا يدانى في الأسس والأهداف يكفل تقدم معتنقيها قدما إلى أسمى ذرى الكمال الإيماني والروحي والعلمي والتشريعي والاجتماعي والأخلاقي والسياسي والاقتصادي والأسري والإنساني بكل قوة وسرعة ودون ما أي عائق وجمود وتعقيد. وإمدادهم بأسباب الصيانة الروحية والأخلاقية، وإمدادهم بذخر من الفيض الروحي الذي يحول بين فراغ النفس واليأس والانهيار في الأزمات ويدفع عنهم نوازع الشر والأنانية والهدم إذا هم فهموها وساروا على نهجها بإيمان وصدق خلافا لما يتوهم الذين لم يدرسوها دراسة واعية «1» بحيث

_ (1) ناقشنا هذا الموضوع بالذات في مقدمة كتابنا «الدستور القرآني في شؤون الحياة» مناقشة وافية، وفي هذا الكتاب فصول وشروح في مبادئ وتعاليم وأهداف وأحكام وتلقينات القرآن ما يلجم كل مكابر ممار. ومثل هذا بارز واضح فيما مرّ وفيما يأتي من أجزاء هذا التفسير وفي خلال آلاف الأحاديث النبوية التي أوردناها في سياق تفسير السور وما لم نوردها مما هو مبثوت في كتب الأحاديث الصحيحة يبدو نور النبوة الوهاج الذي يتساوق مع القرآن في مثل تلك المبادئ والتعاليم والأهداف والأحكام والتلقينات. وهناك شهادات لا تحصى لعلماء الغرب الاجتماعيين بما كان من أثر ذلك فيما قام من حضارة عربية إسلامية باذخة في القرون الإسلامية الأولى في مشارق الأرض ومغاربها. وهذه واحدة نوردها نشرت في ظرف كتابة هذا التعليق في العدد الثالث من السنة الخامسة من مجلة «حضارة الإسلام» التي تصدر في دمشق (جمادى الأولى 1384) ، مقتبسة من كتاب «قانون التاريخ لجوفيه كستلو» قال: «كان التقدم العربي بعد وفاة الرسول عظيما، جرى على أسرع ما يكون وكان الزمان مستعدا لانتشار الإسلام فنشأت المدنية الإسلامية نشأة باهرة قامت في كل مكان مع الفتوحات بذكاء غريب ظهر أثره في الفنون والآداب والشعر والعلوم وقبض العرب بأيديهم خلال عدة قرون على مشعل النور العقلي وتمثلوا جميع المعارف البشرية التي لها مساس بالفلسفة والفلك والكيمياء والطب والعلوم الروحية فأصبحوا سادة الفكر مبدعين ومخترعين لا بالمعنى المعروف بل بما أحرزوا من أساليب العلم التي استخدموها بقريحة وقّادة للغاية. وكانت المدنية العربية قصيرة العمر إلّا أنها باهرة الأثر وليس لنا إلّا إبداء الأسف على اضمحلالها» . ومصداق هذا وتفصيله مبثوث في الكتب العربية التي وصل إلينا بعضها وضاع كثير منها وخبوء نور المدنية العربية الإسلامية إنما كان بسبب ما قام بين العرب من فتن واندسّ من دسائس وتغلب عليهم نتيجة لذلك من متغلبين جهلاء. وقد نوّهنا بشهادات علماء العرب لأن كثيرا من الذين يتسمون بالقومية العربية ويحاولون فصل الإسلام عن العروبة أو أكثرهم قد نشأوا نشأة غربية وكانوا وظلوا غرباء عن النشأة العربية الإسلامية.

كان ذلك حكمة الله العظمى في ترشيحها لتكون دين البشرية عامة، ووعد الله تعالى بتمكينها في الأرض كما جاء في آية سورة الفتح هذه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) وآيات سورة التوبة هذه: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) وآية سورة النور هذه: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [55] . وإنه صار كذلك من واجب العرب وحقهم الاعتزاز بها وبذل الجهد في إصلاح أنفسهم على أضوائها ليكونوا لائقين لها قادرين على القيام بواجبهم نحوها. بل إن هذا الاعتزاز بهذه الرسالة الإنسانية العالمية الخالدة هو من حق العرب غير المسلمين ونعني المسيحيين- لأنه ليس هناك عرب غير مسلمين غيرهم- وواجبهم إذا كانوا صادقين ومخلصين حقا في شعورهم القومي. لأن العروبة إذا ما

تجردت عن هذه الرسالة فقدت ميزة عظمى تتميز بها بين الأمم. وليس من شأن هذا أن يتناقض مع المسيحية التي انتقلت إليهم من أسلافهم آليا لأسباب وظروف مختلفة، ولا سيما إن الرسالة الإسلامية شقيقة متممة للرسالة المسيحية وإن المسيح ومحمد صلى الله عليهما وسلم يمتان إلى الجنس العربي. وكل ما في الأمر أن الأول يمتّ إلى جيل سابق لدور العروبة الصريح، وقد أوجب كتاب الله وسنة رسوله على المسلمين احترامه وتكريمه وتقديسه والاعتراف بنبوته وصلة الله به ومعجزة ولادته. وكل هذا يجعل الذين يحاولون فصل الإسلام عن العروبة من العرب سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين مستحقين لنعت المجرم القومي أو الدعي القومي. من حيث إن ميزة الإسلام هي ميزة العروبة الكبرى من شأنها أن تمد العرب والإنسانية بأرقى ما يمكن أن يتصور من مثل عليا وقيم أخلاقية وحوافز قوية نحو الخير والتقدم والرقي والتكامل في كل مجال من مجالات الحياة المادية والمدنية ويكون العرب بها وحسب أصحاب رسالة عالمية خالدة ومن حيث إن فقد العرب لهذه الميزة خسارة بل كارثة قومية وإنسانية. كما يجعل المسلمين الذين يحاولون فصل العروبة عن الإسلام سواء أكانوا عربا أم غير عرب منحرفين عن ما قرره القرآن من شأنية العرب العظمى في الرسالة الإسلامية المتمثلة في حكمة الله عز وجل بجعل نبيها عربيا وكتابها عربيا وبجعل العرب أمة وسطا شهداء على الناس وتقرير مسؤوليتهم عنها. وإذا كنا نقول إن من حق العرب وواجبهم أن يعتزوا بالرسالة الإسلامية وأن يبذلوا جهدهم لإصلاح أنفسهم حتى يكونوا لائقين بها وقادرين على القيام بواجبهم نحوها فإن غير العرب من المسلمين لا يفقدون هذا الحق ولا يرتفع عنهم هذا الواجب. لأن كل ما اتصفت به الرسالة الإسلامية وهدفت إليه قد صار وصفا وهدفا للمسلمين جميعهم.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 46 إلى 56]

[سورة الزخرف (43) : الآيات 46 الى 56] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56) . (1) مهين: حقير. (2) لا يكاد يبين: إشارة إلى ما كان من ثقل لسان موسى مما ذكر في آيات سورة الشعراء وطه والقصص بصراحة أكثر. (3) فلما آسفونا: فلما أغضبونا. عبارة الآيات واضحة، وقد احتوت تذكيرا برسالة موسى عليه السلام إلى فرعون وقومه وموقفهم منها، وكيف كان عذاب الله لهم بالآيات أولا وبالإغراق ثانيا مما جاء مفصلا أكثر في سور عديدة سبق تفسيرها. وقد انتهت بالتنبيه على أن الله تعالى قد جعل فرعون وقومه مثلا لمن يأتي بعدهم ليتعظوا به، وهذا من أهداف القصة بل هو هدفها كما هو المتبادر. وقد جاءت الآيات عقب الآيات التي ذكر فيها عناد الكفار ولجاجهم جريا على الأسلوب القرآني، ويلفت النظر إلى ما بين هذه الآيات والآيات السابقة من تماثل في صدد مواقف الكفار وتحديهم واستخفافهم واعتدادهم. وواضح أنه أريد بهذا تسلية النبي صلى الله عليه وسلم من جهة وإنذار الكفار من جهة أخرى.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 57 إلى 59]

وما ذكر هنا مقتضبا من رسالة موسى عليه السلام إلى فرعون وموقف فرعون منها جاء مسهبا بعض الشيء في سور سابقة وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار. والجديد هنا هو ما جاء في الآيات [51- 53] من خطاب فرعون لقومه. وهذا ليس واردا في الأسفار المتداولة، ولكن ليس ما يمنع أن يكون ورد في قراطيس كانت في يد اليهود وأن العرب السامعين كانوا يعرفون ذلك من طريقهم. ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآية [54] مدنية. وظاهر أنها منسجمة انسجاما تاما نظما وموضوعا في الآيات مما يسوغ القول بعدم صحة الرواية. [سورة الزخرف (43) : الآيات 57 الى 59] وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) . (1) يصدون: قيل إنها بمعنى يضجون فرحا وجلبة وصخبا. من التصدية وهي في أصلها بمعنى التصفيق. وقيل إنها بمعنى الإعراض والتعطيل من الصدّ والمقام يتحمل كلا المعنيين وإن كان حمله على المعنى الأول أولى وأقوى. (2) خصمون: عنيدون في الجدل والخصومة. حكت الآيات موقف المشركين العرب حينما كان يذكر عيسى ابن مريم عليه السلام حيث كانوا كلما ذكر في معرض الرد والتمثيل والعظة يزدادون إعراضا وجدلا أو يشتدون في الصخب والضجة ويتساءلون عما إذا كان هو خيرا أم آلهتهم. وقد ردّت عليهم بأن تساؤلهم وموقفهم وصخبهم ليس إلّا من قبيل الجدل والمكابرة التي برعوا فيها ثم استطردت إلى ذكر حقيقة عيسى فقررت أنه ليس إلّا عبدا من عبيد الله أنعم الله عليه بالاصطفاء وجعله موضع عنايته وآية معجزة لبني إسرائيل لإثبات قدرته ومثلا من أمثاله وآياته لهم.

تعليق على آية ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون (57) وما بعدها

تعليق على آية وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وما بعدها والآيات ليست منقطعة الصلة بالآيات السابقة، وبخاصة بالآيات التي سبقت قصة موسى وفرعون. وقد احتوت صورة من صور اللجاج والخصومة القوية التي كان عليها نبهاء العرب وفصلا من فصول الجدل التي كانت تقع بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم. والمتبادر أن المشركين قالوا ردا على استشهاد القرآن برسل الله وكتبه على كونه لم يأذن بعبادة آلهة غيره على ما جاء في الآية [45] إن هذا مناقض للواقع من حيث إن النصارى وهم مؤمنون برسل الله وعندهم كتاب سماوي قد اتخذوا عيسى إلها وعبدوه. ثم استمروا في ردهم الذي ظنوه مفحما وملزما فتساءلوا عن الأفضل والصواب آلملائكة الذين يعبدونهم أم عيسى؟ ويبدو أن تساؤلهم هذا قائم على ما كانوا يرونه من اتساق المنطق في صلة الله الأبوية بالملائكة التي كانوا يقولون بها- وهي كون الملائكة بنات الله- أكثر من صلة الله الأبوية بعيسى التي كان يقول النصارى بها- وهي وكون عيسى ابن الله- من حيث كون أوصاف الملائكة وحقيقتهم أكثر انسجاما أو تماثلا مع أوصاف الله من وصف عيسى وحقيقته لأن هذا ولد وعاش ومات كما يولد ويعيش ويموت سائر البشر كما يقرره النصارى أنفسهم. في حين أن الملائكة نورانيون غير ماديين وغير مرئيين لا يموتون ولا يتزاوجون ولا يتوالدون وكل هذا من صفات الله! وقد نسفت الآيات بردها هذا الأساس الذي أقاموا عليه حجتهم فأوضحت أن عيسى ليس إلّا عبدا من عباد الله وأن خلقه ليس إلّا آية ومعجزة ومثلا من آيات الله ومعجزاته وأمثاله. ولقد روى الطبري وابن كثير والخازن والبغوي أن الآيات نزلت بمناسبة اعتراض الكفار حين نزلت آية سورة الأنبياء هذه: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) بقولهم كيف يكون هذا

تعليق على جملة ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون (58) وما ورد في سياقها من نهي النبي عن التجادل في القرآن وضرب بعضه ببعض

ومن المعبودين عيسى وهو من أنبياء الله. والرواية لم ترد في كتب الصحاح ونحن نشك فيها أو على الأقل في كونها سبب نزول هذه الآيات لأن المناسبة بينها وبين ما قبلها قائمة ولأن روح الآيات تلهم أن ما فرضناه هو الأكثر وجاهة. ولأن مقتضى الرواية أن تكون آية سورة الأنبياء هي السابقة في النزول مع أن الواقع هو عكس ذلك. ومع أن الطبرسي الشيعي روى الرواية التي رواها المفسرون المذكورون فإنه يروي رواية أخرى قال: إن سادة أهل البيت يروونها عن علي بن أبي طالب قال: «جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فوجدته في ملأ من قريش فنظر إليّ ثم قال: يا عليّ إنّما مثلك في هذه الأمة كمثل عيسى ابن مريم أحبّه قوم فأفرطوا في حبّه فهلكوا وأبغضه قوم فأفرطوا في بغضه فهلكوا واقتصد فيه قوم فنجوا فعظم ذلك عليهم فضحكوا وقالوا يشبهه بالأنبياء والرسل فنزلت الآية. والهوى الحزبي بارز على هذه الرواية كما هو ظاهر. تعليق على جملة ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) وما ورد في سياقها من نهي النبي عن التجادل في القرآن وضرب بعضه ببعض وجملة ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) تدل على ما كان من قوة وشدة حجاج ولجاج نبهاء المشركين في أثناء جدالهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حجاجهم الذي شرحناه في صدد عيسى مثل على ذلك فضلا عن أمثلة عديدة من ذلك مرّت في السور السابقة. ولقد روى المفسرون في سياق هذه الجملة حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في صيغ مختلفة، كلّها عن أبي أمامة رضي الله عنه، منها حديث رواه الترمذي ومسلم «1» في سياق تفسير الجملة جاء فيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ضلّ قوم بعد هدى كانوا

_ (1) التاج ج 4 ص 205 كتاب التفسير.

عليه إلّا أوتوا الجدل ثم تلا قول الله تعالى: ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) » ومنها حديث رواه الطبري «1» عن أبي كريب عن أحمد بن عبد الرحمن عن عباد بن عباد عن جعفر بن القاسم عن أبي أمامة جاء فيه: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم وهم يتنازعون في القرآن فغضب غضبا شديدا حتى كأنما صبّ على وجهه الخلّ ثم قال لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض فإنه ما ضلّ قوم قط إلّا أوتوا الجدل ثم تلا قول الله: ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) » . والمتبادر أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد من الجدل الذي غضب منه ونهى عنه ما يكون مقصودا به اللجاج والحجاج والعناد والتعنت وأراد من تعبير: (لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض) لا تتجادلوا في آيات قد يبدو ظاهرها مناقضا لظاهر آيات أخرى جدالا يؤدي إلى تكذيب آيات الله ببعضها. والحق أن على المسلم واجب الإيمان بأنه ليس في كتاب الله اختلاف ولا تناقض. وأن عليه في حالة قصور فهمه عن إدراك حكمة الله في عبارة قرآنية أو في حالة توهمه مناقضة بين آية وأخرى أن يبحث عن حل وتأويل وتفسير في الآيات الأخرى أو يفوض الأمر إلى علم الله وحكمته ويعترف بقصور الفهم واحتمال التوهم. والعقل الإنساني مهما اتسع يظل قاصرا عن إدراك كلّ كلام الله وآياته وحكمته ونواميسه والمغيبات عنه. ومع ذلك فإن المرء لواجد في القرآن إذا آتاه الله فهما وأناة لكل آية مطلقة أو مشكلة في الظاهر تأويلا وتفسيرا وتوضيحا وحلا في آيات أخرى بحيث يصح القول إن القرآن إذا اعتبر ككل وهو حق وواجب لا يوجد فيه أي تناقض ولا غموض ولا إشكال. وقد حاولنا في السور السابقة أن نجد لكل ما يبدو في الظاهر مطلقا أو مشكلا أو غامضا أو متناقضا تأويلا وحلا وتوضيحا وتوفيقا. ونرجو أن يكون الله قد سددنا

_ (1) انظر تفسير الآية في تفسير الطبري. في التاج حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة مقارب في صيغته لهذا الحديث وهذا نصه: «خرج علينا رسول الله ونحن نتنازع في القدر فغضب حتى احمرّ وجهه كأنما فقىء في وجنتيه الرّمان فقال: أبهذا أمرتم أم بهذا أرسلت إليكم؟ إنّما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر عزمت عليكم عزمت عليكم ألّا تتنازعوا فيه» التاج ج 4 ص 223.

تعليق على تأويل الشيعة للآية فلما آسفونا انتقمنا منهم ... إلخ

في ذلك نحو الصواب وأن يديم توفيقه وتسديده فيما يأتي من كلامه وله الحمد في الأولى والآخرة وهو ولي التوفيق. تعليق على تأويل الشيعة للآية فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ ... إلخ ومع ما هو صريح قطعي من أن هذه الجملة عائدة إلى فرعون وقومه فإن مفسري الشيعة يوردون لها تأويلا آخر متسقا مع هواهم حيث يروي الكارزاني عن أبي عبد الله أحد الأئمة الاثني عشر قوله في تأويلها: «إنّ الله تعالى لا يأسف كأسفنا ولكنّه خلق أولياء لنفسه يأسفون وهم مخلوقون مربوبون فجعل رضاهم رضى نفسه وسخطهم سخط نفسه لأنه جعلهم الدعاة إليه والأدلّاء عليه ... » «1» وفي هذا من الشطط والتعسف ما هو ظاهر وما نحب أن ننزه أبا عبد الله عنه. [سورة الزخرف (43) : الآيات 60 الى 62] وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) . ضمائر الجمع المخاطب في الآيات عائدة إلى السامعين إطلاقا مؤمنيهم ومشركيهم على ما هو المتبادر، ولقد تعددت أقوال المفسرين في تأويل الآيتين الأولى والثانية «2» . فمنهم من قال في صدد الآية الأولى إنها تعني تقرير قدرة الله على جعل نسل المخاطبين ملائكة يخلفونهم في الأرض بعدهم. ومنهم من قال إنها تعني قدرة الله على إهلاكهم وجعل الملائكة يخلفونهم في الأرض بدلا منهم. وقد يكون القول الأول أوجه للتدليل به على أن قدرة الله التي تستطيع جعل نسل

_ (1) انظر التفسير والمفسرون للذهبي ج 2 ص 68. (2) جمع الطبري مختلف الأقوال والروايات، انظر فيه تفسير الآيات. وانظره في كتب تفسير الطبرسي والزمخشري والخازن وابن كثير أيضا.

تعليق على خبر نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان

البشر ملائكة تستطيع خلق عيسى على النحو الذي خلقه دون أن يكون ذلك موجبا لتأليهه كما فعل النصارى، ومنهم من قال في صدد الآية الثانية إن ضمير (إنّه) عائد إلى نزول عيسى وكون ذلك من أشراط الساعة. ومنهم من قال في صدد الآية الثانية إن ضمير (إنّه) عائد إلى القرآن وإن الآية تعني تقرير أن القرآن يعلم السامعين بقيام الساعة أو يذكرهم بها أو إن علمها فيه أي إنه يقرر حقيقتها وحقيقة وقوعها فليس من محل للمماراة فيها، وقد يكون هذا القول أوجه. وعلى كل حال فإن الآيات متصلة بسابقاتها اتصال تعقيب وتدعيم، وبسبيل تقرير قدرة الله تعالى على ما هو معجز ومستحيل في نظر الناس مثل خلقه عيسى بدون أب وقيام الساعة التي لا يجوز المماراة فيها لأن كتاب الله يخبر بها. وعلى الناس أن يتبعوا دعوة الله فهي الصراط المستقيم الذي فيه نجاتهم وأن يحذروا الشيطان الذي يصدهم عنه ولا يسمعوا لوساوسه فإنه شديد العداوة لهم ولا يفعل إلّا ما فيه ضررهم. تعليق على خبر نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان وعلى احتمال أن تكون جملة وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ تعني نزول عيسى عليه السلام قبيل نهاية الدنيا كشرط من أشراط الساعة نقول إن هذا النزول قد ذكر في أحاديث نبوية عديدة، منها حديث عن أبي هريرة رواه الشيخان والترمذي جاء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده ليوشكنّ أن ينزل فيكم ابن مريم عليه السلام حكما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها» ثم قال أبو هريرة: «واقرأوا إن شئتم: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ

يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) » «1» ، ومنها حديث عن أبي هريرة أيضا رواه الشيخان وأحمد جاء فيه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم» «2» . ومنها حديث عن عبد الله بن عمرو رواه مسلم جاء فيه: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج الدجّال في أمتي فيمكث أربعين، لا أدري أربعين يوما أو أربعين شهرا أو أربعين عاما فيبعث الله عيسى ابن مريم كأنه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة» «3» . ومنها حديث رواه أبو داود والحاكم والإمام أحمد عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس بيني وبين عيسى عليه السلام نبيّ وإنّه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه. رجل مربوع إلى الحمرة والبياض بين ممصّرتين، كأنّ رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل فيقاتل الناس على الإسلام فيدقّ الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويهلك الله في زمانه الملل كلّها إلا الإسلام ويهلك المسيح الدجّال، ثم تقع الأمنة على الأرض حتى ترتع الأسد مع الإبل والنّمار مع البقر والذئاب مع الغنم وتلعب الصبيان بالحيات فيمكث عيسى في الأرض أربعين سنة ثم يتوفّى فيصلّي عليه المسلمون» . ومن المحتمل جدا أن يكون أمر نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان وقتله المسيح الدجال مما كان متداولا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في أوساط الكتابيين على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة غافر. وعلى كل حال فنقول هنا ما قلناه هناك من أن واجب المسلم أن يؤمن ويصدق بما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخبار غيبية ويؤمن بأنها في نطاق قدرة الله تعالى وإن لم تدركها عقول الناس العادية وأن يفوض الأمر فيها إلى الله وأن يقف عندها دون تزيد وأن يؤمن كذلك بأن فيما يخبر النبي صلى الله عليه وسلم حكمة استهدفت عظة أو عبرة أو تنبيها أو إنذارا مما يتصل برسالته ومهمته، وهذه النقطة بخاصة مهمة جدا في الموضوع.

_ (1) انظر التاج ج 5 ص 325- 326. [.....] (2) انظر التاج ج 5 ص 325- 326. (3) انظر التاج ج 5 ص 325- 326.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 63 إلى 64]

[سورة الزخرف (43) : الآيات 63 الى 64] وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) . في الآيات تقرير بما كان من أمر رسالة عيسى عليه السلام، فإنه قال لقومه حينما بعثه الله بالبينات: إني جئتكم بالحكمة ولأبين لكم الصواب في بعض ما أنتم فيه مختلفون، ودعاهم إلى تقوى الله واتباعه، وإلى طاعته فيما يأمرهم به وينهاهم عنه مما هو من حكمة الله وبيناته التي جاءهم بها، وقرّر لهم أن الله ربّه وربّهم، وحثّهم على عبادته وحده، وبيّن لهم أن هذا هو الصراط المستقيم الذي يجب عليهم السير فيه. تعليق على رسالة عيسى عليه السلام لقومه وشخصيته وأقواله والآيات كذلك متصلة بالسياق، وفيها تتمة للرد الذي تضمنته الآيات [57- 59] كما هو المتبادر من حيث تقرير حقيقة شخصية عيسى وعبوديته لله تعالى ومدى رسالته. فعيسى لم يدّع الألوهية ولم ينسب نفسه إلى الله تعالى ابنا حقيقيا منفردا كنسبة الابن إلى الأب الطبيعية حتى تصحّ حجة المشركين واعتراضهم، وإنما هو عبد الله ونبي من أنبيائه وقد دعا إلى عبادة الله وحده مقررا أنه ربّه وربّ الناس أجمعين. وعلى هذا الشرح تكون الآيات الثلاث السابقة لهذه الآيات قد جاءت اعتراضية واستطرادية لتقرير قدرة الله تعالى ودعوة الناس إلى السير في الطريق القويم وعدم المماراة في الساعة وعدم اتباع الشيطان والتحذير من عداوته لهم. ولقد احتوت الأناجيل الأربعة المتداولة والمعترف بها من النصارى أقوالا كثيرة لعيسى عليه السلام فيها صراحة حاسمة بأنه مرسل من قبل الله وبأنه ابن البشر

[سورة الزخرف (43) : الآيات 65 إلى 67]

وبأن العبادة يجب أن تكون لله وحده وبأن الذي أرسله هو أبوه وأبو الناس جميعا مما فيه تقرير بربوبية الله الشاملة وامتناع الدلالة على قصد تقرير أبوة وبنوة طبيعيتين بينه وبين الله. وفيها انتقادات شديدة لما كان عليه بنو إسرائيل وبخاصة رجال دينهم من انحرافات دينية وخلقية واجتماعية مخالفة لشرائع موسى وجوهرها ودعوة إلى تصحيح سلوكهم بعبارات صريحة وبالأمثال الرائعة الحكيمة. وفيها تبشير بالمبادىء السامية الإيمانية والاجتماعية والأخلاقية بعبارات صريحة وبالأمثال الرائعة الحكيمة لذلك مما هو متسق مع ما احتواه القرآن والآيات التي نحن في صددها بصورة خاصة. ولقد أوردنا طائفة من نصوص الأناجيل في سياق سورة مريم فيها حكاية لأقوال عيسى عليه السلام بكونه مرسلا من قبل الله وإنه ابن البشر وإن العبادة يجب أن تكون لله وحده وإن الذي أرسله هو أبوه وأبو الناس جميعا وإنه لا صالح إلّا الله وحده مما له صلة بمحتوى الآيات التي نحن في صددها في شخصيته. فلم نر ضرورة للإعادة والتكرار. أما الانتقادات والأمثال والحكم والمبادئ والتعليمات التي صدرت عن عيسى عليه السلام مما عبرت عنه الآية: قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فهي كثيرة جدا ومبثوثة في جميع الأناجيل وسهلة التناول على من أراد لكثرتها ولذلك لم نر ضرورة إلى إيراد نصوص منها. [سورة الزخرف (43) : الآيات 65 الى 67] فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67) . (1) الذين ظلموا: بمعنى الذين انحرفوا عن طريق الحق والهدى. (2) الساعة: المتبادر أنها هنا بمعنى الأجل. (3) الأخلاء: جمع خليل، وهو الصديق الوفي.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 68 إلى 73]

جاءت الآيات معقبة على ما سبقها لتقرر أن ما كان من اختلاف الناس فيما بينهم إنما كان انحرافا وبغيا منهم، ولتنذر الذين انحرفوا عن طريق الحق والهدى بعذاب شديد في يوم من الأيام، ولتتساءل تساؤل المنكر المندد عما إذا كانوا ينتظرون حلول آجالهم حتى يتبعوا الحق الذي ظهر، مع أن آجالهم لا تحل إلّا بغتة فتكون الفرصة المواتية لهم قد فاتت وصاروا إلى اليوم الموعود الذي ينقلب الأصدقاء فيه إلى أعداء، وينشغل كل بنفسه ولا ينجو من المصير الرهيب إلّا الذين اتقوا الله واتبعوا طريقه. والمتبادر أن اختلاف الأحزاب الذي أشارت إليه الآية الأولى هو اختلاف الناس في أمر عيسى، وأن ما احتوته الآيات بعد ذلك هو استطراد فيه حثّ على التعجيل بالاعتراف بالحق واتباعه، وإنذار للمهملين المنحرفين، وتنويه وتطمين للمتقين الذين ساروا في طريق الحق. ولقد شرحنا في سياق تفسير سورة مريم الاختلافات الكثيرة العجيبة التي كان النصارى عليها في أمر عيسى عليه السلام فلا نرى حاجة إلى إعادة أو زيادة. [سورة الزخرف (43) : الآيات 68 الى 73] يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73) . (1) تحبرون: من الحبور وهو السرور بما يتنعمون به. في الآيات وصف لما سوف يلقاه المتقون الذين استثنوا في آخر الآية السابقة: فسوف يخاطب الله تعالى الذين آمنوا بآياته وأسلموا نفوسهم إليه

تعليق على صحاف الذهب وأكواب الذهب

وأخلصوا دينهم له وحده فيطمئنهم بأنهم لن يروا ما يبعث فيهم خوفا ولا حزنا. ويأمرهم بدخول الجنة مع أزواجهم وأمثالهم حيث يسرّون كل السرور ويطاف عليهم بأطباق الذهب وأكواب الذهب ويتمتعون بكل ما تشتهيه النفس وتلذ العين من المآكل والمشارب والفواكه والمشاهد ووسائل الراحة والسرور. ويقال لهم إنكم خالدون في هذا النعيم وقد استحققتموه بما كنتم تعملون في الدنيا من صالح الأعمال. والآيات متصلة بسابقاتها كما هو ظاهر، والوصف الذي احتوته أخّاذ قوي الإغراء، وقد استهدف فيما استهدفه حمل الناس على الاستجابة للدعوة لضمان هذا المصير السعيد لأنفسهم وتبشير المؤمنين المستجيبين وتبشيرهم. ولقد روى مسلم والترمذي عن أبي سعيد حديثا جاء فيه: «قال النبي صلى الله عليه وسلم: ينادي مناد إنّ لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا وإنّ لكم أن تصحّوا فلا تسقموا أبدا وإنّ لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا وإنّ لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا، فذلك قوله تعالى وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) » «1» . حيث ينطوي في الحديث توضيح تشويقي للآيات. تعليق على صحاف الذهب وأكواب الذهب ولقد قلنا قبل: إن حكمة التنزيل اقتضت أن تكون أوصاف النعيم والعذاب الأخرويين مستمدة من مألوفات الناس في الدنيا للتقريب والتأثير مع ما ينطوي في ذلك من حقيقة إيمانية. ولقد ذكرت هنا صحاف الذهب وأكواب الذهب كآنية للطعام والشراب، وذكر في سورة فاطر أن المؤمنين يحلون من أساور من ذهب

_ (1) التاج ج 4 ص 205.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 74 إلى 78]

ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير. وفي سورة الواقعة وصف مطنب لمجالس الشراب والطعام وأوانيها وخدمها، ومثل ذلك في سورة الصافات ومثل هذا في سور أخرى لم يأت دور تفسيرها. فكلّ هذا مما يسوغ القول إن بعض سامعي القرآن من الأغنياء والمترفين من كان يعرف هذه الوسائل ويتمتع بها. وفي هذا صورة من صور بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره. [سورة الزخرف (43) : الآيات 74 الى 78] إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78) . (1) لا يفترّ عنهم: لا يخفف ولا ينقطع عنهم. (2) مبلسون: يائسون من النجاة. (3) وما ظلمناهم: هنا بمعنى ضد العدل أي ما جرنا عنهم. (4) ولكن كانوا هم الظالمين: بمعنى كانوا هم الذين جنوا على أنفسهم. (5) مالك: هو اسم كبير خزنة النار من الملائكة على ما عليه جميع المفسرين وهذا هو المفهوم من الآية أيضا. احتوت الآيات وصف مصير الكافرين المنحرفين عن طريق الحق والهدى مقابلة لوصف مصير المتقين جريا على الأسلوب القرآني: فالمجرمون بانحرافهم وآثامهم خالدون في عذاب جهنم، ولن يخفف عنهم قط وسيكونون يائسين من النجاة منه. ولسوف يستغيثون بمالك كبير خزنة النار ليتوسط لهم عند الله في الموت والخلاص به من العذاب فيجيبهم بأن لا سبيل إلى ذلك وبأنهم ماكثون حيث هم إلى الأبد. فقد جاءهم الحق من الله بلسان رسوله فاستكبروا وكرهوا الحقّ وانصرفوا عنه فاستحقوا هذا المصير، ولم يظلمهم الله به ولم يجر عليهم ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم وجنوا عليها.

تعليق على اسم مالك خازن النار واستطراد إلى ذكر المذكورين في القرآن من كبار الملائكة ومهامهم

والوصف قوي مخيف من شأنه أن يثير الرعب في السامعين ويحملهم على الارعواء وهو مما استهدفته الآيات فيما استهدفته على ما هو المتبادر. ويلفت النظر إلى ما في هذه الآيات والتي قبلها من صراحة وحسم في تقرير استحقاق المتقين والمجرمين مصائرهم وفق أعمالهم حقا وعدلا، وهو ما والت الآيات القرآنية في مختلف المناسبات تقريره مما مرت الأمثلة الكثيرة منه. تعليق على اسم مالك خازن النار واستطراد إلى ذكر المذكورين في القرآن من كبار الملائكة ومهامهم والمفسرون متفقون على أن مالك هو من كبار الملائكة، وعلى أنه خازن النار استنادا إلى بعض الأحاديث. وفحوى العبارة تفيد ذلك واسمه يأتي للمرة الأولى والوحيدة في القرآن. ولما كانت إحدى آيات سورة غافر قد ذكرت أن لجهنم خزنة وهي: وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) ثم لما كانت إحدى آيات سورة المدثر تذكر أن عليها تسعة عشر من الملائكة: وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً ... [31] وذكرت ذلك بدون عدد آية في سورة التحريم: عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) فيكون مالك والحالة هذه رئيس خزنة النار. وقد ذكر في القرآن أسماء ملكين آخرين من كبار الملائكة هما جبريل وميكائيل في آيتي سورة البقرة هاتين: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) وذكر

[سورة الزخرف (43) : الآيات 79 إلى 80]

جبريل في آية من سورة التحريم أيضا وهي: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) ويلحظ أن مالك وجبريل فقط ذكرت مهمتهما أو بعض مهامهما دون ميكال. وقد ورد اسم ميكائيل في حديث نبوي رواه الترمذي جاء فيه: «ما من نبيّ إلّا وله وزيران من أهل السّماء ووزيران من أهل الأرض، فأمّا وزيراي من أهل السماء فجبريل وميكائيل وأمّا وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر» «1» . ويلحظ أن اسم مالك صريح العروبة معنى واشتقاقا في حين أن اسمي جبريل وميكال معرّبان عن صيغ غير صريحة العروبة هي جبرائيل وميكائيل. وأمر الملائكة وما يقومون به من مهام لله عز وجل أمور غيبية، ومن الواجب الإيمان بما جاء عنهم في القرآن، والثابت من الحديث، والوقوف عند ذلك بدون تزيد، مع ملاحظة أن ذلك مما كان معروفا ومتداولا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته من طريق الكتابيين الذين ذكرت كتبهم التي وصلت إلينا ذلك، وأن ذكر ذلك في القرآن والحديث بالصورة التي ذكروا فيها لا بد من أن يكون من مقتضيات حكمة الله ورسوله ومما يتصل بالدعوة المحمدية وأهدافها وإن لم تدركها العقول العادية، مع احتمال أن يكون قصد التمثيل والتقريب والاتساق مع الصور المألوفة في حياة البشر وملوكهم من ذلك. [سورة الزخرف (43) : الآيات 79 الى 80] أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) . (1) أبرموا: بيتوا وقرروا وأحكموا.

_ (1) انظر التاج ج 3 ص 281.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 81 إلى 85]

(2) نجواهم: تآمرهم في السرّ والخفاء. والآيتان معقبتان على ما سبقهما تعقيب تنديد بالكفار وإنذار لهم: فإذا كانوا بيتوا المناوأة للنبي صلى الله عليه وسلم ودعوة الحق وأحكموا تدبيرهم فإن الله قد بيت لهم أمرا وهو ذلك العذاب الشديد الذي وصفته الآيات السابقة. وإذا كانوا يظنون أن الله لا يسمع سرّهم ونجواهم فهم مخطئون لأن له عليهم رقباء يحصون كل ما يفعلون ويسجلونه. والرقباء هم ملائكة الله، وقد ذكرت مهمتهم المذكورة هنا في سورة (ق) في صورة أوضح: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وما قلناه قبل قليل من وجوب الإيمان بما ورد في القرآن والحديث الصحيح من شؤون الملائكة وما يقومون به من مهام وخدمات لله والوقوف عند ذلك نقوله هنا مع التنبيه إلى ملاحظة كون هدف الآيات- أو من أهدافها كما هو المتبادر منها- إنذار السامعين وحملهم على تقوى الله واتقاء غضبه وعذابه. [سورة الزخرف (43) : الآيات 81 الى 85] قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) . في الآيات: 1- أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول للكفار إذا ظللتم على زعمكم بأن لله ولدا فإني لا أزال أنكر ذلك وأعلن أني أول العابدين له وحده المقرين بتنزهه عما تصفون فهو ربّ السموات والأرض وربّ العرش، وربوبيته المطلقة الشاملة تجعل زعمكم باطلا كل البطلان.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 86 إلى 87]

2- وأمر آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يتركهم وشأنهم بعد ذلك ليخوضوا في الحديث ويقضوا أوقاتهم في اللهو واللعب والعبث إلى أن يصيروا إلى المصير الرهيب في اليوم الموعود، وبألا يحمل نفسه همهم فالله هو المتكفل بهم، وبأن يظل يقرر ويعلن بأن الله عز وجل هو الإله في السماء وفي الأرض وهو المحيط علمه بكل شيء الحكيم الذي لا يقع شيء إلّا بمقتضى حكمته وحكمه وهو المتعالي الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما العالم وحده بموعد الساعة والذي إليه مصيرهم ومرجعهم. والآيات متصلة بالسياق من حيث إن الكفار المشركين وعقيدتهم موضوع الكلام فيها، وقد احتوت تسلية وتثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم بسبب موقف الكفار العنيد منه. ولقد قال بعض المفسرين إن الآية الأولى قد أريد بها المساجلة في الجدل بحيث أريد بها القول إنه إذا كان يصح أن يكون لله ولد فأنا أول المصدقين الخاضعين لكل ما يثبت ويصح عن الله. كما قال بعضهم إن كلمة الْعابِدِينَ في معنى الجاحدين أو الرافضين «1» . والشرح الذي شرحناه للآيات هو ما عليه جمهور المفسرين «2» ونرجو أن يكون هو الصواب. [سورة الزخرف (43) : الآيات 86 الى 87] وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) . روى المفسرون «3» تأويلين للآية الأولى، أحدهما: «إن الذين يدعوهم المشركون من دون الله مثل عيسى والعزير والملائكة لن يشفعوا إلّا لمن شهد

_ (1) انظر تفسير الآيات لابن كثير والزمخشري مثلا. (2) انظر أيضا تفسيرها في تفسير الطبري والطبرسي والخازن وابن كثير والزمخشري والبغوي. (3) انظر تفسير الآية في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي والزمخشري والخازن.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 88 إلى 89]

بالحق وهم يعلمون ذلك» وثانيهما: «إن الذين يحقّ لهم الشفاعة ممن يدعوهم المشركون من دون الله هم الذين يشهدون بالحق ويعلمونه فقط مثل عيسى والعزيز والملائكة وهؤلاء لا يمكن أن يشفعوا للمشركين» ومعظم المفسرين أخذوا بالتأويل الأول وهو الصواب المتسق مع روح الآية مع القول إن المقصود هنا من الذين يدعوهم المشركون من دون الله هم الملائكة لأنهم هم موضوع الكلام من أول السورة، أما الآية الثانية فقد احتوت تنديدا بتناقض المشركين فهم إذا سئلوا عمن خلقهم لما وسعهم إلّا القول إنه الله، وتساؤل استنكاري وتنديدي عن انصرافهم عنه والحالة هذه إلى غيره وإشراك غيره معه. والآيات متصلة بسابقاتها من حيث إن الكفار المشركين هم موضوع الكلام فيها كما هو المتبادر، والاتصال يبدو كذلك في الحديث عن الذين يدعوهم المشركون مع الله ويأملون شفاعتهم وهم الملائكة الذين زعموا أنهم بنات الله، وهو الزعم الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان رفضه في الآيات السابقة. وفي الآية الأولى تخييب لآمال المشركين فهم يرجون شفاعة الملائكة. والملائكة لا يمكنهم أن يشفعوا إلّا للمؤمنين بالحق العالمين به وقد استهدف فيما استهدف تسفيه المشركين وحملهم على الارعواء. وفي جملة إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) [86] تلقين قرآني مستمر المدى بوجوب التزام الحق والشهادة به عن علم ويقين وتنويه بمن يكونون كذلك. ولقد قال بعضهم إن الآية الثانية نسخت بآيات القتال وهذا ما يكررونه في المناسبات المماثلة، وقد ذكرنا وجه الحق في هذه الآية وأمثالها في مناسبات سابقة فنكتفي بهذه الإشارة. [سورة الزخرف (43) : الآيات 88 الى 89] وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) . تعددت الأقوال في تخريج كلمة وَقِيلِهِ ومحل عطفها، والمتبادر أنها حكاية قول صادر عن النبي صلى الله عليه وسلم يعبر به عن ألمه من عناد الكفار ويأسه من إيمانهم.

وقد سرى عنه في الآية الثانية وأمر بالصفح والإغضاء عنهم وإعلان السلام للناس وتركهم وشأنهم فسيعلمون من هو على الحق ومن هو على الضلال. والصلة قائمة بين الآيتين وما سبقهما من حيث إن الكفار المشركين هم موضوع الكلام فيهما وقد جاءتا خاتمة قوية لموقف اللجاج والحجاج وللسورة معا جريا على النظم القرآني. وقد انطوى في الجملة الأخيرة من الآية الثانية تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وبثّ الوثوق والاستعلاء في نفسه. والأمر بالصفح عنهم وإعلان السلام للناس ينطويان على التوكيد بأسلوب رائع محبب بأن مهمة النبي صلى الله عليه وسلم هي الدعوة إلى الله ومكارم الأخلاق ثم ترك الناس وشأنهم يختارون ما يريدون دون ما إجبار ولا إبرام ولا عداء ولا حقد مع تقرير هذا له ولمن آمن به، ومع الاطمئنان إلى أن ما يدعو إليه هو الحق والهدى، وأن ذلك سوف يظهر للناس مما قد تكرر تقريره في القرآن كثيرا وبأساليب متنوعة. ولقد ظهر ذلك حقا وتحققت المعجزة القرآنية بدخول الناس في دين الله أفواجا وفيهم غالبية أهل مكة الذين كانوا يقفون المواقف العنيدة المناوئة التي حكتها الآيات والتي كانت تثير في النبي صلى الله عليه وسلم الحزن والألم والحسرة. ولقد روى المفسرون «1» عن بعض علماء التابعين مثل قتادة ومقاتل أن حكم الآية الثانية قد نسخ بآيات القتال، وهذا القول قد تكرر في مناسبات مماثلة كثيرة سبقت أمثلة منها. ونكرر هنا ما قلناه قبل من أن النسخ قد يصح بالنسبة إلى الأعداء المعتدين على المسلمين والصادين عن الدعوة والطاعنين بالدين الإسلامي. أما الموادّون والمسالمون للمسلمين فالتعامل معهم في نطاق الصفح والسلام وتركهم وشأنهم بعد الدعوة وبيان هدى الله فهو محكم على ما أوردنا دلائله في سياق سورة (الكافرون) والله تعالى أعلم.

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.

تعليق على جملة فاصفح عنهم وقل سلام

تعليق على جملة فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ وبالإضافة إلى ما قلناه في مدى هذه الجملة في مقامها فهناك ما يمكن أن يضاف إليه أيضا. فالأمر هنا موجه للنبي صلى الله عليه وسلم ليصفح عن الجاحدين برسالته وليقول لهم سلام، وفي سورة الأنعام آية تأمره بأن يقول للمسلمين الفقراء الذين آمنوا به سلام عليكم [الآية/ 54] وهناك آيات كثيرة أخرى منها آيات تفيد أن السلام هو تحية أهل الجنة فيما بينهم [آية سورة يونس/ 10 وآية سورة إبراهيم/ 23] تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ ومنها ما يفيد أن الملائكة يستقبلون المؤمنين في الآخرة بالسلام [النحل/ 32 والزمر/ 73 والرعد/ 24] ومنها ما أمر فيه بإلقاء السلام على أهل البيوت التي يدخلها المسلمون: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ «1» تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً ... سورة النور: [61] ، ومنها ما وجّه للأنبياء من الله [آيات سورة الصافات/ 109- 130] ومنها ما حكي عن عباد الرحمن حينما يخاطبهم الجاهلون كما جاء في آية سورة الفرقان هذه: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) . والسلام هو بمعنى الأمان وضد الخصام وفيه معنى التطمين والتحبب والتأنيس، ولقد رويت أحاديث نبوية عديدة في الحثّ على تعاطيه وآدابه، منها حديث رواه أبو داود والترمذي ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابّوا أفلا أدلّكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم» » . وحديث رواه أبو داود عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اعبدوا الرحمن وأطعموا الطعام وأفشوا السلام تدخلوا الجنة بسلام» «3» . وحديث رواه الترمذي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السلام قبل الكلام»

_ (1) أي على أهلكم وذويكم. (2) التاج ج 5 ص 223. (3) المصدر نفسه.

وقال: «لا تدعوا أحدا إلى الطعام حتى يسلّم» «1» . وحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يسلّم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير» «2» . وحديث رواه الترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «إذا دخلت على أهلك فسلّم يكون بركة عليك وعلى أهل بيتك» «3» . وحديث رواه البخاري ومسلم عن أنس: «أنه كان يمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم فيمرّ بصبيان فيسلّم عليهم» «4» ، وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن أسماء بنت يزيد قالت: «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم مرّ علينا بالمسجد يوما وعصبة من النساء قعود فألوى بيده بالتسليم» «5» . وحديث رواه الترمذي عن أبي جري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا لقي الرجل أخاه المسلم فليقل السلام عليكم ورحمة الله» «6» . وحديث رواه البخاري عن أسامة بن زيد: «أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بمجلس وفيه أخلاط من المسلمين واليهود فسلّم عليهم» «7» . حيث يبدو من كل هذا تلقين جليل رباني ونبوي للمسلمين بأن يجعلوا السلام عنوانا لمقابلاتهم وصلاتهم بالناس على اختلاف فئاتهم مما فيه روعة وجلال ومما جعل السلام على الناس من العادات الحسنة التي تميز بها المسلمون منذ حياة النبي صلى الله عليه وسلم. هذا، ولقد بدأت السورة بعد مطلعها بالتنديد بالمشركين لعقيدتهم بكون الملائكة بنات الله وانتهت بمثل ذلك أيضا، وهكذا تمّ الارتباط بين بدايتها ونهايتها مما يدل على ترابط فصولها ووحدة نزولها.

_ (1) انظر التاج ج 5 ص 224- 227. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه. [.....] (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه. (6) المصدر نفسه. (7) المصدر نفسه.

سورة الدخان

سورة الدخان في السورة تنويه بليلة نزول الوحي بالقرآن ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم للناس، وتوكيد بصدق ذلك وتنديد بالكفار على إصرارهم على الكفر والعناد وإنذار لهم، وتذكير بما كان من موقف فرعون وقومه المماثل من رسالة موسى وما كان من إغراقهم ونجاة بني إسرائيل ونعمة الله عليهم بسبب استجابتهم للدعوة. وحكاية لما كان يقوله الكفار في صدد إنكار البعث وتسفيه لقولهم وتوكيد حكمة الله وعدله في خلق الكون ومجيء يوم القيامة وبيان لمصير الكفار والمتقين فيه. وفصول السورة مترابطة وآياتها متوازنة مما يسوّغ القول إنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة. ولقد روى الترمذي والنسائي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك» «1» . وروى الترمذي عن أبي هريرة أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ حم الدخان في ليلة الجمعة غفر له» «2» ، وأخرج الطبراني حديثا جاء فيه: «من قرأ حم الدخان ليلة الجمعة أو يوم جمعة بنى الله له بيتا في الجنة» «3» . وينطوي في الأحاديث تنويه نبوي بهذه السورة لا بدّ له من حكمة، ولعلّ منها ما انطوى فيها من مواعظ وتنويه بالقرآن وليلة نزوله وبالإضافة إلى ذلك فيها دلالة على أن السورة كانت تامة الشخصية معروفة الاسم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.

_ (1) التاج ج 4 ص 18- 19. (2) التاج ج 4 ص 18- 19. (3) التاج ج 4 ص 18- 19.

[سورة الدخان (44) : الآيات 1 إلى 8]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) . (1) يفرق: بمعنى يقضي أو يقرر. (2) حكيم: فيه الحكمة والإحكام. ابتدأت السورة بحرفي «الحاء والميم» للاسترعاء والتنبيه على ما رجحناه في أمثالهما. وأعقبهما قسم بالكتاب المبين ثم تقريرات ربانية كجواب للقسم أو ما بمثابة ذلك: 1- بأن الله قد أنزل الكتاب في ليلة عظيمة الشأن جرت عادته على قضاء كل أمر خطير محكم من أوامره فيها. 2- وبأنه قد أراد بإنزال الكتاب إنذار الناس وتنبيههم. 3- وبأنه قد أرسل رسوله بمهمة الرسالة العظمى رحمة بهم، فهو السميع العليم ربّ السموات والأرض وما بينهما لا إله إلّا هو يحيي ويميت ربّ السامعين وربّ آبائهم الأولين. 4- وبأن هذه هي الحقيقة الناصعة إذا كان السامعون يريدون المعرفة واليقين. والآيات في صدد توكيد نسبة القرآن إلى الله، ثم في صدد توكيد صدق رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وكونها رحمة للناس، وهكذا جاء مطلع السورة متسقا في أسلوبه وهدفه مع مطالع شقيقاتها الحواميم.

تعليق على آية إنا أنزلناه في ليلة مباركة وما بعدها وما روي عن ليلة نصف شعبان

تعليق على آية إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ وما بعدها وما روي عن ليلة نصف شعبان ولقد اختلفت الأقوال في الليلة المذكورة فهناك من قال إنها ليلة القدر «1» واستند في ذلك إلى سورة القدر التي ذكرت أن القرآن أنزل في ليلة القدر، وإلى آية سورة البقرة هذه: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [185] ثم إلى الأحاديث المروية في صدد كون ليلة القدر هي في العشر الأخيرة من رمضان والتي أوردناها في سياق تفسير سورة القدر، وهناك من قال إنها ليلة النصف من شعبان استئناسا من بعض أحاديث نبوية منها حديث جاء فيه: «ينزل الله جلّ ثناؤه ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لكلّ نفس إلّا إنسانا في قلبه شحناء أو مشركا بالله» ومنها حديث ثان جاء فيه: «تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح ويولد له ولقد خرج اسمه في الموتى» «2» . ومنها حديث عن ابن عباس جاء فيه: «يقضي الله الأقضية في ليلة النصف من شعبان ويسلمها إلى أربابها الموكلين بها» ويعني بذلك الملائكة على ما هو المتبادر «3» . ومنها حديث عن الحسن البصري جاء فيه: أن أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم من هذه الليلة إلى مثلها في السنة المقبلة تفصل في هذه الليلة. أي ليلة نصف شعبان» «4» . وبعض الذين قالوا إنها ليلة القدر من رمضان رووا أن هذه الليلة هي الليلة التي تفصل فيها الأمور الهامة من سنة إلى سنة من أرزاق وآجال ومصائب «5» وبذلك وفقوا بين القولين. وأكثر الأقوال في جانب القول إنها ليلة القدر في رمضان وهو الأصوب

_ (1) انظر تفسير سورة القدر وتفسير الآية التي في صددها في تفسير ابن كثير. (2) انظر تفسير الآيات في تفسير البغوي. (3) انظر تفسير الآيات في تفسير البغوي. (4) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي. (5) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي.

والأولى الذي تلهمه الآية نفسها بمقارنتها بآيتي البقرة وسورة القدر. ويلحظ أن الأحاديث المساقة عن ليلة نصف شعبان ليس فيها إشارة صريحة إلى نزول القرآن فيها، وهذا ما جعلنا نقول إنهم استأنسوا بها استئناسا، هذا مع التنبيه على أنها لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. ولقد أنكر ابن كثير قول من قال إنها ليلة نصف شعبان وقال إن الذين يقولون ذلك قد أبعدوا النجعة وإن نص القرآن يؤيد أنها ليلة القدر في رمضان وأن الحديث النبوي عن ليلة شعبان مرسل ومثله لا يعارض به نص ثابت «1» . ولقد أعاد بعض المفسرين «2» القول في مناسبة هذه الآية بأن الضمير في أَنْزَلْناهُ عائد إلى جميع القرآن حيث أنزل جميعه إلى سماء الدنيا ثم صار ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم منجما كما روي عن ابن عباس. وقد أورد الطبري في سياق هذه الآية رواية نزول صحف إبراهيم في أول رمضان والتوراة في السادس منه، والزبور في السادس عشر، والإنجيل في الثامن عشر، والفرقان في الرابع والعشرين. وقد علقنا على هذا بما فيه الكفاية في سياق تفسير سورة القدر فلا نرى حاجة إلى إعادة أو زيادة. والوصف الذي وصفت به هذه الليلة التي هي على الأرجح ليلة القدر في أواخر شهر رمضان في الآيات [3- 4] من السورة قد يؤيد ما قلناه في سياق تفسير سورة القدر من أن تسمية (ليلة القدر) هي تسمية علمية وأنه كان لهذه الليلة خطورة دينية ما في أذهان السامعين. هذا، ونقول- تعليقا على ما روي من تقدير الآجال والأرزاق وقضاء الأقضية من سنة إلى سنة في ليلة النصف من شعبان أو في ليلة القدر وما اعتاده المسلمون من الاحتفال بليلة النصف من شعبان وقراءة أدعية خاصة فيها- إن الأحاديث الواردة في ذلك ضعيفة الإسناد ولا تظهر حكمة الله فيها، ويجب التحفظ إزاءها. وإن الاحتفال بليلة النصف من شعبان ليس له أصل ثابت من سنة نبوية ولا صحابية.

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير البغوي والخازن. (2) انظر تفسير الآيات في تفسير البغوي والخازن. [.....]

[سورة الدخان (44) : الآيات 9 إلى 16]

وقد يرد أن جملة فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) قد تقوي صحة الأحاديث الواردة. ولسنا نرى ذلك، فالأحاديث المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تذكر ليلة النصف من شعبان. وهذه الجملة تشير إلى الليلة التي أنزل فيها القرآن وهي ليلة القدر بنص القرآن. وقد يكون أريد بالجملة الإخبار بأن حكمة الله شاءت أن يقضي فيها الأمور الهامة التي منها إنزال الوحي والقرآن على النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء من قبله. ولعل عبارة مُنْذِرِينَ (3) في الآية السابقة لها وعبارة مُرْسِلِينَ (5) في الآية التالية لها مما يدعم هذا التوجيه ويبعد على ما هو المتبادر موضوع تقرير الآجال والأرزاق والأحداث السنوية، والله أعلم. [سورة الدخان (44) : الآيات 9 الى 16] بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) . جاءت الآيات معقبة على مطلع السورة: ومع أنه لم يسبق كلام عن أحد فالمتبادر من نص الآيات أن الضمير الغائب عائد إلى الكفار. وقد نددت أولا بالكفار لأنهم يتلقون ما يسمعون من آيات كتاب الله بالشك واللعب والهزء. وتوعدتهم ثانيا باليوم الذي ينتشر فيه من جانب السماء دخان عظيم يملأ الجو ويغشى الناس ويشعر الكفار يومئذ بما هو واقع عليهم من عذاب الله الأليم فيلجأون إليه لكشفه عنهم ويعلنون بأنهم مؤمنون. وتساءلت ثالثا تساءل المنكر المستنكر عما إذا كان هذا ينفعهم حينئذ وقد جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالآيات الواضحة وهم في متسع من الوقت فأعرضوا عنه واستخفوا به ونسبوا إليه الجنون وتعلّم ما يقوله من الغير. ووجهت رابعا الكلام إليهم فالله سيستجيب إليهم هذه المرة ويكشف عنهم العذاب ردحا من الزمن ولكنهم سوف يعودون بعد كشفه إلى ما كانوا فيه من كفر وعناد وحينئذ تنزل بطشة الله الكبرى فيهم وينتقم منهم.

تعليق على آية فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين (10) وما بعدها وما روي في سياقها

وتأويل إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) الذي أوردناه في الفقرة (رابعا) هو ما عليه جمهور المفسرين بناء على بعض الروايات. وقد تبادر لنا تأويل آخر لجملة إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) وهو (إنكم راجعون إلينا على كل حال يوم البطشة الكبرى أي يوم القيامة ولو كشفنا عنكم العذاب ردحا من الزمن استجابة لدعائكم) وهناك من أوّل البطشة الكبرى بيوم القيامة وهذا مما يؤيد تأويلنا والله أعلم. تعليق على آية فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) وما بعدها وما روي في سياقها ولقد رويت رواية عن ابن مسعود فيها بيان لمدى ومفهوم هذه الآيات، حيث قال ردا على من قال إن الآيات هي في صدد إنذار الكفار بالعذاب الأخروي ما مفاده: إن هذا ليس من العلم. وإن من العلم أن يقول الإنسان لما لا يعلم لا أعلم. إن قريشا لما أبطأت عن الإسلام واستعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف فأصابهم من الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان أو يرون بينهم وبين السماء كهيئة الدخان من الجهد. فجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: استسق الله لمضر فإنها قد هلكت، فاستسقى لهم فسقوا فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم فأنذرهم الله بالبطشة الكبرى. وكانت يوم بدر. وقد أورد هذه الرواية معظم المفسرين وإن كان بعضهم أوردها مختلفة بعض الشيء عما أوردها البعض الآخر، ومن ذلك أن أبا سفيان هو الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: جئت تأمر بصلة الرحم وقد هلك قومك فادع لهم «1» . ورواها

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن والزمخشري والطبرسي.

البخاري ومسلم والترمذي بدون ذكر أبي سفيان «1» . ويروي المفسرون «2» إلى هذه الرواية حديثا عن حذيفة بن اليمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أول الآيات: الدجال ونزول عيسى ونار تخرج من عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر والدخان» . فسأله حذيفة: وما الدخان؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) ثم قال: يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة- يعني الدخان- أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكمة وأمّا الكافر فتكون منه بمنزلة السكران» . حيث يبدو أن هذا الحديث في صدد تفسير الآيات وينقض تفسير ابن مسعود لها وكونها في صدد حادث واقعي حدث في مكة في زمن النبي «3» . ومع أن الطبري ضعف هذا الحديث ورجح صحة تفسير ابن مسعود فإن الطبراني روى حديثا آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم وصف بأن إسناده جيد جاء فيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ ربكم أنذركم ثلاثا: الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كلّ مسمع منه، والثانية الدابة، والثالثة الدجال» «4» . حيث قد يؤيد هذا حديث حذيفة ويفيد أن الدخان هو علامة من علامات آخر الزمان.

_ (1) انظر التاج ج 4 ص 206. (2) انظر كتب التفسير السابقة الذكر. وقد أورد المفسرون هذا الحديث بشيء من التغاير مع الاتفاق في الجوهر ومنهم من روى صيغة من صيغة عن حذيفة بن أسيد الغفاري والنص الذي أوردناه من الطبري. ومما ورد في النص الوارد في تفسير ابن كثير عن حذيفة بن أسيد: «لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات طلوع الشمس من مغربها والدخان والدابة وخروج يأجوج ومأجوج وخروج عيسى والدجال وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس أو تحشر الناس تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا» . وقال ابن كثير عقب هذا: تفرد مسلم بإخراجه في صحيحه. وهناك نصوص أخرى مقتضبة فيها الدخان كعلامة من علامات الساعة أيضا. (3) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري أيضا. (4) انظر تفسير ابن كثير.

ولقد ورد في سورة (المؤمنون) هذه الآيات: وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وفي سورة النحل هذه الآية: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) فروى المفسر البغوي في صدد آيات سورة المؤمنون أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على قريش أن يجعل عليهم سنين كسني يوسف فأصابهم القحط فجاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: أنشدك الرحم، ألست تزعم أن الله بعثك رحمة للعالمين؟ فقال: بلى. فقال: قد قتلت الآباء بالسيف، والأبناء بالجوع، فادع الله أن يكشف عنّا هذا القحط. فدعا فكشف. وروى في صدد آية سورة النحل أنها نزلت في ظرف ابتلى الله قريشا فيه بالقحط والجوع وقطعت العرب عنهم الميرة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى جهدوا وأكلوا العظام والجيف والكلاب وحتى كان أحدهم ينظر إلى السماء فيرى شبه دخان من الجوع فكلّم رؤساء مكة النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له: هبك عاديت الرجال فما بال النساء والصبيان؟ فأذن للناس بحمل الطعام إليهم. والرواية الأولى هي نفس الرواية المروية عن ابن مسعود في صدد آيات سورة الدخان التي نحن في صددها. والرواية الثانية تفيد أن الحادث وقع بعد الهجرة مع أنه لم يرو أحد مدنية آية النحل فضلا عن التشابه في جوهر الروايات المروية في صدد آيات السور الثلاث. وإلى هذا فهناك أقوال مروية عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم تفيد أن البطشة الكبرى تعني عذاب الله الأكبر يوم القيامة وليس نصر بدر كما ورد في رواية ابن مسعود «1» . وننبه على أن جمهور المفسرين وفي مقدمتهم شيخهم الطبري في جانب

_ (1) انظر تفسير البغوي وابن كثير.

ترجيح ما روي عن ابن مسعود في صدد تفسير الآيات المروي في كتب البخاري ومسلم والترمذي. أما نحن فإننا في حيرة وتردد تجاه الرواية. لأننا نلاحظ أن نص الآية [10] لا يفيد حدوث الدخان وإنما يأمر بارتقاب حدوثه والآيات التي بعدها هي نتائج لما سوف يأتي. والآية [12] تحكي قول الكفار إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) حينما يحلّ عليهم عذاب الدخان مع أن رواية ابن مسعود لا تذكر أنهم أعلنوا للنبي صلى الله عليه وسلم إيمانهم حينما جاءوا إليه يطلبون منه الاستسقاء وكشف العذاب. وفحوى الآية [12] يفيد أن طلب كشف العذاب كان موجها منهم إلى الله والرواية تذكر أنهم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون منه الدعاء بكشفه. والفرق جوهري ومهم، ونصر بدر على خطورته ليس أكبر بطشات الله في قريش لأنهم ظلوا بعده أقوياء وغزوا المسلمين في عقر دار هجرتهم مرتين ونالوا ثأرهم منهم عن بدر في إحداهما وهي واقعة أحد، وزلزلوهم وأوقعوا الرعب الشديد في قلوبهم في ثانيتهما. هذا عدا أن أسلوب الآية [25] يلهم أن التهديد والإنذار أبعد مدى وأجسم أثرا ويلهم بالتالي أنه إنذار بانتقام قاصم ولم يقع عليهم بطشة ربانية ساحقة في الدنيا فيكون احتمال القصد فيها لعذاب الآخرة أقوى. ومهما يكن من أمر فالآيات كما قلنا جاءت معقبة على ما سبقها لبيان موقف الكفار من القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته وللتنديد بهم وإنذارهم إنذارا قاصما. على أن في الآيات كما شرحناها ما يفيد إنذارا بعذاب دنيوي بالدخان سوف يقع عليهم واستشعارهم حينئذ بالندم ومسارعتهم إلى إعلان إيمانهم وطلبهم من الله كشفه وبيانا بأن الله قد يكشفه عنهم ولكنهم سوف يعودون إلى غيهم فيستحقون بطشة الله الكبرى. ولقد حكيت مواقف مماثلة في آيات أخرى منها آيات سورة يونس هذه: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ

تعليق على توالي الإنذار بانتقام الله

بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) . ولعل ما جاء في آيات سورتي (المؤمنون) و (النحل) التي أوردناها آنفا من ذكر لعذاب أو بلاء رباني قد وقع فعلا عليهم هو لتحقيق ما أنذرهم الله من عذاب دنيوي في آيات سورة الدخان. ويلحظ في رواية تفسير آية النحل أنهم كانوا يرون السماء شبه دخان من الجوع مما قد يكون فيه تصديق ذلك. وعلة هذه الرواية أنها تفيد أن عذاب الله وقع عليهم بعد الهجرة وقد يكون ذلك التباسا والله أعلم. بقي ما ورد في الأحاديث النبوية عن كون الدخان من أشراط الساعة مع آيات أخرى. فإذا صحت فيكون هذا أمرا آخر غير الدخان الذي يوجه الإنذار به إلى الكفار السامعين بسبب مواقفهم الجحودية والذي تذكر الآيات وعد الله بكشفه اختبارا لهم على ما هو المتبادر. ويكون ذكره في سياق هذه الآيات من قبيل ذكر الشيء عند ذكر ما يماثله. ويكون مما شاءت حكمة الله ورسوله الإنذار بحدوثه عند قيام الساعة حينما يأتي الوقت المعين في علم الله تعالى ويوقف عنده مع الإيمان به كما هو الواجب تجاه كل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن من الأمور الغيبية. تعليق على توالي الإنذار بانتقام الله ويلحظ أن الإنذار بانتقام الله من كفار العرب قد توالى في هذه السورة وما قبلها حيث يلهم هذا أن الكفار قد أخذوا يشتدون في مناوأتهم وأذاهم. ونستطرد إلى ذكر مسألة من المسائل التي يثيرها بعض الباحثين من غير المسلمين حيث جعل توالي إنذار القرآن بالانتقام في هاتين السورتين وغيرهما ووصف الله بالغضب وبذي الانتقام وبالقوي وبالشديد العقاب وبالبطش وبالجبار والقهار المتكبر المهيمن إلخ، وبعض الباحثين من غير المسلمين ومن جملتهم

تعليق على تعبير وقالوا معلم مجنون (14)

فيليب حتي «1» يقولون: «إن صفات الحب في الله تتضاءل أمام صفات القوة والجلال في العقيدة الإسلامية» . وفي هذا افتئات مؤسف قائم على الهوى ولم يأت عن تحرّ وتدقيق. فالقرآن قد ذكر إلى هذه الصفات صفات الرحمن والرحيم والغفور والعفوّ والودود والكريم والرزاق والتواب والسلام والغفار والمجيب والقريب والشكور والحليم والحميد. بل إن عدد المرات التي وردت فيها هذه الصفات أكثر من المرات التي وردت فيها تلك، وبينما استعملت تلك في مقامات فيها حكاية مواقف المشركين والكفار من الدعوة النبوية وما كان من عنادهم ومناوأتهم بل وأذاهم للمسلمين استعملت هذه في مقامات تلهم أنها الصفات الشاملة مما ورد في آيات كثيرة كثرة تغني عن التمثيل. وهذا فضلا عن الآيات الكثيرة التي نفت الظلم عن الله وقررت أن الله لو يؤاخذ الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولو يعجّل الله لهم بالشرّ استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم وأنه الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة وأمرت النبي صلى الله عليه وسلم بالصفح والسلام والصبر والتسامح والإحسان والإعراض والهجر الجميل والصفح الجميل إلخ. ودعت بأساليب متنوعة إلى التوبة والإنابة إلى الله وعدم القنوط من رحمة الله وفتحت الباب واسعا لكل مذنب مهما عظمت ذنوبه ولكل كافر ولكل منافق مهما أجرموا واجترحوا السيئات لإصلاح أنفسهم وبدء حياة جديدة والاستمتاع بعفو الله ورحمته وغفرانه وتسامحه مما احتوته آيات كثيرة جدا كثرة تغني عن التمثيل كذلك. تعليق على تعبير وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) وحكاية قول الكفار عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه معلّم يقصد بها الإشارة إلى ما كانوا يقولونه عنه أنه يعينه على نظم القرآن قوم آخرون على ما حكته آية سورة الفرقان

_ (1) تاريخ العرب ج 1 ص 177 طبعة ثانية. انظر أيضا روح الإسلام لطبارة طبعة رابعة ص 82- 83.

[سورة الدخان (44) : الآيات 17 إلى 33]

هذه: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وإنه يعلّمه شخص غير عربي على ما حكته آية سورة النحل هذه: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) . وقد علقنا على ذلك بما فيه الكفاية في سياق تفسير سورة الفرقان. أما كلمة مجنون فقد تكررت حكاية صدورها من الكفار مرارا عن النبي صلى الله عليه وسلم ومرّ من ذلك أمثلة عديدة في سور القلم والأعراف وسبأ والقمر والصافات والتكوير. وعلقنا عليها بما فيه الكفاية وبخاصة في سورة القمر. وعلى كل حال ففي التعبيرين دلالة على ما كان يظنه الكفار في النبي صلى الله عليه وسلم وعلى بواعث جحودهم وتصاممهم عن دعوته، ولذلك جاءت الآيات بالأسلوب التنديدي والإنذاري الذي جاءت به. [سورة الدخان (44) : الآيات 17 الى 33] وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33) . (1) فتنّا: ابتلينا وامتحنّا.

(2) أدوا إليّ: تعالوا إليّ وأقبلوا على دعوتي. (3) فاعتزلوني: ابتعدوا من طريقي أو دعوني وشأني. (4) رهوا: ساكنا أو جافا أو على هيئته التي عبر عليها. (5) نعمة: حياة منعمة أو ناعمة. (6) اخترناهم على علم: اخترناهم عن بصيرة وعلم بأحوالهم، وقد قال الزمخشري: «واخترناهم على علم بأنهم قد ينحرفون لأجل امتحانهم واختبارهم» . (7) ما فيه بلاء مبين: ما فيه بلاء واختبار شديدان. في الآيات إشارة إلى ما كان من رسالة موسى عليه السلام إلى فرعون وقومه وعاقبتهم وعبارتها واضحة. وقد جاءت على أثر حكاية موقف الكفار والتنديد بهم وإنذارهم جريا على الأسلوب القرآني. واحتوت ما احتوته بأسلوب الإشارة والإجمال المتسق مع ما ورد في القصة مسهبا في المناسبات السابقة. وهذا أيضا من أساليب القصص القرآني حسب ما اقتضته حكمة التنزيل واستهدفت- كما يستلهم من أسلوبها القوي النافذ ومن مضمونها- إنذار الكفار وتطمين النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. فقد أهلك الله فرعون وقومه، وكانوا أشد منهم قوة ولم يمهلهم ولم تبك عليهم سماء ولا أرض وسلبهم ما كان لهم من زروع وجنات وعيون وما كانوا يتمتعون به من حياة ناعمة مترفة. وأورث ذلك لغيرهم ونجّى بني إسرائيل مما كانوا يقاسونه من عذاب فرعون الشديد المسرف المستكبر ثم جعلهم خير العالمين عن علم بأحوالهم اختبارا وامتحانا لهم. وما جاء في الآيات عن رسالة موسى عليه السلام إلى فرعون متسق مع ما جاء متصلا في السور السابقة. وليس فيها جديد إلّا أمر الله لموسى أن يترك البحر رهوا ليدخله فرعون وقومه على أثرهم. وهذا ليس واردا في سفر الخروج ولكن نعتقد أنه مما كان يرويه اليهود نقلا عن قراطيس كانت في أيديهم مثل سائر النقاط التي وردت في القرآن ولم ترد في الأسفار المتداولة من قصص موسى وفرعون. ويلحظ أن الآيات هنا لم تذكر بني إسرائيل كورثة لفرعون وقومه مع أن ذلك ذكر في سورتي الشعراء والأعراف. ومع ذلك فالعبارة كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) لا تنقض ذلك كما هو المتبادر. والعبرة في الآيات هي

تعليق على آية ولقد اخترناهم على علم على العالمين (32)

تقرير كون الله قادرا على أن يفعل بكفار العرب ما فعله بفرعون وقومه الذين كانوا أقوى وأعظم منهم وأن يلطف بالمؤمنين فيجعلهم ورثة لهم يرثون ما هم فيه من أسباب الغنى والحياة الناعمة ووسائلها ويختارهم على العالمين بدورهم مثل ما كان من لطفه ببني إسرائيل. تعليق على آية وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وجمهور المفسرين على أن الْعالَمِينَ (32) في جملة وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) تعني أهل زمانهم ولا تعني أهل الأرض في كل زمن «1» . وهذا هو المعقول، لأن الله جعل العرب الذين آمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم أو كل من آمن برسالة النبي صلى الله عليه وسلم إطلاقا خير أمة أخرجت للناس كما جاء في الآية [110] من سورة آل عمران: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ وهذه الآية تعلل هذه الخيرية بالإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقياسا على ذلك فإن خيرية بني إسرائيل إنما كانت على أهل زمانهم بسبب استجابتهم لدعوة موسى عليه السلام وإيمانهم بالله وحده والتزامهم شرائعه. ولا يتسق مع روح التلقين القرآني ولا مع حكمة الله أن يدوم حكم الخيرية لهم حينما انحرفوا عن عبادة الله إلى عبادة العجل والبعل وانحرفوا عن شرائع الله واقترفوا الفواحش والموبقات وحرفوا كتب الله وكلامه عن مواضعه وافتروا على الله الكذب ونسبوا إليه ما ليس منه في حياة موسى وبعده على ما سجلته عليهم أسفار عديدة من أسفار العهد القديم «2» وآيات كثيرة

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والزمخشري والخازن والبغوي. (2) النصوص كثيرة ومبثوثة في معظم أسفار العهد القديم بحيث يستطيع من يشاء أن يعثر عليها بسهولة وسعة. وسواء منها ما نسب إلى موسى عليه السلام وهي أسفار الخروج والعدد والتثنية واللاويين أو الأحبار أم الأسفار التي دونت بعد موسى عليه السلام كيوشع والقضاة والملوك وأخبار الأيام وأشعيا وأرميا وحزقيال ودانيال وهوشع ويوئيل وعاموس وعوبيديا وميخا وحبقوق وصنفيا وملاخي.

تعليق على جملة فما بكت عليهم السماء والأرض

من القرآن الكريم «1» وعلى ما نبهنا عليه في سياق تفسير الآية [137] من سورة الأعراف. تعليق على جملة فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ ومع أن المتبادر أن جملة فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ هي من قبيل المجاز والتمثيل والمبالغة في التبكيت والتهكم عليهم وتهوين شأنهم عند الله رغم ما كانوا عليه من قوة وترف وهو ما قاله الزمخشري في الكشاف فإن المفسرين أوردوا أحاديث تبدو لنا غريبة لأنها في صدد بيان كون بكاء السماء والأرض حقيقة وكونهما تبكيان على المؤمنين حين موتهم. من ذلك «2» حديث رواه أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «ما من عبد إلّا وله في السماء بابان باب يخرج منه رزقه وباب يدخل منه عمله وكلامه فإذا مات فقداه وبكيا عليه وتلا الآية: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ ذكر أنهم لم يكونوا عملوا على الأرض عملا صالحا يبكي عليهم ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ولا من عملهم كلام طيب ولا عمل صالح فتفقدهم فتبكي عليهم» . ومن ذلك حديث عن ابن عبيد الحصري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ. ألا لا غربة على مؤمن. ما مات مؤمن في غربة غابت عنه بواكيه إلّا بكت عليه السماء والأرض، ثم

_ (1) الآيات القرآنية كثيرة ومبثوثة في سور عديدة وبخاصة في السور الطويلة فنكتفي بالإشارة إلى سورها وأرقامها: سورة البقرة [51- 69 و 75- 96 و 100- 105] وسورة آل عمران: [69- 78 و 98- 100 و 110- 112] وسورة النساء: [43- 54 و 152- 161] وسورة المائدة: [11- 13 و 32- 33 و 41- 45 و 56- 64 و 78- 82] . (2) هذه الأحاديث منقولة عن كتاب تفسير ابن كثير في سياق تفسير الآية، انظر أيضا تفسير الطبري والبغوي والخازن والطبرسي.

قرأ: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ ثمّ قال إنهما لا تبكيان على الكافر» . ومن ذلك حديث عن عباد بن عبد الله أن رجلا سأل عليّ بن أبي طالب: هل تبكي السماء والأرض على أحد؟ فقال: «إنه ليس من عبد إلا له مصلّى في الأرض ومصعد عمله من السماء وإن آل فرعون لم يكن لهم عمل صالح في الأرض ولا عمل يصعد إلى السماء ثم قرأ: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) » . ومن ذلك حديث روي عن سعيد بن جبير قال: سأل رجل ابن عباس: هل تبكي السماء والأرض على أحد؟ فقال: «نعم، إنه ليس أحد من الخلائق إلّا وله باب في السماء ينزل منه رزقه فإن فقده بكى عليه وإذا فقده مصلّاه من الأرض التي كان يصلّي فيها ويذكر الله عز وجل فيها بكت عليه وإن قوم فرعون لم تكن لهم في الأرض آثار صالحة ولم يكن يصعد إلى الله عزّ وجلّ منهم خير فلم تبك عليهم السماء والأرض» . وحديث آخر عن ابن عباس أيضا جوابا على سؤال جاء فيه: «أتعجب، وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود، وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتكبيره وتسبيحه فيها دويّ كدويّ النحل» . وحديث عن مجاهد جاء فيه: «ما مات مؤمن إلّا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحا» . ومن ذلك حديث عن إبراهيم: «ما بكت السماء منذ كانت الدنيا إلّا على رجلين: يحيى بن زكريا والحسين بن علي حين قتلا» ، فسأله السائل: أليس السماء والأرض تبكيان على المؤمن؟ فقال: «ذاك مقامه حين يصعد عمله. ثم قال له: أتدري ما بكاء السماء؟ قال: لا، قال: تحمرّ وتصير وردة كالدّهان» . ومن ذلك حديث عن يزيد بن أبي زياد قال: «لما قتل الحسين بن علي احمرّت آفاق السماء أربعة أشهر واحمرارها بكاؤها» . وذكروا أيضا- وهذه عبارة ابن كثير- في مقتل الحسين: «إنّه ما قلب حجر يومئذ إلّا وجد تحته دم عبيط وإن الشمس كسفت والأفق احمرّ وسقطت حجارة» . ولم يرد من هذه الأحاديث في كتب الأحاديث الصحيحة المشهورة إلّا حديث واحد رواه الترمذي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مؤمن إلّا وله بابان

[سورة الدخان (44) : الآيات 34 إلى 39]

باب يصعد منه عمله وباب ينزل منه رزقه فإذا مات بكيا عليه فذلك قوله فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) «1» . ويلوح أن هذا الحديث قد استهدف فيما استهدفه تبشير المؤمنين وتطمينهم، ولقد عقب ابن كثير على الروايات الثلاث الأخيرة التي ذكر فيها بكاء السماء واحمرارها وكسوف الشمس وانبثاق الدماء من تحت الحجارة في ظرف مقتل الحسين رضي الله عنه. فقال: «وفي كل ذلك نظر والظاهر أنه من سخف الشيعة وكذبهم ليعظموا الأمر ولا شك أنه عظيم ولكن لم يقع هذا الذي اختلقوه وكذبوه. وقد وقع ما هو أعظم من قتل الحسين ولم يقع شيء مما ذكروه. فقد قتل أبوه وهو أفضل منه بالإجماع وعثمان بن عفان قتل محصورا مظلوما ولم يكن شيء من ذلك وعمر بن الخطاب قتل في المحراب ولم يكن شيء من ذلك. وهذا سيد البشر رسول الله صلى الله عليه وسلم مات لم يكن مما ذكروه شيء. ويوم مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم خسفت الشمس فقال الناس: خسفت لإبراهيم فصلّى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطبهم وبيّن لهم أن الشمس والقمر لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته. وهذا حقّ. ونخشى أن يكون للشيعة يد في الأحاديث الأولى لإثبات أن ما اخترعوه في مقتل الحسين له أصل من سنة أقدم، والله أعلم. [سورة الدخان (44) : الآيات 34 الى 39] إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39) . (1) منشرين: من النشور وهو البعث بعد الموت.

_ (1) التاج ج 4 ص 206.

في الآيات حكاية لما كان يقوله الكفار في إنكار البعث حيث كانوا يقولون إننا سنموت موتة أبدية لن نقوم بعدها. ثم يتحدون النبي صلى الله عليه وسلم الذي ينذرهم بالبعث طالبين منه الإتيان بآبائهم أي إحياءهم إن كان صادقا في إنذاره، وردّ عليهم بصيغة التساؤل الإنكاري عما إذا كانوا هم خيرا وأقوى من قوم تبّع ومن قبلهم من الأمم التي أهلكها الله تعالى لأنها وقفت موقف الكفر والإنكار. وتنبيه على أن الله سبحانه لم يخلق السموات والأرض وما بينهما عبثا ولعبا وإنما توخّى بذلك الحقّ والحكمة ولو لم يفهم هذه الحقيقة أكثر السامعين. وواضح أن في الآيات عودة على بدء في حكاية أقوال ومواقف الكفار والتنديد بهم وإنذارهم، كما أن فيها صورة من صور الجدل واللجاج التي كانت تقع بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار، فهي والحالة هذه استمرار للسياق. وقد يلوح أن اختصاص قوم تبع بالذكر هنا متصل بما كان معلوما عند السامعين من ملك تبابعة اليمن وقوتهم وعظمة شأنهم. ولقد أورد المفسرون «1» في سياق هذه الآيات بيانات غير يسيرة من ذلك معزوة إلى علماء الصدر الإسلامي الأول فيها المعقول وغير المعقول وفيها الدلالة على كل حال على ما كان مستقرا في أذهان السامعين من ذلك. ولقد سبق تعريف بتبع وقومه في سياق سورة (ق) فلا نرى ضرورة للتكرار. ولقد أورد المفسرون في صدد هذه الآيات بعض الأحاديث عن إسلام تبع فلم نر بأسا في إيرادها إتماما للصورة مع التنبيه على أنها لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. منها حديث رواه الإمام أحمد وابن أبي حاتم عن ابن عباس وسهل بن سعد الساعدي بطرق مختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسبّوا تبّعا فإنّه قد أسلم» وحديث رواه أبو حاتم الرقاشي أن عائشة كانت تقول: «لا تسبّوا تبعا فإنه كان رجلا صالحا» . ولقد عقب الطبري والبغوي على جملة ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ بأنها تعني للاختبار في الدنيا للثواب على الطاعة والعقاب على المعصية. ومع أن معنى

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.

تعليق على آية فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين (36) [36]

التعقيب قد ورد نصا في بعض الآيات مثل آية سورة المؤمنون هذه: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) وآية سورة الملك هذه: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) . فإن الجملة وهي في صدد السماء والأرض وفيهما الإنسان وغير الإنسان من مخلوقات الله الحية وغير الحية وفيهما نواميس كونية عظمى تتضمن فيما يتبادر لنا تقريرا أشمل من كون ذلك لاختبار الإنسان وحسب. وفي سورة الجاثية آية جاء فيها: وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22) حيث ينطوي فيها تقرير كون ذلك من جملة الحقّ الذي توخاه الله تعالى من خلق السموات والأرض وليس كله والله أعلم. تعليق على آية فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) [36] وهذه أول مرة يأتي تحدي الكفار فيها بما حكي عنهم في هذه الآية، فقد حكت آيات عديدة في السور السابقة إنكارهم للبعث بعد موتهم هم وآباؤهم بعد أن يصبحوا رفاتا وعظاما ورميما ويمزقون كل ممزق، فكان القرآن يردّ عليهم مبرهنا بقدرة الله تعالى على إحيائهم ثانية بما هو ماثل أمام أعينهم من مشاهد قدرة الله وعظمته وملكوته، وينبههم إلى أن الذي خلقهم بدءا قادر على خلقهم إعادة، ويضرب لهم الأمثال بالأرض الميتة الخامدة التي يحييها بالمطر. فجاءوا الآن يتحدون النبي صلى الله عليه وسلم بطلب البرهنة على ذلك بإحياء آبائهم في الدنيا حتى يروهم ويكلموهم. وقد اقتضت حكمة التنزيل بالردّ عليهم بما كان من إهلاك المجرمين أمثالهم من قوم تبّع ومن قبلهم ممن يعرفون قصصهم وهم أقوى منهم. وأن الذي أنزل في المجرمين السابقين التدمير والعذاب قادر عليهم، وبأن الله سبحانه لا يعقل أن يكون قد خلق السموات والأرض عبثا ولعبا ولا بدّ من أن يكون لذلك حكمة منها بعث الناس ومحاسبتهم على أعمالهم وتوفيتهم الجزاء عليها. ويتبادر لنا أن الرد الرباني جاء بالأسلوب الذي جاء به ليتسق مع مشيئة الله

[سورة الدخان (44) : الآيات 40 إلى 42]

بعدم إجابتهم إلى التحدي الذي كان الكفار يتحدون به النبي صلى الله عليه وسلم بالإتيان بالمعجزات للبرهنة على صحة رسالته وصلتها وصلة القرآن بالله عز وجل على ما شرحناه في سياق تفسير سورة المدثر لأن طلبهم الإتيان بآبائهم هو معجزة يطلبونها بأسلوب التحدي فلم تقتض مشيئة الله إجابتهم عليها مع دخولها في نطاق قدرته كما كان الشأن في مواقف تحديهم المتكررة. [سورة الدخان (44) : الآيات 40 الى 42] إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) . (1) مولى: بمعنى ولي وحليف ونصير. الآيات متصلة بسابقاتها اتصال تعقيب وتدعيم، فيوم الفصل والقضاء الأخروي هو موعد الناس جميعا الأولين منهم والآخرين. ولن ينفع فيه ولي وليا وحليف حليفا. ولن ينجو من هوله وشره إلّا من رحمه الله القوي وحده، الناصر وحده، الرحيم وحده، في أي ظرف يستدعي القوة والنصر والرحمة. وواضح أن الآيات ردّ على الذين تحدوا النبي صلى الله عليه وسلم بالإتيان بآبائهم، وقد استهدفت فيما استهدفته إنذارهم وإثارة اليأس فيهم من أي نصير وحليف يوم القيامة لحملهم على الارعواء وتطمين المؤمنين بأنهم سيكونون مظهر رحمة الله تعالى. ومن المفسرين من قال في تخريج الاستثناء في جملة: إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إنها تعني نفع وغناء الشفيع الذي يكون قد نال رحمة الله ورضاءه» . ومنهم من قال إنها تعني أن النفع والغناء إنما هما رحمة الله وحسب «2» . وقد تبادر

_ (1) انظر الطبري والبغوي. [.....] (2) انظر ابن كثير.

[سورة الدخان (44) : الآيات 43 إلى 57]

لنا أنها في معنى أن النجاة هي للذين تداركتهم رحمة الله فاهتدوا وآمنوا وعملوا الصالحات والله أعلم. [سورة الدخان (44) : الآيات 43 الى 57] إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) . (1) شجرة الزقوم: سبق تعريفها. (2) المهل: دردي الزيت ورديئه. (3) اعتلوه: احملوه بعنف وسوقوه. (4) السندس والإستبرق: نوعان من الحرير. والكلمتان معرّبتان عن لغة أعجمية. جاءت هذه الآيات في أثر الآيات السابقة استمرار للكلام أو تعقيبا وتدعيما لبيان مصير كل من الكافرين والمؤمنين يوم الفصل. 1- فلسوف يكون طعام الكافر الأثيم شجرة الزقوم الكريهة الطعم الذي يشبه طعم عكر الزيت ويغلي في البطون كغلي الماء فوق النار. 2- وسيأمر الله عز وجل الموكلين بالعذاب بأخذه وسوقه وإلقائه في وسط النار وصب الماء الشديد الحرارة فوق رأسه والاستهزاء به قائلين له هذا مقامك أيها العزيز الكريم أو يا من كنت تزعم لنفسك العزة والكرامة. فذق ثمرة كفرك

[سورة الدخان (44) : الآيات 58 إلى 59]

وغرورك. فهذا تحقيق ما كنت تشك وتماري فيه. 3- وسيكون المتقون في مقام الآمن فيحلون في الجنات والعيون ويلبسون ثياب الحرير ويتكئون على السرر متقابلين ويتمتعون بكل فاكهة ويتزوجون بالحور العين وقد وقاهم الله الموت مرة ثانية وكتب لهم الخلود في هذا النعيم وحماهم من عذاب النار وكل ذلك بفضل الله ورحمته، وهذا هو الفوز العظيم. ووصف مصير الفريقين قوي رائع من شأنه إثارة الخوف في الكفار وبعث الطمأنينة والغبطة في المؤمنين. وهو مما استهدفته الآيات على ما هو المتبادر بالإضافة إلى الحقيقة الإيمانية المنطوية فيها عن المشهد الأخروي. [سورة الدخان (44) : الآيات 58 الى 59] فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59) . (1) ارتقب: بمعنى اصبر أو انتظر. جاءت الآيتان معقبتين على وصف مصيري الكفار والمؤمنين. وخاتمتين للسورة والموقف الجدلي الحجاجي معا، وقد وجه الخطاب فيهما للنبي صلى الله عليه وسلم فالله سبحانه إنما جعل القرآن بلسان النبي صلى الله عليه وسلم لعلّ السامعين يتعظون به لأنه بلغتهم، وإذا لم يتعظوا فلينتظر النبي صلى الله عليه وسلم ولينتظر الكفار معا أمر الله وقضاءه فهو واقع لا ريب فيه. وفي هذا إنذار للكفار وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم استهدف به بثّ الثقة والقوة والأمل في نفسه كما هو المتبادر. ولقد روى الطبري عن قتادة أن الآيات [48- 50] نزلت في أبي جهل الذي قال في مجال الافتخار حينما أنذره النبي صلى الله عليه وسلم بآيات سورة العلق [15- 16] : أيوعدني محمد والله لأنا أعزّ من مشى بين جبليها. وقد روى ابن كثير عن عكرمة صيغة أخرى من هذه الرواية حين قال النبي صلى الله عليه وسلم له: إنّ الله تعالى أمرني أن أقول لك أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى فنزع ثوبه من يده وقال: ما تستطيع أنت ولا

تعليق على السندس والإستبرق

صاحبك من شيء، ولقد علمت أني أمنع أهل البطحاء وأنا العزيز الكريم. ومع احتمال أن يكون مثل هذه المحاورة جرت بين النبي صلى الله عليه وسلم وأبي جهل وصدر عن أبي جهل هذا القول فإنّ الآيات كما يبدو وحدة متماسكة متصلة بما قبلها وما بعدها وعلى سبيل الإنذار والتبشير بمصيري الكفار والمؤمنين بحيث يصح القول إنها لم تنزل في هذه المناسبة، وكل ما يمكن أن يكون أنها احتوت ردّا لاذعا شامتا على اعتداد أبي جهل وأمثاله بأنفسهم وعزتهم. ولقد روى البغوي بطرقه في سياق ذكر شجرة الزقوم ووصفها حديثا عن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيّها الناس اتقوا الله حقّ تقاته، فلو أن قطرة من الزّقوم قطرت على الأرض لأمرّت على أهل الدنيا معيشتهم فكيف بمن تكون طعامه وليس لهم طعام غيره» . حيث ينطوي في الحديث توضيح ترهيبي إنذاري نبوي متسق مع الترهيب الإنذاري الذي احتوته الآيات. وفي الآية الأولى دليل جديد يضاف إلى الأدلة الكثيرة التي نبهنا عليها على أن لغة القرآن كانت مفهومة عند أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره من العرب بل كانت لغتهم التي هي لغة النبي صلى الله عليه وسلم. تعليق على السندس والإستبرق وما قلناه في صدد وسائل النعيم الأخروية في سياق سورة الزخرف وغيرها ينحسب على الوصف الوارد في هذه الآيات. وإن كان من شيء يصحّ أن يزاد فهو أنه لما كان الإستبرق والسندس كلمتين معرّبتين عن الفارسية أو الرومية على اختلاف الأقوال، ولما كانت روح الآيات تلهم أن ما يرمزان إليه من نوع النسيج الحريري كان معروفا وممارسا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره فإنه يسوغ القول إن في ذلك دلالة على ما كان من صلات تجارية وغير تجارية بين أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره وفي الأقطار المجاورة لجزيرة العرب، وعلى اقتباس العرب لكثير من وسائل الحياة التي كان يتمتع بها أهل تلك الأقطار، وهو ما قامت عليه الأدلة الكثيرة القرآنية وغير القرآنية.

سورة الجاثية

سورة الجاثية في السورة صور عن مواقف وأقوال الكفار وعنادهم وتعصبهم الأعمى في صدد الدعوة النبوية والبعث والحساب. وحملة شديدة عليهم وإنذار بالخزي والعذاب الأبدي وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين وتثبيت لهم ودعوتهم إلى التسامح. وتذكير بحالة بني إسرائيل وتعداد ما لله على الناس من أفضال وما في بعض مشاهد الكون من دلائل على عظمة الله وربوبيته الشاملة. وفصول السورة مترابطة متساوقة مما يسوّغ القول إنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة. وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآية [14] مدنية وانسجامها في سياقها موضوعا وسبكا يحمل على الشك في الرواية. [سورة الجاثية (45) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) . (1) الرزق: هنا كناية عن المطر الذي فيه رزق الناس ومعيشتهم. (2) تصريف الرياح: هنا بمعنى تسييرها. ابتدأت السورة بالحاء والميم للتنبيه والاسترعاء على ما نبهنا عليه في أمثالها. وأعقبها تقرير رباني فيه توكيد بأن الكتاب الذي ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم

[سورة الجاثية (45) : الآيات 7 إلى 11]

هو تنزيل من الله العزيز الحكيم جريا على النظم القرآني الذي مرّ في السور المماثلة. ثم أخذت الآيات تلفت نظر السامعين إلى مشاهد عظمة الله وقدرته في الكون مما هو ماثل للناس وتحت نظرهم وحسهم. 1- ففي السماء والأرض من المشاهد والمظاهر والنواميس آيات ربانية من شأنها أن تجعل من يريد الحق أن يؤمن بالله من خلالها. 2- وفي خلق الناس وما هو مبثوث في الأرض من أحياء آيات ربانية من شأنها أن تبعث اليقين بالله في من يريد اليقين. 3- وفي اختلاف الليل والنهار ونزول المطر وإحياء الأرض بعد موتها وتسيير الرياح آيات ربانية من شأنها أن تقنع كل من يتعقل ويتفكر. ثم جاءت الآية الأخيرة تخاطب النبي صلى الله عليه وسلم وتقول له إن الله سبحانه ينزل الكتاب عليه لينبه الناس بواسطته إلى هذه الآيات. فإذا لم يتأثروا ويدركوا ويؤمنوا ويوقنوا فما هو الحديث الذي يمكن أن يؤثر فيهم ويحملهم على التعقل والإيمان واليقين بعد حديث الله وآياته. وأسلوب الآية الأخيرة الاستنكاري ينطوي على تنديد موجه إلى الكفار كما ينطوي على تقرير عناد هؤلاء وإصرارهم على الجحود لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته، لا سيما وهم لا ينكرون أن الله هو خالق السموات والأرض وخالقهم ومدبر الكون وما فيه. ويدل على أن مطلع السورة قد جاء بمثابة مقدمة وتمهيد لحكاية موقف الكفار الذي احتوته الآيات التالية مما هو متسق مع نظم السور السابقة. [سورة الجاثية (45) : الآيات 7 الى 11] وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) .

(1) أفاك: كذّاب أو مفتر. (2) رجز: أشد العذاب. بعد ذلك المطلع التمهيدي جاءت هذه الآيات تحمل حملة شديدة على الكفار بسبب موقفهم من آيات كتاب الله تعالى وقد تضمنت: 1- تنديدا بالمفتري الكاذب الأثيم الذي تتلى عليه آيات الله، ويلفت فيها نظره إلى مشاهد عظمة الله وقدرته في الكون ثم يصر مستكبرا على جحوده كأنه لم يسمع شيئا. وإذا بلغه منها شيء قابله بالهزء والسخرية. فلأمثال هذا: الويل والبشرى بالعذاب الشديد الموجع المهين، وهم لاحقون بجهنم حقا ولن يفلتوا منها. ولن يغني عنهم ما هم فيه في الدنيا من مال وولد وزعامة وقوة، ولا ما اتخذوه من دون الله من أولياء وشركاء وشفعاء. 2- وتنبيها إلى أن آيات كتاب الله التي يتلوها رسوله على الناس هي هدى لكل من حسنت نيته وسلم قلبه وأراد الحق، أما الذين بيتوا العناد والكفر فلهم غضب الله وعذابه. والآيات تنطوي على حكاية شدة عناد الكفار، أو بالأحرى زعماؤهم وأصحاب الوجاهة والثروة فيهم للنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته وآيات القرآن، وتصور شدة مكابرتهم في الحقّ ومقابلتهم ما كانوا يسمعون ويعلمون من آيات الله بالاستخفاف والتصامم. وقد روى بعض المفسرين أن الآيات عنت النضر بن الحارث الذي كان يقابل القرآن بأحاديث الفرس ويقول إن أحاديثه أحسن من أحاديث محمد. وهذه الرواية رويت في مناسبات عديدة، على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة ومهما يكن من أمر فإن مجيء الآيات بضمائر الجمع يفيد أن حكمة التنزيل اقتضت ذلك ليشمل

[سورة الجاثية (45) : الآيات 12 إلى 13]

التنديد والإنذار جميع الكفار أو جميع الزعماء لتماثلهم وتضامنهم في الموقف الموصوف. ومع خصوصية الآيات الزمنية والموضوعية فإنها على ما هو المتبادر تنطوي على تلقين جليل مستمر المدى في تقبيح المكابرة والعناد أمام الحق والحقيقة، وعدم تعقل الإنسان ما يسمعه وغفلته عنه أو تهربه منه على العمياء مندفعا في ذلك بالمكابرة والعناد. [سورة الجاثية (45) : الآيات 12 الى 13] اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) . في الآيتين عود على بدء في صدد التذكير ببعض نواميس الكون وفوائدها للناس: 1- فالله سبحانه هو الذي سخّر لهم البحر ويسّر لهم سير الفلك فيه لابتغاء فضل الله والحصول على أسباب الرزق مما يوجب عليهم شكره. 2- وهو الذي سخّر لهم ما في السموات وما في الأرض من نواميس وقوى لينتفعوا بها ويبتغوا بها من فضله كذلك، وفي هذا من آيات رحمة الله وبرّه ما فيه لمن يتفكر ويتدبر. والآيات متصلة بما سبقها واستمرار لها كما هو واضح، وهي في صدد المعنى الذي نبهنا عليه في سورة لقمان لتسخير الله تعالى السموات والأرض لبني الإنسان بأسلوب أقوى وأوضح. وتتضمن في الوقت نفسه دعوة للناس إلى إدامة التفكير في النواميس والقوى الكونية والانتفاع بما أودعه الله فيهم من قوى للاستفادة منها في مختلف المجالات والصور. [سورة الجاثية (45) : الآيات 14 الى 15] قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) .

تعليق على آية قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله

(1) أيام الله: القصد منها بلاء الله وعذابه. وكلمة الأيام كانت تستعمل عند العرب كناية عن أيام الحروب، وجملة أيام العرب تعني حروبهم، وقيل إن الجملة تشمل نعم الله ونقمه معا وإن معناها لا يبالون بما يقال بأن النعم والنقم من الله. في الآيتين: 1- أمر رباني للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول للمؤمنين إنه يحسن بهم أن يكظموا غيظهم إزاء الكفار الذين يتجاهلون بطش الله وانتقامه ولا يتوقعونهما ويصدرون فيما يفعلونه عن ذلك وأن يتسامحوا ويغضوا عما يأتونه من أفعال ويقفونه من مواقف نتيجة له. 2- وتقرير بأن الذي يعمل العمل الصالح إنما يعمله لنفسه، والذي يعمل السيء إنما يتحمل هو تبعته. وبأن مردّ الناس جميعهم إلى الله حيث يجزى كل منهم بما عمل. والآية الثانية تعقيب على الأولى وتدعيم وتعليل لما احتوته من الأمر بالكظم والغفران كما هو المتبادر. وهي من الآيات الصريحة الحاسمة والمحكمة بأهلية الإنسان للعمل الصالح والسيء بما أودعه الله فيه من إرادة وقابلية وباستحقاقه الجزاء وفاقا لكسبه واختياره. تعليق على آية قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآية [14] مدنية، وروى بعض المفسرين أنها نزلت في مناسبة شتم أحد المشركين لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في مكة وتفكير هذا بمقابلته والتنكيل به. كما روى بعضهم أنها نزلت في المؤمنين

الذين رأوا ازدياد أذى المشركين عليهم في مكة فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم بالمقابلة «1» . والروايتان تنقضان رواية مدنية الآية. ويلاحظ من ناحية ثانية أن الآيتين منسجمتان، وأن الثانية متممة للأولى، وأن مضمون الآيتين متسق مع ما احتوته آيات مكية عديدة من الحثّ والصفح والصبر. لذلك فنحن نشك في مدنية الآية، بل نجزم بعدم صحة رواية ذلك. أما ما ذكرته الروايتان من مناسبة النزول فقد يكون صحيحا حيث إنه من الممكن أن يكون عمر بن الخطاب أو غيره قد أنفوا من تحمل شتيمة الكفار وأذاهم فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم بالمقابلة فاقتضت حكمة الله تهدئتهم. غير أن الذي يتبادر لنا أن الآيتين غير منقطعتين عن السياق السابق وأنهما في صدد موقف الكفار من آيات الله وسخريتهم وعنادهم. ونميل إلى القول إن بعض المسلمين قد تساءلوا عن حكمة الله في الصبر عليهم أو قد فكروا في الجنوح إلى مجادلة الكفار أو الرد عليهم بشيء من العنف فاقتضت حكمة التنزيل تهدئتهم والأمر بترك الأمر لله تعالى. وفحوى الآيات السابقة مما يقوي هذا التوجيه حيث احتوت صورة شديدة لموقف الكفار. وحكمة أمر الله ظاهرة سواء أكان الأمر بعدم المقابلة على الأذى والشتيمة أم بعدم العنف في الجدل والدعوة. فبالنسبة للأمر الأول فقد كان المسلمون قلة ضئيلة وكان خصومهم أشد قوة ومالا وعددا فلو سمح لهم بالمقابلة لتطور الأمر وهيىء للكفار فرصة لضربهم ضربة ساحقة قد يكون لها على الدعوة أسوأ العواقب. وبالنسبة للأمر الثاني فالأوامر القرآنية المكية ظلت تتوالى- وقد مرّ من ذلك أمثلة كثيرة- بوجوب الاكتفاء بالإنذار والتبشير والترغيب والترهيب والتذكير والتنديد والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والعنف في الدعوة أو الدفاع عنها مخالف لذلك. ولقد قال المفسرون إن هذه الآية نسخت بآيات القتال المدنية، وقال الطبري إن هذا مجمع عليه عند أهل التأويل. ولقد قيل هذا في كل أمر في الآيات المكية

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير البغوي والخازن.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 16 إلى 20]

بالإغضاء والصفح والصبر في القرآن المكي. وفي القول وجاهة إذا قيد بما احتوته آيات القتال المدنية من شروط وحدود مثل مقاتلة المعتدين على المسلمين والناكثين بعهودهم معهم والطاعنين في الدين الإسلامي والصادين عنه بالقوة والفتنة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة (الكافرون) . ومع ذلك فإن الآية الأولى تظل على ما يتبادر لنا مستمد تلقين للمسلمين في التسامح والكظم والإغضاء وضبط النفس تجاه مواقف غير المسلمين غير المستحبة وفي الظروف التي تتحمل ذلك ولا يترتب عليه ذل أو صدّ أو استمرار في الأذى والعدوان. ولا يتناقض هذا مع الآيات المدنية التي فيها تنظيم لعلاقة المسلمين بغير المسلمين على ما سوف نشرحه في مناسباته. [سورة الجاثية (45) : الآيات 16 الى 20] وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) . (1) الحكم: بمعنى الحكمة أي كل ما فيه السداد والصواب والنظر الصائب من أمر وقول وفعل. (2) الشريعة: بمعنى الطريقة أو المنهج. (3) من الأمر: المقصد من الجملة (من أمر الدين) . عبارة الآيات واضحة، ويبدو أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة: 1- فمع أن الله تعالى قد آتى بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقهم من الطيبات وفضلهم على الناس في ذلك فإن هذا لم يمنعهم من الاختلاف والنزاع

بعد ما جاءهم من العلم بغيا بغير حق. 2- ولسوف يقضي الله بينهم يوم القيامة فيؤيد الحق وأهله ويزهق الباطل وأهله. 3- ولقد جعل الله النبي على طريق واضح من الحق والهدى فعليه وعلى المؤمنين أن يسيروا فيها ولا ينحرفوا عنها ولا يختلفوا ويتنازعوا فيها كما فعل بنو إسرائيل ولا يتبعوا أهواء الجاهلين ولا يعبأوا بمواقف الكافرين الظالمين. فهؤلاء بعضهم أولياء بعض ولن تغني عنهم ولا يتهم لبعضهم من الله شيئا. 4- والله إنما هو ولي الذين يتّقونه ويلتزمون حدوده. 5- وإن في هذه التقريرات لبصائر للناس وهدى من شأنها أن تحملهم على التدبر والارعواء وفهم الأمور على وجهها الحق، وفيها بصورة خاصة الهدى والرحمة لمن حسنت نيته ورغب في الحق وشعّ نور اليقين في قلبه. والآيات تنطوي على التهدئة والتثبيت والتطمين والبشرى للمسلمين كما هو واضح، ومن هنا جاء معنى التعقيب فيها على الآيات السابقة كما هو المتبادر. وفي تقرير اختلاف بني إسرائيل- بغيا بعد ما جاءهم من العلم- إشارة إلى انحرافهم عن شرائع الله ووصاياه بعد ما كان لهم عند الله بسبب التزامهم ذلك المكان المفضل وأغدق عليهم عنايته في أشكال متنوعة حيث يتضمن ذلك: 1- التنديد بهم. (2) وتقرير كونهم فقدوا بانحرافهم وبغيهم وتحريفهم لكتب الله مزية التفضيل التي منحهم إياها مما فيه تأييد لما قلناه في سياق تفسير السورة السابقة. 3- وقد يكون فيه إلى ذلك تحذير للمسلمين من الوقوع فيما وقعوا فيه وهذا قد تكرر كثيرا في الآيات المكية والمدنية. هذا، ونكرر في صدد عبارة وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة من اتفاق المؤولين والمفسرين من أن ذلك بالنسبة للعالمين في

[سورة الجاثية (45) : الآيات 21 إلى 22]

الزمن الذي شاءت حكمة الله أن يفضلهم فيه بسبب استقامتهم وليس على سبيل الشمول والاستمرار، وما ذكرناه في مدى تقرير اختلاف بني إسرائيل بغيا منهم مما يؤيد ذلك كما هو المتبادر. [سورة الجاثية (45) : الآيات 21 الى 22] أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22) . (1) اجترحوا: اقترفوا أو ارتكبوا أو فعلوا، وفي سورة الأنعام وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [60] . في الآية الأولى تساؤل فيه معنى التنديد بالذين يقترفون الأعمال السيئة ثم يتوهمون أنهم سيظلون بدون حساب وسؤال أو يكونون هم والذين يعملون الأعمال الصالحة سواء في مركز واحد في الحياة وبعد الممات وتوبيخ لهم على هذا التوهم الذي يقعون فيه. وفي الآية الثانية تقرير بأن الله تعالى إنما خلق السموات والأرض بالحق وأن من الحق أن تجزى كل نفس بما كسبت دون جنف ولا إجحاف. وفي الآيتين على ما يتبادر عودة على بدء إلى ما احتوته الآيات التي سبقت فصل بني إسرائيل أولا وتعقيبا على ما احتواه هذا الفصل وما بعده من تعقيب ثانيا. وهما والحالة هذه استمرار في السياق والموضوع. وقد استهدفتا تطمين المؤمنين الصالحين وإنذار الكفار المسيئين، وتنبيها موجها إلى العقل على عدم إمكان تسوية المسيئين مع المحسنين وخلق الله للكون عبثا. وهذه المعاني قد تكررت في القرآن ومرت أمثلة عديدة من ذلك في السور السابقة وفيها بطبيعة الحال حثّ مستمر المدى والتلقين على الإيمان والعمل

[سورة الجاثية (45) : آية 23]

الصالح وتثبيت للمؤمنين الصالحين وإنذار للمسيئين في كل مكان وزمان، وبيان لحكمة البعث والجزاء الأخرويين وكون الإيمان والعمل الصالح واجتراح السيئات من مكتسبات الإنسان التي يجزي جزاء عادلا عليها وفاقا لها. [سورة الجاثية (45) : آية 23] أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) . في الآية لفت نظر فيه تنديد موجه إلى السامع لحالة الذي اتخذ من هواه إلها له عن علم وبينة وعناد فاستحق خذلان الله حتى غدا كمن ختم على سمعه فلا يسمع وعلى قلبه فلا يفهم وجعل على بصره غطاء فلا يرى. وانتهت بسؤالين أولهما يتضمن معنى التقرير بأن مثل هذا وأمثاله لن يستطيع أحد أن يهديهم بعد أن انصرف عن الله وانصرف الله عنه، وثانيهما يتضمن التنديد بالسامعين الذين لا يتدبرون هذه الحقيقة على وضوحها أو يتضمن الحث على تدبرها. وفي الآية تعقيب على الآيات السابقة كما هو المتبادر كأنما أريد بها التقرير بأن ما وجه فيها إلى العقول والقلوب من خطاب ولفت نظر لن يؤثر في الكفار لأن موقفهم موقف المتعمد للجحود، ولأنهم يتعامون ويتصاممون وينصرفون عن التدبر في آيات الله عنادا ومكابرة. تعليق على آية أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ.. إلخ والمقصود من تعبير اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ إما أن يكون الإشارة إلى تحكم الهوى والغرض في المرء حتى يصبح مطيعا وخاضعا له كأنما هو إلهه. وإما تقرير كون ما عليه من عقائد وعبادات وعادات باطلة قائما على هوى النفس دون الحق والحقيقة. والآية تتحمل هذا وتتحمل ذاك وإن كنا نرجح الأول. والمقصود من تعبير وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ أن ما هو عليه من موقف باطل جاحد ليس ناشئا عن جهل في الحق والحقيقة وإنما عن مكابرة وعناد مع العلم بهما ويكون معنى

[سورة الجاثية (45) : الآيات 24 إلى 26]

الجملة أن إضلال الله له إنما كان بسبب نيته الخبيثة من قبيل وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ [إبراهيم: 27] وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ [البقرة: 26] على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة. وقد توهم الآية أن فيها تأييسا للنبي صلى الله عليه وسلم من الكفار بسبب موقف المكابرة والعناد المتعمد، ولسنا نرى محلا لذلك التوهم. فالآيات ظلت تتوالى على النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بالاستمرار في الدعوة والتذكير والإنذار رغم استمرار الكفار في عنادهم ومكابرتهم. والاستمرار في ذلك هو مهمة الرسالة العظمى التي حملها النبي صلى الله عليه وسلم من حيث المبدأ والأصل. وهذا لا يمنع أن تكون انطوت على تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتطمينه وتثبيته كما هو شأن كثير من الآيات المماثلة أو المقاربة، بل إن ذلك هدف رئيسي من أهدافها فيما هو المتبادر. والآية في حدّ ذاتها تضمنت تلقينا مستمر المدى بالتنديد بكل مكابر جاحد للحق والحقيقة أو محرّف لهما أو منحرف عنهما لا سيما إذا كان صادرا في ذلك عن هوى في النفس ومرض في القلب وخبث في الطوية وعن عمد وتصميم. وهذه صورة موجودة في كل ظرف ومكان. هذا، والتأويل الذي أوّلنا به الآية والمستلهم من مضمونها وروحها ومضمون وروح الآيات والسياق عامة يزيل ما يمكن أن يرد من وهم بكون تعبير وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً هو بمعنى تحتيم الضلال على الضال أو تأبيده، وإنما هو في صدد تصوير شدة عناد الكفار وتصاممهم عن عمد وتصميم، وفي صدد تقرير كون إضلال الله إنما ترتب على ذلك، مع استدراك استدركناه في مناسبات سابقة وهو أن ذلك كله هو بسبيل تسجيل واقع أمر الكفار حين نزولها، وأن التأبيد فيه قاصر على الذين يستمرون فيه حتى الموت. [سورة الجاثية (45) : الآيات 24 الى 26] وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) .

في هذه الآيات: 1- حكاية لما كان يقوله الكفار كلما وعدوا بالبعث والجزاء بعد الموت حيث كانوا يقولون على سبيل الإنكار: إن الحياة والموت ظاهرتان طبيعيتان أو دهريتان فنحن نحيا ونموت على طبيعة الكون والدهر، وليس من وراء ذلك شيء، وما يهلكنا إلّا كرّ الأيام والليالي. 2- وحكاية لما كانوا يعمدون إليه من احتجاج كلما تليت عليهم آيات الله ووعيده بالآخرة حيث كان قصاراهم تحدي النبي صلى الله عليه وسلم بالإتيان بآبائهم الميتين إذا كان صادقا في ما يقوله لهم وينذرهم به. 3- ورد عليهم منطو على التقريع فقولهم هذا هو جزاف لا يستند إلى علم ويقين وإنما يصدرون به عن عناد ومكابرة. 4- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم إنه هو الذي يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم ليوم القيامة، وإن هذا هو الحق الذي لا ريب فيه والذي هو في قدرة الله تعالى ولو لم يفهمه أكثر الناس ويتيقّنوه. والآيات متصلة بما سبقها سياقا وموضوعا كما هو واضح، والآية الثانية تدل على أن تحدي الكفار بإحياء آبائهم كان يتكرر منهم كلما كانوا ينذرون بالبعث والحساب الأخرويين. وقد مرّ في سورة الدخان السابقة مثال من ذلك. وقد تضمن أسلوبها وروحها تزييفا لحجة الكفار وتحديهم حيث قررت أن البعث المنذر به هو ليوم القيامة والحساب وحينما يحل الأجل المعين في علم الله. وقد جاءت الآية الثالثة بعدها لتدعمها بتقرير هذه الحقيقة ولعل الفقرة الأخيرة منها قد قصدت تقرير كون البعث متأتيا عن حكمة ربانية وكون محل تحقيقها هو يوم القيامة.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 27 إلى 35]

ولقد نبهنا في سياق تفسير آيات الدخان [34- 39] أن الردّ القرآني وحكمة عدم إجابة الكفار إلى تحديهم متسقة مع مشيئة الله في عدم إجابتهم إلى التحدي بالإتيان بمعجزة للبرهنة على ما في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ودعواه بصلتها بالله من صدق وحقّ. فلا نرى حاجة إلى الإعادة ونكتفي بالقول: إن اتساق الرد هنا مع الردّ هناك دليل على صواب التوجيه والتنبيه إن شاء الله. ولقد روى الطبري في سياق الآية الأولى حديثا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان أهل الجاهلية يقولون: إنّما يهلكنا الليل والنهار وهو الذي يهلكنا ويميتنا ويحيينا فقال الله في كتابه وقالوا ما هي إلّا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلّا الدهر قال فيسبّون الدهر فقال الله تبارك وتعالى يؤذيني ابن آدم بسبّ الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلّب الليل والنهار» «1» . وحديثا آخر عن أبي هريرة أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله استقرضت عبدي فلم يعطني وسبّني عبدي يقول وا دهراه وأنا الدهر» . وحديثا ثالثا عن أبي هريرة كذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله قال لا يقولنّ أحدكم يا خيبة الدهر فإنّي أنا الدهر أقلّب ليله ونهاره وإذا شئت قبضتهما» حيث ينطوي في الأحاديث توضيح نبوي وعظي يجب على المسلم أن يقف عنده. [سورة الجاثية (45) : الآيات 27 الى 35] وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)

_ (1) القسم الأخير الذي يبدأ بجملة: قال الله من هذا الحديث من مرويات البخاري أيضا، انظر التاج ج 4 ص 207.

(1) جاثية: من الجثو وهو الجلوس على الركب جلسة المتقاضي أمام قاضيه. أو الجلوس جلسة القرفصاء جلسة الانتظار لقضاء الله. وذكر بعض المفسرين أن معناها: متجمعة إلى بعضها منتظرة قضاء الله في أمرها. (2) لا يستعتبون: لا يطلب منهم تقديم الأعذار، أو لا تقبل منهم الأعذار، والأصل في معنى الاستعتاب إزالة العتب الناشئ من مساءة بالاعتذار عنها. جاءت الآيات معقبة على الآيات السابقة، وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وقد تضمنت توكيد حقيقة البعث وصدق الوعد بتحقيقه، وما يكون من شمول رحمة الله فيه للذين آمنوا وعملوا الصالحات، وما سوف يلقاه الكفار من خزي وتقريع ونار أبدية. كما تضمنت تذكيرهم بما كانوا يقولونه في جحود الساعة وشكهم فيها، وبما كانوا يقابلون به آيات الله من الهزء، وباغترارهم بالدنيا ونسيانهم هذا اليوم ونسيان الله لهم فيه مقابل ذلك وتقرير كون أعمالهم كانت تحصى عليهم وتكتب في كتاب الله فلن تقبل منهم الأعذار ولن يجدوا لهم من دون الله وليا ولا نصيرا. وأسلوب الآيات قوي نافذ من شأنه أن يثير الرعب والخشية من الله في قلوب الكافرين والطمأنينة في قلوب المؤمنين وهو مما استهدفته كما هو المتبادر. وما ورد في الآيات من دعوة كل أمة إلى كتابها ومن قول الله عز وجل لهم: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) قد ورد بأساليب أخرى في آيات سابقة وعلقناه على مداه بما يغني عن التكرار. وتعبير نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ قد قصد به المقابلة اللفظية لأن الله عز وجل متنزه عن النسيان. والمتبادر أنه أريد به التناسي والإهمال أو إخراجهم من نطاق رحمة الله كما كانت هذه الرحمة تصيبهم في الدنيا.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 36 إلى 37]

[سورة الجاثية (45) : الآيات 36 الى 37] فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37) . جاءت الآيتان خاتمة للسورة وخاتمة لحكاية مواقف الكفار وأقوالهم وإنذارهم والحملة عليهم جريا على أسلوب النظم القرآني في سور عديدة وبخاصة في سلسلة الحواميم. وهي خاتمة قوية حقا، فالله الذي أنزل آياته التي قررت ما قررت من ربوبيته الشاملة وعظمة كونه هو المستحق وحده للحمد وله وحده الكبرياء والتعالي فهو العزيز القوي الحكيم ربّ العالمين جميعا. ولقد روى البغوي بطرقه في سياق الآية الأخيرة حديثا عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله عزّ وجلّ: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني في واحد منهما أدخلته النار» . وفي الحديث صورة من صور التعليقات النبوية على الآيات على سبيل الوعظ والتنبيه. فالكبرياء والعظمة لا يمكن أن يكونا لغير الله المستغني عن غيره الذي هو الأعظم والأكبر من كل شيء فمن حاول التشبّه بالله فيهما انحرف عن الحق واستحق عذاب الله. [تمّ بتوفيق الله الجزء الرابع ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الخامس وأوله تفسير سورة أحقاف]

فهرس محتويات الجزء الرابع

فهرس محتويات الجزء الرابع تفسير سورة يوسف 7 تعليق على ما روي من أسباب نزول الآيات 8 تعليق على مقدمة قصة يوسف 11 تعليق على الحلقة الأولى من قصة يوسف 13 تعليق على الحلقة الثانية من قصة يوسف 17 تعليق على الحلقة الثالثة من قصة يوسف 20 تعليق على الحلقة الرابعة من قصة يوسف 26 تعليق على الآيات التي أعقبت قصة يوسف 28 استطراد إلى ما يفعله بعض المسلمين من أفعال فيها سمة من سمات الشرك 29 توضيح لمدى سبيل الله وواجب المسلمين عامة 30 تفسير سورة الحجر 34 تعليق على ما في آية إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ... من معجزة 37 تعليق على مدى الآية كَذلِكَ نَسْلُكُهُ.. 42 تعليق على آية وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ.. 46 تعليق على أبواب جهنم السبعة 48 تعليق على مدى جملة بِما أَغْوَيْتَنِي 49 تعليق على جملة وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً ... 57 تعليق على آية لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ... 58 تفسير سورة الأنعام 63 تعليق على كلمة قرطاس 66 تعليق على طلب الكفار استنزال الملائكة وردّ القرآن 68 تعليق على الآية قُلْ أَيُّ شَيْءٍ ... 73 تعليق على جملة الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ ... 75 تعليق على جملة وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً ... 79 تعليق على جملة وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا ... 83 تعليق على جملة فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ.. 84 تعليق على آية وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ.. 86 تعليق على جملة مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ.. 89 تعليق على آية قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي.. 94 تعليق على الآية وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ.. 96 تعليق على الآية وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ.. 101 بعض الأحاديث الواردة في قُلْ هُوَ الْقادِرُ.. 105 تعليق على آية وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ ... 109 تعليق على جملة وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ بالنسبة للنبي 111 تعليق على الآية قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ ... 114 تعليق على وصف إبراهيم عليه السلام بالحنيف 119 تعليق على الآية وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ 121 تعليق على جملة وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى ... 123 تعليق على جملة وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى ... 124 تعليق على الآية وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ ... 130 تعليق على جملة لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ... 131 تعليق على جملة وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ.. 134 تعليق على جملة كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ ... 135 تعليق على آية وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ ... 136 تعليق على الآية وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ ... 139 تعليق على الآية أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي ... 141 تعليق على آية فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ 143 تعليق على جملة إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ 147

تعليق على جملة وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ ... 148 تعليق على الآية وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ ... 150 تعليق على آية وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ ... 153 تعليق على جملة فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ ... 156 تعليق على الآية وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ... 158 تعليق على تقاليد المشركين في الأنعام والحرث وقتل الأولاد 163 تعليق على الآية وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ ... 167 تعليق على الآية فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى ... 171 تعليق على الآية قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ ... 171 تعليق على آية وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ... 177 تعليق على الآية سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ... 182 تعليق على جملة قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ ... 184 تعليق على آية قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ ... 185 تعليق على جملة لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها 188 تعليق على الآية ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ... 190 تعليق على موضوع ترجمة الكتب السماوية ... 192 تعليق على جملة يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ ... 195 تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا ... 197 تعليق على الآية مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ ... 201 تعليق على آية قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي ... 204 تعليق على جملة وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ ... 205 تفسير سورة الصافات 207 تعليق على قصة إبراهيم عليه السلام ومسألة الذبح 220 تعليق على جملة وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ 224 تعليق على ما وصف بكذبات إبراهيم عليه السلام 225 تعليق على قصة إلياس عليه السلام 227 تعليق على اسم بعل 228 تعليق على قصة لوط عليه السلام 229 تعليق على قصة يونس عليه السلام 230 تعليق على انصباب التنديد بالمشركين 233 تعليق على جملة وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ ... 235 تعليق على آية وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ ... 236 تفسير سورة لقمان 240 تعليق على الآية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ ... 243 تعليق على وصف الجبال والسماء 244 تعليق على شخصية لقمان وما في مواعظه من تلقين 247 تعليق على حدود واجب الأولاد إزاء الآباء 250 تعليق على وصف الشرك بالظلم العظيم 252 تعليق على اختصاص الأم بالذكر 252 تعليق على الجملة القرآنية على التمسك بتقاليد الآباء 254 تعليق على جملة أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ ... 255 تعليق على رواية مدنية الآيات [27- 28- 29] 259 تعليق على آية إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ 263 تفسير سورة سبأ 264 تعليق على جملة وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ... 266 تعليق على قصة داود وسليمان في السورة 271 تعليق على قصة سبأ وسيل العرم 275 تعليق على المحاورة بين الضعفاء والمستكبرين 284 تعليق على جملة لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ ... 284 تعليق على جملة نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً ... 288 أحاديث واردة في سياق الآية وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ ... 288 تعليق على جملة إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ ... 293 تفسير سورة الزمر 297

تعليق على جملة إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ ... 299 تعليق على جملة خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ 301 تعليق على جملة إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ ... 302 تعليق على جملة قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ ... 305 تعليق على أمر الله للنبي في السورة بعبادة الله وحده 307 تعليق على إلهام جملة وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ بالهجرة 307 التلقين المنطوي في الآية قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا ... 309 تعليق على جملة قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ... ونزوله على سبعة أحرف 318 تعليق على الآية ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ ... 324 تعليق على جملة فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ 335 تعليق على آية يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ... 337 تعليق على جملة وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ ... 341 تعليقات على الآية وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ 344 تفسير سورة غافر 350 تعليق على جملة ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا 352 تعليق على ما جاء عن الملائكة في هذه الآيات 353 تعليق على جملة وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ ... 356 تعليق على جملة أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ 358 تعليق على جملة وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ 360 تعليق على آية فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ ... 360 تعليق على قصة موسى وفرعون ومؤمن آل فرعون ... 365 استطراد إلى مذهب التقية بصورة عامة وعند الشيعيين خاصة 368 تعليق على ذكر عاد وثمود ورسالة يوسف في الآيات 370 تعليق على جملة النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا ... 372 تعليق على جملة إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا ... 377 تعليق على جملة وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ 377 تعليق على موضوع الدجال ونزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان 380 تعليق على جملة كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ 395 تعليق على روايات عدد الأنبياء 396 تفسير سورة فصّلت 404 تعليق على خلق السموات والأرض الوارد في السورة 408 تعليق على التباين في المشاهد الأخروية 412 تعليق على الآية وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ 413 تعليق على آية إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ... 417 تعليق على آية وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ... 419 تعليق على رواية عجيبة في صدد نزول الآية [35] 422 تعليق على عبادة الشمس والقمر عند العرب 424 تعليق على جملة وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا ... 428 تعليق على جملة لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ... 429 تفسير سورة الشورى 435 رواية عجيبة عن سرّ حم عسق 437 تعليق على حديث مروي في صدد الفقرة فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ ... 439 تعليق على جملة لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ 441 تعليق على آية شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ ... 443

تعليق على جملة وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ ... 446 تعليق على آية فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ... 447 تعليق على آية وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ... 452 تعليق على جملة قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ... 457 تعليق على آية وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ ... 465 تعليق على آية وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ 466 تعليق على الآية وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ ... 468 تعليق على آيات وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ ... 473 تعليق على آية وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ ... 483 تفسير سورة الزخرف 488 تعليق على آية أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ ... 489 تعليق على جملة أُمِّ الْكِتابِ 490 تعليق على تكرار توكيد عروبة القرآن 490 تعليق على ما احتوته الآيات [16- 18] من وصف الإناث 494 تعليق على آية وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ... 496 تعليق على آية وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ ... 499 تعليق على آية وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ ... 501 تعليق على جملة وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ ... 502 تعليق على جملة وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ ... 506 تعليق على آية وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ ... 508 تعليق على آية وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ ... 515 تعليق على جملة ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا ... 516 تعليق على تأويل الشيعة للآية فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ ... 518 تعليق على خبر نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان 519 تعليق على رسالة عيسى عليه السلام لقومه وشخصيته وأقواله 521 تعليق على صحاف الذهب وأكواب الذهب 524 تعليق على اسم مالك خازن النار واستطراد إلى الملائكة 526 تعليق على جملة فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ 532 تفسير سورة الدخان 534 تعليق على آية إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ 536 تعليق على آية فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ ... 539 تعليق على توالي الإنذار بانتقام الله 543 تعليق على تعبير وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ 544 تعليق على آية وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ ... 547 تعليق على جملة فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ 548 تعليق على آية فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 552 تعليق على السندس والإستبرق 556 تفسير سورة الجاثية 557 تعليق على آية قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا ... 561 تعليق على آية أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ... 566

الجزء الخامس السور المفسرة في هذا الجزء «1» 1- الأحقاف. 2- الكوثر. 3- الغاشية. 4- الكهف. 5- النحل. 6- نوح. 7- إبراهيم. 8- الأنبياء. 9- المؤمنون. 10- السجدة. 11- الطور. 12- الملك. 13- الحاقة. 14- المعارج. 15- النبأ. 16- النازعات. 17- الانفطار. 18- الانشقاق. 19- الروم. 20- العنكبوت. 21- المطففون. 22- الرعد.

_ (1) انظر الفهرست المفصل في آخر الجزء.

سورة الأحقاف

سورة الأحقاف في السورة حكاية لمواقف وأقوال الكفار وصور من الجدل والمناظرة بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وردود تنديدية وحجج مفحمة في سياقها، وإنذار للكافرين وتطمين للمؤمنين بمصائر كل منهم يوم القيامة. واستشهاد على صحة الدعوة المحمدية وصدق القرآن بالتوراة وموسى وإسلام بعض بني إسرائيل. وتنويه بالأبناء الصالحين وتنديد بالعاقّين، وتذكير بما كان من أمر عاد ورسولهم وهلاكهم. وحكاية لاستماع جماعة من الجن للقرآن وتأثرهم به وتدليل على قدرة الله على بعث الموتى. وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات [10 و 15 و 35] مدنيات، وانسجامها في السياق والموضوع وما يبدو عليها من طابع العهد المكي بقوة يسوّغ التوقف في الرواية. وفصول السورة مترابطة مما فيه الدليل على نزولها دفعة واحدة أو متتابعة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الأحقاف (46) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) . ابتدأت السورة بحرفي الحاء والميم للاسترعاء والتنبيه على ما قلناه في أمثالهما. وأعقبهما تقرير توكيدي بأن القرآن تنزيل من الله المتصف بالعزة والحكمة جريا على النظم الذي كان في السور السابقة.

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 4 إلى 6]

ثم أكدت الآية الثالثة بأن الله لم يخلق السماء والأرض وما بينهما عبثا وإنما بحق وحكمة ولأجل معين في علمه. وعنفت الكافرين الذين يكابرون ويعرضون عما أنذروا به ودعوا إليه. ويبدو من فحوى الآيات التالية أن هذه الآيات مقدمة لما احتوته تلك من حكاية مواقف الكفار وأقوالهم ومجادلتهم. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 4 الى 6] قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6) . (1) أثارة من علم: شيء من علم يقيني تأثرونه عن أحد أو بينة أو دلالة من مثل ذلك. في الآية الأولى أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بسؤال الكفار سؤالا ينطوي على التحدي عما إذا كان شركاؤهم خلقوا شيئا من الأرض أو لهم شركة في السماء حتى يستحقوا العبادة مع الله، وبطلب البرهان على الأهلية التي يرونها فيهم لذلك مستمدا من كتاب إلهي أو علم صحيح إن كانوا صادقين في دعواهم وعقيدتهم. أما الآيتان الثانية والثالثة فقد احتوتا تعقيبا على هذا التحدي قائما على فرض الواقع من عجزهم عن الإجابة. وقد جاء ذلك بأسلوب التساؤل عما إذا كان هناك من هو أضلّ من الذين يدعون من دون الله من لا يمكن أن يستجيبوا لهم ولو ظلوا يدعونهم إلى يوم القيامة وهم في غفلة عن هذا الدعاء لا يدرون من عبادة عابديهم شيئا ولا يستجيبون لشيء من دعائهم أولا، وإذا حشر الناس يوم القيامة وقفوا منهم- أي الكفار المشركين الذين كانوا يدعونهم في الدنيا ويعبدونهم- موقف

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 7 إلى 9]

العدو وأنكروا عبادتهم واستنكروها ثانيا. والآيات متصلة بالمطلع كما هو واضح من حيث احتواؤها تحديا موجها للمشركين الكافرين الذين ندد بهم فيه. وأسلوبها قوي محكم ولاذع في مجال الإفحام والحجة والتحدي والتقريع كما هو ظاهر. وبدؤها بأمر قُلْ قد يدل على أنها في صدد موقف حجاجي وجاهي مع بعض المشركين أو ما هو بمثابة ذلك. والمتبادر أن المقصود من الذين يدعوهم المشركون من دون الله والذين تشير إليهم الآية [5] هم الملائكة بقرينة تقرير الآية التالية لها بأنهم يقفون من عابديهم يوم القيامة موقف العداء والإنكار. وفي آيات سورة الفرقان [17- 18] وسورة سبأ [40- 41] اللتين مرّ تفسيرهما صراحة مؤيدة لذلك. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 7 الى 9] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) . (1) تفيضون فيه: تتحدثون وتتبادلون الكلام الكثير فيه. (2) بدعا: شيئا مبتدعا لا سابق له. في الآيات: 1- حكاية لما كان يقوله الكفار حينما كانت تتلى عليهم آيات الله الواضحة حيث كانوا يقولون إن ما احتوته من أخبار البعث والحساب الأخروي وغير ذلك من أمور هو سحر، أو لا يخرج عن تخيلات السحر. أو حيث كانوا يتهمون النبي صلى الله عليه وسلم بافتراء القرآن ونسبته إلى الله كذبا.

[سورة الأحقاف (46) : آية 10]

2- وأوامر بالرد عليهم بقوله إني لو كنت مفتريا على الله فإني أكون قد استحققت غضبه وهو قادر على إنزال نقمته وصب بلائه عليّ ولا يملك أحد حمايتي منه وهو أعلم بما تقولون من أقوال وتتهمونني به من تهم. وهو شهيد عادل بيني وبينكم وكفى به شهيدا. وهو المتصف مع ذلك بالمغفرة والرحمة وعلمه متسع لأقوالكم المثيرة. وإني لست بدعا في دعوتي ورسالتي فقد سبقني رسل دعوا مثلي إلى الله، ونزل عليهم كتب من الله. وإن قصاراي أن أنذركم وأبلغكم ثم أقف عند حدود ما يوحي الله به إليّ. ولا أدري ما سوف يفعله الله في المستقبل بي وبكم. وواضح أن الآيات هي استمرار في حكاية موقف المناظرة والحجاج بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين التي بدىء بها في الآيات السابقة. والاتصال بينهما قائم سياقا وموضوعا، وأسلوبها قوي أخّاذ ومفحم معا وموجه إلى القلوب والعقول وبخاصة ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في ردّ تهمة افتراء القرآن. وجملة وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ في مقامها رائعة ذات مغزى بديع، وهي أن غفران الله ورحمته تتسعان للناس رغم ما يصدر منهم من أقوال بذيئة فيها سوء أدب نحو الله ورسله، ومن انحراف عن طريق الحق والهدى. وهذا يجعله لا يعجل لهم بالعذاب ويمد لهم لعلهم يرجعون ويهتدون وإليه مرجعهم في الآخرة حيث يحق العذاب على من بقي مصرا على موقفه وهذا المعنى قد تكرر بأساليب مختلفة مرّت أمثلة عديدة منه في السور السابقة. [سورة الأحقاف (46) : آية 10] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) . الضمير في مِثْلِهِ عائد إلى القرآن على ما قاله جمهور المؤولين وما يفيده فحوى الآية. وقد تضمنت أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بسؤال الكفار سؤال المستنكر المندد عن عنادهم واستكبارهم وقد شهد من بني إسرائيل شاهد على صدق مثله

تعليق على ما روي في صدد هذه الآية من روايات وما احتوته من تسجيل

وهو التوراة التي أوحى الله بها إلى موسى عليه السلام ثم آمن به لأنه مماثل لها في المصدر والمدى. وتقريرا قرآنيا بأن الله لا يمكن أن يوفق ويسعد الظالمين المنحرفين عن الحق أمثالهم الذين يقفون مثل هذا الموقف العنيد المستكبر من آياته ورسله. والآية استمرار في موقف المناظرة والحجاج وبالتالي فهي متصلة بالسياق. ولما كان بنو إسرائيل بخاصة وأهل الكتاب بعامة موضع ثقة عند أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم فالآية تنطوي على إفحام وإلزام قويين كما هو المتبادر. تعليق على ما روي في صدد هذه الآية من روايات وما احتوته من تسجيل لقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن هذه الآية مدنية. وروى الطبري والبغوي في سياقها حديثا رواه البخاري أيضا عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: «ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض إنّه من أهل الجنة إلّا لعبد الله بن سلام وفيه نزلت: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ ... إلخ [10] » «1» . وروى الطبري روايات عديدة عن مواقف تصديقية وإيمانية لعبد الله بن سلام كان يفحم فيها اليهود وفي كل منها ذكر أن هذه الآية نزلت في مناسبتها. وروى الترمذي عن عبد الله بن سلام نفسه أنه قال: «نزلت فيّ آيات من كتاب الله فنزلت فيّ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ إلى آخر الآية، ونزلت فيّ قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ» «2» [الرعد: 43] . وقال ابن كثير: إن هذا ما قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وعكرمة والسدي والثوري ومالك بن أنس! على أن الطبري والبغوي يرويان عن مسروق: «والله ما نزلت في عبد الله بن سلام وما نزلت إلّا بمكة وما أسلم

_ (1) التاج ج 3 ص 309- 310. (2) المصدر نفسه.

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 11 إلى 12]

عبد الله بن سلام إلّا بالمدينة. ولكنها خصومة خاصم محمد صلى الله عليه وسلم بها قومه فنزلت لها» . وقال البغوي: إن هناك من قال إن الشاهد هو موسى عليه السلام وإن الآية بسبيل تقرير كون القرآن مثل التوراة وكون موسى قد شهد على التوراة. ويلحظ أن الانسجام تام بين الآية وما قبلها موضوعا وسبكا وسياقا. وأن الخطاب فيها موجه إلى الكفار وبسبيل الرد عليهم وإفحامهم في موقف جدلي ووجاهي. وهذا مما يقوي القول المروي عن مسروق. وقد قال الطبري إنه الأولى بالصواب. وقد يكون إسلام عبد الله بن سلام أو بعض مواقفه قد ذكر في مجلس من المجالس وتليت الآية فالتبس الأمر على الرواة وظنوها نزلت فيه. ولسنا نرى القول الذي ذكره البغوي بأن الشاهد هو موسى عليه السلام متسقا مع فحوى الآية إذا ما تمعن فيها. لأنها تفيد أن هناك شهادة عيانية وإيمانا واقعيا من إسرائيلي في ظروف نزولها وبهذا فقط تلزم الحجة المتوخاة منها للكفار. وهذا كله يجعلنا نعتقد أن الآية بسبيل ذكر حدوث تلك الشهادة والإيمان في مكة على علم ومسمع من الكفار ولقد كانت الصلات وثيقة بين مكة والمدينة التي كان فيها جالية كبيرة من الإسرائيليين ومن المعقول أن يكون بعضهم قد تسلل إلى مكة وأقام فيها أو على الأقل أن يكون بعضهم يتردد عليها للتجارة وغير ذلك من الشؤون. ولقد تكرر استشهاد الآيات المكية بأهل الكتاب وأهل العلم إطلاقا وتكرر تقرير كونهم كانوا يشهدون بأن القرآن منزل من الله ويؤمنون به مما مرت منه أمثلة عديدة وليس من مانع من أن يكون من هؤلاء إسرائيليون. وهكذا يمكن أن يقال بشيء من الجزم إن الآية تسجل إيمان إسرائيلي بالقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم بصراحة في العهد المكي والله تعالى أعلم. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 11 الى 12] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) .

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 13 إلى 14]

في الآيات: 1- حكاية لقول صدر عن الكفار موجه إلى المؤمنين برسالة النبي صلى الله عليه وسلم وهو أن القرآن والرسالة المحمدية لو كانا حقا وصدقا وخيرا لما تركناهم يسبقوننا إليهما وإنهما لكذب من الأكاذيب القديمة ولذلك لم نؤمن بهما. 2- وردّ عليهم بأن كتاب موسى هو قديم جاء قبل القرآن وهو هدى ورحمة، وبأن القرآن مثله ومتطابق معه نزل باللغة العربية لإنذار الظالمين وتبشير المحسنين. والآيات كما هو واضح استمرار في السياق السابق من حيث حكاية مواقف الكفار وحجاجهم. ولقد تعددت الأقوال في القائلين والمقول عنهم حسب تعددها في الآية السابقة حيث قيل إن القائلين اليهود الذين ظلوا كافرين بعد إسلام عبد الله بن سلام وقيل إن القائلين بعض زعماء قريش والمقول عنهم بعض فقراء المسلمين ومنهم من سمّي عمّارا وبلالا وصهيبا. ومعظم المفسرين رجحوا القول الثاني «1» وهو الأوجه ولا سيما إنه صدر قبل هذه المرة أيضا على ما حكته آية سورة الأنعام هذه: وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وهذا يعني أن هؤلاء الزعماء عوتبوا من قبل بعض المؤمنين البارزين على عدم إيمانهم فأجابوا بما ذكرته الآية [11] مما فيه صورة طريفة من صور السيرة النبوية في مكة ودليل على عدم قيام قطيعة شاملة بين المؤمنين والكفار، وهو ما ذكرت الروايات صورا كثيرة منه مبثوثة في كتب السيرة. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 13 الى 14] إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14) . في الآيات ثناء على المستجيبين للدعوة المحمدية وتطمين لهم، ولعلها مما

_ (1) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 15 إلى 20]

يدعم ما قلناه في سياق تفسير الآيات السابقة. وقد احتوت ردا قويا على الكفار: فمهما يكن من مركز الذين آمنوا فهم موضع ثناء الله وتطمينه، فليس هناك ما يثير فيهم الخوف والحزن وهم أصحاب الجنة خالدين فيها. وواضح أن الآيات بناء على ذلك متصلة بالسياق. ومع خصوصية الآيات الزمنية والموضوعية فإن إطلاقها يجعلها مستمد تلقين مستمر المدى ومبعث تطمين وبشرى دائم لكل مؤمن مستقيم على إيمانه قائم بما يوجبه هذا الإيمان من حقوق نحو ربّه وبني ملّته وبني جنسه ومجتمعه. كما أنه ينطوي فيها حثّ على ذلك كما هو المتبادر. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 15 الى 20] وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) . (1) أوزعني: يسّر لي أو ألهمني أو ادفعني وساعدني. (2) أن أخرج: بمعنى أن أبعث بعد الموت. في الآيات تذكير وتمثيل بالولد الصالح والولد العاقّ وموقفهما من الله ووالديهما:

1- فالله قد وصى الإنسان بوالديه إحسانا ولا سيما أمه التي قاست بسببه ما قاست من الشدة في الحمل وفي الوضع وفي الرضاع ثلاثين شهرا وفي تربيته إلى أن يصل مبلغ الرجال. 2- والابن الصالح حينما يبلغ مبلغ الرجال والسنّ الناضجة يعلن إسلامه النفس لله ويستشعر بأفضال والديه عليه وواجبه نحوهما ويدعو الله أن يلهمه شكر نعمته ويعينه على العمل الصالح الذي يرضاه ويرزقه الذرية الصالحة. وأمثال هذا يتقبل الله منهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عما يمكن أن يكونوا ألمّوا به بسائق الغفلة من هنات وسيئات وينزلهم الجنة تحقيقا لوعده الصادق لهم. 3- وهناك أبناء قست قلوبهم وفسدت سرائرهم فلم يستشعروا بأفضال الله ووالديهم، ومنهم من يكون آباؤهم مهتدين فيدعونهم إلى الهدى بأسلوب المستغيث المشفق الذي يخشى تعرضهم لغضب الله الذي وعده للكافرين ووعده الحقّ فيقابلون دعوتهم بالإنكار والاستخفاف ويردون عليهم قائلين كيف تعدوننا بالبعث والحساب وقد مرّت القرون الأولى ومن فيها دون بعث ولا حساب، وإن ما تقولونه ليس إلّا من قصص الأولين التي لا تستند إلى منطق وعقل ويقين، فأمثال هؤلاء هم في جملة الخاسرين من الإنس والجنّ الذين استحقوا غضب الله وعذابه. 4- وعند الله لكل من هؤلاء وهؤلاء منازل ودرجات متناسبة مع أعمال كل منهم، وسوف يوفيهم الله ما يستحقون دون جنف وبخس وإجحاف. 5- ولسوف يوجه الله تعالى الخطاب يوم القيامة إلى الذين كفروا حينما يساقون إلى النار ويصفون أمامها لطرحهم فيها قائلا: إنكم استوفيتم طيباتكم في الحياة الدنيا واغتررتم بما كان لكم فيها. وألهاكم ذلك عن التفكير في الله وواجبكم، وأضعتم الفرصة فسرتم في طريق الكفر والعصيان والاستكبار فاليوم تجزون بما تجزون وفاقا على سيرتكم هذه. وقد يبدو أنه لا صلة بين هذا الفصل والآيات السابقة ويتبادر لنا احتمال كون

تعليق على آية ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا وما بعدها

القول الذي حكي عن الكفار في الآية [11] قد كان بين ابن كافر وأب مؤمن أو بالعكس. ويقوي هذا الاحتمال ورود تعبير أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ في هذه الآيات وورود تعبير إِفْكٌ قَدِيمٌ في تلك الآية. فإذا صح هذا ونرجو أن يكون صوابا إن شاء الله فتكون الصلة قائمة بين هذه الآيات وما قبلها، وتكون هذه الآيات قد جاءت معقبة على ذلك الموقف. تعليق على آية وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً وما بعدها ولقد روي أن الشق الأول من هذا الفصل نزل في حق أبي بكر الذي أسلم هو وأبواه حتى لم يجتمع لأحد من المهاجرين أن أسلم أبواه غيره أو في حق سعد بن أبي وقاص «1» . وأن الشق الثاني نزل في حق ابنه عبد الرحمن الذي تأخر في الإسلام عن أبيه وقتا ما. وقد روى الذين رووا أن الشق الثاني في حق عبد الرحمن أن عبد الرحمن عارض رغبة معاوية بن أبي سفيان في تعيين ابنه وليا للعهد حينما طلب مروان بن الحكم والي المدينة من الناس مبايعته فأغضب مروان فقال له: أنت الذي يعنيه الله في آيات الأحقاف؟ فقالت عائشة أخته: ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلّا أنه أنزل عذري أو قالت كذب مروان والله ما هو به ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان ومروان في صلبه فمروان نقيض من لعنه الله «2» . وقد روى بعض هذا البخاري وهذا نصه: «كان معاوية استعمل على الحجاز مروان فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية كي يبايع له بعد أبيه فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا فقال خذوه فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه فقال مروان: إنّ هذا الذي أنزل الله فيه: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ الآية، فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئا من

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي. (2) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.

تعليق على جملة أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا

القرآن إلّا أنه أنزل عذري» «1» . على أن بعض المفسرين قالوا إنها عامة وعلى سبيل التمثيل والموعظة وهو ما نرتاح إليه «2» . ولا سيما هناك روايات تذكر أن إسلام والد أبي بكر تأخر إلى الفتح المكي وأن والدة سعد لم تسلم ولم يكن له والد بالنسبة للروايات الواردة عن الشق الأول. وأثر الخلاف السياسي الحزبي الذي نشب في صدر الإسلام بارز على الرواية الواردة عن الشق الثاني. ومع ذلك فهذه الآيات وأمثالها مثل آيات سورة لقمان [14- 15] التي مرّ تفسيرها وآية سورة العنكبوت [8] المماثلة لها تلهم أنه كان في مكة آباء مؤمنون وأبناء كافرون وأبناء مؤمنون وآباء كافرون وأن الآباء الكافرين كانوا يقفون من أبنائهم موقف الشدة والاضطهاد لحملهم على الارتداد وأن الأبناء الكافرين كانوا يقفون من آبائهم المؤمنين موقف العقوق والغلظة حينما كانوا يدعونهم إلى الاقتداء بهم والإيمان بالنبي والقرآن. وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآية [15] مدنية، وهذا غريب لأن صلتها وانسجامها سبكا وموضوعا وثيقان مع بقية الآيات وكل منها متمم للأخرى. تعليق على جملة أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا ولقد وقف بعض المفسرين عند جملة أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ وأوردوا بعض الأحاديث التي قد تلقي في روع المسلم خوفا من الاستمتاع بطيبات الحياة الدنيا وتأثير ذلك على ما قد يكون له من نعيم في الآخرة، فمما أورده البغوي حديث روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو مضطجع على رمال حصير قد أثّرت الرمال بجنبه فقلت: يا رسول الله ادع الله فليوسع على أمتك فإنّ فارس والروم قد وسّع عليهم وهم لا يعبدون الله! فقال:

_ (1) التاج ج 4 ص 207. (2) انظر تفسير ابن كثير.

أولئك قوم قد عجلت طيباتهم في الحياة الدنيا» . وحديث عن جابر بن عبد الله قال: إنّ عمر رضي الله عنه رأى لحما معلقا في يدي فقال: ما هذا يا جابر؟ فقلت له: لحم اشتريته. فقال: أو كلما اشتهيت شيئا يا جابر اشتريته؟ أما تخاف هذه الآية: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا. وقد علق البغوي المفسر على ذلك في سياق تفسير الآية قائلا: لما وبّخ الله الكافرين بالتمتع بالطيبات في الدنيا آثر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الصالحون اجتناب اللذات في الدنيا رجاء ثواب الآخرة، ثم أخذ يروي بعض أحاديث عن شظف عيش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومنها حديث عن عائشة جاء فيه: «ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم» وحديث آخر عنها جاء فيه: «لقد كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارا وما لنا إلّا الماء والتمر غير أنّ الله جزى نساء من الأنصار خيرا كنّ يهدين إلينا شيئا من اللبن» . ومنها حديث عن عبد الرّحمن بن عوف رضي الله عنه أنه أتى بطعام وكان صائما فقال: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني فكفّن في بردة إن غطّي بها رأسه بدت قدماه وإن غطّي بها رجلاه بدا رأسه، وقتل حمزة وهو خير مني ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط وأعطينا منها ما أعطينا وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجّلت لنا ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام. ومما أورده الطبري «أن عمر بن الخطاب قال: لو شئت كنت أطيبكم طعاما وألينكم لباسا ولكني أستبقي طيباتي» . و «أنه لما قدم الشام صنع له طعام لم يصنع مثله فقال: هذا لنا فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وهم لا يشبعون من خبز الشعير؟ قال خالد بن الوليد: لهم الجنّة، فاغرورقت عينا عمر وقال: لئن كان حظّنا في الحطام وذهبوا بالجنّة لقد باينونا بعيدا» و «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أهل الصفّة وهي مكان يتجمع فيه فقراء المسلمين وهم يرقعون ثيابهم بالأدم ما يجدون لها رقاعا قال: أنتم اليوم خير أو يوم يغدو أحدكم في حلّة ويروح في أخرى ويغدى عليه بجفنة ويراح بأخرى ويستر بيته كما تستر الكعبة. قالوا: نحن يومئذ بخير؟ قال: بل أنتم اليوم خير» . و «قال أبو هريرة: إنما كان طعامنا مع النبي صلى الله عليه وسلم الأسودين الماء والتمر والله ما كنّا نرى سمراءهم هذه ولا ندري ما هي» . ومما

أورده الطبرسي: «أن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه كان يأكل أكلة العبد ويجلس جلسة العبد وكان يشتري القميصين فيخير غلامه خيرهما ثم يلبس الآخر فإذا جاز أصابعه قطعه وإذا جاز كعبه حذفه. وكان يطعم الناس في ولايته خبز البرّ واللحم وينصرف إلى منزله فيأكل خبز الشعير والزيت والخلّ» . وهذه الأحاديث والروايات غير موثقة وغير واردة في كتب الأحاديث الصحيحة. ومع ذلك فإنها إن صحت فالأولى حملها على محمل الرغبة في التفرغ للمهام العظمى التي حملها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون وكبار أصحابه رضي الله عنهم والاستغراق فيها. أو تهوين الحرمان الذي كان يعيش فيه فقراؤهم، وليس فيها ما يدل على كراهية الاستمتاع بالطيبات دنيا، والآية موجهة إلى الكفار على سبيل التوبيخ لأنهم استغرقوا في الدنيا وشهواتها ونسوا الله وواجباتهم نحوه، ونحو خلقه فلم يبق لهم إلّا العذاب، فلا يصحّ أن تورد في مورد كراهية الطيبات بالنسبة للمسلم ولا سيما هناك آيات قرآنية صريحة تبيح الطيبات له وتنهاه عن تحريمها على نفسها ضمن حدود الاعتدال مثل آيات سورة الأعراف هذه: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33) ومثل آيات سورة المائدة هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) حيث تنكر الآيات تحريم الطيبات وزينة الله وتقرر بأن للمؤمنين أن يستمتعوا بها مع الناس من دون إسراف ولا تجاوز وستكون من نصيبهم وحدهم يوم القيامة. وفي هذا ما فيه من قوة وروعة وتشجيع بل ونقض للفكرة التي أريد استخراجها من الآية بالنسبة للمسلم. فالاستمتاع إنما يكون مذموما محظورا إذا كان فيه إثم أو إسراف أو استغراق يحول

تعليق على جملة إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة

دون مراقبة المسلم لربه ودون قيامه بواجباته. وإن المحرّم عليه هو الفواحش والإثم والبغي والشرك. تعليق على جملة إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً هذا، وبمناسبة ذكر الأربعين سنة في مقام التنويه بالسن التي يبلغ الإنسان فيها أشدّه نقول: إنه لا ينبغي أن يتبادر من ذلك أن الإنسان لا يكون مسؤولا قبل هذه السن. فمسؤوليته المادية والدينية تبدأ منذ وعيه للأمور وبخاصة منذ بلوغه الحلم، وفي سورة النساء آية تفيد ذلك وهي: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ... إلخ [6] والمتبادر أن المقصود من العبارة الإشارة إلى أن الإنسان حينما يصل إلى سن الأربعين يكون نضجه قد اكتمل وتغدو مسؤوليته أشدّ وموقفه أدقّ في حالتي الصلاح والطلاح والخير والشر معا. ولقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم حينما بلغ هذه السن مما فيه تطبيق رباني ذو مغزى عظيم. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 21 الى 25] وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) . (1) أخا عاد: المقصود رسول الله إلى قوم عاد وهو منهم وهو هود عليه السلام كما ذكرت ذلك صراحة آيات أخرى مرت في سور عديدة سابقة.

(2) الأحقاف: معناها في اللغة صحارى الرمل أو كثبانه. وفي القسم الجنوبي الشرقي من جزيرة العرب منطقة تعرف بالأحقاف شمال بلاد حضرموت، والمقصود من الكلمة في الآيات هذه المنطقة. (3) وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه: النذر جمع نذير، وقد خلت بمعنى وقد مضت ومن بين يديه ومن خلفه قبله وبعده. والجملة تعقيب استطرادي أو استدراكي على ما قبلها. (4) لتأفكنا: لتصرفنا. (5) عارضا: هنا بمعنى السحاب. في الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالتذكير بقوم عاد ونبيهم، حيث أرسل الله إليهم نذيرا منهم على جري عادته في إرسال النذر قبل هذا النذير وبعده. فدعاهم إلى الله وأنذرهم بعذابه فوقفوا منه موقف الجاحد وقالوا له إنما جئتنا لتصرفنا عن آلهتنا، وتحدّوه بالإتيان بعذاب الله الذي يعدهم به، فأجابهم إن علم ذلك عند الله وقصاراه أن يبلغهم رسالة ربّه، وقال لهم إنكم تصدرون في موقفكم وتحديكم عن جهل وحمق. وما لبث القوم أن رأوا سحابا أخذ يتجه نحوهم فحسبوه سحابا ممطرا ولكنه لم يكن في الحقيقة إلا آثار عاصفة شديدة أرسلها الله عليهم وفيها العذاب الشديد الذي تحدوا نبيهم به فدمرت كل شيء وأهلكت الجاحدين حتى لم يبق إلّا أطلال المساكن. وقد عقبت الآية الأخيرة على ذلك بتوجيه الخطاب للسامعين لتنبيههم أن الله يجزي بمثل هذا المجرمين الجاحدين من الأمم. والآيات قد جاءت بعد حكاية مواقف المناظرة والحجاج بقصد التذكير والتمثيل والتنبيه جريا على الأسلوب القرآني على ما ذكرناه في المناسبات السابقة ليكون فيها عظة للكفار الذين وقفوا نفس الموقف. ولقد كان العرب يعرفون قصة تدمير الله لمساكن عاد على ما تفيده هذه الآية في سورة العنكبوت: وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 26 إلى 28]

فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) فاستحكمت الحجة والإنذار فيهم. وتعبير أَخا عادٍ هو من التعابير العربية المألوفة، ويراد به الإشارة إلى أن رسول عاد كان منهم كما هو الحال في رسول الله إلى العرب. وهذا الرسول هو هود عليه السلام الذي تكررت حكاية قصته في سلاسل القصص السابقة ووصف فيها بأنه أخو عاد. ولقد روى البغوي بطرقه في سياق هذه الآيات حديثا عن عائشة قالت: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعا ضاحكا حتّى أرى منه بياض لهواته وكان إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه فقلت يا رسول الله إنّ الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون المطر وإذا رأيته عرف في وجهك الكراهية؟ فقال: يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذّب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا هذا عارض ممطرنا» «1» . وحديثا آخر عن عائشة أيضا قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة تغيّر وجهه وتلوّن ودخل وخرج وأقبل وأدبر فإذا أمطرت السماء سرى عنه وذكرت له الذي رأيت قال: وما يدريك لعلّه يا عائشة كما قال قوم عاد فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا الآية [24] فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم» . وأورد ابن كثير بالإضافة إلى الحديثين حديثا آخر في سياق الآيات رواه الإمام أحمد عن عائشة كذلك قالت: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ناشئا في أفق من آفاق السماء ترك عمله وإن كان في صلاته ثم يقول: اللهمّ إني أعوذ بك من شرّ عاقبته فإن كشفه الله تعالى حمد ربّه عزّ وجل وإن أمطر قال اللهمّ صيبا نافعا» . حيث ينطوي في الأحاديث صورة من صور مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند بعض الآيات استشعارا بما فيها من عبرة ونذير وإشراكا للمسلمين في هذا الاستشعار. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 26 الى 28] وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28)

_ (1) روى هذا الحديث الأربعة أيضا البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود. انظر التاج ج 4 ص 208.

(1) فيما إن مكناكم فيه: فيما لم نمكنكم فيه، أي إنهم كانوا أقوى منكم وأشدّ تمكينا. (2) فلولا: هنا بمعنى هلا للتحدي. (3) قربانا: هنا بمعنى وسيلة للقربى والشفاعة. جاءت الآيات معقبة على القصة جريا على النظم القرآني. ووجه الخطاب فيها للسامعين فقد مكن الله لقوم عاد في الأرض وآتاهم من وسائل القوة ما لم يمكنه ويؤته لقوم النبي صلى الله عليه وسلم السامعين وكان لهم سمع وأبصار وعقول فما استفادوا منها حينما جاءتهم آيات الله وجحدوها وسخروا منها. فحاق بهم سوء عواقب موقفهم دون أن تغني عنهم قوتهم وحواسهم وعقولهم شيئا. ولقد أهلك الله الأقوام الذين حول قوم النبي صلى الله عليه وسلم وذكّر قوم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فيما أنزله على رسوله من آيات متنوعة الأساليب لعلهم يتعظون ويرجعون عما هم فيه من غيّ وضلال. فلو كان الشرك بالله مغنيا لأصحابه ونافعا لكان الشركاء نصروا الذين عبدوهم وأشركوهم مع الله واتخذوهم وسيلة قربى إليه. ولكن هذا لم يكن، وقد خذلهم الشركاء عند ما حاق بهم العذاب وغابوا عنهم وظهر أن ما كانوا عليه لم يكن في الحقيقة إلّا إفكا وافتراء. والتعقيب قوي نافذ موجه إلى العقول والقلوب، وقد استهدف إثارة انتباه الكفار وحملهم على الاتعاظ بمن كان قبلهم ومن كان حولهم وأصابهم عذاب الله مع أنهم كانوا أشد منهم قوة وتمكنا، وصلة الآيات بالسياق قائمة واضحة. والمتبادر أن تعبير ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى بسبيل التذكير بالأقوام الذين ذكر

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 29 إلى 32]

القرآن قصصهم ممن كانوا يسكنون البلاد المتاخمة لمساكن الحجازيين السامعين للقرآن والموجه إليهم في بدء الأمر، أو واقعة على طريقهم ومناطق تجوالهم ورحلاتهم وهي قبائل عاد وتبّع في جنوب جزيرة العرب، وقبائل ثمود في شمالها ومدين وقوم لوط في الشمال الغربي ومصر في الجنوب الغربي والرسّ في شرق الجزيرة الشمالي وقوم نوح في العراق إلخ ... [سورة الأحقاف (46) : الآيات 29 الى 32] وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32) . (1) صرفنا: وجهنا أو بعثنا. (2) فلما قضى: فلما انتهى. في الآيات إخبار رباني بما كان من استماع جماعة من الجنّ للقرآن وبما كان من تأثيره فيهم وإنذارهم قومهم بالدعوة الربانية التي تضمنها، وحثهم على الاستجابة إليها وتخويفهم من عذاب الله وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. تعليق على آية وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ وما بعدها ولقد رويت روايات عديدة في سياق تفسير الآيات عن هذا الحادث، منها أنها نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في طريق عودته من الطائف حزينا آيسا، فإنه لما ماتت زوجته خديجة رضي الله عنها ثم مات عمه أبو طالب الذي كان ينصره ويحميه

استوحش فسافر إلى الطائف لدعوة أهلها إلى الله وطلب النصرة منهم فلقي جفاء وتعرض لسفهاء القوم الذين سبّوه ورشقوه بالحجارة حتى أدموه، فقال: «اللهمّ إني أشكو إليك ضعف قوّتي وقلة حيلتي وهواني على الناس فأنت رؤوف وأنت أرحم الراحمين وأنت ربّ المستضعفين وأنت ربّي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهّمني أو إلى عدوّ ملّكته أمري، إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحلّ عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلّا بك» . ثم غادر الطائف يائسا حزينا حتى إذا بلغ نخلة قام في جوف الليل يصلّي مرّ به نفر من الجن فسمعوا القرآن فآمنوا وذهبوا إلى قومهم ينذرونهم ويدعونهم فنزلت الآيات بخبر ذلك «1» . وسألوه الزاد فقال: «كلّ عظم يذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما كان لحما، وكلّ بعرة أو روثة علف لدوابكم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم الجنّ» «2» . ومنها حديثان رواهما البخاري جاء في أحدهما: «قيل لعبد الله من آذن النبيّ صلى الله عليه وسلم بالجنّ ليلة استمعوا القرآن؟ قال: آذنت بهم شجرة» «3» . وجاء في ثانيهما: «قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما بال العظم والرّوث لا يستنجى بهما؟ قال: هما من طعام الجنّ وإنّه قد أتاني وفد جنّ نصيبين ونعم الجنّ فسألوني الزاد فدعوت الله لهم ألّا يمرّوا بعظم ولا بروثة إلّا وجدوا عليه طعاما» «4» . ومنها حديث عن قتادة رواه الطبري جاء فيه: «إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إني أمرت أن أقرأ القرآن على الجنّ فأيّكم يتبعني؟ فأطرقوا، ثم استتبعهم فأطرقوا، ثم استتبعهم الثالثة فأطرقوا. فاتبعه عبد الله بن مسعود فدخل رسول الله شعبا يقال له الحجون وخطّ على عبد الله خطا ليثبته به قال ابن مسعود:

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الخازن والبغوي، وانظر أيضا سيرة ابن هشام ج 2 ص 29- 31. (2) انظر التاج ج 4 ص 208- 209. [.....] (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه.

فجعلت تهوي بي وأرى أمثال النسور تمشي في دفوفها وسمعت لغطا شديدا حتى خفت على نبيّ الله تلا القرآن، فلما رجع قلت: يا نبي الله، ما اللغط الذي سمعت؟ قال: اجتمعوا إليّ في قتيل كان بينهم فقضى بينهم بالحق» وفي رواية أخرى عن ابن مسعود «1» يبدو أنها تابعة أو متفرعة عن هذه الرواية: «أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله هل رأيت شيئا قال: نعم، رأيت رجالا سودا مستشعري ثياب بيض قال أولئك جنّ نصيبين سألوني المتاع والمتاع الزاد فمتعتهم بكلّ عظم حائل أو بعرة أو روثة» ، وفي رواية ثانية تبدو أنها متفرعة أيضا: «قلت يا رسول الله لقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك وتقول لهم اجلسوا. فقال: لو خرجت لم آمن عليك أن يتخطّفك بعضهم» . وفي رواية عن ابن عباس «2» أن عددهم سبعة وأن رسول الله جعلهم رسلا إلى قومهم وفي رواية أخرى أنهم كانوا تسعة وأن أسماءهم: حسى وحسى، ومنسى، وساصر، وناصر، والأردوبيان، والأحتم، وزوبعة. وأنهم من حي يقال له بني الشيصبان وكانوا أكثر الجن عددا وأشرفهم نسبا وهم عامة جنود إبليس. وأن الجن كانوا ثلاث صنوف منهم على صفة الطيور، ومنهم على صفة الحيات والكلاب، ومنهم من يحلون ويظعنون «3» . وفي رواية عن ابن عباس «4» جاء فيها: لما حيل بين الشياطين والسماء وأرسلت عليهم الشهب قالوا لبعضهم ما حال بينكم وبين خبر السماء إلّا شيء حدث فاضربوا في الأرض فانظروا فانصرفوا يبحثون حتى التقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم يصلي في أصحابه بنخلة صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن قالوا: هذا والله الذي حال بينكم فرجعوا إلى قومهم يقولون: «يا قومنا إنّا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنّا به» . وتعليقا على ذلك نقول: إن من هذه الأحاديث ما ورد في كتب الصحاح

_ (1) انظر تفسير الخازن. (2) انظر المصدر نفسه. (3) انظر تفسير ابن كثير. (4) انظر تفسير البغوي.

ومنها ما لم يرد. وفي جميعها غرائب وتناقضات ولقد روى المفسرون بعضها في سياق سورة الجنّ حتى ليتبادر من سياق بعضهم أن حادث الجن المذكور في سورة الجنّ وهذا الحادث واحد «1» . مع أن الشقة واسعة بين نزول السورتين- ربما كانت بضع سنين- ومع أن فحوى آيات كلّ من السورتين يفيد بقوة أنهما حادثان مختلفان ولم تسند رواية الاستماع في طريق العودة من الطائف بأي سند، ولم يرو أحد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أنه دعا بالدعاء المروي ولم يكن معه أحد، وإحدى الروايات تذكر أن سماع الجن كان في طريق عودة النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف يائسا حزينا في نخلة بينما تذكر رواية أخرى أنها في نخلة أيضا ولكنه كان مع أصحابه وبينما تذكر رواية أخرى أنها كانت في بعض شعاب مكة حتى إن أصحابه افتقدوه وخافوا أن يكون اغتيل أو استطير. وإحدى الروايات تروى عن ابن مسعود أنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم حينما ذهب لتلاوة القرآن للجماعة إجابة لدعوته وأنه أخبر أصحابه بذلك في حين أن رواية أخرى عن ابن مسعود أيضا تذكر أنه لم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم أحد. والروايات تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الجن بأشكالهم وثيابهم واجتمع بهم وقضى بينهم في حين أن فحوى الآيات يفيد أن الحادث قد أوحي به، ويلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشعر به. هذا إلى ما في الروايات من غرائب عن أشكالهم وزادهم وأسمائهم وقبائلهم وظروف الاستماع والاجتماع، في حين أن آية سورة الأعراف هذه: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [27] تفيد أن الإنس لا يرون الجن «2» . ولقد أورد ابن كثير الذي أورد هذه الأحاديث وغيرها قولا عن ابن عباس في سياق هذه الآيات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قرأ على الجنّ ولا رآهم وإنما أوحي إليه

_ (1) انظر تفسير البغوي. (2) الآية في صدد إبليس ولكن إبليس هو من الجن كما جاء في آية سورة الكهف هذه: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ... [50] .

قول الجن. وأورد قولا مماثلا للحسن البصري أحد مشاهير علماء التابعين نصه: «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم ما شعر بأمرهم حتى أنزل الله تعالى عليه بخبرهم» . حيث يفيد هذا وذاك أن بعض علماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم لم يأخذوا ما ورد في الأحاديث من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم للجنّ ومحاورتهم معه وسماعه كلامهم ومعرفته لأسمائهم وقبائلهم وموطنهم كقضية مسلمة. ومهما يكن من أمر فإننا نكرر هنا ما قلناه في تعليقاتنا على موضوع الجن واستماعهم للقرآن في سورتي الناس والجنّ بوجوب الإيمان بما جاء في القرآن والثابت من الحديث، والوقوف عندهما بدون تزيد ولا تخمين وبوجوب الإيمان كذلك بأن ما ورد عنهم قد توخى فيه حكمة سامية. وقد يكون من هذه الحكمة تدعيم الدعوة النبوية. فالآيات السابقة لهذا الفصل هي في صدد إفحام الكفار وتقريعهم وإنذارهم. واحتوى الفصل السابق مباشرة تذكيرا بما كان من موقف الأمم المماثل لموقفهم، فجاء هذا الفصل على أثره كأنما أريد به تقريع الكفار بالحادث الذي فكر فيه. فالجن الذين لهم في أذهان العرب ما لهم من الصورة القوية لم يلبثوا أن تأثروا بقوة القرآن وروحانيته وصدق لهجته حينما سمعوه وأدركوا ما فيه من دعوة الحقّ فآمنوا وذهبوا إلى قومهم مبشرين منذرين. وبهذا البيان المستلهم من روح الآيات يكون هذا الفصل متصلا بالآيات السابقة سياقا وموضوعا أيضا. وقد يصح أن يضاف إلى هذا استئناسا برواية نزول الآيات في طريق عودة النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف حزينا يائسا أن حكمة الله شاءت أن يكون هذا الحادث الغيبي وأن ينزل به هذا القرآن لرفع معنويات رسول الله صلى الله عليه وسلم وبثّ الصبر والثبات والأمل فيه وعدم إيئاسه من النجاح في مهمته. فإذا كان قومه في مكة والطائف يقفون منه هذا الموقف المناوىء المتصامم المؤذي فهناك طوائف من الجن يدهشون لبلاغة القرآن ويرون في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم هدى ونورا ويستجيبون إليها ويذهبون إلى قومهم مبشرين منذرين بها.

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 33 إلى 35]

ومع ما قلناه من أن بعض علماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم لم يأخذوا خبر كلام النبي صلى الله عليه وسلم مع الجن وسماعه لهم ورؤيته إياهم قضية مسلمة فإن من الحق أن يقال إن في الأحاديث التي أوردناها ما يفيد ذلك. ولقد أوردنا حديثا صحيحا آخر في سياق الآية [35] من سورة (ص) فيه خبر رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لعفريت من الجن أيضا. ولقد علقنا على هذا الأمر بما رأيناه كافيا وما قلناه هناك يصح قوله هنا، والله تعالى أعلم. هذا، ومما هو جدير بالتنبيه أن فحوى هذه الآيات يلهم أن النفر المستمع كانوا ممن يؤمنون بالتوراة وبالتالي كانوا على الدين اليهودي في حين أن الذين حكي استماعهم للقرآن في سورة الجن كانوا- على ما تلهمه آيات هذه السورة ونبهنا عليه- على الدين النصراني. وهكذا تستحكم الحجة وقوة الإلزام على الكفار ويظهر وجه آخر من وجوه حكمة التنزيل القرآني فلقد آمن برسالة النبي صلى الله عليه وسلم فريق من يهود الإنس ونصاراهم مما ذكرته إحدى آيات السورة وآيات أخرى في سور سابقة، منها القصص والإسراء، وشهدوا بأن القرآن حق منزل من الله وآمن بها فريق من يهود الجن ونصاراهم، وشهدوا بأن القرآن حق منزل من الله كذلك، فإصرار كفار العرب بعد هذا كله على موقفهم ضلال بيّن ومكابرة ظاهرة. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 33 الى 35] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35) . (1) ولم يعي: ولم يتعب. (2) أولو العزم: المتصفون بقوة النفس والعقل والإرادة. وقد صار هذا

التعبير اصطلاحا يطلق على بعض رسل الله. (3) كأنهم لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ: كأنهم لم يلبثوا إلا ساعة قصيرة من نهار كانت بمثابة بلغة أو بمثابة البرهة القصيرة التي لا تعدو ساعة من الوقت يقف فيها المسافر ليتبلغ بلقمة من الزاد ثم يستأنف سيره. في الآيات: 1- سؤال رباني عما إذا كان الكفار لا يقنعون بأن في خلق السموات والأرض دون عناء ولا تعب دليلا قاطعا على قدرته على إحياء الموتى. 2- وتوكيد إيجابي بقدرته على ذلك وكونه قادرا على كل شيء. 3- وإنذار للكفار بما سوف يكون من أمرهم يوم القيامة حيث يسألون حينما يعرضون على النار ليطرحوا فيها عما إذا كان هذا حقا فيجيبون بالإيجاب فيقال لهم حينئذ: ذوقوا العذاب جزاء كفركم وعنادكم. 4- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يصبر ويثبت في موقفه ومهمته كما صبر وثبت أولو العزم من الرسل قبله ولا حاجة إلى استعجال العذاب للكافرين فهو لا حق بهم حتما. وحينما يرون تحقيق ذلك سيشعرون كأنهم لم يلبثوا في موتهم إلّا ساعة قصيرة من نهار كانت بمثابة بلغة أو وقفة قصيرة يتبلغون فيها ثم صاروا إلى نكال الله الذي لا يقع إلّا على العصاة المشاقين لآيات الله ودعوته. وقد جاءت الآيات رابطة بين أجزاء الآيات وسياقها قبل فصلي عاد والجن الاستطراديين وخاتمة لموقف المناظرة والحجاج الذي كانت آيات السورة بسبيله. ومن هنا تكون الآيات متصلة بالسياق نظما وموضوعا. وقد جاءت في الوقت نفسه خاتمة لآيات السورة بالأسلوب المتكرر في خواتم السور السابقة. وفيها تطمين وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم. وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآية الأخيرة مدنية، وهو غريب. ويلاحظ أنها متممة لما قبلها ومنسجمة بالسياق انسجاما تاما، وأسلوبها ومضمونها

يمت إلى التنزيل المكي وظروفه وهذا ما يحمل على الشك في ذلك. ولقد ذكر بعض المفسرين «1» أن تعبير بَلاغٌ قد قصد به تقرير كون القرآن أو الإنذار الذي احتواه هو بلاغ للسامعين أو ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغه. وما حملناه عليه وأولناه به قد قال به مفسرون آخرون «2» والتعبير وروح الآية يتحملان المدلولين ونرجو أن يكون المعنى الذي رجحناه مع مفسرين آخرين هو الصواب إن شاء الله. لقد تعددت روايات المفسرين وأقوالهم في أولي العزم من الرسل. فروى البغوي عن ابن زيد: أن كل الرسل كانوا أولي عزم وأن الله لم يبعث نبيا إلّا كان ذا عزم وحزم ورأي وكمال عقل وأن (من) إنما دخلت على الكلمة للتجنيس لا للتبعيض. غير أن هذا المفسر قال إلى هذا أن بعضهم قال: إن جميع الأنبياء أولو عزم إلّا يونس بدليل أن الله تعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ ... الآية [48] سورة القلم. وأن قوما قالوا: هم نجباء الرسل الثمانية عشر المذكورون في سورة الأنعام والذين وصفوا في الآية الأخيرة من سلسلتهم أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [90] وأن الكلبي قال: إنهم الذين أمروا بالمكاشفة على أعداء الدين وجهادهم وأن هناك من قال إنهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى وهم المذكورون على النسق في سورتي الأعراف والشعراء وأن ابن عباس وقتادة قالا: هم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى أصحاب الشرائع وهناك من أدخل يوسف وأيوب في عداد أصحاب العزم. وقال ابن كثير: إن أشهر الأقوال إنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم الذين ذكروا معا في آيتين من سورتي الأحزاب والشورى. وقال الطبرسي: إنهم الذين شرّعوا الشرائع وأوجبوا على الناس الأخذ بها والانقطاع عن غيرها. ومع أن قول ابن زيد الذي رواه البغوي سديد فإن هذه المسألة لا يصح الجزم فيها إلّا بأثر نبوي وليس هناك مثل هذا الأثر.

_ (1) انظر تفسير الآية في تفسير الخازن وابن كثير وغيرهم. (2) انظر تفسير الطبري والطبرسي.

ولقد أورد ابن كثير في سياق ذلك حديثا رواه ابن أبي حاتم عن عائشة قالت: «ظلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما ثم طواه ثم ظلّ صائما ثم طواه ثم ظلّ صائما ثم قال: يا عائشة إنّ الدنيا لا تنبغي لمحمّد ولا لآل محمد. يا عائشة إن الله تعالى لم يرض من أولي العزم من الرسل إلّا بالصبر على مكروهها والصبر عن محبوبها ثم لم يرض مني إلّا أن يكلّفني ما كلّفهم فقال فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وإني والله لأصبرنّ كما صبروا جهدي، ولا قوة إلّا بالله» . حيث ينطوي في الحديث موقف من مواقف النبي صلى الله عليه وسلم الرائعة عند الآيات القرآنية وأخذه نفسه بأشد ما يكون من الصبر والجهد والاستغراق في طاعة الله استلهاما منها. وقد ذكر بعض المفسرين «1» في صدد تعبير وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [35] أن النبي صلى الله عليه وسلم كأنه ضجر من إصرار الكفار وتحديهم العذاب فتمنى أن يأتيهم العذاب في الدنيا فكان في الآية جواب الله على أمنيته. ونحن نميل إلى القول بأن التعبير أسلوبي يقصد به التطمين وقد ورد المعنى في آيات كثيرة بصيغ متنوعة مرت أمثلة منها والله أعلم.

_ (1) انظر تفسير البغوي والطبرسي.

سورة الذاريات

سورة الذاريات في السورة توكيد بالبعث والحساب، وحملة شديدة على المكذبين الجاحدين وتنويه بالمتقين وأعمالهم الصالحة ومصائرهم في الآخرة. وفصل قصصي مقتضب عن بعض الأنبياء والأمم بينه وبين موقف النبي صلى الله عليه وسلم والكفار تماثل، وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت له، وآياتها متساوقة متوازية مما يسوّغ القول بأنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الذاريات (51) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6) . (1) الذاريات: كناية عن الرياح الذي تذرو التراب أي تثيره وتحركه. وفي سورة الكهف آية فيها هذا المعنى صريح وهي: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ [45] . (2) الحاملات وقرا: الوقر هو الحملة، والجملة كناية عن السحاب الذي يكون حاملا للماء. (3) الجاريات يسرا: السفن التي تجري في البحر بسهولة أو الرياح الجارية في مهابها أو الكواكب الجارية في منازلها حسب تعدد الأقوال التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل في الصدر الإسلامي الأول.

[سورة الذاريات (51) : الآيات 7 إلى 14]

(4) المقسمات أمرا: المنفذون لأوامر الله وهم الملائكة أو السحب التي تقسم الأمطار على الأرض حسب تعدد الأقوال التي يرويها المفسرون. (5) الدين: الجزاء. والكلمة كناية عن البعث الذي يكون فيه جزاء كل نفس بما كسبت. ابتدأت السورة بالأقسام الربانية جريا على الأسلوب القرآني في عدد غير قليل من السور المكية وبخاصة القصيرة. وقد قصد بها توكيد كون ما يوعد به الناس من البعث والجزاء هو وعد صادق وأمر واقع حتما. وروح الآيات وإن كانت تلهم أنها في صدد إنذار السامعين المخاطبين عامة فإن أسلوبها والآيات التالية لها تدل على أن المقصود بالإنذار هم الكفار. ويلحظ شيء من التساوق بين هذا المطلع وبين خاتمة سورة الأحقاف من حيث توكيد البعث والجزاء مما يمكن أن يكون فيه قرينة على صحة ترتيب نزول هذه السورة بعد تلك. والمتبادر أن الإقسام بالمقسومات التي هي مشاهد كون الله ونواميسه وعظيم خلقه قد انطوت على قصد التذكير بعظمة خالق الكون وقدرته على تحقيق ما أوعد الناس به. [سورة الذاريات (51) : الآيات 7 الى 14] وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) . (1) ذات الحبك: ذات الصنع الحسن المتقن أو ذات المسالك والطرائق أو ذات النجوم حسب تعدد الأقوال. (2) إنكم لفي قول مختلف: إنكم مختلفون في أقوالكم لستم على شيء

واحد أو بمعنى أنكم في أمر القرآن ونبوة النبي صلى الله عليه وسلم وما يبشّر وينذر به مختلفو المذاهب. (3) يؤفك عنه من أفك: المتبادر أن (عنه) تعني القول الحق ويكون معنى الجملة يصرف عن الحق في الأقوال من يصرف وهم الخراصون. (4) الخراصون: المتوهمون والظانون على غير أساس وعلم. (5) غمرة: جهالة غامرة أو شاملة. (6) يفتنون: يعرضون أو يحرقون. وقد تكون الكلمة قد استعملت مقابل فتنتكم التي قد تحتوي التذكير بما كان من زعماء الكفار من إعراض وحمل الناس على الانصراف والارتداد عن الدعوة. (7) ذوقوا فتنتكم: ذوقوا طعم حريق النار أو ذوقوا جزاء فتنتكم في الدنيا. وهذه الآيات تبتدئ بقسم رباني أيضا بالسماء ذات الحبك بأن السامعين للقرآن واقعون في اختلاف وارتباك في شأن القرآن والدعوة والنذر الربانية والبعث الأخروي وفهم أهداف ذلك. وتقرر أنهم بسبب ذلك انصرف عنه الراغب عن الحق والهدى. ثم التفتت إلى الذين هم ضاربون في الظنّ والتخمين متعامون عن الحقيقة وتدبرها التفاتا فيه تنديد وتقريع يتمثلان في لفظ قُتِلَ فهم ساهون في غمرة الجهالة عن فهم الحق وإدراك الحقيقة ثم يظلون يسألون سؤال الشك والإنكار عن موعد يوم الجزاء الذي يوعدون به. ثم انتقلت إلى توكيد الأمر: فلسوف يأتي ذلك اليوم ولسوف يلقون فيه في النار ولسوف يقال لهم حينئذ ذوقوا عذاب الحريق أو ذوقوا جزاء ما كنتم من حالة العناد والصدّ والانصراف في الدنيا فهذا الذي كنتم تستعجلون وتتحدّون الإتيان به. والصلة واضحة بين هذه الآيات والآيات السابقة وفيها كما قلنا بيان بأن المخاطبين في الآيات هم الكفار، وقد استهدفت فيما استهدفته الإنذار لهم وإثارة الخوف في قلوبهم وحملهم على الارعواء. ويلحظ أن السورة السابقة انتهت بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بعدم استعجال العذاب لهم

[سورة الذاريات (51) : الآيات 15 إلى 19]

بسبب استعجالهم له على سبيل التحدي. وقد احتوت الآية الأخيرة من هذه الآيات ردا تقريعيا على تحديهم بأن ما كانوا يستعجلونه قد جاء به حيث يمكن أن يكون هذا قرينة أخرى على صحة ترتيب نزول هذه السورة بعد سورة الأحقاف. [سورة الذاريات (51) : الآيات 15 الى 19] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) . (1) محسنين: يفعلون الحسنات والأفعال الحسنة. (2) المحروم: هو المحارف الذي يطلب الدنيا ولكنه لا ينالها أو الذي لا يكون له سهم في الغنائم ولا يجري عليه شيء من الفيء، أو المحدود في رزقه الذي لا يسأل الناس مع ذلك على ما أورده المفسرون. وهذا الوصف يشبه بل يماثل وصف المسكين الذي ورد في الحديث النبوي الذي أوردناه في تعليقنا على المسكين في سياق الآية [44] من سورة المدثر. في الآيات تنويه بأعمال المتقين الصالحين في الدنيا ومصيرهم في الآخرة، فسينزلون في الجنات والعيون ويستمتعون بها بنعم الله جزاء ما كانوا يفعلونه من الأفعال الحسنة في الدنيا حيث كانوا من جهة يقضون أكثر لياليهم بعبادة الله وطلب مغفرته ورحمته، ويساعدون من جهة أخرى بأموالهم السائلين والمحرومين الذين يتعففون عن السؤال لأنهم يعرفون أن لهم فيها حقا واجبا. وواضح أن الآيات جاءت لتقابل الآيات السابقة في صدد المفاضلة بين المؤمنين والكفار في الدنيا والآخرة.

تعليق على وصف المتقين وما فيه من تلقين ودلالة

تعليق على وصف المتقين وما فيه من تلقين ودلالة ويلفت النظر بخاصة إلى ما في الآية الأخيرة من المعنى القوي في اعتبار مساعدة المحتاجين سواء أكانوا من السائلين أم المتعففين عن السؤال حقا واجبا على أصحاب الأموال وما في ذلك من تلقين جليل. ولقد تكرر هذا المعنى في سور عديدة منها ما مرّ تفسيره مثل سورة الإسراء التي ورد فيها: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ [26] ومنها سورة الروم التي ورد فيها نفس العبارة [الآية 38] حيث يدل هذا على أن حكمة التنزيل قد استهدفت تقوية هذا المعنى في نفوس المسلمين حتى لا يرى الأغنياء فيما يساعدون به الطبقات المعوزة وما يؤخذ من أموالهم لذلك عملا تبرعيا وتطوعيا لهم فيه الخيار ولهم فيه حقّ المنّ والاعتداد. وحتى لا يرى المحتاجون في أنفسهم حرجا ولا غضاضة من أخذ ذلك لأنه حقّ لهم. ولقد جاء في آية سورة الحديد: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [7] وجاء في سورة النور: وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ [33] حيث احتوت الجملتان القرآنيتان اللتان لهما أمثال عديدة تقوية لهذا المعنى بأسلوب آخر فيه تلقين رائع أيضا وهو أن ما في أيدي الناس هو مال الله الذي استخلفهم فيه. كذلك يلفت النظر إلى وصف المتقين حيث ينطوي فيه على ما هو المتبادر وصف للرعيل الأول من المؤمنين في مكة حيث استغرقوا في عبادة الله وبخاصة في الليل، وفنوا في الله ورسوله وفهموا حكمة الله وتلقيناته فكانوا يبذلون أموالهم للمعوزين ويرون ذلك حقا واجبا عليهم، وفي هذا صورة رائعة لأثر الإيمان في قلوبهم من دون ريب. [سورة الذاريات (51) : الآيات 20 الى 23] وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) .

في الآيات: 1- لفت نظر السامعين إلى ما في الأرض من مشاهد وآيات تقوم براهين قاطعة على وجود الله وعظمته وصحة ما ينذر به نبيه وقدرته عليه كافية لإقناع من حسنت نيته ورغب في معرفة الحق واليقين. 2- ولفت كذلك وبسبيل ذلك إلى ما في تكوين الإنسان الجسماني والعقلي وإلى السماء وما فيها من أسباب رزق الناس وحياتهم. 3- وسؤال إنكاري وتعجبي في صدد ما في تكوين الإنسان عما إذا كان السامعون لا يدركون ذلك ولا تذهلهم روعته وعجائبه. 4- وانتهت الآيات بقسم برب السماء والأرض اللتين احتوتا ما احتوتاه من الآيات والبراهين العظيمة على أن ما يسمعه المخاطبون من نذر وما يتلى عليهم من قرآن حقّ لا يصح الارتياب فيه، ومثله مثل حاسة النطق في الناس التي لا يصح الارتياب فيها. والآيات وإن كانت مطلقة التوجيه فالمتبادر أنها موجهة إلى الكفار الذين يجادلون في صحة ما يتلى عليهم وما يوعدون به. وهي متصلة والحالة هذه بالآيات السابقة سياقا وموضوعا. وفي مِثْلَ قراءتان بفتح الآخر وبرفعه. وفي الأولى جعلت وصفا لمحذوف مقدّر وهو (إنه لحق حقا مثل ما أنكم تنطقون) . وأسلوب الآيات قوي نافذ، وبعضهم يقف عند جملة وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ويتخذها دليلا على الإعجاز القرآني بما ظهر فنيا من تكوين الإنسان وعجائب خلقته المذهلة. ونحن لا نجاريهم، فإن كون ذلك مذهلا ليس شيئا جديدا على الناس فهو مما كان ملموسا مدركا يثير الدهشة والذهول عند نزول القرآن. والقرآن إذ يخاطب السامعين الأولين ويلفت نظرهم إلى ما في أنفسهم من

[سورة الذاريات (51) : الآيات 24 إلى 46]

عجائب إنما يخاطبهم بما هو من مشاهداتهم ومدركاتهم. وهذا ما يفسر معنى الإنكار والتنديد في السؤال أَفَلا تُبْصِرُونَ. وهذا القول لا يمنع أن ما ظهر فنيا من أمور كانت غامضة مما يزيد من مدركات الإنسان الحديث ومما يجب أن يجعله موقنا بعظمة المبدع الحكيم فضلا عن وجوب وجوده. [سورة الذاريات (51) : الآيات 24 الى 46] هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46) . (1) منكرون: مجهولون غرباء عن هذه الديار أو مثيرون للريب. (2) راغ: مال وانصرف بخفية. (3) في صرة: في صيحة أي ولولت وصاحت حينما سمعت بشرى بأنها ستحبل وتلد وهي عجوز عقيم. (4) مسومة: معلمة مهيأة.

[سورة الذاريات (51) : الآيات 47 إلى 51]

(5) آية: علامة أو أثر، وهنا في معنى ما بقي من مساكن قوم لوط من آثار التدمير التي يشاهدها الناس. (6) تولى بركنه: تولى وهو مرتكن على قوته أو أعرض وازورّ. (7) اليمّ: البحر، وأصله الماء. (8) وهو مليم: وهو مستحق اللوم. (9) الريح العقيم: التي لا تبقي على أحد. (10) كالرميم: كالعظم البالي. في هذا الفصل إشارة إلى حوادث ورسالات بعض الرسل ومصائر أممهم مما احتوت السور الأخرى مثلها بإسهاب تارة واقتضاب تارة أخرى حسب ما اقتضته حكمة التنزيل. وقد جاء عقب الآيات التي حملت على الكفار ونددت بهم وأوعدتهم بسبب جحودهم جريا على الأسلوب القرآني. واستهدفت كما هو المتبادر ما استهدفته الفصول القصصية من التذكير والزجر لحمل السامعين على الارعواء والاتعاظ. فالفصل والحالة هذه متصل بالسياق السابق. وعبارته واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر ولسنا نرى زيادة بيان في موضوعه لأننا علقنا عليه في المناسبات العديدة السابقة بما فيه الكفاية. [سورة الذاريات (51) : الآيات 47 الى 51] وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) . (1) بأيد: بقوة وقدرة. (2) موسعون: ذوو سعة وشمول. (3) فرشناها: بمعنى بسطناها. (4) فنعم الماهدون: الماهدون الممهدون الذين يجعلون الشيء قابلا

[سورة الذاريات (51) : الآيات 52 إلى 55]

للانتفاع. والجملة بمعنى أن الله يفعل ذلك على أحسن وجه. (5) زوجين: تأتي بمعنى صنفين وبمعنى نوعين وبمعنى ذكر وأنثى. (6) ففرّوا إلى الله: بمعنى سارعوا إلى الله بالتوبة هربا من غضبه. في الآيات الثلاث الأولى: لفت لنظر السامعين إلى بعض مشاهد قدرة الله وأفضاله: 1- فهو الذي رفع السماء وبناها بقوته. 2- وهو الذي بسط الأرض ومهدها على أحسن وجه. 3- وهو الذي خلق من كل شيء زوجين ليتم التماثل والتناسب في ملكوت الله. فهو ذو القدرة الشاملة الواسعة، ولنعم الصنع صنعه والتمهيد تمهيده. وإن في كل هذا لتذكرة من شأنها أن تدعوا السامعين إلى التدبر في عظمة الله وآلائه والاعتراف بها. ثم جاءت الآيتان الأخريان تعقبان على هذه الآيات وتهتفان بلسان النبي صلى الله عليه وسلم: أن سارعوا والحالة هذه إلى الله وفروا من غضبه والمصير الرهيب الذي يستحقه الجاحدون، وأن لا تدعوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين. وقد جاءت الآيات الخمس عقب الفصل القصصي لتكون نتيجة له ومقررة بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث كما بعث الأنبياء وأن ما يدعو إليه هو ما دعوا إليه ومنذرة بمصير الجاحدين من الأمم السابقة. والآيتان الأخريان وإن كانتا بأسلوب خطاب نبوي موجه للسامعين إلا أن انسجامهما في السياق ظاهر. والمفسرون يقدرون في مثل هذه الآيات محذوفا وهو (قل) ومثل هذا قد تكرر في القرآن ومرّ منه أمثلة عديدة بحيث يصح أن يقال إنه أسلوب من أساليب النظم القرآني. [سورة الذاريات (51) : الآيات 52 الى 55] كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) .

(1) أتواصوا به: هل وصّى بعضهم بعضا بهذا القول. في الآيات: 1- إشارة إلى أن الكفار في قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم إنه ساحر أو مجنون إنما يفعلون كما كان يفعل الذين من قبلهم حيث كانوا يقولون لكل رسول أتى إليهم مثل ذلك. 2- وتساؤل تعجبي عما إذا كان السابقون واللاحقون قد تواصوا ليقولوا قولا واحدا. 3- واستدراك تعليلي لذلك بأن الذين جمعهم على وحدة القول إنما هو الاتحاد في خلق الطغيان وسوء النية فالطبيعة الواحدة يصدر عنها مظهر واحد. 4- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يعرض عنهم فلا يحمّل نفسه همّا، فإنه لا لوم عليه من جراء موقفهم الجحودي وعليه أن يستمر في التذكير الذي هو قصارى واجبه وهو نافع لمن أراد الحق والهداية ورغب في الإيمان حتما. والآيات متصلة بسابقاتها كما هو المتبادر. وقد احتوت تنديدا لاذعا بالكفار وتطمينا وتثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم. والآية الأخيرة بخاصة احتوت تنويها بالمؤمنين وذوي النيات الحسنة والرغبة الصادقة، فهم الذين ينتفعون بالتذكير والإرشاد مما تكرر مثله في المناسبات السابقة. وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى لدعاة الإصلاح والمرشدين، فعليهم أن يستمروا في الدعوة ولا ييأسوا من بطء استجابة الناس لدعوتهم وإن دعوتهم لمؤثرة نافعة حتما في ذوي النفوس الطيبة والقلوب الصافية والنوايا السليمة.

تعليق على آية فتول عنهم فما أنت بملوم

تعليق على آية فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتولي عن الكفار لا يعني الكفّ عن دعوتهم وإنذارهم، فهذه مهمته. والآية التالية استدركت ذلك وأمرته بالاستمرار في التذكير وإنما فيه على ما يتبادر لنا معنى التسلية والتهوين والأمر بعدم المبالاة بإعراضهم وعنادهم مما مرّ منه أمثلة كثيرة. ولقد روى المفسرون «1» أن الآية لما نزلت حزن النبي صلى الله عليه وسلم واشتد على أصحابه وظنوا أن الوحي قد انقطع وأن العذاب قد حضر. فأنزل الله الآية التالية فطابت نفوسهم وهذا يقتضي أن تكون الآيات قد نزلت منفصلة عن بعضها، في حين أن الآيتين منسجمتان مع ما قبلهما وبعدهما انسجاما تاما مما يدل على أنها نزلت وحدة. والرواية التي يرويها المفسرون لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة وليس فيها ما يوجب حزنا وغمّا في الوقت نفسه على ما هو المتبادر منها. [سورة الذاريات (51) : الآيات 56 الى 58] وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) . في الآيات تقرير بأن الله عز وجل إذ خلق الإنس والجن قد أوجب عليهم الاعتراف به وعبادته وحده. ولم يرد منهم رزقا ولا طعاما فإنه هو الرزاق القوي القادر المستغني عن كل شيء. والآيات أسلوب من أساليب الدعوة إلى الله في صورة تنديد لاذغ بالذين ينحرفون عنه ويجحدونه أو يشركون معه آلهة أخرى بينما هم يعترفون بأنه الذي خلقهم كما هو شأن مشركي العرب سامعي القرآن. فالله لم يخلقهم ليرزقوه وإنما

_ (1) انظر كتب تفسير البغوي والخازن والطبرسي وعبارة الثلاثة (قال المفسرون) والبغوي أقدمهم حيث توفي سنة 516 هـ.

[سورة الذاريات (51) : الآيات 59 إلى 60]

ليعبدوه ويشكروه واتصالها بسابقاتها قائم بكونها أسلوبا من أساليب التذكير وحلقة من حلقات التعقيب على الآيات السابقة. [سورة الذاريات (51) : الآيات 59 الى 60] فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60) . (1) ذنوبا: نصيبا. وأصله الدلو العظيمة واستعمالها هنا يلهم أن السقاة كانوا يتبادلون في ملء الدلاء حتى صار اسم الدلو يقوم مقام الدور والحصة. (2) أصحابهم: بمعنى أمثالهم من كفار الأمم السابقة. جاءت الآيتان خاتمة لآيات السورة والسياق وإنذارا قويا للكفار. وعودا على ما بدأت به السورة: فكما أن كفار الأمم السابقة قد نالهم نصيبهم من عذاب الله وبلائه فلسوف ينال الذين كفروا وبغوا وانحرفوا وجاروا من العرب نصيبهم أيضا. وهو آتيهم حتما فلا محل لاستعجال الله فيه ولسوف يكون يومهم الذي يوعدون به رهيبا شديدا. والإنذار مطلق يصح أن يكون إنذارا بعذاب الدنيا أو الآخرة أو بالعذابين معا والمتبادر أنه استهدف فيما استهدفه تخويفهم وحملهم على الارعواء.

سورة الغاشية

سورة الغاشية السورة فصلان متناظران، أحدهما في الإنذار بيوم القيامة ووصف مصير وحالة المؤمنين والكفار فيه. وثانيهما في لفت نظر الناس إلى بعض مشاهد الخلق والكون الدالة على ربوبية الله وقدرته فيه معنى التنديد بالكفار مع بيان مهمة النبي صلى الله عليه وسلم وكونها للتبليغ والتذكير وليست لإكراه الناس. وأسلوب السورة ومضمونها مما يسوغ القول إنها من السور التي نزلت دفعة واحدة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 16] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) . (1) الغاشية: كناية عن يوم القيامة حيث يدهم الناس ويغشاهم بغتة أو يشملهم. (2) خاشعة: ذليلة أو كسيرة من الذل. (3) عاملة ناصبة: مجهدة من التعب والنصب هو التعب الذي ينتج عن

العمل الشاق ومما قيل في معناها (تكبرت عن طاعة الله في الدنيا فأعملها وأنصبها في النار) . (4) آنية: شديدة الحرارة. (5) ضريع: نبات شوكي لا غذاء فيه حتى إن الأنعام لا ترعاه حينما ييبس حيث يصبح سمّا قاتلا على ما ذكره الزمخشري. (6) ناعمة: هادئة منشرحة من السرور والنعيم. (7) لاغية: لغو الكلام ضجيجه ورذيله. (8) نمارق: الوسائد والطراحات التي يجلس عليها. (9) زرابي: نوع من الأبسطة. (10) مبثوثة: مفروشة أو ممدودة. ابتدأت آيات السورة بسؤال موجه إلى المخاطب السامع أو إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيه معنى التنبيه والاسترعاء وتعظيم الأمر المسئول عنه عما إذا كان قد علم ما سوف يكون في يوم القيامة الذي يدهم الناس. وبدء السورة بالسؤال مما جرى عليه النظم في مطالع سور عديدة مرّت أمثلة منه. ثم أخذت الآيات تصف حالة الناس في ذلك اليوم: فهناك وجوه يظهر عليها الذل والهوان والتعب والإجهاد تلفحها النار الحامية ولا يكون لأصحابها إلا الماء الشديد الحرارة شرابا، وإلّا الضريع وأمثاله من النباتات التي تعافها الحيوانات طعاما لا تسمن ولا تغني من جوع. وهناك وجوه ناعمة وأثر السرور بالرفاه والرغد. قد رضي أصحابها عن سعيهم في الدنيا وتمتعوا بثوابه. فهم في الجنات العاليات، لا يسمعون فيها لغو الكلام ورذله، فيها العيون الجارية والأسرّة المنصوبة والأكواب الموضوعة والنمارق المصفوفة والزرابي المبثوثة. وواضح أن الآيات قد استهدفت التذكير بالآخرة والوعيد للكافرين والبشرى للمؤمنين والأوصاف مستمدة من مألوفات السامعين في الدنيا. لإثارة الخوف في الكافرين والغبطة في المؤمنين بما يعرفونه ويتأثرون به إقبالا وارتياحا ورغبة أو

[سورة الغاشية (88) : الآيات 17 إلى 26]

انقباضا واشمئزازا بالإضافة إلى حقيقة الآخرة الإيمانية. ويلحظ هنا أيضا صور للحياة الأخروية مغايرة لصور أخرى في آيات أخرى، ولقد علقنا على التباين والتنوع في هذه الصور بما رأينا فيه الكفاية في المناسبات المماثلة السابقة وبخاصة في سياق تفسير سورة فصلت فلا نرى ضرورة إلى إعادة أو زيادة. هذا، ويلحظ أن السور السابقة انتهت بإنذار الظالمين الكافرين باليوم الموعود وأن هذه السورة بدأت بوصف ما يكون الناس عليه في ذلك اليوم حيث يمكن أن يكون في ذلك قرينة على صحة ترتيب نزول هذه السورة بعد تلك. [سورة الغاشية (88) : الآيات 17 الى 26] أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26) . (1) مسيطر: جبار وقاهر أو محاسب ومراقب. (2) إيابهم: مجيئهم ورجوعهم. الضمائر في الآيات عائدة إلى الكفار على ما تلهمه عبارتها. وقد احتوت: 1- تساؤلا ينطوي على التنديد والتعجب عما إذا لم يكونوا يرون في خلق الإبل وارتفاع السماء وانتصاب الجبال وتسطيح الأرض من عجائب شاهدة على وجود الله وعظمته وقدرته. 2- وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يستمر في التذكير والإنذار وتقريرا تطمينيا له بأن هذا هو قصارى مهمته. فهو مذكر وليس مسؤولا عن جحودهم وكفرهم أو مكلفا بالسيطرة عليهم وإجبارهم على الإيمان.

تعليق على ما روي وقيل في صدد الآيتين إنما أنت مذكر (21) لست عليهم بمصيطر (22)

3- واستدراكا بأن ذلك لا يعني عدم مسؤولية المعرضين عن دعوة الله الكافرين برسالة النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم سينالهم عذاب الله الأكبر الذي سوف يكون مرجعهم إليه وحسابهم عليه. والآيات وإن بدت فصلا مستقلا عن الفصل السابق فالمتبادر أيضا أنها ليست منقطعة عنه، فقد احتوى ذلك الفصل وصف مصائر الناس في يوم القيامة فجاء هذا الفصل للتنديد بالجاحدين منهم الذين يتغافلون عن مشاهد عظمة الله وقدرته ويتصاممون عن الدعوة إليه ويكفرون بنبيه وإنذارهم وتهوين موقفهم على النبي صلى الله عليه وسلم وفي الاستدراك الذي احتوته الآية [23] وعيد من جهة وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم من جهة أخرى. ومما يحسن لفت النظر إليه أن المشاهد التي احتوتها الآيات من المشاهد الواقعة تحت حسّ المخاطبين ونظرهم والمالئة أذهانهم بعظمتها ونفعها. وهو مما جرى عليه النظم القرآني لأنه أرعى إلى الانتباه وأدعى إلى النفوذ. ومما يلحظ أن أسلوب الآيات المطمئنة للنبي صلى الله عليه وسلم والمقررة بأنه ليس مسيطرا ولا جبارا ولا مسؤولا عن الناس وبأن قصارى مهمته التذكير والتبليغ قد تكرر في سور عديدة سابقة وفي السورة السابقة لهذه السورة مباشرة ما يدل على ما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد ظل يشعر به من ألم وحزن من عدم استجابة معظم الناس وما كان قد ظل يكلف نفسه به من جهد يكاد يفوق الطاقة البشرية إلى حد الأذى والشقاء في سبيل هدايتهم وإقناعهم. تعليق على ما روي وقيل في صدد الآيتين إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) أولا: قال المفسرون: إن هذه الآيات نسخت بآيات القتال ومثل هذا قيل في سياق آيات مماثلة أو قريبة مرّ تفسيرها. وقد علقنا على هذا في سورتي المزمل

والكافرون بما يغني عن التكرار. ثانيا: روى الترمذي في سياق تفسير الآيتين حديثا عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها وحسابهم على الله ثم قرأ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) «1» . وليس في الحديث ما يفيد أنه صدر عند نزول الآيتين، بل إنه يمكن القول بجزم أنه صدر في العهد المدني وبعد تشريع القتال. غير أن استشهاد النبي صلى الله عليه وسلم بالآيتين يفيد أنه أراد أن يقول إن حساب الناس بعد أن يقولوا لا إله إلا الله ويعصموا بها دماءهم وأموالهم إلّا بحقها هو على الله وليس هو مسيطرا عليهم حتى يحاسبهم على غير ذلك. وفي هذا تلقين جليل المدى بكون الناس موكولين إلى دينهم وتقواهم وخشيتهم من الله فيما يكون منهم من أعمال غير معروفة. وأنه ليس للسلطان أن يتعقب الناس لاستكشاف خباياهم وأسرارهم إذا لم يكن دليل على ضرر محقق على أحد أو على أمن الناس والمصلحة العامة، أما ما فيه ضرر محقق فهو ما عنته الجملة (إلّا بحقه) من الحديث حيث يكون للسلطان حقّ في عمل ما يجب عمله للقصاص والزجر واستيفاء الحق لصاحبه من المبطل الباغي. ولقد روى هذا الحديث البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود بدون ذكر صلته بالآيتين أو الاستشهاد فيه بالآيتين. وروي كذلك في مناسبة قتال أبي بكر رضي الله عنه للممتنعين عن الزكاة، وعلقنا على ذلك في سور المزمل والكافرون بما يغني عن التكرار ويزيل اللبس في الحديث موضوعيا.

_ (1) التاج ج 4 ص 258.

سورة الكهف

سورة الكهف في السورة حملة شديدة على الكفار، ووصف لشدة عنادهم وجحودهم وما كان يحدثه هذا من حزن للنبي صلى الله عليه وسلم. وإشارات إلى ما كان من استخفاف الكفار بشأن فقراء المسلمين واعتدادهم بثرواتهم وقوتهم ووصف لهول يوم القيامة ومصير الكفار والمؤمنين فيه. وأمثال ومواعظ في صدد الدعوة النبوية وتسفيه الاغترار بالدنيا والانشغال بها عن الخير والصلاح. وقصص أصحاب الكهف وموسى مع العبد الصالح وذي القرنين تضمنت المواعظ والتذكير. وآيات السورة متوازنة، وليس بين فصولها تغاير أسلوبي بالرغم من تنوعها وهذا وذاك معا مما يبرر القول إنها نزلت متتابعة حتى تمّت. ويروى أن الآيات [28 و 83- 101] مدنيات، والسياق والأسلوب والمضمون يسوّغ الشك والتوقف في ذلك. ولقد روى مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدّجّال» «1» . وفي رواية: «من حفظ من خواتيم سورة الكهف عصم من الدجّال» . وروى الحاكم والبيهقي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين وفي رواية أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق» «2» . وهناك نصوص أخرى مقاربة أوردها ابن كثير في مطلع تفسيره للسورة مروية عن الإمام أحمد بالإضافة إلى هذه النصوص.

_ (1) التاج ج 4 ص 17- 18. [.....] (2) المصدر نفسه.

[سورة الكهف (18) : الآيات 1 إلى 8]

وينطوي في الأحاديث تنويه نبوي بفضل هذه السورة لا بدّ من أن يكون له حكمة قد يكون منها ما احتوته من أمثال ومواعظ. وبالإضافة إلى هذا ففي الأحاديث قرينة على أن هذه السورة أو السور القرآنية كانت تامة الترتيب معروفة الأسماء في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الكهف (18) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8) . (1) قيّما: قيل إنها بمعنى مستقيم لا اختلاف فيه. وقيل إنها بمعنى قوّاما على شؤون الدين وضابطا لها، وقيل إنها بمعنى قوّاما مراقبا على الكتب السماوية الأخرى. والأول أرجح بقرينة جملة وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً التي هي بمثابة تفسير لها. وفي الآية تقديم وتأخير لحفظ الوزن وتقديرها: الحمد لله الذي أنزل الكتاب على عبده قيما ولم يجعل له عوجا على ما ذكره جمهور المفسرين. (2) باخع نفسك: مهلك نفسك. وكلمة أَسَفاً راجعة إلى هذه الجملة وقد تأخرت عنها لحفظ الوزن أيضا. وهي بمعنى حزنا أو غضبا أو غمّا، أي فلعلك مهلك نفسك من الحزن والغمّ عن عدم إيمانهم بكلام الله. (3) صعيدا جرزا: الصعيد (الأرض) أو التراب والجرز الأملس اليابس الذي لا حياة أو لا نبات فيه، أو لا ينزل عليه مطر من البلاء.

بدأت السورة بحمد الله، وهذا أسلوب من أساليب النظم القرآني في مطالع السور وقد مرّ منه بعض الأمثلة. واحتوت الآيات الخمس الأولى: تقريرا بكون الله تعالى الذي له الحمد وحده قد نزل القرآن على عبده أي النبي محمد مستقيما لا عوج فيه لينذر الناس جميعا ببأسه وقوته. ويبشّر المؤمنين الصالحين بالأجر الحسن الذي يتمتعون به تمتعا دائما خالدا، وينذر الذين يعزون إليه اتخاذ الولد دون ما علم ولا بينة عندهم ولا عند آبائهم، وإنها لكذبة كبرى تصدر عنهم بمنتهى الوقاحة والفظاعة. والتفتت الآيات الثلاث التالية إلى النبي صلى الله عليه وسلم تنبهه إلى ما يحمل نفسه من هم وحزن يكادان يهلكانها بسبب انصراف الناس عن الاستجابة لدعوته والإيمان بكلام الله دونما ضرورة ولا موجب. وتبين له أن الله إنما يزين الأرض بما عليها من وسائل الحياة والاستمتاع لاختبار أعمال الناس فيها، وإنه لسوف يجعلها قاحلة يابسة لا زينة فيها ولا حياة ولا وسائل ولا نبات ولا شجر. والقسمان متصلان ببعضهما من حيث كون الأول في بيان مهمة النبي صلى الله عليه وسلم والثاني في تطمينه وتسليته. والمتبادر أن التنديد بالذين ينسبون إلى الله الولد موجه إلى مشركي العرب الذين كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله مما احتوت الإشارة إليه والحملة عليهم بسببه آيات قرآنية كثيرة مرّ كثير منها. وفحوى الآية [4] ثم الآية [5] هو الذي جعلنا نرجح أن التنديد والإنذار موجهان لمشركي العرب دون النصارى، وهؤلاء هم موضوع إنذار وتنديد آخرين في السورة وهذا مما يقوي ذلك. والآيتان الأخيرتان بخاصة تدعيم لتطمين النبي صلى الله عليه وسلم، فليس هو إلّا نذير، والدنيا للناس هي دار اختبار ولسوف تزول ويرجع الناس إلى الله بعدها. ويلحظ أن السورة السابقة انتهت بتقرير كون النبي صلى الله عليه وسلم غير مسؤول عن كفر الكفار وليس مكلفا بإجبارهم وأنهم راجعون إليه. وأن هذه السورة ابتدأت بتدعيم

[سورة الكهف (18) : الآيات 9 إلى 26]

هذه المعاني، مما يمكن أن يكون فيه قرينة على صحة ترتيب النزول. وينطوي في جملة لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) تقرير كون الله عز وجل قد أودع في الناس قابلية الاختيار والكسب وبيّن لهم طريق الخير والعمل الحسن وعكسها، وحملهم مسؤولية اختيارهم وأعمالهم. وهو ما قررته آيات كثيرة أخرى منها ما جاء بعبارة مماثلة لهذه العبارة، ومنها ما جاء بعبارة مغايرة، وقد مرّ من ذلك أمثلة عديدة بحيث يصح القول إن هذا من الأصول القرآنية المحكمة. وقد علقنا على عبارة مماثلة لها وردت في سورة هود فليرجع إليه القارئ ثانية ليستوعب مدى الآية. [سورة الكهف (18) : الآيات 9 الى 26] أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) .

(1) الكهف: المغارة. (2) الرقيم: قيل إنه اسم لجبل أو لواد وقيل إنه بمعنى المكتوب من الرقم وإنه لوح وجد في مقبرة أصحاب الكهف مكتوب فيه أسماؤهم وقصتهم وهو الأوجه. (3) أوى: دخل ولجأ. (4) فتية: شباب. (5) ضربنا على آذانهم: جعلناهم يفقدون الوعي فلا يسمعون. (6) أحصى: أكثر إحصاء وحسابا وعلما. (7) ربطنا على قلوبهم: ثبتناهم وصبّرناهم. (8) شططا: بعدا عن الحق. (9) إذ اعتزلتموهم: ضمير الجمع الغائب راجع إلى الفتية. والجملة من

حكاية ما دار بينهم من حديث في صدد انحراف قومهم نحو الشرك. (10) مرفقا: بمعنى فرج أو نجاة. (11) تزاور: تميل. (12) تقرضهم: تعدل عنهم. (13) في فجوة منه: في ساحة من ساحاته أو متسع منه. (14) وتحسبهم أيقاظا وهم رقود: تظنهم وهم يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال أنهم أيقاظ مع أنهم نائمون. (15) بالوصيد: بالباب. (16) بعثناهم: أيقظناهم. (17) ورقكم: عملتكم الفضية. (18) أزكى طعاما: أطيب طعاما. (19) وليتلطف: ليتحفظ وليحذر من إشعار الناس بهم. (20) إن يظهروا عليكم: إن يكشفوا أمركم. (21) أعثرنا عليهم: جعلنا قومهم يعثرون عليهم. (22) الذين غلبوا على أمرهم: كناية عن أصحاب السلطة والحكم. (23) فلا تمار فيهم: فلا تجادل في أمرهم أو فلا ترتب في أمرهم. (24) أبصر به وأسمع: ما أشدّ بصره وما أشدّ سمعه أو شديد السمع والبصر. يحتوي هذا الفصل قصة أصحاب الكهف والرقيم، وتعليقا عليها. وقد احتوت الآيات عن القصة ما مفاده: أن أصحاب الكهف والرقيم فتية استنارت بصائرهم فاهتدوا وآمنوا بالله وحده، في حين كان قومهم منحرفين مشركين يدعون مع الله آلهة أخرى. وقد تجهموا لهم وأرادوا ردهم إلى دينهم، فدعا الفتية الله أن يشملهم برحمته ويجعل لهم مخرجا من مأزقهم. ثم قرروا فيما بينهم أن يعتزلوا قومهم ويلجأوا إلى أحد الكهوف. فلما فعلوا سلط الله عليهم نوما طويلا جدا، وكانوا في ساحة من ساحات الكهف لا تصيبهم الشمس بأذاها حينما

تطلع وحينما تغرب حيث تميل عنهم في الطلوع وتعدل عنهم في الغروب. وكانوا يتقلبون بإذن الله يمينا وشمالا، لئلا تتهرّأ جنوبهم من طول الرقاد على ما هو المتبادر من العبارة، حتى ليحسبهم الناظر إليهم أنهم أيقاظ. وكان لهم كلب قد أقعى وبسط ذراعيه في باب الكهف، وصار منظرهم رهيبا يبعث الرعب في القلوب. ثم شاء الله أن يستيقظوا فأخذوا يتساءلون عن المدة التي قضوها نائمين، وظنّ أحدهم أنها يوم أو بعض يوم، ثم أرسلوا أحدهم بعملة فضية إلى المدينة ليأتيهم بطعام طيّب، ووصّوه بالتحفظ والحذر لئلا يكتشف قومهم مخبأهم فيرغموهم على الرجوع إلى دينهم القديم أو يزهقوا أرواحهم رجما. غير أن الله شاء أن يعثر قومهم على أمرهم، فهرعوا إلى الكهف ليروا آية الله تعالى فيهم، ويتيقنوا من الحق في وعد الله بالساعة، ثم تشاوروا فيما يفعلونه بهم فقرر أصحاب الأمر والسلطان أن يبنوا عليهم مسجدا، حيث يتبادر من ذلك أنهم لم يلبثوا أن توفّاهم الله عقب انكشاف أمرهم. أما التعليق فهو: 1- حكاية ما سوف يقوله السامعون عن عددهم حيث يقول فريق إنهم ثلاثة رابعهم كلبهم، وفريق إنهم خمسة سادسهم كلبهم، وفريق إنهم سبعة وثامنهم كلبهم. 2- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتفويض أمر العلم بهم إلى الله تعالى، وبالقول إنه لا يعلمهم إلّا قليل من الناس وبألا يجادل أو يشك في أمرهم أو يهتم بأمرهم اهتماما كبيرا، وبألا يسأل عنهم أحدا من السامعين، وبأن لا يقول إني فاعل هذا الشيء غدا إلا مع القول إلا أن يشاء الله مع واجب ذكر ربه إذا نسي أمرا ودعاء الله بأن يهديه إلى ما هو الأقرب إلى الرشد والحق. 3- وإخبار بأنهم قد لبثوا في كهفهم ثلاثمائة وتسع سنين. 4- وأمر آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول إن الله هو أعلم بما لبثوا وهو العالم بما خفي من أمور السموات والأرض وهو الشديد السمع والبصر لا شريك له في حكمه وليس لأحد ولي حقيقي دونه.

تعليقات على آيات قصة أصحاب الكهف والرقيم

تعليقات على آيات قصة أصحاب الكهف والرقيم ولقد تعددت روايات المفسرين «1» عن القصة واحتوت هذه الروايات بيانات كثيرة عن أصحابها لا تخلو من اختلاف وتغاير ومبالغة وتداخل. وهي مروية عن رواة الأخبار وبعض التابعين مثل محمد بن إسحاق وابن حميد والحكم بن بشير. والمختصر المفيد الذي يمكن استخلاصه وبإيجاز من الروايات والذي قد يكون فيه بعض الحقائق هو أن الفتية من مدينة أفسوس أو طرسوس وأنهم ثمانية أشخاص وأن أسماءهم هي مكسلمينا ومحسيميلينا ويمليخا ومرطوس وكشوطوش وبيرونس ودينموس ويطونس قالوس «2» وأن أحد حواريي عيسى جاء إلى مدينتهم وبشر برسالة المسيح فآمنوا مع جماعة من مدينتهم، وكان ملكهم أو ملك الروم الذي كانت البلاد تحت حكمه وثنيا ظالما اسمه دقينوس أو دقيانوس كان يضطهد المؤمنين ويعذبهم أشد العذاب فقدم إلى هذه المدينة وجعل يفعل في مؤمنيها كذلك وأزهق أرواح كثير منهم وأنذر الفتية ومنّاهم وأمهلهم فأبوا أن يرتدوا إلى الوثنية وخافوا من العذاب والإكراه فلجأوا إلى كهف في أحد جبال المدينة وتبعهم راع مع كلبه. وكانوا يرسلون أحدهم للتموّن والاستطلاع. وعاد الملك فتفقدهم وأخذ يبحث عنهم حتى وجدهم في الكهف وكان الله قد ضرب عليهم النوم الطويل فظن الملك أنهم قد ماتوا فردم عليهم الكهف. وشاء الله بعد النوم الطويل أن يستيقظوا فلما استيقظوا ظنّ بعضهم أنهم لم يلبثوا في نومهم إلّا يوما أو بعض يوم ولم يروا على أنفسهم تغيرا ثم أرسلوا أحدهم- يمليخا- إلى المدينة فصار ينكر ما يرى من وجوه ومناظر وسمع الناس يذكرون المسيح بالتقديس ويظهرون شعائر النصرانية بحرية فازداد عجبه وأنكر الباعة ما قدمه لهم من العملة الفضية التي مرّ عليها مئات السنين، وظنوا أنه من كنز دفين وجده فأخذوه إلى رؤساء المدينة،

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري. (2) انظر الطبري.

وكانوا كذلك من النصارى، فاطمأنّ وقصّ عليهم قصته وقصة رفاقه فعجبوا واعتبروا ذلك آية من آيات الله، وازدادوا إيمانا بالبعث، وأرسلوا إلى ملكهم الذي كان هو الآخر يدين بالنصرانية واسمه يندوسيس فجاء ليرى آية الله بدوره وكان الناس قد استدلوا على الكهف فهرع مع أهل المدينة ولما شعر الفتية بمجيئهم أخذوا يحمدون الله ويسبحونه، ثم لم يلبثوا أن توفّاهم الله فدخل الملك مع الناس الكهف فوجدوهم قد ماتوا فتشاوروا، ثم قرر الملك أن يبني عليهم مسجدا. أما الرقيم الذي كتبت عليه قصتهم فالروايات تذكر أن رجلين مؤمنين من آل دقليانوس أو عهده وأمته مرّا بالكهف بعد أن ضرب الله عليهم النوم فعرفاهم وعرفا قصتهم فكتبا أسماءهم وقصتهم على لوحين من رصاص ووضعاهما في تابوت عند رؤوسهم ليعرفهم الناس في الأجيال القادمة. هذا كما قلنا موجز ملخص من الروايات مع التنبيه على أن هناك تضاربا في الأسماء والأحداث لم نر طائلا من التعلق به عدا مسألتين أولاهما معنى الرقيم وثانيهما مكان الكهف حيث جاء في بعض الروايات المعزوة إلى ابن عباس وغيره أن الرقيم هو اسم للقرية التي منها أصحاب الكهف أو اسم الجبل أو الوادي الذي فيه الكهف، وأنه قريب من الأيلة دون فلسطين حيث يكون الحادث حسب هذه الرواية في أرض شرق الأردن التي كانت هي الأخرى منذ القرن الثاني بعد الميلاد تحت سلطان الروم وكانت مجالا للحركة النصرانية تبشيرا ومناوأة. ومهما يكن من أمر فإن فحوى الآيات يلهم أن في قصة أهل الكهف شيئا خارقا للعادة جرى بأمر الله وحكمته، وعلى المسلم واجب الإيمان به لأن ذلك مما أخبر به القرآن وهو في نطاق قدرة الله تعالى هذا أولا، وثانيا إن فحوى الآيات وروحها معا يلهمان أن القصة لم تكن مجهولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم من جهة، وأنها كانت موضوع حديث وعجب وتساؤل من جهة ثانية. وإن البيانات المسهبة التي رواها رواة الأخبار والتابعين من الدلائل على ذلك، وأنها من قصص التاريخ النصراني في بلاد الشام في دور حكم الرومان وفي الدور الذي كان الرومان وثنيين أي قبل القرن الرابع بعد الميلاد. وأنها عرفت في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق النصارى

الذين كانوا في مكة أو الذين كان العرب يتصلون بهم في أسفارهم. والتاريخ يذكر أنه كان بين أباطرة الرومان الوثنيين امبراطور اسمه دقليانوس حكم بين سنتي 284- 305 ب. م وكان شديد الوطأة على النصرانية ومتبعيها الذين كان أكثرهم في بلاد الشام ومصر فقاسوا على يديه بلاء عظيما أشد من غيره، ثم صارت النصرانية في أوائل القرن الرابع بعد الميلاد دين الدولة الرومانية واستمرت كذلك وطوردت الوثنية حتى كادت تنقرض، وتمتعت النصرانية وأتباعها بالطمأنينة والأمن إجمالا» . ولقد أوردنا في سياق آية الإسراء [85] الروايات التي تذكر أن هذه القصة إحدى ثلاث مسائل سألها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة أو سألها المشركون في مكة للنبي بإيعاز من اليهود وفندناها. والذي نرجحه أن هذا الفصل في القصة قد نزل بناء على سؤال طرح على النبي صلى الله عليه وسلم في مكة مما يمكن أن يلمح ضمنا من مجموع الآيات وبخاصة من الآية الأولى منها التي تضمنت بأسلوب السؤال الإنكاري تقرير كون قدرة الله عز وجل لا يعجزها شيء، فلا ينبغي أن تكون قصة أصحاب الكهف والرقيم وحدها المثيرة لعجب الناس حينما تبلغهم فتجعلهم يتساءلون عنها تساؤل المتعجب المندهش. ونميل إلى ترجيح كون بعض المسلمين هم الذين سألوا بقصد الاستفسار والتأكد بعد أن سمعوا القصة من بعض النصارى في مكة الذين كانوا على صلة حسنة إجمالا مع الإسلام والمسلمين دون المشركين الذين كان التوتر واللجاج مشتدين بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين. وقد يرد سؤال عما إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف القصة أو سمعها من النصارى ولا نستبعد ذلك. ولسنا نرى هذا متعارضا مع ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه من صورها. فهذا ملموح في كثير من أحداث بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره ومشاهدها التي ذكرت في القرآن والتي لا بدّ من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ملمّا بها قبل نزول الآيات التي اقتضت حكمة التنزيل ذكرها.

_ (1) انظر الجزء الثاني من المجلد الثالث من تاريخ المطران الدبس والجزء الثاني من المجلد الرابع أيضا.

ومن الجدير بالتنبيه على كل حال أن آيات القصة والتعليق عليها قد جاءت بالأسلوب الذي امتاز به القصص القرآني وتوخى فيها الموعظة والتذكير وتدعيم الدعوة النبوية مما هو من مميزات هذا الأسلوب، ومما ينطوي فيه حكمة الإيحاء بما أوحى به من صورها. فهناك تماثل بين الفتية المؤمنين وقومهم المشركين وبين النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه الذين كان عدد كبير منهم من شبان قريش الذين كان آباؤهم مشركين مناوئين للدعوة المحمدية وكانوا يتعرضون لأذى آبائهم واضطهادهم بقصد ردهم إلى الشرك بعد الإيمان، والبعث والنشور والجزاء الأخروي من أهم ما كان يثير الجدل بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين. والقصة قد احتوت خبرا فيه آية من آيات الله تتصل ببعض مشاهد البعث بعد الموت في واقعة شوهدت من قبل جمهور عظيم من الناس وتنوقلت أخبارها العجيبة. وفي كل هذا مواضع للعبرة والتطمين والأسوة والإنذار والتدعيم كما هو واضح، ويلفت النظر بخاصة إلى الآية [21] حيث احتوت إشارة إلى أن العثور على الفتية بعد أن استيقظوا وماتوا كان وسيلة لجعل الناس يتيقنون بأن وعد الله حقّ وأن الساعة آتية لا ريب فيها مما هو متصل بما نقرره. كذلك يلفت النظر إلى أن الآيات الأولى من السورة حملت على الذين يقولون إن لله ولدا وإن هذه القصة النصرانية التي جاءت على أثرها تقرر أن الفتية كانوا يؤمنون بالله وحده وأن هذا الإيمان هو الذي جعلهم موضع عناية الله ورحمته. فقد يلهم هذا وجود صلة بين آيات القصة ومطلع السورة ويلهم أنها قد توخّي فيها التدعيم للدعوة النبوية. وبخاصة التوحيد الذي لا شائبة فيه ولا تأويل، ومن الجدير بالذكر أن الخلاف كان مستشريا بين فرق النصارى منذ القرن الميلادي الأول حول المسيح حيث كان بعضهم لا يسوّي بين المسيح والله ولا يعتقد ببنوته الطبيعية له كما كان يعتقدها بعضهم، وبعضهم يعتبره بشرا مرسلا من الله ولد بمعجزة وبعضهم يعتبره رمزا لله وحسب على ما شرحناه وأوردنا شواهده ومصادره

في سياق سورة مريم «1» . وإلى هذا ففي الآيتين [23 و 24] تلقينات مهمة إيمانية وسلوكية للمسلمين وقد أفردنا لهما بفقرة خاصة تأتي فيما بعد. ولقد تخلل الآيات جريا على الأسلوب القرآني مقاطع متصلة كذلك بالهدف التدعيمي الذي نوهنا به آنفا سواء فيما كان من الثناء على الفتية أم في شمول رحمة الله لهم أم في التنديد بالذين اتخذوا من دون الله آلهة كذبا وافتراء. والآية الأولى التي جاءت كمقدمة قد تضمنت معنى التنبيه على القصة وما فيها من مشهد قدرة الله وكون ذلك من آيات الله التي تبدو للناس عجيبة. فكأنما أريد أن يقال إن وقوع ما يبدو عجيبا لكفار العرب من شأنه أن يقنعهم بإمكان وقوع ما ينذرون به مما هو مماثل له في صدد قدرة الله تعالى، وفي هذا ما فيه من معنى التدعيم أيضا. والآيات الأخيرة من السلسلة يمكن أن يلمح فيها أن الإيحاء بآيات القصة قد استهدفت هذا التدعيم في الدرجة الأولى. فالناس يتناقشون في عدد الفتية فيؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بألا يهتم لهذا النقاش كثيرا وألا يماري فيهم إلا مراء ظاهرا، ويتناقشون في عدد السنين فيؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يكل ذلك إلى علم الله الذي يعلم غيب السموات والأرض والمتصف بأكمل صفات السمع والبصر والذي ليس لأحد من دونه ولي حقيقي وليس له في ملكه وحكمه شريك ويؤمر كذلك بعدم التعمق في الأمر وعدم استفتاء الغير فيه. ولقد نقل الطبري وغيره عن قتادة أحد علماء التابعين أن تعبير وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) وهو ما ورد في الآية [25] هو حكاية لقول أهل الكتاب، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرّد عليهم بأن الله تعالى هو الأعلم بما لبثوا، ونرى هذا وجيها ومتسقا مع أسلوب العبارة القرآنية حيث تكون الآية [25] تتمة للكلام السابق للآية [23] وتكون الآيتان [23 و 24] اللتان ليستا من سياق القصة قد جاءتا لتنبيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يجب عليه مما سيكون موضوع تعليق آخر

_ (1) انظر المجلدين المذكورين آنفا من تاريخ المطران الدبس.

تعليق على الآية ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا والآية التي بعدها

يأتي بعد هذه النبذة. ويكون ذلك القول والحالة هذه متوافقا مع مدى القصد المراد من إيراد القصة الذي نوهنا به آنفا. تعليق على الآية وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً والآية التي بعدها والآيتان هاتان ليستا من سياق القصة كما قلنا آنفا، وقد احتوتا استطرادا استدراكيا فيه تنبيه للنبي صلى الله عليه وسلم بما يجب عليه حينما يقول أنه سيفعل شيئا وحينما ينسى ما يجب عليه. وقد أوردنا في سياق تفسير الآية [85] من سورة الإسراء رواية طويلة عن قتادة ذكرت أن الآيتين نزلتا بسبب وعد النبي صلى الله عليه وسلم بالإجابة على الأسئلة عن الروح وفتية الكهف وذي القرنين التي سأله عنها المشركون بإيعاز من اليهود غدا دون أن يقول (إن شاء الله) وأن الوحي توقف عن النبي صلى الله عليه وسلم ردحا من الوقت حتى صار المشركون يسخرون منه، وحزن من ذلك حزنا عظيما، ولقد علقنا على الرواية ونبهنا على ما فيها من مآخذ بالنسبة للسؤال عن الروح الوارد في سورة الإسراء والذي أوردت الرواية في سياقه. غير أن ورود الآيتين خلال آيات قصة أصحاب الكهف والرقيم وقبل أن ينتهي الكلام عنها- لأن في الآيات التي بعدها تتمة للتعليق عليها- يلهم أن لهما علاقة ما بها وأن في ما ورد في الرواية المذكورة شيئا ما من حقيقة هذه الصلة. والذي يتبادر لنا أن الآيتين قد نزلتا في صدد هذه القصة وحدها. وأن من المحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد استمهل السائلين ونسي تعليق الأمر على مشيئة الله تعالى، فأوحى إليه بهما من قبل الاستطراد والاستدراك في سياق الآيات الموحى بها في القصة. ولقد انطوى في الاستدراك شيء من العتاب الرباني للنبي صلى الله عليه وسلم على ما كان منه خلاف الأولى الذي هو في علم الله مما تكررت صور منه ومرّ بعض أمثلته. وفي تسجيله وتسجيل ما أوجب الله على النبي صلى الله عليه وسلم في سياقه من واجب تعليق تنفيذ

[سورة الكهف (18) : آية 27]

ما يعد بفعله على مشيئة الله وذكر الله إذا نسي أمرا واللجوء إليه بطلب الهداية إلى ما هو الأرشد والأسد صورة من صور العصمة النبوية في تبليغ كل ما يوحي به قرآنا مهما كان خاصا. مما تكررت صوره ومرّ منه بعض الأمثلة أيضا. وواجب التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي أمر به المسلمون يجعل الآيتين موجهتين إليهم أيضا في كل ظرف بحيث يكون من واجب كل مسلم أيضا أن يذكر دائما أنه لا يملك من أمر المستقبل شيئا فعليه أن لا يربط نفسه بملزمات قد يعجز عنها أو قد يخلّ بها أو قد يكون فيها خطر وضرر غابا عنه، وأن تعليق عزائمه بمشيئة الله تعالى عدا أنه واجب ديني عليه، مستتبع لإيمانه بالله عالم الغيب والشهادة الذي بيده كل شيء وإليه مرجع كل شيء فإنه يخليه من مسؤولية أي عمل مكروه أو خطر أو ضار يلزم نفسه به ويبرر له الرجوع عنه. وفي الاستمداد بالله وذكره- في حالة تقصيره ونسيانه وطلب الهداية منه إلى ما يكون الأرشد والأسد من العزمات- علاج روحي يمدّه بالقوة والرغبة بالهدى والرشاد والسداد. ولقد روى أصحاب السنن عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حلف على يمين فقال إن شاء الله فقد استثنى، وفي رواية للنسائي وأبي داود من حلف فاستثنى فإن شاء مضى وإن شاء ترك غير حنث» «1» . حيث ينطوي في الحديث تعليم نبوي للمسلمين متصل بالتعليم القرآني من ناحية ما كما هو المتبادر. [سورة الكهف (18) : آية 27] وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) . (1) ملتحدا: ملجأ أو موئلا والإلحاد والالتحاد هو الميل للشيء. في الآية: 1- أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتلاوة ما يوحى إليه من ربّه على الناس.

_ (1) التاج ج 3 ص 71.

[سورة الكهف (18) : آية 28]

2- وتوكيد بأن كل ما فيه حق وصدق لا يأتيه تبديل ولا تناقض. 3- وتقرير بأن النبي لن يجد من دونه من هو جدير باللجوء إليه قدير على حمايته. وقد ابتدأت الآية بحرف العطف مما يمكن أن يكون قرينة على أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة وداعمة لما فيها من مواضع العظة والعبرة كما يمكن أن يكون قرينة على أن الآيات السابقة إنما أوردت لتدعم الرسالة النبوية. [سورة الكهف (18) : آية 28] وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) . (1) لا تعد عيناك عنهم: لا تنصرف عنهم ولا تهملهم. (2) تريد زينة الحياة الدنيا: تفضل عليهم أصحاب المال والجاه. (3) فرطا: باطلا أو ضلالا وخسرانا وسرفا. في الآية أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بوجوب التضامن التام مع الذين آمنوا برسالته ودأبوا على الاتجاه إلى الله وعبادته في جميع أوقاتهم لا يبتغون إلّا رضاه. وجعل كل اهتمامه لهم وعدم تحويل نظره واهتمامه إلى غيرهم رغبة في زينة الحياة الدنيا ومظاهرها الخلاقة المتمثلة في أصحاب المال والجاه، وعدم إطاعة من غفل عن ذكر الله تعالى واتبع هواه وكان ضالا خاسرا أو الإصغاء إليه. تعليق على الآية وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ ... إلخ وما فيها من تلقين رائع ولقد روى المفسرون روايات عديدة متفقة في مداها كسبب لنزول الآية.

منها أن بعض القوم قالوا للنبي إنا نستحي أن نجالس فلانا وفلانا وفلانا فجانبهم يا محمد وجالس أشراف قومك. ومنها أن عيينة الفزاري قال للنبي صلى الله عليه وسلم وعنده جماعة من الفقراء فيهم سلمان وعليه شملة قد عرق فيها وبيده خوصة يشقها ثم ينسجها: «أما يؤذيك ريح هؤلاء ونحن سادات مضر وأشرافها فإن أسلمنا أسلم الناس ولا يمنعنا من اتباعك إلّا هؤلاء فنحّهم حتى نتبعك أو اجعل لنا مجلسا ولهم مجلسا» فأنزل الله الآية. ومنها أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا فوقع في نفس رسول الله ما شاء الله أن يقع فحدث نفسه فأنزل الله عز وجل: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ الأنعام: [52] وكان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قالوا له ذلك ابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان آخران. ولقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن هذه الآية مدنية وهذه الرواية تتوافق مع الرواية التي ذكر فيها كلام عيينة الفزاري الذي كان من أهل العهد المدني. والرواية الأولى يرويها الطبري عن مشركي مكة، والرواية الثالثة يرويها ابن كثير عن مشركي مكة كذلك ويعزوها إلى مسلم كحديث صحيح. وإيراد آية مدنية في سياق مكي متصل بكفار مكة لا حكمة ظاهرة له. والآية إلى ذلك معطوفة على ما قبلها متساوقة معه في النظم حيث يسوّغ كل هذا الشك في رواية مدنية الآية ورواية عيينة الفزاري وترجيح مكية الآية وكونها في صدد موقف الزعماء المشركين من فقراء المسلمين وموقف النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك. ولقد ورد آيات فيها شيء مما ورد في هذه الآية في سورة الأنعام التي مرّ تفسيرها وهي الآيات [51- 54] وروي في صددها بعض ما روي هنا على ما ذكرناه في سياق تفسيرها حيث ينطوي في هذا أيضا تأييد لمكية الصورة. ولقد علقنا على ما انطوى في آيات سورة الأنعام من صور وتلقين وهو وارد بطبيعة الحال بالنسبة لهذه الآية فلا محل لإعادته. ويظهر من تكرر الإشارة إلى هذا الموقف أنه كان يتكرر فكانت حكمة التنزيل تقتضي تكرار التعليم تثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان شديد الحرص على جلب الزعماء إليه، والذي كان حرصه يجعله يفكر على ما تلهمه الآيات، ورواية ابن كثير التي يرويها عن مسلم بحديث صحيح في

[سورة الكهف (18) : الآيات 29 إلى 31]

مسايرة الزعماء في بعض ما يقترحونه. ثم تنويها بالمؤمنين وتقريرا لرفعة شأنهم عند الله ولكون فضيلة الإيمان والعمل الصالح هي أعظم الفضائل وأن الذين يتحلون بها هم عند الله أفضل وأولى بالرعاية، ويجب أن يكونوا كذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم وفي المجتمع الإسلامي. ولقد اجتهد النبي صلى الله عليه وسلم في موقفه اجتهادا يمتّ إلى هذا الأمر خلافا للأولى قبل أن ينزل وحي به فعوتب على ذلك على ما شرحناه في سورة عبس حيث يبدو في كل هذا تلقين جليل مستمر المدى ومبدأ من مبادئ القرآن المحكمة يلمح فيهما في الوقت نفسه عدم إقرار الفروق الاجتماعية كظاهرة واجبة الرعاية في المجتمع الإسلامي. وإذا لحظنا أنه كان لهذه الظاهرة اعتبار عظيم في حياة الأمم وتقاليدها على اختلافها في عصر النبي صلى الله عليه وسلم بدت روعة الهدف القرآني والمبدأ المحكم والتلقين الجليل اللذين ينطويان فيه، وبدا في هذا دليل لمن يعوزه الدليل على أن القرآن وحي من الله ينزل بما فيه الحقّ والحكمة ليصحح موقفا من المحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجنح إليه خلافا للأولى بدافع حرصه المذكور آنفا. وتبدو هذه الروعة أيضا في حكمة تكرار التنزيل القرآني حيث كانت هذه هي المرة الثالثة التي يوحى فيها بآيات تقرر وتؤكد ذلك الهدى والمبدأ المحكم والتلقين الجليل اللذين ينطويان فيه. [سورة الكهف (18) : الآيات 29 الى 31] وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31) . (1) سرادقها: السرادق كل ما له جهات أربع محيطة، والقصد هنا هو وصف شدة النار واشتغالها من كل ناحية.

(2) وأن يستغيثوا: وأن يطلبوا الغيث والماء. (3) المهل: مرّ تفسيره في سورة الدخان. (4) مرتفقا: منزلا أو منتفعا. (5) يحلّون: من الحلية. (6) سندس وإستبرق: نوعان من نسيج الحرير واللفظان معرّبان. (7) الأرائك: جمع أريكة وهي السرير. الآيات معطوفة على سابقاتها، واستمرار لها وتعقيب عليها كما هو المتبادر وعبارتها واضحة، وكأنما جاءت لتؤكد على النبي صلى الله عليه وسلم بحصر رعايته واهتمامه للذين آمنوا به مهما كان مركزهم الاجتماعي وحالتهم المادية ولتكون جوابا على الزعماء الذين روي موقفهم من النبي صلى الله عليه وسلم وفقراء المؤمنين في سياق الآيات السابقة لتقول لهم إن ما طلبوه لن يكون، ولتهتف بهم بعد ذلك بأن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو الحق من الله ربّه وربّهم فمن شاء فليؤمن فينفع نفسه ومن شاء فليكفر فلا يضرّ إلّا نفسه، لأن الله قد أعدّ لكل من الفريقين ما يتناسب مع اختياره من شديد العذاب وهائله ومن عظيم النعيم ووسائله. وليس الأمر أمر مساومة ومسايرة ولا يتحملهما. ومثل هذا الجواب والهتاف قد تكرر في مواقف مماثلة حكتها آيات عديدة مرّ بعضها، حيث كانت المواقف تتكرر فتقتضي حكمة التنزيل تكرار الجواب والهتاف. وقد تضمنت الآيات تثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم وتطمينا وبشرى للمؤمنين وإنذارا رهيبا للكفار. وأكدت المبدأ المحكم الذي احتوته آيات كثيرة بأن الناس يؤمنون ويكفرون وفق اختيارهم فيستحقون ما يستحقون من ثواب وعقاب حقا وعدلا. ولقد روى الترمذي عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لسرادق النار أربعة جدر كثف كلّ جدار مثل مسيرة أربعين سنة» «1» . والترهيب والإنذار من الحكمة الملموحة في الحديث كما هو المتبادر.

_ (1) التاج ج 5 ص 387.

[سورة الكهف (18) : الآيات 32 إلى 44]

[سورة الكهف (18) : الآيات 32 الى 44] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44) . (1) حففناهما: لففناهما وطوقناهما من جميع الجوانب. (2) ولم تظلم منه شيئا: لم ينقص شيء من ثمره حيث كان وافرا من الجميع. (3) وكان له ثمر: الثمر هنا بمعنى كثرة المال الذي أثمر على صاحبه. (4) أعز نفرا: أقوى جماعة أو أنصارا أو أولادا. (5) تبيد: تهلك وتزول. (6) حسبانا: بلاء أو صاعقة. (7) صعيدا زلقا: أرضا يابسة تنزلق عنها القدم كناية عن شدة اليبوسة والجفاف. (8) غورا: غائرا في أعماق الأرض. (9) أحيط بثمره: كناية عن طروء البلاء على الجنات وثمرها.

تعليق على مثل الرجلين اللذين كان لأحدهما جنتان

(10) الولاية: قرئت واوها بالفتح من الموالاة، وتكون بمعنى في ذلك الوقت يكون النصر لله، وبالكسر ويكون بمعنى الحكم والسلطان لله. (11) خير عقبا: خير عاقبة. عبارة الآيات واضحة وقد تضمنت أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يضرب للكفار مثلا برجلين أحدهما كافر وثانيهما مؤمن. وكان للأول بستانان على أحسن حال من الزرع والغرس والماء والنمو. وكان له بسبب ذلك المال الوافر والقوة والأولاد والأنصار. فداخله الزهو وأخذ يتبجح أمام صاحبه المؤمن ويقول له إن ما هو فيه لن يزول وأنكر قيام الساعة ونيل ما هو خير مما عنده من عند الله. فرد عليه صاحبه مؤنبا على زهوه وخيلائه وكفره بالله وإنكاره قدرته مع أن الأولى به أن يحمده على نعمته عليه حتى يضمن دوامها وأعلنه تمسكه بإيمانه واعتماده على الله في تبديل حالته إلى خير من ثروته وجناته، وأنذره بما يستطيع الله أن يفعله به من تسليط البلاء على جنته وتغوير مائها وجعلها أرضا يابسة. ثم لم يلبث أن حل بلاء الله في الجنة ورأى الكافر مصداق إنذار المؤمن فأظهر الحسرة على ماله الذي ذهب هباء والندم على ما بدا منه في جانب الله وإشراكه معه الشركاء. ولكن ذلك لم يغنه فلم يستطع أحد أن ينصره في موقفه من الله تعالى حيث يكون الحكم والسلطان والنصر لله تعالى وحده. وجاءت الآية الأخيرة لتنبه على أن في مثل هذه المواقف يظهر البرهان الساطع على أن النصر الحقّ هو نصر الله وأن ما عنده هو الأفضل ثوابا وعاقبة. تعليق على مثل الرجلين اللذين كان لأحدهما جنتان ولقد روي «1» أن هذا المثل قصة أخوين من قريش من بني مخزوم أحدهما مؤمن فقير وهو أبو سلمه عبد الله، وثانيهما كافر غني وهو الأسود. كما روي أنه

_ (1) انظر الروايات والأقوال في تفسير الطبري والطبرسي والزمخشري والخازن.

[سورة الكهف (18) : الآيات 45 إلى 46]

قصة أخوين من بني إسرائيل أحدهما مؤمن اسمه يهوذا وثانيهما كافر غني اسمه قطروس أو يمليخا. وقال بعض المفسرين باحتمال أن يكون هذا المثل تصويريا وتقديريا لمؤمن وكافر. والذي نستلهمه من روح الآيات ومضمونها أن المثل في صدد حادث واقع أولا وأنه وقع في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم ثانيا. وعلى الأخص أنه ليس قصة إسرائيلية قديمة ولا تصويرية تقديرية وحسب. لأن الصورة التي تضمنها المثل صورة حجازية عربية سواء في الجنة ونخلها وأعنابها أم فيما ورد من حوار حولها أم في أشخاصها. والصلة قائمة بين هذه الآيات والآيات السابقة، والراجح أن ضمير وَاضْرِبْ لَهُمْ راجع إلى الكفار موضوع الكلام السابق وهو قول جمهور المفسرين أيضا. ولقد نددت الآيات السابقة بطبقة الزعماء والوجهاء التي كانت تتبجح بمركزها ومالها وقوتها وتحتقر فقراء المسلمين فجاءت هذه الآيات تسرد حادثا واقعا معروفا لهم لتدعم به ما جاء في الآيات السابقة من تقرير كون الفضل وأحسن العاقبة للإيمان والعمل الصالح وأن اعتداد الكفار بمالهم وقوتهم لن يغني عنهم من الله شيئا ثم تبثّ الطمأنينة والأمل في قلوب فقراء المؤمنين. وواضح أن المثل وتلقينه وما فيه من معالجة روحية مستمر المدى بالنسبة لكل موقف مماثل بين كافر ومؤمن. [سورة الكهف (18) : الآيات 45 الى 46] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46) . (1) اختلط به نبات الأرض: ارتوى به وكان سبب تكاثفه ونموه. (2) فأصبح: ثم أصبح.

تعليق على آية واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء إلخ ...

(3) هشيما: جافا مكسرا ملقى على الأرض تحركه الرياح. في الآية الأولى: أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يضرب مثلا آخر عن الحياة الدنيا فهي كالزرع الذي ينميه مطر السماء ثم لا يلبث أن يجف بعد قليل ويتكسر وتدفعه الرياح وتذروه، وبأن ينذرهم بأن الله مقتدر على كل شيء. وفي الآية الثانية: تقرير بأن المال والبنين هما زينة الحياة الدنيا التي مثلت في المثل والتي لن تلبث أن تزول، وأن الأعمال الصالحة هي وحدها الباقية التي تحوز رضاء الله وتكون مناط الأمل وحسن الثواب عنده. وقد جاءت الآية الثانية تعقيبية على الأولى وكنتيجة لها، والآيتان متصلتان بما سبقهما كذلك وموجهتان للكفار ومستهدفتان نفس هدف المثل الأول وتلقينهما مستمر المدى مثله. تعليق على آية وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ إلخ ... وننبه على أنه ليس في هذه الآيات ولا في التي قبلها قصد تنفير المؤمنين من الحياة وزينتها وطيباتها ولا قصد ازدراء شأنها إطلاقا. فقد جاءت في صدد التنديد بزهو الكفار وتبجحهم وازدرائهم بفقراء المؤمنين وتقرير أفضلية الإيمان والعمل الصالح والحثّ عليهما. وإذا كانت قد تضمنت التذكير بأن الحياة الدنيا والمال والثروة والقوة أعراض زائلة وقصيرة الأمد فإن هذا بسبيل ذلك التنديد والحثّ والتقرير. وهو إلى هذا تقرير لواقع الأمر حقا بالنسبة للحياة الدنيا وعمر الإنسان فيها. والضابط المحكم في هذا الأمر آية سورة الأعراف: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) وإذا كان من استدراك فهو ما تلهمه الآية التي قبل هذه الآية بخاصة والآيات القرآنية والأحاديث النبوية الكثيرة التي نبهنا عليها في مناسبات عديدة سابقة بعامة وهو الإيمان بالله والعمل الصالح والاعتدال وعدم الإسراف وعدم الاستغراق.

[سورة الكهف (18) : الآيات 47 إلى 49]

والجملة الثانية من الآية الثانية قد ورد ما يماثلها في سورة مريم وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار. [سورة الكهف (18) : الآيات 47 الى 49] وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) . (1) بارزة: مكشوفة. (2) فلم نغادر منهم أحدا: لم نترك أحدا لم نحشره أو نهمله. (3) مشفقين: خائفين. (4) ولا يظلم ربك أحدا: أحصى أعمالهم تماما بدون زيادة ولا نقص وعاملهم في ذلك بمنتهى العدل والحق. في الآيات: وصف ليوم القيامة وفزع الكفار فيه لما تحقق به وعد الله الذي كانوا يشكون فيه. وعبارتها واضحة، والوصف مخيف مفزع حقا، وقد استهدف به كما هو المتبادر فيما استهدف إنذار السامعين وبخاصة الكافرين المجرمين وإثارة الرعب والفزع فيهم وحملهم على الارعواء. والمتبادر أنها جاءت تعقيبية على ما قبلها حيث قررت الآيات السابقة أن العمل الصالح هو الباقي النافع وأن المال والبنين ليسوا إلّا زينة لمدة قصيرة، ثم تزول فجاءت هذه الآيات منذرة بالقيامة وهو لها وكيف يجاء بهم مجردين مما كانوا يتفاخرون به وكيف يعرضون على النار ويواجهون بكتب أعمالهم التي أحصت كل شيء عليهم.

ولقد روى البغوي بطرقه في سياق جملةما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ حديثا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّكم محشورون حفاة عراة غرلا ثم قرأ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) وأول من يكنى يوم القيامة إبراهيم وإنّ ناسا من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول أصحابي أصحابي فيقول إنهم لما يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم فأقول كما قال العبد الصالح وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم إلى قوله العزيز الحكيم» «1» . وحديثا آخر عن عائشة قالت: «قلت يا رسول الله كيف يحشر الناس يوم القيامة؟ قال: عراة حفاة. قالت: قلت والنساء؟ قال: والنساء. قالت: قلت يا رسول الله أنستحي؟ قال: يا عائشة الأمر أشدّ من ذلك أن يهمّهم أن ينظر بعضهم إلى بعض» «2» . والإيمان بما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشاهد الأخروية واجب مع الإيمان. فإنه لا بدّ من أن لذلك من حكمة. والترهيب والإنذار من الحكمة الملموحة في الحديثين مما فيه تساوق مع الهدف لذلك من حكمة. وقد يكون الإنذار والترهيب المنطويان في الحديثين من هذه الحكمة وفي ذلك تساوق مع الهدف القرآني أيضا. وقد يصح أن يقال إلى هذا استلهاما من روح الآيات ومقامها وسياقها أنه قد يكون انطوى فيها قصد تقرير كون الناس يحشرون مجردين من كل ما كانوا يعتزون به في الدنيا من مال وبنين وأنصار ليتحملوا بأنفسهم مسؤولية أعمالهم الإجرامية. بل ولعل هذا هو المقصود الجوهري من العبارة القرآنية في مقامها وسياقها وليس بين هذا وبين الحديثين تعارض كما هو واضح. وكتب أعمال الناس ذكرت مرارا في السور السابقة وشرحنا موضوعها وعلقنا عليه في سياق سورة (ق) بخاصة بما يغني عن التكرار، والعبارة هنا بسبيل تصوير

_ (1) آيات سورة المائدة [117- 118] روى هذا الحديث الشيخان والترمذي أيضا انظر التاج ج 5 ص 331. (2) وهذا الحديث أيضا رواه الشيخان والترمذي انظر المصدر نفسه.

[سورة الكهف (18) : آية 50]

ما سوف يكون من قرع الكفار حينما يجدون كل ما عملوه محصى عليهم لا فرق بين صغيرة وكبيرة. ولقد روى البغوي بطرقه عن سهل بن سعد في سياق جملة: لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «إياكم ومحقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب مثل قوم نزلوا بطن واد فجاء هذا بعود وجاء هذا بعود وجاء هذا بعود فأنضجوا خبزتهم وإن محقرات الذنوب لموبقات» . والحديث لم يرد بنصه في كتب الأحاديث الصحيحة. وقد أورد ابن كثير حديثا في معناه في نفس السياق عن سهل بن سعد من إخراج الطبراني وصحته محتملة. وفيه إن صحّ وصحته محتملة تحذير من التهاون من الذنوب الصغيرة. ولقد احتوت آية سورة النجم [32] ما يفيد أن الله تعالى يغفر الهفوات الصغيرة إذا اجتنب المسلم كبائر الإثم والفواحش، ولسنا نرى في الحديث نقضا فإن المتبادر أن المقصود منه هو الاستمرار على الصغائر وليس الهفوات الصغيرة غير المقصودة وغير المستمر عليها. والإشارة إلى تسيير الجبال يقصد به على ما تلهمه روح الآيات تصوير هول الآخرة ومشاهدها بالإضافة إلى ما في الخبر القرآني من حقيقة غيبية يجب الإيمان بها. ولقد تنوع ذكر مصير الجبال في الآخرة مما يمكن أن يكون قرينة على هذا القصد. والجبال تشغل من أذهان السامعين حيزا بسبب ضخامتها وعلوها مما يفسر حكمة التنزيل في تكرار ذكر مصائرها في الآخرة وهوانها على الله وقدرته. [سورة الكهف (18) : آية 50] وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) . (1) فسق: عصى وتمرد.

تعليق على وصف إبليس أنه من الجن وما أورده المفسرون في صدده

في الآية إشارة خاطفة إلى قصة إبليس وعصيانه لأمر الله بالسجود لآدم، وسؤال استنكاري وتنديدي موجه للكفار لاتخاذهم إياه وذريته أولياء من دون الله وهم أعداؤهم الألداء. وانتهت الآية بفقرة تنديدية قارعة، فلبئس ما فعل الظالمون باستبدالهم ولاية إبليس وذريته بولاية الله تعالى. والآية متصلة بالسياق اتصالا وثيقا من حيث كون سابقاتها خوفت الكفار وأنذرتهم فجاءت هذه لتقرعهم وتنبههم إلى أنهم في كفرهم إنما يتولون ويطيعون عدوهم إبليس. والإشارة هي أقصر إشارة إلى قصة إبليس في القرآن، والمتبادر أن الآية هي في صدد ما احتواه الشق الثاني من التقريع أكثر منها في صدد القصة، والحجة فيها قوية ملزمة والتقريع لاذع محكم. والمتبادر أن تعبير (اتخاذ إبليس وذريته أولياء من دون الله) قد قصد به إطاعتهم فيما يزينون من انحرافات وآثام على اعتبار أن ما يرتكس الناس فيه من ذلك إنما هو من وساوس إبليس وتزييناته. وهو ما فتئت الآيات تكرره وتقرره وهذا المفهوم لم يكن مجهولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة (ص) . تعليق على وصف إبليس أنه من الجنّ وما أورده المفسرون في صدده ويلحظ أن الآية هنا تقرر بصراحة أن إبليس من الجن في حين أن آيات قصة إبليس وآدم الأخرى احتوت فقط حكاية قول إبليس إنه خلق من نار وإنه أفضل من آدم الذي خلق من طين وتراب. ولقد أورد المفسرون «1» في سياق الآية روايات وأقوالا متنوعة ليس شيء

_ (1) انظر تفسير الآية في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.

منها واردا في كتب الصحاح. منها أن الجنّ جيل من الملائكة ومنها أن كلمة الجنّ يصح إطلاقها لغة على الملائكة لأنها من الاجتنان وهو الاستتار والخفاء. والذين قالوا هذا تفادوا به مما وهموا أنه تناقض في مفهوم القرآن لأن مقتضى جميع القصة في السور الأخرى أن يكون إبليس من الملائكة لأنه استثني منهم حيث جاءت الجملة: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ [50] ولا نرى طائلا ولا ضرورة إلى ذلك. فالآية صريحة بأن إبليس شيء والملائكة شيء آخر. والذين قالوا إن الجنّ جيل من الملائكة وإن كلمة الجنّ يصح أن تطلق على الملائكة وإن إبليس من الملائكة قد غفلوا فيما يتبادر لنا عن تقريرات القرآن الصريحة الأخرى بأن الجان قد خلقوا من نار. وعن حكاية قول إبليس أنه خلق من نار مما فيه حسم في قصد تقرير كون إبليس من الجنّ الناري. وكذلك غفلوا عن جمع الجنّ والملائكة في سياق واحد وهو آيات سورة سبأ هذه: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) ، مما فيه حسم بأن كلا منهم غير الآخر. ولقد روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خلقت الملائكة من نور وخلق إبليس من مارج من نار وخلق آدم ممّا وصف لكم» والنبي صلى الله عليه وسلم وحده هو المعتمد فيما فيه توضيح لما أجمله القرآن أو أطلقه أو سكت عنه وهذا الحديث من الأحاديث الصحيحة وقد انطوى على حسم آخر «1» . ولقد قال الزمخشري إن الفاء في كلمة فَفَسَقَ سببية لتقرير كون إبليس إنما فسق لأنه من الجن وليس من الملائكة. ولقد أورد المفسرون «2» في سياق هذه الآية بيانات كثيرة عن إبليس وذريته وتزاوجه وتناسله وأسماء أبنائه وحفدته وطرائق تصرفاتهم وتقسيمات وظائفهم إلخ دون ما سند، وليس فيها ما هو وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو وحده المعتمد في مثل

_ (1) انظر التاج ج 5 ص 263. (2) انظر كتب التفسير السابقة الذكر.

[سورة الكهف (18) : الآيات 51 إلى 53]

هذه البيانات. وليس في إيرادها طائل ولا ضرورة، وأكثرها أدخل في نطاق الخيال والخرافة، والواجب في هذا الأمر هو الوقوف عند ما وقف عنده القرآن دون تزيد ولا تخمين، لأنه من الحقائق الإيمانية المغيبة، مع ملاحظة الهدف القرآني الذي نبهنا عليه في المناسبات السابقة وبخاصة في سياق تفسير سورة (ص) . [سورة الكهف (18) : الآيات 51 الى 53] ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53) . (1) ما أشهدتهم: ما أحضرتهم. ومعناها هنا ما استشرتهم أو ما استعنت بهم. (2) موبقا: مهلكا أو برزخا حاجزا. (3) فظنوا: هنا بمعنى تيقنوا. (4) مصرفا: مخرجا أو معدلا إلى غيرها. في الآيات: 1- تقرير تنديدي بأن الله لم يستشر ولم يستعن بإبليس وذريته الذين يتخذهم الكافرون أولياء من دونه لا في خلق السموات والأرض ولا في خلق أنفسهم كما أنه لا يصح في العقل أن يتخذ الله المضلين الذين يزينون للناس الضلال والشرك أعضادا حتى يكون حينئذ مبرر للكافرين باتخاذهم أولياء وشركاء. 2- وحكاية لما سوف يخاطب الله المشركين به يوم القيامة حيث يتحداهم بدعوة شركائهم لنصرهم فيدعونهم فلم يلب دعوتهم أحد حيث يكون الله قد جعل بينهم برزخا حاجزا. 3- وإشارة إلى ما يكون من أمرهم حينئذ حيث يعرضون على النار فيتيقنون بأنهم واردوها وليس مناص ولا مصرف لهم عنها.

[سورة الكهف (18) : الآيات 54 إلى 59]

وواضح أن الآيات استمرار للسياق في صدد تقريع الكفار وتسفيههم، وقد أرجعنا ضمير الجمع الغائب في أَشْهَدْتُهُمْ إلى إبليس وذريته وأوّلنا الآية الأولى بما أوّلناها به استلهاما من روح الآيات والسياق وهو ما فعله المفسرون أيضا «1» . ومع أن الطبري أوّل كلمة مَوْبِقاً بمعنى هلاكا ومهلكا، وأن هذا المعنى ورد في آية في سورة الشورى بمعنى الإهلاك أيضا وهي: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا [34] فقد أورد الطبري في سياقها أقوالا معزوة إلى مجاهد وعبد الله بن عمرو وأنس بن مالك وقتادة أن الموبق هو واد في نار يوم القيامة، أو واد عميق يفرق الله به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة، أو واد في جهنم من قيح ودم. والتوقف في هذه الأقوال هو الأولى ما دامت لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو المصدر الوحيد الوثيق لمثل هذه المشاهد الغيبية الأخروية. [سورة الكهف (18) : الآيات 54 الى 59] وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59) . (1) قبلا: عيانا أمامهم. (2) موئلا: ملجأ.

_ (1) انظر الطبري والبغوي وابن كثير وغيرهم. [.....]

في الآية الأولى تقرير تنديدي بطبيعة الإنسان الجدلية والمرائية. فإن الله قد ضمن القرآن أنواع الأمثال وقلّب فيه وجوه الكلام لتذكير الناس وإنذارهم، ولكن طبيعة الجدل الغالبة في البشر تتحكم فيهم فتحول دون ارعوائهم وتذكرهم. وهذه الآية يمكن أن تكون تعقيبية على الآيات السابقة، كما يمكن أن تكون مقدمة للآيات التي بعدها، ونحن نرجح هذا لأن الآيات التي جاءت بعدها ذكرت مجادلة الكفار بالباطل لدحض الحق تعنتا ومكابرة ولذلك جعلناها معها. أما بقية الآيات فقد احتوت: 1- تنديدا بالكفار: فقد جاءهم الهدى فكان الأحرى بهم أن يهتدوا ويؤمنوا ويتوبوا إلى الله ويستغفروه عما فرط منهم. ولكنهم امتنعوا كأنهم ينتظرون ليؤمنوا أن يأتيهم عذاب الله عيانا أو تأتيهم سنة الله في الأمم السابقة من البلاء الصاعق. وفي موقفهم هذا ما فيه من الحمق والتفريط. 2- وإشارة تقريعية إلى موقف الكفار: فإنهم بدلا من أن يهتدوا وينتفعوا بالهدى يلجأون إلى الجدل الباطل ليبطلوا به الحق ويغطوا عليه، ويتخذوا آيات الله ونذره هزؤا وسخرية. 3- وتساؤلا تنديديا عما إذا كان يوجد من هو أشد ظلما وحمقا وانحرافا ممن يذكر بآيات الله ويدعى إلى الحق فيعرض ويتصامم ولا يبالي سوء العاقبة وما يقترفه من آثام. 4- وتعليلا لهذا الموقف: فإن الذين يقفون مثل هذا الموقف يكونون قد قست قلوبهم فلا تفقه دعوة الحق، وصمّت آذانهم فلا تسمع كلمة الحق. فإذا دعوا إلى الهدى فلا يهتدون البتة بطبيعة الحال. 5- وتقريرا لحكمة الله في إمهالهم: فالله متصف بالغفران والرحمة من جهة فيتجاوز عن مثل هذا الطيش والتصامم رجاء أن يثوب أصحابها في النهاية إلى الحق ويرعووا عن موقفهم الباطل. واقتضت حكمته من جهة أخرى إمهالهم إلى

موعد معين في علمه لن يجد الذين يصرون على ذلك الموقف من عذاب الله فيه موئلا ومهربا. ولولا صفات الله تلك وحكمته هذه لعجّل لهم العذاب. 6- وتدليلا على ذلك بما كان من شأن الأمم السابقة: فقد ظلمت وانحرفت فأهلكها الله في الموعد الذي عينه لها. وواضح أن الآيات استمرار للسياق أيضا، وقد وجهت إلى العقول والقلوب معا بأسلوب قوي نافذ. وتعبير إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً هو تعبير أسلوبي سبق أمثاله في سورة (يس) وغيرها بقصد بيان شدة تعامي الكفار وتصاممهم عن الحق، وأوّلناه بما أوّلناه لأن ذلك مما تلهمه الآيات سواء في تنديدها وتقريعها أم في إنذارها. كما أنه هو المتسق مع التقريرات القرآنية العامة على ما نبهنا عليه في المناسبات المماثلة السابقة عدا أنه فيما هو المتبادر تسجيل لواقع أمرهم حين نزول الآية بدليل أن قلوب معظمهم تفتحت فيما بعد فاهتدوا وآمنوا. وهذا يقال أيضا بالنسبة للآية: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا (55) . والمتبادر أن جملة وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا هي بسبيل التنديد بخلق المجادلة والمماراة الذي يكون في كثير من الناس وبخاصة الذي لا يكون من أجل الحق وإنما من أجل الباطل. وهو ما ذكر في آية أخرى من الآيات نفسها. وينطوي في ذلك تلقين مستمر المدى بتقبيح ذلك كما هو المتبادر. ولقد أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث متساوقة مع هذا التلقين أوردنا بعضها في سياق تفسير الآية [58] من سورة الزخرف لأنها متناسبة معها. وهذه بعض أحاديث أخرى مطلقة المدى تتناسب مع الجملة التي نحن في صددها، من ذلك حديث رواه الشيخان والنسائي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخصم» «1» . وحديث رواه الترمذي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ترك الكذب

_ (1) التاج ج 3 ص 63.

[سورة الكهف (18) : الآيات 60 إلى 82]

وهو باطل بني له في ربض الجنة ومن ترك المراء وهو محقّ بني له في وسطها ومن حسّن خلقه بني له في أعلاها» «1» . وحديث رواه الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كفى بك إثما ألّا تزال مخاصما» «2» . [سورة الكهف (18) : الآيات 60 الى 82] وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82) .

_ (1) التاج ج 5 ص 37. (2) المصدر نفسه.

(1) أو أبلغ حقبا: قيل إن الحقب سبعون أو ثمانون سنة، والمتبادر من العبارة أنها بسبيل بيان أنه سيظل يسير في طريقه حتى يبلغ ما أراد مهما طال عليه الزمن. (2) الحوت: يطلق على السمكة الكبيرة. (3) ذلك ما كنا نبغي: هذه علامة المحلّ الذي كنا نقصده. (4) فارتدا على آثارهما قصصا: فرجعا يسيران على آثار أقدامهما حتى يبلغا المحل بدون ضلال. (5) وآتيناه من لدنا علما: اختصصناه بعلم منا. (6) حتى أحدث لك منه ذكرا: حتى أكون أنا الذي أخبرك بسببه بدون سؤال منك. (7) إمرا: شيئا عظيما. (8) ولا ترهقني من أمري عسرا: لا تحملني العسر أو لا تشتد عليّ باللوم. (9) نفسا زكية: نفسا بريئة لم ترتكب ذنبا. (10) نكرا: منكرا. (11) قد بلغت من لدني عذرا: قد صرت عندي معذورا على عدم مصاحبتك لي بعد ما جرى. (12) لاتخذت عليه أجرا: لتقاضيت عليه أجرة. (13) أن يرهقهما طغيانا وكفرا: أن يحملهما تبعة طغيانه وكفره أو يشقيهما بذلك.

تعليقات على قصة موسى والعبد الصالح

(14) خيرا منه زكاة: أكثر طهارة وبراءة واستقامة. (15) أقرب رحما: أكثر منه رعاية لصلة الرحم أو أكثر منه رحمة أو برّا بوالديه. (16) تأويل: بينا اشتقاق ومعاني هذه الكلمة المتعددة في سورة الأعراف والمتبادر من الآية أنه هنا بمعنى سببه الحقيقي أو الحافز الحقيقي عليه. هذا الفصل يحتوي قصة لقاء ومحاورة بين موسى وعبد من عباد الله الصالحين اختصه بعلم خاص منه، وعبارة آياته واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. تعليقات على قصة موسى والعبد الصالح ولقد تعددت الأحاديث والروايات التي أوردها المفسرون في صدد القصة. والمستفاد منها بدون خلاف أن موسى هو نبي بني إسرائيل المشهور وأن العبد الصالح هو الخضر وأن فتى موسى هو يوشع بن نون. وفي كتاب التفسير في صحيحي البخاري ومسلم وسنن الترمذي حديث طويل جاء فيه «1» : «أن سعيد بن جبير قال لابن عباس: إن نوفا البكّاليّ يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل فقال: كذب عدوّ الله «2» حدثني أبيّ بن كعب أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل: أيّ الناس أعلم؟ قال: أنا. فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه فأوحى الله إليه: إنّ لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى: يا ربّ

_ (1) انظر التاج ج 4 ص 148- 151. (2) يظهر من العبارة أن هذا الرجل غير مسلم. وفي كتب التفسير أنه ابن زوجة كعب الأحبار اليهودي الأصل (انظر تفسير الطبري والبغوي للآيات) . ويروي المفسرون أن نوفا قال: إن موسى المذكور في القصة هو موسى بن يشا، وقد يكون قال القولين في مجلسين فساق ابن عباس الحديث لتكذيبه.

فكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ. فأخذ حوتا في مكتل ثمّ انطلق ومعه فتاه يوشع بن نون حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما. واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، وفي رواية في أصل الصخرة عين يقال لها الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيي فأصاب الحوت من مائها فتحرّك وانسلّ من المكتل فدخل البحر فلما استيقظ موسى نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. قال: ولم يجد النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلّا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا. قال فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا. قال موسى: ذلك ما كنّا نبغ فارتدّا على آثارهما قصصا قال رجعا يقصّان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجّى بثوب فسلّم عليه موسى فقال الخضر: وأنّي بأرضك السلام، قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، أتيتك لتعلّمني ممّا علّمت رشدا. قال: إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى إني على علم من علم الله علّمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علّمك الله لا أعلمه. فقال له موسى: ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا، فقال له الخضر: فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرّت سفينة فكلّموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى: قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئا إمرا، قال: ألم أقل إنّك لن تستطيع معي صبرا، قال: لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا. قال: وقال رسول الله وكانت الأولى من موسى نسيانا. قال: وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر من البحر نقرة، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك في علم الله إلّا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا

البحر. ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه فقتله، فقال له موسى: أقتلت نفسا زاكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا، قال: ألم أقل لك إنّك لن تستطيع معي صبرا. قال: وهذه أشدّ من الأولى. قال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدنّي عذرا. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقضّ فأقامه الخضر بيده، فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيّفونا، لو شئت لاتخذت عليه أجرا، قال: هذا فراق بيني وبينك سأنبّئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وددنا أن موسى كان صبر حتى يقصّ الله علينا من خبرهما. قال سعيد بن جبير «1» : وكان ابن عباس يقرأ وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وكان يقرأ: وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ [80] وقد روى الترمذي «2» في سياق هذا الحديث حديثا عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا» وروى هذا «3» أبو داود وزاد عليه: «لو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا» وروى الترمذي في نفس السياق «4» عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّما سمّي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزّت تحته خضراء» . والمتبادر أن القراءة المنسوبة إلى ابن عباس وفيها زيادة على النص القرآني المتواتر بدون انقطاع كانت بسبيل التفسير والتوضيح. وهناك رواية تذكر أن اليهودي نوفا قال إن صاحب الخضر هو موسى بن ميشا أو ابن يشا وليس موسى النبي. وإلى جانب هذا الحديث الصحيح فإن المفسرين يروون روايتين أخريين عن سبب لقاء موسى بالخضر «5» جاء في إحداهما عن ابن عباس: أن موسى سأل ربّه

_ (1) انظر التاج أيضا ج 4 ص 151. (2) انظر التاج أيضا ج 4 ص 151. (3) انظر المصدر نفسه. (4) انظر المصدر نفسه. (5) انظر تفسير الطبري والبغوي.

فيما سأل أيّ عباده أعلم؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عساه يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو تردّه عن ردى، قال: ربّ فهل في الأرض أحد؟ قال: نعم، قال: فمن هو؟ قال: الخضر. ثم تستمر الرواية في القصة في نطاق ما جاء في الآيات وفي الحديث الجامع مع شيء من الزيادة والنقص. وجاء في ثانيتهما عن قتادة أن موسى هو الذي حدثته نفسه بأنه ليس على وجه الأرض من هو أعلم منه فكره الله له ذلك وأراد أن يعرّفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه وأنه لم يكن له أن يحتم على ما لا علم له به ولكن كان ينبغي له أن يكل ذلك إلى عالمه. وننبه على أن القصة لم تذكر في أسفار العهد القديم، ولكن هذا لا يمنع أن تكون واردة في أسفار إسرائيلية لم تصل إلينا ما دام أن موسى هو النبي المشهور، شأن كثير من القصص الإسرائيلية التي وردت إشارة ما إليها في القرآن ولم ترد في الأسفار المتداولة اليوم، على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. والروايات العديدة في صددها «1» التي فيها زيادات أو بيانات أكثر مما جاء في الآيات قد تدل على أن القصة مما كان معروفا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم والمصدر المرجح لذلك هم اليهود وأسفارهم. ونحن في صدد القصص القرآنية عامة على اعتقاد أنها أوردت لتدعيم الدعوة النبوية ومن أجل ما احتوته من مواضع العبرة والموعظة والتمثيل والتذكير، ونعتقد أن هذا يشمل هذه القصة أيضا وإن كانت تبدو أنها جاءت مستقلة عن السياق السابق أولا وجاءت كقصة لذاتها ثانيا. فمما قاله الطبري إن هذه القصص التي أخبر الله عز وجل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بها عن موسى وصاحبه تأديب منه له وتقدم إليه بترك الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذبوا واستهزأوا به وبكتابه وإعلام منه له أن أفعاله بهم وإن جرت فيما ترى الأعين بما قد يجري مثله أحيانا لأوليائه فإن تأويله صائر بهم إلى أحوال أعدائه فيها كما كانت أفعال صاحب موسى واقعة بخلاف حقيقة الصحة في الظاهر عند

_ (1) انظر تفسير الطبري.

موسى إذا لم يكن عالما بعواقبها وهي ماضية على الصحة في الحقيقة وآئلة إلى الصواب في العاقبة. وينبىء عن صحة ذلك قوله وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا، ولقد أورد المفسر القاسمي طائفة من مواضع العبرة والعظة والتلقينات في القصة نقلا عن مصادر عديدة منها استحباب الرحلة في طلب العلم وتجشم المشاق في ذلك. واستزادة العالم من العلم. وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة. والتحذير من عجب المرء بعلمه. وجواز إتلاف مال الغير أو تعييبه لوقاية باقية. وارتكاب مفسدة خفيفة توقيا من مفسدة شديدة. وعدم جواز ترك بناء أو متاع يفسد ويخرب دون بذل الجهد لتلافي ذلك. وعدم استحسان مبادرة المرء إلى إنكار ما لم يستحسنه أو يعرف أسبابه ووجوب الوفاء بالشروط والاعتذار من النسيان والخطأ والتأميل في رحمة الله وعنايته بالذرية التي يتركها الآباء والصالحون. ويحسن أن يضاف إلى هذا استلهاما من الحديث الجامع أن الإنسان مهما أوتي من العلم والحظوة فيجب أن يكون متواضعا لله وأن يلحظ دائما أن من المحتمل أن يكون غيره أفضل منه وأعلم منه وأحظى منه عند الله. ولقد يلهم الحديث الجامع بالإضافة إلى ما تقدم أن بين هذه القصة وبين الآيتين [23- 24] اللتين وردتا في ثنايا آيات قصة أصحاب الكهف شيء من المناسبة. فالآيتان احتوتا أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بألا يقول لشيء إني فاعل ذلك غدا إلّا أن يشاء الله مما قد يكون فيه عتاب لوعده بشيء دون إناطة ذلك بمشيئة الله على ما رواه الرواة، ولعل هذا أدى إلى قيل وقال واستغراب وسؤال فأوحى الله بآيات القصة التي لم تكن مجهولة لبيان كون بعض الأنبياء السابقين أيضا قد وقعوا في شيء من الخطأ العفوي الذي قد يكون مرده الطبيعة البشرية، وإذا صح هذا فيكون بين هذا الفصل وبين فصول السورة السابقة صلة ما على ما هو المتبادر. ولقد أورد المفسرون أقوالا متنوعة أخرى غير واردة في الحديث الصحيح

معزوة إلى ابن عباس وقتادة والضحاك والحسن وغيرهم في صدد بعض نقاط القصة. من ذلك أن مجمع البحرين هو مكان اجتماع بحر فارس وبحر الروم أحدهما قبل المشرق والآخر قبل المغرب. أو أنه طنجة أو أنه بالمغرب. ومن ذلك أنه كان في المكان الذي أوى موسى وفتاه إليه عين ماء الحياة فمس جسد الحوت الماء فدبت إليه الحياة مع أنه كان قد أكل بعضه فتحرك ثم تسرب إلى البحر وكان يتجمد محل تسربه فلما عاد موسى وفتاه إلى مكانهما الأول وجدا مسارب الحوت متجمدة في البحر فسارا عليه حتى بلغا جزيرة في البحر فلقيا الخضر فيها. ومن ذلك أن الملك الذي كان يأخذ السفن هو هدد بن بدد من ذرية العيص بن اسحق. أو الجلندي الأزدي! ومن ذلك أن القرية التي أبت أن تضيفهما هي أنطاكية أو أيلة أو قرية على ساحل البحر اسمها الناصرة التي سميت النصارى بها!. ومن ذلك أن الكنز الذي كان تحت الجدار هو صحف علم أو لوح من ذهب مكتوب على أحد جانبيه (بسم الله الرّحمن الرّحيم. عجبت لمن يؤمن كيف يحزن. وعجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح. وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها. لا إله إلا الله محمد رسول الله) . وعلى جانبه الآخر (أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي. خلقت الخير والشر. فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه) . ويقول البغوي الذي نقلنا عنه النص وهذا قول أكثر المفسرين، وروي مع ذلك أن الكنز كان مالا مكنوزا. ومن ذلك أن الخضر هو لقب للرجل وأن اسمه بليا بن ملكان وقيل إنه من نسل بني إسرائيل وقيل إنه من أبناء الملوك وقد تزهد. وقيل إنه نبي وقيل إنه ولي قد خصّه الله بعلمه اللدني أي الغيبي. وروي في صدده مع ذلك أنه كان وزيرا لذي القرنين فأراد هذا أن يكتشف عين الحياة فدخل الظلمة وكان الخضر على مقدمته فاهتدى إلى العين وشرب واغتسل منها فصار حيا خالدا. ومما قاله الخازن إن أكثر العلماء والمتفق عليه عند مشايخ الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة على أنه حي. والحكايات في رؤيته والاجتماع به وبوجوده في المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن تحصر.

ومع هذا فالخازن قال أيضا إن هناك من قال إنه ميت. وهذا ما قاله غيره حيث قالوا: إن حياته وموته مختلف فيهما. ومما رووه أن الله أبدل والدي الغلام الذي قتله الخضر بغلام أو بجارية أنجبت سبعين نبيا وأن الغلام كان قاطع طريق مفسدا تأذى منه أبواه. ومما روي أنه قيل لابن عباس لم نسمع لفتى موسى بذكر في حديث موسى والخضر وكان معهما؟ فقال: شرب الفتى من الماء فخلد فأخذه العالم معه فطابق به سفينة ثم أرسله في البحر فإنها لتموج به إلى يوم القيامة!. ومما رووه: «أنّ موسى لمّا أراد أن يفارق الخضر قال له: أوصني؟ قال: لا تطلب العلم لتحدّث به واطلبه لتعمل به» . والمرويات المذكورة غير وثيقة الأسناد، وفيها ما يتناقض مع نصّ الحديث الصحيح، وفيها ما يتناقض مع الحقائق العلمية والتاريخية المعروفة، وفيها ما يتناقض مع العقل والنقل. ومسألة حياة الخضر بخاصة مخالفة لنص القرآن الذي يقول: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ سورة الأنبياء: [34] وقد نبّه البغوي إلى هذا في معرض تأييد عدم صحة حياته. وقد روى القاسمي عن البخاري وابن حبان وابن تيمية وغيرهم نفيهم الجازم لحياة الخضر وقول بعضهم إنه لا يقول بذلك إلا المغفلون. وفي تفسير القاسمي استطرادات إلى تعليل ورود جملة: أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها [77] دون الاكتفاء بجملة «فاستطعماهم» وورود جملتي ما لَمْ تَسْتَطِعْ [78] وما لَمْ تَسْطِعْ [82] والفرق بينهما. وجواز نسبة الإرادة إلى الجدار في اللغة العربية ومدى ما في جملة فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها [79] وفَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً [81] وفَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما [82] في سياق تعليل الخضر لما فعله وجواز ما فعله من أمور في نظر الشرع وبخاصة قتله للغلام النفس الزكية ... ونقول بالنسبة لما رؤي أنه إشكالات لغوية إنه لا يصح أن يفرض أي إشكال لغوي في القرآن بعد أن قرر إنه بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ سورة الشعراء: [195] وإنه

[سورة الكهف (18) : الآيات 83 إلى 101]

قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ سورة الزمر: [28] ولا بد من أن يكون كل ما ورد فيه عربيا مبينا سائغا بالأسلوب العربي الفصيح. ونقول بالنسبة للنقاط الأخرى إنها لا طائل من التعلق بها والحوار في صددها فهي من قصة شاءت حكمة التنزيل أن ترد في القرآن بالصيغة التي وردت بها وينبغي أن تبقى في نطاقها وأن يوقف منها عند ما وقف عنده القرآن والحديث النبوي الصحيح مع استلهام ما فيها من موعظة وعبر والله تعالى أعلم. [سورة الكهف (18) : الآيات 83 الى 101] وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) . (1) وآتيناه من كل شيء سببا فأتبع سببا: كلمة السبب الأولى بمعنى الوسيلة الموصلة إلى المقصد أو العلم. والثانية بمعنى الطريق أو السير نحو القصد.

تعليقات على قصة ذي القرنين ويأجوج ومأجوج وتليقناتها

(2) في عين حمئة: عين ماء حار أو أرض طينية مستنقعة سوداء. وجملة تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ينبغي أن تحمل من حيث المدى اللغوي على المجاز بحيث تفسر بمعنى (كأنها تغرب في عين حمئة) أو مثل قولنا (غرقت الشمس في البحر) ونحن نعلم أنها لم تغرق في البحر وإنما صارت في نظرنا وراءه. (3) لم نجعل لهم من دونها سترا: إما أنها بمعنى أنهم ليسوا على شيء من الحضارة ووسائلها أو بمعنى أنه ليس في أرضهم جبال ولا شجر ولا بناء يقيهم الشمس حين طلوعها. (4) أحطنا بما لديه خبرا: علمنا بكل ما قام به، أو كان كل ما قام به في علمنا وإحاطتنا. (5) خرجا: ضريبة. (6) زبر الحديد: قطع الحديد. (7) بين الصدفين: بين الطرفين المتقابلين وقيل بين الجبلين. (8) قال انفخوا: كناية عن طلب إحماء الحديد في النار. (9) قطرا: النحاس الذائب أو القطران أو الزفت الذائب وهذا هو الأرجح. (10) وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض: يموج بمعنى يتحرك باضطراب. ومعنى الجملة تركناهم يضطربون فيما بينهم بالحركات والاختلاط. تعليقات على قصة ذي القرنين ويأجوج ومأجوج وتليقناتها هذا فصل في قصة ذي القرنين، والآية الأولى منه تدل على أنه أوحي به جوابا على سؤال أو ردّ على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تضمنت الآية التنبيه على أن ما جاء في القصة هو بعض أخبار ذي القرنين، وفعلا فإن الفصل لم يتضمن إلّا بعض إشارات مقتضبة، غير أن هذه الإشارات احتوت صورة ضخمة عن سعة وعظمة ما بلغ إليه سلطان ذي القرنين وفتوحاته.

وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر، وقد انتهت بالإشارة إلى يوم القيامة وبإنذار الكفار والتنديد بهم بسبب موقف العناد والمكابرة الذي وقفوه حتى كأنهم لا يسمعون ولا يرون. والآيات تلهم أن ذا القرنين وأخباره وفتوحاته مما كان يتحدث به في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره وأن شخصيته كانت معروفة وأنه كان يقوم جدال حولها أو لعلّها كانت موضوع غلوّ ومبالغات تبعث على التعجب والتساؤل فكان هذا من أسباب السؤال. ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات مدنية، ولقد أوردنا في سياق تفسير الآية [85] من سورة الإسراء أن السؤال عن ذي القرنين هو أحد أسئلة ثلاثة سألها يهود المدينة من النبي صلى الله عليه وسلم. وقد فندنا هذه الرواية وفندنا رواية مدنية هذه الآية التي أوردت في صددها. وما قلناه هناك نقوله هنا فلا ضرورة للإعادة. وقد أعيدت هنا أيضا رواية رويت وأوردت في سياق آية الإسراء المذكورة تذكر أن الأسئلة الثلاثة أوردت في مكة من قبل المشركين بإيعاز من اليهود. وقد فندنا كون هذه الأسئلة أوردت على النبي صلى الله عليه وسلم في ظرف واحد هناك فلا ضرورة للإعادة. ولقد روى الطبري في سياق تفسير هذه الآيات بطرقه حديثا عن عقبة بن عامر جاء فيه: «كنت يوما أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت من عنده فلقيني قوم من أهل الكتاب فقالوا: نريد أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذن لنا عليه فدخلت عليه فأخبرته فقال: ما لي وما لهم ما لي علم إلّا ما علّمني الله ثم قال: اسكب لي ماء فتوضأ ثمّ صلّى فما فرغ حتى عرفت السرور في وجهه ثم قال: أدخلهم عليّ ومن رأيت من أصحابي. فدخلوا فقاموا بين يديه فقال: إن شئتم سألتم فأخبرتكم عما تجدونه في كتابكم مكتوبا وإن شئتم أخبرتكم. قالوا: بلى أخبرنا. قال: جئتم تسألوني عن ذي القرنين وما تجدونه في كتابكم. كان شابا من الروم فجاء فبنى مدينة مصر الاسكندرية فلما فرغ جاءه ملك فعلا به في السماء فقال: ما ترى؟ فقال: أرى مدينتي ومدائن، ثم علا به فقال ما ترى؟ فقال: أرى مدينتي، ثم علا

به فقال ما ترى؟ قال: أرى الأرض، قال: فهذا اليمّ محيط بالدنيا، إن الله بعثني إليك تعلّم الجاهل وتثبت العالم، فأتى به السدّ وهو جبلان ليّنان يزلق عنهما كل شيء ثم مضى به حتى جاوز يأجوج ومأجوج. ثم مضى به إلى أخرى وجوههم وجوه الكلاب يقاتلون يأجوج ومأجوج، ثم مضى به حتى قطع به أمة أخرى يقاتلون هؤلاء الذين وجوههم وجوه الكلاب ثم مضى حتى قطع به هؤلاء إلى أمة أخرى قد سمّاهم» .. والحديث غير وارد في كتب الأحاديث الصحيحة وراويه من العهد المدني ويفيد على أن السؤال من يهود المدينة. وليس فيه ما يفيد مع ذلك أن الآيات نزلت بناء على هذا السؤال. وقد تضمن جوابا على السؤال بحيث لم يبق محل ليقال ذلك أيضا. ويكون إيراده في سياق الآيات في غير محله أيضا فضلا عن أن نصه وعدم وروده في الكتب الصحيحة يسوغان التوقف فيه. ولقد أورده ابن كثير وقال إنه لا يصح وفيه نكارة، وأكثر ما فيه من أخبار بني إسرائيل أي ما عرف بالإسرائيليات. وإلى هذا فإن الطبري روى أيضا أن السؤال أورد على النبي من المشركين في مكة. وإيراده في مكة هو ما نكاد نجزم به وإيراده من المشركين محتمل. وإن كنا نرجح هنا كما رجحنا في صدد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أنه أورد من بعض المسلمين. وصيغة السؤال قد يسوغ هذا الترجيح فضلا عن ما ذكرناه من حالة التوتر واللجاج القائمة بين المشركين من ناحية والنبي من ناحية التي تجعل سؤالهم بعيد الاحتمال. وقد يصح أن يضاف إلى هذا احتمال كون ورود السؤال عن ذي القرنين كان في ظرف مقارب لورود السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أو معه. ويقوي هذا الاحتمال ورود القصتين في سورة واحدة. ولقد احتوت كتب التفسير «1» بيانات كثيرة ومسهبة منها المعزوّ إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل علي بن أبي طالب وابن عباس وأبي سعيد وعبد الله بن

_ (1) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري والقاسمي وغيرهم، ومنهم من يتطابق مع من سبقه كأنما ينقل عنه وفي بعض ما يورده بعضهم زيادة ونقص وتغاير أيضا.

مسعود وبعض علماء التابعين مثل عطاء وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جريج ومحمد بن إسحق الذي يعزو كلامه إلى «بعض من يسوق الأحاديث من الأعاجم من أهل الكتاب ممن قد أسلم مما توارثوا من علم ذي القرنين، ووهب بن منبه اليماني الذي يوصف بأنه من أهل العلم بأحاديث الأولين سواء أكان في صدد شخصية ذي القرنين أم في ماهية يأجوج ومأجوج أم في البلاد التي طوّف فيها ذو القرنين. وفي بعضه تعدد واختلاف وتناقض. وكثير منه بل أكثره أدخل في الخيال منه في الحقيقة. وإن كان يدل في مجمله على أن أخبار ذي القرنين وشهرته مما لم يكن مجهولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره وهو مما تلهم الآيات أيضا كما قلنا قبل. ولقد رووا فيما رووه عن شخصية ذي القرنين أنه نبي أو أنه عبد صالح أحب الله وأحبه الله أو أنه ملك عادل، أو أنه رجل من أهل مصر اسمه مرزبان بن مرذبة من ولد يونان بن يافث بن نوح. أو أنه الإسكندر بن فيلقوس بن ياملوس الرومي أو أنه الإسكندر المشهور الذي بنى الاسكندرية، وفتح بلاد الشام ومصر وبيت المقدس. أو أنه ابن عجوز من عجائز الروم اسمه الإسكندر، أو أنه كان في زمن إبراهيم عليه السلام وطاف معه الكعبة وقرّب قربانا فيها أو أنه من الملائكة، أو أنه ملك حميري اسمه أبو كرب وهو الذي افتخر به الشاعر الحميري بقوله في القصيدة المشهورة: قد كان ذو القرنين جدي مسلما ... ملكا علا في الأرض غير مفند بلغ المشارق والمغارب يبتغي ... أسباب ملك من كريم مرشد فرأى مآب الشمس عند غروبها ... في عين ذي خلب وثأطة حرمد وأن عمره بلغ ألفا وثلاثين سنة وكان وزيره الخضر صاحب موسى وقد دخل معه في الظلمة حينما أراد أن يكتشف عين الحياة فاهتدى الخضر إليها دونه فشرب واغتسل منها فكتبت له الحياة إلى آخر الزمان!. ورووا فيما رووه عن سبب تسميته بذي القرنين أنه كان عبدا ناصح الله فناصحه فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات فأحياه الله فدعا قومه ثانية فضربوه على قرنه الثاني فمات فسمي بهذا الاسم،

أو لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها، أو لأنه ملك الروم والفرس، أو لأنه دخل النور والظلمة، أو لأنه رأى في المنام أنه أخذ بقرني الشمس، أو لأنه كانت له ذؤابتان أو قرنان، أو لأن صفحتي وجهه كانتا من نحاس! ولقد ذكروا فيما ذكروه عن يأجوج ومأجوج أن الكلمتين اشتقاقان عربيان من تأجيج النار أو معرّبتان وأن القومين من أولاد يافث بن نوح وأنهم جيل من الترك أو أن الترك سرية منهم خرجت قبل أن يضرب ذو القرنين السد فتركت خارجه فسميت تركا. وأنهم 22 قبيلة وأنهم تسعة أعشار بني آدم. وأنهم أمتان كل أمة أربعة آلاف أمة أو أربعمائة ألف أمة. ولا يموت الرجل منهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد ولا تموت الأنثى منهم حتى يخرج من رحمها ألف ولد. وهم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال أرز الشام طوله (120) ذراعا في السماء. وصنف عرضه وطوله سواء (120) ذراعا وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد. وفي رواية أخرى أن الواحد منهم في نصف قامة الإنسان العادي. ولهم مخالب وأنياب وعليهم شعر يقيهم الحرّ والبرد ولكل منهم أذنان عظيمة يلتحف بواحدة ويفترش الأخرى. ويتداعون تداعي الحمام ويعوون عواء الكلاب ويتسافدون تسافد البهائم. ولا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير ولا كلب إلّا أكلوه ومن مات منهم أكلوه. وإن آدم احتلم ذات ليلة فامتزجت نطفته بالتراب فخلق الله من ذلك يأجوج ومأجوج فهم متصلون ببني آدم من جهة الأب، وكانوا يخرجون من بلادهم في الربيع فلا يدعون أخضر إلّا أكلوه ولا يابسا إلا حملوه. وقد كانوا في المشرق حيث وجد الإسكندر حينما بلغ إليه أمة صالحة من الإنس قالوا له: إن بين هذين الجبلين خلقا فيهم كثير من مشابه الإنس وهم أشباه البهائم وهم يفسدون في الأرض كلما خرجوا إليها. وقد أمهم الإسكندر وكلمهم فلم يفقهوا شيئا من قوله وتحقق عنده خطرهم فأنشأ السد بين الجبلين وجعله في عرض خمسين فرسخا وطول مائة فرسخ وحشاه بالصخور وجعله طينة من النحاس المذاب ثم جعل منه زبر الحديد وصبّ عليه القطران حتى صار كأنه برد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد. ولقد سردوا في سياق طويل عجيب خصب بالخيال قصة تطواف ذي

القرنين في الأرض شرقا وغربا معزوة إلى وهب بن منبه خلاصتها أن ذا القرنين الذي هو في رواية وهب كان ابن عجوز من الروم اسمه الإسكندر وصفحتا وجهه من النحاس لما بلغ وكان عبدا صالحا ناداه الله وقال يا ذا القرنين، إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم، منهم أمتان بينهما طول الأرض إحداهما عند مغرب الشمس يقال لها ناسك والأخرى عند مطلعها يقال لها منسك وأمتان بينهما عرض الأرض إحداهما في القطر الأيمن يقال لها هاويل والأخرى في الأيسر يقال لها تاويل. وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج. فقال: يا رب بأي قوة أكاثرهم وبأي لسان أناطقهم فقال له: إني سأقويك وأبسط لسانك لتفهم لغة كل قوم وتنطق بها وأشد عضدك فلا يهولنك شيء وألبسك الهيبة فلا يروعنك شيء وأسخّر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك. وأن الله سخر له السحاب فحمله عليه وبسط له النور فكان الليل والنهار له سواء، وسهل عليه السير في الأرض وذلل له طرقها حتى بسط سلطانه على أممها وعامل المؤمنين منهم بالحسنى والكافرين بالشدة والعذاب. ومما رووه في سياق الآية [86] أنه كان لمدينة القوم الذين وجدهم عند مغرب الشمس اثنا عشر ألف باب وكان اسمها مريحا ويسكنها قوم من نسل ثمود ولولا ضجيجهم لسمع وجيب الشمس حين تغرب من شدة قربهم من مغربها. وأن ابن عباس اختلف مع معاوية على قراءة عَيْنٍ حَمِئَةٍ [81] حيث كان الأول يقرأها (عين حمئة) بمعنى طينة سوداء والثاني يقرأها (عين حامية) بمعنى عين ماء حار وأنهما اتفقا على تحكيم كعب الأحبار فأرسلا إليه يسألانه كيف يجد الشمس تغرب في التوراة؟ فقال لهم: إنها تغرب في طينة سوداء، فوافق بذلك ابن عباس! ورووا في سياق الآية [88] أنه لم يكن بين القوم الذين وجدهم عند مطلع الشمس وبين الشمس ستر من جبل ولا شجر ولا يستقر على أرضهم بناء فإذا طلعت الشمس نزلوا إلى الماء أو اندسوا في سراديب في الأرض حتى تزول فيخرجون إلى معايشهم وأنهم من نسل مؤمني قوم هود وأن اسم مدينتهم مرقيسا وهم مجاورون يأجوج ومأجوج.

وواضح أن معظم الأقوال جزاف لا تتسم بأية سمة علمية وتاريخية عدا ما يشبه اسم وتاريخ الإسكندر المكدوني المعروف باستثناء خرافة عمره ووزارة الخضر له وعين الحياة التي شرب منها هذا الخضر. ومع بقاء ثغرة هامة لم يحاول راوي اسم الإسكندر سدّها وهي ما هو معروف من وثنية الإسكندر المكدوني ومقتضى الآيات بكون ذي القرنين مؤمنا موحدا موقنا بالآخرة يوحي الله إليه ويكلمه كأنه من الأنبياء. ومما رواه الطبري وتابعه غيره أن الجبلين اللذين أنشأ ذو القرنين السد بينهما هما بين أرمينية وأذربيجان وروى ابن كثير إلى هذا أن الخليفة العباسي الواثق أرسل سرية للبحث عن السد فغابت سنتين وعادت بعد أن لاقت الأهوال ورأت العجائب في البلاد التي طوفت فيها واحدة بعد أخرى وقالت إنها رأت بناء من الحديد والنحاس وله باب عظيم وعليه أقفال عظيمة، وإن عنده حرسا من الملوك المتاخمين له وإنه عال منيف شاهق لا يستطاع ولا ما حوله من الجبال. ولم يذكر المفسر في روايته مكان السد الذي بلغت إليه. وفي تفسير القاسمي وهو من التفاسير الحديثة في سياق تفسير الآيات عزوا إلى «بعض المحققين» أنه كان يوجد وراء جبل من جبال القوقاز- القفقاس- المعروف عند العرب بجبل قاف في إقليم طاغستان قبيلتان إحداهما اسمها آقوق وثانيتهما ماقوق عرّبهما العرب بيأجوج وماجوج. وهما معروفتان عند كثير من الأمم وورد ذكرهما في كتب أهل الكتاب. وتناسل منهما كثير من أمم الشمال والشرق في روسية وآسية. وأن السد كان بين مدينتي دربند وخوزار في إقليم الطاغستان حيث يوجد مضيق بين المدينتين يسمى الآن بباب الحديد وبالسد وفيه أثر سد حديدي قديم بين جبلين. وذكر نقلا عن صفوة الأخبار أن السور الذي وصلت إليه سرية الواثق العباسي هو سور الصين الذي يبلغ طوله نحو 1250 ميلا وسمكه من الأسفل نحو خمسة وعشرين قدما ومن أعلاه نحو خمسة عشر قدما وارتفاعه ما بين خمسة عشر إلى عشرين قدما، وفي أماكن منه حصون يبلغ ارتفاع بعضها إلى أربعين قدما. وهذا السور لم يبنه إسكندر وإنما الذي بناه الإسكندر هو سد دربند. وكلام هذا المفسر يفيد أن ذا القرنين هو الإسكندر المكدوني

المشهور. وقد حاول المفسر أن يوفق بين ما هو معروف من عقيدة الإسكندر المكدوني الوثنية وبين مقتضى الآيات القرآنية وقال إنه لا يقتضي من عقيدة اليونان الوثنية أن يكون هو وثنيا وأن أساتذته أرسطاطاليس وفيثاغوروس إلهيون. ولا تبلغ محاولته حد الإقناع، وظاهر من كلامه أنه بنى السد لمنع زحف قبائل ماقوق وآقوق ... وهناك عالمان هنديان مسلمان مشهوران عصريان وهما شبلي النعماني وأبو الكلام آزاد بحثا في موضوع ما جاء في الفصل القرآني بحثا يتسم بسمة العلم والتروي ويستند إلى مصادر عديدة ووثائق أثرية هامة. وقد أدى البحث عند الأول إلى ترجيح كون ذي القرنين هو دارا الكبير ملك الفرس في القرن الخامس قبل الميلاد، وأن اليأجوج والمأجوج من قبائل الاسكيت التترية التي كانت تقيم في الشرق من جبال القوقاز، وأن السد الذي بناه هو السد المعروف بسد دربند القريب من مدينة دربند الواقعة غربي بحر الخزر. وأدى البحث عند الثاني إلى ترجيح كون ذي القرنين هو الملك كورش ملك الفرس في القرن السادس قبل الميلاد والذي حكم قبل دارا الكبير والذي قوّض مملكة بابل الكلدانية وأذن لليهود المسبيين في مملكة بابل بالعودة إلى فلسطين وتجديد أورشليم (بيت المقدس) ومعبدها سنة (538 ق. م) . وأن السدّ هو غير سدّ دربند، وإنما هو بين طرفي جبل من جبال القوقاز بين مدينتي ويلادي كيوكز وتفليس، ويعرف باسم مضيق كورش فيما يعرف به من أسماء. وأنه لا يزال موجودا وهو خليط بالحديد والنحاس. وأن يأجوج ومأجوج هم قبائل منغولية كانت تعيث فسادا في البلاد فأنشأ كورش السدّ لمنعهم. وحاول كل من العالمين إثبات أن كلا من رجليهما أنه ذو القرنين بما كان من كثرة فتوحاته وسعة سلطانه وإثبات أن الزرادشتية التي كان يدين بها كل من الملكين تقول بوحدة الله وتأمر بالخير وتدين بالآخرة. وقد استند الاثنان فيما استندا إليه إلى سفر نبوءة دانيال من أسفار العهد القديم المتداولة إلى اليوم. وكان دانيال من جملة من سباهم نبوخذ نصر إلى بابل على ما ذكر في هذا السفر. ولقد جاء في الإصحاح الثامن منه أنه رأى في منامه

كبشا ذا قرنين ينطح غربا وشمالا وجنوبا فلم يقف حيوان قدامه وإذا بتيس من المعز جاء من المغرب له قرن واحد فهجم على الكبش ذي القرنين وضربه وكسر قرنيه وصرعه على الأرض وداسه، فالتمس دانيال من جبريل أن يفسر له الرؤيا فطمأنه بأنها بشرى بخلاص إسرائيل من السبي وأن الكبش ذا القرنين هو ملوك ماداي وفارس وأن تيس المعز هو ملك ياوان. ولقد ذكر المؤرخ اليهودي يوسيفوس «1» في تاريخه الذي ألّفه في القرن الأول للميلاد المسيحي ووصل إلى عهدنا أن أحبار اليهود تقدموا إلى الإسكندر المكدوني حينما جاء إلى أورشليم بعد أن انتصر على ملك فارس دارا الثالث وقوض مملكته وأوردوا على مسامعه رؤيا دانيال وقالوا له إنه هو المقصود من تيس المعز الذي ضرب بقرنه ذا القرنين ملك فارس وكسر قرنيه. فالنعماني فسر ذا القرنين بدارا الكبير بسبب تعاظم ملك فارس في زمنه وأبو الكلام فسره بكورش بسبب كونه هو الذي قوض ملك بابل ونجّي بنو إسرائيل من السبي في زمنه. مع أن الإسكندر الذي فسره اليهود بالتيس ذي القرن الواحد إنما ضرب وغلب دارا الثالث الذي كان في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد. ومهما يكن من أمر فإن من واجبنا أن ننوه بجهد العالمين وإن كان من الحق أن نقول إن استنتاجاتهما لا تصل في رأينا إلى مبلغ الإقناع، وإن كنا نرى أن أبا الكلام كان أقرب إلى التوفيق لأنه استند إلى سفرين آخرين من أسفار العهد القديم ذكر فيهما كورش. وهذان السفران هما سفر نبوءة أشعيا وسفر عزرا. ولقد جاء في الإصحاح الرابع والأربعين من الأول بلسان الربّ هذه العبارة: «أنا القائل لكورش أنت راعيّ وأنت متمم لكل ما أشاء» . وجاء في الإصحاح الخامس والأربعين هذه العبارة: «هكذا قال الرب لمسيحه كورش الذي أخذت بيمينه لأخضع الأمم بين يديه وأحل أحقاء الملوك وأفتح أمامه المصاريع إني أسير قدامك فأقوم المعوج وأحطم مصاريع النحاس وأكسر مغاليق الحديد وأعطيك كنوز الظلمة ودفائن

_ (1) انظر تاريخ يوسيفوس اليهودي الترجمة العربية طبعة صادر ص 24.

المخابئ، لتعلم أني أنا الرب الذي دعاك باسمك إله إسرائيل. إني لأجل عبدي يعقوب وإسرائيل مختاري دعوتك باسمك وكنيتك وأنت لا تعرفني» . ولقد جاء في الإصحاح الأول من السفر الثاني- عزرا- هذه العبارة: «في السنة الأولى لكورش ملك فارس لكي يتم ما تكلم به الرب بضم أرميا نبه الرب روح كورش ملك فارس فأطلق نداء في مملكته كلها وكتابات أيضا قائلا هكذا قال كورش ملك فارس جميع ممالك الأرض قد أعطانيها الرب إله السموات وأوصاني بأن أبني له بيتا في أورشليم التي بيهوذا. فمن كان منكم من شعبه أجمع فالله يكون معه. فليصعد إلى أورشليم التي بيهوذا. فمن كان منكم من شعبه أجمع فالله يكون معه. فليصعد إلى أورشليم التي بيهوذا ويبني بيت الرب إله إسرائيل وهو الإله الذي في أورشليم. وكل من بقي في أحد المواضع حيث هو متغرب فليمدده أهل موضعه بالفضة والذهب والمال والبهائم فضلا عما يتطوعون به لبيت الله الذي في أورشليم» . حيث يفيد هذا أن كورش حسب عبارة السفرين كان مؤمنا بإله السموات يتلقى الأمر أو الوحي أو الإلهام منه ويعمل على بناء مسجد له من جديد في أورشليم. وأن الله اعتبره وكيلا له ليتمم كل ما شاءه وأنه أخذ بيده وأخضع له الأمم وفتح أمامه المصاريع وفتح له دفائن المخابئ وأعطاه كنوز الظلمة وسار قدامه. ولقد جاء في الإصحاحات التالية للإصحاح الثامن من سفر نبوءة دانيال أخبار رؤى أخرى رآها دانيال وبشارات تلقاها من جبريل وميكائيل بخلاص قومه وانتصار كورش على بابل وتعاظم ملك ماواي وفارس فكان هذا مما عزز به أبو الكلام رأيه بكون ذي القرنين هو كورش ملك فارس بالإضافة إلى ما اطلع عليه من مدونات فارسية قديمة عن أعمال كورش وبنائه السد لمنع أذى القبائل المغولية المنعوتة بيأجوج ومأجوج على النحو الذي ذكرناه آنفا. وأسفار العهد القديم ليست فوق الشبهة في أسلوب تأليفها ووقته وهدفه على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأعراف. ومن جملتها الأسفار الثلاثة ولكنا نعتقد أنها كانت متداولة في أيدي اليهود قبل الميلاد المسيحي بقرون عديدة وأن اليهود كانوا يتداولون ما فيها من أخبار عن كورش وإيمانه بالله وتأييد الله له وما أتاحه له من توفيقات عظيمة خارقة من جملة ذلك ما أشير إليه في القرآن إشارة

خاطفة وكونه ذا القرنين في رؤيا دانيال وكون التيس هو الإسكندر المكدوني وأنهم كانوا يفسرون غلبة هذا لملك فارس وتقويضه مملكته في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد بغلبة ذي القرنين على ما كان من غلبته على واحد من خلفاء ذي القرنين. وأنهم ظلوا يتداولون الأسفار والأخبار إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا مصدرها بالنسبة لعصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته. وكان ذلك حافزا للسؤال عن ذي القرنين الذي كانت تذكر أخباره العظيمة فأوحى للنبي صلى الله عليه وسلم بما شاءت حكمة التنزيل أن يوحى إليه به عن ذلك بأسلوب يتساوق هدفه مع هدف القصص القرآنية من الموعظة والعبرة. ومع احتمال أن تكون استنتاجات أبي الكلام معقولة فإن هذا يكون واردا بالنسبة لما كان يدور ويتداول من أخبار وآثار وليس على اعتبار أنه الحقيقة التاريخية المقصودة بالآيات القرآنية. لأنه من قبيل التوفيق والتطبيق ولا يمكن أن يعتبر أنه هذه الحقيقة لأن هذا لا يصح إلا إذا كان هناك يقينا من تاريخ أو نصا صريحا في القرآن أو ثابتا عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس هناك شيء من ذلك. والحديث الوحيد المعزو إلى النبي صلى الله عليه وسلم والذي رواه الطبري وأوردناه قبل تفسير ذي القرنين بالشاب اليوناني الذي بنى الاسكندرية. وقد أوردنا المآخذ على هذا الحديث التي تسوغ عدم الأخذ به. أما مواضع العظة والعبرة في القصة فمنها: أولا: المحاورة التي حكيت بين الله تعالى وذي القرنين وتضمنت تقرير كون ذي القرنين مؤمنا داعيا إلى الإيمان ويعامل المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالحسنى ويعذب الظالمين المنحرفين. وثانيا: الآية التي تحكي توكيد ذي القرنين بمجيء وعد الله وكونه حقا لا ريب فيه والتي تعني البعث والنشور. وثالثا: ما تضمنته القصة من تقرير كون هذا الملك العظيم الذي بلغ سلطانه وفتوحاته وخطورة شأنه هذا المبلغ الذي كاد يكون سيد مشارق الأرض ومغاربها مؤمنا بالله موقنا باليوم الآخر وداعيا إلى الله ومثيبا للمؤمنين الصالحين بالحسنى ومعاقبا للكافرين الجاحدين حيث يتطابق في صفاته وخطته مع الدعوة التي يدعو إليها النبي صلى الله عليه وسلم وتتضمنها آيات القرآن. ورابعا: الآيات [98- 101] التي جاءت معقبة على الآيات القصة التي تبدو وكأنها جزء متمم لها،

جاءت لتربط بينها وبين توكيد مجيء القيامة وتنذر الكفار الذين يتصاممون عن آيات الله وذكره ولا يبصرون النور الهادي الذي جاءهم به رسوله بنار جهنم. ولقد قال المفسر القاسمي في عقب الآيات إنه ليس في القرآن شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار. وإنما هي الآيات والعبر والأحكام والآداب في سياق الوقائع. وهو الحق الذي ما فتئنا ننوه به ثم أخذ يورد على ما ورد على باله من فوائد السياق. فمن ذلك: 1- القيام بالأسباب والجري وراء سنة الله في الكون من الجد والعمل وكون الفوز والظفر إنما هما على قدر بذل الجهد. 2- تنشيط الهمم فلا ينبغي أن تكون أهوال الأسفار عذرا في الخمول والرضاء بالدون إذا ما تيسرت الأسباب. 3- واجب الملك أن يبذل جهده في تحقيق شكوى الشاكين وراحة رعاياه وأمنهم ودفع ما يهددهم من أخطار. 4- واجبه بالتعفف عن أموالهم إذا ما أغناه الله. 5- التحدث بنعمة الله. 6- مشاطرة الملك العمال في الأعمال ومشارفتهم بنفسه إذا اقتضى الحال تنشيطا لهمتهم وترويحا لقلوبهم. 7- تعريف الغير ثمرة العمل المهم ليعرفوا قدره فيظهروا شكره. هذا، وإذا كان ليس هناك أحاديث صحيحة عن شخصية ذي القرنين فهناك أحاديث نبوية عديدة منها الوارد في كتب الأحاديث الصحيحة عن يأجوج ومأجوج بحيث يكون محل للكلام عنهم في هذا النطاق. من ذلك حديث رواه الترمذي بسند حسن عن أبي هريرة في سياق تفسير الآيات وفي معرض ذكر السد الذي أنشأه ذو القرنين لمنع أذى يأجوج ومأجوج جاء فيه: «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنّهم يحفرونه كلّ يوم حتّى إذا كادوا يخرقونه قال الذي عليهم ارجعوا فستخرقونه غدا فيعيده الله

كأشدّ ما كان حتّى إذا أراد الله أن يبعثهم على الناس قال الذي عليهم ارجعوا فستخرقونه غدا إن شاء الله، فيرجعون فيجدونه كهيئته حين تركوه فيخرقونه فيخرجون على الناس فيستقون المياه ويفرّ الناس منهم فيرمون بسهامهم في السماء فترجع مخضّبة بالدماء فيقولون قهرنا من في الأرض وعلونا من في السماء قسرا وعلوّا فيبعث الله عليهم نغفا في أقفائهم فيهلكون. فوالذي نفسي بيده إنّ دوابّ الأرض تسمن وتبطر وتشكر شكرا من لحومهم» «1» . ومنها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن حذيفة الغفاري قال: «اطّلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال: ما تذكرون؟ قالوا: نذكر الساعة. قال: إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر الدّخان والدجّال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى بن مريم ويأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم» «2» . ومنها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن النواس بن سمعان في معرض ذكر نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان وقتله الدجال جاء فيه: «إن الله يوحي إلى عيسى بعد أن يقتل الدجّال بأنه أخرج عبادا لا يدان لأحد بقتالهم فحرّز عبادي إلى الطور ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كلّ حدب ينسلون فيمرّ أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمرّ آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرّة ماء ويحصر نبيّ الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مئة دينار لأحدكم اليوم فيرغب نبيّ الله عيسى وأصحابه فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة ثم يهبط نبيّ الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلّا ملأه زهمهم ونتنهم فيرغب نبيّ الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث

_ (1) التاج ج 4 ص 152، وفسر الشارح النغف بنوع من الدود يظهر في أنف الإبل والغنم فيهلكها. [.....] (2) التاج ج 5 ص 304.

شاء الله ثمّ يرسل الله مطرا لا يكنّ منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتّى يتركها كالزّلقة» «1» . وهناك أحاديث أخرى لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة ولكن صحتها محتملة لأنها من باب ما ورد في هذه الكتب منها حديث رواه الطبري عن أبي سعيد الخدري: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يموت رجل منهم حتى يولد لصلبه ألف رجل» . وحديث أورده ابن كثير ورواه الإمام أحمد عن زينب بنت جحش قالت: «استيقظ النبيّ صلى الله عليه وسلم من نومه وهو محمرّ وجهه وهو يقول لا إله إلا الله ويل للعرب من شرّ قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا وحلّق. قلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصّالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث» «2» . وحديث أورده ابن كثير نقلا عن الطبراني ومرويا عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ يأجوج ومأجوج من ولد آدم ولو أرسلوا لأفسدوا على الناس معايشهم ولن يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا وإن من ورائهم ثلاث أمم تاويل وتأييس ومنسك» «3» . وهناك أحاديث أخرى أوردها ابن كثير في سياق تفسير سورة الأنبياء ولما ترد في كتب الأحاديث الصحيحة أيضا، منها حديث رواه الإمام أحمد عن ابن حرملة عن خالته قالت: «خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاصب إصبعه من لدغة عقرب فقال: إنكم تقولون لا عدوّ لكم وإنكم لا تزالون تقاتلون عدوّا حتى يأتي يأجوج ومأجوج عراض الوجوه صغار العيون صهب السعاف من كلّ حدب ينسلون كأن وجوههم المجان المطرقة» وحديث رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليحجن هذا البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج» . ولقد ذكر يأجوج ومأجوج في القرآن مرة أخرى في آيات سورة الأنبياء هذه: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ

_ (1) التاج ج 5 ص 321- 324 ومعنى لا يدان لا يقدر عليه. وفرسى جمع فريس كقتلى وقتيل بمعنى موتى. (2) قال ابن كثير إن هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم من حديث وهب. (3) قال ابن كثير إن هذا الحديث ضعيف منكر.

الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97) حيث تفيد صراحة استمرار وجودهم في الدنيا وحبسهم عن الناس إلى الوقت المعين في علم الله حتى يفتح لهم وينطلقون من حبسهم وينسلون من كل حدب. ولقد ذكر يأجوج ومأجوج في بعض الأسفار المتداولة اليوم من أسفار العهد القديم وأسفار العهد الجديد كذلك. بعبارة في بعضها شيء ما من التوافق والتساوق مع ما جاء في القرآن وبعض الأحاديث النبوية أيضا. من ذلك ما جاء في الإصحاح الثامن والثلاثين من سفر نبوءة حزقيال، وحزقيال هذا من سبي بني إسرائيل إلى بابل ومن أنبيائهم في السبي، ونبوءته تدور على حالة بني إسرائيل وفلسطين وما لا قوه من أهوال وما سيكون أمرهم إليه (وكلمة الرب إليّ قائلا يا ابن البشر اجعل وجهك نحو جوج أرض ماجوج رئيس روش وماشك وتوبل وتنبأ عليه. وقل هكذا قال السيد الرب ها أنا ذا إليك يأجوج رئيس روش وماشك وتوبل فأديرك وأجعل حلقة في فكك أنت وجميع جيوشك خيلا وفرسانا ومعهم فارس وكوش وفوط وجومر وآل توجرن وأقاصي الشمال وجميع جيوشهم وشعوب كثيرون. في آخر السنين تأتي إلى الأرض المنجاة من السيف المجموعة من شعوب كثيرين إلى جبال إسرائيل التي كانت مستوحشة كل حين فتصعد وتأتي كعاصفة وتكون كغمام يغطي الأرض. إنك يأجوج في آخر الأيام تكون فأتي بك على أرضي لكي تعرفني الأمم بأني سأجلبك عليهم. في ذلك اليوم يوم يأتي جوج على أرض إسرائيل يقول السيد الرب يطلع حنقي في وجهي وفي غيرتي ونار غضبي تكلمت. ليكونن في ذلك اليوم ارتعاش عظيم على أرض إسرائيل. فيرتعش من وجهي سمك البحر وطير السماء ووحش الصحراء وجميع الدبابات الدابة على الأرض وجميع البشر على وجه الأرض. وتندك الجبال وتسقط المعاقل وكل سور يسقط إلى الأرض. لكني أدعو السيف عليه في جميع جبالي فيكون سيف كل رجل على أخيه. وأدنيه بالوباء والدم والمطر الطاغي وحجارة البرد وأمطر النار والكبريت عليه وعلى جيوشه وعلى الشعوب الكثيرين الذين معه فأتعظم وأتقدس

وأتعرف على عيون أمم كثيرين فيعلمون أني أنا الرب) . وجاء في الإصحاح التاسع والثلاثين من السفر نفسه: (وأنت يا ابن البشر تنبأ على جوج وقل هكذا قال السيد الرب ها أنا ذا إليك يأجوج رئيس روش وماشك وتوبل فأديرك وأقتادك وأصعدك من أقاصي الشمال وآتي بك إلى جبال إسرائيل وأضرب قوسك من يدك اليسرى وأسقط سهمك من يدك اليمنى على جبال إسرائيل تسقط أنت وجميع جيوشك والشعوب الذين معك وللجوارح والعصافير وكل ذي جناح ولوحش الصحراء قد جعلتك مأكلا. على وجه الصحراء تسقط لأني تكلمت بقول السيد الرب، وأرسل نارا على ماجوج والساكنين في الجزائر آمنين فيعلمون أني أنا الرب ويخرج سكان مدن إسرائيل بالسلاح ويسلبون الذين سلبوهم، في ذلك اليوم أجعل لجوج موضعا ذا اسم قبرا بإسرائيل وادي العابرين في شرق البحر فيسد الوادي على العابرين فيدفنون هناك جوجا وجميع جمهوره ويسمون الموضع وادي جمهور جوج) . ومن ذلك ما جاء في الإصحاح الثاني من سفر الرسالة الأولى للقديس يوحنا وهو من ملحقات العهد الجديد في صدد المسيح الدجال: (أيها الأولاد هذه هي الساعة الأخيرة ولما أنكم سمعتم أن المسيح الدجال يأتي يوجد الآن مسحاء دجالون كثيرون. فمن هذا نعلم أن هذه هي الساعة الأخيرة) . ومن ذلك ما جاء في الإصحاح العشرين من سفر رؤيا هذا القديس وهو كذلك من ملحقات العهد الجديد في صدد يأجوج وماجوج والنبي الكذاب (وإذا تمت الألف سنة يحل الشيطان من سجنه ويخرج ليضل الأمم الذين في زوايا الأرض الأربع جوج وماجوج ليحشدهم للقتال في عدد كرمل البحر. فطلعوا على سعة الأرض وأحاطوا بمعسكر القديسين وبالمدينة المحبوبة. فهبطت نار من عند الله من السماء وأكلتهم وطرح إبليس الذي أضلهم في بحيرة النار والكبريت حيث الوحش والنبي الكذاب، هناك يعذبون نهارا وليلا إلى دهر الدهور) . وعلى كل حال فإن من واجب المسلم أن يؤمن بوجود قبيلين اسماهما المعرّبان يأجوج ومأجوج وبأنهما خلق عجيب من خلق الله من بني آدم وبأنهما يخرجان في آخر الزمان من كل حدب لأن ذلك مما ورد في القرآن بصراحة

[سورة الكهف (18) : الآيات 102 إلى 108]

وقطعية، ومما ورد عنه تفصيل في أحاديث وردت في كتب الأحاديث الصحيحة أيضا ولو لم تدرك أمرهم العقول العادية، مع الوقوف عند ما وقف عنده القرآن، والثابت من الأحاديث النبوية ومع الإيمان بأنه لا بد من أن يكون لذكرهم بالأسلوب الذي ذكروا به حكمة. ومع ملاحظة أن ذكرهما ورد في أسفار العهد القديم والعهد الجديد التي كانت متداولة بين اليهود والنصارى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بما فيه تشابه من بعض النواحي لما ورد عنهم في الأحاديث النبوية، وأن صفات وأخبار هذين القبيلين لم تكن نتيجة لذلك مجهولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره، ومع ملاحظة أن ذكرهم جاء في سورة الأنبياء كنذير من نذر الله بقرب القيامة وأهوالها. وجاء في سورة الكهف مع قصة من أهدافها العظة والتدعيم والله تعالى أعلم. ولم يدع مفسرو غلاة الشيعة هذه القصة دون لمس حيث قالوا في مدى آية: قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87) إنها تعني أنه يرد إلى أمير المؤمنين فيعذبه عذابا نكرا حتى يقول يا ليتني كنت ترابا أي من شيعة أبي تراب «1» !. ومؤدى القول أن عليا رضي الله عنه هو الربّ الذي يرجع إليه الناس ليعذبهم. [سورة الكهف (18) : الآيات 102 الى 108] أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108) . (1) ضلّ سعيهم: حبط عملهم وضاع وذهب هباء.

_ (1) التفسير والمفسرون ج 2 ص 70.

(2) الفردوس: قيل إنها معرّبة من الرومية وأنها تعني البستان الذي يجتمع فيه التمر والزهر. أو الذي يجمع محاسن كل بستان، أو أواسط الجنات وأفضلها مكانا، وعلى كل حال فالكلمة كانت معرّبة ومندمجة في اللغة الفصحى ومفهومة الدلالة قبل نزول القرآن. (3) حولا: تحولا. عبارة الآيات واضحة، وهي كما هو المتبادر تتمة أو استمرار للحملة التي بدئت من آخر الفصل السابق وجعلت قصة ذي القرنين وسيلة لها. وفيها تنديد وتسفيه وإنذار للكافرين المشركين وبيان لمصيرهم الأخروي واستطراد إلى بيان مصير المؤمنين الذين يعملون الصالحات مقابلة لمصير الكافرين جريا على الأسلوب القرآني. وفيها بنوع خاص تقرير لأثر الإيمان والكفر في أعمال الناس مما تكرر تقريره في المناسبات السابقة وفيه توضيح أكثر. فالكافر المشرك المكذب بالآخرة لا يصدر في أعماله الحسنة عن وازع إيماني ووجداني، وهي بالإضافة إلى حبوطها عند الله بسبب كفر صاحبها وشركه معرضة للتقلب والانقباض والتبدل عند أي طارئ وهاجس وسبب دنيوي، بعكس المؤمن بالله واليوم الآخر فإنه يظل ثابتا مستمرا عليها لأنه يرجو بها رضوان الله ووجهه والتقرب إليه وثوابه الأخروي. وفي هذا ما فيه من تدعيم للدعوة النبوية وتلقين مستمر المدى. ويلفت النظر إلى قوة الأسلوب الذي عبر به عن هذا المعنى في الآيات [103] وما بعدها. فهم يظنون أنهم يحسنون صنعا بما يعملون مع أنهم الأخسرون أعمالا لأنهم كفروا بآيات ربهم ولقائه واتخذوا آياته ورسله هزوا. وقوة التدعيم للدعوة النبوية في هذا الأسلوب بالنسبة لظرف الدعوة أيضا ظاهرة. ولقد روى الطبري عن ابن جريج أن المقصود بكلمة عِبادِي في الآية الأولى هم الملائكة وعيسى عليه السلام. وروى البغوي عن ابن عباس أنهم الشياطين. وعن مقاتل أنهم الأصنام. والكلمة تشمل كل ما خلقه الله فتكون العبارة

كما هو المتبادر عامة المدى شاملة لكل ما اتخذه المشركون شركاء من دون الله إطلاقا. ولقد روى الطبري عن علي بن أبي طالب قولين في المقصود من الآية: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا (103) أحدهما أنهم أهل الصوامع وثانيهما الخوارج الذين عرفوا بالحرورية الذين قاتلهم في حروراء حينما خرجوا عليه بعد حرب صفين لأنه رضي بالتحكيم وقالوا لا حكم إلّا الله واعتبروه ومن رضي بالتحكيم مرتدين. وروى عن مصعب بن سعد قال: «سألت أبي عن هذه الآية: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أهم الحرورية؟ قال: لا، هم أهل الكتاب اليهود والنصارى. أما اليهود فكذّبوا محمّدا وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا ليس فيها طعام ولا شراب. ولكن الحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون وكان سعد يسمّيهم الفاسقين» «1» . وروى الطبري إلى هذا أنهم القسيسون والرهبان. وحديث مصعب رواه البخاري والحاكم أيضا، ولقد توقف ابن كثير في هذه الأقوال وقال إن الآية عامة الشمول وهو حقّ. ومن العجيب أن تقال وفي الآية [105] التي تأتي بعدها تفسير صريح عن المقصودين وهم الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه واتخذوا آياته ورسله هزوا. وهذا تعبير شامل ليس فيه أي محل لجعله وصفا لطائفة معينة. ولقد روى الطبري بطرقه أحاديث عديدة فيها تنويه ووصف للفردوس منها حديث عن سمرة بن جندب قال: «أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ الفردوس هي أعلى الجنة وأحسنها وأرفعها» . وحديث عن معاذ بن جبل قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ للجنة مئة درجة كل درجة منها كما بين السماء والأرض، أعلى درجة منها الفردوس» . وحديث عن أبي بكر بن عبد الله بن عيسى عن أبيه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جنات الفردوس أربع ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما وثنتان من

_ (1) انظر التاج ج 4 ص 152- 153.

فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما» . وحديث عن أبي سعيد الخدري أو أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنها أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقها عرش الرّحمن تبارك وتعالى ومنه تفجر أنهار الجنة» . وقد روى الطبري بعض هذه الأحاديث بطرق عديدة وصيغ متقاربة فلم نر ضرورة إلى إيرادها متكررة. وشيء من هذه الأحاديث ورد في كتب الأحاديث الصحيحة حيث روى البخاري والترمذي عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «في الجنة مئة درجة ما بين كلّ درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة ومنها تفجّر أنهار الجنة الأربعة ومن فوقها يكون العرش فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس» «1» . والفردوس في أصلها معرّبة عن الرومية وفي معنى البستان أو البستان ذي الزهر والثمر أو ذي الأعناب على ما ذكره المفسرون. والأحاديث في صدد وصف مشهد من مشاهد الجنة التي يجب الإيمان بما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها كما هو الشأن بالنسبة لما هو وارد منها في القرآن. مع الإيمان بأنه لا بد لذكر ذلك من حكمة. ويلمح من الأحاديث أن قصد التشويق والترغيب من هذه الحكمة، وهو ما يلمح في الأحاديث القرآنية. ولقد روى الطبري في سياق جملة فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً حديثا عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يؤتى بالأكول الشروب الطويل فيوزن فلا يزن جناح بعوضة ثم قرأ: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً» . وروى البغوي عن أبي سعيد الخدري قال: «يأتي أناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم في العظم كجبال تهامة فإذا وزنوها لم تزن شيئا فذلك قوله تعالى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً» . وروى ابن كثير حديثا رواه البزار عن عبد الله بن بريدة قال: «كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل رجل من قريش يخطر في حلّة له، فلما قام قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا بريدة هذا ممّن لا يقيم الله له يوم القيامة وزنا» . والحديث الأول من هذه الأحاديث رواه الشيخان

_ (1) التاج ج 5 ص 366.

[سورة الكهف (18) : الآيات 109 إلى 110]

بصيغة مقاربة في فصل التفسير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة وقال اقرأوا: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً» » . والإيمان بالمشهد الأخروي الذي يثبت خبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب مع الإيمان بأن لذكر ذلك حكمة. وقصد بيان كون الأعمال الصالحة التي تصدر من المؤمن بالله واليوم الآخر هي النافعة لصاحبها يوم القيامة دون سواها وبخاصة دون المظاهر الخادعة، وقصد الحث على ذلك من الحكمة الملموحة في الأحاديث وهو الملموح في الآيات أيضا. [سورة الكهف (18) : الآيات 109 الى 110] قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110) . (1) مدادا: حبرا. في الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقرر للناس أن آيات الله ومشاهد عظمته أوسع وأكثر من أن تحصى حتى لو أريد كتابتها وكان البحر مملوءا بالحبر لنفد الحبر قبل أن تنفد ولنفد بحر من الحبر مثله أيضا قبل أن تنفد. وبأن يقرر لهم أيضا أنه بشر مثلهم، وكل ما في أمره أنه يوحى إليه بأن إلههم واحد لا شريك له وأن على الذين يرجون لقاء الله وما عنده من الحسنى أن يؤمنوا به ويعملوا صالح الأعمال ولا يشركوا به أحدا. ولقد روى البغوي في سياق الآية الأولى حديثا عن ابن عباس جاء فيه: «قالت اليهود يا محمّد تزعم أنا قد أوتينا الحكمة وفي كتابك وَمَنْ يُؤْتَ

_ (1) التاج ج 4 ص 153.

الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً سورة البقرة: [269] ثم تقول وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا سورة الإسراء: [85] فأنزل الله: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً الآية. روى هذا الحديث الترمذي أيضا «1» . ومقتضاه أن تكون الآية مدنية وأن تكون نزلت لحدتها، ولقد روى الطبري عن طاووس عن مجاهد رواية بصيغتين جاء فيها أن رجلا قال: يا رسول الله إني أحب الجهاد في سبيل الله وأحب أن يرى موطني ومكاني أو أحبّ أن أعمل وأتصدق وأحب أن يراه الناس فأنزل الله: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ ... الآية [110] وروى أيضا عن عمرو بن قيس الكندي أنه سمع معاوية بن أبي سفيان يتلو هذه الآية ويقول: إنها آخر آية نزلت من القرآن. وهذه الروايات لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة ومقتضاها أن تكون هذه الآية أيضا مدنية وأن تكون نزلت لحدتها كذلك. ولم نطلع على رواية تذكر مدنية آية من الآيتين. وهما متساوقتان في الخطاب والوزن ومتساوقتان في الوقت نفسه مع ما قبلهما في الوزن. والسياق جميعه في صدد الكفار، ولذلك نتوقف في الروايات ونرجح أن الآيتين جاءتا معقبتين على الآيات السابقة وجاءتا في الوقت نفسه خاتمة قوية للسورة واحتوتا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتسرية عنه تجاه مواقف الكفار الذين حكت الآيات السابقة اتخاذهم آيات الله ورسله هزوا وأنذرتهم من حيث انطواؤهما على تقرير كون مهمته هي إنذار الناس وترك الأمر لهم بعد ذلك. فمن أراد النجاة آمن وعمل صالحا ومن أبى فله الهلاك. وفي الفقرة الأخيرة من الآية الثانية تدعيم للتلقين الذي احتوته الآيات السابقة. وقد يلحظ أن شيئا من الفرق أو المبالغة بين الأولى وبين آية سورة لقمان [27] التي جاء فيها: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ غير أنه لا محل لقول ذلك لأن القصد هنا وهناك هو تعظيم مقدار علم الله وكلماته وتقرير كونهما أعظم من أن يحدهما وصف أو ينفدا بالتسجيل والكتابة، بالعبارة التي اقتضتها حكمة التنزيل في كل من الموضعين.

_ (1) التاج ج 4 ص 153.

ولقد روى الطبري في سياق الآية الثانية عن شهر بن حوشب قال: «جاء رجل إلى عبادة بن الصامت فسأله فقال: أنبئني عمّا أسألك عنه أرأيت رجلا يصلي يبتغي وجه الله ويحبّ أن يحمد ويصوم ويبتغي وجه الله ويحب أن يحمد؟ فقال عبادة: ليس له شيء إن الله عز وجل يقول: أنا خير شريك فمن كان له معي شريك فهو له كلّه لا حاجة لي فيه» . وروى ابن كثير هذا الحديث عن طريق الإمام أحمد بزيادة مهمة فيها صورة رائعة كتناجي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده وهذا نصه: «قال شهر بن حوشب قال ابن غنم: لما دخلنا مسجد الجابية أنا وأبو الدرداء لقينا عبادة بن الصامت فأخذ يميني بشماله وشمال أبي الدرداء بيمينه فخرج يمشي بيننا ونحن نتناجى، فقال عبادة: إن طال بكما عمر أحدكما أو كليكما لتوشكان أن تريا الرجل من المسلمين من ثبج المسلمين يعني من وسط قراء القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فأعاده وأبدأه وأحلّ حلاله وحرّم حرامه ونزل عند منازله لا يحور فيكم إلّا كما يحور رأس الحمار الميت. قال: فبينما نحن كذلك إذ طلع شداد بن أوس وعوف بن مالك فجلسا إلينا فقال شدّاد: إن أخوف ما أخاف عليكم أيّها الناس لما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من الشهوة الخفية والشرك. فقال عبادة وأبو الدرداء: اللهمّ غفرا ألم يكن رسول الله قد حدثنا أن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب؟ أما الشهوة الخفية فقد عرفناها هي شهوات الدنيا من نسائها وشهواتها فما هذا الشرك الذي تخوفنا به يا شداد؟ فقال شداد: أرأيتكم لو رأيتم رجلا يصلي لرجل أو يصوم لرجل أو يتصدق أترون أنه قد أشرك؟ قالوا: نعم والله إن من صلّى لرجل أو صام أو تصدّق له لقد أشرك. فقال شداد: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من صلّى يرائي فقد أشرك. ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك» . قال عوف بن مالك عند ذلك: أفلا يعمد الله إلى ما ابتغى به وجهه من ذلك العمل كله فيقبل ما خلص له ويدع ما أشرك به؟ فقال شداد عند ذلك: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الله يقول أنا خير قسيم لمن أشرك بي. من أشرك شيئا فإنّ عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به أنا غني عنه» . ولقد أورد ابن كثير نصّا آخر لحديث شداد جاء فيه: «إنه بكى فقيل له: ما يبكيك؟ قال: شيء

سمعته من رسول الله فأبكاني. سمعته يقول: أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية، قلت: يا رسول الله أتشرك أمتك من بعدك؟ قال: نعم، أما إنهم لا يعبدون شمسا ولا قمرا ولا حجرا ولا وثنا ولكن يراؤون بأعمالهم، والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائما فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه» . وأورد ابن كثير إلى هذا وفي سياق الآية أحاديث أخرى من هذا الباب منها حديث أخرجه البزار عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله يوم القيامة أنا خير شريك من أشرك بي أحدا فهو له كلّه» . وحديث أخرجه الإمام أحمد عن محمود بن لبيد قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله يوم القيامة إذا جرى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء» . وحديث رواه الإمام أحمد أيضا عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله فإن الله أغنى الشركاء عن الشّرك» والحديث الأخير فقط ورد في كتب الأحاديث الصحيحة الشهيرة وقد رواه مسلم والترمذي «1» . وقياسا على ذلك تكون صحة الأحاديث الأخرى محتملة. وفي الأحاديث توضيح لمدى الآية الثانية التي وردت الأحاديث في صددها وتحذر من أي نوع من أنواع الشرك سواء كان في العقيدة واتخاذ شركاء لله مع الله أم في الأعمال وبيان بأن المقبول عند الله والنافع للمسلم هو ما كان خالصا لله تعالى وحده من ذلك وحثّ عليه. وهذا متسق مع مدى الآية ومدى التلقينات القرآنية عامة ثم مع مدى الطابع المميز للعقيدة الإسلامية بوحدانية الله تعالى دون أي شائبة ولا تأويل ولا اختصاص ولا تعقيد وبالاقتصار على الخضوع له والتعلّق به ونبذ كل ما سواه من قوى أخرى.

_ (1) التاج ج 4 ص 154.

سورة النحل

سورة النحل في السورة مواضيع متنوعة، غير أن طابعها المميز تعداد نعم الله ومشاهد عظمته والتذكير بما يسّر الله للناس من وسائل الرزق وسخر لهم من نواميس الكون لإثبات استحقاقه وحده للعبادة والتنديد بالكافرين والمشركين وإنذارهم والتنويه بالمؤمنين الشاكرين وتطمينهم. وفيها مبادئ أخلاقية شخصية واجتماعية رائعة. وخطة جليلة للنبي والمسلمين عامة في صدد الدعوة إلى سبيل الله. وفيها إشارات إلى عقائد العرب باتخاذ الله بنات وكراهيتهم للبنات. وإلى هجرة المسلمين الأولى، وإلى حوادث ارتداد وعودة بعض المرتدين إلى الإسلام، وإلى قول الكفار بأن شخصا يعلّم النبي، وإلى حادث تبديل آية مكان آية في القرآن، وإلى ما حرّم الله من لحوم وذبائح، وإلى ملّة إبراهيم. ولا يمكن أن يقال إن فصولها منقطعة عن بعضها بل إن التساوق بينها أو بين أكثرها أكثر ظهورا، وهذا يبرر القول إن فصولها نزلت متتابعة فدونت متتابعة كما نزلت إلى أن تمت. وقد روي أن الآيات [126- 128] مدنية، وأسلوبها ومضمونها وسياقها يسوغ التوقف في ذلك ويجعل الرجحان لمكيتها. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) .

(1) أتى: بمعنى الآتي والواقع والمحقق. (2) أمر الله: من المؤولين من أوّل أمر الله بالساعة والقيامة وقال إن الآية مثل اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [القمر: 1] ومنهم من أوّلها بعذاب الله، وكلا التأويلين محتمل. (3) بالروح من أمره: ما اقتضت حكمة الله أن يوحى من أوامره ورسالاته وكتبه وتبليغاته. (4) خصيم مبين: مخاصم عنيد ومجادل قوي الجدل. في الآيات: 1- توكيد بأن أمر الله آت لا ريب فيه فليتأكد السامعون من ذلك ولا يستعجلوه. 2- وتنزيه لله عن الشركاء الذين يشركهم معه المشركون. 3- وتقرير بما جرت عليه عادة الله تعالى من إنزال الملائكة بوحيه وما شاء من رسالاته وكتبه وأحكامه وتبليغاته على من يصطفيهم من عباده لإنذار الناس ودعوتهم إلى الإيمان به وحده واتقائه بصالح الأعمال. 4- وتنبيه على أنه هو الذي خلق السموات والأرض وأن الذي يقدر على ذلك يكون غنيا ومنزها عن الشركاء. 5- وتبكيت للإنسان الذي خلقه الله من نطفة تافهة فلم يتورع عن الوقوف منه موقف الخصم العنيد والمجادل المكابر. وطابع المطلع في الآيات واضح. والخطاب فيها وإن كان عاما فروحها ومضمونها يلهمان أنه موجه إلى الكفار المشركين ومتضمن لمعنى التنديد بهم

وإنذارهم فهم الذين يستعجلون وعد الله وهم الذين يجادلون في آياته ويقفون منه موقف الخصم العنيد. والمتبادر أن الآية الأولى بسبيل الردّ على ما كان يصدر من الكفار من تحدّ باستعجال أمر الله وعذابه الموعود عند ما تأتي الساعة وتقوم القيامة والاستهزاء بالوعد، فأمر الله آت لا ريب فيه. والآية الثانية وهي تقرر ما جرت عادة الله عليه تتضمن توكيد صحة وحي الله للنبي صلى الله عليه وسلم ورسالته وتقرير كون هذا ليس بدعا يبعث الاستغراب ويسوغ المكابرة، ولا سيما أن دعوته واضحة بسيطة وهي دعوة إلى الله وحده واتقائه بصالح العمل. ولما كانت السورة السابقة انتهت بالتنديد بالمشركين والنهي عن الإشراك بالله فقد يكون بدء مقصد السورة بتنزيه الله عن الشرك وإنذار المشركين بعذاب الله قرينة على صحة ترتيب نزول السورتين واحدة عقب الأخرى. ولقد روى الطبري عن ابن جريج قال: لما نزلت الآية الأولى قال رجل من المنافقين إن هذا يزعم أن أمر الله أتى فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى تنظروا ما هو كائن، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء قالوا ما نراه أنزل شيء فنزلت: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء: 1] فقالوا: إن هذا يزعم مثله، فنزلت: وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [هود: 8] . وروي عن أبي بكر بن حفص قال: لما نزلت أَتى أَمْرُ اللَّهِ رفعوا رؤوسهم فنزلت فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ وروى البغوي أن المشركين لما رأوا أن ما أنذر النبي لم ينزل ونزلت أَتى أَمْرُ اللَّهِ وثب النبي صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رؤوسهم وظنوا أنه قد أتى حقيقة فنزلت فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فاطمأنوا. والروايات عجيبة. وآية سورة الأنبياء نزلت بعد هذه السورة بمدة ما، وآية سورة هود نزلت قبلها بمدة ما حيث يظهر هذا أيضا تفكك الروايات ويسوغ ترجيح كون الآيات وحدة تامة احتوت المقاصد التي شرحناها والله تعالى أعلم.

[سورة النحل (16) : الآيات 5 إلى 18]

ولقد روى البغوي في سياق الآية الأولى حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «بعثت أنا والساعة كهاتين- وأشار بإصبعيه- وإن كادت لتسبقني» «1» . وروى ابن كثير في سياقها حديثا كذلك أخرجه ابن أبي حاتم عن عقبة بن عامر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تطلع عليكم عند الساعة سحابة سوداء من المغرب مثل الترس، فما تزال ترتفع في السماء ثم ينادي مناد فيها يا أيّها الناس فيقبل الناس بعضهم على بعض هل سمعتم، فمنهم من يقول نعم ومنهم من يشكّ. ثم ينادي الثانية يا أيّها الناس فيقول الناس بعضهم لبعض هل سمعتم فيقولون نعم ثمّ ينادي الثالثة أي. أيّها الناس أتى أمر الله فلا تستعجلوه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فو الذي نفسي بيده إن الرجلين لينشران الثوب فما يطويانه أبدا وإنّ الرجل ليمدّنّ حوضه فما يسقي فيه شيئا أبدا وإنّ الرجل ليحلب ناقته فما يشربه أبدا، قال ويشتغل الناس» . والحديث الأول وارد كما أشرنا في الذيل في كتب الأحاديث الصحيحة، واحتمال صحة الحديث الثاني وارد. واقتراب الساعة مع بعثة النبي صلى الله عليه وسلم مما ذكر صراحة في بعض الآيات القرآنية منها آية سورة القمر: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ومن الحكمة الملموحة في الأحاديث إنذار الناس وهذه الحكمة ملموحة في الآيات كما هو المتبادر. [سورة النحل (16) : الآيات 5 الى 18] وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) .

_ (1) روى الشيخان والترمذي هذا الحديث بصيغة قريبة عن سهل وهذه الصيغة «بعثت أنا والساعة هكذا ويشير بإصبعيه فيمدّهما. وفي رواية بعثت أنا والساعة كهاتين وضمّ السبابة والوسطى» التاج ج 5 ص 301.

(1) لكم فيها دفء: لكم فيها ما تستدفئون به. والمتبادر أن القصد من الجملة الإشارة إلى شعر الأنعام وصوفها ووبرها الذي يصنع منه الثياب التي تبعث الدفء في الأجسام. (2) لكم فيها جمال: المتبادر أن المقصد الإشارة إلى ما في منظر الأنعام وهي تغدو وتروح من مشهد جميل ومأنوس وبخاصة بالنسبة لأصحابها والحياة التي كان يحياها العرب الذين هم أول من خوطبوا بالقرآن. (3) تريحون: ترجعون الأنعام إلى مراحها أي حظائرها وزرائبها بعد الرعي. (4) تسرحون: تذهبون بها إلى الرعي في الصبح المبكر. (5) لم تكونوا بالغيه إلّا بشق الأنفس: لم تكونوا لتصلوا إليه لولا الأنعام إلا بكل مشقة وقرئت الشين بالفتح والكسر والجمهور على الكسر. (6) وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر: معنى قصد السبيل سلوك الطريق الحق، ومعنى جائر المعوج عن الطريق الحقّ. والجملة تنطوي على تقرير كون هناك طريقان واحدة مستقيمة وأخرى معوجة وأن الله يدعو ويهدي إلى الأولى أو

أن عليه أن يبين الطريق المستقيم. (7) فيه تسيمون: فيه ترعون أنعامكم. (8) ذرأ لكم: خلق لكم، أو نمّى، أو أكثر، أو سخّر لكم. (9) مواخر: من المخر وهو الجريان والسير في البحر. (10) أن تميد بكم: لئلا تميد وتضطرب. (11) وعلامات: دلائل يستدل بها المسافرون في أسفارهم من معالم الطرق أو النجوم على ما ذكره المفسرون. في الآيات تعداد لنعم الله على الناس وتذكير بما هيأه وسخّره لهم من وسائل الحياة والمعاش ونواميس الكون. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وقد جاءت كاستطراد بياني لما احتوته الآيات السابقة وبخاصة الآيتان الأخيرتان منها كما هو المتبادر بحيث يصح القول أنهما سياق واحد. وكل ما فيها قد مرّ في سور سابقة وشرحناه وعلقنا عليه. والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت تكراره لتكرر المواقف وتنوعها، وهي موجهة إلى القلوب والعقول معا، ويزيد في استحكامها وإلزامها أن السامعين يعتقدون أن الله عز وجل هو الذي خلق كل ذلك وأغدق عليهم بكل هذه الأفضال ويسّر لهم كل هذه الوسائل على ما حكته عنهم آيات عديدة مرّ منها بعض الأمثلة، وأسلوب الآيات ينطوي على تقرير هذا أيضا. والآيات وإن كانت مطلقة الخطاب فإن الآية (17) تنطوي على تنديد. وهذا التنديد موجه على الأرجح إلى الكفار المشركين الذين ندد بهم في الآيات السابقة وهذا مما يؤيد ما قلناه آنفا من صلة الآيات بسابقاتها وكونها سياقا واحدا. ومع أن التذكير بنعم الله وأفضاله على الناس ولفت أنظارهم إلى مشاهد الكون ونواميسه منبث في كثير من السور القرآنية وإن معظم ما جاء في هذه الآيات قد جاء في سور أخرى فإن هذه السلسلة أطول السلاسل القرآنية من حيث الشمول والروعة. وننبه مرة أخرى إلى ما نبهنا إليه قبل من أن أسلوب هذه الآيات وما سبق من

أمثالها لا يقتضي أن يكون الله قد خلق هذه الأكوان لأجل البشر وكل ما يعنيه أن ناموس الله في خلقه جعل البشر أكثر انتفاعا منها وعبر عن ذلك بالأسلوب الذي جاءت به والله تعالى أعلم. والآيات وإن كانت موجهة إلى سامعي القرآن لأول مرة فإن الخطاب فيها عام موجه لجميع الناس في كل ظرف أيضا من حيث إن ما احتوته متصل بما يقع تحت مشاهدة الناس ومتناولهم وانتفاعهم في كل ظرف، ومن حيث إنها بسبيل التذكير بنعم الله على الناس والتنويه بالإنسان الذي اختصه الله دون غيره من الحيوان بقوى قابلة للانتفاع بنواميس كون الله في مختلف الوجوه والتكيف معها والحثّ على التفكير في آلاء الله ونواميسه للتوصل من ذلك أولا إلى القناعة بأن وراء هذه المشاهد والنواميس العظيمة البديعة المتقنة الدقيقة قوة عاقلة مدبرة حكيمة وبوجوب وجودها والخضوع لها وحدها والإيمان برسلها وكتبها والتزام حدود شرائعها التي أوحت بها لرسلها وثانيا إلى استعمال ما أودعه الله في الناس من قوى للانتفاع منها. وفي هذا الفصل صور من ارتفاقات العرب الذين يخاطبون به قبل غيرهم ومعايشهم ونعم الله عليهم بها في الأنعام والدواب والأسفار البحرية والاهتداء بالنجوم والطرق والأنهار وصيد السمك واستخراج اللؤلؤ والمرجان واستعمالهما في التحلي والتزين مما تكرر ذكره في آيات سابقة لأنها متصلة بحياة الناس ومعايشهم. وفي جملة وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ تكرار لمعنى في آيات عديدة مرت في سور سابقة بأسلوب جديد بقصد بيان أن هناك طريقة واحدة مستقيمة وأخرى معوجة وأن على الله أن يبين للناس معالم الطريق المستقيمة ليسيروا فيها دون المعوجة، ولو شاء لهداهم جميعا إلى الأولى ولكن حكمته شاءت أن يدعهم لاختيارهم واجتهادهم ليبلوهم أيهم أحسن عملا ويجزي كلا منهم بما يستحق.

تعليق على اختصاص آيات الأنعام بالأكل والدواب للركوب

وفي جملة وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ إيذان رباني بعدم انحصار خلق الله فيما يعلم السامعون أو فيما هو موجود في زمنهم أو بيئتهم من مختلف أنواع الخلق وبأن إرادة الله وخلقه متجددان غير متوقفين مباشرة أو بواسطة خلق موجود من خلقه مما ظهر مصداقه وما يزال يظهر في كل مكان ومختلف الصور والأشكال والأسباب. ولقد أورد المفسر الطبرسي في سياق جملة وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ قولا لأبي عبد الله أحد الأئمة الاثني عشر جاء فيه: «نحن العلامات والنجم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله جعل النجوم أمانا لأهل السماء وجعل أهل بيتي أمانا لأهل الأرض» ولم يرد هذا في كتب الأحاديث الصحيحة. ومع الاحترام العظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته فالهوى الشيعي بارز على هذا القول، وليس له مناسبة في هذا المقام كما هو ظاهر. تعليق على اختصاص آيات الأنعام بالأكل والدواب للركوب وبعض الفقهاء يستنبطون من اختصاص الأكل بالأنعام والركوب بالخيل والبغال والحمير تحريم أكل لحوم الخيل والبغال والحمير. وبعضهم لا يرى في ذلك دليلا، وهذا هو الأوجه لأن المتبادر أن الآيات بسبيل ذكر ما كان معروفا ممارسا وحسب. أما التحريم فلا يصح أن يكون إلّا بنصّ صريح في القرآن أو نصّ صريح ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وكل ما سكت عن بيانه القرآن وورد بشأنه سنّة صحيحة فتكون شريعة. وما لم يرد فيه سنّة فيكون على الإباحة إذا لم يكن من الخبائث التي لا شك فيها. وقد روى المفسرون أحاديث بإباحة لحوم الخيل وتحريم لحوم البغال والحمير. من ذلك حديث رواه البغوي بطرقه عن جابر قال: «نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر ورخص في لحوم الخيل» وروى عن جابر: «أنهم كانوا يأكلون

[سورة النحل (16) : الآيات 19 إلى 23]

لحوم الخيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه نهى عن لحوم البغال والحمير» . ولقد روى المفسر عن خالد بن الوليد: «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير» ولكنه عقب على هذا الحديث قائلا إن إسناده ضعيف. وقد أورد ابن كثير هذه الأحاديث وأحاديث أخرى من بابها، وشيء من ما ورد في هذه الأحاديث ورد في كتب الأحاديث الصحيحة من ذلك حديث رواه الخمسة عن أنس قال: «لمّا فتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبرا أصبنا من القرية حمرا فطبخنا منها فنادى النبيّ صلى الله عليه وسلم ألا إنّ الله ورسوله ينهيانكم عنها فإنّها رجس من عمل الشيطان فأكفئت القدور وإنّها لتفور بما فيها» «1» وحديث رواه أبو داود والترمذي عن المقدام بن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه وما وجدتم فيه من حرام فحرّموه. ألا لا يحلّ لكم الحمار الأهلي ولا كلّ ذي ناب من السبع ولا لقطة معاهد إلّا أن يستغني عنها صاحبها. ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه» «2» . وحديث رواه أبو داود ومسلم عن جابر قال: «نهانا النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل» «3» . وحديث أورده المفسر القاسمي وذكر أنه ورد في الصحيحين عن أسماء قالت: «نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا فأكلناه» فيوقف عند ذلك. [سورة النحل (16) : الآيات 19 الى 23] وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) .

_ (1) انظر التاج ج 3 ص 86. (2) المصدر نفسه ص 87. وفسّر الشارح جملة (فله أن يعقبهم بمثل قراه) في الحديث بأن له أن يأخذ كفايته ولو بالقوة. ويتبادر لنا أنها بمعنى أن يطالبهم بقراه مقابل تعويض أو يطالبهم بقرى كان أقراهم به وصار له حق بمقاصاتهم بمثله والله أعلم. (3) المصدر نفسه. [.....]

(1) لا جرم: هنا بمعنى حقا وهو بمنزلة اليمين وروى بعض المفسرين عن الخليل أنها كلمة تحقيق لا تكون إلا جوابا لقول. والآيات متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا أيضا، وفيها تقرير لوحدة الله وشمول علمه وإحاطته بما يسرّه الناس ويعلنونه على السواء وتنديد بالمشركين الذين يشركون مع الله من هم من مخلوقاته ولا يستطيعون خلق شيء وليس عندهم علم بشيء وهم أموات لا حسّ فيهم ولا حياة. وفيها تقرير بكون السبب الذي يجعل المشركين يقفون موقف الإنكار والاستكبار هو عدم يقينهم وإيمانهم بالبعث والجزاء الأخرويين. والله يعلم هذا فيهم لأنه يعلم ما يسرّون وما يعلنون وأنهم استحقوا غضب الله لأنه لا يحب المستكبرين. والمتبادر أن الوصف الذي وصفته الآية [21] لمن يدعوهم المشركون من دون الله مقصود به الأوثان. ولقد كان الشركاء الذين يتخذهم العرب من دون الله هم الملائكة على الأعمّ الأغلب على ما دلّت عليه آيات كثيرة مرّت أمثلة عديدة منها. غير أنهم كانوا إلى هذا يتخذون أوثانا متنوعة أيضا يقيمون عندها طقوسهم ويقربون قرابينهم على ما مرت إليه إشارات عديدة في سور سابقة. فالوصف قد عنى هنا هذه الأوثان التي كانت على الأرجح رموزا للملائكة على ما شرحناه في سياق سورة النجم. ولقد علقنا على موضوع عدم إيمان الكفار بالآخرة وعدم خوفهم منها في سياق سورة المدثر فلا نرى ضرورة للإعادة بمناسبة ما جاء في الآية [22] من ذلك إلّا التنبيه إلى ما تضمنته العبارة القرآنية هنا من تعليل لتناقض الكفار المشركين الذين كانوا يؤمنون بوجود الله وكونه الخالق الرازق النافع الضار وحده حيث كان عدم إيمانهم بالآخرة هو الذي يحملهم على الجحود برسالة النبي والقرآن واستكبارهم عنهما.

[سورة النحل (16) : الآيات 24 إلى 29]

هذا، ولقد أورد البغوي في سياق هذه الآية حديثا رواه بطرقه عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرّة من إيمان. فقال رجل يا رسول الله إن الرجل يحبّ أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا قال إنّ الله جميل يحبّ الجمال، الكبر بطر الحقّ وغمط الناس» وهذا الحديث مما رواه مسلم والترمذي عن عبد الله بن مسعود أيضا «1» . والاستكبار المذكور في الآية على ما تلهمه روحها وسياقها هو الاستكبار عن الدعوة النبوية، غير أن التفسير الذي جاء في الحديث يجعله مما يتناول هذا أيضا. ويلمح في الحديث حكم نبوية عديدة من وعد وبشرى للمؤمن ووعيد رهيب للمتكبرين ومن توضيح لمعنى الكبر المحرم ومن رفع الحرج عن رغبة المرء في أن يبدو ذا هيئة حسنة في حياته ومظهره إذا لم يكن في ذلك بطر للحق وغمط للناس. [سورة النحل (16) : الآيات 24 الى 29] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) . (1) أوزارهم: أثقالهم وهي كناية عن الذنوب والسيئات التي اجترحوها أو وزر كفرهم.

_ (1) انظر التاج ج 5 ص 30.

(2) ألا ساء ما يزرون: ألا ساء ما يحملون. (3) فأتى الله بنيانهم من القواعد: زلزل أساس بنيانهم بمعنى أنه دمّر عليهم مساكنهم وجعل عاليها سافلها. (4) تشاقّون فيهم: تجادلون بهم وتجعلونهم وسيلة للشقاق والعناد. (5) فألقوا السلم ما كنّا نعمل من سوء: أظهروا الخضوع والاستسلام وتنصلوا مما نسب إليهم من الأعمال السيئة. في الآيات: 1- إشارة إلى ما كان يقوله الكفار حينما كانوا يسألون عن الآيات القرآنية التي ينزلها الله على رسوله حيث كانوا يقولون إنها أساطير الأمم السابقة وقصصهم. 2- وإنذار رباني بأنهم بمثل هذه الأقوال التي تصدر منهم بغير علم ولا برهان إنما هم في الحقيقة يحملون أنفسهم أفدح الأوزار التي سوف يحاسبون عليها يوم القيامة. ولسوف يحملون بالإضافة إلى أوزارهم الكاملة بسبب كفرهم مسؤولية وأوزار الذين يضلّونهم أيضا وتكون من أسباب تشديد العذاب عليهم. ولبئس ما يحملون من أوزار. ولبئس العاقبة عاقبتهم. 3- وتذكير بأمثالهم من قبل: فقد وقفوا موقفهم من الكيد والمكر والكفر والتعجيز فدمر الله عليهم مساكنهم فوق رؤوسهم وسلّط عليهم العذاب في الدنيا دون أن يشعروا بمقدماته وينطوي في التذكير وعد رباني بمثل ذلك. وبالإضافة إلى ذلك فلسوف يخزيهم الله يوم القيامة ويسألهم سؤال التبكيت والإفحام عن الشركاء الذين كانوا يجادلون ويشاقون فيهم فلا يجدون ما يجيبون به لأن الحق يكون قد دمغهم. وحينئذ يقول المؤمنون الذين عرفوا الحق وأوتوا العلم إن الخزي والسوء واقعان اليوم على الكافرين. 4- ووصف لما يكون من حالة هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم وجنوا عليها وورطوها بالشرك: فلسوف تتوفاهم الملائكة بما يستحقونه من القسوة والتجهم.

ولسوف يعلنون استسلامهم ويتنصلون من آثامهم ولكن ذلك لن يجديهم شيئا فإن الملائكة سوف يدمغونهم بالحق ويقولون لهم إن الله عليم بما كانوا يفعلون. وأنهم قد استحقوا النار ثم يأمرونهم بدخول أبواب جهنم ليكونوا خالدين فيها، وهي المثوى الذي يستحقه المستكبرون ولبئس هي من مثوى. والآيات معطوفة على ما سبقها وهي استمرار لحملة التأنيب والإنذار. وأسلوبها ومضمونها قويان مرعبان، والمتبادر أنها استهدفت فيما استهدفته إثارة الخوف والرعب والندم في قلوب الكفار المشركين وحملهم على الارعواء. وعبارة وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ تلهم أن الجملة موجهة بصورة خاصة لزعماء الكفار وشارحة لمواقفهم وأقوالهم ومقررة أنهم السبب في بقاء دائرة الدعوة المحمدية ضيقة النطاق في العهد المكي مما تكرر تقريره في مواضع كثيرة في القرآن ومرت منه أمثلة عديدة. وفي الآيات تأييد لتعليقنا على الآيات السابقة في صدد كون الدعوة المحمدية قد توسلت بالعذاب والوعيد الدنيوي والأخروي معا. ولقد روى الطبري بطرقه في سياق الآية [25] حديثا عن الربيع قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم أيّما داع دعا إلى ضلالة فاتبع فإنّ عليه مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء وأيّما داع دعا إلى هدى فاتبع فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء» . وقد روى هذا الحديث مسلم وأبو داود والترمذي بصيغة قريبة جدا جاء فيها: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» «1» وفي الحديث تلقين متساوق مع التلقين الذي انطوى في الآية كما هو المتبادر.

_ (1) انظر التاج ج 1 ص 65- 66.

[سورة النحل (16) : الآيات 30 إلى 32]

[سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 32] وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) . عبارة الآيات واضحة، وقد احتوت بيانا عن موقف المؤمنين المتقين مما أنزل الله ومن المصير الحسن في الدنيا والآخرة لمن يؤمن ويحسن. مقابل البيان عن موقف الكفار جريا على الأسلوب القرآني. وقد انطوت على ثناء على المؤمنين وتنويه بهم كما انطوت على تشويق بالمصير السعيد الذي يكون لهم ولأمثالهم في الدنيا والآخرة معا. وتعبيرات لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ولِلَّذِينَ أَحْسَنُوا جديرة بالتنويه في مقامها. فهي وإن لم تكن مصروفة إلى المؤمنين فإنها تعني وجوب تلازم الإيمان مع تقوى الله والإحسان. وأن الدرجة الرفيعة والسعادة الموعودة في الدنيا والآخرة رهن بهذا الالتزام، والتقوى هي اتقاء الله في اجتناب الآثام والمنكرات والشهوات والجحود والإحسان هو القيام بالواجب نحو الله وعباده وتنفذ أوامره على أوفى وجه وأتمه وأفضله. وكل هذا جدير بتحقيق تلك الدرجة والسعادة الموعودة في الدارين من دون ريب، وفي هذا ما فيه من تلقين جليل مستمر المدى. ولقد روى الطبري في سياق الآية [26] عن السدي أنها تعني بختنصر أو نمرود وما كان من مكرهم وما كان تدمير الله لهم وأنه كان من مكر نمرود أن أخذ أربعة أفراخ من فراخ النسور فرباهن باللحم والخبز حتى كبرن وغلظن واستعلجن فربطهن في تابوت وقعد فيه ثم رفع لهن لحما فطرن حتى إذا ذهبن في السماء أشرف ينظر إلى الأرض فرأى الجبال تدب كدبيب النمل ثم رفع لهن اللحم ثم نظر فرأى الأرض ومحيطاتها بحركاتها فلكة في ماء ثم رفع طويلا فوقع في ظلمة فلم ير ما فوقه وما تحته وكان يقصد أن يطلع على الله الذي حدثه عنه إبراهيم ففزع فألقى

[سورة النحل (16) : الآيات 33 إلى 34]

اللحم فاتبعته النسور منقضات فلما نظرت الجبال إليهن وقد أقبلن منقضات وسمعت حفيفهن فزعت الجبال وكادت أن تزول من أمكنتها ولم يفعلن فكان هذا المكر. وروي عن ابن مسعود أن المكر هو صرح شيده نحو السماء ثم ارتقى فوقه لينظر إلى إله إبراهيم فأخذ الله بنيانه من القواعد فخرّ عليه السقف فسقط فتبلبلت ألسن الناس يومئذ من الفزع فتكلموا بثلاثة وسبعين لسانا، وسميت بابل باسمها لذلك. وواضح ما في هذا من خيال يقارب في مداه سفينة الفضاء اليوم، ولعل هذه القصة مما كان يرويه اليهود للعرب فيتداولونه عنهم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته ولسنا نرى أي تناسب بين هذه الرواية والعبارة القرآنية في مقامها التي يتبادر أنها بسبيل وصف ما كان من مناوأة الكفار السابقين لأنبيائهم وما كان من تدمير الله لهم ليكون في ذلك إنذار لكفار العرب وهو ما تضمنته آيات عديدة مرّت في سور سابقة. وكل ما في الأمر أن حكمة التنزيل اقتضت أن يكون التعبير عن ذلك بالصيغة التي جاءت عليها الآية. [سورة النحل (16) : الآيات 33 الى 34] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34) . (1) هل ينظرون: هل ينتظرون والضمير عائد إلى الكفار كما هو المتبادر. في الآيتين: 1- تساؤل استنكاري عما إذا كان الكفار لا يستجيبون للدعوة ولا يؤمنون انتظارا لنزول الملائكة عليهم أو حلول قضاء الله وأمره فيهم. 2- تذكير بأن أمثالهم من قبلهم قد فعلوا ذلك فنزل عليهم عذاب الله جزاء

[سورة النحل (16) : الآيات 35 إلى 37]

أعمالهم السيئة وأصابهم سوء عاقبة الاستهزاء الذي كانوا يقابلون به أنبياءهم. وهم في ذلك إنما كانوا الجناة على أنفسهم الظالمين لها ولم يظلمهم الله وإنما عاقبهم عقابا عادلا استحقوه بأفعالهم. والآيتان استمرار في السياق كما هو المتبادر، وفيها عود إلى إنذار الكفار موضوع الكلام قبل الآيات السابقة مباشرة التي جاءت كما قلنا للمقابلة بين أقوال الكفار ومواقفهم وأقوال المؤمنين ومواقفهم وما يترتب على ذلك. وقد تضمنتا دعوة لهم إلى الاعتبار بمن قبلهم ممن وقفوا موقفهم كما تضمنتا صورة من هذا الموقف حيث كانوا يقابلون دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بالاستهزاء ويتحدونه بتعجيل العذاب والإتيان بالملائكة تحدي الساخر الجاحد، وقد تكررت حكاية ذلك عنهم مما مرّت منه أمثلة عديدة في السور السابقة. [سورة النحل (16) : الآيات 35 الى 37] وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37) . (1) الطاغوت هنا بمعنى الأصنام والشرك. الآيات متصلة بالسياق نظما وموضوعا كما هو المتبادر، وعبارتها واضحة. وما حكته الآية الأولى من أقوال الكفار قد حكته عنهم بعض آيات سورتي الأنعام والزخرف، مما يدل على أنهم كانوا يكررون ذلك في معرض

الجدل والاحتجاج، وتبرير ما هم عليه من شرك وتقاليد باطلة ومما علقنا عليه تعليقا يغني عن التكرار. والرد الوارد عليهم في الآيات موجه إلى العقل والقلب معا، وفيه إنذار للكفار وتطمين وتسلية للنبي عليه السلام. فهذا القول ليس جديدا فقد كان يقوله الكفار المشركون من الأمم السابقة. ولقد أرسل الله إلى كل أمة رسولا لبيان الحق والباطل والحلال والحرام، وعبادة الله وحده واجتناب الشرك والأوثان لأن الناس قد لا يدركون هذا من أنفسهم فكان منهم المهتدي ومنهم الضال. وليس على الرسل إلا البلاغ فمن هداه الله اهتدى ومن حقّت عليه الضلالة ضلّ. وفي الآية الأخيرة التفات للنبي على سبيل التطمين فالله يعلم أنه حريص على هداية الجميع ولكن الله لا يمكن أن يهدي من حقت عليه الضلالة وضل فلا محل للاغتمام والحزن، ولن يجد هؤلاء لهم ناصرا ولا منقذا. وقد آمن معظم الذين ضلوا وكفروا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم في مكة فيما بعد وحسن إسلامهم مما يؤيد ما ذهبنا إليه من أن الآيات على سبيل تطمين النبي صلى الله عليه وسلم، ومما ينطوي فيه ما ذكرناه في مناسبة سابقة مماثلة من قصد تقرير واقع الكفار الضالين حين نزول الآيات، وليس قصد التأبيد في الإضلال الذي قد يعني عدم التوفيق والسداد والذي ليس إلّا بالنسبة للذين كفروا وضلوا وماتوا على ذلك. وبالنسبة لما احتوته الآيات من كون الذين يهديهم الله يهتدون ومن يضلهم الله يضلون، وإن من الناس من هدى الله ومنهم من حقت عليهم الضلالة. نقول إنه إذا لحظ التخصيص الذي احتوته آية البقرة [26] : يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ وآية إبراهيم [27] : وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وآية الرعد [27] : قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ زال ما يمكن أن توجده عبارة الآيات من وهم ولم يبق محل لتشاد

[سورة النحل (16) : الآيات 38 إلى 40]

الكلاميين حولها على ما نبهنا عليه في المناسبات المماثلة السابقة. وفي سورة الأعراف آية مماثلة للآية [36] مع تعليق وتوضيح مزيلين للوهم أيضا، وهي: فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) . هذا، ولقد علقنا على موضوع إرسال الله رسله إلى كل أمة في سياق تفسير سورة فاطر فنكتفي بهذه الإشارة بالنسبة لما جاء في الآية [36] . [سورة النحل (16) : الآيات 38 الى 40] وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) . والآيات متصلة بما سبقها كذلك سياقا وموضوعا، وعبارتها واضحة. وقد خوطب العقل والقلب معا بما احتوته من تقرير وحكمة ومنطق ردا على أيمان الكفار الشديدة بأن الله لن يبعث من يموت تعبيرا عن عقيدتهم التي كانوا يكررون تقريرها باستحالة ذلك والتي كانت من أهم ما دار الجدل والحجاج حوله بين النبي وبينهم على ما ذكرناه في المناسبات السابقة. فليس من المعقول أن يكون الله قد خلق الكون عبثا وأن يضيع أجر المحسنين وجريمة المجرمين، وليست الدنيا إلّا دار اختبار ولا يمكن إلّا أن يكون لها تتمة للقضاء والجزاء. والذين يعتقدون بالله وقدرته الشاملة يجب أن يدركوا هذه الحكمة ويعترفوا بأن الله قادر على تحقيق وعده فلا يحتاج أي شيء يريده الله إلّا أن تتعلق به إرادته فيكون ولسوف يتحقق ذلك ويرى الكافرون به أنهم كانوا كاذبين. ولقد روى الطبري في سياق الآية الأولى أنه كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين فأتاه يتقاضاه وأقسم قائلا: «والذي أرجوه بعد الموت إن

[سورة النحل (16) : الآيات 41 إلى 42]

الأمر لكذا» فقال المشرك: إنك تزعم أنك تبعث بعد الموت؟ فأقسم بالله جهد يمينه لا يبعث الله من يموت فأنزل الله الآية. وروى الرواية الطبرسي معزوة إلى أبي العالية، وهذه الرواية لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة ويلحظ أن الآية معطوفة على ما قبلها ومنسجمة مع ما بعدها بحيث يسوغ التوقف في الرواية كسبب لنزول الآية لحدتها والترجيح بأنها بسبيل التعبير عن رأي جمهور المشركين الكفار. هذا، ومفسر والشيعة وعلماؤهم يتخذون الآية الأولى دليلا على صحة عقيدتهم بالرجعة التي شرحناها في سياق تفسير الآية [82] من سورة النمل، والتعسف في ذلك واضح سواء أمن ناحية فحوى الآية أم من ناحية سياقها شأنهم في التعسف في تأويل غيرها. ولقد روى الطبري عن قتادة عن ابن عباس أنه قال: «إن رجالا في العراق يتأولون الآية الأولى ويقولون إن فيها دليلا على بعث علي بن أبي طالب للحياة قبل يوم القيامة. وقد كذب هؤلاء لأن الآية للناس عامة وبالنسبة للبعث يوم القيامة ولو علمنا أن عليا مبعوث قبل القيامة ما تزوجنا نساءه ولا قسمناه ميراثه» . [سورة النحل (16) : الآيات 41 الى 42] وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) . في الآيتين تنويه وبشرى للذين هاجروا بسبب ما وقع عليهم من أذى وظلم، وتمسكا بدين الله الحق، فلسوف ييسّر الله لهم الخير والنجاح والمقام الحسن الأمين في الدنيا ثم يكون أجرهم في الآخرة أعظم وأكبر. لأنهم صبروا على ما وقع عليهم وهجروا وطنهم في سبيل الله ودينه وجعلوا اعتمادهم وتوكلهم على الله تعالى. تعليق على آية وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ وما بعدها ويبدو لأول وهلة أن الآيتين غير متصلتين بالسياق السابق ولا باللاحق

وأنهما فصل مستقل، غير أن عودة السياق بعدهما إلى التنديد بالكفار وإنذارهم تسوغ القول أنهما جاءتا استطراديتين لبيان ما كان من أثر مواقف الكفار وكيدهم والتنويه بالذين ثبتوا على دين الله الحق وتحملوا الشدائد ثم هاجروا تمسكا به، وهما والحالة هذه غير بعيدتين ولا غريبتين عن جوّ السياق. وقد روى المفسرون أن الآيتين نزلتا في بعض المسلمين الذين منعهم قومهم عن الهجرة إلى المدينة وسجنوهم وأرادوا فتنتهم فصبروا وثبتوا ثم تمكنوا من الهجرة فهاجروا «1» كما رووا أنهما نزلتا في الذين هاجروا إلى الحبشة حينما اشتد أذى المشركين على الذين آمنوا من قومهم «2» . وهذه الرواية هي الأصح لأن الرواية الأولى تقتضي أن تكون الآيتان مدنيتين مع أنه لا خلاف في مكيتهما. ولقد احتوت الآية العاشرة من سورة الزمر التي نزلت قبل هذه السورة بأمد غير بعيد حضا للمسلمين على تقوى الله ووعدا بالخير والعاقبة الحسنة في الدنيا للذين أحسنوا، وتنبيها إلى أن أرض الله واسعة وأن الله موف للصابرين أجرهم بغير حساب، وإعلانا بأن الله قد أمر نبيه بعبادة الله وحده والإخلاص له مما انطوى فيه إلهاما أو إذنا للمضطهدين من المسلمين بالهجرة وتلقينا بوجوب التمسك بدينهم فجاءت الآيتان تخبران أن فريقا من هؤلاء قد اتبعوا إلهام الله أو إذنه فخرجوا مهاجرين في سبيل دينه وتعدانهم بالخير والفلاح والأجر الكبير في الدنيا والآخرة. وروايات السيرة النبوية تذكر «3» أنه لما ظهر الإسلام وكثر الذين آمنوا من قريش- وخاصة من شبابهم- ثار كبار ذويهم من المشركين عليهم وأخذوا يؤذونهم ويضطهدونهم ويحاولون ردهم عن الإسلام فأشار عليهم النبي بالهجرة إلى بلاد الحبشة وقال لهم: «إنّ فيها ملكا لا تظلمون عنده» . وقد هاجر في دفعة أحد عشر رجلا وأربع نساء معظمهم من شباب قريش ومن أبناء زعماء المشركين المناوئين للدعوة أو أقاربهم. وقد بلغهم أن المشركين آمنوا فعادوا وظهر لهم عدم صحة ما

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي. (2) انظر الكتابين المذكورين وتفسير ابن كثير والخازن والطبرسي. (3) انظر الجزء الأول من كل من كتاب الطبقات لابن سعد وسيرة ابن هشام.

بلغهم وعاد قومهم إلى اضطهادهم فهاجروا مرة أخرى، وانضمّ إليهم غيرهم حتى بلغ عددهم ثلاثة وثمانين رجلا وثماني عشرة امرأة معظمهم من قريش ومن أبناء المشركين المناوئين للدعوة أو أقاربهم حتى لم يكد بطن من بطون قريش وأسرها الكبيرة إلا وكان منها بعضهم نساء أو رجالا «1» ، وظلوا هناك إلى السنة الهجرية السادسة حيث صار النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في منعة وقوة في المدينة فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم من أحضرهم إليها. وقد أوّل المؤولون ومنهم الشعبي جملة لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً بما كان من عودتهم إلى المدينة ونزولهم فيها المنزل الحسن وهذا صواب. وبه تحققت معجزة قرآنية بما كان من صدق وعد الله تعالى لهم والله لا يخلف الميعاد. وفي الآية مع ذلك تلقين مستمر المدى لكل من ظلم فهاجر من ظلمه حيث تمده بمدد روحاني في اليقين بأن الله عز وجل ناصره ومبوّئه المبوّأ الحسن في الدنيا بالإضافة إلى الأجر الأخروي الأكبر جزاء صبره وتوكله على الله تعالى. ولقد كان من المؤمنين كثير من الفقراء والمساكين والأرقاء وأهل الكتاب من قاطني مكة، فرواية كون معظم المهاجرين إلى الحبشة من الأسر القرشية ومنهم من أبناء كبار الزعماء وأقاربهم تدل على أن نقمة هؤلاء الزعماء واضطهادهم كانت أشدّ على أبنائهم وأقاربهم وأبناء الأسر القرشية في الدرجة الأولى خشية أن تسري عدواهم إلى غيرهم من أبناء هذه الأسر في الدرجة الأولى وفي هذا ما فيه من صور السيرة النبوية في العهد المكي. ولقد حاول بعض المستشرقين أن يغمزوا المهاجرين في صبرهم وجلدهم ويعزوا هجرتهم إلى الرغبة في النجاة بأنفسهم ولو كان في ذلك تخلّ عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي هذا تجنّ آت من سوء النية والجهل بظروف البيئة النبوية فالذين هاجروا كانوا بين أمرين إما أن يتعرضوا لأذى شديد قد تخونهم فيه أعصابهم

_ (1) المصدر السابق نفسه.

[سورة النحل (16) : الآيات 43 إلى 44]

فيرتدوا وإما أن يصبروا حتى يودي الصبر بحياتهم. وقد وقعت الصورتان في بعض الذين آمنوا على ما روته الروايات وأشير إليه في سورة البروج ثم في بعض آيات سورة النحل هذه على ما سوف يأتي شرحه بعد. وليس في الصبر حتى الموت مصلحة للمسلمين، والخوف من انهيار الأعصاب واقع فليس في التفادي من الصورتين محل للغمز بل فيه دليل على تعلق المهاجرين بدينهم وتضحيتهم في سبيله بوطنهم وأموالهم لأن منهم من كان غنيا وهذا مستوجب للثناء والإعجاب. وكانت الهجرة بإذن النبي وإلهام القرآن وأسلوب الآيتين دليل على أن عملهم كان مستحقا للثناء حقا، وهو حاسم لأنه وحي الله الذي بلغه رسوله. والغريب أن الغامزين يتجاهلون صورة واقعة متكررة في كل ظرف ومكان منذ الأجيال البشرية الأولى إلى الآن وإلى ما شاء الله بسبيل شفاء غلّ النفس بالتعليق والغمز. [سورة النحل (16) : الآيات 43 الى 44] وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) . (1) أهل الذكر: كناية عن أهل الكتاب. (2) البيّنات: الآيات الواضحة أو المعجزات. (3) الزبر: جمع زبور بمعنى الكتاب والكتب. (4) الذكر: كناية عن القرآن وقد وصف القرآن بالذكر في آيات عديدة مرّ بعضها. في الآيتين تقرير: 1- بأن الله تعالى لم يرسل من قبل النبي صلى الله عليه وسلم رسلا إلى البشر إلّا رجالا

مثله فينزل عليهم الكتب والآيات الواضحة والمعجزات، ويبين بواسطتهم للناس سبيل الحق. وأنه قد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بشرا كالأنبياء السابقين، ونزل عليه مثلهم الكتاب ليبين للناس سبيل الحق ويدعوهم إليها لعلهم يهتدون ويتفكرون. 2- وخطاب للسامعين على سبيل التوكيد والتحدي بأن يسألوا أهل العلم والكتاب إذا كانوا لا يفهمون ولا يعلمون هذه الحقيقة. والآيتان بسبيل توكيد كون رسالة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن حقّا وجريا على سنّة الله، وهما في نطاق المواضيع التي سبقت آيتي الهجرة من حيث صلتهما بموقف الكفار من الرسالة المحمدية وإنذارهم كما هو المتبادر. وقد جاءتا بأسلوب قوي يتضمن معنى التحدي والإفحام ومعنى كون السامعين يعرفون سنة الله التي جرت من قبل في إرسال الرسل بشرا وإنزال الكتب عليهم. ومن هنا جاء الإفحام والإلزام، وقد ذكرت آيات عديدة أن الكفار كانوا يعرفون ذلك مثل آيات سورة القصص هذه: وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى [48] وآية سورة الأنبياء هذه: بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) ، وآية سورة الأنعام هذه: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) . وأسلوب الآية الأولى وما فيها من تحدّ يتضمن معنى التوكيد بأن شهادة أهل الذكر ستأتي مؤيدة، كما أنه قد يدل على ما كان لأهل الكتاب من اعتبار في نفوس العرب. وهذا ما تكرر الإلماع إليه في آيات عديدة في سور مرّ تفسيرها مثل الإسراء والأنعام والفرقان.

تعليق على جملة وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون واستطراد إلى السنة النبوية القولية والفعلية وهدفها وواجب المسلمين نحوها

تعليق على جملة وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ واستطراد إلى السنّة النبوية القولية والفعلية وهدفها وواجب المسلمين نحوها والمتبادر أن هذه الجملة لا تعني تبليغ الناس ما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم من قرآن فقط، بل تعني أيضا توضيح وتفسير وشرح ما قد يكون في حاجة إلى ذلك من القرآن. وفي هذا إيذان رباني بأن الله سبحانه يعلم استعداد رسوله لذلك، وأن ذلك كان من أسباب اصطفائه لرسالته، وأن ما يثبت عنه من ذلك واجب الاتباع كما هو شأن القرآن. وقد أيدت هذا المعنى بصراحة هذه الجملة: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا في آية سورة الحشر السابعة. وهناك آيات عديدة أخرى فيها تأييد لذلك فيما هو المتبادر مثل آيات سورة النساء هذه: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14) ، وآية سورة النساء هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) ، وآية سورة النساء هذه: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) ، وجملة: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ في آية النساء [59] مهمة في هذا الباب. فواجب المسلمين إذا اختلفوا في أمر أن يرجعوا فيه إلى القرآن الذي يمثل الله عز وجل فإن لم يجدوا فيه نصا حاسما محكما وجب عليهم الرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وسنّته القولية والفعلية الثابتة بعد موته. ومخالفة ذلك خروج من ربقة الإسلام، وينطوي في هذا تقرير كون بيان الرسول وسنته حاسمين فيما ليس فيه حكم قرآني حاسم ومحكم.

ويحسن أن ننبه في هذه المسألة على نقطة هامة في الأمر متفق عليها من جمهور الفقهاء والمحدثين وهي أن السنّة النبوية الصحيحة القولية والفعلية لا تتناقض مع أحكام القرآن الحاسمة المحكمة ولا تخرج عن نطاق خطوطه ومبادئه وتلقيناته وتوجيهاته العامة. وأنها بسبيل توضيح وتفسير وشرح وتخصيص وإتمام ما يحتاج إلى توضيح وتفسير وشرح وتخصيص وإتمام من آيات القرآن وأحكامه أو تشريع لما سكت عنه القرآن كليا أو جزئيا، وهذا هو المقصود كما هو المتبادر من جملة لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النساء: 4] والله أعلم. ولقد روى أبو داود والترمذي عن المقدام بن معد يكرب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه وما وجدتم فيه من حرام فحرّموه. ألا لا يحلّ لكم الحمار الأهلي ولا كلّ ذي ناب من السبع ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه» «1» مما فيه توضيح وتدعيم لما نحن في صدده. ولقد روى الإمام أحمد عن أبي حميد وأبي أسيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سمعتم الحديث عنّي تعرفه قلوبكم وتلين له أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم قريب فأنا أولاكم به وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه بعيد فأنا أبعدكم عنه» «2» مما قد يكون فيه ضابط آخر لصحة أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ (1) التاج ج 3 ص 86 و 87. هناك أحاديث كثيرة جدا فيها أحكام وتشريعات نبوية من باب هذا الحديث وبسبيل ما ذكر قبله. (2) أورد هذا الحديث ابن كثير في سياق تفسير الآية [88] من سورة هود وقال المفسر إن إسناده صحيح ورد في مجمع الزوائد ج 1 ص 149 و 150 برواية الإمام أحمد والبزار ووصف بأن رجاله رجال الصحيح.

ويحسن كذلك أن ننبّه على مسألة هامة أخرى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن كتابة شيء غير القرآن عنه «1» حتى لا يختلط بالقرآن وهو وحي الله. ولذلك لم يدون في حياته من سننه القولية والفعلية إلّا القليل حيث روي أن عبد الله بن عمرو بن العاص من شباب الصحابة دوّن بعض الأحاديث في سجل أو أوراق عرفت بالصادقة أو المصدقة ولما تفرق أصحاب رسول الله في الأمصار بعد الفتوحات وانضوى إلى الإسلام أجيال جديدة من العرب وغير العرب صار الأمر في حاجة إلى معرفة السنن النبوية فبدىء بتدوينها في نطاق ضيّق أولا في القرن الهجري الأول ثم اتسع النطاق في القرنين الثاني والثالث حتى صارت الأحاديث تعد بمئات الألوف بعد أن كانت تعدّ بالمئات ثم بالألوف القليلة «2» . ولقد نشب بين المسلمين في القرون الثلاثة الأولى نزاع وخلاف فكان ذلك مما أدى إلى هذه الكثرة العجيبة، وقد اختلط الغثّ فيها بالسمين بسبب بقاء كثير منها في الصدور تتداولها الألسنة، وعرف على التحقيق في الوقت نفسه أن بعض الزنادقة وذوي الأهواء تجرأوا على رسول الله وأصحابه فوضعوا عليهم أحاديث كثيرة أيضا. غير أن الله قيض لدينه وسنّة نبيه رجال صدق وإخلاص في القرون الثلاثة فتجردوا لتحرير السنّة والأحاديث وتصنيفها واستطاعوا أن يستخلصوا عددا كبيرا منها يتسم بالصحة والصدق رواية ومتنا ويشع فيها نور القرآن والنبوة ويتسق مع خطوط القرآن ومبادئه وأحكامه ولا يتناقض معه. منها ما احتوته كتب البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي ومالك وهو الطبقة الأولى. ومنها ما يأتي بعد هذه الطبقة من كتب أئمة الحديث الآخرين الذين يأتي في مقدمتهم الشافعي وابن حنبل وأبو عبيد وأبو يوسف والبيهقي وابن ماجه والدارقطني والتي فيها أيضا أحاديث كثيرة يصح أن تكون صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي هذه الأحاديث وتلك من روائع التعليم والبيان والتلقين والهدى والحكمة والسداد في مختلف الشؤون ما يتساوق مع

_ (1) روى مسلم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تكتبوا عني غير القرآن، ومن كتب شيئا فليمحه» كتاب السنّة للسباعي صفحة 72. (2) المصدر نفسه.

مبادئ القرآن وتلقيناته وخطوطه وتقريراته العامة، مما أوردنا كثيرا منه، وسوف نورد كثيرا منه، في مناسباته، يحدوهم إلى ذلك إيمانهم بالله ورسوله وقصد الخدمة الخالصة لدين الله وشرائعه. ويتهيبون في كل ما بذلوه من جهد ما ورد في حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أنس قال: «إنه ليمنعني أن أحدّثكم حديثا كثيرا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تعمّد عليّ كذبا فليتبوأ مقعده من النار» «1» . وما ورد في حديث ثان رواه البخاري والترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّا مقعده من النار» «2» . وحديث ثالث رواه الشيخان والنسائي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدى هدى محمد وشرّ الأمور محدثاتها وكلّ محدثة بدعة وكلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة في النار» «3» . وحديث رابع رواه الإمام مالك عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم «تركت فيكم أمرين لن تضلّوا ما تمسّكتم بهما كتاب الله وسنّة رسول الله» «4» . وبفضل هذه الجهود المبرورة لم يبق والحمد لله محل للقول بأن السنة النبوية القوليّة والفعليّة قد اضطربت ولم يعد إمكان للأخذ بها، وكل من يقول هذا بعد أن

_ (1) التاج ج 1 ص 63. (2) المصدر نفسه ص 58 وفي مجمع الزوائد ج 1 ص 142- 144 أحاديث عديدة من باب هذين الحديثين رواها أئمة آخرون بطرق مختلفة وعن أشخاص آخرين. (3) المصدر نفسه ص 37 والمتبادر أن المحدثات المذمومة هي الأمور الجديدة التي تتناقض مع أحكام ومبادئ وتلقينات كتاب الله وسنة رسوله ومصلحة الإسلام والمسلمين، وليست الأمور الجديدة مطلقا. وهناك حديثان نبويان يدعمان ذلك منهما حديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» . وحديث رواه مسلم والترمذي عن جرير بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء ومن سنّ في الإسلام سنّة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء» ص 65- 67. (4) المصدر نفسه ص 40. [.....]

ثبتت صحة عدد كبير من الأحاديث والسنن القولية والفعلية مارق أو عدو مغرض يهدف إلى تعطيل مصدر رئيسي من مصادر الشريعة الإسلامية عرف منه كثير مما سكت عنه أو عن تفصيله القرآن سواء في الأمور التعبدية أم في الأمور المدنية. وكل ما يمكن أن يقال هو وجوب التروي والأناة في تلقي السنّة النبوية وحسن تفهمها ودراستها من حيث الرواة والمتون والمطابقة إجمالا مع القرآن وعدم التعارض والتناقض. وقد يكون فيما ورد في كتب الأحاديث المعتبرة منها ولا يتناقض مع صريح القرآن أشياء لا يدركها عقل الإنسان العادي من شؤون الدنيا والآخرة وأحداث الأمم والأنبياء السابقين وما يكون في آخر الزمان ومن الشؤون الغيبية مما سبق التنبيه إليه في مناسبات عديدة. ومثل هذا موجود في القرآن المجيد فلا يجوز للمسلم أن يسارع إلى إنكارها ويجب عليه أن يفوض الأمر في ذلك إلى الله وحكمة الرسول كما هو واجبه بالنسبة لما من مثل ذلك في القرآن مع الاعتقاد بأنه لا بد من أن يكون في ذلك من حكمة ولو لم يستطع لمحها، هذا مع التنبيه على أن علماء الحديث رحمهم الله قد عرفوا كذب كثير من الأحاديث المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونبهوا عليها كما نبهوا على ما هو ضعيف أو منقطع من الأحاديث أيضا فصار من الممكن للنبهاء وذوي الدارية التعرف عليها والتوقف فيها وعدم الأخذ بها. أما العامة فعليهم أن يسألوا أهل العلم الموثوقين في داريتهم وورعهم ويقفوا عند كلامهم «1» . ومن الجدير بالتنبيه في هذا المقام أن ما هناك من اختلاف بين علماء الحديث والفقه في سنن رسول الله القولية والفعلية الواردة في كتب الأحاديث المعتبرة ليس هو على صحتها وإنما هو على احتمال النسخ فيها وبسبيل ترجيح الأقوى سندا منها والاجتهاد فيما إذا كانت وجوبية أو استحبابية أو عامة أو خاصة إلخ مما لا يتسع المقام لتفصيله. هذا وهناك مسألة هامة يحسن التنبيه عليها أيضا، وهي أن معظم الأحاديث

_ (1) اقرأ لأجل هذا البحث كتاب قواعد التحديث للقاسمي والسنّة للسباعي.

النبوية مدنية الصدور والرواة، وحتى التي فيها تفسير الآيات المكيّة وأسباب نزولها وتطبيقاتها وأحداث السيرة النبوية في العهد المكي. وعلى سبيل المثال نذكر أبا هريرة وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك وابن عباس وجابر بن عبد الله وعائشة أم المؤمنين وأبا سعيد الخدري رضي الله عنهم الذين روي عنهم آلاف الأحاديث «1» . فأكثرهم من أهل المدينة أو ممن انضم إلى الإسلام في العهد المدني والقرشيون منهم كانوا أحداثا أو أطفالا حين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولا يصح أن يكونوا قد رووا عنه شيئا في مكة مثل عائشة وابن عباس وابن عمر. وهناك عشرات من أصحاب رسول الله ممن رووا المئات والعشرات من الأحاديث من هذا النوع «2» . والحكمة التي نلمحها في ذلك أن العهد المكي كان عهد دعوة وحجاج ولجاج بين النبي والكفار. وكان قسم كبير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجر إلى الحبشة ولم يبق إلى جانب النبي إلّا القليل. ومعظم الأحاديث هي من ناحية أخرى في صدد التشريع والتعليم والتأديب للمسلمين وهذا إنما كان مسرحه في الدرجة الأولى العهد المدني. ولقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة يعرفون ما كانت تذكره الآيات المكية من أحداث والأسباب والمناسبات التي كانت تنزل فيها. فالأسئلة في صددها كانت توجه من أهل العهد المدني للنبي صلى الله عليه وسلم فيصدر منه الجواب فيروونه عنهم والله تعالى أعلم.

_ (1) عدد الأحاديث المروية عن أبي هريرة 5374 وعبد الله بن عمر 2630 وأنس بن مالك 2286 وعائشة 2210 وابن عباس 1660 وجابر بن عبد الله 1540 وأبي سعيد الخدري 1170 (انظر كتاب قواعد التحديث لجمال القاسمي، ص 47 وما بعدها) . (2) نذكر على سبيل المثال أسماء أبي بن كعب وزيد بن ثابت وعمران بن الحصين وأبي موسى الأشعري وأبي الدرداء وعقبة بن عامر رضي الله عنهم وغيرهم وغيرهم وجميعهم من أهل العهد المدني.

[سورة النحل (16) : الآيات 45 إلى 47]

[سورة النحل (16) : الآيات 45 الى 47] أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) . (1) في تقلبهم: في تجوالهم وأسفارهم إلى آفاق الأرض. (2) على تخوف: التخوف بمعنى التنقص فيقال تخوف مال فلان الإنفاق أي جعل الإنفاق ماله متناقصا شيئا بعد شيء حتى نفد. ومما قاله المفسرون أيضا: إن معنى الجملة أن يلاحق الله مصائبه عليهم في الأنفس والأموال والثمرات فينتقص من أطرافهم حتى يهلكوا. في الآيات: 1- تساؤل يتضمن معنى التنديد والإنذار عما إذا كان الذين يمكرون السيئات ويقفون من النبي موقف الجحود والمكر والكيد قد أمنوا نقمة الله وغضبه في حين أنه قادر على أن يخسف بهم الأرض أو يسلّط عليهم بلاء مفاجأة من حيث لا يدرون، أو يسلّط عليهم أسباب الخوف والهلاك والعذاب والخسران في رحلاتهم وينقصهم في أموالهم وأنفسهم. 2- وتقرير ينطوي على أن الله إذا لم يفعل بهم شيئا من ذلك عاجلا فلأنه ترك لهم المجال للتدبر والتفكر وفق ما اقتضته حكمته وصفات الرحمة والرأفة التي يتصف بها. والآيات متصلة بسابقاتها وعاطفة عليها، ومتسقة مع موضوع السياق بوجه عام كما هو المتبادر. وقد استهدفت إثارة الخوف في قلوب الكفار ومنحهم فرصة الرجوع إلى الله. وما انطوى في الفقرة الأخيرة من الآية الثالثة انطوى بصراحة أكثر في آية سورة الكهف السابقة لهذه السورة: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما

[سورة النحل (16) : الآيات 48 إلى 50]

كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) ، وآية سورة فاطر هذه: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45) ، وجاء في آية في سورة النحل نفسها تأتي بعد قليل. ولقد آمن معظم الذين كفروا وكانوا موضوع إنذار الله ظهرت حكمة الله ومعجزة القرآن في إمهالهم وفي كون الله عز وجل إنما توخّى من إنذارهم وتقريعهم صلاحهم وهدايتهم. [سورة النحل (16) : الآيات 48 الى 50] أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50) . (1) يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل: تتقلب ظلاله أو تدور ظلاله من اليمين إلى الشمال وبالعكس. (2) داخرون: صاغرون. (3) من فوقهم: المتبادر أن المقصد من الجملة العلوّ المعنوي لأن الله سبحانه وتعالى منزّه عن الفوقية التي تتضمن تحديدا وجهة. في الآيات تساؤل ينطوي على التنديد ثم على لفت النظر إلى مشاهد كون الله وخضوع خلقه له، فكل ما خلق الله مما يتقلب ظلاله من اليمين إلى الشمال ومن الشمال إلى اليمين خاضع منقاد لله لا يخرج عن أمره وتسييره. وكل ما في السموات والأرض من حيّ ومن ملك خاضع منقاد له كذلك، يخافونه ويرهبونه ويسارعون إلى تنفيذ أوامره دون استكبار أو تردد. والآيات استمرار في السياق نظما وموضوعا، والخطاب فيها موجه إلى الكفار الذين هم موضوع الكلام في السياق. وقد تضمنت التنديد بهم لشذوذهم

[سورة النحل (16) : الآيات 51 إلى 55]

عن جميع خلق الله في كونه. ولعل ذكر الملائكة تضمن تقرير كون الملائكة الذين يتخذهم الكفار أولياء وشركاء لا يخرجون عن سائر خلق الله في الخضوع والسجود له وتنفيذ أوامره. وبهذا يكون الإنذار والتنديد أشدّ استحكاما. [سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 55] وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) . (1) واصبا: لازما أو ثابتا أو مترتبا أو خالصا. (2) فإليه تجأرون: إليه ترفعون أصواتكم بالاستغاثة والدعاء. الخطاب في الآيات موجه للسامعين كمخاطبين. واحتوت الآيات الثلاث الأولى إيذانا لهم بأن الله قد نهى عن اتخاذ إلهين اثنين أي هو مع غيره، وقرر إنما الإله واحد وهو ذاته وأمر بالخشية منه وحده. فهو الذي له ملك السموات والأرض والذي وجب أن يكون التعبد والخضوع له وحده فكيف يصح أن يتقي أحد غيره. وهو الذي أنعم على الناس بكل ما يتمتعون به من نعم، وهو الذي يوجه الناس أصوات الدعاء والاستغاثة إليه وحده إذا مسّهم الضرّ. وقد حكت الآية الرابعة حال بعض المخاطبين حيث لا يتورعون عن الشرك بالله الذي يوجهون إليه وحده أصوات الاستغاثة إذا مسّهم الضرّ إذا ما استجاب لهم وكشف عنهم الضرّ. وقد احتوت الآية الخامسة إنذارا وتحديا لهؤلاء. فالذي يفعله هؤلاء هو كفر صريح بنعمة الله وأفضاله عليهم فليتمتعوا قليلا بذلك فلسوف يرون عاقبة هذا الكفر والجحود. والآيات متصلة بسابقتها موضوعا وسياقا، وفيها استطراد تنديدي بعقيدة المشركين وتناقضهم حيث كانوا يعتقدون بأن الله هو المعاذ الأعظم والمؤثر الأكبر ويلجأون إليه ويجأرون بالاستغاثة به حينما تحدق بهم الأخطار ويمسهم الضرّ ثم

[سورة النحل (16) : الآيات 56 إلى 61]

لا يتورعون عن العودة إلى شركهم بعد أن يكشف عنهم الضر ويبعد عنهم الخطر. وهذا المعنى قد تكرر في آيات عديدة مرّ بعضها. وقوة الإفحام والتنديد آتية من هذه الناحية في الدرجة الأولى. وينطوي في الآيات تقرير كون المشركين إذ يشركون مع الله غيره في الاتجاه والدعاء إنما يشركونهم على أنهم وسائل وشفعاء لديه وهو ما تكرر تقريره في آيات عديدة مرّ بعضها أيضا. وهناك من قال إن النهي عن اتخاذ إلهين اثنين عنى ما كان معروفا من عبادة الفرس لإلهين هما إلهين النور وإله الظلمات أو إله الخير وإله الشر. لأنه ليس هناك ملة غيرها كانت تعبد إلهين فقط في ظروف نزول الآيات. فالمشركون كان لهم آلهة كثيرون يشركونهم مع الله، والنصارى كانوا يقولون بالأقانيم الثلاثة، واليهود كانوا موحدين وكل ما هناك أنهم أو أن منهم من كان يقول ببنوة العزير على ما جاء في آية سورة التوبة هذه: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [30] ، فنسجل ذلك دون القطع بصحته أو نفيه لأنه ليس هناك أثر وثيق متصل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو أصحابه في ذلك. [سورة النحل (16) : الآيات 56 الى 61] وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) . (1) أيمسكه على هون: يسأل نفسه هل يستبقيه حيّا على مضض واستهانة شأن.

في الآيات حكاية لبعض عقائد وطقوس المشركين في معرض التنديد والتسخيف والإنذار بأسلوب قوي لاذع: 1- فهم يخصصون قسما مما رزقهم الله لشركائهم الذين لا يستندون في إشراكهم مع الله إلى علم وبينة. 2- وينسبون إلى الله سبحانه اتخاذ البنات في حين أنهم يرغبون عنهن ويشتهون لأنفسهم الأفضل أي البنين، وفي حين أنهم حينما يبشر أحدهم بولادة بنت يسودّ وجهه ويضيق صدره غيظا ويتوارى من الناس خجلا ويحار فيما يفعله بالمولودة هل يدسها في التراب فيتخلص منها أم يحتفظ بها مع الشعور بالهوان والغضاضة. 3- ولسوف يسألهم الله عما كانوا يفترونه عليه ويحاسبهم، ولبئس ما يعتقدون من عقائد ويسيرون عليه من تقاليد. 4- وهم يضربون في ذلك الأمثال السيئة لله عز وجل، وإن الأمثال السيئة للذين لا يؤمنون بالآخرة. أما الله القوي الحكيم فإن له المثل الأعلى في كل أمر. 5- ولولا أن حكمة الله اقتضت أن يؤخر عقاب المجرمين الظالمين إلى أجل معين في علمه ولو أراد أن يؤاخذ الناس ويعاقبهم فورا بما يبدو منهم من انحراف وإجرام لأبادهم حتى لا يبقى على ظهر الأرض دابة تدبّ عليها، ولسوف يرجع الناس إليه حينما يحين الأجل ولن يستطيع أحد أن يتأخر عنه ولا أن يتقدم. والآيات متصلة اتصالا استطراديا بالسياق والموضوع، والآية الأولى تشير إلى ما كان من تقاليد المشركين من تخصيص بعض أنعامهم وزروعهم لشركائهم مما احتوت تفصيله سورة الأنعام التي مرّ تفسيرها وشرحناه شرحا يغني عن التكرار. وما ذكرته الآيتان الثانية والثالثة من نظرة العرب إلى ولادة البنات قد ورد في سور أخرى مرّ تفسير بعضها مثل سورتي الزخرف والصافات وعلقنا على

الموضوع تعليقا يغني عن التكرار كذلك. ولقد روى الطبري في سياق الشطر الأول من الآية [61] أن أبا هريرة سمع رجلا يقول إن الظالم لا يضرّ إلّا نفسه فالتفت إليه فقال بلى والله إن الحبارى لتموت في وكرها هزالا بظلم الظالم. وروى عن ابن مسعود قوله: «إن الجعل يكاد أن يهلك في جحره بخطيئة ابن آدم» . وما ورد في هذا الشطر قد ورد في سور أخرى مرّ تفسيرها منها الآية [45] من سورة فاطر والآية [58] من سورة الكهف. ومعناها والهدف الذي هدفت إليه صريحان على ما شرحناه في الفقرة الخامسة. ولسنا نرى المقام يتحمل الروايات المروية في سياق الجملة وإن كان المعنى الذي أريد بالروايات قد يتسق مع آية سورة الأنفال هذه: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [25] ، إلا أن تطبيق هذا المعنى أو استخراجه من الجملة التي نحن في صددها في غير محله في ما يتبادر لنا. وكل ما نرى أن الجملة قصدته من هذا المعنى هو بيان شدة إثم الظالم والظلم أكثر منه قصد إهلاك كل دابة على الأرض من غير بني آدم الذين وحدهم يظلمون وينحرفون عن قصد وعقل. ولقد أورد ابن كثير في سياق الشطر الثاني من الآية حديثا رواه ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء قال: «كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ الله لا يؤخّر شيئا إذا جاء أجله. وإنّما زيادة العمر بالذرّية الصالحة يرزقها الله العبد فيدعون له من بعده فيلحقه دعاؤهم في قبره فذلك زيادة في العمر» والحديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة. ولكن صحته محتملة وقد ورد في هذه الكتب شيء من بابه حيث روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي حديثا عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» «1» . وفي الحديث النبوي توضيح متساوق مع

_ (1) التاج ج 1 ص 66.

[سورة النحل (16) : الآيات 62 إلى 64]

مدى الجملة القرآنية من جهة وبيان لما يمكن أن ينفع الإنسان بعد موته من أعمال صالحة وحثّ عليها من جهة أخرى. [سورة النحل (16) : الآيات 62 الى 64] وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) . (1) مفرطون: قرئت الراء بالفتح والتخفيف وبالكسر والتشديد، والقراءة الأولى بمعنى أنهم مهملون ومتروكون في النار، أو مقدمون إليها بسرعة. والقراءة الثانية بمعنى أنهم مهملون ومقصرون في حقّ الله. في الآيات: 1- في الفقرة الأولى من الآية الأولى حكاية تنديدية مرة أخرى لعقيدة المشركين باتخاذ الله أولادا من صنف يكرهونه. 2- وفي الفقرة الثانية حكاية تنديدية أخرى لما كانوا يزعمونه من أن لهم الحسنى وهم كاذبون في زعمهم. 3- وفي بقية الآية تقرير بأسلوب الجزم والإنذار بأن لهم النار التي سوف يطرحون فيها ويهملون. 4- واحتوت الآية الثانية استطرادا تقريريا مع القسم وجه الخطاب فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله قد أرسل الرسل من قبله إلى الأمم السابقة فكان من شأن هذه الأمم أن زيّن الشيطان لهم ما كانوا عليه من باطل. وكان وليّهم وهو اليوم كذلك وليّ المشركين الكفار الذين حقّ عليهم عذاب الله الشديد كما حقّ على من سبقهم من أمثالهم.

تعليق على قول المشركين أن لهم الحسنى

5- واحتوت الآية الثالثة تطمينا للنبي صلى الله عليه وسلم وتنويها بالذين آمنوا به، فالله لم ينزل عليه الكتاب إلّا ليبين للناس ما هم مختلفون فيه من الحقّ والباطل وليكون هدى ورحمة لمن حسنت نيته وصدقت رغبته في الحق والإيمان. والآيات كسابقاتها استمرار في الموضوع والسياق السابقين كما هو المتبادر. وقد ورد بعض ما في هذه الآيات في مواضع وسور سابقة وعلقنا عليها بما يغني عن الإعادة والزيادة. تعليق على قول المشركين أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى والحسنى التي حكت الفقرة الثانية من الآية الأولى أن المشركين كانوا يزعمونها لأنفسهم هي على ما يتبادر في مقام التبجح بما هم فيه من حالة حسنة أفضل من حالة النبي وأتباعه وكون ذلك في نظرهم اختصاصا من الله لهم. وطبيعي أن هذا الزعم إنما هو صادر من زعمائهم الذين كان الجدال والحجاج يدوران بينهم وبين النبي في الأعمّ الأغلب. وقد تكررت حكاية زعمهم هذا في سور أخرى مرّ بعضها. ولقد قال المفسرون «1» بالإضافة إلى هذا الوجه الذي قالوه أيضا: إنها بسبيل حكاية زعمهم على سبيل التبجح والتحدي كذلك إنه إذا كان بعث أخروي فلسوف يكون لهم عند الله الحسنى كما جعل لهم ذلك في الدنيا، ولا يخلو هذا أيضا من وجاهة. وقد تكررت حكايته عنهم في آيات أخرى مرّ تفسير سورها. حيث يبدو من خلال ذلك شدّة عناد زعماء المشركين الكفار ومقابلتهم للنذر القرآنية كلما كانوا يسمعونها بالتبجح والتحدي وإصرارهم على مواقفهم باعتبار أن ما هم عليه هو الأفضل الذي شاءه الله لهم وأن هذا سوف يستمر لهم أيضا. ومع خصوصية المواقف الزمنية فإن في التنديد القرآني تلقينا مستمر المدى

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي مثلا.

[سورة النحل (16) : الآيات 65 إلى 69]

في تقبيح اغترار الناس بما يكونون فيه من حالة حسنة وظنهم ذلك اختصاصا ربانيا بهم ولا سيما إذا رافق ذلك نسيانهم لواجبهم نحو الله والناس. [سورة النحل (16) : الآيات 65 الى 69] وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) . (1) فرث: الثفل الذي في الكرش. (2) سائغا: لذيذ الطعم. (3) سكرا: الجمهور على أن الكلمة تعني النبيذ المسكر المتخذ من العنب والبلح والتمر والزبيب. (4) رزقا حسنا: طعاما جيدا وهو العنب والبلح والزبيب والتمر. (5) أوحى ربّك إلى النحل: بمعنى ألهمها أو خلقها على ناموس من شأنه أن يسيرها على ما تسير عليه من أعمال وحركات. (6) مما يعرشون: مما يسقفون ويرفعون ويجعلونه عرائش. وقد وردت بمعنى التعمير والبناء في آية سورة الأعراف [137] . (7) ذللا: جمع ذلول بمعنى ممهد. والكلمة بمعنى مسيرة أو مذللة. في الآيات تذكير ولفت نظر إلى بعض مشاهد آيات الله ونعمه: 1- فالله ينزل الماء من السماء إلى الأرض فتعجّ بعد الموت والجفاف بالحياة.

تعليق على جملة تتخذون منه سكرا

2- ويخرج للناس من بطون الأنعام من بين الثفل والدم لبنا لذيذ الطعم شرابا لهم. 3- ويكون لهم مما تحمله شجر النخيل والأعناب من التمر غذاء وشراب نافعان حسنان. 4- وقد خلق الله النحل على ناموس عجيب. فهي تتخذ بإلهامه خلاياها في الجبال والأشجار والعرائش والسقوف ثم تنتشر منها كل إلى سبيل لتتناول غذاءها من كل الثمرات وتعود إليها لتخرج من بطونها شرابا مختلف الألوان فيه الشفاء والنفع للناس. ففي كل هذا آيات بينات على قدرة الله وعظمته وإتقان نواميس كونه لمن تفتح ذهنه وحسن سمعه وأرهف قلبه فتفكر وتعقل. والآيات متصلة كما هو المتبادر بالآيات السابقة. ففي الأولى نعي على الكفار لإشراكهم بالله وانصرافهم عن سماع الآيات البينة التي أنزلها على رسوله وفي هذه لفت للأنظار إلى آيات الله البينة في نواميس كونه البديعة وما في ذلك من نفع للناس ونعم من الله عليهم، مما فيه الحجج الدامغة على استحقاقه وحده للعبادة والخضوع يدركها من حسنت نيته وصدقت رغبته في الحقّ والهدى، ولا يكابر فيها إلّا من فقد ذلك. وقد تضمنت الآيات حثّا للناس على استعمال عقولهم والتفكّر في آيات الله وآلائه كما تضمنت تنويها بالذين آمنوا بالله ورسوله نتيجة لذلك، وهذا ما تضمنته الفقرة الأخيرة من الآيات السابقة أيضا. تعليق على جملة تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً ولقد كانت هذه الجملة موضوع بحث طويل في تفسير الطبري وغيره وروي في صددها أقوال متنوعة عن ابن عباس وغيره من أصحاب رسول الله وتابعيهم. وخلاصتها أن هناك من قال إن الامتنان الرباني يدل على أن الشراب المستخرج من

ثمرات النخيل والأعناب حلال مطلقا. وأن هناك من قال إن كلمة السكر تعني المسكر ويدخل في شمول معنى الخمر الذي هو المسكر، وأن المقصود من الجملة القرآنية هو النبيذ المستخرج من تلك الثمرات الذي كان مسكرا وأن تحريم الخمر الذي يدخل في مشموله النبيذ المسكر إنما كان تشريعا مدنيا. وكان قبل ذلك مباحا يمارسه المسلمون وغيرهم. فلم يكن في ذكره تناقض مع الواقع. والمتبادر أن القول الثاني هو الأوجه ولا سيما أن القرآن قرر قبل تحريم الخمر أنها كانت ذات منافع اقتصادية في بيئة النبي عليه السلام كما ترى في آية سورة البقرة هذه: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما [219] ، وهذه الآية نزلت قبل الآية التي نهت عن الصلاة في حالة السكر في آية سورة النساء هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ [43] ، ثم قبل الآيات التي تضمنت تحريم الخمر وهي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ سورة المائدة [90- 91] حيث تدل هذه الآيات على أن الخمر كان مما يمارسه المسلمون شربا وتجارة. ويكون بناء على ذلك لا وجه لإباحة النبيذ المسكر استنادا على آية النحل التي نحن في صددها. ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن ما يستخرج من ثمرات النخيل والأعناب من شراب غير مسكر مباح ولو سمّي نبيذا. لأن النبذ لغة هو نقع ثمرات النخيل والأعناب في الماء. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشرب هذا النقيع على ما يستفاد من حديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس جاء فيه أنه كان ينقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم الزبيب مساء فيشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة ثم يأمر به فيسقى أو يهراق «1» . ومن حديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن عائشة جاء فيه: «كنّا ننبذ للنبي صلى الله عليه وسلم في

_ (1) انظر التاج ج 3 ص 132.

تعليق على جملة يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس

سقاء يوكى أعلاه وله عذلاء ننبذه غدوة فيشربه عشاء وننبذه عشاء فيشربه غدوة» «1» . وهناك أحاديث صحيحة أخرى يمكن أن تكون ضوابط في هذا الباب منها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نهيتكم عن ثلاث وأنا آمركم بهنّ، نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنّ في زيارتها تذكرة، ونهيتكم عن الأشربة إلّا في ظروف الأدم فاشربوا في كلّ وعاء غير ألّا تشربوا مسكرا. ونهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث فكلوا واستمتعوا بها في أسفاركم» «2» . وحديث رواه مسلم والترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهيتكم عن الظروف وإنّ ظرفا لا يحلّ شيئا ولا يحرّمه، وكلّ مسكر حرام» «3» . وحديث رواه البخاري ومسلم عن عائشة: «سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن البتع وهو نبيذ العسل فقال كلّ شراب أسكر فهو حرام» «4» . وحديث رواه أصحاب السنن عن جابر قال: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم ما أسكر كثيرة فقليله حرام» «5» . تعليق على جملة يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ ولقد روى الطبري عن مجاهد أن جملة فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ تعني القرآن غير

_ (1) انظر التاج ج 3 ص 132. (2) التاج ج 3 ص 128 والظرف هو الوعاء. وقد روى مسلم والترمذي عن ابن عمر قال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحنتم وهي الجرّة وعن الدبّاء وهي القرعة وعن المزفّت وهو المطليّ بالقار وعن النقير وهي النخلة تنسخ نسخا وتنقر نقرا وأمر أن ينتبذ في الأسقية» التاج ج 3 ص 127. فالمتبادر أن الحديث الأول قد نسخ هذا الحديث الذي أباح النبذ في أوعية الجلد وهي الأسقية دون الأوعية الأخرى. (3) انظر المصدر نفسه. (4) انظر المصدر نفسه. (5) انظر المصدر نفسه.

[سورة النحل (16) : الآيات 70 إلى 72]

أن الجمهور على أنها تعني العسل. وقد علق ابن كثير على قول مجاهد قائلا: إن هذا القول صحيح في نفسه لأن في سورة الإسراء آية جاء فيها: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [82] غير أن الظاهر من سياق الآية أن المقصود هو العسل وهو ما عليه الجمهور. ولقد رويت عدة أحاديث نبوية صحيحة عن فائدة العسل دواء حيث روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري: «أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: إن أخي استطلق بطنه فقال: اسقه عسلا، فذهب فسقاه عسلا فقال: يا رسول الله سقيته عسلا فما زاد إلّا استطلاقا، قال: اذهب فاسقه عسلا، فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال: ما زاده إلّا استطلاقا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق الله وكذب بطن أخيك اذهب فاسقه عسلا فسقاه عسلا فبرىء» «1» ، وروي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من لعق العسل ثلاث غدوات في كلّ شهر لم يصبه عظيم من البلاء» «2» ، وروي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن كان في شيء من أدويتكم خير ففي شرطة محجم أو شربة عسل أو لذعة بنار توافق الداء وما أحبّ أن أكتوي» «3» . ولقد ثبت في الطب الحديث فوائد عظيمة للعسل في أمراض عديدة مستعصية فجاء هذا مصداقا للقرآن والأحاديث النبوية. [سورة النحل (16) : الآيات 70 الى 72] وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) .

_ (1) انظر تفسير الآيات في ابن كثير وانظر التاج ج 3 ص 180- 181. (2) انظر ابن كثير. (3) انظر التاج ج 3 ص 180. [.....]

(1) الحفدة: جمع حافد، والحفد في اللغة المسارعة في الخدمة والمساعدة والرعاية. ومن المؤولين من قال إن الكلمة تعني الخدم والحشم، ومنهم من قال إنها تعني أصهار الرجل أي أزواج بناته. ومنهم من قال إنّهم ممن يساعده من أولاده وأولاد أولاده. ومنهم من قال إنهم أولاد أولاده وهو المشهور، والمتبادر من العبارة القرآنية أنهم المقصودون في الدرجة الأولى. في هذه الآيات تذكير بأفضال الله وتنديد بجحود الكفار بأسلوب آخر. ففي الآية الأولى تذكير بأن الله هو الذي يخلق الناس ويتوفاهم ويقدر أعمارهم. ومنهم من يموت باكرا ومنهم من يشيخ ويهرم ويفقد ما كان له من قوة وينسى ما كان لديه من علم مما تنزّه عنه الله تعالى فهو القادر على كل شيء العليم بكل شيء المستحق وحده للعبادة والخضوع. وفي الآية الثانية تذكير بفضل الله على الناس وتنديد بالمشركين خاصة. فالله قد فضّل بعضهم على بعض في الرزق، وهم لا يقبلون أن يشاركهم في أرزاقهم عبيدهم ويكونوا وإياهم سواء فيها فكيف يجيزون أن يكون له شركاء من عبيده وفي ذلك ما فيه من جحود نعمة الله. وفي الآية الثالثة تذكير للسامعين بأن الله هو الذي أنعم عليهم فجعل لهم أزواجا من أنفسهم، وجعل لهم من أزواجهم بنين وحفدة ورزقهم من الطيبات. فكيف ينسون ذلك ويؤمنون بالباطل ويكفرون بنعمة الله. والآيات متصلة بما سبقها سياقا وموضوعا كما هو واضح. وقوة الحجة فيها واضحة في تذكير السامعين ما هم فيه ومعترفون به، والتنديد بالكفار المشركين بما يقعون فيه من تناقض من حيث إنهم يعتقدون أن الله هو المحيي المميت وهو الرازق القابض الباسط المدبر ثم يتجاهلون ذلك فيشركون معه غيره ويؤمنون بالباطل ويكفرون بنعم الله المتنوعة عليهم.

تعليق على جملة والله فضل بعضكم على بعض في الرزق

وقد قال بعض المفسرين «1» في جملة: فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ [71] إن تأويلها أن الله هو الذي قسم للناس أرزاقهم فلم ينس أحدا، وإذا كان قد فضّل بعضهم على بعض في الرزق فالكل يعيش من رزقه، وحتى ما يعطيه الأسياد لعبيدهم منه ليسوا هم رازقيه في الحقيقة ونفس الأمر. والتقرير وجيه وصحيح في أصله غير أن أكثر المفسرين «2» قد أوّلوها بما يتسق مع ما أوّلناها به وهو الأوجه بقرينة التنديد بجحود نعمة الله في الآية التي وردت فيها الجملة. تعليق على جملة وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ والمتبادر أن هذه الجملة ليست في معنى تأبيد هذا الفرق ولا في معنى أن هذا التفضيل اختصاص رباني لفريق دون فريق وإنما هي تقرير لواقع الأمر بدليل أن سعة الرزق وضيقه في تبدل وتنقل دائمين وأن كثيرا ما يكون من هو موسع الرزق في يوم مضيقا عليه أو على ذريته في يوم، ومن هو ضيق الرزق في يوم موسعا عليه وعلى ذريته في يوم مما هو مقتضى سنّة الله في الناس وظروف الحياة والعمل، وتفاوت الناس المتبدل المتحول دائما في المواهب والنشاط والسعي. أرذل العمر ولقد روى الطبري عن علي بن أبي طالب في جملة وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أن أرذل العمر خمس وسبعون سنة. وإذا صحّ هذا القول فإنه يكون من قبيل الاجتهاد المتصل بظروف المعيشة في ذلك الوقت. والوصف الذي جاء بعد هذه الجملة لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً هو المحكم الذي يعني أن أرذل العمر هو الذي يكون الشيخ فيه قد ضعفت قواه العقلية بنوع خاص ضعفا شديدا. ولقد

_ (1) الطبرسي. (2) الطبري وابن كثير والبغوي والخازن والزمخشري. والطبرسي أورد التأويلين معا.

[سورة النحل (16) : الآيات 73 إلى 76]

روى البخاري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو: «أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة الدجّال وفتنة المحيا والممات» «1» وأننا لنعوذ بالله بدورنا مما استعاذ به رسول الله صلى الله عليه وسلم. [سورة النحل (16) : الآيات 73 الى 76] وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) . (1) فلا تضربوا لله الأمثال: هنا بمعنى لا تجعلوا بين الله وغيره تماثلا، أو لا تجعلوا له أمثالا وأندادا. (2) أبكم: الأخرس الذي يولد أخرس. (3) كلّ: عبء على غيره لا نفع فيه. وفي هذه الآيات: 1- إشارة تنديدية إلى الكفار المشركين أنهم يعبدون من دون الله ما لا يملك لهم سببا من أسباب الرزق في السموات والأرض ولا يستطيع نفعهم في شيء من ذلك. 2- ونهي تقريعي موجه للسامعين أو للكفار المشركين عن جعل الأنداد والأمثال لله. فلا يصحّ أن يكون لله ندّ ولا مثل لأن الله يعلم كل شيء وغيره من الناس والأنداد لا يعلمون شيئا. وإن مثل هذا العمل كمثل التسوية بين العبد

_ (1) التاج ج 4 ص 139.

[سورة النحل (16) : الآيات 77 إلى 81]

المملوك الذي لا يملك شيئا ولا يقدر على شيء وبين الشخص الحرّ الذي يتصرف في ماله تصرّفا حرا فينفق منه سرّا وجهرا حسبما يتراءى له دون مانع. وكمثل التسوية بين العبد الأبكم الذي ليس هو إلّا عبئا على مالكه لا يستطيع أن ينتفع به بأي شيء ولا يأتي له من ناحية بأية فائدة وخير، وبين الطلق اللسان الذكي الجنان، الذي يسير على هدى ويأمر بالعدل ويفعل الخير. فالتسوية بين هذا وذاك وبالتالي فالتسوية بين الله وبين الأنداد والشركاء الذين يشركهم المشركون مع الله إنما تصدر عن جهل وضلال. 3- وتقرير بأن الله وحده هو المستحق للحمد على أفضاله ونعمه. والصلة بين الآيات وسابقاتها مستمرة موضوعا وسياقا حينما يمعن النظر فيها، وفيها من القوة والتنديد اللاذع ما في الآيات السابقة. وقد روى بعض المفسرين «1» أن المثلين مضروبان في صدد المفاضلة بين المؤمن الصالح والكافر الآثم وروى بعضهم أشخاصا بأعيانهم من المؤمنين والكفار وقالوا إنهم المعنيون بالمثلين، مثل أبي بكر وأبي جهل أو أمية بن خلف وعثمان وحمزة وعثمان بن مظعون. ومثل عثمان بن عفان ومملوك له حيث كان عثمان ينفق على الإسلام والمولى يكره الإسلام. والمتبادر لنا أن الآيات في صدد المشركين الكفار والتنديد بهم عامة على ما تدل عليه الآية [73] . [سورة النحل (16) : الآيات 77 الى 81] وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) .

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.

(1) من جلود الأنعام بيوتا: تعني خياما من الجلد. (2) يوم ظعنكم: يوم ارتحالكم. (3) أصوافها وأوبارها وأشعارها: الصوف للضأن والأوبار للإبل والشعر للماعز. (4) أثاثا: هناك من قال إنه المال عامة وهناك من قال إنه أثاث البيت ومتاعه. والعبارة هنا تعني لوازم اللباس والبيت معا. (5) أكنانا: جمع كن، وهو ما يستكن فيه ويلجأ إليه من شدة الحر. (6) سرابيل: الأولى تعني الثياب التي يكتسي ويتسربل بها الإنسان، والظاهر أن الكلمة تطلق على عامة أنواع اللباس. والثانية كناية عن الدروع ومعدات الدفاع. في الآيات عود على بدء في صدد التنويه بقدرة الله وتعداد آياته وفضائله لعل الناس يعقلون ويسلمون ويشكرون. والخطاب فيها معه للسامعين إطلاقا: 1- فعند الله علم كل ما خفي عن الناس من شؤون السماوات والأرض. 2- والساعة قريبة آتية وليس ذلك عند الله إلّا كلمح البصر أو أقرب فهو القادر على كل شيء. 3- وهو الذي أخرج الناس من بطون أمهاتهم لا يعرفون شيئا وجهزهم بالسمع والأبصار والعقول ليتعلموا ويتفكروا ويسمعوا ويبصروا مما يوجب له عليهم الشكر والعرفان.

[سورة النحل (16) : الآيات 82 إلى 83]

4- وإن لمن دلائل قدرته وبديع نواميس كونه أن يجعل الطير قادرة على التقلب في جو السماء دون أن تسقط، مما فيه آيات لمن صدقت رغبته في الإيمان. 5- وهو الذي يسّر للسامعين أسباب اتخاذ البيوت لتكون لهم سكنا ويسّر لهم أسباب اتخاذ بيوت من جلود الأنعام خفيفة النقل عليهم في حلّهم وترحالهم ويسّر لهم أسباب صنع ما يحتاجون إليه من أثاث ولباس ومتاع من صوفها ووبرها وشعرها. 6- وجعل لهم مما خلق من شجر وجبال ما يستظلون به لاتقاء حرارة الشمس وجعل لهم من الجبال أكنانا يستكنون بها لذلك أيضا، ويسّر لهم أسباب صنع الثياب لاتقاء الحرّ والبرد وأسباب صنع الدروع وغيرها لوقاية أنفسهم في ظروف الحروب والقتال. 7- وبذلك كله يتم نعمته عليهم لعلهم يعترفون بفضله ويشكرونه ويسلمون وجوههم إليه وحده. والصلة قائمة واضحة بين الآيات والسياق السابق. والخطاب فيها موجه إلى العقول والقلوب معا بأسلوب نافذ. وإذا كان ما عددته مستمدا مما كان يمارسه العرب من حياة ووسائل فلأنهم أول من خوطبوا به. غير أن ما تعنيه من التذكير بنعم الله وأفضاله على الناس ونواميسه في الكون مما يستقيم توجيهه إلى كل الناس في كل وقت ومكان أيضا. وقصد استرعاء الأذهان والأسماع والتدليل على قدرة الله وإحاطته بكل شيء وإتقان نواميس الكون وأسباب الحياة، ودعوة الناس إلى التفكير بما يتمتعون به من أفضال الله وشكره واستحقاقه وحده للاتجاه إليه وإسلام النفس له قوي ظاهر. [سورة النحل (16) : الآيات 82 الى 83] فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83) .

الآية الأولى موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التطمين والتسلية: فإذا كان من السامعين من يكابر في قدرة الله ويعرض عن دعوته فليس عليه إلا التبليغ والبيان. والآية الثانية احتوت تقريرا لواقع السامعين وتنديدا بهم فهم يعرفون أن ما يتمتعون به من نعم وأسباب ووسائل هي من فضل الله وتيسيره ومع ذلك فإن أكثرهم ينكرون بأفواههم وأفعالهم ويكفرون بالله ونعمه. ولقد روى ابن كثير عن مجاهد أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقرأ عليه: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً فقال الأعرابي: نعم، قال: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً الآية ... قال الأعرابي: نعم، ثم قرأ عليه كل ذلك، يقول الأعرابي نعم حتى بلغ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ فولّى الأعرابي فأنزل الله يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها. والرواية لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. والمتبادر أن الآيتين جاءتا تعقيبا على الفصل السابق للتنديد بالكفار وإلزامهم بالحجة. والآية الثانية قوية الحجة والإلزام والتنديد معا. لأن الكفار كانوا يعترفون بأن الله تعالى هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت المنعم المتفضّل الذي هو الملاذ والملجأ وكاشف الضرّ على ما مرّت حكايته عنهم في آيات كثيرة. ويقف مفسرو الشيعة عند الآية الثانية ليرووا أنها نزلت للتنديد في كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يعرفون نعمة الله في اختصاص علي وأولاده من بعده بإمامة المسلمين فأنكروها وصار أكثرهم كافرين «1» . والهوى والحقد الحزبيان مع المفارقة العجيبة طابع هذه الرواية كما هو شأن ما يرويه مفسرو الشيعة من أمثالها. وتبدو المفارقة شديدة حينما يلاحظ أن الآية مكية ويعظم إثم روايتهم ومفارقتهم إذا ما لوحظ أنهما يهدفان إلى تكفير جمهور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ (1) التفسير والمفسرون للذهبي ج 2 ص 169.

[سورة النحل (16) : الآيات 84 إلى 89]

وفي مقدمتهم معظم كبارهم الذين سجل الله رضاءه عنهم في أواخر ما نزل من القرآن في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم أي في آية سورة التوبة هذه: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) . [سورة النحل (16) : الآيات 84 الى 89] وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89) . (1) شهيدا: جمهور المفسرين على أنها هنا تعني الأنبياء وقد حكت بعض الآيات حضورهم يوم القيامة كشهود على حساب أممهم ومرّت أمثلة منها. (2) لا يستعتبون: لا يطلب منهم إبداء الأعذار أو لا يقبل منهم طلب العتبى والاستقالة من الذنب. (3) ينظرون: بمعنى يمهلون. (4) فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون: الضمير في (ألقوا) راجع إلى الشركاء. وهم الملائكة على الأرجح وقد حكت بعض الآيات سؤال الله للملائكة يوم القيامة عما إذا كان المشركون يعبدونهم وجواب الملائكة بنفي ذلك وتكذيبه. (5) وألقوا إلى الله يومئذ السلم: الضمير هنا راجع إلى الكفار. والجملة

بمعنى تقرير إعلانهم الاستسلام والاعتراف بذنوبهم. وقد حكت ذلك عنهم آيات عديدة مرّت أمثلة منها. (6) وصدوا عن سبيل الله: منعوا الناس عن سبيل الله. في الآيات حكاية لما سوف يكون من أمر الكفار يوم القيامة: ففي ذلك اليوم تقف كل أمة موقف القضاء والمحاسبة ويؤتى بنبيها شهيدا على ذلك، ولن يؤذن لها بالجدل ولن يقبل منها أعذار. ولسوف يصيرون إلى عذاب شديد ليس إلى تخفيفه عنهم أو تأجيله سبيل. وحينما يرون شركاءهم يهتفون قائلين ربنا هؤلاء هم الشركاء الذين ضللنا بسببهم فيكذبهم الشركاء ويجحدونهم فيقعون حينئذ في الخيبة ويفقدون كل أمل أملوه ولا يجدون مناصا من الاستسلام والاعتراف بذنوبهم. ولسوف يكون عذاب الذين لا يكتفون بالكفر بل يحملون غيرهم عليه مضاعفا وزائدا على عذاب عامة الناس بسبب ما كان منهم من فساد وصدّ عن سبيل الله، وحينما يأتي بشهداء كل أمة يأتي بالنبي صلى الله عليه وسلم شهيدا على أمته أيضا. وقد انتهت الآيات بالفقرة الأخيرة لبيان مهمة النبي: فالله قد أنزل عليه الكتاب ليكون فيه البيان الشافي لكل أمر والتوضيح الكافي لكل حدّ حتى لا يبقى حجة لأحد ولا معذرة وليكون فيه الهدى والرحمة والبشرى للمسلمين. والآيات معقبة على سابقاتها والاتصال بالسياق قائم. وقد استهدفت فيما استهدفته إنذار الكفار وتخويفهم وحملهم على الارعواء. وكثير مما جاء فيها قد ورد في آيات أخرى في سور سبق تفسيرها. ومع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي الموصوف فيها فإن صورة القضاء والمحاسبة والشهود هي من مألوفات الدنيا. وقد يكون من حكمة ذلك قصد التقريب والتمثيل على ما نبهنا عليه في المناسبات العديدة المماثلة. ولقد روى الطبري عن مجاهد في سياق جملة زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ

تعليق على جملة ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين

أن الله تعالى يسلّط عليهم حيّات أمثال البخت وعقارب أمثال البغال الدهم، ولم يرد هذا في أحاديث صحيحة. والأولى الوقوف عند مدى العبارة القرآنية وهو أن الصادين عن سبيل الله سيكون عذابهم زائدا على غيرهم. تعليق على جملة وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ وقد يرد أن ما نزل من القرآن بعد هذه السورة شيء كثير وفيه كثير من التشريعات والتلقينات والمبادئ والأحداث فكيف يصح أن تذكر الفقرة الأخيرة أن في الكتاب الذي قد يعني ما نزل منه إلى هذه السورة تبيانا لكل شيء. وليس في هذا الوارد شيء ففي ما أنزل الله قبل هذه الآية من الأسس والمبادئ والتلقينات والمواعظ والبراهين على وجوب وجوده ووحدانيته واستحقاقه وحده للخضوع ما يصح أن يقال إنه تبيان لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمؤمنين. والكتاب كما يطلق على ما نزل من القرآن إلى هذه الآية يطلق على مجموعه. والله عليم بما سوف ينزل بعدها وليس في علم الله سابق ولا حق حتى يصحّ ذلك الوارد. هذا، ونقول في نفس الجملة إن الذي يقرأ القرآن بتدبر وإمعان وتكون عنده رغبة صادقة في الحق ولا يكون مبيتا للمكابرة والعناد ومتمحلا بتمحلات سطحية وشكلية وثانوية إزاء بعض التعبيرات والصور القرآنية المتشابهة مما قد لا يدرك حكمتها العقول العادية يظهر على صدق التقرير الذي احتوته حيث يجد فيه حقا كل هدى ورحمة وبشرى وتبيان. ويرى في ذلك أعظم نعمة أنعمها الله على بني آدم ويرى من تمام هذه النعمة أن حفظه الله كما بلغه رسوله لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت: 42] ليظل دائما المورد الصافي الذي يجد فيه كل الناس في كل زمان الشفاء والهدى والرحمة والبشرى والبيان الواضح وكل ما فيه صلاح ونجاة وسعادة البشر في الدنيا والآخرة من أسس ومبادئ وتشريعات وتلقينات وأحكام وكل ما فيه حل لكل مشاكل الإنسان الروحية والاجتماعية والاقتصادية في

[سورة النحل (16) : آية 90]

كل مكان وزمان وظرف. ولقد انطوى في الجملة في الوقت نفسه دعوة لكل الناس في كل زمن ومكان للنظر فيه ليجدوا ذلك. ولقد أوّل جمهور المفسرين «1» جملة تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ بمعنى بيان ما الناس في حاجة إليه من طرق الهدى والضلال والخير والشر والحلال والحرام والحق والباطل والحدود والأحكام. وفي هذا من الوجاهة ما يتسق مع أهداف القرآن وما لا يتعارض مع ما ذكرناه آنفا. وعلى كل حال فمن الواجب أن تبقى الجملة في هذا النطاق مع عدم فصلها عما سبقها ولحق بها وعدم الخروج بها إلى قصد تبيان نظريات الكون ونواميسه وموجوداته وأحداثه مما يحاوله بعض المسلمين استنباطا من إشارات القرآن الوعظية والتمثيلية والتذكيرية. لأن في هذا كثيرا من التمحل كما فيه إخراج للقرآن عن قدسيته وأهدافه السامية. [سورة النحل (16) : آية 90] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) . تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ... تضمنت الآية تقريرا بأن الله يأمر بالعدل والإنصاف والمساواة ويأمر بما هو فوق ذلك أيضا وهو الإحسان وإيتاء ذي القربى. وينهى عن كل ما فيه فحش ومنكر من قول وعمل وعن كل ما فيه بغي على الناس وعدوان وظلم وجور. وانتهت بتوجيه الخطاب إلى السامعين القريبين بأن الله يعظهم بذلك لعلهم يتذكرون ويعلمون ما يجب عليهم ويعملون به. ولم يرو المفسرون مناسبة للآية. ويتبادر لنا أنها جاءت معقبة على الآية السابقة لها لتحتوي فصلا من فصول الكتاب التي ذكرت هذه الآية أن فيه تبيانا

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والزمخشري والطبرسي والقاسمي إلخ.

لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين. والآية من جوامع الكلم القرآنية الرائعة فيما يجب أن يفعله المؤمن وينتهي عنه تجاه مجتمعه أفرادا كانوا أو هيئات وتجاه أقاربه. فالمتبادر أن العدل في الآية في مقامه وبخاصة والآية مكية لم يقصد به العدل في القضاء أو لم يقصد به ذلك وحسب بل قصد به العدل المطلق الذي يتناول معاني الإنصاف وعدم الإجحاف وعدم تجاوز الحق قولا وفعلا في كل موقف ومناسبة. ومن هذا الباب جملة وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى [الأنعام: 152] من سورة الأنعام على ما نبهنا عليه في مناسبتها. وقد تكرر هذا المعنى في آية رائعة في سورة المائدة وهي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) حيث يكون هذا من المبادئ المحكمة التي يجب على المسلم أن يلتزم بها في كل حال. وهناك آيات في صدد العدل في القضاء وقد تركنا التعليق عليها إلى مناسباتها. وتعبير الإحسان في الآية جدير بالتنويه بنوع خاص حيث ينطوي فيه إيجاب معاملة المسلم للناس معاملة قائمة على التسامح والتحاسن وعدم الوقوف عند حدّ الواجب من الحق والعدل على اعتبار أن هذا الواجب واجب لا فضل له في أدائه وإنما الفضل والمكرمة فيما يفعله فوق ذلك. وقد روى الطبري أن ابن مسعود كان يقول عنها إنها أجمع آية في القرآن لخير أو لشر. وعن قتادة أنه ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلّا أمر به فيها وليس من خلق سيء كانوا يتعايرونه بينهم إلّا نهى عنه وتقدّم فيه وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامّها. وقد أورد ابن كثير في سياقها بعد إيراد ما رواه الطبري حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ الله يحبّ معالي الأخلاق ويكره سفسافها» وأورد قصة تذكر أن أكثم بن صيفي حكيم العرب المشهور في الجاهلية أرسل رسولين ليأتياه بنبإ النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث فسألاه عن أمره فأخبرهما باسمه ونسبه ثم تلا عليهما هذه الآية

[سورة النحل (16) : الآيات 91 إلى 97]

فردداها حتى حفظاها ورجعا فأخبرا أكثم وتلوا عليه الآية. فقال: إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها. فكونوا في هذا الأمر رؤوسا ولا تكونوا فيه أذنابا. ووَ الْإِحْسانِ بخاصة يمكن أن يدخل في أي مجال ويبدو في أي عمل. فعبادة الله تعالى على أوفى ما يكون من هدوء وطمأنينة واستغراق. والتصدق بأكثر ما يمكن ويجب. والتعفف عن استيفاء المباحات من اللذائذ والشهوات، والتجمل بالصبر عند الشدائد. والعناية بتطييب نفس الفقير والمحتاج عند مساعدتهما. والتعالي عن مقابلة السباب والمهاترات والخصومة الشديدة. والتسامح في معاملة الناس والصبر عليهم والإغضاء عن تقصيرهم وعدم الإلحاح في مقاضاة ما يكون عليهم من حقوق وإتقان العامل عمله تلقائيا واهتمام المرء الشديد للقيام بواجبه وحفظ مواعيده ووعوده وعهوده وبعده عن مواقف التهم إلخ إلخ ... ما يمكن أن يكون من آثار ومظاهر هذا الأمر الرباني العظيم. وهناك حديث ذو دلالة عظمى في هذا الباب رواه الخمسة عن شداد بن أوس قال: «شيئان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنّ الله كتب الإحسان على كلّ شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبح وليحدّ أحدكم شفرته فليرح ذبيحته» «1» . هذا، ولم يترك مفسرو الشيعة ورواتهم هذه الآية حيث روى الطبرسي عن أبي جعفر أن المراد بذي القربى فيها قرابة النبي صلى الله عليه وسلم وقوله (هم نحن) . وقد فندنا صرف هذه الكلمة في الآيات المكية بخاصة إلى أقارب النبي صلى الله عليه وسلم في سياق تفسير سورة الإسراء فلا نرى ضرورة للإعادة. [سورة النحل (16) : الآيات 91 الى 97] وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97) .

_ (1) التاج ج 3 ص 96.

شرح الآية وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ... والآيات السبع التالية وما فيها من تلقينات

(1) كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا: كالتي حلّت ما غزلت من خيطان وجعلته كما كان بعد أن غزلته وقوي بالغزل والإبرام. (2) دخلا: بمعنى دغلا أو خديعة أو مكرا. (3) أربى: أكثر أو أقوى. شرح الآية وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ ... والآيات السبع التالية وما فيها من تلقينات الخطاب في الآيات لمخاطبين سامعين، وفي بعضها ما يدل على أن المقصودين هم المسلمون، وقد تضمنت الأوامر والتنبيهات التالية: 1- يجب عليهم الوفاء بما عاهدوا الله عليه، وأقسموا الأيمان باسمه على الوفاء لا سيما أنهم بأيمانهم قد جعلوا الله عليهم كفيلا. 2- وعليهم أن يذكروا دائما أن الله رقيب عليهم يعلم جميع ما يقولونه ويفعلونه. 3- وعليهم أن لا يكونوا كالحمقاء التي تغزل الغزل حتى إذا قوي بالبرم

عادت فنكثته وجعلته فتائل كما كان قبل الغزل. 4- وعليهم أن لا يجعلوا أيمانهم وعهودهم وسيلة للتغرير والخداع وأن لا ينقضوها كمن يفعل ذلك مداراة لقوم يظنون أنهم أكثر وأقوى من الذين حلفوا لهم وعاهدوهم. 5- وليعلموا أن الله يختبر أخلاقهم وأعمالهم في ما يعرض لهم من أحداث ثم يبين لهم يوم القيامة أعمالهم ويوفيهم عليها بما يستحقون. 6- وليعلموا كذلك أن الله لو شاء لجعل الناس على وتيرة واحدة ولكن حكمته اقتضت أن يتركهم لقابلية الاختيار التي أودعها فيهم فيهدي بها من أراد الهدى ويضل بها من أراد الضلال. ولذلك فهو لا بدّ من أن يسألهم يوم القيامة عما كانوا يفعلون ويختلفون فيه ويحاسبهم عليه. 7- وعليهم- للمرة الثانية- ألا يتخذوا أيمانهم وعهودهم وسيلة خداع وتضليل. ففي ذلك تورّط وسقوط بعد الطمأنينة والوثوق، وفيه صد عن طريق الله حيث يجعل الناس لا يثقون في أيمان بعضهم لبعضهم باسم الله. 8- وعليهم ألا تغريهم المنافع العاجلة فينقضوا عهودهم التي عاهدوا عليها باسم الله، فذلك خير لهم لو علموا لأن ما عند الناس ينفد مهما عظم والباقي الدائم هو ما عند الله ومن واجب الإنسان- وبخاصة المسلم- أن يفضل الدائم الذي هو عند الله على الزائل الذي هو عند الناس. 9- ولقد كتب الله على نفسه بأن يجزي الذين يثبتون على الحقّ والعهد بأحسن ما عملوا وبجزاء يفوق قيمة عملهم، وأن يحيي كل مؤمن عمل صالحا من ذكر أو أنثى الحياة السعيدة الطيبة في الدنيا وأن يجزيه في الآخرة بأحسن أعماله وبجزاء يفوق قيمتها كذلك. ولقد روى الطبري في صدد الآية [91] روايتين أولاهما أنها نزلت في الحلف الذي كان مشركو قريش تحالفوا عليه في الجاهلية فأمرهم الله عز وجلّ أن

يوفوا به في الإسلام «1» . وثانيتهما أنها نزلت في جماعة بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام في مكة مهيبة بهم إلى عدم التراجع والنقض بحجة ضعف النبي وأصحابه وكثرة المشركين. وروى الطبرسي في سياق الآيات [95- 97] عن ابن عباس أن رجلا من حضرموت اسمه عبدان شكى للنبي صلى الله عليه وسلم شخصا اسمه امرؤ القيس بأنه أخذ أرضا له فلما فاتح النبي صلى الله عليه وسلم هذا أنكر فطلب منه أن يحلف فقال عبدان إنه فاجر لا يبالي أن يحلف، فقال: إن لم يكن لك شهود فخذ بيمينه فلما قام ليحلف أنظره فانصرفا فنزلت: وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إلى آخر الآيتين ... فقرأهما رسول الله فقال امرؤ القيس: أما ما عندي فينفد وهو صادق فيما يقول لقد اقتطعت أرضه ولم أدر كم هي فليأخذ من أرضي ما شاء ومثلها معها بما أكلت من ثمرها فنزل فيه مَنْ عَمِلَ صالِحاً الآية. ومقتضى رواية الطبرسي أن تكون الآيات الثلاث مدنية لأن الحادث لا يمكن أن يكون حدث إلّا في العهد المدني. ولم نطلع على رواية تؤيد ذلك فضلا عن أنه لا تفهم حكمة وضع آيات مدنية في سياق متصل يوافق كفار مكة. والآيات بعد معطوفة على ما قبلها ومنسجمة معها سبكا وموضوعا مما يسوغ التوقف في صحة الرواية. وكل ما يمكن أن تكون الآيات تليت في ظروف الحادث المروي فالتبس الأمر على الرواة. وروح الآيات ونصها يسوغان استبعاد رواية الطبري الأولى. والآيات التي تجيء بعد هذه الآيات بقليل تجعل احتمال صحة رواية الطبري الثانية قويا على ما سوف نشرحه بعد. على أننا ننبه أولا على أن الآية منسجمة مع سائر الآيات نظما وموضوعا

_ (1) المتبادر أن المقصود بهذا الحلف هو الحلف الذي عرف بحلف الفضول والذي انعقد بين بطون قريش لمنع المظالم في حرم الله. وقد شهده النبي عليه السلام، وروي عنه فيه حديث جاء فيه: «ما أحبّ أن لي بحلف حضرته بدار ابن جدعان حمر النعم وأني أغدر به ولو دعيت به لأجبت» انظر طبقات ابن سعد ج 1 ص 110- 111.

بحيث يسوغ القول إنها لم تنزل وحدها وإنما نزلت الآيات جميعا معا. وثانيا على أنه يلمح شيء من الصلة الموضوعية بين هذه الآيات والآية السابقة من حيث إنها احتوت مثلها تبيانا بما أمر الله تعالى به وما نهى عنه من أخلاق وأفعال. وقد تكون الآية السابقة نزلت هي الأخرى مع هذه الآيات لتوكيد القصد الذي تضمنته الرواية الثانية بالإضافة إلى المقاصد الأخرى التي شاءت حكمة التنزيل أن تنطوي في الآيات. ومع خصوصية الآيات الزمنية ودلالتها على خطورة الموقف الذي نزلت في شأنه مما تضمنته الرواية الثانية التي رجحنا صحتها ومما أيدته الآيات التي تأتي بعد قليل فإنها فيما احتوته من أوامر وتنبيهات تعدّ من روائع المجموعات القرآنية في بابها وتنطوي على تلقينات جليلة عامة ومستمرة المدى على ما هو واضح من الشرح المتقدم. وعبارة الآية [96] هي أسلوبية كما هو المتبادر بسبيل القول إن ما يمكن أن يعود على ناقض عهد الله من عوض ومنفعة من الناس مهما عظم يبقى قليلا بالنسبة لما عند الله وليست بسبيل التحذير من بيع عهد الله بالثمن القليل. وهي على ضوء هذا التوضيح جليلة المدى في صدد حثّ المسلم على الثبات على العهد الذي يكون عاهد الله عليه حينما أمن به وحده وصدق برسالة رسوله وما قد يقتضيه ذلك من التضحية بأي نفع دنيوي لأن الباقي هو ما عند الله وأن ما عند الناس مهما عظم فهو إلى زوال. والآية الأخيرة من الآيات جديرة كذلك بالتنويه بصورة خاصة حيث تضمنت أولا وعد الله عز وجل بالحياة السعيدة والأجر العظيم لمن آمن وعمل صالحا من ذكر أو أنثى، وثانيا نصّا صريحا باعتبار المرأة والرجل سواء في التكاليف ونتائجها في الدنيا والآخرة أيضا مما احتوت آيات عديدة سابقة، إشارة إليه على ما نبهنا عليه سابقا ومما احتوت آيات كثيرة آتية أحكاما كثيرة فيه على ما سوف نشرحه بعد بحيث يصح أن يقال بجزم إن ذلك من المبادئ القرآنية المحكمة.

[سورة النحل (16) : الآيات 98 إلى 105]

ولقد تعددت التأويلات التي يرويها الطبري وغيره عن أهل التأويل في مدى (الحياة الطيبة) منها أنها السعادة والقناعة واللبس الحلال والأكل الحلال في الدنيا ومنها أنها حياة الجنة الأخروية. ويتبادر لنا من الآية وشطرها الثاني أن المقصود من العبارة وهي الحياة الطيبة في الدنيا التي يمكن أن تكون السعادة والطمأنينة والرزق الحلال. [سورة النحل (16) : الآيات 98 الى 105] فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105) . (1) إذا بدّلنا آية مكان آية: قيل إنها بمعنى إذا بدّلنا آية قرآنية بآية غيرها وقيل إنها بمعنى إذا بدّلنا حكما أو أمرا بحكم أو أمر آخر. (2) القدس: بمعنى المنزّه عن الرجس أو المطهّر. (3) يلحدون إليه: هنا بمعنى ينسبون إليه تعليم النبي. في الآيات: 1- أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة بالله من وساوس الشيطان حينما يتلو القرآن. 2- وتوكيد بأنه ليس للشيطان أي تسلط وتأثير على الذين آمنوا بالله وتوكلوا

تعليق على آيات فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم وما بعدها إلى آخر الآية [105]

عليه وإنما تسلطه وتأثيره على الذين يتولونه- أي يتخذونه وليّا من دون الله- وينقادون لوساوسه ويشركونه مع الله. 3- وإشارة إلى ما كان يقوله الكفار إذا ما سمعوا النبي يقرأ آية بدلا من آية أو رأوه يبدل أمرا أو حكما قرآنيا أو خبرا قرآنيا بآخر حيث كانوا يقولون: إنه هو الذي يخترع القرآن ويفتريه قاصدين بذلك- على ما هو المتبادر- أن يقولوا: إنه لو كان وحيا من الله لما وقع تبديل وتغيير. 4- ورد عليهم بأن الله هو أعلم بما يوحى به إلى النبي وحكمته وأن القائلين لا يستطيعون أن يدركوا ماهية وحي الله ولا حكمته. 5- وأمر للنبي بأن يؤكد بأن ما يتلوه من القرآن هو وحي ربانى ينزل به روح القدس من الله بالحق ليثبت المؤمنين وليكون هدى وبشرى للمسلمين سواء أكان الأصل أو المبدل. 6- وإشارة أخرى إلى ما كان يقوله الكفار أيضا من أن شخصا معينا هو الذي يعلم النبي وردّ عليهم بأن لسان هذا الشخص أعجمي ولغة القرآن عربية مبينة فصحى فلا يصحّ في العقل أن يكون هذا القرآن العربي الفصيح تعليما من ذلك الشخص الأعجمي اللسان. 8- وتنديد بالكفار وإنذار لهم: فالذين لا يؤمنون بآيات الله لن ينالوا توفيقه وتسديده ولهم عنده العذاب الأليم وهم الكاذبون المفترون. تعليق على آيات فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ وما بعدها إلى آخر الآية [105] ولم نر فيما اطلعنا عليه رواية تذكر سبب نزول هذه الآيات. مع أن روحها بمجموعها تلهم أنها نزلت في صدد حادث له صلة بالقرآن، وأن الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة بالله من الشيطان حينما يقرأ القرآن، وتوكيد كون الشيطان ليس له

سلطان على المؤمنين، وتوكيد نزول القرآن على قلب النبي بواسطة الروح القدس من عند الله متصل بهذا الحادث. وقد تلهم الآيات أن الله أوحى إليه ببعض الآيات لتكون مكان آيات أخرى فلما تلا الجديدة وأهمل الأولى المنسوخة استغل الكفار ذلك فأخذوا يدللون به على كذب دعوى النبي بأن القرآن وحي رباني وينعتونه بالمفتري على الله ويقولون إن هناك شخصا يعلّمه. ولعلّهم قالوا فيما قالوه إن الشيطان هو الذي يوسوس له أو يلقي عليه لا وحي الله وإن هذا التبديل دليل على ذلك. ولعل بعض الذين بايعوا النبي على الإسلام والذين لم يكن الإيمان قد رسخ في قلوبهم تأثروا بهذا الحادث وبدعاية الكفار فارتدوا أيضا، وهذا ما تدل عليه الآيات التي تأتي بعد هذه الآيات. فاقتضت حكمة التنزيل بالرد عليهم بما جاء في هذه الآيات، ونفي تعلّم النبي من الشخص المزعوم ونفي تأثير الشيطان على النبي وأمره بالاستعاذة إلى الله منه. والآيات في جملتها تقصد إلى تطمين النبي والمؤمنين وتثبيتهم والردّ على الكفار والتنديد بهم. وإلى هذا فقد احتوت تلقينات مستمرة المدى سواء أفي تطمين المؤمنين المخلصين من أنه لا سلطان للشيطان عليهم أم في وجوب الاستعاذة بالله منه حينما يتلو المسلم القرآن أم في توكيد كون الذين لا يوفقهم الله ولا يسعدهم ولا يهديهم هم الذين فقدوا الرغبة في الحق والهدى والإيمان وكون هؤلاء هم وحدهم الذين يجرؤون على الافتراء على الله. والمتبادر أن رمي الكفار بالشرك بالشيطان وتوليه وحصر تأثيره فيهم هو من قبيل الردّ والتشنيع. وقد تكرر هذا في مناسبات عديدة بهذا القصد مرّت بعض أمثلة منها ولقد كانوا يفهمون مفهوم كلمة الشيطان ويعرفون أنها بغيضة على ما شرحناه في تفسير سورة التكوير فلزمتهم الحجة والتنديد. والآية [105] جديرة بالتنويه بما انطوى فيها من تقرير كون الافتراء والكذب لا يمكن أن يقعا إلّا من غير المؤمنين. ولقد روى البغوي في سياقها حديثا رواه

مسألة النسخ في القرآن

بطرقه عن عبد الله بن جراد قال: «قلت يا رسول الله المؤمن يزني؟ قال: قد يكون ذلك. قلت: المؤمن يسرق؟ قال: قد يكون ذلك. قلت: المؤمن يكذب؟ قال: لا. قال الله إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ والحديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة ولكن صحته محتملة، وهو رائع قوي متساوق مع التلقين المنطوي في الآية. مسألة النسخ في القرآن وما ورد في الآية [101] من إشارة إلى تبديل آية مكان آية وما في آية سورة البقرة هذه: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها [106] صار موضوع بحوث في صدد النسخ والتبديل في القرآن «1» . فهناك من لا يرى مانعا عقليا ولا نقليا من النسخ ويستند في الدرجة الأولى على ظاهر هذه الآيات. ومن هؤلاء من يأخذ ببعض الروايات فيقول إن بعض آيات نسخت تلاوة وبقيت حكما وهي آية رجم الزناة المحصنين التي اختلف في نصها حيث روي هكذا: «إذا زنى الشيخ والشيخة فاجلدوهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» وهكذا: «إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة والله عزيز حكيم» . ومنهم من يقول: إن بعض الآيات نسخت حكما وبقيت تلاوة مع اختلاف بينهم في هذه الآيات حيث يزيد بعضهم فيها وينقص بعضهم ومن الأمثلة على ذلك الوصية للوالدين في آية سورة البقرة هذه: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)

_ (1) انظر تفسير هاتين الآيتين في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري والقاسمي وانظر الجزء الأول من تفسير القاسمي ص 32 وانظر الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ج 2 ص 21- 28 والنسخ بمعنى إبطال شيء وإقامة شيء آخر مقامه. أو بمعنى كل شيء خلف شيئا أو كل شيء نقل عن شيء. وفي (ننسها) قراءتان واحدة من النسيان أي نجعلها منسية وأخرى من الإنساء (ننسئها) بمعنى نؤخرها أو نتركها بدون بدل.

التي نسخت في آية سورة النساء هذه التي عينت للوالدين نصيبا من تركة أبنائهما: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [11] والآيات التي فرضت على المسلمين تقديم صدقة بين يدي نجواهم الرسول ثم ألغتها في سورة المجادلة وهي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13) ومثل الآيات التي قررت أن المسلمين يقدرون أن يقاتلوا عشرة أضعافهم مما خففت ذلك إلى الضعف في سورة الأنفال هذه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) . ومنهم من يأخذ ببعض الروايات فيقول إن بعض آيات كانت تتلى ثم نسخت تلاوة وحكما وهي آيات الرضاعة حيث روي أنه كان في القرآن آية تعيّن عدد الرضعات التي يحرم بها النكاح (عشر رضعات معلومات) ثم نسخن بخمس رضعات معلومات ثم نسخن تلاوة وحكما. ومنهم من يأخذ ببعض الروايات فيقول: إنه كانت آيات تتلى ثم نسخت أو أنسيت مثل آيات يروى أنها كانت تتلى في سورة البينة وهي: (لو أن ابن آدم سأل واديا من مال فأعطيه سأل ثانيا وإن سأل ثانيا فأعطيه سأل ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ويتوب الله على من تاب. وإن ذات الدين عند الله الحنيفية غير اليهودية ولا النصرانية ومن يعمل خيرا فلن يكفره) ومنها آيات في إحدى سور المسبحات وهي: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة) ومنها هذا النص: (جاهدوا كما جاهدتم أول

مرة) ومنها هذا النص (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ألا أبشروا أنتم المفلحون. والذين آووهم ونصروهم وجادلوا عنهم القوم الذين غضب الله عليهم أولئك لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون) ومنها سورة برمتها كانت تتلى في القنوت في الوتر وتسمى سورة الحفد والخلع. وليس ما أوردناه من أمثلة هي كل ما روي عن الناسخ والمنسوخ في القرآن. فهناك أولا روايات كثيرة جدا غير ما أوردناه وبخاصة في نسخ أحكام آيات بآيات أخرى وهناك ثانيا اختلاف بين أهل التأويل والاستنباط وعلماء القرآن ومفسريه حيث يثبت بعضهم نسخا فينكره بعضهم بالنسبة لكثير من روايات الناسخ والمنسوخ «1» . وقد اعتنى بعضهم بهذا الأمر لما له من صلة بالتشريع الإسلامي والتنزيل القرآني وأدى ذلك إلى تصنيف مصنفات عديدة فيه «2» . ولقد جاء جذر النسخ في القرآن في معنى الإزالة كما هو في آية سورة البقرة [106] التي أوردناها قبل وكما هو في آية سورة الحج هذه: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ [52] وفي معنى آخر وهو التسجيل والكتابة كما جاء في آية سورة الجاثية هذه: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) وآية سورة الأعراف هذه: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) . وواضح أن موضوع الكلام هو المعنى الأول. غير أن الذين قالوا بجواز النسخ في القرآن لم يقفوا فيه عند هذا المعنى الذي ينطبق على نوع واحد من أنواع الأمثلة المتقدمة وهي رفع النصّ القرآني بالمرة. بل جعلوه شاملا للتعديل الذي شاءت حكمة الله إدخاله على

_ (1) انظر الأبواب الثاني والثالث والرابع من كتاب النسخ في القرآن للدكتور مصطفى أبي زيد. (2) انظر الباب الثاني من الكتاب نفسه.

أحكام النصوص أو تبديلها مع إبقاء النصوص المعدلة والمبدلة أيضا كما هو واضح في بعض الأمثلة بحيث يقال: إنهم عنوا مدى الكلمة أكثر من معناها الحرفي. وهناك من لم ير سواغا للنسخ بجميع الأشكال المذكورة ويرى ذلك غير متسق مع علم الله وحكمته وفيه معنى (البداء) أي بدا لله أن يرجع عما أنزل وقدّر وينزهه عن ذلك وينكر الروايات التي لا تستند في الحقيقة إلى إسناد قوي، باستثناء رواية الرجم التي رواها أصحاب الصحاح الخمسة البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي «1» ويؤول ما ظاهره يدل على أنه ناسخ أو منسوخ. غير أن الجمهور على أنه ليس من مانع عقلا ونقلا من النسخ بمداه وليس بمعناه الحرفي فقط تلاوة أو حكما وأن ذلك لا يعني البداء فالله هو الحكيم المقدر الذي ينزل ما شاء ويبدل ما شاء بمقتضى حكمه وأن ذلك متسق مع حكمة الله التي تقضي بتغير الأحكام بتغير الظروف. والبداء في القرآن جاء بمعان متنوعة، فجاء بمعنى الظهور بعد الخفاء مثل ما في آية طه هذه: فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [121] وبمعنى الظهور بدون توقع مثل ما في آية سورة الزمر هذه: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [47] وبمعنى تبديل رأي برأي أو موقف بموقف لأسباب طارئة مثل ما في آية سورة يوسف هذه: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وعلى كل حال فكل من هذه المعاني يستتبع أن يكون ظهور بعد خفاء وعلم بعد جهل وحدث غير متوقع وكل هذا محال على الله عز وجل. غير أن الذين يسوغون النسخ بمداه يقولون إنه لا يعدو أن يكون الأمر

_ (1) هذا نصّ الحديث قال ابن عباس قال عمر بن الخطاب وهو على منبر رسول الله: إن الله قد بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل عليه آية الرجم قرأناها وو عيناها وعقلناها فرجم رسول الله ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله وإن الرجم في كتاب الله حقّ على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف (انظر التاج ج 3 ص 3) .

معلوما في علم الله وحكمته لظرف أو مدة من الزمن ثم يرفع أو يبدل أو يعدل وبذلك لا يكون أي معنى من معاني البداء واردا. وهناك من ينكر النسخ في القرآن استنادا إلى آية سورة فصلت هذه: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) ولا يرى الذين يسوغون النسخ في هذه الآية حجة على عدم سواغه ويقولون إنه ليس في النسخ باطلا وكل أمره هو تبديل أمر موقت بأمر آخر كلاهما حقّ في ظرفيهما. وكلاهما في علم الله تعالى «1» . ونحن نأخذ برأي القائلين بسواغ النسخ ونرى وجهة نظرهما أقوى وما يسوقونه على المنكرين هو الأصوب. ونعتقد أن الآية التي نحن في صددها وآية سورة البقرة [106] ثم آية سورة الرعد هذه: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) من المؤيدات. وأنه ليس هناك ما يمنع وجاهة النسخ مبدئيا سواء أكان ذلك نسخ الحكم مع بقاء التلاوة أم نسخ الحكم والتلاوة. ولقد كان الوحي القرآني متصلا بأحداث السيرة النبوية وظروفها وكانت هذه الأحداث والظروف تتطور وتتبدل فليس مما ينافي العقل أن يكون الوحي القرآني مماشيا لذلك. ولقد رأينا السيد رشيد رضا يذكر اعتراض الشيخ محمد عبده على احتمال نسيان النبي لبعض الآيات في صدد النسخ وتأويل آية سورة البقرة وبالتالي احتمال النسخ نسيانا من النبي. والآية إنما تنسب الإنساء إلى الله سواء أكان في معنى التأخير والإهمال أم في معنى النسيان فليس والحالة هذه من محل للاعتراض أو القول بأن ذلك مناف للعصمة النبوية. غير أننا نستثني من ذلك: الرأي القائل بنسخ التلاوة مع بقاء الحكم، لأننا لا نرى لذلك حكمة مفهومة والمثل الذي يورد على ذلك وهو آية الرجم خطير رغم الحديث الذي رواه أصحاب الصحاح. وسنعود إلى بحث هذا الأمر في مناسبته الموضوعية في سورة النور والله تعالى أعلم.

_ (1) انظر كتاب الدكتور أبي زيد ص 19 وما بعدها.

ومن الجدير بالذكر في هذا المقام وفيه دليل حاسم على جري عادة الله على نسخ وتعديل أحكام بأحكام من شرائعه موالاته إرسال الرسل بشرائع معدلة حسب مقتضى حكمة تغير الأحكام بتغير الأزمان. وقد أشير إلى هذا في القرآن. فجاء في سورة آل عمران في صدد رسالة عيسى عليه السلام: وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [50] وجاء في سورة الأعراف في صدد رسالة النبي صلى الله عليه وسلم: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ [157] وفي سورة المائدة: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) ووَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [48] فالقول بالنسخ في القرآن سائغ عقلا ونقلا كما هو واضح. ولقد ذكرنا في مناسبات سابقة أقوال أهل التأويل والمفسرين في نسخ أحكام آيات عديدة في السور السابقة وعلقنا عليها بما نرجو أن يكون الصواب إثباتا ونفيا وسنفعل ذلك بالنسبة للسور الآتية إن شاء الله. هذا، وننبّه على أن الشيعة يسوغون النسخ ويسوغون أيضا البداء على الله تعالى استنادا إلى آية سورة الرعد المذكورة آنفا ثم استنادا إلى حديث يروونه عن

تعليق على آية ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين

علي بن أبي طالب جاء فيه: «لولا البداء لحدثتكم بما هو كائن إلى يوم القيامة» ويسوقون قولا لموسى بن جعفر وهو «البداء ديننا ودين آبائنا» «1» . ويظهر أنهم رأوا في تسويغ البداء على الله تعالى سندا لدعوى من دعاويهم وهوى من أهوائهم. وليس في آية الرعد ما يصحّ أن يكون سندا لزعمهم وكل ما في الأمر أن فيها سندا لنسخ أمر ما بأمر آخر حسب مقتضى حكمة الله وتوقيتها مع إحاطة علم الله بكل ما كان ويكون أولا وآخرا. وليس لما يروونه من كلام علي وموسى سند فضلا عما يبدو عليه من غرابة وزور، والله تعالى أعلم. تعليق على آية وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ والآية تدل دلالة قاطعة على أنه كان يقيم في مكة أناس غير عرب، والمتبادر من نسبة الكفار إليهم تعليم النبي أنهم كانوا على شيء من العلم بحيث كانوا مظنة تعليم النبي. ووجود فريق من أهل الكتاب والعلم في مكة مما أيدته آيات عديدة أخرى وحكى بعضها إيمانهم وخشوعهم على ما مرّ في تفسير سورتي الإسراء والقصص. ولقد ذكر المفسرون استنادا إلى روايات رووها أسماء عديدة للشخص المذكور في الآية ومن الأسماء عائش أو يعيش غلام حويطب بن عبد العزى وكان صاحب كتب وعلم، وجبرا الرومي غلام عامر بن الحضرمي وكان يصنع السيوف ويقرأ التوراة والإنجيل فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مرّ وقف عليه ليسمع ما يقرأ «2» وبلعام وكان قينا- حدادا- نصرانيّا في مكة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل عليه على مرأى من المشركين «3» . وممن روى المفسرون أسماءهم في هذا الصدد سلمان الفارسي أيضا «4» . فكان هذا مما جعل المشركين على ما هو المتبادر يقولون ما قالوه هنا

_ (1) انظر كتاب الدكتور أبي زيد ص 22- 24. [.....] (2) انظر تفسير الآيات في الطبري والزمخشري. (3) انظر تفسير الطبري. (4) انظر تفسير الطبري.

تعليق على جملة روح القدس

وما حكته عنهم آية سورة الفرقان [4] التي مرّ تفسيرها. وطبيعي أن هذا لا يعني أن ما قاله المشركون مطابق للواقع. فالآيات تحكي قولهم كما هو وتردّ عليه ردّا صريحا قاطعا يعلن على مسمع جميع الناس ومسمع من كان قولهم يعنيهم من أهل العلم والكتاب في مكة بالإضافة إلى ما حكته آيات أخرى أوردناها قبل من إيمانهم بالرسالة المحمدية وشهادتهم بصدق صلة القرآن بالله ووحيه لأنهم رأوا أعلام النبوة في النبي صلى الله عليه وسلم واستطاعوا أن يتجردوا من الهوى والتعصب والمآرب. ورأى المشركون ذلك وسمعوه. وهذا كاف لتزييف هذا القول الذي استغله المبشرون والمغرضون من المستشرقين استغلالا بشعا على غير طائل ويدل على أنهم لم يدركوا مدى الوحي القرآني والرسالة المحمدية أو يكابرون ويغالطون فيهما على ما شرحناه في سياق سورة الفرقان شرحا يغني عن التكرار. تعليق على جملة رُوحُ الْقُدُسِ وروح القدس المذكور في الآية [102] فسّره المفسرون بالملك جبريل، والقدس بمعنى المقدس والمطهر وهو تعبير تكريمي كما هو المتبادر. وقد ذكر جبريل بصراحة في آية في سورة البقرة في صدد نزوله بالقرآن على قلب النبي صلى الله عليه وسلم وهي: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مما يعضد هذا التفسير. ولقد ورد في سورة الشعراء تعبير الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) في صدد تنزيل القرآن. والمقصد هنا وهناك واحد على ما هو المتبادر. وقد علقنا بما يقتضي في تفسير تلك السورة وهو ما يصح قوله هنا فلا حاجة للإعادة. تعليق على الأمر بالاستعاذة من الشيطان في هذه الآيات ولعلّ الأمر بالاستعاذة من الشيطان في إحدى آيات السلسلة وتقرير كون

[سورة النحل (16) : الآيات 106 إلى 111]

الذي ينزل بالقرآن على النبي صلى الله عليه وسلم هو الروح القدس في آية أخرى منها قد استهدفا الرد على المشركين فيما يمكن أن يكونوا قالوا بمناسبة هذا الحادث من أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو متصل بالجنّ أو شياطينهم لا بالله وملائكته على ما كانوا يعتقدونه باتصال شياطين الجنّ بالكهان والسحرة ونوابغ الشعراء. ومما يلحظ أن ذلك وافق آيات سورتي الشعراء [192- 236] والتكوير [19- 26] على ما شرحناه في تفسيرهما مما يدل على أن المشركين كانوا يكررون تهمتهم للنبي صلى الله عليه وسلم مرة بعد أخرى فيردّ عليهم القرآن بالردود القوية النافذة كما جاء هنا وكما جاء في السورتين المذكورتين. على أن الآية غدت مستمرة المدى بما كان من السنّة النبوية بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم حينما كان يقرأ القرآن وبما صار من واجب المسلمين أن يقتدوا به على ما هو ثابت بالتواتر الذي لم ينقطع من لدن النبي صلى الله عليه وسلم. ولقد علقنا على موضوع الاستعاذة بالله من الشيطان بصورة عامة ونبهنا على ما تبثه في النفس من سكينة وطمأنينة وأوردنا بعض الأحاديث الواردة في ذلك في سياق تفسير سورة العلق فنكتفي بهذه الإشارة. [سورة النحل (16) : الآيات 106 الى 111] مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) .

تعليق على آية من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان وما بعدها

في الآيات: 1- إعلان لغضب الله على الذين كفروا بعد إيمانهم عن عمد لا عن إكراه. 2- وإنذار لهم بعذاب الله العظيم. 3- وبيان بأنهم استحقوا ذلك لأنهم فعلوا فعلتهم الشنيعة استحبابا للحياة ومنافعها وتفضيلا لذلك على الآخرة. 4- وتقرير بأن الله لا يهدي الكافرين أمثالهم ولا ييسر لهم أسباب الطمأنينة والسعادة وقد طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم فصاروا في مثابة الصمّ العمي البله الغافلين عن الحق والحقيقة وبأنهم سيكونون الخاسرين في الآخرة بطبيعة الحال. 5- وإشارة تنويهية إلى الذين هاجروا من بعد ما ارتدّوا وفتنوا عن دينهم ثم جاهدوا وصبروا. وتقرير بأن الله سيشملهم بغفرانه ورحمته يوم القيامة الذي تجادل فيه وتدافع كل نفس عن نفسها وتوفّى كل نفس ما عملت من خير وشرّ دون ظلم ولا إجحاف. تعليق على آية مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وما بعدها لقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون في صدد الآيتين [106 و 110] من هذه الآيات «1» . ففي صدد الآية الأولى رووا أن الاستثناء فيها نزل في حق عمار بن ياسر الذي أخذه مالكوه مع أمه وأبيه وعذبوهم حتى مات أبوه وأمه وأعطاهم ما أرادوا بلسانه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي، فقال له: ما وراءك؟ قال: شرّ يا رسول الله نلت منك وذكرت آلهتهم بخير. فقال له: كيف وجدت

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.

قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان، فجعل النبي يمسح على عينيه ويقول: إن عادوا فعد لهم بما قلت. ورووا في الوقت نفسه أنها نزلت في حقّ جبرا مولى عامر الحضرمي الذي أكرهه سيده على الكفر أو خباب أو صهيب. ورووا كذلك أنها نزلت في أناس من أهل مكة كانوا مسلمين فيها فكتب لهم أصحابهم في المدينة أن هاجروا فأنتم لستم منا حتى تهاجروا فخرجوا فأدركتهم قريش ففتنوهم فكفروا كارهين. ورووا في صدد الآية [110] أنها نزلت في جماعة كانوا يخفون إسلامهم في مكة فأخرجتهم قريش يوم بدر وحاربوا المسلمين فقتل بعضهم فاستغفر لهم بعض أصحاب رسول الله وقالوا أخرجوا كارهين فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) فكتب بعض أصحاب رسول الله لمن بقي فيهم بالأمر فخرجوا مستيئسين فلحقتهم قريش وقاتلتهم فقتل بعضهم ونجا بعضهم فأنزل الله بحقهم الآية [110] كما رووا أنها نزلت في حقّ جماعة من المسلمين تخلفوا في مكة فكتب لهم أصحابهم بأن الله لا يقبل إسلامهم حتى يهاجروا فخرجوا فلحقتهم قريش وأرجعتهم وفتنتهم عن دينهم ثم تمكن بعضهم من الإفلات والهجرة. وسموا من هؤلاء عياش بن أبي ربيعة وأبا جندل بن سهيل وسلمة بن هشام. ورووا في الوقت نفسه أنها نزلت في حقّ عبد الله بن أبي سرح وكان يكتب لرسول الله فأزله الشيطان فكفر ولحق بالكفار فأمر النبي بقتله يوم فتح مكة فاستجار له أبو عمرو أو أخوه بالرضاعة عثمان بن عفان فعفى النبي عنه ونزلت في حقّه الآية. وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الأحاديث الصحيحة. ومقتضى الروايات التي تذكر ابن أبي سرح أو المسلمين المستخفين أو المتخلفين في مكة أن تكون الآية [110] مدنية ولم نر ما يؤيد ذلك. وليس من حكمة في وضع آية مدنية في سياق متصل بمواقف كفار مكة. وهذا يقال بالنسبة للرواية التي تذكر صلة الآية [106] بجماعة من المتخلفين في مكة الذين أرادوا اللحاق بالمدينة فردتهم قريش

وفتنتهم مكرهين. ومسألة فتنة عمار بن ياسر وأمثاله كانت في عهد مبكر من البعثة والسورة نزلت بعد النصف الأول من العهد المكي على الأرجح. ولذلك نحن نستبعد صحة هذه الروايات كسبب لنزول الآيتين [106 و 110] وكل ما يمكن احتماله أنهما كانتا تتليان للتطبيق أو أن الروايات هي من قبيل التطبيق. ومن الجدير بالذكر أن المفسرين لم يرووا رواية ما فيما اطلعنا عليه في صدد الذين كفروا وشرحوا صدرا بالكفر مع أن الآيات وما فيها من حملة شديدة هي في حقهم بالدرجة الأولى. ونحن نرجح بل نكاد أن نجزم أن الآيات جميعها نزلت في صدد أحداث وقعت في مكة بعد الهجرة إلى الحبشة. وأن أناسا من المسلمين قد ارتدوا عن الإسلام بدون إكراه وثبتوا على كفرهم وأن أناسا قد ارتدوا عن الإسلام كرها مع بقاء قلوبهم مطمئنة بالإيمان وأن بعض هؤلاء أو جميعهم- إن كانوا أكثر من واحد- قد استطاعوا أن يفلتوا من مكة ويهاجروا فلما بلغوا مأمنهم أظهروا إسلامهم وجاهدوا وصبروا على ما لا قوة من مشقة وحرمان، وأن ذلك متصل بحادث تبديل بعض الآيات مكان بعض الذي أشير إليه في الآيات التي سبقت هذه الآيات. فمن المحتمل جدا أن يكون الذين تولوا قيادة المعارضة والتعطيل قد اتخذوا هذا الحادث وسيلة للدعاية والتشويش والتشكيك فأثروا على بعض المسلمين وجعلوهم يرتدون وربما أغروهم ببعض المنافع الدنيوية بل كان هذا وسيلة مؤكدة على ما تلهمه الآية [107] التي تذكر أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة. ومن المحتمل أن يكون هؤلاء القادة قد أجبروا بأسلوب ما في نفس الظرف بعض المسلمين على الارتداد وظلت قلوبهم مطمئنة بالإيمان وظلّ وجدانهم يتعذب حتى إذا سنحت لهم الفرصة أفلتوا وهاجروا وعادوا إلى الإسلام فاحتوت الآيات حملة على الأولين وتنويها بالآخرين واحتوت الآية [110] بخاصة إيذانا بعفو الله ورحمته ومغفرته لهم. ولعلّ من الذين ارتدوا بدون إكراه من ندم وهاجر وعاد إلى الإسلام أيضا مما قد يلهمه أسلوب الآية [110] وفي كلّ ذلك صور من صور السيرة النبوية في مكة. والارتداد بدون إكراه نقض لعهد الله. وفي الآيات [91- 97] التي سبقت

تلقينات الآية من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان وما بعدها

هذا الفصل والذي قبله توكيد على الوفاء بعهد الله وتحذير من نقضه واتخاذ الإيمان بالله وسيلة تغرير وخداع ومداراة للأقوى والأكثر وترجيحا لما عند الناس على ما عند الله. وهذا ما سوّغ لنا أن نقول في صدد هذه الآيات إنها متصلة بهذا الفصل والفصل السابق له، بل وربما كانت مقدمة لهما. وطبيعي أن يكون هذا الحادث قد أثر في نفس النبي والمؤمنين وسير الدعوة النبوية تأثيرا شديدا. وهذا ما يفسر الحملة الشديدة على المرتدين بدون إكراه الذين ثبتوا على كفرهم ويفسّر ما احتوته الآية الأخيرة من تطمين وإنذار معا فليس على النبي والمؤمنين من بأس وهم بما يفعله الآثمون الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة وينقضون عهد الله فكل مسؤول عن عمله يوم القيامة ومجزى عليه بما يستحقه. والمتبادر أن تعبير جاهَدُوا في الآية الأخيرة قد قصد به بذل الجهد وتحمّل المشقة والحرمان في سبيل الله ودينه. لأن الجهاد الحربي إنما كان بعد الهجرة إلى المدينة كما لا يخفى. ولقد كان من المسلمين مهاجرون في الحبشة في هذا الظرف على ما مرّ شرحه في مناسبة آية سابقة في هذه السورة فمن المحتمل كثيرا أن هؤلاء الذين آمنوا من بعد ما فتنوا وهاجروا قد هاجروا إلى الحبشة والتحقوا فيها بإخوانهم السابقين. تلقينات الآية مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وما بعدها هذا، والآيات تنطوي على تلقينات مستمرة المدى فيما يتبادر لنا. فالله لا يؤاخذ من يجبر على ارتكاب إثم من الآثام مهما عظم إذا كان غير راض به وكان متعلقا بخاصة نفسه، ويقبل توبة النادمين والتائبين منه إذا رضوا به في موقف أو حالة ما ويشملهم برحمته. وشرط التعلق بخاصة النفس مستلهم من روح الآيات فالإكراه على القتل لا يبرر القتل، والإكراه على الزنا لا يبرر الزنا لأن أقصى

نتائج الإكراه القتل. وحدّ من يرتكب الإثمين القتل أيضا واللواط في حكم الزنا. وقد يستثنى المفعول بهما إذا قيدا ومنعا من المقاومة. أما الإكراه على الكفر وما دون ذلك من شرب خمر وأكل لحم خنزير وميتة ودم مسفوح وامتناع عن الصلاة والصوم والحج فهو مبرر بقدر ما يكفي لدفع الضرر من الإكراه إذا كان مؤكدا ويقينا. وقد يكون الإكراه على ما دون القتل والزنا- مما يتعلق بالغير- مبررا أيضا إذا ما أصلح الفاعل وعوض عما ارتكبه بعد زوال خطر الإكراه. وهذا لا يتعارض مع التوبة عن الآثام التي يرتكبها المرء بدون إكراه إذا ما كانت توبة صادقة مترافقة على الإصلاح والتعويض على ما شرحناه في سياق سورة الفرقان. وهناك حديث رواه ابن ماجه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» «1» والحديث يتساوق مع التلقين القرآني، ويتحمل بدوره الملاحظات التي شرحناها كما هو المتبادر، والله تعالى أعلم. ولقد نبّه المفسرون في سياق الآية إلى التشريع النبوي في حقّ المرتدين عن الإسلام بدون إكراه فروى ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن عكرمة، رواه أيضا البخاري وأبو داود والترمذي بصيغة قريبة جدا وهي: «إن عليّا حرق قوما ارتدوا عن الإسلام فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: من بدّل دينه فاقتلوه، ولم أحرقهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تعذّبوا بعذاب الله فبلغ ذلك عليّا فقال: صدق ابن عباس» «2» . وهناك حديث آخر رواه الخمسة عن عبد الله بن مسعود قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلّا الله وإني رسول الله إلّا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس والثيّب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة» «3» .

_ (1) التاج ج 1 ص 29. (2) التاج ج 3 ص 17. (3) المصدر نفسه.

[سورة النحل (16) : الآيات 112 إلى 113]

والمتبادر أن هذا التشريع النبوي مدني وقد اكتفت الآيات التي نحن في صددها بتقرير غضب الله وعذابه العظيم والخسران في الآخرة للمرتدين الشارحين بالكفر صدرا لأن هذا هو المناسب مع ظرف العهد المكي على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. [سورة النحل (16) : الآيات 112 الى 113] وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113) . (1) رغدا: واسعا ميسرا. (2) أنعم: جمع نعمة. جمهور المفسرين على أن هذا المثل مضروب في مكة وكفارها: فمكة بلدة قد أنعم الله عليها بالأمن والطمأنينة ويسّر لها أسباب الرزق يأتيها من كلّ مكان بسهولة وسعة. فلم يرع أهلها حقّ الله ولم يشكروا نعمه وأفضاله ولما جاءهم رسوله منهم يدعوهم إليه وقفوا منه موقف المكذب الباغي. ولذلك أخذهم عذاب الله بظلمهم وإجرامهم وكفرهم وبغيهم، وبدل أمنهم بالخوف وسعة رزقهم بالتقتير والجوع، وجعلهم مثلا يتمثل به وعبرة للمعتبرين. والآيات تنطوي على تذكير بعذاب وضيق وجوع وخوف وقع على أهل القرية أو على أهل مكة على ما اتفق عليه جمهور المفسرين. وقد رووا «1» أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بعد هجرته بسنين كسني يوسف ومنع عنهم في الوقت نفسه

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي والخازن والطبرسي وابن كثير والزمخشري إلخ.

تعليق على جملة ولقد جاءهم رسول منهم

الميرة فجاعوا حتى أكلوا الجيف فأرسلوا إليه يذكرونه بالرحم فأشفق عليهم وسمح لهم بالميرة. وإن الخوف الذي ذكر في الآية هو ما كان بسبب سرايا رسول الله التي كان يسيرها نحوهم. وهذا يقتضي أن تكون الآيات مدنية. ولم نطلع على رواية تذكر ذلك. ولقد أوردنا في سياق تفسير سورة الدخان روايات تذكر أنه طرأ على مكة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في مكة مجاعة أدت إلى خوفهم واضطرابهم وأن بعض زعماء مكة جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فناشدوه الرحم وطلبوا منه أن يدعو الله بكشف العذاب عنهم. وبعد انكشاف العذاب عادوا إلى موقفهم المناوىء فأنذرهم الله بالبطشة الكبرى في سورة الدخان. والذي يتبادر لنا أن هذه الآيات بسبيل التذكير بذلك وتعليل ما أصابهم بموقفهم الباغي الظالم. ونزول سورة الدخان ليس بعيدا عن نزول هذه السورة. ولعل ما طرأ عليهم كان ما يزال. فإذا صح هذا- ونرجو أن يكون صحيحا- فتكون صلة هذه الآيات بسابقاتها واضحة حيث احتوت سابقاتها حملة على الكفار وزعمائهم بخاصة لمواقفهم المناوئة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم له وتشويشهم عليه وإكراه من استطاعوا على الارتداد عن الإسلام فجاءت الآيات تذكرهم بما هم فيه من بلاء وتؤذنهم بأنه بعض جزائهم العاجل من الله، وتجعل مكة في ذلك مضرب المثل والعبرة. تعليق على جملة وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ لقد وقف الطبري عند هذه الجملة فاستنبط منها ما يفيد أنها منطوية على تذكير العرب السامعين بأنهم يعرفون الرسول ويعرفون نسبه وصدق لهجته. ولا يخلو هذا من صواب وقد تضمن هذا المعنى آيات أخرى منها آيات سورة يونس [15- 16] وآيات سورة المؤمنون [68- 70] على ما نبهنا عليه في مناسباتها. وقد يصح أن يضاف هنا إلى هذا أن الجملة يمكن أن تكون انطوت أيضا على قصد التدليل على باعث حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هدايتهم وتجرده عن المآرب والمقاصد في ذلك وهو شدة المعصية في ذلك الوقت في العرب التي تجعل العربي يتحمل

كل تضحية في سبيل جر الذين ارتبط بهم برابطة الرحم والقبيلة وحياتهم وعزتهم والتضامن معهم. ثم على قصد بيان عظم فضل الله ونعمته بإرسال هاد إليهم منهم يكون فيه مثل هذا الباعث وكون إثم تكذيبهم له أشد واستحقاقهم للعذاب نتيجة لذلك أولى. وقد لا تخلو الآية التي فيها الجملة على ضوء هذا التوضيح من تلقين مستمر المدى فيما يكون من وقوف الفئات المستكبرة المغرضة من دعاة الإصلاح والقادة المخلصين منهم الذين تكون دعوتهم وقيادتهم مجردة من المآرب وخالصة لوجه الله ومصلحتهم. ولقد تكررت هذه الجملة في مقامات مماثلة للمقاصد نفسها، وكان يأتي بدلا منهم (منكم) أو (من أنفسكم) أو من (أنفسهم) كما جاء في آية سورة البقرة هذه: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) وآية سورة آل عمران هذه: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) ، وآيات سورة التوبة هذه: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) وآية سورة الجمعة هذه: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) حيث يبدو من هذا أن حكمة التنزيل اقتضت تكرار التنبيه والتوكيد على هذا الأمر لما انطوى فيه من مقاصد. ولقد أورد المفسرون في سياق آيات سورة التوبة كتوضيح لمدى تعبير (من أنفسكم) الذي هو في مقام (منهم) قولا لابن عباس جاء فيه: «إنه ليس من العرب

قبيلة إلّا قد ولدت النبي صلى الله عليه وسلم وله فيهم نسب وفي رواية ليس من العرب قبيلة إلّا ولدت النبي صلى الله عليه وسلم مضرها وربيعها ويمنها» «1» . والنبي صلى الله عليه وسلم وإن كان قرشيا من ناحية الوالدين المباشرين حيث كان أبوه من بني هاشم وأمه من بني زهرة وكلاهما من قريش، وقريش من عدنان حسب التقاليد المشهورة فإن أمّ أبيه كانت من بني النجار من الخزرج وهم قحطانيون حيث يصدق ما روي عن ابن عباس من انتساب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الفرعين الرئيسيين اللذين تفرّع منهما جميع القبائل العربية في جنوب جزيرة العرب وشمالها. ولقد أورد البغوي في سياق آية سورة التوبة أيضا حديثا رواه بطرقه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما ولدني من سفاح أهل الجاهلية شيء. ما ولدني إلّا نكاح كنكاح الإسلام» . وأورد ابن كثير حديثا قريبا من هذا بطرق أخرى بقصد التدليل على سبب من أسباب ما كانت عليه أخلاق رسول الله المذكورة في الآية وهو الطهارة في النسب. والحديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة ولكن ورد فيها أحاديث أقوى في الدلالة من هذا الحديث حيث روى مسلم والترمذي عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم» «2» . وحيث روى الترمذي عن العباس أنه قال للنبي: يا رسول الله إن قريشا جلسوا فتذاكروا أحسابهم بينهم فجعلوا مثلك كمثل نخلة في كبوة من الأرض. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله خلق الخلق فجعلني من خيرهم، من خير فرقهم، وخير الفريقين، ثم تخيّر القبائل فجعلني من خير قبيلة، ثم تخيّر البيوت فجعلني من خير بيوتهم فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا» «3» .

_ (1) انظر تفسير آيات التوبة في كتب تفسير ابن كثير والبغوي ورشيد رضا. (2) التاج ج 3 ص 205. (3) المصدر نفسه.

تلقين آية وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة

تلقين آية وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً وفي هذه الآية تلقين جليل وعظة اجتماعية مستمرة المدى، فأي مجتمع أراد أن يحتفظ بأسباب القوة والعزّة والحياة المطمئنة والرزق الميسور عليه أن يلتزم حدود الله في الإخلاص له والعدل والإحسان وسائر الأعمال الصالحة، وأن يعترف بفضله ويداوم على ذكره وشكره وأن يبتعد عن كلّ ما فيه ظلم وإثم وبغي ومنكر وانحراف وإسراف. فإذا أخلّ بذلك اختلّت شؤونه وانفرط كيانه وغدا عرضة للنوائب والكوارث. [سورة النحل (16) : الآيات 114 الى 119] فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) . (1) ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام: ولا تقولوا كذبا من عند أنفسكم هذا حلال وهذا حرام. في الآيات: 1- أمر للسامعين بأن يأكلوا ويتمتعوا بكل ما رزقهم الله من الحلال الطيب ويشكروا الله على نعمه إن كانوا حقيقة يؤمنون به ويعبدونه.

2- وبيان بأن المحرم عليهم أكله ينحصر في الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذكر اسم غير الله عليه من الذبائح. 3- واستدراك بأن الله مع ذلك يغفر لمن يكون مضطرا إلى أكل هذه المحرمات في حدود الضرورة بدون توسع وتجاوز. 4- ونهي عن التحليل والتحريم اللذين لا يستندان إلى أمر رباني وعن نسبته ذلك إلى الله كذبا وافتراء. 5- وتنديد ووعيد لمن يفعل ذلك فهو لن يفلح ولن يسعد وله العذاب الأليم الذي ينتظره في الآخرة بعد متاع الدنيا وأجلها القصير. 6- وإشارة إلى كون الله إذا كان حرّم على اليهود بعض المأكولات التي ذكرت في القرآن قبل هذه السورة فإنما كان ذلك بسبب بغيهم وتعنتهم وظلمهم وأن الله لم يظلمهم بذلك. 7- وتقرير بأن الله يعامل الذين يعملون السوء عن جهل وغفلة ثم يندمون ويتوبون ويسيرون في طريق الصلاح والإصلاح بالرحمة والمغفرة. والتعليم الذي احتوته الآيتان الأوليان قد تكرر في القرآن في سور مدنية ومكية بأسلوب متقارب. ومن ذلك ما جاء في الآية [144] من سورة الأنعام التي سبق تفسيرها وعلقنا على الموضوع في سياقها ما يغني عن الإعادة. ولقد جاء الدم في آية الأنعام بوصفه مسفوحا ولم يرد هذا الوصف هنا. والمتبادر أن هذا مقدر وأنه هو الذي كان مستقرا مفهوم المدى. بدليل استثناء النبي في حديث له الطحال والكبد لأنهما عضوان جامدان على ما ذكرناه في التعليق المذكور. وتكرر ورود هذا التعليم يدل على ما كان راسخا عند العرب من تحليل وتحريم في صدد اللحوم وما كان يدور حول هذا الموضوع من جدل. مما شرحناه كذلك في تفسير سورة الأنعام في سياق تفسير الآيات [118- 121] و [137- 139] و [142- 147] وكان من جملة ذلك بيان ما حرّمه على اليهود وأسباب التحريم.

التلقين الذي احتوته جملة ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام

ولا يروي المفسرون رواية ما في مناسبة نزول هذه الآيات وأسلوبها ومضمونها في جملتها قد يلهمان أنها وردت في سياق استفسار أو مشهد جدل في صدد محرمات اللحوم والذبائح. وقد يلهمان أن الموضوع قد أثير من قبل بعض المسلمين أو بسبب بعض أقوال بعضهم وتصرفاتهم. ومما قد تلهمه الآيات أن الجدل تطرق مرة أخرى إلى ما عند اليهود من محرمات أخرى غير المحرمات الأربع فاقتضت حكمة التنزيل الإشارة ثانية إلى أن ذلك قد كان عقابا خاصا لليهود وليس من محل للقياس عليه. والآيات تبدو فصلا مستقلا لا صلة له بالفصول السابقة، إلّا إذا كان الكفار قد اشتركوا في الموقف الجدلي أو إذا كان لهذا الفصل صلة بما كان من تبديل بعض الآيات مكان بعض مما لا يمكن التأكد منه لأنه ليس هناك رواية ما في صددها يمكن الاستئناس بها عليه وإن كنا نميل إلى ذلك. ولقد روى الإمام أحمد ومسلم والترمذي في صدد الآية الأولى حديثا عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيّها الناس إنّ الله طيّب لا يقبل إلّا طيّبا. وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال يا أيّها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم. وإنّ الرجل يمدّ يديه إلى السماء يا ربّ يا ربّ، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنّى يستجاب لذلك» «1» . حيث ينطوي في الحديث تلقين توضيحي متساوق مع التلقين القرآني في الآية وتنديد بالمنحرفين عنه. التلقين الذي احتوته جملة وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ ولسنا نرى ضرورة للتعليق على أصل الموضوع ومبدأ الاضطرار فقد علقنا عليه بما فيه الكفاية في تفسير سورة الأنعام. غير أننا نودّ أن نلفت النظر بخاصة إلى

_ (1) من تفسير ابن كثير للآية [172] من سورة البقرة التي يقرب نصّها من نصّ الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها.

الآية [117] وما احتوته من تلقين مستمر المدى يمكن أن يكون شاملا لمتنوع الشؤون وغير قاصر على محرمات اللحوم والطعام بسبب إطلاقها حيث نهت المسلمين عن إلقاء الكلام على عواهنه في التحليل والتحريم مطلقا ونسبة ذلك إلى الله من دون تثبت وتدبّر وسند وثيق. ففي ذلك افتراء على الله وتضييق لما وسع وتعطيل لحكمته المتمشية مع المصلحة والعقل وطبائع الأشياء. ولقد أوردنا في تعليقنا على آيات سورة الأنعام المار ذكرها حديثا نبويّا جاء فيه: «الحلال ما أحلّ الله في كتابه والحرام ما حرّم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه» . حيث ينطوي في هذا الحديث تحديد لما يجب على المؤمن أن يقف عنده من حدود في صدد التحليل والتحريم. على أن من الواجب التنبيه على أمر هام نبهنا عليه أيضا في التعليق المذكور وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المصدر الثاني للتشريع الواجب على المؤمنين اتباع ما أمر به ونهى عنه بعد القرآن وأنه يصحّ أن يصدر عنه تحليل وتحريم لما سكت عنه القرآن أو جاء فيه غامضا وغير مستوف لكل جانب. ولقد روي عنه أحاديث وردت في كتب الأحاديث الصحيحة مثل ذلك أوردنا بعضها في سياق التعليق المذكور. وهي في صدد الذبائح والأطعمة الحيوانية وهناك أحاديث أخرى في صدد الألبسة والأشربة وغيرها أيضا وردت في كتب الأحاديث الصحيحة. من ذلك مثلا حديث رواه الشيخان والنسائي عن حذيفة قال: «نهانا النبيّ صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة وأن نأكل فيهما وعن لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه» «1» . وحديث رواه أصحاب السنن عن علي قال: «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم أخذ حريرا فجعله في يمينه وأخذ ذهبا فجعله في شماله ثم قال إن هذين حرام على ذكور أمتي» «2» .

_ (1) التاج ج 3 ص 134. (2) المصدر نفسه ص 135 ونكتفي بهذين المثلين اللذين لهما أمثال كثيرة في شؤون كثيرة. وننبه على أن هناك حديثا رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أنس قال: «رخّص النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرّحمن بن عوف والزبير بن العوّام في لبس الحرير لحكة كانت بهما» ص 135. والرخصة في الحديث متساوقة مع النصّ القرآني بإباحة المحظور للمضطر في الآية التي نحن في صددها وفي أمثالها. وقد يكون من الحكمة الملموحة في تحريم الأكل والشرب بآنية الذهب والفضة على المسلمين رجالهم ونسائهم قصد تفادي البطر والترف والتبذير وتعالي أغنياء المسلمين الذين قد يتيسر لهم ذلك على فقرائهم. وقد يكون من الحكمة الملموحة في تحريم لبس الحرير والذهب على الرجال قصد الارتفاع بهم عن التشبه بالنساء في ما يليق لهن من لباس وحلي. والله تعالى أعلم. ويلحظ أن الله عز وجل وعد المؤمنين في آيات عديدة مرّت أمثلة منها بلباس الحرير وحلي الذهب واللؤلؤ في الآخرة وبالأكل والشرب بآنية الذهب والفضة حيث يلمح من ذلك قصد التعويض عليهم عما حرموه لأن ما يرد من ذلك في الدنيا غير وارد في الآخرة والله تعالى أعلم. [.....]

[سورة النحل (16) : الآيات 120 إلى 124]

والتلقين المنطوي في الآية في عدم جواز التحليل والتحريم جزافا ونسبة ذلك إلى الله افتراء ينسحب على النبي صلى الله عليه وسلم فلا يجوز لمؤمن أن ينسب إليه التحريم والتحليل جزافا بدون تثبت وتدبر وسند وثيق افتراء عليه كما هو المتبادر. والآية الأخيرة وإن كانت على ما يتبادر متصلة بموضوع الآيات ودليلا على أن موضوعها مما أثير من بعض المسلمين أو بسبب تصرف بعضهم فإن فيها توكيدا لمبدأ التوبة القرآني وفي أسلوبها عمومية وشمول. ولقد علقنا على هذا المبدأ بما فيه الكفاية في سورة الفرقان والبروج فلا ضرورة للإعادة. هذا وفي الآيات دلالة على أن سورة الأنعام قد سبقت في النزول هذه السورة كما هو واضح. لأن المحرمات على اليهود قد ذكرت في تلك السورة وعطف عليها هنا. وفي هذا نقض حاسم لترتيب بعض المستشرقين «1» لنزول سورة الأنعام كآخر السور أو من أواخرها نزولا. [سورة النحل (16) : الآيات 120 الى 124] إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)

_ (1) المستشرق ويل.

(1) كان أمة: بمعنى كان إماما يؤتمّ به أو كان صاحب ملّة. وقد روى البخاري عن عبد الله بن مسعود أن معنى الأمة معلم الخير والقانت المطيع «1» . في الآيات: 1- تقرير بأن إبراهيم كان إماما على طريق الحق خاضعا لله ملتزما حدوده غير منحرف عنها وغير مشرك بالله أحدا، وشاكرا لنعم الله، وبأن الله قد اصطفاه وشمله بعنايته وهداه إلى الطريق القويم وهيّأ له أسباب الخير والطمأنينة والفلاح في الدنيا وجعله في الآخرة في عداد الصالحين المستحقين لحسن الجزاء. 2- وخطاب للنبي بأن الله قد أوحى إليه باتباع ملّة إبراهيم وطريقته التي ليس فيها انحراف ولا شرك. 3- وبيان بأن الله قد جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وبأن الله سوف يقضي بينهم يوم القيامة فيما اختلفوا فيه. ولم يرو المفسرون رواية ما في صدد نزول هذه الآيات أيضا، ويتبادر لنا أنها- وبخاصة الأربع الأولى منها- متصلة بالآيات السابقة. فقد كان العرب يردون ما يسيرون عليه من تقاليد دينية، ومن جملة ذلك تقاليد التحريم والتحليل إلى ملة إبراهيم فجاءت الآيات معقبة على الآيات السابقة بقصد الردّ والتنديد وبيان جوهر هذه الملة. وكونها هي التي أوحى الله بها إلى النبي وكون ما جاء في القرآن من تحليل وتحريم- وبخاصة في الأطعمة الحيوانية- هو الصحيح من هذه الملة الذي يجب الأخذ به.

_ (1) التاج ج 4 ص 139.

ولقد تعددت أقوال المفسرين في الآية الأخيرة حيث قال بعضهم «1» استنادا إلى بعض الروايات والأحاديث: إن يوم الجمعة هو اليوم الذي كان يجب اتخاذه يوم عيد لأن الله انتهى فيه من خلق الكون فاختلف اليهود في الأمر ثم اختاروا يوم السبت لأنه كان يوم راحة الله من خلق الكون فأوجبه الله عليهم وحرّم فيه العمل فمنهم من ثبت على ذلك ومنهم من خالفه وقد أوردوا حديثا نبويا عن أبي هريرة رواه البخاري جاء فيه: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا والنصارى بعد غد» ، وحديثا آخر عن أبي هريرة وحذيفة رواه مسلم جاء فيه: «أضلّ الله عن الجمعة من كان قبلنا فكان لليهود يوم السبت وكان للنصارى يوم الأحد فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة فهو تبع لنا يوم القيامة نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة والمقضي بينهم قبل الخلائق» «2» وحيث قال بعضهم «3» : إن الآية تعني الإشارة إلى ما كان من احتيال اليهود على السبت في صيد السمك وما كان عقوبة الله لهم ومسخهم على هذا الإثم مما أشارت إليه آيات سورة الأعراف [163- 166] . ونحن نرجح هذا القول لأننا نراه أشدّ اتصالا بموضوع التحريم والتحليل حيث يكون في الآية إنذار وتنبيه للمسلمين على عدم السير في طريق اليهود لئلا يعاقبهم الله بما عاقب هؤلاء وحيث تبدو الصلة واضحة بين هذه الآية والآيات الأربع ثم بين الآيات الخمس وما قبلها أيضا. ولسنا نرى هذا الترجيح متعارضا مع الحديثين اللذين رواهما البخاري ومسلم من حيث إنهما ليسا في صدد تفسير الآية.

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي. (2) أورد الحديثين ابن كثير والبغوي انظر التاج ج 1 ص 244- 245. (3) انظر تفسير الآيات في كشاف الزمخشري وتفسير الخازن.

[سورة النحل (16) : آية 125]

[سورة النحل (16) : آية 125] ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) . في الآية أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالتزام خطة الحكمة والموعظة الحسنة في الدعوة إلى سبيل الله وجدال الناس في صددها بالحسنى وإيكال الأمر بعد ذلك إلى الله، فهو الذي يعلم من هو الضالّ عن سبيله ومن هو المهتدي. ولم نطلع على رواية ما في صدد نزولها كذلك. ويتبادر لنا أن الصلة بينها وبين سابقاتها قائمة. فموضوع التحليل والتحريم وملّة إبراهيم مما يكثر الجدل فيه. ولعلّ النبي صلى الله عليه وسلم قد أحرج وأثير غضبه في ذلك الموضوع في موقف من المواقف فاقتضت حكمة التنزيل بعد بيان حقيقة هذه الملّة وكونها طريق الله الحق التي أوحى الله للنبي صلى الله عليه وسلم باتباعها وكون ما أوحاه الله في صدد التحريم والتحليل هو الحقّ في هذه الملة أن يهدّأ النبي صلى الله عليه وسلم ويعلّم الخطة الحكيمة التي يحسن أن يسير عليها من جهة وأن يسلّى من جهة أخرى. فذوو القابليات الحسنة والقلوب السليمة لا بدّ من أن يدركوا الحقّ ويهتدوا به، وأضدادهم لا يدركون لأنهم يتعمدون المكابرة والعناد وليس على النبي صلى الله عليه وسلم من تبعتهم شيء وليس عليه إلّا أن يدعو إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة وإذا صار جدال فينبغي أن يكون في نطاق الرفق واللين والحسنى. تعليق على آية ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ومع اتصال الآية بالسياق السابق وموضوعه كما قلنا فإن الخطة التي احتوتها والتي جاءت مطلقة عامة من جلال الشأن وبعد المدى في الذروة التي ليس بعدها شيء في صدد الدعوة إلى الإسلام الذي هو سبيل الله والتي تترشح بها الرسالة الإسلامية للشمول والخلود وهي مستمرة التلقين عامة المدى بحيث توجب على المسلمين في كل زمان ومكان أن تكون هي خطتهم في الدعوة إلى الإسلام وبحيث توجب أن تكون خطة كل داع إلى مبادئ الحق والخير التي هي من سبيل الله.

[سورة النحل (16) : الآيات 126 إلى 128]

فالدعوة إلى ذلك إنما تنجح بهذا الأسلوب الحكيم الرائع. أما أساليب العنف والإكراه والإلزام والخشونة فلا تؤدي إلى نتيجة إيجابية سليمة. ولقد قال بعض المفسرين «1» إن الآية قد نسخت بآيات القتال، كما قال بعض المغرضين من المبشرين والمستشرقين: إنها خولفت ونقضت حينما قوي النبي صلى الله عليه وسلم واشتد ساعده. وليس في هذا وذاك صواب فيما نرى، فالمبادئ التي تضمنتها آيات القتال المدنية متسقة مع هذه الخطة تماما. والقتال إنما شرع ضد المعتدين على المسلمين وليس لإكراه الناس على الإسلام على ما شرحناه في سياق سورة (الكافرون) وعلى ما سوف نزيده شرحا في مناسباته. وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين المتواترة تكذب كل من يقول من الأغيار إن هذه الخطة قد نوقضت بل الحق الذي لا يماري فيه إلّا المكابر المغرض أنها روعيت أدقّ رعاية وأشدّها «2» . [سورة النحل (16) : الآيات 126 الى 128] وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) . (1) وإن عاقبتم: بمعنى وإن قابلتم عملا بالمثل. وتستعمل في معنى المقابلة على الإساءة والعدوان. في الآيات: 1- خطاب موجه للسامعين يؤمرون فيه بأنهم إذا أرادوا أن يقابلوا على

_ (1) انظر تفسير الآية في تفسير البغوي. (2) اقرأ الجزء السادس والسابع من كتابنا تاريخ الجنس العربي، العروبة في الإسلام تحت راية النبي والخلفاء الراشدين. واقرأ كتابنا سيرة الرسول من القرآن الجزء الثاني 49- 305 وكتابنا الدستور القرآني فصل النظام السياسي وفصل النظام الجهادي.

تعليق على آية وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به وما بعدها

الإساءة والعدوان فيجب أن يكون ذلك في حدود ما كان عليهم من ذلك بدون تجاوز ولا إسراف به مع تنبيههم إلى أن الأفضل لهم إذا صبروا فإن في الصبر خيرا للصابرين. 2- وأمر للنبي بالصبر وعدم الاستسلام للحزن وضيق الصدر من جراء مواقف المكر والإساءة التي يواجهها. 3- وتطمين له بأنه إذا صبر فإنما يجعل اعتماده على الله وأن الله مؤيد للذين يتقونه ويحسنون في أعمالهم. تعليق على آية وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وما بعدها والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآيات الثلاث مدنية. وقد روى الطبري عن عطاء بن يسار أحد علماء تابعي التابعين أن الآيات الثلاث مدنية وأنها نزلت بعد وقعة أحد. فإن النبي عليه السلام لما قتل حمزة عمّه وبقر بطنه ومثّل به حزن كثيرا فأقسم لئن أظهرنا الله عليهم لنمثّلن بثلاثين منهم فلما سمع المسلمون قالوا: والله لئن ظهرنا عليهم لنمثّلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط، فأنزل الله الآيات. وروى الطبري روايات أخرى من هذا الباب ولقد روى الترمذي حديثا عن أبيّ بن كعب جاء فيه: «لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلا ومن المهاجرين ستة فيهم حمزة فمثّلوا بهم فقالت الأنصار لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربينّ عليهم فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ فقال رجل: لا قريش بعد اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كفّوا عن القوم إلّا أربعة» «1» . وهذه الروايات تؤيد مدنية الآيات كما هو واضح. ومع ذلك فإن الطبري روى عن بعض التابعين أن بعض المسلمين في مكة قالوا يا رسول الله لو أذن الله لنا لانتصرنا من هؤلاء الكلاب

_ (1) التاج ج 4 ص 139- 140.

فأنزل الله الآيات ثم نسخت بآيات الجهاد. وهذه الرواية تنقض رواية مدنية الآيات. وإلى هذا وذاك فإن الطبري روى عن بعض التابعين وتابعيهم أيضا أن الآيات مطلقة في صدد النهي عن مقابلة أحد على ظلامة ظلمها إلّا بمثلها مع تفضيل الصبر وأنها محكمة غير منسوخة، ثم قال: والصواب أن الله أمر في الآية الأولى النبي والمؤمنين بأن يعاقبوا من عاقبهم بمثل ما عاقبهم به إن اختاروا العقوبة، مع تفضيل الصبر وأنه سلّى في الآيتين الثانية والثالثة النبي عما كان من إعراض قومه عن دعوته ومواقفهم منه وما كان يطرأ عليه بسبب ذلك من حزن وضيق صدر. ولم تخرج أقوال وروايات المفسرين عن هذا «1» . وفي كلام الطبري الأخير وجاهة وصواب. فليس في مضمون الآيات ولا في سياقها قرينة يمكن أن تؤيد رواية مدنيتها كما أن حكمة وضعها في هذا المكان لا تكون مفهومة مع مضمون هذه الرواية. ولقد ذكرت وقعة أحد بشيء من الإسهاب في سورة آل عمران، فلو كان ما روي صحيحا لكان محل هذه الآيات هذه السور. وأسلوب الآيات ومضمونها مما يؤيد مكيتها وقد تكررت الآيات المكية التي تضمنت ما تضمنته هذه الآيات، ومرّت أمثلة من ذلك. وفي سورة النمل آية فيها نفس العبارة التي جاءت في آخر الآية الثانية وهي: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وليس بين هذه العبارة وبين رواية حزن النبي على قتل عمه أي اتساق. لأنها تنهاه عن عدم الحزن من مواقفهم ومكرهم. وبترجيح مكية الآيات تبدو الصلة بينها وبين الآيات السابقة واضحة. فالآية السابقة لها مباشرة تأمر بالجدال بالتي هي أحسن إذا لزم الجدال وبالتزام الحكمة والموعظة الحسنة في الدعوة إلى سبيل الله. فمما يتبادر أن تكون الآيات الثلاث قد جاءت معقبة على الآية السابقة لها وجزءا من السياق والموضوع. وكأنما أريد بها التنبيه على أن الخير كل الخير هو في تلك الخطة فإذا كان من الكفار من يشذ ويعنف ورأى بعض المسلمين ضرورة للمقابلة فلتكن في حدود المماثلة. والصبر مع ذلك هو الأفضل

_ (1) انظر تفسير الآيات في البغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.

وعلى النبي والمسلمين أن يملكوا زمام أنفسهم فلا يخرجوا عن حدّ الاعتدال ولا يحزنوا ولا يضق صدرهم بما يرونه من مكر الكفار ومواقفهم وتعنتهم. وعليهم بتقوى الله والعمل الحسن الذي يرضيه، وإنه لمع المتقين المحسنين. وهكذا تكون الآيات الثلاث متممة للخطة الحكيمة الرائعة التي احتوتها الآية السابقة لها. وكما أن هذه الآية قد تضمنت تلقينا جليلا مستمر المدى على ما شرحناه في سياقها تكون الآيات الثلاث مثلها مستمرة التلقين. وطابع الختام بارز على الآيتين الأخيرتين بخاصة مما هو مماثل لكثير من خواتم السور. والجمع بين المتقين والمحسنين يتكرر هنا، وقد علقنا على ما في ذلك من دلالة هامة في مناسبة سابقة، وتكراره يدل على ما أعارته حكمة التنزيل لهذا الأمر من عناية هو جدير بها.

سورة نوح

سورة نوح هذه السورة قاصرة على رسالة نوح عليه السلام لقومه ومناجاته لربّه بسبب جحود قومه ومواقفهم من رسالته. وهي شاذة بين السور المعقودة على أسماء الأنبياء التي احتوت إلى قصة النبي المعقودة باسمه قصص الأنبياء الأخرى وفصولا وعظية وتذكيرية أخرى موجهة إلى كفار العرب. وهي شاذة كذلك بالنسبة للفصول القصصية التي جاءت في سور أخرى في معرض التذكير والتنديد. ومع ذلك فإن أسلوبها متماثل مع أسلوب القصص القرآنية، وأهدافها متسقة مع أهداف هذه القصص. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة نوح (71) : الآيات 1 الى 28] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28) .

(1) يؤخركم إلى أجل مسمى: يؤخر محاسبتكم وعقابكم على ما قد تقترفونه من ذنوب. (2) إلّا فرارا: إلّا تباعدا. (3) استغشوا ثيابهم: وضعوا ثيابهم على رؤوسهم ليخفوا وجوههم. والعبارة بقصد تصوير شدة انصرافهم عن الدعوة. (4) ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا: حدثتهم وهم مجتمعون ومنفردون وسرّا وعلنا. (5) مدرارا: كثيرة التهطال. (6) لا ترجون لله وقارا: لا تعترفون لله بالعظمة ولا تحسبون حساب قدرته ولا تقدرونه حقّ قدره ولا تطيعونه حقّ طاعته. (7) أطوارا: على أشكال، أو بمعنى ما مرّ خلقكم فيه من أطوار من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة إلخ ... (8) طباقا: بعضهم فوق بعض. (9) فجاجا: واسعة. (10) كبّارا: شديدا أو عظيما. (11) لا تذرنّ: لا تتركوا.

(12) ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر: أسماء آلهتهم أو معبوداتهم. (13) ديّارا: من يعمر الدار ويسكنها. (14) تبارا: هلاكا ودمارا. عبارة آيات السورة واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وقد سردناها مرة واحدة لأنها مترابطة الأجزاء محبوكة الكلام. وقد تضمنت: 1- تقريرا ربانيا بإرسال نوح إلى قومه لدعوتهم إلى الله وإنذارهم قبل أن يحلّ فيهم عذاب الله. 2- وحكاية أقوال نوح لقومه ونصحه لهم وترغيبه بمغفرة الله وأفضاله وتحذيره من عذابه ونقمته. 3- ومناجاة نوح ربّه متذمرا مما كان من قومه من الإعراض والتباعد عن الدعوة وشدة التصامم بالرغم مما كان منه من إلحاح في السر والعلن والانفراد والاجتماع والترغيب والترهيب والتذكير بنعم الله عليهم ولفت نظرهم إلى مشاهد قدرة الله وعظمته في الكون وفي أنفسهم، ثم مما قام به زعماؤهم وأغنياؤهم من مكر وتحريض على عصيانه وعدم استماع مواعظه، وتوصية الناس بالتمسك بمعبوداتهم وتقاليدهم، حيث كان لذلك أثر كبير في إضلال الناس، وموقفهم موقف العناد والكفر. 4- وحكاية مناجاة نوح ربّه بعد يأسه من قومه ودعائه على الكفار بالهلاك وعدم إبقاء أحد منهم لأنهم بلغوا من العناد والجحود إلى درجة لا أمل فيها لصلاحهم وصلاح نسلهم الذي سوف يسير على غرارهم بتلقينهم ثم حكاية دعائه لنفسه ولوالديه ولكل من آمن بدعوته ولكل مؤمن ومؤمنة. والمتبادر أن الآية [25] ليست من حكاية قول نوح وإنما هي تقرير ربّاني حيث ذكرت أن قوم نوح أغرقوا بسبب ما ارتكبوه من آثام وخطايا، وأن مصيرهم

الأخروي إلى النار أيضا ولن يجدوا لهم أنصارا ينصرونهم من الله وغضبه. وآيات السورة قاصرة كما هو واضح على رسالة نوح لقومه، وهي من هذه الناحية شاذة بين سور القرآن المعقودة على أسماء الأنبياء والتي فيها حكاية رسالات الأنبياء الآخرين غير المعقودة عليهم أولا واحتوت مواعظ وتذكيرا وتعقيبا في صدد الرسالة المحمدية ومواقف العرب منها ثانيا. ومع ذلك فإنه يلحظ في آيات السورة: 1- تماثل غير يسير بين أسلوب التذكير بنعم الله وأفضاله ومشاهد قدرته وبين أسلوب الآيات الكثيرة الموجهة إلى كفار العرب في سور عديدة. 2- وتماثل غير يسير بين مواقف كفار قوم نوح وتصاممهم ومكر زعمائهم وتحريضهم الناس على عدم الاستماع له وبين ما حكته آيات كثيرة في سور عديدة عن مواقف كفار العرب وزعمائهم، وقد مرّ من هذا وذاك أمثلة عديدة. فهذا يلهم أن آيات السورة استهدفت فيما استهدفته تذكير العرب ودعوتهم إلى الاعتبار بقوم نوح وتأنيبهم على مواقفهم المماثلة لمواقفهم. وتسلية النبي والمؤمنين بأن مواقف كفار العرب ليست بدعا فإن قوم نوح أيضا وقفوا نفس الموقف فكانت عاقبتهم الهلاك. ولابن العربي تفسيرات صوفية لبعض آيات هذه السورة في نص الحكم الذي عقده على نوح عليه السلام. من ذلك في آيات مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25) يقول: (مما خطيئاتهم أغرقوا فهي التي خطت بهم فغرقوا في بحار العلم بالله وهو الحيرة، فأدخلوا نارا في عين الماء فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا فكان الله عين أنصارهم فهلكوا فيه إلى الأبد) . وفي آيات: وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً (28) يقول: (إنك إن تذرهم أي تدعهم وتتركهم يضلوا

تعليق على أسماء معبودات قوم نوح

عبادك أي يحيروهم فيخرجوهم من العبودية إلى ما فيهم من أسرار الربوبية فينظروا أنفسهم أربابا بعد ما كانوا عبيدا فهم العبيد الأرباب. ولا يلدوا أي لا ينتجوا ولا يظهروا إلّا فاجرا أي مظهرا ما ستر كفّارا أي ساترا ما ظهر بعد ظهوره فيظهرون ما ستر فيهم ثم يسترونه بعد ظهوره فيحار الناظر ولا يعرف قدر الفاجر في فجوره ولا الكافر في كفره والشخص الواحد. رب اغفر لي أي استرني واستر من أجلي فيجهل مقامي وقدري كما جهل قدرك وما قدروا الله حق قدره ولوالدي كنت نتيجة عنهما وهما العقل والطبيعة. ولمن دخل بيتي أي قلبي، مؤمنا أي مصدقا بما يكون فيه من الإخبارات الإلهية وهو ما حدثت به أنفسهم. وللمؤمنين من العقول والمؤمنات من النفوس ولا تزد الظالمين من الظلمات أهل الغيب المكتنفين خلف الحجب الظلمانية إلّا تبارا أي هلاكا فلا يعرفون نفوسهم وشهودهم وجه الحق دونهم) . وفي هذا من الشطح بل الهذيان الذي يبتعد به عن معنى الآيات الصريح الواضح وهدفها ويقلبهما رأسا على عقب ما هو ظاهر. تعليق على أسماء معبودات قوم نوح ويلحظ أن أسماء معبودات قوم نوح المذكورة في السورة عربية في صيغتها ومعناها وإن كانت تدل على أنها أقدم طورا من العربية الفصحى التي نزل بها القرآن حيث تبدو الصلة ملموحة بين يغوث، والغوث والغيث والإغاثة، ويعوق والإعاقة والتعويق. وسواع والسعة، وودّ والمودّة ونسر الذي هو اسم الطير الجارح المشهور. ولقد روى البخاري عن ابن عباس في سياق تفسير السورة حديثا جاء فيه: «صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعده. أمّا ودّ فكانت لكلب بدومة الجندل وأمّا سواع فكانت لهذيل وأمّا يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجوف عند سبأ. وأمّا يعوق فكانت لهمدان وأمّا نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع. أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلمّا هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسمّوها بأسمائهم ففعلوا

فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت» «1» . وفي الروايات التي وردت في الكتب العربية وكتب التفسير بيانات أخرى بالإضافة إلى ما جاء في حديث ابن عباس. من ذلك أن سواعا الذي كانت تتخذه هذيل كان في رهاط من أرض ينبع. وفي رواية أنه اسم صنم لهمدان وفي رواية أنه اسم صنم لذي الكلاع وكان على صورة امرأة وأن يغوث كان لمذحج وأهل جرش في اليمن وأن من عبدته بني غطيف من مراد وأنه ابن سواع وكان على صورة أسد وأن يعوق كان لهمدان وخولان في أرحب وفي رواية أن قبيلة خيوان كانت تعبده وأنه على شكل فرس. وأن نسرا كان على شكل طير. وقد قرىء على كتابة لحيانية بالشين بدلا من السين. وأن ودّا الذي كان لبني كلب كان على صورة رجل، وقد قرىء على كتابات يمنية قديمة كمعبود من معبودات اليمن القديمة وكان يرمز إلى القمر. وقد رويت أسماء رجال جاهليين بأسماء بعض هذه الأصنام مضافا إليها كلمة (عبد) مثل (عبد ودّ) و (عبد يغوث) «2» . وعلى كل حال فالمتبادر أن العرب في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وقبله بقليل كانوا يتداولون بينهم أن هذه الأسماء هي أسماء معبودات قوم نوح ثم اقتبسوها وربما عربوها وسموا بها أصناما لهم. وكان ذلك في طور أقدم من طور العربية الفصحى التي نزل بها القرآن فاحتفظوا بها كما هي لأنها دخلت في نطاق القدسية الذي لا يسهل تجاوزه. وقد يدل هذا على أنهم كانوا يتداولون قصة نوح وقومه ومن هنا كان الإلزام واردا في صدد قصة نوح وهدفها في السورة وغيرها. وهذا بالإضافة إلى أنهم لا بد من أن يكونوا عرفوا هذه القصة من طريق أهل الكتاب الذين بين ظهرانيهم والذين وردت القصة في أسفارهم بإسهاب على ما شرحناه في مناسبات سابقة.

_ (1) التاج ج 4 ص 245. (2) انظر تاريخ العرب قبل الإسلام جواد علي، ج 5 ص 82 وما بعدها.

سورة إبراهيم

سورة إبراهيم في السورة تقرير لمهمة النبي، وحملة على كفار العرب وبخاصة زعمائهم وتذكير ببعض الرسل السابقين ومواقف أممهم منهم. وإنذار بالمصائر السيئة التي صاروا إليها وتقرير كون الإيمان هو أساس كل عمل صالح وطريق قويم وكون الكفر هو محبط لكل عمل ومورد للهلاك. وتنديد بما انطبع عليه الناس من الكفر والجحود لنعم الله وحكاية لمناجاة إبراهيم ربه وحملته على الأصنام وتقريع صارم للظالمين في معرض تثبيت النبي وتطمينه. وفصول السورة مترابطة تبرر القول إنها نزلت دفعة واحدة، أو فصولا متلاحقة. وقد روي أن الآيتين [28 و 29] مدنيتان ومضمونهما وانسجامهما مع السياق يسوغان الشك في الرواية. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) . (1) يبغونها عوجا: يريدون أن يجعلوا سبيل الله معوجة منحرفة أو يريدون أن يجعلوا الناس يسيرون على طريقة معوجة منحرفة. ابتدأت آيات السورة بالحروف المتقطعة للتنبيه والاسترعاء على ما رجحناه

دلالة جملة لتخرج الناس من الظلمات إلى النور على عموم الرسالة المحمدية

في أمثالها وتبعها تنويه بالقرآن جريا على أسلوب معظم المطالع المبتدئة بالحروف المتقطعة. وعبارة الآيات واضحة. والمتبادر أن الآية الأولى في صدد تشبيه الناس بدون رسالة نبوية من قبل الله وكتاب رباني كمن هم في ظلمات دامسة لا يستبينون طريق الحق المستقيم الواضح في عقائدهم وسلوكهم، ثم في صدد التنويه بحكمة الله ورحمته التي اقتضت أن يرسل رسوله ويوحي إليه بآيات كتابه ليخرج الناس من تلك الظلمات وينير لهم سبيل الحق في كل ما يتعلق بأمور الدين والدنيا معا ويدعوهم إلى السير فيها. وقد احتوت الآيتان الثانية والثالثة حملة قوية على الكافرين الذين يجعلهم حبّهم وتفضيلهم متع الحياة وشهواتها على الآخرة يقفون موقف الكفر والصدّ من كتاب الله ودعوة رسوله مع ما فيهما من قصد إخراجهم من الظلمات إلى النور ويبذلون جهدهم لإبقاء الأمور معوجة منحرفة. وفي الآية الثالثة توكيد لما تكرر تقريره في القرآن ومرّ منه أمثلة من كون موقف الجحود والمناوأة الذي وقفه الكفار من الرسالة المحمدية متصل بجحودهم الآخرة وتعلقهم بالدنيا. وفي هذا تنطوي حكمة من حكم التنزيل فيما احتوته آيات عديدة من التهوين بالدنيا ومتاعها والترغيب في ما عند الله عزّ وجل، مما مرّ منه أمثلة ويأتي فيما بعد أمثلة عديدة أخرى. وجملة وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ تلهم أن الحملة موجهة بنوع خاص على الزعماء الذين يتولون كبر معارضة النبي صلى الله عليه وسلم ويمنعون الناس عن اتباعه كما هو المتبادر. دلالة جملة لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ على عموم الرسالة المحمدية وتعبير النَّاسَ وإن كان يطلق على مختلف فئات السامعين أو أي مجتمع فإن وروده في الآيات مطلقا يتضمن معنى التقرير بأن دعوة النبي هي عامة لجميع

الناس في كل ناحية من أنحاء الأرض لإخراجهم من الظلمات إلى النور. وهذا المعنى مؤيد بآيات كثيرة مرّت أمثلة عديدة منها. بل أكثر من هذا فإن القرآن قد رشحها لتكون دين العالم جميعه الظاهرة على جميع الأديان ورشح معتنقيها ليكونوا خير أمة أخرجت للناس وخلفاء الأرض قاطبة كما ترى في هذه الآيات: 1- هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً [الفتح: 28] . 2- وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [النور: 55] . 3- كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110] . 4- الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج: 41] . وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) [4] . عبارة الآية واضحة، وقد احتوت تعليلا لإرسال الله رسله من قومهم حتى يبينوا لهم رسالة الله بلسانهم. وقد يبدو في كلّ من فقرتي الآية إشكال، أما إشكال الفقرة الثانية فإنه يزول بالحملة الإنذارية بالعذاب والتعنيف للكافرين في الآيات السابقة واللاحقة وفيما ورد في آيات أخرى من تقييد بأن الله إنما يضلّ الفاسقين والظالمين ويهدي إليه من

تعليق على جملة وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه

أناب، على ما تكررت الإشارة إليه في المناسبات العديدة المماثلة. والراجح أنها هنا على سبيل تطمين النبي عليه السلام وتسليته. فمهمته هي مهمة الرسل من قبله، وهي التبيين فمن كانت فيه رغبة صادقة بالإيمان والإنابة اهتدى ومن فقدت فيه ضلّ فلا موجب لاهتمامه وحزنه. وقد تكرر هذا كذلك في سور عديدة لتكرر المواقف الداعية إليه. تعليق على جملة وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ وإشكال الفقرة الأولى آت من إيهامها أن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى قومه وحسب في حين أن القرآن احتوى آيات كثيرة فيها صراحة قطعية على أنها لعموم البشر ومرشحة لتكون دين العالم أجمع على ما ألمعنا إليه آنفا. غير أن ما احتوته الآيات التالية من التمثيل والتذكير والموعظة أولا وكون السياق هو في نطاق الحملة الموجهة إلى كفار قوم النبي مباشرة يزيلان هذا الإشكال. ولقد كان العرب يحاجون في كون القرآن باللغة العربية في حين أن الكتب السماوية المعروفة بغير هذه اللغة، ويحاولون أن يدللوا بذلك على أن القرآن ليس من عند الله، على ما شرحناه في سياق تفسير سورة فصلت، فاقتضت حكمة التنزيل على ما هو المتبادر الإيحاء بالآية للتعليل والإفحام الجدلي. وقد مرّ في سورتي الشورى والأنعام آيات تذكر أن الله أنزل الكتاب على نبيه عربيا لينذر أم القرى ومن حولها. وهذه من هذا الباب. وليس من شأنها أن تتعارض مع الآيات الصريحة القطعية بعموم الرسالة المحمدية. ومن عجيب الأقوال التي قيلت في صدد التوفيق بين جملة وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ وبين عموم الرسالة ما أورده السيوطي في الإتقان نقلا عن الواسطي أن في القرآن جميع لهجات العرب في الحجاز واليمن والشام والعراق ونجد واليمامة «1» كما أن فيه من اللغات الفارسية والرومية والقبطية

_ (1) في الإتقان تعداد لهذه اللهجات بأسماء قبائلها وقد بلغ عددها خمسين!.

والنبطية والحبشية والبربرية والعبرانية والسريانية من حيث إن الله أرسل نبيه إلى جميع الأقوام فاحتوى القرآن من جميع اللغات. وقد يكون حقا أن لهجة قريش التي كانت لهجة النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته في الدرجة الأولى والتي نزل بها القرآن متطورة مع الزمن عن لهجات العرب قبل نزول القرآن لأسباب وعوامل مختلفة. وقد يكون حقا أن في القرآن ألفاظا معربة من اللغات الأعجمية من فارسية ورومية وعبرانية وسريانية وقبطية أعلاما وغير أعلام دخلت على اللهجة العربية القرشية وجرت مجراها وصارت جزءا منها قبل نزول القرآن كذلك. غير أن العجيب في الأمر الذي لا يؤيده عقل ولا نقل أن يقرر كون ذلك للتوفيق بين عموم الرسالة المحمدية وبين نزول القرآن باللغة العربية واللهجة القرشية. والدراسات أثبتت أن هذه اللهجة كانت هي الشاملة إجمالا لجميع العرب في جميع أنحاء جزيرة العرب وأطرافها حين نزول القرآن بل قبل نزوله بمدة غير قصيرة ومن الأدلة القرآنية على ذلك وصف غير اللغة العربية التي نزل بها القرآن باللغة الأعجمية في آية سورة النحل هذه: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) والآيات العديدة التي ذكر فيها أن الله قد جعله عربيا وأنزله عربيا لقوم يعلمون ويعقلون ولعلهم يعلمون ويعقلون كما جاء في آيات سور فصلت [3 و 43] والشورى [7] والشعراء [193- 195] والرعد [37] ويوسف [2] والزمر [27- 28] وآيات الزمر مهمة في بابها حيث تنطوي على تقرير كون القرآن مأنوسا لا تعقيد فيه ولا عوج يفهمه جميع الناس على ما شرحناه في سياق تفسيرها. ومن الأدلة المتواترة اليقينية أن القرآن كان يتلى على مختلف فئات العرب على اختلاف منازلهم في أنحاء الحجاز وغير الحجاز من جزيرة العرب وأطرافها فكانوا يفهمونه ويجادلون فيه وأن النبي كان يتحدث إليهم ويكتب لهم بلسانه في العهد المكي ثم في العهد المدني وبدليل أن ما أثر وعرف يقينا من كلام العرب قبل الإسلام والعائد إلى مائة سنة هو مماثل في ألفاظه ومفرداته وتراكيبه لألفاظ ومفردات وتراكيب القرآن. ولقد وقف المفسرون أمام إشكال كون القرآن عربيا وكون رسالة النبي محمد

التي يمثلها القرآن هي لجميع الأقوام فقالوا فيما قالوه إن الترجمة كفيلة بإبلاغ القرآن والرسالة المحمدية إلى غير العرب، وإنه لما كان من غير المعقول أن ينزل القرآن بلغات جميع الأمم فكان الأولى أن ينزل بلغة الرسول الذي أنزل عليه فيكون الناس تبعا للمؤمنين من قومه ويبلغون الرسالة بالترجمة «1» . وهو حق. ويحسن أن يضاف إليه ما يكون في ذلك من وسيلة إلى انتشار اللسان العربي أيضا. فما دام القرآن قد رشّح الدين الإسلامي ليكون دين العالم أجمع على ما ذكرناه قبل قليل فإن اللسان العربي الذي هو لسان قرآن الله وسنّة نبيه يكون مرشحا بالتبعية ليكون لسان العالم أجمع أيضا. وقد تكون الترجمة الوسيلة الأولى للدعوة بالنسبة لمن يجهل العربية. ولقد باشر النبي صلى الله عليه وسلم مهمة دعوة غير العرب ممن يعرفون العربية وممن لا يعرفونها معا، وأرسل لهؤلاء رسله وكتبه بالعربية اعتمادا على الترجمة بطبيعة الحال. وكان ملوك فارس والروم ومصر والحبشة من جملة من أرسل إليهم رسله وكتبه. وإذا كان التاريخ الوثيق لم يرو أنه قابل أناسا يجهلون اللغة العربية من كتابيين وغير كتابيين مواجهة، فمما لا شك فيه أن أصحابه الذين منهم من قاد حملات الفتح ومنهم من اندمج فيها قد قابلوا من أهل الشام ومصر والعراق وفارس أناسا لا يعرفون العربية وأنهم بلغوهم الرسالة المحمدية والقرآن العربي بالترجمة وأن من انضوى إلى الإسلام منهم وهم كثيرون قد انضووا نتيجة لذلك. ثم استمر هذا بعد دور الخلفاء الراشدين وما يزال إلى اليوم مستمرا يبلغ المسلمون القرآن والسنّة المحمدية إلى غير العرب بطريق الترجمة فيقبل الناس على الانضواء إليها في مشارق الأرض ومغاربها. ولقد حمّل القرآن الأمة العربية مهمة نشر الرسالة الإسلامية على ما شرحناه في سياق سورة الزخرف لأنهم هم الذين بعث النبي صلى الله عليه وسلم منهم، ولسانهم هو لسانه ولسان القرآن الذي أنزله الله عليه. ولقد قام المسلمون الأولون من العرب بالمهمة خير قيام فدانت بالإسلام غالبية البلاد المفتوحة التي كانت ممتدة في أوائل القرن

_ (1) انظر تفسير الآية في الزمخشري والبغوي والخازن مثلا.

الثاني الهجري من المحيط الأطلسي غربا إلى حدود الصين والهند شرقا ومن جبال القفقاس وأرمينية وبحري قزوين والخزر وهضبة تركستان شمالا إلى بلاد السودان والحبشة والصومال جنوبا وشملت فيما شملت قسما من غرب أوروبا وسواحلها الجنوبية والغربية وجزر البحر الأبيض المتوسط. وكان انتشار اللغة العربية يسير سيرا سريعا في الوقت نفسه في مختلف أنحاء هذه المساحة الشاسعة والواسعة مع انتشار الإسلام لأنها لغة الدين الذي أقبل أهلها على اعتناقه والذي لا يفهم فهما صحيحا إلّا من منابعه وهي القرآن والحديث وبلغته الأصلية فضلا عن وجوب تلاوة القرآن باللسان العربي الذي أنزله الله به في الصلاة وفضلا عن أن هذا اللسان هو لسان الحكام في البلاد، حتى غدت اللغة العربية هي اللغة الوحيدة تقريبا لأهالي البلاد التي تمتد من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي والتي ظلت تحت السلطان العربي بدون انقطاع وغدا نصف مفردات لغات الأمم الأخرى التي في شرق هذه الساحة وغربها وجنوبها وشمالها والتي حالت المنازعات والمنافسات بين العرب دون بقاء سلطانهم فيها حيث يبدو من هذا صحة ما قلناه من أن اللغة العربية كانت مرشحة لتكون لغة العالم تبعا لترشح الإسلام ليكون دين العالم. ولم يتوقف انتشار الإسلام قط- واللغة العربية تبعا له- برغم ضعف السلطان العربي في القرن الثالث الهجري وبعده بل إن عدد الذين دانوا بالإسلام في هذا الدور بلغ أضعاف من دانوا به في دور قوة السلطان العربي وتجاوز الحدود التي وقف عندها إبّان قوة هذا السلطان إلى آفاق بعيدة في الصين والهند وجزر المحيط الهندي والمحيط الكبير مثل أندونيسيا والفلبين واليابان وفي أواسط إفريقية وفي أوروبا وأميركا الجنوبية والشمالية بفضل استمرار المسلمين العرب ومن غدا في حكمهم من المستعربين على القيام بالمهمة التي حملهم إياها القرآن لأن عناصر الاستجابة إليه ليست القوة والغلبة ولكنها المبادئ السامية الدينية والاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والإنسانية التي انطوت فيه وفي الأحاديث النبوية المتساوقة والتي لا تحتاج إلّا إلى قلوب صافية ونوايا حسنة ورغبة صادقة في الحق والهدى مجردة عن العناد والأنانية والمآرب ثم إلى دعاة مخلصين. ولسنا نشك في أن الله

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 5 إلى 8]

سيظل يقيض لدينه الدعاة المخلصين وييسر الظروف والسبل حتى يتحقق وعده بإظهاره على الدين كلّه لأنه شرعه وأرسل نبيه به ليكون هدى ورحمة للعالمين، وستظل اللغة العربية تنتشر معه بإذن الله. وواضح مما تقدم أن المسلمين الأولين من عرب ومستعربين لا بدّ من أنهم قد ترجموا القرآن إلى لغات عديدة لأن ذلك كان الوسيلة الأولى إلى عرضه على الأمم ودعوتها إلى الإسلام. غير أنه ليس هناك على قدر ما نعلم ترجمات قديمة يصح أن تكون مرجعا كما أننا لا نعلم أن الترجمات القديمة كانت للحروف أو المعاني. والفرق مهم بين الأمرين. وهناك من يقول قديما وحديثا باستحالة الترجمة الحرفية أو عدم جوازها. وقد يكون في هذا صواب ووجاهة غير أنه لم يمنع كثيرا من الأفراد مسلمين وغير مسلمين في زماننا وما قبله من ترجمة القرآن بلغات عديدة ترجمة حرفية في بعضها كثير من الأغلاط والتحريف المقصود وغير المقصود. ولما كان واجب عرض القرآن على الأمم غير العربية والدعوة إلى الإسلام هو واجب مستمر ثمّ لما كان كثير من المسلمين من غير العرب لا يزال يجهلون العربية وهم في حاجة لا مناص منها إلى فهم القرآن بلغاتهم فإن هذا وذاك يقتضيان أن يكون للقرآن ترجمات رسمية بلغات عديدة يوقف عندها وتكون مرجعا. وهو ما يجب على الدول الإسلامية أن تتفق على تحقيقه حتى لا يظل الأمر فوضى ويترك الميدان لمن يقتحمه من أفراد مسلمين وغير المسلمين بحيث تؤلف هيئة إسلامية تنظر أولا في أمر جواز وإمكان الترجمة الحرفية ثم تشرف على الترجمة الحرفية أو ترجمة المعاني حسب ما تتفق عليه بعد التمحيص والدراسة إلى لغات عديدة فتكون الترجمات التي تنبثق عن ذلك هي الصحيحة الصادقة التي يوقف عندها. مع التنبيه على أن هذه الترجمات هي للدعوة والفهم وليست للصلاة التي لا يجوز أن تؤدى بغير قرآن عربي مبين على ما نبهنا عليه في سياق تفسير سورة الشعراء. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 5 الى 8] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) .

(1) أيام الله: بمعنى عذاب الله في الأمم السابقة. وتعبير الأيام عند العرب يعني الحروب ووقائعها والشدائد والمصائب. (2) تأذّن: قطع على نفسه عهدا. في الآيات تذكير برسالة موسى لقومه: فقد أرسله الله بآياته ليخرجهم من الظلمات إلى النور ويذكرهم بأيام الله مع غيرهم. وقد قام بالمهمة فذكّر قومه بنعم الله عليهم حيث نجاهم من عذاب فرعون الذي كان من جملته تذبيح ذكورهم واستحياء نسائهم واستعبادهن. وقال لهم فيما قال إن الله قد أخذ عهدا على نفسه بأن يزيدهم من نعمه إذا هم أدوا حقه من الشكر كما أنه أعدّ لهم عذابه الشديد إذا كفروا، وقرر لهم أن شكرهم وكفرهم إنما يعود نفعهما وضررهما عليهم وحدهم وأنهم لو كفروا هم ومن في الأرض جميعا لما أزعجوا الله الذي هو غني عن كلّ أحد والذي هو المحمود بذاته سواء شكره الناس أم لم يشكروه. والمتبادر أن الآيات جاءت بمثابة تعقيب على موقف الكفار العرب والحملة عليهم مما هو متسق مع أسلوب سياق القصص القرآنية. فكفار العرب انحرفوا عن الطريق الحق فأرسل الله رسولا منهم يخاطبهم بلغتهم ليهديهم- على ما جرت عليه سنّته- ومن ذلك رسالة موسى إلى قومه. ويلفت النظر إلى التشابه في الخطاب حيث احتوى مطلع السورة أن الله أنزل الكتاب على النبي ليخرجهم من الظلمات إلى النور وأن هذا كان شأن موسى أيضا. ولقد كان العرب يعرفون رسالة موسى وقصصه في قومه وفي فرعون فجاء التذكير محكما ملزما. وقد تكون حكمة التنزيل

تعليق على جملة وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم

استهدفت في حكاية الخطاب الذي وجهه موسى عليه السلام لقومه تنبيه السامعين من قوم النبي وجعلهم يأخذون منها عظة وعبرة. فإن شكروا زادهم الله نعمة وإن كفروا فإن الله غني عنهم وعن غيرهم. وإن صحّ استلهامنا هذا ففيه ما يدعم ما قررناه قبل من انطواء الآية السابقة على تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتطمينه. تعليق على جملة وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وهذه الجملة جديرة بالتنويه لذاتها ولو أنها حكاية قول موسى عليه السلام لقومه. وورودها في القرآن مؤيد لنسبتها إلى الله. وقد تضمنت عهدا من الله بمقابلة الشاكرين لنعمه بالزيادة والرعاية. وفي ذلك ما فيه من بشرى ورحمة وحثّ على الشكر الذي يستوجب دوام نعم الله والمزيد منها ويستوجب إلى ذلك ذكر الله وتقواه وابتغاء رضائه. وفي ذلك تلقين جليل مستمر المدى يضاف إلى ما في الشكر مطلقا من تلقين وعلاج روحي على ما شرحناه في سياق سورة لقمان. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 9 الى 17] أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17) .

(1) فردّوا أيديهم في أفواههم: كناية عن منع الرسل من الكلام على ما يفعله المرء حينما يسمع شيئا غريبا أو حينما يستهزىء بشيء أو يكذبه. وقيل إنها بمعنى أن الكفار عضّوا على أصابعهم تعجبا. (2) سلطان: هنا وفي كثير من آيات القرآن بمعنى الدليل والبرهان. (3) استفتحوا: استنصروا وطلبوا الفتح والنصر على الأعداء. ويحتمل أن يكون ضمير الجمع راجعا إلى الكفار كما يحتمل أن يكون راجعا للرسل ويحتمل أن يكون راجعا للفريقين أي أن كلا منهما طلب النصر على خصمه فنصر الله رسله وخيّب كل جبّار عنيد. (4) ماء صديد: ماء نتن. والصديد هو السائل النتن الذي يخرج من البثور والجروح والدمامل. قال الطبري: إن الآيات استمرار لحكاية خطاب موسى لقومه. وتابعه مفسرون آخرون وتوقف ابن كثير في ذلك ورجح أنه كلام مستأنف وليس من كلام موسى. وقال إن في كلام ابن جرير نظر فإنه قيل إن قصة عاد وثمود ليست في التوراة فلو كان هذا من كلام موسى لقومه وقصصه عليهم لاقتضى أن تكون هاتان القصتان في التوراة ثم فوّض الأمر إلى علم الله. والعبارة القرآنية في حد ذاتها تحتمل القولين. وفي سورة غافر آية تحكي عن لسان مؤمن آل فرعون خطابا موجها إلى قومه فيه تذكير لهم بما وقع على قوم نوح وعاد وثمود بسبب كفرهم بالله ورسالاته. حيث يسقط بذلك ما حاول ابن كثير أن يتفاداه بسبب عدم ورود

قصة عاد وثمود في التوراة. ولقد علقنا على هذه المسألة في سياق تفسير سورة غافر بما يغني عن التكرار. وعبارة الآيات واضحة. وقد احتوت حكاية ما كان بين الرسل وأقوامهم من أخذ ورد وحجاج ولجاج وتحدّ وتهديد ووعيد وانتهت بتقرير خيبة كل جبار عنيد وخزيه في الدنيا وشدّة ما ينتظره في الآخرة من عذاب وأهوال. واستهدفت كما هو المتبادر تذكير السامعين الكفار بعاقبة الكفار العنيدين الأولين في الدنيا وما سوف تكون عاقبتهم في الآخرة وإثارة الخوف والارعواء فيهم، وفيها كما في سابقتها معنى التعقيب على آيات السورة الأولى التي حكت موقف كفار العرب كما هو المتبادر أيضا. ويلفت النظر إلى التماثل بين ما تحكيه الآيات من موقف كفار الأمم السابقة وأقوالهم وما حكته آيات عديدة مرّت أمثلة منها من موقف كفار العرب وأقوالهم ومجادلتهم وتهديدهم للنبي والمؤمنين بالإخراج وأذيتهم لمن يقدرون على أذيته منهم. وكذلك التماثل بين ما تحكيه من أقوال الأنبياء وردودهم وبين ما حكته آيات عديدة مرت أمثلة منها من موقف النبي وردوده على الكفار بلسان القرآن. وواضح أن هذا التماثل يزيد في قوة تأثير الآيات في السامعين من جهة وفي تطمين النبي والمؤمنين وتسليتهم من جهة أخرى، وهو ما استهدفته الآيات كما هو المتبادر. وجملة أَفِي اللَّهِ شَكٌّ جديرة بالتنويه. فكفار الأمم السابقة يقولون لأنبيائهم إننا في شك مما تدعوننا إليه ويطلبون برهانا على صحة دعوتهم فيحكي القرآن ردّ الأنبياء بأن دعوتهم إلى الله ولا يصح أن يكون في الله شكّ وهو فاطر السموات والأرض حتى يطلبوا برهانا على صحة الدعوة إليه. وهذا مماثل لموقف القرآن من كفار العرب فكما طلبوا الآيات والخوارق كدليل على صحة رسالة النبي أجيبوا بما يفيد أن الدعوة إلى الله وأنها لا تحتاج إلى

[سورة إبراهيم (14) : آية 18]

آيات وخوارق لأن آيات الله الماثلة أمامهم والتي يرونها ويحسونها في مشاهد الكون العظيم ونواميسه وفي أنفسهم كافية شافية لمن كان حسن النية صادق الرغبة في الإيمان بالله وحده. والمتبادر أن هذا قد حكي على لسان الأنبياء السابقين ليكون فيه لكفار العرب الإلزام والإفحام. والآيات الأخيرة بخاصة تضمنت تطمينا قويا للنبي والمؤمنين وبشرى تحققت معجزتها بعد الهجرة إلى المدينة حيث أهلك الله رؤساء الكفار وجبابرتهم العنيدين ومكّن للنبي والمؤمنين في الأرض وشملهم بعطفه ورحمته. ولقد أورد الطبري في سياق الآية [17] حديثا نبويا بطرقه عن أبي أمامة جاء فيه: «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قوله وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره يقول الله عز وجل وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ [محمد: 15] ويقول: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ [الكهف: 29] » حيث ينطوي في الحديث توضيح نبوي استهدف الإنذار والترهيب فيما استهدفه كما هو شأن الآية. [سورة إبراهيم (14) : آية 18] مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18) . في الآية تشبيه لأعمال الكفار بالرماد الذي يتعرض لريح شديدة. فكما أن الريح تذري ذرات الرماد فلا يبقى منها شيء فإن كفر الكفار يحبط كل عمل يصدر منهم ويذهب به فلا يكون لهم منه أي نفع وخير. وهذا خسران ليس بعده خسران وضلال ليس بعده ضلال. والمتبادر أن الآية جاءت معقبة على سابقاتها وأن المقصود منها هو إيذان بحبوط أي عمل مهما كان فيه خير ومكرمة، أو أريد به ذلك ما دام صاحبه كافرا. وقد تضمنت كما هو واضح تلقينا جليلا متصلا بالدعوة الإسلامية وهو أن كل عمل لا يكون صاحبه مؤمنا بالله متجها إليه وحده لا فائدة منه عند الله لأنه لا يكون

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 19 إلى 20]

صادرا عن قلب طاهر سليم. وقد تكرر هذا المعنى في آيات كثيرة مرّت أمثلة عديدة منها. ومن مفارقات غلاة مفسري الشيعة العجيبة قولهم في صدد هذه الآية إنها مثل مضروب لمن لم يقرّ بولاية علي فإنه يكفر ويبطل كل عمل له «1» ... ومؤدى الرواية أن عليّا هو ربّ الناس. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 19 الى 20] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) . (1) عزيز: هنا بمعنى ممتنع أو متعذر. المتبادر أن الآيتين جاءتا معقبتين على الآية السابقة. والخطاب فيهما موجه إلى السامعين وإن كان جاء في أول الآية الأولى بصيغة المفرد وفي آخرها بصيغة الجمع بل ولعلّه موجه إلى الكفار منهم. والسؤال الذي بدأت به الآية الأولى في معنى تقرير أمر يعرفه أو يعترف به السامعون. وهكذا تكون الآية الأولى قد تضمنت تقريرا بكون السامعين يعترفون أن الله هو الذي خلق السموات والأرض وبكون ذلك يستتبع أن يكون قد خلقهما بالحق وأن يكون قادرا على إفناء السامعين والناس والإتيان بخلق جديد، وأكدت الآية الثانية قدرة الله على ذلك وعدم عجزه عنه وامتناعه منه. والمتبادر أن المقصود من كلمة الحق في مقامها تقرير كون الله عز وجل لم يخلق السموات والأرض عبثا وإنما خلقهما لحكمة سامية، وهو ما قررته آيات كثيرة مرّت أمثلة منها. وعلى ضوء الآية السابقة للآيتين وعلى ضوء تلك الآيات التي منها آيات سورة الذاريات هذه: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) ما

_ (1) التفسير والمفسرون للذهبي، ج 2 ص 70. [.....]

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 21 إلى 22]

أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) يمكن أن يقال إن هذا تضمن تقرير كون من حكمة الله أن يؤمن الناس بالله ويتجهوا إليه وحده فإذا لم يفعلوا ذهبت أعمالهم هباء عنده واستحقوا غضبه. ولما كان كفار العرب يعترفون بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض، على ما حكته عنهم آيات عديدة مرت أمثلة منها فتكون الحجة في الآيتين دامغة مفحمة لهم. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 21 الى 22] وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22) . (1) الضعفاء: هنا بمعنى العوام التابعين لتوجيه الزعماء والرؤساء، وهم الذين عنتهم جملة لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا. (2) مغنون عنا: نافعون لنا أو دافعون عنا. (3) ما لنا من محيص: ما لنا من مفرّ وخلاص سواء أجزعنا أم صبرنا. (4) ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخيّ: بمعنى ما أنا بناصركم وما أنتم بناصريّ والتعبير من تعابير العرب القديمة ويعني الاستجابة إلى دعوة النصر وتلبية الصارخين في طلب المساعدة. احتوت الآيات صورتين عما سوف يكون من مصير الكفار يوم القيامة:

1- فحينما يعرضون على الله ويقفون للقضاء والجزاء سيشعرون بالندم ويدركون هول ما هم مقبلون عليه فيبادر العوام الذين استجابوا لتوجيه الزعماء والكبار إلى زعمائهم قائلين لهم في معرض العتب والتثريب: إنا كنا لكم في الدنيا تبعا واستجبنا لتوجيهكم فكذبنا رسل الله وتصاممنا عن دعوتهم فهل أنتم دافعون عنا شيئا من عذابه؟ فيجيبهم هؤلاء يائسين: إنّا لو هدانا الله لهديناكم! فنحن وإياكم في الموقف سواء وليس لنا ولا لكم مفرّ منه سواء أجزعنا أم صبرنا. 2- وحينما ينتهي القضاء الرباني فيهم ينبري لهم الشيطان فيخاطبهم قائلا في معرض التنديد والتبكيت أيضا: إن الله قد وعدكم وعد الحقّ وحقق ما وعد ووعدتكم فلم أحقق لكم شيئا. ولم يكن لي عليكم سلطان قاهر وقصارى ما فعلت أني دعوتكم إلى الانحراف والاعوجاج عن طريق الهدى والحق فسارعتم إلى الاستجابة فلا تلوموني ولوموا أنفسكم على ما صرتم إليه. وليس من أحد منا قادرا على إنقاذ الآخر ونصره، وإني أعلن براءتي من شرككم لي وأجحده. وحينئذ يهتف الحق: ألا إن الظالمين الذين بغوا وأجرموا وجحدوا قد استحقوا عذاب الله الأليم. والمتبادر أن الآيات متصلة بسابقاتها التي احتوت حكاية مواقف الكفار. وقد تضمنت كنتيجة لهذه المواقف بيان مصيرهم الأخروي. وأسلوبها قوي في اللذع والتصوير ومن شأنه إثارة الخوف والرهبة في الكافرين وحملهم على التذكر والتدبر والارعواء قبل مواجهة المصير الرهيب، وهذا مما استهدفته كما هو المتبادر مع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي المغيب. ولقد تكررت حكاية عتاب الضعفاء للزعماء والكبار والمحاورة بينهما بين يدي القضاء الرباني الأخروي مما يدل على ما كان لهؤلاء على أولئك من تأثير. والمتبادر أنها تستهدف حمل الضعفاء على ليّ وجوههم عن الزعماء وجعلهم يدركون أنهم لن يغنوا عنهم من الله شيئا. أما حكاية خطاب الشيطان للكفار فالمتبادر أن من المقصود بها دمغ الكفار

[سورة إبراهيم (14) : آية 23]

بدمغة اتباع الشيطان الذي له في أذهانهم صورة بغيضة، وتقرير كون الشيطان نفسه سوف يتبرأ منهم يوم القيامة، وفي هذا غاية التقريع والتبكيت. والمتبادر أن مما استهدف من ذلك حمل الكفار على الارعواء عما هم فيه من ضلال، زعماؤهم وعوامهم على السواء. وفي الآيات توكيد ضمني لمعنى متكرر في القرآن وهو حرية الناس في الاختيار واستحقاقهم لمصائرهم وفقا لهذا الاختيار. ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا رواه ابن أبي حاتم عن عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا جمع الله الأولين والآخرين فقضى بينهم ففرغ من القضاء قال المؤمنون: قد قضى بيننا ربّنا فمن يشفع لنا؟ فيقولون: انطلقوا بنا إلى آدم فلم ير أن يتقدم للشفاعة ثم إلى الأنبياء الآخرين وحينما يصلون إلى عيسى يقول لهم هل أدلّكم على النبي الأمّي فيأتوني فيأذن الله لي أن أقوم فيثور من مجلسي من أطيب ريح شمّها أحد قط حتى آتي ربي فيشفعني ويجعل لي نورا من شعر رأسي إلى ظهر قدمي. ثم يقول الكافرون هذا قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا ما هو إلّا إبليس هو الذي أضلّنا فيأتون إبليس فيقولون: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فقم أنت فاشفع لنا فإنك أنت أضللتنا فيقوم فيثور من مجلسه من أنتن ريح شمّها أحد ثم يقول لهم ما حكته عنه الآية [22] » . والحديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة «1» . فإذا صحّ فيكون من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم فيه ما استهدفته الآيات من إنذار وتبكيت للكفار وتطمين للمؤمنين. على أن خبر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة وارد في أحاديث صحيحة، أوردنا بعضها وعلقنا عليها في سياق سورة الإسراء. [سورة إبراهيم (14) : آية 23] وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23) .

_ (1) أشار إلى هذا الحديث الطبري والبغوي أيضا ولكن نصه الكامل ورد في تفسير ابن كثير فقط فقلناه عنه.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 24 إلى 27]

احتوت الآية بيان مصير المؤمنين الصالحين في الآخرة مقابلة لمصير الكافرين الظالمين. وجاءت بصيغة الماضي للسياق السابق. ولا شك في أنها استهدفت فيما استهدفته بثّ الطمأنينة في نفوس المؤمنين وإثارة الرغبة في غيرهم وقد تكرر ذلك أسلوبا وصيغة كثيرا في حكاية المواقف المماثلة ومرّ منه أمثلة عديدة. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 24 الى 27] أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27) . (1) أصلها: كناية عن جذورها. (2) فرعها: كناية عن ارتفاعها في الجو. (3) اجتثّت: اقتلعت. والجملة التي فيها الكلمة لبيان عدم إمكان استقرار الشجرة في الأرض حينما تكون رديئة الجنس والصنف وبيان سهولة اقتلاعها. ولقد روى الطبري وغيره من المفسرين روايات متنوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه وتابعيهم عن مدى بعض العبارات الواردة في الآيات. من ذلك حديث نبوي عن أنس رواه الترمذي أيضا بصيغة جامعة فنقلناها عنه. وقد جاء فيها: «أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقناع عليه رطب فقال مثل كلمة طيّبة كشجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربّها قال هي النخلة. ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثّت من فوق الأرض ما لها من قرار قال هي

الحنظل» «1» . ومن ذلك في مدى كلمتي (الطيبة والخبيثة) حيث قيل إن الأولى هي كلمة التوحيد أو الإيمان أو المؤمن أو العمل الصالح مطلقا. وإن الثانية هي الشرك أو الجحود أو البغي والظلم، وكل هذه الأقوال وجيهة. وعلى ضوء ذلك وضوء فحوى الآيات وروحها نقول إن الآيات الثلاث الأولى نبهت السامع إلى التشابه بين الكلمة الطيبة والشجرة الطيبة وبين الكلمة الخبيثة والشجرة الخبيثة كمثل مضروب للتذكير والعظة. فكما أن الشجرة الطيبة الجنس هي التي ترسخ في الأرض وتعلو في الجو وتنمو على أحسن وجه وتؤتي ثمرا طيبا في كل موسم بدون إخلال كذلك الكلمة الطيبة هي التي تكون ذات أثر مفيد صالح ومستمر في كلّ وقت ومجال. وكما أن الشجرة إذا خبث جنسها لا ترسخ في الأرض ولا تعلو في السماء ولا تؤتي إلّا أردأ الثمر وتقتلع بسهولة، كذلك الكلمة الخبيثة فإنّها لا قرار ولا ثبات لها ولا نفع فيها. أما الآية الرابعة فهي في مثابة التوجيه والتعقيب: فالذين آمنوا بالله يثبتهم الله بالقول الثابت الصالح النافع في الدنيا والآخرة. وأما الظالمون أي الذين فسدت قلوبهم ودرجوا على البغي والإجرام والانحراف فهم محرومون من هذه العناية الربانية بسبب ظلمهم. والذي يريده الله هو الذي يكون على النحو الذي يشاؤه. وورود الآيات بعد بيان مصير كل من المؤمنين والكافرين في الآخرة يجعل الصلة بينها وبين ما قبلها قائمة كما هو المتبادر. ويلفت النظر إلى أسلوب ومضمون الآية الأخيرة. فقد انطويا على إزالة ما يمكن أن يقوم من وهم تحتيم الله سبحانه بضلال ضالين وإيمان مؤمنين بأعيانهم، وعلى تقرير كون عناية الله وتثبيته قد كانا للمؤمن بعد إيمانه لأنه أثبت بذلك حسن نيته وصدق رغبته، وكون سخط الله وإضلاله قد كانا للظالم الكافر المنحرف لأنه اتصف بهذه الصفات أو درج عليها.

_ (1) التاج ج 4 ص 136.

تعليق على آية يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين وعلى ما ورد من أحاديث عن سؤال القبر

تعليق على آية يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وعلى ما ورد من أحاديث عن سؤال القبر والآية في حدّ ذاتها جديرة بالتنويه بصورة خاصة. فهي تلهم أنها بسبيل تقرير أن من شأن الإيمان أن يشع في نفس صاحبه فيجعله يدرك الخير ويسير في طريقه فيسعد ويطمئن ويحظى برضاء الله وعنايته وتثبيته في كلّ موقف في الدنيا والآخرة بعكس الكفر الذي يغلق قلب صاحبه ويجعله مظلما قاتما فلا يتورّع عن اقتراف الآثام والشرور دون رادع ولا وازع فيكون شؤما على نفسه وغيره مستحقّا لسخط الله وغضبه وحرمانه من التسديد والتوفيق. وننبه بنوع خاص إلى جملة وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ حيث ينطوي فيها تقرير كون إضلال الله وعدم إسعاده وتوفيقه للظالمين، إنما كان لتحقق الظلم منهم. وحيث تكون من نوع الضوابط التي ما فتئنا ننبه عليها في مناسباتها لإزالة إشكال العبارات القرآنية المطلقة في هداية الله الناس وإضلالهم. ومع أن مضمون الآية وروحها شاملان لمواقف الدنيا والآخرة فقد أورد البخاري في فصل التفسير من صحيحه حديثا رواه البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم يوهم أنه تفسير لهذه الآية وأنها في صدد السؤال الذي يوجه للموتى في قبورهم بعد دفنهم وجوابهم عليه حيث جاء فيه: «المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قوله يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ» «1» . ولقد أورد المفسرون في سياق تفسير هذه الآية أحاديث أخرى بعضها يبدو أنها تفسير أو تطبيق للآية وبعضها في سؤال القبر ونعيمه وعذابه كما روى أصحاب

_ (1) انظر التاج ج 4 ص 136.

كتب الأحاديث الصحيحة أحاديث عديدة في هذا الباب، من ذلك حديث رواه أبو هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ذلك إذا قيل له في القبر: من ربّك وما دينك ومن نبيّك؟ فيقول: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد جاءنا بالبيّنات من عند الله فآمنت به وصدّقت، فيقال له: صدقت، على هذا عشت وعليه متّ وعليه تبعث» «1» . ومن ذلك حديث عن البراء قال: «خرجنا مع رسول الله في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولمّا يلحد، فجلس رسول الله وجلسنا حوله كأنّ على رؤوسنا الطير وفي يده عود ينكت به الأرض فرفع رأسه فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر مرّتين أو ثلاثا ثم قال: إنّ العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال إلى الآخرة نزلت إليه الملائكة من السماء بيض الوجوه كأنّ وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنّة وحنوط من حنوط الجنّة حتى يجلسوا منه مدّ البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيّتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرّون بها على ملأ من الملائكة إلّا قالوا ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان ابن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمّونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح له فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة فيقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في علّيّين وأعيدوه إلى الأرض فإنّي منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى. فتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربّك؟ فيقول: ربّي الله، فيقولان: ما دينك؟ فيقول: الإسلام، فيقولان ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان: وما علمك؟ فيقول:

_ (1) انظر تفسير الآية في ابن كثير.

قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت. فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة. فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مدّ بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيّب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي توعد، فيقول له: من أنت فوجهك الوجه الذي يأتي بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: ربّ أقم الساعة ربّ أقم الساعة. وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء سود الوجه معهم المسوح فجلسوا منه مدّ البصر ثم يجيء ملك الموت فيجلس عند رأسه فيقول: أيّتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح فيخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرّون على ملأ من الملائكة إلّا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان ابن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمّى بها في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح. ثم يقرأ رسول الله لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الأعراف: 40] فيقول الله: اكتبوا كتابه في سجين الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحا، ثم قرأ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ [الحجّ: 31] فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه ويقولان له: من ربّك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فينادي مناد من السماء أن كذّب عبدي فافرشوه من النار وافتحوا له بابا إلى النار فيأتيه من حرّها وسمومها ويضيق عليه حتى تختلف فيه أضلاعه ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت فوجهك الذي يجيء بالشرّ؟ فيقول: أنا عملك الخبيث فيقول: ربّ لا تقم

الساعة» «1» . وقد روى أصحاب كتب الصحاح الخمسة: البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي معا حديثا فيه بعض هذا الحديث عن أنس جاء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إنّ العبد إذا وضع في قبره وتولّى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان ما كنت تقول في هذا الرجل (أي محمّد) ؟ فأمّا المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له: انظر إلى مقعدك من النّار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنّة، فيراهما جميعا. وأمّا الكافر أو المنافق فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دريت ولا تليت ويضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثّقلين» «2» . ورووا كذلك حديثا عن أسماء قالت: «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم حمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما من شيء لم أكن أريته إلّا رأيته في مقامي هذا حتّى الجنة والنار فأوحي إليّ أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبا من فتنة المسيح الدجّال. يقال ما علمك بهذا الرجل فأمّا المؤمن أو الموقن فيقول هو محمّد رسول الله جاءنا بالبيّنات والهدى فأجبناه واتبعناه هو محمد ثلاثا، فيقال نم صالحا فقد علمنا إن كنت لموقنا به. وأمّا المنافق أو المرتاب فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته» «3» . ورووا أيضا حديثا عن ابن عمر قال: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: إنّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشيّ إن كان من أهل الجنّة فمن أهل الجنّة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة» «4» . ورووا: «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يدعو: اللهمّ إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب النار ومن فتنة

_ (1) تفسير ابن كثير وقد ذكر المفسر أن هذا الحديث رواه أبو داود من حديث الأعمش والنسائي وابن ماجه من حديث المنهال بن عمرويه. (2) انظر التاج ج 1 ص 338- 339. (3) انظر المصدر نفسه ص 339- 340. (4) انظر المصدر نفسه.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 28 إلى 31]

المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدّجال» «1» . وروى الترمذي عن عثمان بن عفان قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه فما بعده أيسر منه وإن لم ينج منه فما بعده أشدّ منه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيت منظرا قطّ إلّا القبر أفظع منه» «2» . وهناك أحاديث كثيرة أخرى غير ما أوردناه فاكتفينا بما أوردناه «3» . ونقول تعليقا على ما ورد منه كتفسير أو تطبيق للآية: إنه ما دام مضمون الآية وروحها يلهمان أنها أوسع شمولا وأنها تتناول كل موقف في الحياة الدنيا وفي الآخرة فالمتبادر أن ما جاء في الأحاديث هو من باب التمثيل لتثبيت الله للمؤمن واضطراب الكافر في موقف من المواقف. ونقول في موضوع سؤال القبر ونعيمه وعذابه ما دام قد ورد فيه أحاديث صحيحة لا يصحّ المماراة فيها إن من واجب المسلم أن يؤمن بأخبار الغيب التي تثبت عن رسول الله ولو لم يدركها العقل العادي ويقف عند ذلك كما هو الشأن فيما جاء من ذلك في القرآن مع الإيمان بأن ذلك في نطاق قدرة الله وبأنه لا بد لذكر ذلك من حكمة. والمتبادر أن من الحكمة هنا تطمين المؤمن وتشويقه وتثبيته والحث على الإيمان وتخويف الكافر وتقبيح الكفر. وهذا ما يمكن أن يستلهم من نصوص الأحاديث وبخاصة حديث البراء الطويل، والله أعلم. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 28 الى 31] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) .

_ (1) انظر التاج أيضا ج 1 ص 339- 340. (2) انظر المصدر نفسه. (3) انظر المصدر نفسه وانظر تفسير الآية في كتب تفسير ابن كثير والطبري والبغوي والخازن.

(1) البوار: الهلاك. (2) خلال: جمع خلّة (بالضم) وهي الصداقة. في الآيات الثلاث الأولى تنديد بزعماء المشركين وإنذار لهم بصيغة سؤال تقريري موجه إلى السامع أو إلى النبي صلى الله عليه وسلم: فقد قابلوا نعم الله عليهم بالكفر والجحود ووقفوا من دعوته التي يدعوهم إليها رسوله وهي من أجلّ نعم الله أيضا نفس الموقف فورطوا قومهم وعرّضوهم للمصير المهلك الذي ينتظر الكافرين وهو جهنم وبئست هي من مصير وقرار. وقد جعلوا لله شركاء وأندادا مماثلين له فضلوا عن سبيل الله وأضلوا غيرهم. فعلى النبي أن ينذرهم فلا يغتروا بمتاع الدنيا فهو قصير الأمد ثم يصيرون إلى النار إن هم ظلوا على موقفهم. وفي الآية الرابعة أمر التفاتي للنبي صلى الله عليه وسلم بحثّ عباده المؤمنين على إقامة الصلاة والإنفاق مما رزقهم الله سرّا وعلنا وهم في فرصة من الحياة الدنيا وهي الفرصة الوحيدة الصالحة للعمل قبل أن تنتهي ويأتي اليوم الذي لا مجال فيه للعمل ولا فائدة فيه للصداقة. ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيتين [28 و 29] مدنيتان. ويلحظ أن الانسجام بينهما وبين ما بعدهما قوي أولا وأن مضمونهما ينصرف أكثر إلى زعماء مكة وبالتبعية إلى صور العهد المكي مما يسوغ الشك في رواية مدنيتهما. ولم نطلع في كتب التفسير على تأييد لذلك ولقد روى المفسرون «1» أقوالا مختلفة عن المقصودين بالآية الأولى منها عن عمر بن الخطاب أنهم الأفجران من قريش بنو المغيرة وبنو أمية. وعن ابن عباس أنه قال لعمر إنهم أخوالي وأعمامك. وعن علي أنهم الأفجران من بني أسد وبني مخزوم. ومنها عن ابن عباس وعلي أيضا

_ (1) انظر الطبري الذي استوعب جميع الأقوال.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 32 إلى 34]

أنهم مشركو قريش أو منافقوهم أو أهل مكة. ومنها رواية غريبة رواها الطبري عن ابن عباس أنهم جبلة بن الأيهم الذي ارتدّ عن الإسلام والذين اتبعوه من العرب فلحقوا بالروم «1» . والمتبادر أن الأقوال هي من قبيل الاجتهاد والتطبيق في العهد المدني وأن الآية تعني زعماء مشركي قريش. وأنها هي والآيات التي بعدها استمرار للآيات السابقة سياقا وموضوعا. وفيها بيان لما كان من شدة مناوأة هؤلاء الزعماء للدعوة النبوية وتمكنهم من صرف الناس عنها. ومع صلة الآيات بظروف السيرة النبوية فإنها تحتوي تلقينا مستمر المدى في تقرير مسؤولية الزعماء الفاسدين المنحرفين وما يمكن أن يقترفوه من إثم كبير في توجيه أمتهم إلى الفساد والانحراف اقتداء بهم أولا وفي توجيه المسلم إلى وجهة الخير الدائم في عبادة الله وإنفاق المال في شتى وجوه البرّ وفي السرّ والعلن ابتغاء رضاء الله ثانيا مما تكرر كثيرا ومرت منه أمثلة عديدة. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 32 الى 34] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) . (1) دائبين: مواصلين لعملهما باستمرار. احتوت الآيات تقريرا فيه تذكير وتنبيه للسامعين بنعم الله تعالى عليهم التي لا

_ (1) هذه القصة مذكورة في طبقات ابن سعد ج 2 ص 30 وفتوح البلدان للبلاذري ص 142- 143.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 إلى 41]

يمكن أن يحصوها كثرة وتنوعا ومنها إنزال الماء من السماء وإخراج ثمرات الأرض بها وتسخير الفلك والبحار والأنهار والشمس والقمر والليل والنهار لمصالحهم وفائدتهم، وانتهت بتنديد لاذع للإنسان الظلوم الكفّار. والتنديد وإن جاء مطلقا وقد ينطوي فيه التنديد بخلق عام في بني الإنسان وهو خلق الجحود لنعم الله إلّا أن روح الآيات تجعله مصروفا إلى الجاحدين لنعم الله المشركين به المناوئين لرسله الداعين إليه بنوع خاص. ولما كان الكفار المشركون موضوع تنديد في الآيات السابقة فتكون هذه الآيات متصلة بالسياق اتصال تنبيه وتنديد وتعقيب كما هو المتبادر. وأسلوب الآيات رائع قوي نافذ إلى القلب والعقل وموجه إليهما في الوقت نفسه. ولقد جاء مثلها في سور سابقة. وعلقنا عليها كما علقنا على ما يفيده تعبير تسخير قوى الكون للناس بما يغني عن التكرار. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 41] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41) . (1) البلد: هنا كناية عن مكة. (2) بيتك المحرم: كناية عن الكعبة.

تعليق على آية وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا وما بعدها إلى آخر الآية [41]

(3) تهوى إليهم: تميل إليهم أو تسرع نحوهم. في الآيات تذكير بقصة من قصص إبراهيم عليه السلام وحكاية لمناجاته ربّه ودعائه له بمناسبة إسكانه بعض ذريته في وادي مكة. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. تعليق على آية وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وما بعدها إلى آخر الآية [41] والآيات هي الأولى في القرآن المكي التي تضمنت أولا الإشارة إلى صلة إبراهيم وبعض ذريته بمكة. وثانيا ذكر بنوة إسماعيل لإبراهيم بصراحة وقطعية. أما ما سبق من الآيات فقد كانت في صدد التنويه بملّة إبراهيم وصحفه وذريته بصورة عامة كما يستفاد من السور السابقة. وقد احتوى القرآن وبخاصة المدني منه آيات عديدة أخرى فيها توكيد للأمرين. ومكية الآيات مجمع عليها ولذلك فإن فيها ردّا على من يقول «1» إن ذكر صلة إبراهيم بمكة والكعبة وبنوة إسماعيل لإبراهيم بصراحة لم يرد إلّا في القرآن المدني إذا كان يراد به أن النبي لم يكن يعرف ذلك إلّا بعد اتصاله باليهود في المدينة بعد هجرته إليها. وهذا فضلا عما هو يقيني من تواتر معرفة العرب قبل الإسلام بذلك، ولقد علقنا في المناسبات السابقة على هذا الموضوع. والمتبادر أن المقام هو الذي اقتضى ذكر بنوة إسماعيل لإبراهيم بهذه الصراحة في حين أن المقام في المناسبات السابقة لم يكن يقتضي هذا على ما ذكرناه في سياق هذه المناسبات. وروح الآيات وغيرها من الآيات الكثيرة المكية والمدنية التي ورد فيها ذكر إبراهيم تلهم أن العرب وبخاصة عرب الحجاز أو قريش كانوا يعرفون ويتداولون

_ (1) انظر كتاب في الأدب الجاهلي لطه حسين الطبعة الأولى. [.....]

ويشيدون بتلك الصلة وهذه البنوة قبل البعثة النبوية. وفي سورة البقرة آية تذكر أن في الحرم المكي مقاما كان معروفا باسم مقام إبراهيم وهذا دليل حاسم بدون ريب على تلك المعرفة والتداول، وهي هذه: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) . وقد جاء بعد هذه الآية آيات تحكي خبر دعاء إبراهيم لأجل أمن البيت وأهله وخبر رفعه مع إسماعيل لقواعده ودعائهما لذريتهما بأسلوب يلهم أن ما احتوته مما كان متداولا بين السامعين. وهي هذه: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) . وقد ذكر مقام إبراهيم مرة أخرى في آيات في سورة آل عمران مع زيادة هامة وهي أنه كان معروفا بعلامات واضحة ومع الإشادة بالبيت على أنه أول بيت وضع لعبادة الله مباركا وهدى للعالمين وهي هذه: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) . وبناء على ما تلهمه الآيات من أن ما احتوته كان متداولا مسلما به من السامعين العرب فالمتبادر أنه جاء للتذكير والتدعيم بعد آيات التنديد بمواقف العرب وجحودهم واتخاذهم الأنداد والشركاء مع الله: فإبراهيم الذي يعترفون بأبوته لهم كان يدعو الله أن يجنبه هو وبنيه عبادة الأصنام ويقرر أنها أضلت الناس ويدعو الله أن يجعله هو وذريته من القائمين بحق عبادة الله ويعلن إسلامه نفسه

وأمره إلى الله. وما يتمتع به أهل مكة من أمن بلدهم الحرام وتيسير الرزق واتجاه أفئدة الناس إليهم إنما كان من دعائه. وهو إنما أسكن بعض ذريته في وادي مكة الذي قدر الله أن يكون فيه بيته المحرم ليخلصوا له في العبادة. فأحرى بأبنائه العرب أن يسيروا على هداه وأن يحققوا أمنيته ودعاءه وأن يتجنبوا عبادة الأصنام التي تجنبها ودعا الله أن يجنبها ذريته. وبهذا الشرح تبدو الصلة قائمة بين هذا الفصل وبين الآيات السابقة وبه تفسر مناسبته وحكمته. ولقد كثر الخوض في حقيقة أبوة إبراهيم وإسماعيل للعرب أو بعضهم أي العدنانيين الذين منهم القرشيون وفي حقيقة سكنى إسماعيل وأمّه وادي مكة. وهو ما عنته الآيات حسب ما عليه جمهور المفسرين وما تلهمه روحها ومضمونها. ولقد ورد في سفر التكوين المتداول اليوم بعض نصوص عن افتراق إسماعيل عن أبيه في السكن فحاول بعض المسلمين أن يستخرجوا من هذه النصوص دعائم لهاتين الحقيقتين. والذي ذكره سفر التكوين المتداول اليوم في إصحاحه (21) أن سارة زوجة إبراهيم الحرّة طلبت من زوجها طرد الأمة هاجر التي بنى إبراهيم عليها وأولدها إسماعيل مع ابنها من بيته فساءه ذلك ولكن الله أمره بإجابتها وقال له إني سوف أجعل ابن الأمة أمة من نسلك أيضا. وأنه أخذ خبزا وقربة ماء وجعلهما على منكبي هاجر وأعطاها الصبي وصرفها فمضت وتاهت في برية بئر السبع ثم استقرّ المقام بهما في برية فاران التي تفيد عبارة الإصحاح أنها جزء من برية بئر السبع أو سيناء أو في جهات خليج العقبة. وقد ذكر الإصحاح أن إسماعيل تزوج بامرأة من أرض مصر حيث يكون في هذا تأييد لذلك. وواضح أن هذا النصّ لا يسوغ تفسير فاران بمكة وواديها وجبالها. غير أن النص القرآني صريح في صدد خبر إسكان إبراهيم عليه السلام بعض ذريته عند بيت الله المحرم. ونقول من باب المساجلة إن هذا النص لا يمكن أن يكون جزافا. وهو يتلى علنا ويسمعه اليهود والعرب ولا بدّ من أن يكون هو

المعروف المتداول في أوساط اليهود والعرب. ويمكن أن يكون قد ورد صريحا أو ضمنا في أسفار أو قراطيس كانت في يد اليهود ولم تصل إلينا على ما ذكرناه في مسائل مماثلة ومناسبات سابقة. وفي الإصحاح (33) من سفر التثنية هذه العبارة: (أقبل الربّ من سيناء وأشرق لهم من سعير وتجلى من جبل فاران وأتى من ربى القدس وعن يمينه قبس شريعة لهم) . وهذه مهابط الوحي على موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام. ويلحظ أنه استعمل هنا (جبل فاران) في حين أنّ الإصحاح (21) من سفر التكوين ذكر (برية فاران) ، وهذه نقطة هامة في هذا الصدد. وفي تفسير البغوي في سياق تفسير الآية [8] من سورة النمل عبارة مهمة في هذا الصدد كذلك وهي: (روي أنه مكتوب في التوراة جاء الله من سيناء وأشرف من ساعير واستعلى من جبل فاران. فمجيئه من سيناء بعثه موسى منها ومن ساعير بعثه المسيح منها. ومن جبل فاران بعثه المصطفى منها وفاران مكة) . والعبارة هي عبارة سفر التثنية بصيغة أخرى من المحتمل أن تكون هي الواردة في ترجمة هذا السفر إذ ذاك لأن الترجمة التي في يدنا هي ترجمة حديثة. وهذا يعني أن مفسري الأسفار كانوا يفسرون الأماكن كما فسرها البغوي. ولقد روى الطبري وغيره من المفسرين في سياق هذه الآيات وغيرها روايات معزوة إلى ابن عباس وغيره في إسكان إبراهيم إسماعيل عليهما السلام في وادي مكة وفي ما جرى له وفي بنائه هو وإياه الكعبة «1» . وهناك حديث طويل رواه البخاري عن ابن عباس في ذلك أورده مؤلف التاج في سياق تفسير الآية [127] من سورة البقرة هذا نصّه: (أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أمّ إسماعيل اتخذت منطقا لتعفّي أثرها على سارة ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتّى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء. ثم

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي وغيرهم لتفسير هذه الآيات وآيات سورة البقرة [124- 129] وآل عمران [97] والحج [26- 29] .

قفّى إبراهيم منطلقا فتبعته أمّ إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا وهو لا يلتفت إليها فقالت: الله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيّعنا. ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنيّة لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ حتى بلغ يَشْكُرُونَ، وجعلت أمّ إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوّى فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه ثم استقبلت الواد تنظر هل ترى أحدا فلم تر أحدا فهبطت من الصفا حتّى إذا بلغت الواد رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الواد ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا ففعلت ذلك سبع مرات. قال ابن عباس: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم فذلك سعي الناس بينهما. فلمّا أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت صه تريد نفسها ثم تسمّعت فسمعت أيضا فقالت قد أسمعت إن كان عندك غواث. فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تحوّضه وتقول بيدها هكذا وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف. قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: يرحم الله أمّ إسماعيل لو تركت زمزم أو قال لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا. فشربت وأرضعت ولدها فقال لها الملك لا تخافوا الضيعة فإنّ هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيّع أهله. وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله. فكانت كذلك حتى مرّت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرا عائفا فقالوا إنّ هذا الطائر ليدور على ماء وعهدنا بهذا الواد ما فيه ماء فأرسلوا جريا أو جريّين فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا وأمّ إسماعيل عند الماء فقالوا أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم، ولكن لا حقّ لكم في الماء، قالوا نعم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحبّ الأنس فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى

إذا كان بها أهل أبيات منهم وشبّ الغلام وتعلّم العربية منهم وأنفسهم وأعجبهم حين شبّ فلما أدرك زوّجوه امرأت منهم. وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم يطالع تركته فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه فقالت خرج يبتغي لنا. ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت نحن بشرّ نحن في ضيق وشدة فشكت إليه قال فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغيّر عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه انس شيئا فقال هل جاءكم أحد قالت نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألنا عنك فأخبرته وسألني كيف عيشنا فأخبرته أنّا في جهد وشدة قال فهل أوصاك بشيء قالت نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول لك غيّر عتبة بابك. قال ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك فالحقي بأهلك فطلّقها وتزوج منهم أخرى فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم فلم يجده فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت خرج يبتغي لنا. قال كيف أنتم وسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت نحن بخير وسعة وأثنت على الله فقال ما طعامكم قالت اللحم قال فما شرابكم قالت الماء. قال اللهمّ بارك لهم في اللحم والماء. قال النبي ولم يكن لهم يومئذ حبّ، ولو كان لهم لدعا لهم فيه قال فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلّا لم يوافقاه. قال فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه يثبّت عتبة بابه فلما جاء إسماعيل قال هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا بخير قال فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبّت عتبة بابك. قال: ذاك أبي وأنت العتبة أمرني أن أمسكك ثم لبث إبراهيم عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا له تحت دوحة قريبا من زمزم فلما رآه قام إليه فصنع كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد ثم قال: يا إسماعيل إنّ الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربّك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإنّ الله أمرني أن أبني هاهنا بيتا وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها قال فعند ذلك رفعا القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يا بني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه وهو يا بني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان ربّنا

تقبل منا إنك أنت السميع العليم» «1» . وهذا الحجر هو الذي كان في المكان الذي عرف بمقام إبراهيم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته قبل البعثة والمذكور في آيات البقرة وآل عمران التي أوردناهما قبل قليل. ولقد أورد المفسرون بيانات كثيرة أخرى في صدد ما جاء في الحديث وفي صدد ما كان من إنشاء إبراهيم لتقاليد الحج في سياق آيات أخرى في سور الحج والبقرة وآل عمران عزوا إلى ابن عباس وغيره سنلمّ بها في مناسباتها الآتية حيث يؤيد كل هذا ما قلناه من أن أخبار إسكان إبراهيم لإسماعيل في واد مكة وزواج إسماعيل من قبيلة جرهم وانتساب ذريته من الأم العربية الجرهمية إليه وإلى إبراهيم بالتبعية وبناء إبراهيم وإسماعيل الكعبة وإنشاء إبراهيم تقاليد الحج مما كان يتداوله العرب في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره جيلا بعد جيل. وفي أسفار العهد القديم ذكر للإسماعيليين أكثر من مرة في مقام الإشارة إلى القبائل العربية من ذرية إسماعيل حيث قد يكون في هذا تأييدا ما لذلك. وفي سورة البقرة آيات تنطوي على إشارات أو قرائن على أن اليهود كانوا يعرفون قدم الكعبة وفضلها وصلتها بإبراهيم وكون اتخاذها قبلة هو الأولى والأحق. وقد جاءت هذه الآيات في سياق التنديد باليهود ومكابرتهم في الحق وهي: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) والَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) ، وقد سبق هذه الآيات سلسلة فيها خبر مقام إبراهيم ورفعه قواعد البيت مع ابنه إسماعيل التي أوردنا آياتها

_ (1) التاج ج 4 ص 38- 43، اكتفينا بهذا الحديث عن الروايات الأخرى التي يرويها المفسرون في صدد ما جاء فيه.

قبل قليل. ولقد جاءت آيات آل عمران [96- 97] التي أوردناها قبل والتي فيها ذكر مقام إبراهيم عقب آيات فيها تنديد ببني إسرائيل وتحدّ لهم بالإتيان بالتوراة بحيث يمكن القول إن صلة إبراهيم وإسماعيل بالكعبة وسكنى إسماعيل في وادي مكة وكونهما جدي العرب الأقدمين مما كان يتداوله اليهود ويذكرونه في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره، وفي هذا تأييد وتدعيم. والله أعلم. ومهما يكن من أمر فالذي نراه هو الوقوف عند ما اقتضت حكمة التنزيل إيراده في هذه الآيات وغيرها مما له صلة بإبراهيم وملّته والكعبة وتقاليد الحج وأبوة إبراهيم وإسماعيل للعرب مع ملاحظة هامة هي أن الآيات هنا وفي غير مكان قد استهدفت التذكير والتدعيم للدعوة النبوية. فالسامعون للقرآن كانوا يعرفون ويتداولون نسبتهم إلى إبراهيم وإسماعيل وكون دينهما هو التوحيد وخبر سكنى إسماعيل في مكة وصلة إبراهيم وإسماعيل بالكعبة وما يتمتعون به من أمن في حرمها. فالتذكير بذلك في معرض الدعوة النبوية والتنديد بالكفار السامعين لانحرافهم عن طريق أبويهم الأقدمين يكون ملزما ومحكما. هذا، ولقد وقف المفسرون عند تعبير عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ فقالوا إن الكعبة كانت مبنية قبل الطوفان فهدمها الطوفان أو رفعها الله وإن إبراهيم إنما جدد بناءها ولذلك جاءت الجملة على اعتبار ما كان. كما قالوا إن الجملة هي على اعتبار ما سيكون بعد قيام البيت الذي عرف إبراهيم مكانه وأمر ببنائه بالوحي. والتعليل الأول ذكر أيضا في سياق آيات البقرة والحج وآل عمران المذكورة آنفا. ومثل هذا لا يصح أن يؤخذ به إلّا بأثر نبوي وثيق وليس هناك مثل هذا الأثر، والتعليل الثاني هو الأوجه كما هو المتبادر. ولقد تعددت الأقوال في مدى كلمة (المحرّم) ، فقيل إنها بمعنى الذي يحرّم عنده ما لا يحرم عند غيره. أو إنها بمعنى الذي يحرّم التعرض له والتهاون به أو إنها بمعنى العظيم الحرمة. أو إنها بمعنى الذي يمكن الناس من العبادة عنده والإقامة في كنفه آمنين محرم ظلمهم ودمهم والعدوان عليهم. وكل هذه الأقوال

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 42 إلى 52]

واردة ووجيهة مع القول إننا نرجح أن هذه الصفة مما كانت توصف بها الكعبة قبل البعثة النبوية. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 42 الى 52] وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46) فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52) . (1) مهطعين: مسرعين وقيل ذليلين. (2) مقنعي رؤوسهم: رافعي رؤوسهم محدقين بأبصارهم إلى مقام القضاء. (3) لا يرتدّ إليهم طرفهم: لا تطرف عيونهم من شدة الخوف والهلع والتحديق. (4) أفئدتهم هواء: هواء بمعنى خواء، أي فارغة، وقيل إنها كثيرة الحركة والاضطراب من شدة الخوف. (5) مقرنين في الأصفاد: مشدودين بعضهم إلى بعض بالأغلال والأصفاد. (6) سرابيلهم من قطران: ثيابهم أو كسوتهم التي فوق أبدانهم هي القطران ولقد كان العرب يطلون إبلهم الجرباء بالقطران فكانت تبدو كريهة المنظر فضلا عن

نتانة الرائحة. والعبارة بسبيل وصف منظر المجرمين بأخبث وأقبح منظر لونا وريحا. وجّه الخطاب في الآيات إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفيها: 1- تطمين له: فلا يظنن أن الله غافل عن الظالمين الباغين فهو مراقبهم ومحص عليهم أعمالهم. وكل ما في الأمر أنه يؤخر حسابهم إلى يوم القيامة الذي سوف تضطرب فيه قلوبهم ويتولاهم الذل والذهول من شدّة الهول الذي يلقونه فيه. 2- وتثبيت له: فليس عليه إلّا الاستمرار في الدعوة وإنذار الناس بذلك اليوم الذي سوف يستشعر الظالمون فيه بأشد الندم فيطلبون من الله إمهالهم مدة أخرى يتلافون فيها أمرهم ويجيبون دعوة رسله فيرد عليهم مؤنبا مقرعا مذكرا بما كان منهم من زهو وغرور واستكبار ومكر ضد دعوة رسوله تكاد تزول منه الجبال وبعدم تأثرهم بما كان يلقى إليهم من ضروب الأمثال والمواعظ وبما كانوا يرونه من آثار عذاب الله فيمن قبلهم وبعدم اتعاظهم بأخبارهم وبما كانوا يحلفونه من أيمان على سبيل التبجح بأن ما بهم من نعمة وعافية وقوة لن يزول. 3- وتطمين آخر له: فلا يظنن أن الله مخلف وعده له فيهم فهو ذو القوة المنتقم من أمثالهم وحينما يأتي الوقت المعين في علم الله فتبدل الأرض غير الأرض ويقف الناس أمام الله ليقضي بينهم ويجزي كل نفس ما كسبت يقف المجرمون مشدود بعضهم إلى بعض بالقيود والأغلال وقد طليت أجسادهم بالقطران وغشيت وجوههم بالنار. وانتهت الآيات بالهتاف بالسامعين: ففي هذا بلاغ للناس ونذير كاف. فعليهم أن يعلموا أن إلههم واحد لا شريك له، وعلى ذوي العقول السليمة أن يتدبروا ويتذكروا ويتعظوا. والآيات قد استهدفت كما هو واضح تطمين النبي وتثبيته وتبشيره بتحقيق

وعد الله له بالنصر وإنذار الكفار والتنديد بهم وتوكيد وعيد الله لهم. وأسلوبها قوي نافذ ومؤثر حقا. وهي متصلة سياقا وموضوعا بالآيات التي سبقت مناجاة إبراهيم مما يسوغ القول إن آيات فصل إبراهيم قد جاءت استطرادية للتذكير والتدعيم كما قلنا وإنها غير منقطعة بدورها عن السياق السابق واللاحق لها. وقد جاءت الآيات في ذات الوقت خاتمة قوية للسورة وطابع الختام المألوف في كثير من السور واضح عليها وبخاصة على الآية الأخيرة. والآية الرابعة وإن كانت منسجمة في السياق مطلقة الخطاب للظالمين جميعا فإنها مما تلهم أن السامعين كانوا يعرفون أخبار الأمم السابقة ومصائرها ونكال الله وتدميره إياهم في الدنيا وأن منهم من وصل إلى بلادهم ورأى آثار ذلك فيها وهو ما تكررت الإشارة إليه في آيات أخرى مرّت أمثلة منها. والصيحة الداوية في الآيات ضد الظالمين وتنبيهها إلى أن الله غير غافل عنهم تظل تقرع الآذان كل ما تلا القرآن تال لتثير في النفوس النقمة على الظالمين البغاة المستكبرين ولتبعث الأمل واليقين فيها بأن نقمة الله وسخطه لا بد أنهما حالّان فيهم مهما طال بهم الزمن. ولقد أورد الطبري في سياق جملة وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ القصة التي أوردها المفسر في سياق جملة وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الرعد: 42] في سورة النحل وأوردناها في مناسبتها بصيغة قريبة معزوة هذه المرة إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وليس من سند وثيق لهذه الرواية. ولسنا نرى أي تناسب كذلك بين هذه الرواية وبين الجملة القرآنية في مقامها التي يتبادر أنها بسبيل وصف شدّة مكر المناوئين للدعوة النبوية. ولقد روى المفسرون قراءات متعددة لكلمة لِتَزُولَ منها أنها بفتح اللام الأولى ورفع اللام الثانية ومنها أنها بكسر الأولى وفتح الثانية ومنها أنها في صيغة

(لا تزول) وهناك تخريجات متعددة للكلمة حسب ذلك. منها أنها بمعنى أن الجبال تكاد تزول من شدة مكرهم. ومنها أنها بمعنى أنهم مكروا لأجل أن تزول الجبال. ومنها أنها بمعنى أنهم مما اشتدّ مكرهم لا يمكنهم أن يزيلوا الجبال وبالتالي لا يمكنهم أن يزيلوا الدعوة النبوية الراسخة القوية كالجبال. والأكثر على التخريج الأول الذي قالوا إنه من باب آيات سورة مريم هذه: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) وهو الأوجه فيما هو المتبادر. ولقد أورد الطبري وغيره روايات عديدة في صدد جملة يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ استوعب الطبري معظمها أو كلها. منها حديث عن زيد قال: «أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهود فقال: هل تدرون لم أرسلت إليهم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإني أرسلت إليهم أسألهم عن قول الله يوم تبدل الأرض غير الأرض إنها تكون يومئذ بيضاء مثل الفضة وكلما جاؤوا سألهم فقالوا تكون بيضاء مثل النقي» وحديث عن سهل بن سعد قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي» . وحديث عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يبدل الله الأرض غير الأرض والسموات فيبسطها ويسطحها ويمدّها مدّ الأديم العكاظي لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ثم يزجر الله الخلق زجرة فإذا هم في هذه المبدلة مثل مواضعهم في الأولى ما كان في بطنها ففي بطنها وما كان على ظهرها كان على ظهرها وذلك حين يطوي السموات كطي السجلّ للكتاب ثم يدحو بها ثم تبدل الأرض غير الأرض والسموات» . وحديث عن عائشة بطرق عديدة وصيغ متقاربة جاء في إحداها: «قلت: يا رسول الله إذا بدل الأرض غير الأرض وبرزوا لله الواحد القهار أين الناس يومئذ؟ قال: على الصراط» «1» . وفي إحداها: «قال لها لقد سألت عن شيء ما سألني عنه أحد من أمتي قبلك قال هم يومئذ على جسر جهنّم» . وعن ابن أيوب قال: «أتى

_ (1) هذا الحديث رواه مسلم والترمذي أيضا انظر التاج ج 4 ص 137.

النبي صلى الله عليه وسلم حبر من اليهود وقال: أرأيت إذ يقول الله في كتابه يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات فأين الخلق عندئذ؟ قال: أضياف الله فلن يعجزهم ما لديه» . وإلى هذه الأحاديث فهناك أقوال معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم منها أن الأرض تبدل بأرض لم يسل فيها دم ولم يعمل فيها خطيئة ومنها أن نار يوم القيامة تكون محل الأرض وجناتها محل السموات. ولقد علق الطبري على هذه الأحاديث بقوله إنه لا قول يصحّ إلّا ما دلّ عليه ظاهر التنزيل وهو أن الأرض والسموات تتبدل على هيئة غير هيأتها وجائز أن تكون ما ذكر حيث يبدو أنه لم يثبت عنده شيء من الأحاديث وهذا الترجيح هو سنّة السلف الإسلامي الأول فيما ليس فيه نصّ قرآني صريح وليس فيه نصّ نبوي ثابت في الشؤون الغيبية التي منها الشؤون الأخروية على ما نبهنا عليه ووجهناه في مناسبات عديدة سابقة. مع القول إنه لا بدّ من أن يكون حكمة في الصيغة التي جاءت عليها الآيات بالإضافة إلى حقيقة المشاهد الأخروية الإيمانية وإن الآيات بجملتها قد استهدفت إنذار الكفار الظالمين وإثارة الرعب في قلوبهم وحملهم على الارعواء ولعل ذلك من تلك الحكمة. هذا، وبمناسبة حديث عائشة الذي رواه الترمذي ومسلم ويعد من الأحاديث الصحيحة عن الصراط نقول إننا علّقنا على هذا الموضوع في سياق سورة مريم بما يغني عن التكرار.

سورة الأنبياء

سورة الأنبياء في السورة حملات شديدة على الكفار وزعمائهم بسبب عنادهم واستخفافهم بالنبي ودعوته وحكاية لأقوالهم وتحدياتهم ومؤامراتهم، وردود قوية في البرهنة على وحدة الله وتنزهه عن الولد والشريك وطبيعة إرسال الرسل من البشر، وثناء على الملائكة وتقرير عبوديتهم لله ولفت نظر إلى مشاهد قدرة الله في السموات والأرض للتدليل على وحدة الله واستحقاقه وحده للعبادة وقدرته على تحقيق وعده الحق. وفيها سلسلة تتضمن ذكر بعض الأنبياء ورسالاتهم وثناء على إخلاصهم وعناية الله بهم في معرض التذكير والتثبيت والتطمين والبشرى، وبيان مصائر الكفار والصالحين في الآخرة وتقرير لمهمة الرسالة وأهدافها. وفصول السورة مترابطة مما يسوغ القول إنها نزلت متتابعة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الأنبياء (21) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) . (1) اقترب: صيغة الماضي تنطوي على التوكيد بالوقوع.

(2) ذكر: بمعنى الآيات القرآنية. (3) محدث: جديد. (4) أسرّوا النجوى: كناية عن اجتماعاتهم الخفية في صدد التآمر على تكذيب النبي. (5) الذين ظلموا: جملة معترضة بسبيل التنديد بالمشركين. (6) إن هذا إلّا بشر مثلكم: هذا كلام الزعماء- الذين ظلموا- للناس عن النبي. في الآيات: 1- تنديد بالناس وتعجّب من موقفهم- والمعنى مصروف إلى الكفار- فبينما موعد وقوفهم أمام الله ومحاسبتهم يقترب ووقوعه أمر لا يتحمل الريب يظلون معرضين عن دعوة الله مرتكسين في غفلتهم وكلما تلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم آيات جديدة من القرآن استمعوها بقلوب لاهية وبالاستخفاف والسخرية. 2- وحكاية لما كانوا يفعلونه ويقولونه: حيث كانوا يعقدون الاجتماعات السرية للتآمر على النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته. ويقول بعضهم لبعض أو زعماؤهم لعوامهم إنه ليس إلّا بشرا مثلكم ومظهره مظهر الساحر والسحر فكيف يصحّ تصديقه والانخداع به والاستماع إليه من ذوي عقل وبصيرة. وكانوا يقولون أيضا إنه يخترع ما يقول وينسبه إلى الله افتراء أو إن ما يقوله من تخاليط الأحلام أو إنه شاعر. وكانوا يحاولون التأثير في السامعين ليتحدوا النبي صلى الله عليه وسلم بإحداث المعجزات كما حدثت على أيدي الرسل السابقين إن كان صادقا في دعواه. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأخيرة حديثا رواه ابن أبي حاتم عن عبادة بن الصامت قال: «كنّا في المسجد ومعنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقرأ بعض القرآن فجاء عبد الله بن أبيّ بن سلول ومعه نمرقة وزريبة فوضع واتكأ وكان صبيحا فصيحا جدلا فقال يا أبا بكر قل لمحمد يأتينا بآية كما جاء الأولون. جاء موسى بالألواح وجاء داود بالزبور. وجاء صالح بالناقة. وجاء عيسى بالمائدة

والإنجيل فبكى أبو بكر فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر قوموا بنا إلى رسول الله نستغيث به من هذا المنافق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه لا يقام لي إنما يقام لله عز وجل. فقلنا يا رسول الله إنا لقينا من هذا المنافق. فقال إن جبريل قال لي اخرج فأخبر بنعم الله التي أنعم بها عليك وفضيلته التي فضلت بها فبشرني أني بعثت إلى الأحمر والأسود وأمرني أن أنذر الجنّ وأتاني كتاب وأنا أمّي وغفر ذنبي ما تقدم وما تأخر. وذكر اسمي في الأذان وأمدني بالملائكة. وأتاني النصر وجعل الرعب أمامي. وأتاني الكوثر. وجعل حوضي من أكثر الحياض يوم القيامة ووعدني المقام المحمود والناس مهطعون مقنعو رؤوسهم. وجعلني في أول زمرة تخرج من الناس وأدخل في شفاعتي سبعين ألفا من أمتي بغير حساب وأتاني السلطان والملك وجعلني في أعلى غرفة في الجنة في جنات النعيم. فليس فوقي أحد إلّا الملائكة الذين يحملون العرش. وأحلّ لي ولأمتي الغنائم ولم تحلّ لأحد كان قبلنا» . وعقب ابن كثير على الحديث فقال إنه غريب جدا. ومعظم ما جاء في الحديث قد ورد في أحاديث صحيحة أخرى كما ورد إلى بعض ما جاء فيه إشارات عديدة في القرآن. وحين يصف علماء الحديث حديثا بالغرابة فإنهم يعنون في الغالب غرابة طرق روايته ورواته. ومهما يكن من أمر فليس في الحديث ما يفيد أن الآية نزلت لتحكي قول المنافق. فالصورة فيه مدنية ولا خلاف في مكية الآية. وليس هناك روايات أخرى فيما اطلعنا عليه في مناسبة الآيات التي احتوت صورا من المواقف العنيدة التي كان يقفها الكفار وبخاصة زعماؤهم والأقوال التي كانوا يقولونها في معرض مناوأة النبي وتحديه كلما تلا عليهم القرآن ودعاهم إلى الله. وقد احتوت تنديدا وإنذارا والمتبادر أنها جاءت مقدمة للسياق الذي جاء بعدها والذي احتوى حكاية أقوال ومواقف أخرى لهم وتنديدا بهم وإنذارا لهم عليها. ولقد تكررت حكاية هذه الصور والأقوال مما يدل على أنها كانت تتكرر بتكرر المناسبات والمواقف. حيث كانت هذه تتكرر نتيجة لاستمرار النبي في دعوته ورسالته.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 6 إلى 10]

ولقد أوردنا تعليقات متنوعة عليها في المناسبات السابقة فلا نرى ضرورة للإعادة. والمتبادر أن الآية الثالثة هي حكاية لما كان يقوله النبي أو يؤمر بقوله حينما كانوا ينسبون إليه الافتراء حيث كان يشهد الله على صدق ما يبلغ وهو السميع العليم الذي يعلم كل ما يقال ويجري في السماء والأرض، وهذا مما تكرر أيضا في الفصول المماثلة السابقة. ولقد قرأ بعضهم فعل قال بصيغة الأمر والراجح أن اختلاف القراءة ناتج عن طريقة الإملاء القديمة حيث كانت تحذف ألف المد. على أن في أوائل سورة الفرقان آية مماثلة لهذه الآية. والفعل فيها بصيغة الأمر بمعنى أن الله أمر النبي بأن يقول ما في الآية ردا على الكفار وقد تطمئن النفس أكثر بكون الصيغة هنا صيغة أمر. وجملة ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ قد جاءت بصيغة قريبة في سورة الشعراء وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 6 الى 10] ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10) . (1) أهل الذكر: كناية عن أهل الكتب السماوية. (2) المسرفين: هنا بمعنى المتجاوزين حدود الله ببغيهم وانحرافهم. (3) ذكركم: قيل إنها بمعنى تذكيركم وعظتكم. وقيل إنها بمعنى شرفكم

ورفعة شأنكم والقول الأول أكثر اتفاقا مع السياق. صلة الآيات بسابقاتها واضحة وقد احتوت ردودا على أقوال الكفار المحكية في الآيات السابقة وتبكيتا وانطوى فيها تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كما يلي: 1- إن الذين أهلكهم الله من قبلهم لم يؤمنوا بالآيات التي طلبوها فهل يؤمن هؤلاء وهم مثلهم في الكفر والعناد. 2- إن الرسل الذين أرسلهم الله قبل النبي هم بشر مثله اختصهم بوحيه. ولم يجعل الله أحدا منهم متصفا بصفة خارقة لصفات البشر فيعيش بدون طعام أو يبقى خالدا لا يموت. وعلى الذين يمارون في ذلك أن يسألوا أهل الكتب السماوية. 3- ولقد حقق الله وعده لرسله الأولين فأهلك الظالمين المسرفين في العناد والآثام ونجّى رسله ومن وفقه الله فاهتدوا بهديهم. 4- ولقد أنزل الله إليهم كتابا فيه من المواعظ البالغة والحجج الدامغة والبيان الواضح ما فيه هدايتهم وتذكيرهم وتبصيرهم. فهل فقدوا عقولهم حتى لم يعودوا يفهمون ويتبينون الحق والحقيقة. وما احتوته الآيات قد جاء في آيات سابقة نزلت في مواقف مماثلة. ولقد علقنا على الردود في المناسبات السابقة بما يغني عن تعليق جديد إلّا القول إن فيما ظلّ يتكرر حكايته من مواقف الكفار وتحدياتهم يدل على ما كان من شدّة عنادهم. وإن النبي صلى الله عليه وسلم ظلّ يقوم بمهمته ويتلو آيات القرآن ويقذف بما احتواه من ردود قوية عنيفة في وجوههم دون مبالاة بقوتهم ومواقفهم حتى صدق الله وعده له وتمّ انتصار دينه على يده. وقد يكون في الآية الأولى معنى من معاني عدم احتمال إيمان الكفار. غير أن المتبادر أنها في صدد تسجيل واقع أمرهم وشدة مناوأتهم وعنادهم عند نزول الآية. لأن معظمهم قد آمنوا وحسن إيمانهم كما هو ثابت يقينا، إلّا إذا كان المقصود منهم الزعماء الذين هلك كثير منهم دون أن يؤمنوا.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 11 إلى 15]

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 11 الى 15] وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15) . (1) قصمنا: حطمنا وسحقنا. (2) تلك دعواهم: تلك أقوالهم يكررونها. (3) حصيدا خامدين: مقلوعين هالكين لا نأمة ولا حركة لهم. في الآيات: 1- تساؤل يتضمن التنبيه إلى كثرة من صبّ الله عليهم عذابه وتدميره من القرى الظالمة وأنشأ بعدهم غيرهم. 2- وبيان لما كان من أمر الذين صبّ الله عليهم عذابه حيث حاولوا الفرار من قراهم أملا بالنجاة فحيل بينهم وقيل لهم في معرض التبكيت بل ارجعوا إلى مساكنكم وما كنتم فيه من ترف حتى ينالكم عذاب الله فلم يكن منهم إلّا أن أخذوا بالعويل والندب واعترفوا بما كان منهم من ظلم وإثم ثم حاق بهم العذاب حتى خمدت منهم الأنفاس وأصبحوا كالزرع المحصود المطروح. والاتصال قائم بين هذه الآيات وسابقاتها كما هو واضح أيضا. وقد استهدفت إنذار السامعين أو الكفار في بيان أسلوب الله في إهلاك المسرفين الذين أشير إليهم في الآية الأخيرة السابقة. ولقد ذكر البغوي أن الآيات نزلت في أهل حضرموت قرية باليمن بعث الله إليهم نبيا يدعوهم فكذبوه وقتلوه فسلّط عليهم الله بختنصر حتى قتلهم وسباهم فلما استمر فيهم القتل ندموا وهربوا فقالت لهم الملائكة استهزاء لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم وقد اتبعهم بختنصر وأخذتهم السيوف ونادى مناد في

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 16 إلى 20]

جو السماء يا ثارات الأنبياء فلما رأوا ذلك أقروا بذنوبهم حين لم ينفعهم ذلك. ومن المحتمل أن تكون القصة مما كان العرب يتداولونه قبل البعثة فشاءت حكمة التنزيل الإشارة إليها والتذكير بها في معرض التنديد والإنذار. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 16 الى 20] وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20) . (1) لا يستحسرون: لا يتعبون ولا يملّون. (2) لا يفترون: لا ينقطعون. في الآيات: 1- تقرير بأن الله تعالى لم يخلق السماء والأرض وما بينهما عبثا بدون غاية وحكمة ولو أراد العبث واللهو لكان له من القدرة والوسائل ما يحقق له مراده. وإنما خلق الكون وما فيه لحكمة وغاية سامية ومن ذلك تأييد الحق على الباطل وإحباطه. 2- وإنذار للكفار: فالويل لهم مما يصفون الله به من صفات ويلصقونه به من أولاد وشركاء مما يتنافى مع ربوبيته الشاملة وصفاته الكاملة، وهو الذي يخضع من في السموات والأرض من خلقه لحكمه ومشيئته وتصرفه والذين عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يتعبون ولا يملّون وهم يسبّحونه بالليل والنهار دون فتور وانقطاع. والآيات بمثابة تعقيب على الآيات السابقة. والاتصال بينها وبين سابقاتها قائم، والمتبادر أن المقصود من جملة وَمَنْ عِنْدَهُ هم الملائكة. وقد استهدف

فيما ذكر من عبادتهم وتسبيحهم الدائم لله تنبيه الكفار وتكبيتهم على ما هو الراجح. فإذا كانوا هم يستكبرون عن عبادة الله وينأون عن دعوته فالملائكة الذين يشركونهم معه في العبادة والدعاء لا يستكبرون عن ذلك وهم دائبون عليه في الليل والنهار. وقد تكرر هذا في آيات عديدة مرّ بعضها، وفي الآيات التي تأتي بعد قليل قرينة مؤيدة لذلك. ولقد ذكر بعض المفسرين «1» أن اللهو المذكور في الآية الثانية يعني اتخاذ الزوجة أو الولد وأن فيها ردّا على عقيدة النصارى. ومنهم من قال «2» عزوا إلى ابن عباس إن اللهو هو المرأة والولد. وروح الآيات ومضمونها وسياقها لا تساعد على تصويب ذلك. وتسوغ القول إن اللهو هنا بمعنى العبث أو ضد الحق والحكمة وإن الآيات بسبيل تقرير كون الله لم يخلق الكون والناس عبثا ولا بد من محاسبتهم على أعمالهم. وذلك بسبيل الإنذار والموعظة والإفحام أيضا. وهذا المعنى بل والتعبير قد ورد في آيات سابقة يبرز فيها المعنى الذي ذكرناه مثل آية سورة [ص: 27] وآيات سورة الدخان [27- 28] . ولقد روى الطبري في سياق الآيتين [19- 20] حديثا عن قتادة جاء فيه: «بينما كان النبيّ جالسا مع أصحابه إذ قال لهم تسمعون ما أسمع؟ قالوا: ما نسمع من شيء يا نبيّ الله، قال: إني لأسمع أطيط السماء وما تلام أن تئط وليس فيها موضع راحة إلّا وفيه ملك ساجد أو قائم» . وقد أخرج هذا الحديث ابن أبي حاتم عن حكيم بن حزام على ما ذكره ابن كثير أيضا. فإذا صحّ ففيه إخبار غيبي نبوي متساوق مع صدى الآيتين. وروى ابن كثير في سياقهما أيضا عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال جلست إلى كعب الأحبار وأنا غلام فقلت أرأيت قول الله تعالى عن الملائكة يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20) أما يشغلهم عن التسبيح الكلام والرسالة والعمل فقال لي يا بني إنه جعل لهم التسبيح كما جعل لكم النفس

_ (1) البغوي. (2) الخازن والزمخشري.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 21 إلى 25]

أليس تتكلم وأنت تتنفس وتمشي وأنت تتنفس. وهذا الجواب هو من قبيل الاجتهاد. والله أعلم. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 21 الى 25] أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) . (1) ينشرون: يخرجون الناس من قبورهم أحياء بعد الموت أو يخلقونهم بدءا. ولعل هذا أوجه لأن الكفار الذين يرجع إليهم الضمير في (اتخذوا) ينكرون البعث. (2) هذا ذكر من معي: هذا هو القرآن الذي يؤمن به الذين معي. (3) ذكر من قبلي: كناية عن الكتب السماوية التي آمن بها اليهود والنصارى. في الآيات: 1- سؤال تنديدي منطو على التسخيف والإنكار والتحدي عن الآلهة التي يتخذها المشركون من دون الله وعن مدى قدرتها وعما إذا كان في قدرتها خلق الناس ونشرهم من الأرض بدءا أو بعد الموت. 2- وتقرير في معرض الردّ والإفحام بأنه لو كان في السماء أو في الأرض آلهة عديدون لفسدت الأمور فيهما لما يكون بينهم من تنازع ولما يقتضيه النظام فيهما من وحدة نسق لا يمكن أن تحصل إلّا من وحدانية المدبر. 3- وتنزيه لله ربّ العرش عما يظنه الكفار ويذهبون إليه من تعدد

تعليق على جملة لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون

المعبودات. فهو المتصرف في الكون كما يشاء وليس هو مسؤولا عما يفعل في حين أن خلقه مسؤولون عما يفعلون. ومن كان هذا شأنه لا يمكن أن يكون له شريك وندّ. 4- وسؤال تنديدي آخر منطو كذلك على التحدي عن سندهم في الزعم الذي يزعمونه وهو صواب اتخاذهم آلهة من الأرض. 5- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بطلب البرهان منهم فيما أنزل الله إليه أو إلى الأنبياء من قبله. 6- وتقرير بحقيقة واقع الكفار فيما يدعون ويعتقدون. فهم لا يعرفون الحق ولا يعترفون به ويلقون كلامهم جزافا ولا تقوم عقائدهم على أي أساس ويعرضون عن الحقّ مكابرة وجهلا. 7- وتقرير حاسم بأن الله لم يرسل رسولا من قبل النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلّا أوحى إليه أنه لا معبود ولا إله إلّا هو وأمره بالدعوة إلى عبادته وحده. والآيات كما هو المتبادر متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا من حيث تضمنها صورا لعقائد كفار العرب ومواقفهم وأقوالهم وردودا عليها. والمتبادر أن جملة هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي قد تضمنت تحديا للمشركين الذين كانوا يحتجون بأن عقائدهم مستندة إلى أساس ديني سماوي وتقريرا ضمنيا يكذب احتجاجهم لأنه ليس في الكتب المنزّلة عليه وعلى من قبله أي سند يسندهم. وحجتهم المذكورة قد تضمنت حكايتها عنهم آية سورة الأنعام [148] وآيات سورة الزخرف [20- 21] على ما شرحناه في سياق تفسير السورتين. تعليق على جملة لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ وقد توسع بعض المفسرين وعلماء بعض المذاهب الكلامية في تخريج هذه الآية حتى صارت في عداد الحجج التي يحتج بها على كون الله تعالى قد قدر على

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 26 إلى 29]

الناس أفعالهم وكتب على الضالين الضلال وقضى عليهم بالعذاب وليس لأحد أن يسأله عما يبدو في هذا من تناقض أو عدم اتساق مع العدل أو حكمة إرسال الرسل لأن لله مطلق التصرف في خلقه على الوجه الذي تقترن به مشيئته فليس لأحد أن يسأله فيما يقضي ويفعل في خلقه في حين هم مسؤولون أمامه. والذي يتبادر لنا أن سياق الآيات وروحها لا يتحملان هذا التوسع ولا يستدعيانه فالآية إنما جاءت في معرض تدعيم الردّ على اتخاذ آلهة من دون الله وتزييفه وبيان عجز الآلهة وعدم اتساق تعددها مع المنطق والعقل وتضمنت بيان مطلق تصرف الله في الكون من دون أن يكون لأحد حقّ في سؤاله في حين لو كان له شركاء لكان لهم حقّ في هذا السؤال. ولقد كان المشركون يعتقدون ذلك فيه ويعبدون الشركاء لا على أساس أن لهم حقّ سؤال الله ولكن على أساس أنهم شفعاؤهم لديه فجاءت الحجة ملزمة مفحمة. ومن الحقّ أن تبقى الآية في هذا النطاق. وإذا كان حقا أنه ليس لعبد من عباد الله حقّ في سؤال الله عما يفعل وحكمته فيما يفعل فإن القرآن قد تضمّن آيات كثيرة صريحة تقرر حكمة إرسال الرسل ودعوة الناس وتقرر مسؤولية الناس عن أعمالهم وحرية اختيارهم فيها وترتب ثوابهم وعقابهم وفقا لذلك بل وتقرر أن الله كتب على نفسه وعدا بنصر المرسلين والمؤمنين وكان وعده مفعولا وكان وعده مسؤولا مما مرت منه أمثلة عديدة بحيث يكون التوسع في تخريج هذه الآية على ذلك النحو مؤديا إلى تناقض يجب تنزيه الله وقرآنه عنه. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 26 الى 29] وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) . في الآيات:

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 30 إلى 33]

1- حكاية تنديدية لعقيدة كفار العرب حيث أشارت إلى ما كانوا ينسبونه إلى الله من اتخاذ الأولاد. 2- وردّ عليهم وتنزيه لله عن هذه النسبة وتوضيح لحقيقة أمر الذين ينسبونهم بالنبوة إليه: فهم عباده ولهم مقام التكريم عنده. وهم مطيعون لأوامره يقومون بما يأمرهم به. وهو محيط بهم كل الإحاطة مطلع على أحوالهم وسرّهم وعلنهم ولا يستطيع أحد منهم أن يتجاوز الحدّ المرسوم له أو يشفع لأحد لا يكون قد نال رضاء الله وهم دائمو الاستشعار بخوفه. وكل من يجرؤ منهم على دعوى الألوهية يكون جزاؤه جهنّم كما هو جزاء كل ظالم باغ متجاوز لحدوده. والآيات متصلة بما سبقها سياقا وموضوعا كما هو المتبادر. وواضح أن المعني فيها هم الملائكة الذين كان العرب ينسبونهم بالنبوة إلى الله ويقولون إنهم بناته ويعبدونهم ويستشفعون بهم على هذا الأساس. وقد تكررت حكاية ذلك عنهم وعلقنا على الموضوع بما يغني عن التكرار. وكل ما يحسن أن نزيده أن الآيات قد تضمنت تزييفا لمشركي العرب ودعوة لهم للارعواء. فالذين يشركونهم مع الله هم عبيده الخاضعون له. فالأولى والأنفع لهم أن يحذوا حذوهم فيعبدوا الله ويتجهوا إليه وحده. وهذا المعنى وارد في الآيات السابقة لهذه الآية. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 30 الى 33] أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) . (1) فجاجا سبلا: معابر وطرقا واسعة. والفج هو الطريق الواسع بين جبلين على ما ذكره بعض المفسرين.

تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل من التابعين وتابعيهم في مدى الرتق والفتق في الآية الأولى «1» . منها أن الرتق بمعنى الالتصاق والفتق بمعنى فصل الملصق. وأن السموات والأرض كانت ملتصقة أو كتلة واحدة ففصلهما الله عن بعضهما وجعل بينهما الهواء. ومنها أن الرتق بمعنى الجفاف وأن السماء كانت لا تمطر والأرض لا تنبت ففتق الله السماء بالمطر والأرض بالنبات واستأنس أصحاب هذا القول بجملة وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ التي جاءت في نفس الآية. وجمهورهم على أن كلمة سَقْفاً تعني كون السماء فوق الأرض بمثابة السقف. أما معنى مَحْفُوظاً فقد روي أنها بمعنى محروس من الشياطين مما ذكر بصراحة في آيات أخرى ورد بعضها في سور سبق تفسيرها مثل سورتي الحجر والصافات. كما روي أنها بمعنى المحفوظ من السقوط. ورووا في صدد الفلك أن معنى الكلمة في الأصل الشكل الدائري وأنها تعني المدار السماوي الذي تجري فيه الشمس والقمر والنجوم وهو بين السماء والأرض كما قيل أنها تعني البروج التي تجري فيها الكواكب السماوية. وقالوا في معنى أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ لئلا تنكفئ الأرض أو تنكفئ الجبال فجعلها الله رواسي ثابتة أو مثبتة. ومهما يكن من أمر فالآيات متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا كما هو المتبادر. وقد تضمنت تنديدا بالكفار لأنهم يغفلون عن مشاهد قدرة الله وعظمته ونواميسه في السماء والأرض وما بينهما وفي الجبال والشمس والقمر والليل والنهار الدالة على استحقاقه وحده للعبادة والاتجاه وينصرفون عن استجابة الدعوة إليه ويضلّون في تيه العقائد الباطلة. وقد تكرر ما في هذه الآيات في سور أخرى مرّ تفسيرها. وتكرارها يفيد أن المناسبات التي تقيضها كانت تتكرر. وهي تكرر أو تجدد مواقف الدعوة النبوية مع

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 34 إلى 35]

الناس والإيمان بما احتوته الآيات من تقريرات غيبية تكوينية واجب. ومع ذلك فإن جملة أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا التي بدئت بها الآيات قد تفيد أن السامعين ومنهم الكفار كانوا يشاهدون ويحسون ويتصورون الشؤون التي احتوتها وفاق ما جاء فيها فشاءت حكمة التنزيل أن تذكرهم بما يعرفون ويعترفون من مظاهر قدرة الله وبديع نواميس كونه في مقام التنديد. ونقول هنا ما قلناه في المناسبات المماثلة إن الآيات يجب أن تبقى في نطاقها التذكيري والتنديدي دون تمحّل لاستنباط القواعد الفنية من بعضها ودون توهم في تناقض بعضها مع ما عرف من حقائق هذه القواعد، فإن هذا وذاك لا يتصل بالهدف القرآني. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 34 الى 35] وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35) . (1) الخلد: الخلود. (2) نبلوكم: نختبركم ونمتحنكم. (3) فتنة: اختبارا. في الآيات: 1- تقرير بأن الله قد كتب الموت على كل نفس ولم يجعل لأحد من قبل النبي خلودا. 2- وتساؤل يتضمن معنى التنديد عما إذا كان الكفار يظنون أنهم خالدون إذا ما مات النبي وفقا لسنة الله في خلقه. 3- وتقرير بأنّ كلّ نفس ذائقة الموت حقا وبأنّ جميع الناس راجعون إلى الله حتما. وبأنهم في الدنيا أمام اختبار رباني بالخير والشر حتى تتبين قابلية كل واحد

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 36 إلى 41]

واختباره فيما يعرض عليه ويتعرض له في الحياة ثم يحاسب به أمام الله حينما يرجع الناس إليه. وقد قال بعض المفسرين إنّ في الآيات ردا على الكفار الذين كانوا يقولون نتربص بالنبي ريب المنون وأنه لن يلبث أن يموت فتقف حركته وننتهي منه. ومع اقتضابها فإنها تلهم صحة هذا القول ووجاهته. وتوجيه الخطاب للنبي قرينة على ذلك. وهو متسق مع آية أخرى وردت في سورة الطور وهي: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) . وقول الكفار دليل على أنهم قد حاروا في أمر النبي الذي استمر يقذفهم بقوارع الآيات وقواصم النذر دون مبالاة بعنادهم وتحديهم ولم يستطيعوا إسكاته وحمله على الكفّ عن تسفيههم ووقفوا منه موقف العاجز. ولم يبق أمل لخلاصهم منه في نظرهم إلا في موته الذي صاروا يتمنونه ويطمئن بعضهم بعضا به. وننبه على أن المفسرين لم يرووا رواية خاصة بما قالوه وإنما هو على ما يبدو استلهام من فحوى الآيات. والمتبادر لنا أن الآيات غير منقطعة عن السياق السابق وفيها استئناف لحكاية ما كان يقوله الكفار وردّ عليهم. ولقد روى الطبري عن ابن عباس تأويلا لكلمتي الخير والشر، وهو أنهما تعنيان الصحة والسقم والرخاء والشدة والغنى والفقر والحلال والحرام والطاعة والمعصية والهدى والضلالة. وكل هذا مما تتحمّله العبارة القرآنية التي فيها إنذار شامل للناس في جميع الأوقات أيضا وتنبيه لهم بأنهم معرضون في حياتهم للاختبار الرباني في مثل هذه الحالات وأن الله محاسبهم على مواقفهم تجاه هذا الاختبار حينما يرجعون إليه. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 36 الى 41] وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41) .

(1) تبهتهم: تذهلهم. (2) لا ينظرون: لا يمهلون. في الآيات: 1- حكاية لاستهزاء الكفار أو بالأحرى زعمائهم بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث كان بعضهم يتساءل حينما يمرّ به النبي صلى الله عليه وسلم أو حينما يراه تساؤل المستخف عن هذا الذي بلغت جرأته على ذكر آلهتهم بالسوء ويرى في ذلك قحة تستدعي الاستهزاء والسخرية. وردّ عليهم، فهم أولى بذلك لأنهم كافرون بالله مع أنه صاحب الفضل والنعم عليهم. 2- وحكاية ثانية لتساؤلهم عن موعد تحقيق العذاب الذي يوعدون به في معرض التحدي والجحود. وردّ عليهم فيه تبكيت بعجلتهم التي هي من أخلاق الإنسان الغالبة، وفيه إنذار رهيب لهم: فلسوف يرون آيات الله الصاعقة. ولو علموا ما سوف يحلّ بهم من هول النار التي تنصبّ عليهم بغتة فتذهلهم ولن يستطيعوا أن يكفّوها عن وجوههم ولا عن ظهورهم ولا يجدون لهم منها نصيرا ولن يكون سبيل إلى إمهالها عنهم لما استعجلوا هذه العجلة. 3- التفات إلى النبي في معرض التطمين والتسكين. فإذا كان الكفار يبدون استخفافهم به وبدعوته فقد نال رسل الله من قبله مثل ذلك فحلّ بالمستهزئين شرّ استهزائهم ووباله وأن هذا هو شأن هؤلاء الكفار وعاقبتهم أيضا.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 42 إلى 47]

والآيات كما هو ظاهر متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا. وموقف الاستخفاف والتساؤل عن العذاب الموعود واستعجاله مما تكررت حكايته عن الكفار حيث يدل ذلك على أن هذه المواقف كانت تتكرر منهم. والردّ قوي عنيف مفزع حقا وهو متناسب مع موقف الإصرار والهزء الذي حكته الآيات عن الكفار. ولقد ذهب بعض المفسرين «1» في التعليق على جملة خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ إلى بعيد فقالوا عزوا إلى بعض التابعين إن آدم لما خلقه الله من طين ونفخ فيه الروح استعجل في النهوض قبل أن تسري الحياة إلى جميع أعضائه وأن ذلك هو معنى الجملة حيث ورث بنو آدم العجلة من أبيهم ... والمتبادر أن الآية إنما جاءت في معرض التبكيت والتقريع وبأسلوب مألوف من أساليب التخاطب والجدل كما هو المتبادر. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 42 الى 47] قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47) . (1) يكلؤكم: يحفظكم.

_ (1) انظر تفسير الآية في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبري يورد أقوالا متعددة في ذلك معزوة إلى أهل التأويل من أصحاب رسول الله وتابعيهم.

(2) تمنعهم: تحميهم. (3) ولا هم منا يصحبون: ليس لهم منا صاحب مجير أو ليس لهم معنا صحبة خير. ومن التعبيرات العربية القديمة أنا لك صاحب بمعنى أنا لك مجير. (4) أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها: قيل إنها بمعنى انتقاص أرض الكفر وأهلها بانتصار رسول الله. وقيل إنها بمعنى موت الناس وخراب البلاد حقبة بعد حقبة مطلقا. وقيل إنها تذكير بما كان من إهلاك الله للأمم السابقة التي كفرت به وتدمير بلادها. والقول الأخير هو الأوجه عندنا لا تساقه مع روح الآيات وفحواها. (5) نفحة: شيء يسير. (6) الموازين القسط: الموازين المضبوطة العادلة. في الآيات: 1- أمر للنبي بسؤال الكفار منددا مقرعا عمن يستطيع أن يحفظهم من عذاب الله إذا باغتهم وعما إذا كانت آلهتهم التي يشركونها معه تستطيع أن تحميهم في حين أنها ليست مستطيعة أن تحمي نفسها وليس لها من الله صاحب ولا مجير. 2- وتعنيف للكفار على إعراضهم عن تدبر الأمور والاتعاظ بآيات القرآن. 3- وإشارة إلى ما داخلهم من غرور بسبب ما نالوه هم وآباؤهم من الجاه والمال فظنوا أنهم أصبحوا في أمان، وسؤال تنديدي عما إذا كانوا لم يروا ما يفعله الله بالكفار وبلادهم حيث يهلكهم ويدمر بلادهم وعما إذا كان يصحّ لمن يرى ذلك أن يغترّ ويأمن ويظنّ أنه يعجز الله ويفلت منه ويغلبه. 4- وأمر للنبي بأن يقول للكفار إنما هو نذير لهم ليذكرهم بالقرآن الموحى إليه من الله حيث يكون بذلك قد قام بواجبه لأنه غير مكلّف بإقناع من قسا قلبه واشتد عناده وأصبح كالأصمّ الذي لا يسمع النداء والنذر. 5- وإنذار للكفار بسوء المصير: فلسوف يلقون عذاب الله. ولسوف يشعرون بالندم لأول مسّ لأيسر هذا العذاب فيأخذون في الندب والعويل ويعترفون

بما كان منهم من إثم وبغي وانحراف حيث لا ينفع الندم ولا يفيد الاعتراف والعويل. ولسوف يزن الله أعمال الناس بموازينه العادلة يوم القيامة. ويوفي كلا استحقاقه دون ما ظلم ولا إجحاف حتى لو كان مثقال حبة من خردل من خير وشرّ حوسب صاحبها عليها حسابا عدلا وكفى الله حسيبا فهو المحيط بكل شيء. والآيات متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا كما هو ظاهر. وهي قوية نافذة استهدفت التذكير والموعظة وإثارة الخوف والارعواء في الكفار وتنبيههم إلى ما هم فيه من ضلال وما في اغترارهم بقوتهم وارتكانهم على شركائهم من سخف وباطل. ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن ابن عباس وعلماء التابعين لمدى جملة أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها «1» من ذلك أنها بسبيل الإثارة إلى ما ينقص من بلاد الشرك والكفر بفتحها للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين بعده. ومنها أنها بسبيل التذكير بموت الناس جيلا بعد جيل. ومنها أنها بمعنى ذهاب خيارها وفقهائها أو بركتها. ومنها أنها بمعنى ما يطرأ على البلاد من خراب ودمار. ويتبادر لنا أن كل هذه الأقوال لا تتسق مع مقام الجملة وظرف نزولها وأن المتسق مع ذلك هو ما ذكرناه في شرحها بقصد لفت نظر الكفار الذين هم موضوع السياق إلى ما كان يوقعه الله من تدمير وتخريب وإهلاك للأقوام الذين وقفوا من أنبيائهم موقفهم من النبي صلى الله عليه وسلم وبلادهم على سبيل الإنذار والتحذير. وهي من باب آية سورة طه هذه: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) . ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية [47] حديثا رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ الله عزّ وجل يستخلص رجلا من أمّتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة

_ (1) انظر تفسير الآية [41] من سورة الرعد المماثلة لهذه الجملة في كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.

وتسعين سجلا كلّ سجل مدّ البصر ثم يقول أتنكر من هذا شيئا أظلمتك كتبتي الحافظون قال لا يا ربّ. قال: أفلك عذر أو حسنة؟ قال: فبهت الرجل فيقول: لا يا ربّ، فيقول: بلى إنّ لك عندنا حسنة واحدة لا ظلم عليك اليوم فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فيقول أحضروه فيقول يا ربّ ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقول إنك لا تظلم قال فتوضع السجلات في كفّة والبطاقة في كفّة قال فطاشت السجلات وثقلت البطاقة. قال ولا يثقل شيء مع بسم الله الرّحمن الرّحيم» . وحديثا ثانيا رواه الإمام أحمد أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص وهو على الأرجح مختصر عن هذا الحديث قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم توضع الموازين يوم القيامة فيؤتى بالرجل فيوضع في كفة ويوضع ما أحصي عليه فيما يلي به الميزان. قال فيبعث الله به إلى النار قال فإذا أدبر به إذا صائح من عند الرّحمن عزّ وجل يقول لا تعجلوا فإنه قد بقي له فيؤتى ببطاقة فيها لا إله إلّا الله فتوضع مع الرجل في كفة حتى يميل الميزان» . وحديثا ثالثا رواه الإمام أيضا عن عائشة جاء فيه: «إنّ رجلا من أصحاب رسول الله جلس بين يديه فقال يا رسول الله إنّ لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأضربهم وأشتمهم فكيف أنا منهم؟ فقال له رسول الله: يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافا لا لك ولا عليك وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلا لك. وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتصّ لهم منك الفضل الذي بقي عليك. فجعل الرجل يبكي بين يدي رسول الله ويهتف، فقال رسول الله: ما له لا يقرأ كتاب الله ... وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47) ، فقال الرجل: يا رسول الله ما أجد شيئا خيرا من فراق هؤلاء يعني عبيده، إني أشهدك أنهم أحرار كلّهم» . والحديث الأول من مرويات الترمذي بصيغة قريبة «1» . بحيث يمكن القول إن صحة الأحاديث الثلاثة محتملة.

_ (1) انظر التاج ج 5 ص 342- 343.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 48 إلى 50]

والأحاديث مدنية والآية مكية. وفضلا عن ذلك فإن الآية تتمة للإنذار والتنديد الموجهين للكفار في الآيات السابقة لها. ومع ذلك فللأحاديث صلة بموضوع الآية بوجه عام. والإيمان واجب بما يصحّ عن رسول الله من أخبار المشاهد الأخروية، ومن الحكمة الملموحة في الأحاديث بيان ما لشهادة التوحيد من نفع للإنسان في آخرته وحثّ على الإقرار لله بالوحدانية والعمل الصالح وتحذر من أي عمل فيه إساءة أو أذى مهما كان تافها. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 48 الى 50] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) . (1) يخشون ربهم بالغيب: قيل إنها بمعنى يخشون ربهم المغيب عنهم تصديقا لأنبيائهم. وقيل إنها بمعنى يخشون عذاب ربهم المغيب عنهم كذلك الذي أوعد به الأنبياء وكلا القولين وجيه. هذه الآيات حلقة من سلسلة من قصص أنبياء ذكروا في سور سابقة. واقتضت حكمة التنزيل ذكرهم ثانية في هذه السلسلة عقب الفصول التي احتوت حكاية مواقف الكفار وأقوالهم وعقائدهم ونددت بهم وأنذرتهم جريا على الأسلوب القرآني. والآيتان الأولى والثانية منها احتوتا إشارة مقتضبة إلى موسى وهرون. تضمنت ذكر ما آتاهما الله من الفرقان الذي فيه التفريق بين الحق والباطل والضياء الذي يهتدى به في الظلمات والتذكير للمتقين الذين يخشون عذاب الله الموعود ويشفقون من هول القيامة. والآية الثالثة جاءت بمثابة التعقيب على ذلك. فهذا

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 51 إلى 73]

القرآن المبارك أنزله الله كذلك تذكرة وهدى فهل يصح أن ينكره الكفار وقد عرفوا أن من عادة الله أن ينزل الذكر على أنبيائه لهداية الناس. ولقد روى المفسرون عن أهل التأويل قولين في (الفرقان) أحدهما أنه التوراة التي آتاها لموسى والتي فيها بيان الحقّ والباطل والحلال والحرام. وثانيهما أنه النصر الذي أوتيه موسى وهرون على فرعون. وأيد قائل القول الثاني قوله بأن القرآن وصف يوم بدر بالفرقان في آية سورة الأنفال هذه: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ [41] والإشارة إلى القرآن في الآية الثالثة تجعل الرجحان مع ذلك للقول الأول كما هو المتبادر لنا. والعبرة هي المقصودة كما هو المتبادر من الإشارة إلى ما آتاه الله لموسى وهرون التي اقتضت حكمة التنزيل أن تكون مقتضبة جدا، وتلمح هذه العبرة في التماثل بين ما أنزل الله على موسى وهرون وما أنزل على محمد عليهم السلام وفي التنديد بالكفار الذين ينكرون ما أنزل على محمد مع أنهم يعرفون عادة الله وفي التنويه بالمؤمنين المتقين الذين يؤمنون بما أنزل الله ويتقون عذابه بصالح الأعمال. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 51 الى 73] وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73) .

(1) التماثيل: كناية عن الأصنام. وقد تدل الكلمة على الأصنام المخلقة أي المشابهة للإنسان أو الحيوان. (2) اللاعبين: الهازلين أو العابثين في القول. (3) فطرهن: خلقهن. (4) لأكيدن أصنامكم: لأدبرن لها مكيدة. (5) جذاذا: قطعا صغيرة. (6) فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون: قيل إنها بمعنى أنهم ترووا في كلام إبراهيم فأدركوا سخف عقيدتهم في الأصنام فقالوا لبعضهم أنتم الظالمون. وقيل إنها بمعنى أنهم لاموا أنفسهم لأنهم تركوا أصنامهم بدون حراسة. (7) ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون: ثم انقلبوا إلى عنادهم وأخذوا يجادلونه بالباطل ويقولون له كيف تقول لنا اسألوهم وأنت تعرف أنهم لا ينطقون. (8) نافلة: زيادة فضل ونعمة.

تعليق على قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه في هذه السورة

تعليق على قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه في هذه السورة وهذه حلقة ثانية فيها قصة إبراهيم مع قومه. وعبارتها واضحة. وجلّ ما فيها جاء في سور الصافات والشعراء ومريم وهود والأنعام. وعلقنا عليه بما يغني عن تعليق جديد. وواضح من أسلوبها أنها سيقت لتذكير العرب بما كان من سخف قوم إبراهيم باتخاذ الأصنام وبما كان من حجته القوية عليهم وتنجية الله إياه من نارهم وعنايته به وبلوط وبإسحاق ويعقوب الذين وهبهم له لما كانوا عليه من صلاح وتقوى وهدى. وهذه الحلقة هي أطول حلقات السلسلة. والمتبادر أن حكمة ذلك متصلة بما كان العرب يتداولونه من نسبتهم إلى إبراهيم وملته حيث اقتضت حكمة التنزيل دمغهم بالحجة فيها. والجديد في القصة ذكر تنجية لوط مع إبراهيم إلى الأرض التي بارك الله فيها. وقد ذكر خروج لوط مع إبراهيم عليهما السلام من حاران في الإصحاح الثاني عشر من سفر التكوين المتداول اليوم مع أن قصة إبراهيم مع قومه لم تذكر فيه. وقد يؤيد هذا ما قلناه قبل من أن قصص إبراهيم عليه السلام مع قومه التي لم ترد في سفر التكوين المتداول اليوم قد ورد في أسفار وقراطيس كان اليهود يتداولونها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم تصل إلينا. ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون عن الأرض المقصودة في جملة الَّتِي بارَكْنا فِيها منها أنها الشام ومنها أنها مكة والذين قالوا القول الأول قالوا إن إبراهيم ذهب منها إلى فلسطين. والإصحاح المذكور آنفا من سفر التكوين ذكر أنه ذهب إلى أرض كنعان بأمر الله وهي ما يعرف اليوم بفلسطين. ولقد أورد المفسرون روايات عديدة على هامش قصة إبراهيم في سياق هذه الآيات معزوة إلى ابن عباس وابن إسحق وغيرهم أوردوا معظمها في سياق آيات قصص إبراهيم في السور المذكورة آنفا. ومما أوردوه في سياق العبارات الجديدة

في هذه الحلقة ولم نورده سابقا أن القوم ذهبوا إلى عيد لهم بعد أن وضعوا الطعام أمام أصنامهم فاغتنم إبراهيم الفرصة وتمارض وأقسم ليكيدن أصنامهم. وإن أحد الأشخاص سمعه فوشى به. وإن إبراهيم علّق الفأس التي حطم بها الأصنام في عنق كبيرها وقال لقومه فيما قال: إن هذا الكبير غضب من عبادتكم للصغار معه فحطمها. وإن الذي أمر بتحريقه رجل من أكراد فارس، وإن كل شيء اشترك في إطفاء النار عدا الوزغ الذي كان ينفخ فيها حيث يسوغ القول إن هذه البيانات أيضا مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وليس لها مصدر إلّا اليهود وما كان في أيديهم من قراطيس. ولقد عللنا في سياق تفسير سورتي ص وهود ذكر إسحق ويعقوب فقط مع إبراهيم مع أن إسحق ليس هو الولد البكر ولا الوحيد لإبراهيم ومع أن يعقوب ليس هو الولد البكر ولا الوحيد لإسحق عليهم السلام جميعا فلا نرى ضرورة للإعادة والزيادة في هذا الموضوع بمناسبة وروده في هذه الآيات أيضا. ومن مواضع العبرة في الحلقة حكاية موقف إبراهيم الشديد من وثنية قومه وأوثانهم المشابه لموقف النبي صلى الله عليه وسلم وعناية الله به وتنجيته من النار لما كان من إخلاصه وصلاحه ورشده. وهبة الله له بسبب ذلك إسحق ويعقوب وجعلهما أئمة يهدون بأمر الله ويفعلون الخير ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وإخلاصهم لله تعالى في الإيمان والعبادة. وفي كل ذلك دعوة مستمرة إلى التأسي بهم. ولقد روى البغوي في سياق هذه الآيات عن أمّ شريك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ وقال إنه كان ينفخ النار على إبراهيم. وفي ذيل الصفحة 90 من الجزء الثالث من التاج ذكر المؤلف أن هناك حديثا رواه البخاري في بدء الخلق عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اقتلوا الوزغ فإنّه كان ينفخ على نار إبراهيم» . حيث ينطوي في هذا توافق ما كان يتداوله الناس في زمن النبي على ما ذكرناه آنفا. وهناك حديثان نبويان آخران يأمر النبي صلى الله عليه وسلم فيهما بقتل الوزغ بدون ذكر علاقة ذلك بقصة إبراهيم عليه السلام أحدهما رواه البخاري ومسلم والترمذي عن سعد جاء فيه «إنّ

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 74 إلى 75]

النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ وسمّاه فويقا» . وثانيهما رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل وزغة في أوّل ضربة فله كذا وكذا حسنة. ومن قتلها في الضربة الثانية فله كذا وكذا حسنة لدون الأولى. ومن قتلها في الضربة الثالثة فله كذا وكذا حسنة لدون الثانية» «1» . [سورة الأنبياء (21) : الآيات 74 الى 75] وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) . (1) حكما: بمعنى حكمة. وهذه حلقة ثالثة فيها إشارة مقتضبة إلى لوط وقومه الفاسقين الذين كانوا يعملون الخبائث وتنجية الله إياه منهم وعنايته به لأنه من الصالحين. حيث يبدو في أسلوبها هدف العظة والتمثيل والتذكير والتنويه واضحا. ولقد وردت قصة لوط مع قومه في سور عديدة سابقة وعلّقنا عليها بما يغني عن التكرار. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 76 الى 77] وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77) . وهذه حلقة رابعة فيها كذلك إشارة مقتضبة إلى نوح وما كان من استغاثته بالله واستجابة الله له وتنجيته مع أهله ونصره إياهم على قومه البغاة وإغراقهم، وهدف العظة والتمثيل والتذكير والتنويه واضح فيها أيضا.

_ (1) التاج ج 3 ص 90- 91.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 78 إلى 82]

ولقد وردت قصة نوح في سور عديدة مرّ تفسيرها وعلقنا عليها بما يغني عن تعليق جديد. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 78 الى 82] وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82) . (1) الحرث: الزرع. (2) نفشت فيه غنم القوم: انتشرت فيه. (3) صنعة لبوس لكم: كناية عن صناعة دروع الحرب التي ذكرت في قصة داود في سورة سبأ. (4) لتحصنكم من بأسكم: لتقيكم في الحروب. تعليق على قصة داود وسليمان عليهما السلام في هذه السورة وهذه حلقة خامسة فيها إشارة إلى شيء من سيرة داود وسليمان. وعبارتها واضحة وقد ورد أكثر ما فيها في سور سابقة. وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار. وموضع العبرة فيها عناية الله تعالى بداود وسليمان عليهما السلام لإخلاصهما وما في ذلك من أسوة وبشرى. وقضية الحرث والغنم جديدة. وهذه أيضا لم ترد في الأسفار المتداولة اليوم التي فيها سيرة داود وسليمان مثل أشياء كثيرة أخرى وردت عنهما في القرآن. وكما

علّقنا في المناسبات السابقة أن ما ورد في القرآن من أخبار لم ترد في الأسفار المتداولة قد وردت في أسفار وقراطيس كانت متداولة بين يدي اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وضاعت نقول ذلك بالنسبة لهذه القصة. وقد يؤيد هذا ما روي من تفصيل هذه القصة عزوا إلى ابن عباس حيث يفيد أن ذلك مما كان متداولا في بيئة النبي عن طريق أهل الكتاب على ما هو المتبادر. ولقد روى المفسرون القصة في صيغ مختلفة مع الاتفاق في الجوهر حيث رووا أن غنما لجماعة دخلت كرم جماعة أخرى أو حقل زرع لها فأفسدته فشكى صاحب الكرم أو الحقل أمره لداود فقضى له بالغنم فراجعه سليمان وقال غير هذا يا نبي الله أو قال سليمان لو كان الأمر إليّ لقضيت بغير هذا فسأله أبوه رأيه في القضية فقال: تدفع الكرم أو الحقل إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان وتدفع الغنم لصاحب الكرم أو الحقل فيصيب منها حتى إذا صار الكرم أو الحقل كما كان دفعت الغنم لصاحبها والكرم أو الحقل لصاحبه. ولقد علق المفسرون «1» على القصة تعليقات ورووا في مناسبتها روايات وأحاديث يمكن أن تكون قواعد وتشريعات إسلامية. من ذلك جواز الاجتهاد للأنبياء فيما ليس فيه وحي رباني وتفهيم الله لنبي بحكم أصوب من حكم نبي آخر وعدم تعارض ذلك مع تقرير الحكم والعلم لكل منهم. وعدم إثم المجتهد إذا أخطأ في اجتهاده والحاكم إذا أخطأ في حكمه وجواز رجوع الحاكم بعد قضائه من اجتهاد إلى أرجح منه وإن الاختلاف في الاجتهاد يعني تعدد الصواب في القضية. فالصواب الذي في علم الله واحد لا يختلف باختلاف الاجتهاد. وقد أوردوا حديثا نبويا رواه البخاري عن عمرو بن

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والقاسمي. وأكثر هذه التعليقات والقواعد في تفسير القاسمي.

العاص جاء فيه: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» «1» . كما أوردوا حديثا فيه حكم نبوي في حادث مشابه للحادث الذي روته القصة، حيث روي: «أنّ ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطا- أي بستانا- فأفسدت فيه فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الحوائط حفظها بالنهار وضمان ما أفسدته المواشي فيها بالليل على أصحابها» «2» فصار ذلك تشريعا إسلاميا يحكم به قضاة المسلمين حيث كانوا يبرئون صاحب الماشية إذا دخلت الأرض نهارا ويضمنونه ما أفسدته إذا دخلتها ليلا. ولقد روي عن الحسن في سياق هذه الآيات قوله: «لولا هذه الآية لرأيت الحكام قد هلكوا ولكن الله حمد هذا بصوابه- يعني سليمان- وأثنى على هذا باجتهاده- يعني داود» وأن الله اتخذ على الحكام والحكماء ثلاثا أن لا يشتروا بآيات الله وعهده ثمنا. ولا يتبعوا الهوى ولا يخشوا أحدا وهو ما جاء في آية سورة ص هذه: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [26] وفي آية سورة المائدة هذه فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ [44] وفي آية سورة البقرة هذه: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا [41] وهناك حديث نبوي سيق في هذا السياق رواه أبو داود والترمذي عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار. فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحقّ فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار. ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار» «3» . هذا ولقد أورد المفسرون «4» في سياق تفسير هذه السورة وعلى هامش هذه الآيات أيضا بيانات مسهبة عن تسخير الجبال والطير لداود وتعليمه صنعة الدروع.

_ (1) انظر التاج ج 3 ص 59. (2) ورد هذا الخبر في تفسير الطبري والبغوي مرويا عن سلمة عن ابن اسحق عن الزهري عن حرام عن محيصة بن مسعود راوي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (3) أورد هذا الحديث مؤلف التاج أيضا انظر ج 3 ص 53. [.....] (4) انظر كتب التفسير السابقة الذكر.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 83 إلى 84]

وعن تسخير الريح والشياطين لسليمان والبساط العظيم الذي كان يمتطيه هو ورجال دولته وجنوده وينتقلون عليه من صقع إلى صقع. والأبهة العظيمة التي كانت لمظاهره وما كان الجن يصنعون له من عظائم معزوة إلى علماء التابعين والأخبار مشوبة بالخيال والغلوّ وإن كانت تدور في نطاق ما جاء في القرآن من قصص داود وسليمان. وفيها على كل حال كما قلنا في المناسبات السابقة دلالة على أن هذه القصص مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم. وليس له مصدر إلا اليهود وما كان في أيديهم من أسفار لم تصل إلينا. ونقول هنا ما قلناه في المناسبات السابقة أننا لم نر طائلا من إيراد ذلك لأنه غير متصل بالهدف القرآني الذي هو العبرة والموعظة وأننا نفضل الوقوف عند ما شاءت حكمة التنزيل ذكره في القرآن منها. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 83 الى 84] وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84) . وهذه حلقة سادسة فيها إشارة مقتضبة إلى قصة أيوب وما كان من الضرّ الذي أصابه واستغاثته بالله وحده وما كان من رحمة الله به جزاء إخلاصه في العبادة. وهدف التذكير والعبرة فيها واضح. ولقد ذكرت قصة أيوب في سورة ص بشيء من التفصيل وعلقنا عليها بما يغني عن تعليق جديد. ولقد أورد المفسرون في هذه السورة أيضا في سياق هذه القصة بيانات مسهبة منها ما هو متطابق مع ما جاء في سفر أيوب ومنها غير المتطابق. ولم نر إضافة شيء جديد على الخلاصة التي أوردناها في سورة ص لأننا لم نر من ذلك طائلا في هدف القصة. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 85 الى 86] وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) .

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 87 إلى 88]

وهذه حلقة سادسة فيها إشارة مقتضبة إلى إسماعيل وإدريس وذي الكفل وما كان من صبرهم ورحمة الله بهم لصلاحهم وإخلاصهم. وهدف التذكير والعبرة فيها واضح أيضا. وقد ذكر الأنبياء الثلاثة في سور أخرى سابقة وعلقنا على شخصياتهم بما يغني عن تعليق جديد. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 87 الى 88] وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) . (1) ذا النون: النون بمعنى الحوت. والجملة كناية عن يونس عليه السلام على ما هو المتفق عليه. وقد ذكر في سورة القلم بصيغة (صاحب الحوت) . (2) إذ ذهب مغاضبا: إذ خرج من بلده غاضبا وساخطا. وقد ذكرنا ما رواه المفسرون وما ورد في سفر يونان من سبب غضبه في سياق سورة الصافات، فلا ضرورة للإعادة. (3) فظن أن لن نقدر عليه: أوجه التأويلات على ضوء ما ورد من قصته في سورة الصافات أنه ظنّ أن لا يلحقه غضبنا إذا ترك قومه وفرّ. فلما لحقه غضبنا وجعلنا الحوت يلتقمه أدرك خطأه وندم وهتف من باطن الحوت وهذا معنى فَنادى فِي الظُّلُماتِ إنه من الظالمين فتاب الله عليه ونجاه من الغم. ولقد قلنا في التعليق إن قصة أيوب عليه السلام مفصلة في سفر مسمّى باسمه من أسفار العهد القديم. ولقد أورد المفسرون في سياق هذه الحلقة بيانات مسهبة مروية عن علماء الصدر الإسلامي الأول منها المتطابق مع هذا السفر ومنها غير المتطابق وفيها على كل حال دلالة على أن هذه القصة مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة. ومصدر ذلك هو الجاليات الكتابية على ما هو المتبادر. ولقد

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 89 إلى 90]

أوردنا ما رأيناه مفيدا وكافيا عن القصة ونبهنا على ما فيها من عبر ومواعظ في سياق تعليقنا الأول فنكتفي بهذه الإشارة. وهذه حلقة سابعة فيها إشارة مقتضبة إلى قصة يونس وما كان من اعترافه بخطئه وظلم نفسه واستغاثته بربّه وهو في بطن الحوت واستجابة الله له وتنجيته من كربه لأنّ من دأب الله سبحانه أن ينجي المؤمنين. وهدف العبرة والتذكير واضح في الآيات. وقد ذكرت قصة يونس بشيء من الإسهاب في سورة الصافات وعلقنا عليها بما يغني عن تعليق جديد. ولقد روى المفسرون «1» في سياق هذه الآيات بيانات مسهبة عن قصة يونس منها ما هو المتطابق مع سفر يونان ومنها غير المتطابق. وفيه على كل حال دلالة على أن هذه القصة مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وليس له مصدر إلّا الأسفار التي كانت متداولة في أيدي الكتابيين من يهود ونصارى. ولم نر طائلا ولا ضرورة إلى زيادة شيء جديد على ما أوردناه من هذه القصة في سياق سورتي القلم والصافات. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 89 الى 90] وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90) . وهذه حلقة ثامنة فيها إشارة إلى ما كان من دعاء زكريا واستجابة الله له وهبته له ابنا رغم شيخوخته وعقم زوجته لأنهم كانوا يسارعون في عمل الخير ويدعون ربهم راجين رضاءه خائفين من غضبه وكانوا خاشعين له. وهدف العبرة والتذكير واضح في الآيات أيضا. وقصة زكريا ذكرت بشيء من التفصيل في سورة مريم وعلقنا عليها بما يغني عن تعليق جديد.

_ (1) انظر كتب التفسير السابقة الذكر أيضا.

[سورة الأنبياء (21) : آية 91]

[سورة الأنبياء (21) : آية 91] وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91) . (1) التي أحصنت فرجها: كناية عن مريم. وهذه حلقة تاسعة وأخيرة فيها إشارة إلى مريم وابنها الذي ولدته نتيجة لنفخ الله فيها من روحه وما كان في ذلك من المعجزة التي جعلها الله للعالمين ليشهدوا فيها مظهرا من مظاهر قدرة الله. تعليق على قصة مريم وجملة فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وقصة مريم وولادتها لعيسى قد ذكرت بشيء من الإسهاب في سورة مريم. وقد علّقنا عليها بما يغني عن تعليق جديد. إلّا أن نقول إن حكمة التنزيل كما اقتضت أن تذكر هذه القصة في سورة مريم عقب ولادة يحيى ذكرت هنا عقب ذلك أيضا حيث أريد هنا كما أريد هناك تقرير كون كل من الولادتين معجزة ربانية فلا ينبغي أن يترتب على معجزة ولادة عيسى اتخاذه إلها أو ابنا لله بمعنى النبوة. ونقطة أخرى في الآيات تأتي لأول مرة وهي جملة فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا. وقد عبر عن ذلك في آية سورة آل عمران بجملة يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ [45] وفي آية في سورة النساء بجملة إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [171] وفي آية سورة التحريم بجملة وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا [12] وتعليقا على ذلك نقول إن القرآن استعمل تعبير وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [72] في صدد خلق آدم في سورة ص، وتعبير ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ في صدد خلق الإنسان في سورة السجدة الآية [9] هذا أولا.

وثانيا: إن القرآن ذكر في سورة مريم أن روح الله تمثل لمريم بشرا ليهب لها غلاما ولم يذكر أسلوب الهبة. وروح الله في سورة مريم يعني على ما تلهمه العبارة بكل قوة بل وصراحة ملك الله وبين هذا وبين فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وفَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا [التحريم: 12] فرق واضح. وثالثا: إن القرآن لم يذكر في سورة آل عمران في سياق ذكر قصة ولادة عيسى نفخا ولا روحا مرسلا وإنما بشرى من الملائكة بكلمة الله كما ترى في هذه الآيات: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) . ورابعا: إن روح الآيات التي وردت فيها هذه التعبيرات تلهم قصد تقرير كون خلقة عيسى عناية ربانية ومعجزة ربانية ونفي أي جزئية إلهية عنه وقصد تقرير كون عيسى عبدا من عباد الله ورسوله ولا يصح أن يكون ولدا له أو مندمجا معه في الألوهية أو صورة من صورها وتنزيه الله عن هذه المعاني وتقرير وحدانيته وكمال صفاته كما جاء ذلك في آيات سورة النساء هذه: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [172] . فالواجب والحالة هذه الوقوف عند الحدّ الذي وقف عنده القرآن دون تزيد مع ملاحظة ما تلهمه روح الآيات ومع اعتبار أن التنوع الذي يبدو في التعبيرات هو بقصد التقريب والتمثيل وملاحظة أن ما قصد تقريره متصل بالدعوة النبوية إلى الله

وحده وتنزيهه عن الولد والشرك بأي معنى من المعاني وصورة من الصور وأن الله ليس كمثله شيء وأن كل صفاته وما يصحّ أن ينسب إليه أو يعبر به عنه بما في ذلك تعبير (روحنا) و (روحه) و (روحه منه) بمعنى حياته يجب أن يكون مندمجا في معنى وضابط ليس كمثله شيء وأن عدم المماثلة مما يمتنع أن يكون شيء ما منه منتقلا إلى غيره. ولقد جاء وفد من نصارى نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة فتناظر معه في أمر عيسى عليه السلام فقرر لهم ما جاء عنه في السور المكية مثل سورة مريم وسورة الأنبياء التي نحن في صددها فأصرّوا على عقيدتهم فقال لهم تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61) كما أمرته آية سورة آل عمران [61] فأحجموا ثم قالوا له: ألست تقول إن عيسى من روح الله وكلمته؟ قال: بلى فقالوا هذا حسبنا كأنهم رأوا فيه حجة عليه فأنزل الله فيما أنزل في صدد هذه المناظرة آية سورة آل عمران هذه: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ «1» [7] كأنما أريد أن يقال فيها ردا على قولهم إن القرآن إذا كان يقرر أن عيسى من روح الله أو كلمة منه فلا يصح أن يستنبط إن القرآن إذا كان يقرر أن عيسى من روح الله أو كلمة منه فلا يصح أن يستنبط من ذلك حجة على أنه ابن الله أو جزء منه أو صورة عنه. فهذا تمحّل في التأويل ابتغاء تبرير الهوى والباطل وغير متسق مع المحكم من القرآن الذي يقرّر بصراحة وقطعية أن الله واحد لا شريك له ولا ولد وأنه ليس ثالث ثلاثة وأن المسيح ليس إلها ولا ابنا لله ولا صورة عنه ولا جزءا منه. وكل ما في الأمر أنه يقرر كون ولادته معجزة ربانية بالأسلوب الذي يمكن أن يعبر به عن ذلك بلسان البشر. حيث ينطوي في هذا توكيد لما قلناه من أن العبارة القرآنية هي للتقريب والتمثيل.

_ (1) اقرأ تفسير سورة آل عمران في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والمنار.

[سورة الأنبياء (21) : آية 92]

هذا، ويحسن أن نزيد على ما قلناه في سياق كل حلقة أن تعبير (التنجية) لأنبياء الله و (استجابة الله) لهم وعنايته بهم بسبب إخلاصهم وصبرهم وخشوعهم وعبادتهم وشكرهم قد تكرر في هذه الحلقات: مما قد يجعل من مقاصد تشجيع النبي والمسلمين وتطمينهم والتنويه بهم ودعوتهم إلى التأسي بأنبياء الله. والسورة بعد مما يقدر أنها نزلت في الثلث الأخير من العهد المكي الذي ماتت فيه أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها التي كانت من أعظم مشجعيه ومؤاسييه في مواقفه العصيبة، ومات فيه كذلك أبو طالب عمّه ومناصره حيث يحتمل أن يكون ضغط زعماء المشركين قد اشتد واشتد نتيجة لذلك غمّ النبي وخوف المؤمنين فجعله هذا كما روته الروايات يذهب إلى الطائف لعلّه يجد نصيرا ويتصل بزعماء القبائل في المواسم وبزعماء الأوس والخزرج أهل يثرب من أجل ذلك وحيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت تضمين الحلقات بما فيه البشرى والتطمين بالنجاة والنصر «1» . [سورة الأنبياء (21) : آية 92] إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) . (1) أمتكم أمة واحدة: أولا الأمة هنا بمعنى الملّة أو الطريقة أو الدين والجملة بسبيل الإيذان بأن ملّة المسلمين أو دينهم أو طريقتهم وملّة أنبياء الله السابقين أو دينهم أو طريقتهم واحدة لا تعدد لها. وثانيا قرئت التاء بأمتكم وأمّة بالفتح وقرئت بالضم وقرئت تاء أمتكم بالضم وتاء أمة بالفتح. وفي القراءة الأولى تكون أمتكم بدلا من (هذه) التي هي في مقام اسم إن وتكون أمة بدلا من أمتكم أو في مقام الحال ويكون خبر (إن) مقدرا وهو غير متفرقة. وفي القراءة الثانية تكون أمتكم خبر إن وتكون أمة بدلا من أمتكم. وفي القراءة الثالثة تكون أمتكم خبر إن

_ (1) انظر سيرة ابن هشام ج 2 ص 25- 38.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 93 إلى 95]

وأمة في مقام الحال على ما علّله المفسرون، وكل من هذه التعليلات وارد والله أعلم. هذه الآية موجهة على ما يبدو من ضمير الجمع المخاطب إلى النبي والمؤمنين كالتفات وتعقيب بعد سلسلة قصص الأنبياء. واحتوت هتافا لهم بأن طريقة عبادة الله وحده والخضوع له وحده والإخلاص له وحده والاستعانة به وحده وعمل الصالحات والخيرات التي سار عليها أنبياء الله هي الطريقة الوحيدة التي يجب عليهم أن يسيروا عليها ويثبتوا فيها. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 93 الى 95] وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) . في الآية الأولى: إشارة إلى ما كان من افتراق الناس واختلافهم في أمور دينهم وملتهم وتقرير بأن الجميع راجعون إلى الله. وفي الآية الثانية: إشارة إلى الفريق الذي سار على الطريقة القويمة وآمن بالله وعمل الصالحات وتقرير بأن عمله لن يضيع وأن الله قد سجله له. وفي الآية الثالثة: إشارة إلى الفريق الذي انحرف عن الطريقة القويمة فاستحق غضب الله وهلاكه فإنها بعد أن يكون هلاك الله حل فيه لا يقبل منه رجوع ولا توبة. أما الآية الثالثة فقد تعددت التأويلات التي يرويها المفسرون عن ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم لها «1» . منها أن القرى التي يهلكها الله تعالى لا يرجع منهم راجع ولا يتوب منهم تائب ومنها أنه محرم عليهم أن يرجعوا إلى دنيا. ومنها أن القرى التي استحقت هلاك الله فأهلكها لم يكن مقصورا رجوعها وإنابتها إلى الله.

_ (1) انظر تفسيرها في كتب الطبري والبغوي والطبرسي والزمخشري.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 96 إلى 97]

ومنها أن القرى التي أهلكها الله لا يبقى منهم أحد وفي هذا تخويف لأهل مكة. والتأويل الأخير وتعليله هما الأوجه فيما يتبادر لنا. وقد خطر لنا تأويل آخر أن القرية التي حقّ عليها القول قد فاتتها الفرصة فلم يبق لها مجال لرجوع وتوبة. وفي هذا كذلك إنذار وتخويف لكفار العرب. والآيات جاءت معقبة على الآية السابقة كما هو المتبادر وقد توخى فيها على ما تلهمه روحها تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وتبشيرهم وتطمينهم بحسن العاقبة مع تنبيه وإنذار للكفار بأنهم يوشكون أن يضيعوا الفرصة فيندمون ولات ساعة مندم. وهذا التنبيه والإنذار قد انطويا في آيات عديدة ومرّت أمثلة منها في سور سابقة. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 96 الى 97] حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97) . (1) من كل حدب: من كل مرتفع والمقصد من كل جهة. (2) ينسلون: يأتون ويسرعون. في الآيتين توكيد لإنذار الكفار الذي رجحنا أن الآية السابقة لهما قد تضمنته ووصف لما ينتظرهم من هول يوم القيامة: فحينما يحين الموعد المعين في علم الله لقيام الساعة وتبدو علائمها التي منها انفتاح يأجوج ومأجوج وزحفهم من كل ناحية أو إلى كل ناحية يكون قد اقترب تحقيق وعد الله. ولسوف تشخص حينئذ أبصار الكفار ذهولا وهلعا فيأخذون في العويل والندم لأنهم لم يحسبوا حساب هذا اليوم وغفلوا عنه ويعترفون بأنهم كانوا آثمين ظالمين. والآيات متصلة بالسياق السابق كما هو المتبادر، والمتبادر كذلك أن الكلام في الآية الأولى متصل بالسد الذي أنشأه ذو القرنين على يأجوج ومأجوج والذي ذكر في سورة الكهف ووردت الأحاديث بأن انهياره وخروج يأجوج ومأجوج منه

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 98 إلى 100]

من علامات الساعة مما ذكرناه وعلقنا عليه في سورة الكهف تعليقا يغني عن التكرار. وقد استهدفت الآيات إنذار الكفار وزجرهم وإرهابهم وحملهم على الارعواء قبل فوات الوقت كما استهدفت ذلك الآيات السابقة لها. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 98 الى 100] إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100) . (1) حصب: الواضح أن الكلمة متصلة بكلمة الحصباء وهي الحجارة الصغيرة التي تكون في الأرض فتتوهج من حرارة الشمس وتغدو كأنها جمرات من نار. والمقصد منها في مقامها تقرير كون الكفار ومعبوداتهم سيكونون وقودا للنار وقد قرئت (حطب) وقرئت (حضب) والحضب كل ما وضع في النار لتأجيجها. (2) زفير: هنا بمعنى الأنين الذي يخرج من المتألمين. وجه الخطاب في الآيات إلى الكفار السامعين في معرض التنديد والتقريع: فهم وما يعبدون من دون الله واردون جهنّم وصائرون لها وقودا ومكتوون بنارها وخالدون فيها ولسوف يصرخون ويئنّون من شدة عذابها وألمه ولن يسمعوا فيها أية بشارة بالنجاة. ولو كان ما يعبدون من دون الله آلهة حقيقيين لما وردوها بطبيعة الحال. والآيات متصلة بما سبقها سياقا وموضوعا كما هو ظاهر. وقد صرف بعض المفسرين جملة وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إلى الشياطين والجنّ ومنهم من صرفها إلى الأوثان. وكلا الاحتمالين وجيه. ولا وجه غيرهما أي إنه لا يصحّ صرفها إلى الملائكة الذين هم من معبودات الكفار بطبيعة الحال. وعلى كل حال فالآيات جاءت كما قلنا بسبيل التنديد والتقريع والإنذار.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 101 إلى 103]

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 101 الى 103] إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) . (1) حسيسها: صوتها والضمير عائد إلى جهنّم. (2) الفزع الأكبر: الخوف العظيم من المصير الرهيب. في هذه الآيات: ذكر لمصير الذين كتب الله لهم السعادة بإيمانهم وأعمالهم الصالحة هم ناجون مبعدون عن النار لا يسمعون صوتها ولا يشعرون بأثرها. وهم متمتعون بما تشتهيه أنفسهم خالدون في النعم لا يخيفهم ولا يحزنهم الهول الأكبر الذي يخيف الكفار. وتستقبلهم الملائكة مبشرين قائلين لهم هذا يوم نعيمكم الحقيقي الذي كنتم توعدون به في الدنيا. ولقد روى المفسّرون «1» روايات عديدة متغايرة في التفصيل متفقة في الجوهر خلاصتها أن الآيات نزلت في مناسبة جدل نشأ عن الآيات السابقة لها حيث وعظ النبي صلى الله عليه وسلم قريشا في فناء الكعبة الذي كان غاصّا بالأصنام فأشار إليها وتلا الآية: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) فانبرى له شخص اسمه ابن الزبعري، فقال له إن العرب يعبدون الملائكة والنصارى يعبدون المسيح واليهود يعبدون العزير وهم من عباد الله المقربين حسب اعترافك فهل هم أيضا حصب جهنم؟ فنزلت الآيات لتستثني هؤلاء من شمول الآيات السابقة «2» ولا نريد أن ننفي الرواية، ولكن الذي نرى أن الآيات تلهمه أكثر وخاصة الثالثة منها هو قصد الثناء والتنويه والتطمين للمؤمنين مقابلة لما احتوته الآيات السابقة لها جريا على الأسلوب القرآني. ومن المحتمل أن الحادث الذي

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي. (2) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والزمخشري والبغوي وابن كثير والخازن.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 104 إلى 107]

روته الروايات قد وقع فتليت الآيات بسبيل الرد على ابن الزبعري فالتبس الأمر على الرواة. ولقد احتوت آيات عديدة ما احتوته الآيات بسبيل ذكر مصير المؤمنين المخلصين وتطمينهم في المناسبات المماثلة حيث يدعم هذا ترجيحنا. وتكون الآيات بذلك متصلة سياقا وموضوعا بسابقاتها كما هو واضح. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 104 الى 107] يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) . (1) السجلّ: قيل إنه اسم كاتب من كتّاب النبي وقيل إنه اسم الملك الذي يطوي كتب أعمال الناس وقيل إنه صحيفة الورق التي يكتب عليها وأنكر الطبري القولين الأولين وقال إنه لا سند لهما ورجح القول الثالث وهو الصواب. وتكون الجملة بمعنى كطي الصحيفة التي يكتب عليها الكتب حين ما يريد كاتب أن يكتب وهذا هو الوجه والصواب فيما هو المتبادر. (2) الزبور: أكثر المفسرين على أن الكلمة هنا تعني كتب الله المنزلة مطلقا وهو الأوجه المتسق مع الآيات. (3) الذكر: قيل إن الكلمة كناية عن القرآن. أو كناية عن اللوح المحفوظ أو كناية عن التوراة أو إنها الكتب المنزلة مطلقا. ويتبادر لنا أنها في مقامها بمعنى التذكير، وورود كلمة الزبور قبلها قرينة على ذلك فيما نرى. في الآية الأولى: وعد يقطعه الله على نفسه بأنه سوف يعيد الخلق ثانية كما بدأهم أول مرة، وإيذان بأنه محقق وعده وقادر عليه. وسيطوي السماء حينئذ كما تطوى صحيفة الورق المعدة للكتابة. وفي الآية الثانية: إيذان بأن الله قرر في كتبه المنزلة بعد ما ذكر الناس وبين

لهم طريق الحق والهدى أن الأرض إنما يرثها عباده الصالحون. وفي الآية الثالثة: تقرير بأن فيما يذكر من ذلك بلاغا كافيا لمن استنار قلبه فآمن وعبد الله وحده. وفي الآية الرابعة: وجّه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله إنما أرسله ليكون رحمة للعالمين بما يقوم به من تبليغ الناس أوامره ونواهيه وتوضيح طريق الحق والهدى والدعوة إليه. وأسلوب الآيات قوي نافذ. وفي الآية الأخيرة معان قوية من التحبب والثناء والتطمين للنبي. ثم فيها إشارة قوية إلى مدى الرسالة المحمدية وما توخّى الله فيها من الرحمة الشاملة للعالمين في كل مكان وزمان. والمتبادر أن طيّ السماء وتمثيلها بالورقة التي تطوى للكتابة إنما قصد به توكيد قدرة الله. فالناس يستعظمون ما يرونه من مشاهد الكون وبخاصة السماء ويستعظمون البعث بعد الموت: فكأنما أريد أن يقال لهم إن ما تستعظمونه ليس هو بالنسبة إلى قدرة الله إلّا شيئا تافها وأن يمثل لهم بمثل يستطيعون فهمه. وهذا المعنى قد تكرر في مواضع كثيرة في صدد القيامة وأحداثها بأساليب متنوعة. والتنويع دليل على صحة ما نقرره إن شاء الله. وقصد تقرير قدرة الله على ذلك بارز في آية في سورة الزمر فيها عبارة مماثلة وهي: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) . ولقد روى ابن كثير عن ابن عباس تأويلا لجملة وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ مفاده أن هذه الرحمة شاملة للمؤمنين وغير المؤمنين فيكون للأولين رحمة في الدنيا والآخرة. أما رحمة الآخرين فتتمثل في المعافاة مما أصاب الأمم السابقة من الخسف والقذف والمسخ والاستئصال. ويتبادر لنا أن في هذا التأويل تكلفا وبخاصة في شقه الثاني. وأن هدف الجملة هو تقرير كون الله قد جعل رسالة رسوله رحمة للعالمين جميعهم بسبيل تقرير ما فيها من هدى والحثّ على الانضواء إليها.

تعليق على جملة أن الأرض يرثها عبادي الصالحون

ولقد أورد المفسر نفسه بعض أحاديث نبوية في سياق الجملة منها حديث عزاه إلى مسلم عن أبي هريرة قال: «قيل يا رسول الله ادع على المشركين قال إني لم أبعث لعّانا وإنما بعثت رحمة» . وحديث أخرجه الحافظ بن عساكر عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنا رحمة مهداة» . وحديث أخرجه كذلك ابن عساكر عن ابن عمر جاء فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الله بعثني رحمة مهداة بعثت برفع قوم وخفض آخرين» . وصحة الأحاديث محتملة وينطوي فيها إيذان بمدى مهمة الرسالة النبوية وما فيها من هدى ورحمة للناس. وفي هذا تساوق مع الجملة القرآنية. تعليق على جملة أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ولقد تعددت أقوال أهل التأويل من الصدر الإسلامي الأول التي يرويها المفسرون لجملة أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ منها أنها الجنة الأخروية ومنها أنها الدنيا أو أنها أرض الكفار التي يفتحها المسلمون. ومنهم من رأى فيها بشرى فوز النبي والمؤمنين على قريش في النهاية. ويلحظ أن الكلام هو في صدد مصائر الناس في الآخرة وتوكيد وعد الله بتحقيق ذلك مما يجعلنا نرجح الاحتمال الأول. ولا سيّما إن جملة عِبادِيَ الصَّالِحُونَ لا يمكن أن تنصرف إلّا إلى عباد الله المؤمنين الموحدين السالكين طريق الحق في حين أن كثيرا ما يتمكن في الأرض أناس غير متّصفين بذلك. وفي أوائل سورة (المؤمنون) التي تأتي بعد هذه السورة آيتان يمكن أن تكونا قرينة على تفسير كلمة يَرِثُها بما يتفق مع الاحتمال الأول وهما: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11) ، بل وفي سورة الزمر آية أكثر تأييدا لهذا التفسير وهي: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وهذه السورة مكيّة ولم يكن المؤمنون قد انتصروا وصاروا أصحاب السلطان في الأرض.

وبعض الباحثين يستلهمون من هذه الجملة مبدأ اجتماعيا ويقولون إنها تنطوي على تقرير كون التمكن في الأرض هو من حظّ كل شخص أو أمّة صالحة سالكة طريق الحق والعدل والخير والتعاون سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين ويستدلون على ذلك بواقع الدنيا من حيث تمكن كثير من الأفراد والأمم من مسلمين وغير مسلمين في الأرض ثروة وطمأنينة وسعادة وحكما وسلطانا حينما يكونون متصفين بذلك. وقد لا يخلو هذا من وجاهة متساوقة فعلا مع واقع الحياة ومع الشرح الذي شرحناه به جملة وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ الآية [117] من سورة هود. على أن جملة إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ قد تسوغ القول إن المقصود هنا هم المخلصون لله تعالى في الإيمان والعبادة والعمل الصالح. وهم بعد البعثة المحمدية المسلمون الذين يخلصون دينهم لله ويلتزمون حدود أوامره ونواهيه وأوامر رسوله ونواهيه. ولقد وعدهم الله في آية أخرى بالاستخلاف في الأرض إذا اتصفوا بهذه الصفات وهي: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ سورة النور الآية [55] وقد حقق الله لهم وعده فكانوا ورثة الأرض وحكامها في بعض حقبهم وبخاصة في زمن النبي عليه السلام بالنسبة لجزيرة العرب ثم في زمن الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين والفاطميين والعثمانيين لشطر عظيم مما كان معروفا من مشارق الأرض ومغاربها، ولسنا نرى تعارضا مع ذلك بين هذا وبين الحكمة الاجتماعية التي تحتمل أن تلهمها الجملة. وقد يرد أن من واقع الحياة أيضا أن يكون الظالمون والمجرمون والمنحرفون وغير الصالحين متمكنين في الأرض أفرادا كانوا أم ملوكا أم أمما. ولسنا نرى في هذا ما ينقض تلك الحكمة العامة الملموحة في الآية. وفي القرآن آيات فيها إقرار بذلك الواقع وإلى جانبها آيات كثيرة جدا فيها إيذان بأن الله أهلك بعضهم فورا أو

تأويل الشيعة للجملة السابقة واستطراد إلى موضوع المهدي وما ورد فيه من أحاديث وتعليق عليها

إنه إنما يؤخرهم إلى أجل ثم يأخذهم. ويكون أخذه لهم أليما شديدا أو إنه إنما يملي لهم إملاء وتنديد بالذين يظنون أن ما هم فيه حظوة من الله وإنذارات قارعة لهم بالعذاب والبلاء في الدنيا والآخرة ووعد بنصر المؤمنين والصالحين مما مرّ منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها. والجملة بعد تنطوي على تقرير كون العاقبة والنصر وإرث الأرض في النهاية هي لهؤلاء مهما كان للأولين من نجاح وتمكّن. تأويل الشيعة للجملة السابقة واستطراد إلى موضوع المهدي وما ورد فيه من أحاديث وتعليق عليها لقد روى الطبرسي المفسر الشيعي عن أحد الأئمة الاثني عشر أبي جعفر قوله: إن الصالحين في الآية هم المهدي وأصحابه في آخر الزمان وإن مما يدل على ذلك ما رواه الخاص والعام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يبعث الله رجلا صالحا من أهل بيتي يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا» . وروى المفسر حديثا مرويا عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزداد الأمر إلّا شدة ولا الناس إلّا شحّا ولا الدنيا إلّا إدبارا ولا تقوم الساعة إلّا على شرار الناس ولا مهدي إلّا عيسى» . ثم قال إن الحديث منقطع وإن بعض رواته متروكون أو مهمولون. وإن الأحاديث في ظهور المهدي صحيحة الأسناد. وساق حديثين واحدا رواه أبو داود عن عبد الله فيه نصّ الحديث الذي رواه أبو جعفر مع زيادة هي: «وفي رواية يواطىء اسمه اسمي» «1» . وواحدا رواه أبو داود كذلك عن أم سلمة قالت: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: المهدي من عترتي من ولد فاطمة» . والحديثان واردان في التاج أيضا أولهما معزوّ إلى أبي داود والترمذي وثانيهما إلى أبي داود والحاكم «2» . وفي

_ (1) انظر التاج ج 5 ص 311- 312. (2) المصدر نفسه.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 108 إلى 112]

هذا المصدر أحاديث أخرى في هذا الصدد منها حديث رواه الترمذي عن أبي سعيد قال: «خشينا أن يكون بعد نبيّنا حدث فسألناه فقال إن في أمتي المهديّ يخرج يعيش خمسا أو سبعا أو تسعا قلنا ما ذاك قال: سنين قال فيجيء إليه الرجل فيقول يا مهديّ أعطني أعطني فيحمله في ثوبه ما استطاع أن يحمله» «1» وحديث رواه أبو داود عن أبي سعيد أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المهديّ مني أجلى الجبهة أقنى الأنف يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا ويملك سبع سنين» «2» . ولقد كانت هذه الأحاديث حافزا لغير واحد من المنتسبين إلى سلالة فاطمة الطاهرة المتسمين باسم محمد- لأنها هي وحدها التي خلّفت ذرية يمكن أن تنتسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم- للخروج من آن لآخر على السلطان الإسلامي القائم أولهم محمد بن عبد الله المسمّى بالنفس الزكيّة الذي خرج باسم المهدي في زمن المنصور ثاني الخلفاء العباسيين وآخرهم محمد بن عبد الله مهدي السودان في أواخر القرن الماضي. كما كانت هذه الأحاديث مددا للشيعة الإمامية الاثني عشرية والسبعية ليعتبروا إمامهم المختفي في الكهف هو المهدي الذي سوف يخرج يوما ويحكم الأرض. ونخشى كثيرا أن يكون الهوى الحزبي قد لعب دوره في هذه المرويات ليتسلح الذي حدثته أو تحدثه نفسه بالخروج على السلطان بها كخبر نبوي يجب الإيمان به أو ليتسلح بها الشيعة الإمامية أو السبعية ليستمدوا منها الأمل والثبات على عقيدتهم. والله أعلم. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 108 الى 112] قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112) .

_ (1) المصدر السابق نفسه. (2) المصدر نفسه.

(1) آذنتكم على سواء: روى المفسرون عن أهل التأويل أن الجملة بمعنى أعلمكم أني وأنتم على حرب لا صلح بيننا. (2) إن أدري: لا أدري. (3) فتنة: اختبار وابتلاء. في الآيات: أمر للنبي بتبليغ الناس بأن ما يوحى إليه هو أن إلههم واحد لا شريك له وبأن يسألهم سؤال دعوة وتنبيه عما إذا كانوا مستعدين للاعتراف بذلك وإسلام أنفسهم لله وحده وبأن يقول لهم إذا امتنعوا عن ذلك أني قد أعلمتكم بالأمر وأبلغتكم وحي الله وصار بيننا حرب لا صلح له ولست أدري موعد تحقيق وعد الله هل هو قريب أم بعيد. ولست أدري إذا كان الله أراد اختباركم فجعل لكم مهلة إلى وقت معين في علمه. وأن الله على كل حال يعلم ما تقولونه وتبيتونه في جهركم وسرّكم وقصارى مهمتي إبلاغكم وإنذاركم وقد قمت بها. ولقد قرىء فعل القول في الآية الأخيرة بصيغة الماضي كما قرىء بصيغة الأمر. وتضمنت الآية دعاء النبي لله بأن يحكم بينه وبين قومه بالحق والاستعانة به على ما يقوله الكفار افتراء على الله وزورا. وعلى قراءة فعل القول بصيغة الأمر يكون ذلك أمرا من الله بأن يدعو ويستعين. وعلى القراءة الثانية يكون ذلك حكاية لدعائه واستعانته. والنفس تطمئن لصيغة الأمر لأنها متسقة مع صيغة الآيات الأخرى أكثر، وقد رجّح هذا الطبري وقال إن عامة الأنصار عليه. والآيات متصلة كذلك بسابقاتها. وأسلوبها قوي نافذ. وقد جاءت خاتمة للسياق الذي جاء معقبا على سلسلة آيات الأنبياء وجاءت في ذات الوقت خاتمة للسورة، وطابع الختام عليها بارز مماثل لكثير من خواتم السور.

سورة المؤمنون

سورة المؤمنون في السورة تنويه بصفات المؤمنين ومصيرهم السعيد. وتوكيد بالبعث، وتذكير بقدرة الله في خلق الإنسان والأكوان وما فيها من منافع وحقه في الشكر والإخلاص. وسلسلة قصص بعض الأنبياء ومواقف أقوامهم منهم في صدد التمثيل والإنذار للكفار وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وتطمينهم. وحملة على الكفار لاغترارهم بما يتمتعون به في الدنيا. وتبكيت لهم على وقوفهم من النبي صلى الله عليه وسلم موقف العناد والاتهام مع معرفتهم له ومع ما في مهمته من الخير المحض لهم المجرّد عن كل غرض. وحكاية لبعض أقوالهم في إنكار البعث وردود قوية عليهم من مشاهد قدرة الله وملكوته واعترافهم بذلك. وتصوير مصائر المؤمنين والكفار الأخروية بما فيه التطمين والبشرى للأولين والرعب والهول للآخرين. وفصول السورة مترابطة وآياتها متوازنة. وهذا يبرر القول أنها نزلت متتابعة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11) .

(1) اللغو: ما لا فائدة فيه من قول وعمل. (2) العادون: المتجاوزون للحدود بالعدوان. في الآيات بشرى بأسلوب التوكيد بالفلاح والفوز للمؤمنين الذين يتصفون بالصفات المذكورة فيها. وتقرير بأن منازلهم الفردوس خالدين فيها، وعبارتها واضحة. والسلسلة من الجوامع القرآنية في وصف المؤمن وأخلاقه وبيان ما يجب عليه تجاه ربّه وتجاه الناس وما يكون من الفلاح والنجاح والسعادة والطمأنينة وحسن العاقبة لأصحاب هذه الصفات التي هي جماع صفات الخير الروحية والأخلاقية والشخصية والاجتماعية. وتنطوي على حثّ على الاتصاف بها كما تنطوي على تقرير أثر الإيمان في نفس صاحبه حيث يجعله يخشع في صلاته لأنه أمام ربّه ويداوم على الصلاة لله فيظل يذكره ويمتنع نتيجة لذلك عن كل فحش وعبث ويؤتي الزكاة ويفعل كل ما هو حقّ وخير وبرّ وعدل وأمانة ووفاء. وهذه الصفات والحثّ على الاتصاف بها والتزامها مما تكرر في القرآن المكي والمدني بحيث تكون من أسس الدعوة الإسلامية. ولقد روى الترمذي حديثا «1» في صدد هذه الآيات عن عمر رضي الله عنه قال: «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي سمع عند وجهه كدويّ النحل فأنزل عليه يوما فمكثنا ساعة فسرى عنه فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال: اللهمّ زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنّا وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا وأرضنا وارض عنّا ثم قال أنزل عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ حتى ختم عشر آيات» .

_ (1) انظر تفسير ابن كثير والتاج ج 4 ص 162 فصل التفسير.

ولقد روى الطبري عن محمد بن سيرين «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلّى نظر إلى السماء فأنزلت الآية الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ فجعل بعد ذلك وجهه حيث يسجد» . وروى عن ابن سيرين أيضا هذا عن أصحاب رسول الله ونصّ الرواية «أنّ أصحاب رسول الله كانوا يرفعون أبصارهم في الصلاة إلى السماء حتى نزلت قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ فجعلوا رؤوسهم بعد ذلك نحو الأرض» وهذه الروايات لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة ولكنها محتملة الصحّة. ولقد تعددت التعريفات التي أوردها أو رواها المفسرون للخشوع منها أنه خشوع القلب والأطراف. ومنها أنه التذلل والخضوع. ومنها أنه الاستشعار بالخوف والتواضع. ومنها أنه غضّ البصر وعدم الحركة والتلفّت. وكلّ من هذه الأقوال واردة ووجيهة. ولقد أورد البغوي بعض الأحاديث النبوية في هذا الصدد منها حديث عن عائشة (رض) قالت: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد» . وحديث عن أبي ذرّ (رض) قال: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يزال الله مقبلا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت انصرف عنه» . وحديث عن أنس بن مالك قال: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم فاشتدّ قوله حتى قال لينتهين عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم» . وحديث لم يذكر راويه جاء فيه: «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أبصر رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال: لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه» . وحديث عن أبي ذرّ قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يمسح الحصى فإنّ الرحمة تواجهه» . وجميع التعريفات الواردة وجيهة. والأحاديث وإن لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة فإن عبارتها وروحها تجعل احتمال صحتها قوية. ولقد روى أصحاب السنن حديثا فيه تأييد عن الفضل بن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الصلاة مثنى مثنى. تشهّد في كلّ ركعتين وتخشّع وتضرّع وتمسكن وتقنع يديك يقول ترفعهما إلى ربّك مستقبلا ببطونهما وجهك وتقول يا ربّ يا ربّ ومن لم يفعل فهي

خداج» «1» . وروى أبو داود عن عمار بن ياسر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الرجل لينصرف من صلاته وما كتب له إلّا عشرها تسعها ثمنها سبعها سدسها خمسها ربعها ثلثها نصفها» «2» . وروى أبو داود عن عقبة بن عامر قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ويصلّي ركعتين يقبل بقلبه ووجهه عليهما إلّا وجبت له الجنة» «3» . وواضح أن الأحاديث والتعريفات استهدفت تأديب المسلم ليكون في صلاته منصرفا عن كل شيء متفرغا في قلبه وجسمه إلى الله عز وجل. على أننا نرجح أن الآيات انطوت في الوقت نفسه على التنويه بالمؤمنين في العهد المكي وتقرير كونهم متصفين بهذه الصفات. وإذا صحّ ترجيحنا إن شاء الله ففيها صورة واقعية رائعة لأثر الإيمان القوي في ذلك الرعيل الأول رضوان الله عليهم. وقد يؤيد ترجيحنا آيات عديدة وردت في سور عديدة من السور السابقة فيها تنويه بالمؤمنين وأخلاقهم وصفاتهم وأثر الإيمان فيهم منها هذه الآيات في سورة الذاريات: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) . وجملة وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ من الأدلة المؤيدة لما قررناه في سياق سورة المزمل من كون الزكاة كانت مفروضة وممارسة في العهد النبوي المكي مثل الصلاة. وكلام المفسرين متسق مع ذلك «4» .

_ (1) التاج ج 1 ص 175- 176. (2) المصدر نفسه. [.....] (3) المصدر نفسه. (4) انظر تفسير الآيات في تفسيري ابن كثير والبغوي.

تعليق على الأمانة وخطورتها وما ورد فيها في كتاب الله وسنة رسوله

تعليق على الأمانة وخطورتها وما ورد فيها في كتاب الله وسنّة رسوله وبمناسبة ورود الآية وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ ضمن السلسلة نقول إن التنويه بالذين يرعون أماناتهم والتنديد بمن يخونونها والأمر بأداء الأمانات إلى أهلها قد تكرر في القرآن والسنّة مما يدل على ما أسبغ كتاب الله وسنّة رسوله على هذا الأمر الخطير المتّصل بصلات الناس ومعاملاتهم وحقوقهم ومعايشهم وثقتهم اتصالا شديدا والذي قد ينتج عن الإخلال به العداوة والبغضاء والنزاع في المجتمع الإسلامي. والذي يناقض الإخلال به في حدّ ذاته المعاني الجليلة المنطوية في الإيمان والإسلام. ففي سورة المعارج آية مماثلة لهذه الآية فيها تنويه بالمؤمنين مثلها وهي الآية [32] وفي سورة البقرة هذه الآية فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ [283] وفي سورة آل عمران آية فيها تنديد شديد باليهود لأنهم لا يؤدون الأمانات التي يؤتمنون عليها من غيرهم وهي: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وفي سورة النساء هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) وفي سورة الأنفال هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) . ولقد أخرج ابن أبي حاتم حديثا عن سعيد بن جبير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «ما من شيء كان في الجاهلية إلّا هو تحت قدميّ هاتين إلّا الأمانة فإنّها مؤداة إلى البرّ والفاجر» «1» . وأخرج الطبري بطرقه حديثا عن عبد الله بن مسعود عن

_ (1) النص من تفسير ابن كثير للآية [75] من سورة آل عمران.

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «القتل في سبيل الله يكفّر الذنوب كلّها- أو قال يكفّر كلّ شيء- إلّا الأمانة يؤتى بصاحب الأمانة فيقال له أدّ أمانتك فيقول أنّى يا ربّ وقد ذهبت الدنيا ثلاث مرات أمر من الله وجواب منه فيقول اذهبوا به إلى أمّه الهاوية فيذهبوا به إلى الهاوية فيهوي بها حتى ينتهي إلى قعرها فيجدها هنالك كهيئتها فيحملها فيضعها على عاتقه فيصعد بها إلى شفير جهنّم حتى إذا رأى أنه قد خرج زلّت قدمه فهوى في أثرها أبد الآبدين» «1» . وأخرج الإمام أحمد حديثا عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أربع إذا كنّ فيك فلا عليك مما فاتك من الدنيا، حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفّة طعمة» «2» . وأخرج الإمام أحمد وأهل السنن حديثا عن سمرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» «3» . وأخرج الترمذي حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله» «4» . وأخرج الترمذي أيضا حديثا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمؤمن من أمّنه الناس على دمائهم وأموالهم» «5» . وهناك حديث لم يروه المفسرون وقد ورد في التاج ورواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» «6» . وبعض هذه الأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. ولكن هذا لا يمنع صحتها. وقد ورد بعضها في هذه الكتب. وواضح ما في الآيات والأحاديث من تلقين وتأديب وتعليم للمسلم يرتفع به إلى أعلى مراتب الأخلاق الفاضلة ويجعل الأمانة بخاصة من أمهات أخلاق المؤمن المخلص.

_ (1) النصان من تفسير ابن كثير للآية [72] من سورة الأحزاب. (2) المصدر نفسه. (3) النص من تفسير القاسمي للآية [58] من سورة النساء. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه. (6) التاج ج 5 ص 41.

تعليق على استفراش ملك اليمين

وآيتا النساء [58] والأنفال [27] أوسع شمولا من نطاق التعامل الفردي حيث ينطوي فيهما تلقين لأولي أمر المسلمين وحكامهم وللمؤمنين في صدد مصلحة الإسلام والمسلمين العامة. وسوف نزيد هذا شرحا في مناسبة تفسير الآيتين. تعليق على استفراش ملك اليمين وبمناسبة ورود الإشارة إلى رفع الحظر عن استفراش ملك اليمين نقول إننا علقنا على موضوع الرقيق الذي كان يسمّى ملك اليمين في سياق سورة البلد تعليقا مختصرا مفيدا. غير أن الموضوع الذي جاء في هذه الآيات يتحمل تعليقا آخر لأنه صار من التشريعات الإسلامية وقد ذكر بعد هذه السورة في سور مكيّة ومدنيّة. والموضوع هو إباحة استمتاع مالك الإماء بإمائه استفراشا بدون قيد وعقد. وما قلناه في تعليقنا في سياق سورة البلد من أن الرقّ كان نظاما عاما مألوفا عند العرب وغيرهم قبل الإسلام ولم ينشئه الإسلام نقوله في صدد إباحة استفراش الإماء. حيث اقتضت حكمة التنزيل ذلك مماشاة للواقع الذي لا فحش فيه وفيه تخفيف وتيسير على المسلمين. ولقد توسّع المسلمون في هذا الأمر فاعتبروا كلّ من أمكن خطفه أو شراؤه من السود وغير السود من غير المسلمين رقيقا واستباحوا استفراش النساء اللاتي ينالونهن بهذه الطريقة أو يولدون من آباء وأمهات نالوهم بهذه الطريقة في حين أن الشرع الإسلامي لا يعتبر رقيقا إلّا من كان رقيقا قبل الإسلام أو تولّد منه أو من استرقّه المسلمون من أسرى الحرب أو من الأعداء غير المسلمين أو تولّد منهم. ولا يبيح استرقاق المسلمين أبدا. بل ولا غير المسلمين إذا لم يكونوا أعداء محاربين. ولا يعتبر كل غير مسلم عدوا محاربا، وإنما العدو المحارب هو المعتدي على المسلمين من غير المسلمين فقط. بل إن إباحته لاسترقاق أسرى الحرب من الأعداء المحاربين من غير المسلمين ليست واجبة بل ظلت في حدود

ضيقة حيث جعلت للأسرى سبيلا لعدم استرقاقهم على ما تلهمه آية سورة محمد هذه: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها «1» [4] وأكملت السنّة النبويّة المسكوت عنه في هذه الآية حيث أجازت استرقاق من لم يفتد نفسه أو من لم يرض ولي أمر المؤمنين أن يمنّ عليه بدون فداء ومن تولّد منهم. وبناء على هذا فاستفراش النساء بصفة ملك اليمين إذا لم يكن رقّهم في نطاق هذه الحدود ليس من الشرع الإسلامي في شيء. ولما كان فحوى وتلقين القرآن والسنّة النبويّة متجهين إلى تحرير الرقّ وإلغائه بمختلف الوسائل فمن الممكن أن يقال إن إلغاء الرقّ المتفق عليه في العصر الحاضر بين معظم دول الأرض ومن جملتها الدول الإسلامية هو متّسق مع ذلك. وهذا يجعل استمرار بعض المسلمين على اعتبار الرقّ مشروعا برغم ذلك ثم برغم خروج جلّ صوره أو كلها من نطاق الحدود الشرعية الإسلامية واستباحة استفراش النساء بصفة ملك اليمين محلّ نظر وعجب وتساؤل بل ومحلّ استنكار شرعي. هذا، ولقد نبّه بعض المفسرين إلى أن جملة ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ محصورة الدلالة في الإماء دون الغلمان وأن إتيان الغلمان من ملك اليمين محرّم كإتيان غيرهم وهذا حقّ لا محلّ فيه لتوهّم ولا مكابرة ومتسق مع نصّ العبارة وروحها ومقامها. كذلك نبهوا إلى أن هذه الجملة هي في صدد إباحة الإماء لمالكيهم من الرجال وأنه لا يجوز للحرة أن تمكّن منها عبدها تأوّلا للجملة وهذا حق وصواب. ومتسق مع نصّ العبارة وروحها ومقامها معا.

_ (1) الآية الأولى من السورة وصفت الذين كفروا بوصف الذين صدوا عن سبيل الله أيضا. وهذا الوصف برر قتالهم الذي أمرت به هذه الآية.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 إلى 16]

كذلك مما نبّه عليه بعض المفسرين أن في الآيات [5- 7] دليلا على حرمة الاستمناء باليد. وقد ذكر البغوي الذي نبّه على ذلك فيمن نبهوا أن هذا قول أكثر العلماء. ولقد ذكر ابن كثير أن الإمام الشافعي رحمه الله ومن وافقه استدلّ بهذه الآيات على حرمة الاستمناء باليد على اعتبار أن الآية تأمر بحفظ الفروج باستثناء إتيان الزوجات وملك اليمين. ومما قاله هذا المفسر أن القائلين بهذا استأنسوا بحديث رواه الإمام الحسن بن عرفة بطرقه عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولا يجمعهم مع العاقلين ويدخلهم النار أوّل الداخلين إلّا أن يتوبوا ومن تاب تاب الله عليه الناكح يده والفاعل والمفعول به ومدمن الخمر والضارب والديه حتى يستغيثا والمؤذي جيرانه حتى يلعنوه والناكح حليلة جاره» . وقد علق ابن كثير على هذا الحديث قائلا إنه غريب وإسناده فيه من لا يعرف لجهالته. وهذا التعليق لا ينقض قول الشافعي وغيره من العلماء كما هو المتبادر حيث روي أن رأيهم استلهام من الآية. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 الى 16] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16) . تعليق على آية وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ والآيات الأربع التالية لها عبارة الآيات واضحة. وقد جاء مثلها أو شيء منها في سور سابقة مثل سور فاطر والزمر وغافر. وبعض العبارات الواردة هنا تتحمل بعض التعليقات. فأولا: إن المفسرين قالوا في صدد تعبير سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ إنه إشارة إلى

قطعة الطين التي أمر الله عزّ وجلّ الملائكة باستلالها من الأرض وخلق منها آدم وأوردوا بيانات معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم عن كيفية استلال قطعة الطين وإرسال جبريل ثم ميكائيل ثم عزرائيل إلى الأرض لهذه المهمة، فيها الغريب العجيب. وليس لما أوردوه سند وثيق. والموضوع من المغيبات التي لا تصحّ إلّا بمثل ذلك. ولقد قال الذين يميلون إلى استنباط الأسرار والفنون من القرآن والتوفيق بينه وبين النظريات العلمية والفنية إن في الآيات ما يمكن الاستدلال به على كون الإنسان إنما صار إنسانا بعد سلسلة تحولات طويلة جدا بدأت من نشوء الحياة من الماء والطين، ونرى في هذا تكلفا وتحميلا للعبارة غير ما تتحمل. والذي يتبادر أن هذه الآيات وأمثالها العديدة التي وردت في سور عديدة وذكر فيها خلق آدم أو الإنسان من طين ثم جعل نسله بطريق النطفة إنما سيقت في معرض التذكير والعظة والتدليل على قدرة الله بأسلوب يستطيع السامعون على اختلاف طبقاتهم فهمه ولمسه والاعتبار به والاستدلال منه على قدرة الله. وأن الأولى الوقوف منها عند ما وقف عنده القرآن مع ملاحظة هذا الهدف البارز فيها. وأنه لا طائل من وراء التزيد والتخمين وتحميل العبارة غير ما تتحمل ونرى ذلك إخراجا للقرآن من نطاق قدسيته وأهدافه كما هو رأينا في كل الشؤون المماثلة. وثانيا: لقد تعددت التفسيرات التي يرويها المفسرون عن بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم لجملة ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ (14) منها أنها عنت نفخ الروح فيه بعد ما كان جهادا ومنها أنها عنت استواء الشباب ونبات الشعر والأظافر والأسنان. ومنها أنها عنت الذكورة والأنوثة. ومنها أنها عنت تنقّله في أطوار الحياة بعد الولادة. ويلحظ أن هذه التفسيرات تصح أن ترد بالنسبة للإنسان وللحيوان وبخاصة ذوات الثدي منه على السواء كما لا يخفى. والذي يتبادر لنا أن الجملة قد قصدت التنويه بالإنسان الذي شاءت حكمة الله عز وجل أن يميزه عما سواه من الحيوان بتكامل العقل والتكليف وباختصاصه بالبعث بعد الموت لتوفيته

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 17 إلى 22]

بما يكسبه في الدنيا فصار بذلك خلقا آخر. والله أعلم. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 17 الى 22] وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) . (1) سبع طرائق: كناية عن السموات السبع وكون بعضها فوق بعض من التطارق. وفي سورة الملك جاء الوصف بعبارة أوضح الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً. (2) شجرة تخرج من طور سيناء: الجمهور على أنها شجرة الزيتون. (3) صبغ: بمعنى الإدام. في هذه الآيات تقريرات أخرى عن مشاهد قدرة الله في الكون وعنايته بالخلق الذي خلقه وأفضاله على الناس فيما جعل لهم فيه من منافع ويسره من وسائل: 1- فقد خلق فوق الأرض سبع سموات بعضها فوق بعض. 2- ولم يغفل عن تهيئة أسباب الحياة للخلق الذي خلقه على الأرض حيث ينزل الماء من السماء بقدر وحساب فيسكنه في الأرض لينتفع الناس به في حين أنه قادر على إفنائه، وحيث ينشىء لهم به شجر النخل والعنب وما يجني الناس منه من الفواكه الكثيرة ويأكلونها. وينشىء لهم به أيضا شجرة الزيتون التي تنبت في طور سيناء وتثمر الثمرة التي فيها الدهن والإدام. وحيث سخّر الله للناس الأنعام ليشربوا ألبانها ويأكلوا لحومها ويركبوا عليها ويحملوا أثقالهم وينتفعوا بها شتّى الانتفاعات. وحيث سخّر الفلك لهم لتجري في البحر فيقوموا عليها بالرحلات البحرية

تعليق على تخصيص طور سيناء بشجرة الزيتون

التي تعود عليهم بمتنوع الفوائد. والآيات معطوفة على ما سبقها ومتصلة بموضوعها كما هو المتبادر وقصد التذكير والوعظ فيها واضح كما هو شأن ما سبقها أيضا. وفي استمرار الخطاب للمخاطبين وهم من بني آدم وتذكيرهم بنعم الله عليهم مع أن من هذه النعم ما يستفيد منه غيرهم من الحيوانات توكيد وتدعيم لما قلناه قبل قليل في هدف ومدى جملة ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ كما هو المتبادر. تعليق على تخصيص طور سيناء بشجرة الزيتون وشجرة الزيتون ليست محصورة في طور سيناء كما هو معلوم. وكانت تنبت في بلاد كثيرة أخرى منها ما يجاور طور سيناء أي فلسطين ومنها ما لا يجاوره مثل سواحل شمال إفريقيا وسواحل جنوب أوروبا الشرقية وجزر الأبيض المتوسط. بل كانت تنبت في الحجاز على ما تلهمه آيات سورة الأنعام هذه: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) ووَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ [141] . والذي يتبادر لنا أن تخصيص طور سيناء بها آت من أن العرب الذين كانوا أول من يسمع القرآن يعرفون أن منطقة طور سيناء وما جاورها هي منابت الزيتون في الدرجة الأولى. ولعلهم أتوا منها بالغراس التي غرسوها في بلادهم حينما كانوا يرحلون رحلاتهم التجارية فيمرون في هذه المنطقة في طريقهم إلى مصر وعودتهم منها.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 23 إلى 30]

ولقد روى الترمذي والحاكم وصححه حديثا عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلوا الزيت وادهنوا به فإنّه من شجرة مباركة» «1» حيث ينطوي فيه تنويه بهذه الشجرة المباركة. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 23 الى 30] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) . (1) يتفضّل عليكم: هنا بمعنى يتظاهر بالفضل والتفوّق عليكم. (2) بأعيننا ووحينا: بحراستنا وعنايتنا وإرشادنا. (3) وإن كنا لمبتلين: ولم نكن بما فعلنا إلّا مختبرين للناس. هذه حلقة من سلسلة قصصية فيها ذكر بعض الأنبياء مع أقوامهم. ومع أنها لم تجىء عقب حكاية مواقف الكفار جريا على الأسلوب القرآني فإنها جاءت عقب التذكير بمشاهد قدرة الله وأفضاله على الناس. وهذا معنى غير منقطع عن ذلك. والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت إيحاءها عقب ذلك لبيان مواقف بعض الأمم من نعم الله وأفضاله.

_ (1) التاج ج 3 ص 122.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 31 إلى 44]

وعبارة الحلقة واضحة. وقد احتوت إشارة إلى رسالة نوح إلى قومه وموقف قومه منه ومن رسالته وما كان من إنشائه الفلك بأمر الله وتنجية من شاء معه عليه وإغراقه الكافرين بالماء الذي فار من التنّور وصار طوفانا. والقصة قد تكررت في سور عديدة مسهبة ومقتضبة وما جاء هنا قد جاء في سورة هود خاصة مع تفصيل أوسع. وهدف التذكير والوعظ والإنذار وهو هدف القصص القرآنية عامة بارز على هذه الحلقة. ويلفت النظر إلى ما في أقوال قوم نوح لنبيهم وما حكته آيات عديدة مرّت أمثلة منها من أقوال الكفار العرب للنبي صلى الله عليه وسلم مثل التحدي بالإتيان بالملائكة ومثل قولهم إن به جنة وتواصيهم بالتربص به حتى يموت إلخ من تماثل حيث استهدف بذلك تذكير كفار العرب بما كان من موقف قوم نوح من نبيهم المماثل لموقفهم وما كان من عاقبة هؤلاء وإنذارهم بعاقبة مماثلة إذا لم يرتدعوا ويرعووا. والآية الأخيرة بمثابة تعقيب على القصة وهدف الإنذار فيها بارز أيضا. فالله يرسل رسله لاختبار الناس ويعاملهم بما يكون من نتائج هذا الاختبار. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 31 الى 44] ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44)

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 45 إلى 49]

(1) أترفناهم في الحياة الدنيا: كناية عن الزعماء والأغنياء. (2) هيهات هيهات: ما أبعد ذلك. (3) الصيحة: كناية عن عذاب الله وهي عامة المعنى. (4) غثاء: ما يحمله السيل من الحشائش الجافة والأوراق الساقطة والأغصان المكسورة. والكلمة كناية عما صاروا إليه بعد عذاب الله من دمار وتحطيم. (5) تترى: واحدا بعد واحد. (6) جعلناهم أحاديث: جعلناهم عبرة يتحدث الناس عنهم بعدهم. لم تتضمن هذه الآيات أسماء أنبياء وأقوام. ولكن عبارتها تلهم أنها تعني أقوام هود وصالح وشعيب وغيرهم ممن ذكرتهم سلاسل القصص في السور الأخرى. وعبارتها واضحة. وهدف التذكير والعظة والتنديد والإنذار فيها بارز في جملتها ثم فيما احتوته من تماثل بين أقوال الأقوام لرسلهم وما حكته آيات عديدة من أقوال كفار العرب للنبي صلى الله عليه وسلم مثل كونه بشرا مثلهم ومثل كون ما يعدهم من البعث بعد أن يموتوا ويصبحوا ترابا وعظاما مستحيلا ومثل أنه يفترى على الله الكذب إلخ. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 45 الى 49] ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) . (1) قوما عالين: بمعنى متعالين عن الرسل الذين جاءوهم.

[سورة المؤمنون (23) : آية 50]

(2) عابدون: خاضعون أو عبيد. وهذه الآيات حلقة من السلسلة. وعبارتها واضحة هي الأخرى. وفيها إشارة إلى رسالة موسى وهرون عليهما السلام لفرعون وقومه وما كان من إيتاء الله تعالى موسى الكتاب لعلهم يهتدون به. وما كان من استكبارهم واستعلائهم وتبجحهم باستبعاد قوم موسى وهرون وتكذيبهم لهما لأنهم بشر مثلهم فضلا عن ذلك وما كان من إهلاك الله لهم. وقد استهدفت هي الأخرى التذكير والإنذار كما استهدفته الحلقات السابقة على ما هو باد من أسلوبها. [سورة المؤمنون (23) : آية 50] وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50) . (1) الربوة: المكان المرتفع النزه. (2) معين: نبع لا ينضب. في هذه الآية إشارة إلى معجزة الله تعالى في عيسى وأمه المتمثلة في ولادته من أمّ لم يمسسها بشر. وما كان من عناية الله بهما وإيوائهما مأوى أمينا في ربوة ذات مياه لا تنضب. والصلة ملموحة بين هذه الآية وسلسلة القصص على ضوء الآيات القرآنية التي ذكرت ولادة عيسى ورسالته وموقف الناس منهما حيث كانت تلك المعجزة اختبارا للناس فمنهم من كفر بها ومنهم من آمن ومنهم من أساء فهمها وتأويلها، وحيث كانت رسالة عيسى لقومه فمنهم من آمن بها ومنهم من كفر كذلك على ما حكته آيات قرآنية عديدة مرّت أمثلة عديدة منها. ولقد تعددت الأقوال في مكان الربوة الموصوفة بالقرار والمعين فقيل عزوا إلى كعب الأحبار وبعض التابعين إنها الرملة وإنها بيت المقدس وإنها مصر وإنها

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 51 إلى 52]

دمشق أو غوطتها «1» . وهي أقوال قائمة على التخمين. وقد قال ابن كثير إنها مكان النخلة التي ألجأ المخاض مريم إليها وأجرى الله تحتها نهرا حينما ولدت ابنها على ما جاء في قصة ولادة عيسى في سورة مريم التي مرّ تفسيرها وقال إن القرآن يفسر بعضه بعضا. وفي إنجيل متى وهو أحد الأناجيل المتداولة اليوم أن ملك الربّ تراءى ليوسف النجار زوج مريم وقال له خذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك فإن هيرودوس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه فأخذهما إلى مصر حيث بقيا فيها إلى أن تراءى ملك الربّ ثانية له وقال له ارجع بالصبي وأمه إلى أرض إسرائيل فقد مات طالبو نفس الصبي «2» . والمرجح أن ذلك كان معروفا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم من طريق النصارى الذين يرجح أن الإنجيل المذكور كان متداولا بين أيديهم. فمن المحتمل أن يكون مكان الربوة هو مصر حيث يجري فيها نهر لا ينضب وحيث كانت ذات أرض مخصبة وزراعة مزدهرة. والله أعلم. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 51 الى 52] يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) . المتبادر أن الآيتين قد جاءتا بمثابة تعقيب على السلسلة: فقد أمر الله فيهما الرسل أن يأكلوا من الطيبات وأن يعملوا الصالحات وأن يثبتوا على الطريق الحقّ وأن لا يخشوا ويتقوا إلّا الله وأن يتيقنوا أن الذي دعوا إليه واحد والطريقة التي وصوابها واحدة وأنهما لا يتحملان تعددا ولا اختلافا. وقد قال بعض المفسرين إن الخطاب في الآيتين موجه إلى النبي وإن جاء بصيغة الجمع «3» وقد لا يخلو القول من وجاهة تؤيدها صيغة المخاطب. على أن توجيه الخطاب إلى الرسل جميعهم هو توجيه معنوي بقصد تقرير وحدة أهداف رسالات الأنبياء للناس وتقرير وحدة جوهر الشرائع الإلهية التي من جملتها إحلال

_ (1) انظر تفسيرها في كتب تفسير الطبري والبغوي والخازن. (2) الإصحاح الثاني. (3) انظر تفسير البغوي. [.....]

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 53 إلى 56]

كل ما هو طيب دون حرج ولا قيد. ويكون النبي قد أدمج في عدادهم فكان الخطاب لهم غائبين وله حاضرا مخاطبا. ولقد روى المفسرون «1» في سياق هذه الآيات حديثا نبويا رواه مسلم والترمذي في فصل التفسير من كتابيهما في سياق تفسير سورة (المؤمنون) جاء فيه: «إنّ أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أيّها الناس إن الله طيّب ولا يقبل إلّا طيبا وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) . وقال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ [البقرة: 172] قال وذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمدّ يده إلى السماء يا ربّ يا ربّ ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك» . حيث ينطوي في الحديث تفسير وتوضيح نبويّان يفيدان أن الخطاب في الآيتين ليس قاصرا على الرسل وإنما هو موجّه إلى أممهم وبخاصة الذين آمنوا بهم وبنوع أخص أمة آخر الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم الذي صار على جميع الأمم السابقة اتّباعه وإن الذين ينحرفون عن ذلك إلى الحرام وغير الطّيّب في المأكل والمشرب والملبس يكونون منحرفين عن طريق الله الحقّ مما احتوت تقريره آيات كثيرة مكيّة ومدنيّة مرّت أمثلة منها ومما فيه تلقين جليل مستمر المدى بالإضافة إلى ما في الآيتين من تلقين جليل في تقرير وحدة الطريقة التي سنّها الله تعالى لرسله والمرسلين إليهم وإيجابه التزام الصالحات والتقوى عليهم. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 53 الى 56] فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56) . (1) فتقطعوا: تفرقوا.

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير ابن كثير وانظر أيضا التاج ج 4 ص 163.

(2) زبرا: من المفسرين من فسّر الكلمة على أنها جمع زبور بمعنى كتاب وقد وردت هذه في إحدى آيات سورة القمر فصار معنى الجملة تفرقوا مللا عديدة كل ملّة التزمت كتابا. ومنهم من قرأها بفتح الباء وفسرها بمعنى قطعا. وقد وردت هذه الكلمة في إحدى آيات سورة الكهف في هذا المعنى فصار معنى الجملة تفرقوا قطعا. والتفسيران وجيهان. والجملة على كل حال بمعنى تفرقوا شيعا وأحزابا مع أن ملّة الله واحدة. (3) غمرتهم: جهالتهم أو غفلتهم أو حيرتهم. في الآيات: 1- إشارة تنديدية إلى ما صار إليه الناس: فقد تفرقوا واختلفوا وتعددت كتبهم وأهواؤهم وفرقهم واعتدّ كل فريق بما هو عليه وظنّه الحقّ. 2- وأمر للنبي بأن لا يبالي بذلك وأن يدع من لا يريد الارعواء مرتكسا في غفلته وجهالته إلى الحين الذي يعلمه الله. 3- وسؤال تنديدي عمّا إذا كان هؤلاء يظنون أن ما يتمتعون به من كثرة المال والولد هو اختصاص تكريمي لهم من الله بإغداق نعمه وخيراته. 4- واستدراك تبكيتي بأنهم مخطئون في هذا الظنّ وأنهم لا يعرفون حقيقة الأمر. ولقد ورد في آيات أخرى أن الله تعالى يملي للكفار بما يمدهم به من مال وبنين ليستدرجهم وليكون لهم فتنة واختبارا وأن كيده متين كما جاء في آية سورة القلم [43- 44] وسورة الأعراف [182- 183] وسورة طه (131) التي مرّ تفسيرها حيث يتبادر أن في هذه الآيات توضيحا لما احتواه الاستدراك التبكيتي في جملة بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56) في الآية الأخيرة. والآيات معقبة على ما قبلها أيضا. والضمير الغائب راجع إلى المنحرفين عن الأمة أو الطريقة الواحدة التي شرّعها الله للناس بواسطة أنبيائه وإلى الكفار

برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لأن كفرهم هو انحراف عن تلك الملّة. وفيها تنديد لاذع بهم لانحرافهم عن ملّة الحق التي جاء بها رسل الله ثم رسوله الأخير خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم ولظنهم الظنون الباطلة في تعليل ما هم فيه من قوّة ومال. والأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بترك الكفار في غمرتهم تعبير أسلوبي تكرر في القرآن بمعناه. ولا يعني طبعا ترك إنذارهم كما قلنا في المناسبات السابقة. والراجح أنه ينطوي على تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عن عناد الكفار ومكابرتهم واستغراقهم في ضلالهم. وفي الآيات صورة لما كان من مباهاة الكفار بأموالهم وأولادهم واعتدادهم بذلك وحسبانهم إياه دليلا على عناية الله بهم وادعائهم بأنهم على حقّ بما هم عليه. ولقد حكت ذلك عنهم آيات عديدة مرّت أمثلة منها مما يدل على أنهم كانوا يسوقونه من حين إلى آخر في معرض الجدل والمماراة. ولقد أورد ابن كثير على هامش هذه الآيات حديثا رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم. وإنّ الله يعطي الدنيا لمن يحبّ ومن لا يحبّ. ولا يعطي الدين إلّا لمن أحبّ. فمن أعطاه الله الدين فقد أحبّه. والذي نفس محمد بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه. قالوا وما بوائقه يا رسول الله قال غشمه وظلمه. ولا يكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه ولا يتصدّق به فيقبل منه. ولا يتركه خلف ظهره إلّا كان زاده النار. إنّ الله لا يمحو السيّء بالسّيئ ولكن يمحو السيء بالحسن إن الخبيث لا يمحو الخبيث» . وفي الحديث الرائع صورة من صور الوعظ والتنبيه النبوي متساوقة مع التلقين الجليل الذي انطوى في الآيات وبخاصة في بيان كون ما تيسر للإنسان من مال في الدنيا ليس دليلا على رضاء الله عنه وحظوته لديه إذا كان الإنسان منحرفا عن طريق الله الحق.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 57 إلى 62]

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 57 الى 62] إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61) وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) . (1) وهم لا يظلمون: الجملة في مقامها في معنى لا ينقص شيء مما يستحقه الإنسان على عمله. عبارة الآيات واضحة. وهي بمثابة استدراك لما سبقها. فالوصف السابق هو للكفار المنحرفين عن دين الله الذي بعث الله به رسله والذين لا يرعوون ولا يرتدعون ويتمسكون بما هم فيه من باطل ويعتدون به ويظنون بالله غير الحق. وهناك فريق من الناس اتبعوا دين الله الحق فآمنوا بالله وخافوا وفعلوا ما أمروا به من الخير. ولم يشركوا به شيئا. وتيقنوا بأنهم راجعون إليه. فهؤلاء هم السابقون إلى الخيرات النائلون لرضاء الله. والمتبادر أن الآية الأخيرة بمثابة استدراك على ما في الآيات: فالله إذ يبين صفة المؤمنين المستحقين لرضائه بإيمانهم وأعمالهم الصالحة وخوفهم منه ويثني عليهم لا يكلف نفسا إلّا وسعها ولا يطلب من أحد إلّا ما هو قادر على فعله وهو مسجل لهم أعمالهم في كتاب ينطق بالحق دون أن ينقص لهم منهم شيئا. وفي هذا توكيد للمبدأ القرآني المحكم الجليل الذي شرحناه في سياق سورة الأعراف. هذا، ولقد روى الترمذي «1» حديثا عن عائشة رضي الله عنها: «أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الآية وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: لا يا بنت الصدّيق، ولكنهم الذين يصومون

_ (1) انظر التاج ج 4 فصل التفسير ص 163.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 63 إلى 67]

ويصلّون ويتصدّقون وهم يخافون ألا يقبل منهم أولئك يسارعون في الخيرات» . حيث ينطوي في الحديث توضيح نبوي متساوق مع التلقين الجليل المنطوي في الآيات لما للخوف من الله والمصير الأخروي من أثر في نفس المؤمن بالله واليوم الآخر فيجعله يبذل كل جهده في عمل الخير والتقرّب إلى الله بصالح العمل واتقاء غضبه بالابتعاد عن كل منكر وإثم. ويبدو من خلال ذلك الحكمة الربانية في تكرار التنبيه في القرآن على أن الذين لا يؤمنون بالآخرة هم الذين لا يتورعون عن ارتكاب الآثام والفواحش في الدرجة الأولى وفي كون الإيمان بالله واليوم الآخر والترهيب من هوله والترغيب في النجاة فيه من أهم ما اهتمّ القرآن لتوكيده وتقريره. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 63 الى 67] بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67) . (1) أعمال من دون ذلك: أعمال غير تلك الأعمال التي ترضي الله وذكرت فيما سبق. (2) هم لها عاملون: قال الطبري والبغوي في معناها: لا بد من أنهم لها عاملون. وقال الزمخشري الجملة بمعنى هم عليها معتادون ونحن نرجّح هذا لأنه متّسق مع روح الآيات وفحواها. (3) يجأرون: يضجون ويصيحون من البلاء. (4) سامرا: السمر تبادل الأحاديث وتمضية السهرة بلهو وفكاهة، والسامر هو الذي يسمر ويلهو. (5) تهجرون: من المفسرين من قال إنها من الهجر بمعنى الترك والإهمال.

ومنهم من قال إنها من الهجر بمعنى الفحش في السبّ. والآية تتحمّل المعنيين. في الآيات عودة إلى بيان حقيقة المنحرفين الكفار وأعمالهم وإنذار لهم: 1- فقلوبهم غافلة عن الاستشعار بخوف الله وما يجب عليهم نحوه. 2- وأعمالهم غير تلك التي ترضي الله والتي سبق وصفها وسيظلون مرتكسين فيها لا يدعونها لأنهم معتادون عليها إلى أن يحلّ فيهم عذاب الله وحينئذ فقط يدركون خطأهم فيأخذون بالعويل والاستغاثة. وسيقال لهم حينئذ لا تضجوا ولا تصخبوا ولا تعولوا فلن يفيدكم ذلك شيئا. ولن يكون لكم ناصر من الله. لأنكم كنتم كل ما تليت عليكم آياته ولّيتموها ظهوركم ونكصتم على أعقابكم استكبارا عن سماعها وعنادا. أما الآية الأخيرة فقد اختلف في تأويلها بسبب الاختلاف في ضمير (به) حيث أرجعه بعضهم «1» إلى القرآن فقالوا إنها بصدد التنديد بالكفار لاستكبارهم عن القرآن وهجرهم إياه وتمضية أوقات السمر بالسخرية به. وحيث أرجعه بعضهم «2» إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا إنها بصدد التنديد بهم لاستكبارهم وهجرهم دعوة النبوة وتأليبهم عليه في أسمارهم ونبزهم إياه بالقول الفاحش وحيث أرجعه بعضهم إلى الحرم واعتدادهم بأنهم أهله وهجرهم النبي فيه. وقد تبادر لنا تأويل آخر وهو التنديد بالكفار لهجرهم النبي وما يتلوه من القرآن استكبارا كأنما يهجرون سامرا يتحدث باللهو والأفاكيه. ولعل في الآيات التالية قرينة على وجاهة هذا التأويل إن شاء الله. والاتصال قائم سياقا وموضوعا بين الآيات وبين سابقاتها كما يظهر من التمعّن فيها. وقد قال بعض المفسرين إن العذاب الذي يجأر منه الكفار هو ما حلّ بزعماء

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير ابن كثير والبغوي والخازن والطبرسي والزمخشري والطبري. (2) المصدر نفسه.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 68 إلى 74]

مكة من قتل يوم بدر أو ما حلّ بأهل مكة من قحط وجوع «1» مما أوردنا خبره في تفسير سورة الدخان مع أنه يلحظ من روح الآيات أن الكلام متعلق باليوم الذي لا يكون للكفار فيه نصير وهو يوم القيامة. ولا سيما أنها احتوت تذكيرا بما كان منهم من استكبار وعناد وإعراض. ومثل هذا قد ورد في آيات تعلق الكلام فيها بيوم القيامة. ومرّت أمثلة عديدة منها ولذلك نرجّح أن العذاب هو العذاب الأخروي. والمتبادر أن اختصاص المترفين بالعذاب في الآيات هو من باب تخصيص هؤلاء بالإنذار لأنهم هم الذين يضغطون على الناس ويجعلونهم يحذون حذوهم في الكفر والإعراض. وبخاصة أنهم موضوع الكلام في الآيات [53- 56] . [سورة المؤمنون (23) : الآيات 68 الى 74] أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74) . (1) ذكرهم: هنا بمعنى التذكير والتنبيه والعظة. (2) خرجا: بمعنى أجرا أو نفقة أو ضريبة. (3) ناكبون: منحرفون. في هذه الآيات: أولا: أسئلة تتضمن التنديد والتقريع عن أسباب موقف الكفار من النبي ودعوته: 1- فهل لم يترووا ويتدبروا فيما يسمعون من آيات الله وأقوال النبي فلم

_ (1) انظر تفسير البغوي والطبري.

يدركوا ما فيها من حقّ وهدى ومصلحة وخير لهم. 2- وهل رأوا أن ما جاءهم بدع لم يسبق أن أتى مثله لآبائهم فوقفوا منه موقف المستغرب المنكر. 3- وهل لا يعرفون شخص نبيهم الذي يدعوهم معرفة قريبة وكافية حتى ينكروه ويتجاهلوه ويعرضوا عنه ويتهموه بالجنون أو الاتصال بالجنّ؟ 4- وهل طلب منهم أجرا أو ضريبة حتى يتهموه ويحملوا دعوته على محمل الغرض والمنفعة الشخصية؟. وثانيا: ردود قارعة عليهم: 1- فليس النبي مجنونا ولا متصلا بالجنّ وإنما جاءهم بالحقّ من الله على التأكيد. 2- وإن وقوفهم منه الموقف الذي وقفوه هو بسبب كراهية أكثرهم للحقّ وعدم اتساق الحق مع أهوائهم. 3- وإن الله تعالى لا يمكن أن يجعل الحق خاضعا للهوى لأن في ذلك فسادا للكون أرضه وسمائه وما فيهما. 4- وإن ما أنزله الله على رسوله هو ذكر وموعظة لهم وهم يستكبرون عن سماع الذكر والموعظة. 5- وإن الله هو خير الرازقين وإن النبي ليعرف ذلك فلا يعقل أن يطلب منهم أجرا ولا جزاء لأنه يعرف أن أجر ربه هو خير. 6- وإن النبي إنما يدعوهم إلى الطريق القويم الذي ينجو من يسير فيه ويسعد. 7- وإن الكافرين بالآخرة لا يلبّون الدعوة، وينحرفون عن مثل ذلك الطريق لأنهم لا يحسبون حساب الوقوف بين يدي الله.

تعليقات على محتويات الآيات

وواضح أن الآيات استمرار في السياق والموضوع السابقين. وأسلوبها قوي رصين مفحم موجه إلى القلب والعقل معا. ومن شأنه أن ينفذ إلى الأعماق. تعليقات على محتويات الآيات 1- لقد تعددت تخريجات المفسرين لمدى الآية الأولى منها أنها بسبيل استنكار كفر الكافرين لأن ما جاءهم ليس بدعا وأنه قد جاء لآبائهم من قبل. ومنها أنها بسبيل استنكار كفرهم لأن الله قد اختصهم دون آبائهم بنعمته فأرسل إليهم رسوله لهدايتهم «1» . والعبارة تتحمل التخريجين. ومع ذلك فإن في كل منهما إشكالا بسبب آيات في سور أخرى. ففي سورة يس هذه الآية لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) وتكرر هذا في آيتي سورتي السجدة والقصص هاتين: 1- أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [السجدة: 3] . 2- وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [القصص: 46] . هذا في حين أنه جاء في سورة النمل هذه الآية: لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [68] وتكرر هذا في سورة (المؤمنون) على ما يأتي بعد قليل. ونحن نرجّح التخريج الأول. وفي صدد الإشكال الوارد عليه يجوز أن يقال إن آيات سور يس والسجدة والقصص قد قصدت الزمن القريب بينما آيتا سورتي النمل والمؤمنون قد قصدتا الزمن البعيد. وفي الزمن البعيد الذي كانوا يتداولون أخباره جيلا بعد جيل أنبياء عديدون من جزيرة العرب أو حلّوا فيها وقد ذكروا في

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير.

القرآن. ويعتبرون آباء أوّلين للعرب الذين يسمعون القرآن مثل هود وصالح وإبراهيم وإسماعيل عليهم السلام. إن الآية الثانية تلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معروفا عند قومه بنبل الخلق ورجاحة العقل وكرم المنبت قبل البعثة وهو ما ثبت بالروايات الوثيقة ومنها قول خديجة رضي الله عنها الذي وجهته إليه في معرض تثبيته حينما أوحي إليه لأول مرة في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها حيث قال لها: «لقد خشيت على نفسي فقالت له كلّا والله ما يخزيك الله أبدا. إنّك لتصل الرحم وتحمل الكلّ وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحقّ» «1» . ثم في الحديث الذي رواه الطبري عن عبد الله بن الزبير حيث قال لها إني خشيت أن أكون شاعرا أو مجنونا فقالت له: «إني أعيذك من ذلك يا أبا القاسم، ما كان الله ليصنع ذلك بك مع ما أعلم منك من صدق حديثك وعظم أمانتك وحسن خلقك وصلة رحمك» «2» . حيث تضمنت استنكارا لموقفهم منه وهم يعرفونه حقّ المعرفة فيعرفون أنه لا يمكن أن يكذب أو يفتري أو يسخف أو يسفّ أو يلهو أو يتدخل فيما لا يعنيه أو يسعى وراء غرض ومنفعة ذاتية «3» . وفي تفسير البغوي قول لابن عباس في معنى الآية جاء فيه: «أليس قد عرفوا محمدا صلى الله عليه وسلم صغيرا وكبيرا وعرفوا نسبه وصدقه وأمانته ووفاءه بالعهود؟» . 3- وإن في أسلوب الآية الثالثة قرينة على أن نسبة الكفار الجنون إلى النبي هي نسبة أسلوبية إلى من يأتي بالشيء الجديد والرأي الغريب حيث تضمنت تصحيحا لوصف ما جاء به وهو الحقّ ولا يصحّ لمن جاء بالحق أن يوجه إليه الجنون أو يوقف منه موقف المستغرب.

_ (1) التاج ج 3 ص 226. (2) تاريخ الطبري ج 2 ص 47- 48. (3) انظر أيضا تفسير الآيات في تفسير الخازن والبغوي وابن كثير والطبري.

4- رأينا بعض المفسرين «1» يقفون عند جملة وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ ليقولوا إنها تعني أن منهم من لا يكره الحقّ مع كفره وليذكروا اسم أبي طالب عمّ النبي الذي لم يؤمن حياء لا مكابرة ولا كراهية للحقّ. ومع أنه كان بين الكافرين من هو معتدل الموقف ومقرّ بقلبه بالحق الذي جاء به النبي على ما شرحناه في سياق آية وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا [القصص: 57] فإنه يتبادر لنا أن الجملة أسلوبية تكرر نوعها في القرآن مثل وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ [النحل: 83] ووَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [المائدة: 103] وأَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص: 57] إلخ. ونقول هنا أيضا إن جملة وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ وما في بابها إنما كانت تسجيلا لواقع سامعي القرآن حين نزول الآيات بدليل أن أكثر من نعتوا بها قد آمنوا وحسن إسلامهم وحظوا برضا الله ورضوانه. وجملة وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ جليلة المدى عامة التلقين في إيجاب التزام الحقّ واتباعه وعدم تغليب الهوى والميول والأنانية والمآرب الخاصة عليه لما في ذلك من فساد كون الله وأهله. هذا، ولقد أورد ابن كثير على هامش الآية وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ حديثا رواه الحافظ أبو يعلى بطرقه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني ممسك بحجزكم هلم عن النار هلم عن النار وتغلبونني. تقاحمون فيها تقاحم الفراش والجنادب. فأوشك أن أرسل حجزكم. وأنا فرطكم على الحوض فتردون عليّ معا وأشتاتا أعرفكم بسيماكم وأسمائكم كما يعرف الرجل الغريب من الإبل في إبله فيذهب بكم ذات اليمين وذات الشمال فأناشد فيكم ربّ العالمين أي ربّ قومي أي ربّ أمتي فيقال يا محمّد إنك لا تدري ما

_ (1) انظر تفسير النسفي.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 75 إلى 77]

أحدثوا بعدك. إنهم كانوا يمشون بعدك القهقرى على أعقابهم. فلا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء ينادي يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغت. ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل بعيرا له رغاء ينادي يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغت. ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرسا لها حمحمة فينادي يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك شيئا قد بلغت. ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل سقاء من أدم ينادي يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك شيئا قد بلغت» «1» . حيث ينطوي في هذا الحديث تنبيه وإنذار قويان نافذان بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بيّن للناس ما يحسن بهم أن يلتزموه ليكونوا على صراط الله المستقيم وبوجوب ابتعادهم عن كلّ ما فيه ظلم وانحراف وعدوان مهما قلّ. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 75 الى 77] وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) . (1) لجّوا: تمادوا. (2) استكانوا: استذلوا وخضعوا. وهذه الآيات استمرار للحملة الإنذارية والتنديدية السابقة على الكفار: فهم مصرون على عنادهم وجحودهم في حالتي سرائهم وضرائهم. فإذا كانوا في حالة اليسر والرغد حسبوا ذلك اختصاصا وتكريما من الله ودليلا على أنهم على حقّ في

_ (1) عقب ابن كثير على الحديث قائلا: إن علي بن المديني قال إنه حديث حسن الأسناد إلّا أن حفص بن حميد- أحد رواته- مجهول لا أعلم روى عنه غير يعقوب بن عبد الله الأشعري القمي وعقب ابن كثير على هذا أنه قد روى عنه أيضا أشعث بن إسحق ووصفه يحيى بن معين بأنه صالح ووثقه النسائي وابن حبان.

تقليدهم فظلوا معرضين عن الاستجابة إلى دعوة الله ورسالة رسوله. وهذا ما أشارت إليه الآيات [55- 56] وإذا أصيبوا ببلاء ثم كشفه الله عنهم رحمة بهم تمادوا في طغيانهم وإعراضهم. ولقد أنزل الله بهم بلاء فكشفت التجربة عن هذه الحقيقة لأنهم لم يخضعوا لربهم وما استكانوا وما تضرعوا وما تابوا عمّا هم فيه. وسيظلون على موقفهم إلى أن يفتح الله عليهم بابا ذا عذاب شديد. غير أن هذا الباب حينما يفتح عليهم يكون وقت الندم والتوبة قد فات وأصبحوا في موقف اليائس من رحمة الله. وقد قال المفسرون «1» إن الآية الثانية تضمنت الإشارة إلى القحط والجوع الذي أصاب أهل مكة حتى أكلوا القدّ والعظام والذي كان بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم في ظرف اشتدّ غضبه عليهم لاشتداد عنادهم وأذاهم. ورووا أن أبا سفيان جاء إلى النبي فناشده الرحم وقال له: ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين فقال بلى، قال: فادع الله أن يكشف عنّا هذا القحط. فدعا فكشف عنهم فظلوا على عنادهم وجحودهم فنزلت الآيات منددة بهم. وقد ذكروا وأوردوا الرواية في سياق سورة الدخان أيضا على ما شرحناه في سياق تفسير السورة المذكورة. وصيغة الآية تلهم صحة رواية إصابة أهل مكة ببلاء رباني وكشفه عنهم. غير أننا نتوقف في رواية مجيء أبي سفيان إلى النبي ومناشدته الرحم وطلبه الدعاء لله بكشف البلاء لأن هذا يستلزم أن يكون مؤمنا بصحة نبوّة النبي وهو ما لم يكن. على أن من الممكن أن يكون النبي قد رأف بقومه حين رأى ما أخذهم من جهد فدعا الله مؤملا أن يكونوا قد اتعظوا ورقّت قلوبهم فكشف عنهم البلاء، فلما ظلوا مصرّين على كفرهم وطغيانهم ندّد الله بهم هذا التنديد وأنذرهم بعذاب لا يكون لهم فيه باب رحمة وتوبة. ولا نرى هذا متعارضا مع تقريرنا أن الآيات استمرار للحملة السابقة لأن ذلك ملموح بقوة. وعطف الآيات على ما سبقها واستعمال ضمير الجمع الغائب

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير وغيرهم.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 78 إلى 80]

الراجع إلى الكفار موضوع الكلام فيه من القرآن على ذلك. ولهذا يسوغ أن يقال إن حكمة التنزيل شاءت أن تشير إلى هذا الحادث الذي يمكن أن يكون وقع قبل نزول السورة في سياق حملة تنديدها على الكفار. ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن باب العذاب الشديد الذي أنذرت به الآية الثالثة هو وقعة بدر. وهذا ما روي أيضا في سياق تفسير جملة يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى [16] في سورة الدخان. ولقد روى ذلك البغوي أيضا ثم قال وقيل إنه الموت وقيل إنه قيام الساعة. وقد قال ابن كثير إنه عذاب الآخرة. ونحن نرجّح هذا لأنهم يكونون يوم القيامة يائسين مبلسين. والله أعلم. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 78 الى 80] وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) . الآيات موجهة للسامعين بصيغة الجمع المخاطب في معرض التذكير والتنديد: فالله هو الذي أنشأ فيهم قوى السمع والبصر والعقل فكان ينبغي عليهم أن يشكروه على هذه النعم باستماع الحق ورؤية الحق وإدراكه بعقولهم. ولكنهم قلّ أن يفعلوا ذلك. وهو الذي خلقهم ونمّاهم في الدنيا وإليه مرجعهم في الآخرة. وهو الذي يحيي ويميت وهو الذي قدّر الليل والنهار ليخلف أحدهما الآخر. فهلا تعقّلوا وأدركوا قدرته عليهم وانتهوا من غفلتهم وعدم حسبانهم العاقبة؟. وأسلوب الآيات يسوغ القول إن الخطاب موجّه بخاصة إلى الكفار. وتكون الآيات والحالة هذه استمرارا في الحملة التنديدية والإنذارية السابقة لها. وقد يلحظ أن مثل هذه الآيات قد تكرر أكثر من مرة حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت تكرارها بأساليب متنوعة لتكرر المواقف المماثلة أو تجددها، شأن معظم القصص القرآنية بل وكثير من الفصول الحجاجية أو التي احتوت التنبيه على مشاهد عظمة الله وقدرته في خلقه وكونه.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 81 إلى 83]

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 81 الى 83] بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) . في الآيات حكاية استدراكية لما كان الكفار يقولونه كلّما تكرر إنذارهم بالبعث والجزاء الأخرويين حيث كانوا يتساءلون بأسلوب المستنكر المرتاب كما كان يفعل الكافرون من الأمم السابقة عما إذا كانوا حقّا يبعثون بعد أن يموتوا ويصبحوا ترابا وعظاما. ثم يتبعون تساؤلهم بقولهم إنهم أوعدوا بهذا هم وآباؤهم من قبل وليس هو إلّا من قصص الأولين وأساطيرهم. والآيات متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا كما هو واضح. وبدء الآيات بحرف الاستدراك قد يلهم أن الآيات تحكي موقف مناظرة وجدل بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار من نوع المواقف الكثيرة التي تكررت حكايتها في فصول عديدة. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 84 الى 89] قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) . (1) يجير: يحمي من يستجير به وينصره. (2) يجار عليه: لا يجرأ أحد على إجارة من غضب عليه وحمايته. (3) فأنّى تسحرون: فكيف تنخدعون وتتبعون الأوهام دون الحقائق. في الآيات أوامر للنبي عليه السلام بتوجيه بعض الأسئلة الاستنكارية للكفار وحكاية لما سوف تكون أجوبتهم بقصد الإفحام والإلزام والتنديد بهم وإثبات أن الله تعالى قادر على بعثهم بعد الموت الذي ينكرونه. وعبارتها واضحة. وهي

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 90 إلى 92]

مفحمة ملزمة حقا لأنها تقرر واقع اعتقادهم الذي حكته آيات عديدة مرّت أمثلة عديدة منها بأن الله تعالى هو خالق السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وربّهما ومدبّرهما والذي بيده ملكوت كل شيء والقادر على كل شيء. والآيات كما هو ظاهر متصلة بسابقاتها كذلك سياقا وموضوعا. ولعلها بسبيل استمرار لحكاية موقف المناظرة والجدل الذي تلهمه الآيات السابقة لها مباشرة. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 90 الى 92] بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) . في الآيات استدراك تقريري بمثابة ردّ آخر على الكفار: 1- فالقرآن إنما جاء بالحقّ وهو تقرير الربوبية لله وحده. 2- وهم كاذبون في نسبة الولد والشريك له لأنه ليس في حاجة إلى ولد أولا، ولو كان معه شريك لتنازع معه الملك والخلق ولعلا أحدهما على الآخر وهو محال في العقل والمنطق ثانيا. فتقدّس الله وتنزّه عمّا يصفونه به وينسبونه إليه وهو المحيط علمه بكل شيء ما ظهر وما خفي، وما مضى وما حضر، وما هو في المستقبل الغائب، وتعالى عن كل ما يشركه معه المشركون. والآيات متصلة بالسياق اتصالا وثيقا كما هو واضح. والردّ الذي احتوته على ما يفترض أن المشركين يقولونه من أنهم يعترفون بالله وقدرته وربوبيته ومن أنهم إذا أشركوا معه غيره فإنما يشركونه للشفاعة. وفي الردّ أسلوب برهاني منطقي من شأنه إفحام المكابر المجادل كما هو المتبادر. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 93 الى 98] قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) .

في الآيات: 1- أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يدعو الله أن يرزقه السلامة والنجاة وأن لا يجعله في القوم الظالمين إذا أبقاه حيّا حتى يريه تحقيق ما يوعد الله به الكفار. 2- وتقرير رباني بأن الله قادر أن يريه تحقيق ذلك. 3- وأمر ثان للنبي بأن لا يغتمّ لموقفهم وأن يقابله بالصبر والغضّ والدفع بالتي هي أحسن انتظارا لتحقيق وعد الله. فالله عليم كل العلم بحقيقة حالهم ومعتقداتهم. 4- وأمر ثالث بأن يستعيذ بالله من وساوس الشياطين ونفثاتهم ومخالطتهم في أموره وأفكاره. والمتبادر أن الآيات وبخاصة الأربع الأولى منها متصلة بالسياق وبخاصة بالآيات [75- 77] التي احتوت تنديدا بموقف الكفار بعد ما كشف الله عنهم البلاء وإنذارا لهم بالعذاب الأشدّ وأن الآيات التي جاءت بعدها جاءت في معرض الاستطراد مما جرى عليه أسلوب النظم القرآني. والآيتان الأخيرتان غير منقطعتين عن الموضوع والموقف. وقد استهدفتا بثّ الطمأنينة والسكينة في قلب النبي صلى الله عليه وسلم وحثّه على الالتجاء إليه كما ألمّت به الأزمات النفسية وساورته الهواجس والوساوس من جرّاء موقف قومه العنيد. ولقد تكرر في القرآن الأمر بالاستعاذة من الشيطان ونزغاته مما هو متصل بالحقيقة الإيمانية المغيبة عن الشيطان ووساوسه على ما شرحناه في مناسبات سابقة. ونرى أنه يجب الوقوف في هذا الأمر عند ما وقف القرآن دون تزيد مع ملاحظة أن الشيطان ودوره مما كان مفهوما مسلما به عند السامعين ومع ملاحظة ذلك الهدف الذي استهدفته وهو بثّ السكينة والطمأنينة في قلب النبي والمؤمنين

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 99 إلى 104]

فيما يكون طروءه على النفس الإنسانية من أزمات وهواجس ووساوس. والله أعلم. ولقد شرحنا مدى احتمال تعرض النبي صلى الله عليه وسلم لهزات الشيطان ونزغاته التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم في الآية [98] بالاستعاذة بالله منها في سورة الأعراف فلا نرى ضرورة للإعادة أو الزيادة. وفي جملة ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ توكيد للمبدأ القرآني المحكم في صدد الدعوة إلى سبيل الله وفي صدد معاملة الناس بصورة عامة على ما شرحناه في مناسبات سابقة شرحا يغني عن التكرار. ولقد قال بعض المفسرين إن هذه الجملة قد نسخت بآية القتال أو السيف «1» كما قالوا ذلك بالنسبة للجمل المكية المماثلة. ومع صواب ذلك بالنسبة للأعداء المعتدين على الإسلام والمسلمين على ما قلناه في المناسبات السابقة فإن هذا ليس من شأنه نقض ذلك المبدأ القرآني المحكم المنطوي في الجملة بالنسبة لسلوك المسلمين تجاه بني ملّتهم وتجاه غيرهم من الموادين المسالمين. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 99 الى 104] حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) . (1) برزخ: حاجز مانع. (2) لا يتساءلون: لا يستطيع أحد منهم أن يسأل أحدا معونة أو نصرا.

_ (1) انظر تفسير البغوي.

(3) كالحون: الكلوح هو تقلص الشفتين وتشمرهما عن الأسنان عند الغضب أو الخوف. في الآيات تقرير في معرض الإنذار والتبكيت عما سوف يكون عند موت الكفار وبعده: فحينما يأتي الموت كافرا يستشعر بالخوف والندم ويلتمس من الله إعادته للحياة ليعمل صالحا ويتلافى فيها ما سبق منه. ولكن هذا لن يجديه نفعا. ولن يكون إلّا كلمة تذهب في الهواء لأن بينه وبين العودة قام حاجز مانع إلى أن يبعث الله الناس من قبورهم وحينما ينفخ في الصور ويخرج الناس من قبورهم تنقطع بينهم دعوى الأنساب والعصبيات ولا يكون للناس إلّا أعمالهم. ولا يستطيع أحد أن يسأل نصرا مهما كانت روابط النسب والعصبية وشيجة بينهم. فالذين تثقل موازينهم بالإيمان والعمل الصالح هم الفائزون السعداء، والذين نخفّ موازينهم بالكفر وسيء العمل هم الخاسرون الخالدون في جهنم. تلفح وجوههم النار وتكلح من شدّتها. وواضح أن الآيات متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا. والإنذار للكفار فيها رهيب. وقد استهدفت فيما استهدفته حملهم على الارعواء قبل فوات الوقت كما هو المتبادر. ولقد شرحنا مدى ثقل الموازين وخفتها يوم القيامة في مناسبات سابقة فلا نرى ضرورة للإعادة والزيادة. ولقد روى الترمذي في سياق تفسير الآية الأخيرة حديثا عن أبي سعيد الخدري (رض) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَهُمْ فِيها كالِحُونَ قال تشويه النار فتقلص شفته العالية حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرّته» «1» . وأورد ابن كثير حديثين آخرين في سياقها منهما حديث رواه ابن أبي حاتم بطرقه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ جهنّم لما سيق لها أهلها تلقاهم لهبها ثم تلفحهم لفحة فلم يبق لهم لحم سقط على العرقوب» . وحديث رواه ابن مردويه

_ (1) التاج ج 4 ص 163. [.....]

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 105 إلى 111]

بطرقه عن أبي الدرداء قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ تلفحهم لفحة تسيل لحومهم على أعقابهم» . حيث ينطوي في الأحاديث تفسير نبويّ فيه إنذار وترهيب متساوقان مع الإنذار والترهيب القرآنيين. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 105 الى 111] أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111) . في هذه الآيات حكاية لمحاورة مفروض وقوعها بين الله تعالى والكفار، حيث يخاطبهم الله بعد أن يصيروا إلى النار بأسلوب التقريع عمّا إذا لم يكونوا قد نالوا ما يستحقونه لأنهم كانوا يكذبون بآياته كلما كانت تتلى عليهم. ولسوف يجيبون بأن روح الإثم والشقاء قد تغلبت عليهم فضلوا عن طريق الهدى ثم يلتمسون إخراجهم من النار معلنين توبتهم على أن يكونوا إذا عادوا ظالمين مستحقين أشدّ العذاب. فيردّ الله عليهم أن اخسأوا ولا تراجعوني بكلام. فقد كان فريق من عبادي الصالحين المخلصين يتجهون إليّ ويطلبون مني وحدي الغفران والرحمة فاتخذتموهم موضوع هزء وسخرية وكنتم تضحكون منهم واستغرقتم في ذلك حتى نسيتم ذكري. ولقد جزيتهم اليوم بسبب ثباتهم على إيمانهم وعملهم الصالح وصبرهم على ما لحق بهم منكم من الأذى والسخرية فكانوا الفائزين السعداء. والآيات استمرار في السياق والموضوع السابقين كما هو ظاهر. والإنذار والتنديد فيها قويان مفحمان، وقد استهدفت فيما استهدفته إثارة الخوف والرعب في قلوب الكفار وحملهم على الارعواء وهم في فرصة الدنيا، مع الثناء على المؤمنين وتطمينهم وتبشيرهم وبخاصة الفقراء والمساكين منهم الذين كانوا

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 112 إلى 116]

موضوع سخرية الكفار واحتقارهم على ما حكته آيات عديدة مرّت أمثلة منها. وبعض المفسرين «1» قالوا في صدد جملة قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا الشقاء الذي كتبه الله عليهم. وروح الآيات وفحواها لا تساعدان على هذا التأويل كما لا تساعد عليه التقريرات القرآنية المحكمة التي تتضمن أن الله هدى الناس إلى طريق الخير والشر وآتاهم قابلية التمييز والاختيار بينهما على ما شرحناه في مناسبات عديدة. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 112 الى 116] قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) . في الآيات استمرار في حكاية المحاورة المفروضة: فلسوف يسأل الله الكفار عن مقدار ما لبثوا في الدنيا فيجيبون أن ما لبثوه لم يكد يتجاوز يوما أو بعض يوم فيما يخيل إليهم وأن الأولى أن يسأل عن ذلك الموكلين بالعد والإحصاء. ولسوف يرد عليهم بأنهم لو عقلوا لعرفوا أنهم لم يلبثوا إلّا أمدا قصيرا حقّا. ولسوف يسألهم حينئذ عما كانوا يظنونه من ظنّ خاطئ بأنهم غير راجعين إليه ولا واقفين بين يديه. وبأن الله كان عابثا لا يستهدف غاية ولا حكمة من خلقهم في حين أن الله عز وجل تنزّه عن العبث وتعالى فهو الملك الحقّ الذي لا يقرر إلّا الحق ولا يفعل إلّا الحق ولا يتوخّى بفعله وقراراته إلّا الحق وهو ربّ العرش الكريم المتصرف المطلق في الكون. والآيات استمرار في السياق والموضوع كما هو المتبادر. والمتبادر أن هذا القسم من المحاورة استهدف بيان تفاهة المدة التي يقضيها الكفار في الدنيا مغترين

_ (1) انظر تفسير البغوي والطبري.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 117 إلى 118]

بقوتهم، وقد تضمنت تقريعا لاذعا على حسبانهم أن لا حياة وراء حياتهم الدنيوية وأن لا حكمة وغاية وراء وجود الكون. واستهدفت ما استهدفته سابقاتها من إثارة خوفهم وارعوائهم فضلا عن توكيدها حقيقة الآخرة الإيمانية واتساقها مع الحكمة والعدل والحق. ولقد أورد ابن كثير في سياق تفسير هذه الآيات حديثا أخرجه ابن أبي حاتم عن أيفع بن عبد الكلاعي قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار قال يا أهل الجنة لم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قال لنعم ما أنجزتم في يوم أو بعض يوم. رحمتي ورضواني وجنتي امكثوا فيها خالدين مخلدين. ثم قال يا أهل النار لم لبثتم في الأرض عدد سنين. قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فيقول بئس ما أنجزتم في يوم أو بعض يوم. ناري وسخطي امكثوا فيهما خالدين مخلّدين» . وينطوي في الحديث تبشير وإنذار نبويان متساوقان مع الهدف القرآني الذي نوّهنا به كما هو المتبادر. ومع ما ذكرناه من صلة الآيات وهدفها ففيها وبخاصة في الآيتين الأخيرتين فيهما تلقين مستمرّ المدى موجه إلى الناس عامة في كل ظرف ومكان ليرعووا ويتّعظوا ويتجهوا نحو الله عز وجل مما تكرر وعرف منه أمثلة عديدة. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 117 الى 118] وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) . في الآية الأولى إنذار لكل من يدعو مع الله إلها آخر ويشركه معه في الاتجاه والعبادة بدون برهان. فحسابه عند ربه ولن يلقى فلاحا. وفي الآية الثانية أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يطلب من الله الغفران والرحمة ويقرر له صفته الكمالية في الرحمة وكونه خير الراحمين. وقد جاءت الآية الأولى كخاتمة للسياق السابق الذي حكى فيه مواقف الكفار

وأقوالهم وأنذرهم وأوعدهم. كما جاءت هي والآية الثانية خاتمة لآيات السورة. وطابع الختام المألوف في كثير من السور السابقة ظاهر عليهما أيضا. والآية الأخيرة ذات مغزى رائع في مقامها وإطلاقها. ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن تعبير لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ [117] لا يمكن أن يعني أن هناك شركا قد يكون قائما على برهان وسائغا. وإنما هو تعبير أسلوبي يتضمن نفي قيام أي برهان على ذلك أولا والتشديد في التنديد لأن شرك المشركين لا يستند إلى أي تعليل في أية شبهة من حقّ ومنطق ثانيا. وقد تكرر هذا الأسلوب كثيرا ومرّت منه أمثلة عديدة.

سورة السجدة

سورة السجدة في السورة توكيد بصلة القرآن بالوحي الإلهي وردّ على الكفار على نسبتهم افتراءه للنبي عليه السلام. وتنويه بقدرة الله في مشاهد الكون ونواميس الخلق للبرهنة على استحقاقه وحده للعبادة والخضوع. وحكاية لشكوك الكفار بالبعث والحساب وحملة عليهم ومقايسة بين مصيرهم ومصير المؤمنين. وإشارة إلى رسالة موسى وفضل الله على بني إسرائيل حينما صبروا واتبعوا آيات الله. وتثبيت وتطمين للنبي عليه السلام. وآيات السورة متساوقة ومنسجمة مما يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة. وقد روي أن الآيات [16- 20] مدنية، وانسجامها مع ما قبلها سبكا وموضوعا يسوغ الشك في الرواية. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) . وهذه أولى السور في ترتيب النزول الذي سرنا عليه تبتدئ بهذه الحروف. وقد تكرر ذلك بعدها في ثلاث سور مكيّة وسورتين مدنيتين. ولم يورد المفسرون في صددها شيئا جديدا وعطفوا على ما ذكروه في تفسير أول سورة البقرة المشابه. ونرجّح هنا ما رجحناه في سياق مماثلاتها أنها للتنبيه واسترعاء السمع، وقد أعقب الحروف الثلاثة كما هو الشأن في معظم السور المماثلة إشارة تنويهية إلى القرآن

تعليق على مدى الآية لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك

كتاب الله وتوكيد بأنه تنزيل من ربّ العالمين لا إمكان للرّيب فيه. ثم أعقب ذلك إشارة استدراكية إلى ما يقوله الكفار بأسلوب تنديدي كانوا يقولون إن النبي افتراه وردّ على القول بتوكيد أنه الحق من الله أنزله على النبي لينذر به أناسا لم يأتهم نذير من قبله رجاء أن يهتدوا به إلى طريق الله القويم. والآيتان الأوليان براعة أو مقدمة استهلالية للآية الثالثة كما هو المتبادر. والآيات الثلاث منصبة في جملتها على توكيد نزول القرآن من عند الله وتكذيب دعوى افترائه التي تكررت حكايتها وتكرر تكذيبها بتكرر المواقف المماثلة. تعليق على مدى الآية لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ ولقد روى البغوي عن ابن عباس في صدد جملة لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ أنها تعني الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام. وقال الطبري إنها تعني قريشا الذين لم يأتهم رسول قبل محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا القول أكثر وجاهة فيما يتبادر لنا. وتاريخ قريش لا يرتقي إلى أكثر من بضع مائة سنة على ما شرحناه في سياق سورة قريش فلا تناقض بين هذا القول ورسالات الأنبياء من عيسى وما قبله. وقد يرد أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لم تكن لقريش فقط. وأن هناك روايات عن نبيين عربيين بعثا بعد عيسى. وهما حنظلة بن صفوان نبي الرس الذي تدلّ فصاحة اسمه على أنه ليس بعيدا كثيرا عن زمن النبي صلى الله عليه وسلم والذي ذكرنا خبره في سياق سورة (ق) وخالد بن سنان العبسي «1» ولسنا نرى هذا ناقضا لقول الطبري حتى في حالة صحة الروايات. فقريش كانوا وظلوا في الدرجة الأولى هم الذين يوجه إليهم الخطاب في معظم ظروف العهد المكي النبوي برغم ما في القرآن المكي من

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبرسي وانظر تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي ج 5 ص 359.

[سورة السجده (32) : الآيات 4 إلى 9]

إشارات إلى عموم الرسالة النبويّة وشمولها حيث كان هذا هو المتسق مع الحالة الراهنة. وهذا ما انطوى في الآية وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الشورى: 7] والآية [92] المماثلة في سورة الأنعام على ما نبهنا عليه في سياق تفسير السورتين. [سورة السجده (32) : الآيات 4 الى 9] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9) . (1) عالم الغيب والشهادة: عالم ما هو خفي غائب وما هو حاضر مشهود. (2) ماء مهين: كناية عن النطفة التي يتولّد منها الإنسان. والتعبير بسبيل استصغار شأن النطفة. عبارة الآيات واضحة. وضمائر الجمع المخاطب فيها راجعة إلى الكفار على ما تفيده العبارة. وتكون بذلك الصلة قائمة بينها وبين الآيات السابقة. وقد استهدفت تدعيم الردّ الذي احتوته الآية السابقة لها مباشرة وتضمنت تنديدا بالكفار الذين لا ينتبهون ولا يتدبرون في كون الله العظيم الذي خلق كل شيء فيه على أحسن وأحكم صورة وفي تصرفه فيه بانفراد ببالغ الحكمة وشمول القدرة فلا يغيب عن علمه وحكمه وقدرته شيء في سماء ولا أرض، ثم الذي خلقهم من تراب ثم جعلهم من نطفة ضئيلة هينة الشأن ومنحهم نسمة الحياة وجهّزهم بالسمع والإبصار

والأفئدة أي العقول. ولا يرعوون عن التماس الولاء والشفاعة من غيره مع أنه ليس هناك لأحد ولي ولا شفيع من دونه، ولا يشكرونه على أفضاله ونعمه ويؤدون حقه من الخضوع والإخلاص التام له وحده. وأسلوب الآيات قوي نافذ إلى القلوب والعقول ومن شأنه إثارة شعور الإجلال والإكبار لله في النفس السليمة الطويلة الراغبة في الحق والهدى وبعث القناعة فيها بوجود واجب الوجود وكمال صفاته وعظيم قدرته واستحقاقه وحده للخضوع والاتجاه. والحجة في الآيات ملزمة للكفار موضوع الكلام لأنهم يعتقدون أن الله هو خالق الأكوان ومدبرها والضارّ والنافع وحده، على ما مرّت حكايته عنهم في سور عديدة سابقة. ويلحظ أن بعض ما جاء في هذه الآيات جاء في أوّل السورة السابقة وفي أواخرها أيضا ونقول هنا ما قلناه قبل من أن مردّ ذلك على ما هو المتبادر تكرر المواقف وتجدد المناسبات. والعبارة التي جاءت في هذه الآيات عن كيفية خلق السموات والأرض ومدته واستواء الله على العرش وأطوار خلق الإنسان وشمول حكم الله وقدرته قد وردت في سور أخرى سبق تفسيرها ولقد علقنا بما فيه الكفاية على تعبير وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [72] في سياق سورة (ص) فلا نرى ضرورة لإعادة أو زيادة كذلك. وجملة الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ تنطوي فضلا عن ما ذكرناه من قصد تدعيم الردّ على التنبيه إلى أن كل شيء مما خلقه الله جاء على أحسن ما تقتضيه وظيفته من حالة ونظام وإتقان. وهذا يمكن أن يراه ويلمسه ويدركه كل امرئ مهما كانت ثقافته فيجعله ذلك إذا لم يكن مغرضا مماريا يعترف بوجود الله وعظمته.

تعليق على آية يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون

تعليق على آية يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ولقد قال المفسرون في صدد هذه الآية عزوا إلى ابن عباس وبعض علماء التابعين إن المسافة بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام من سني الدنيا فتقطع في نصف يوم بالنزول وفي مثله بالعروج. ووقفوا عند آية سورة المعارج هذه: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فقالوا بسبيل التوفيق إن آية السجدة هي بصدد المسافة بين الأرض والسماء الدنيا في حين أن آية المعارج هي بصدد المسافة من الأرض السابعة إلى ما فوق السموات السبع وليس في هذا التحليل ما فيه التوقيف المقصود لأن صفة اليوم غير متغيرة، وهي في آية كألف سنة وفي آية كخمسين ألف سنة. ومنهم من قال إن يوم آية السجدة هو نسبة لأيام الدنيا ويوم آية المعارج هو نسبة لأيام الآخرة «1» . ونقول تعليقا على ذلك ما قلناه في المناسبات المماثلة إن من الواجب الإيمان بما جاء في القرآن من الأمور المغيبة مع وجوب الوقوف من ذلك عند ما وقف عنده القرآن دون تزيد ولا توسع ولا سيما إذا لم يكن هناك أحاديث نبوية ثابتة كما هو الحال في هذه المسألة، وأنه لا طائل من التزيد مع الإيمان بأنه لا بد من أن يكون فيما ورد في القرآن حكمة. وقد يتبادر أن من هذه الحكمة التنويه بقدرة الله وعظمة كونه ومطلق تصرفه كما قد يتبادر أن من هذه الحكمة قصد التقريب إلى الأذهان التي اعتادت أن تقيس الأمور بالحركات والأبعاد والأيام. وقصد بيان كون المسافات الشاسعة التي يستعظمها الناس هي بالنسبة لقدرة الله تعالى لا تعدّ شيئا. فالله سبحانه منزّه عما تقتضيه الحركات من حدود وجسمانية وقدرته في غنى عن كل ذلك وليس للأبعاد معها معنى ولا قيام. والله أعلم.

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي.

[سورة السجده (32) : الآيات 10 إلى 11]

[سورة السجده (32) : الآيات 10 الى 11] وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) . (1) ضللنا: هنا بمعنى بليت أجسادنا وتناثرت ذراتها وتاهت في الأرض. في الآيتين: 1- حكاية لتساؤل الكفار تساؤل الجاحد عما إذا كانوا حقيقة سيخلقون خلقا جديدا بعد أن تبلى أجسادهم وتتناثر ذراتها. 2- وبيان لحقيقة الدافع لهم على هذا القول وهو كفرهم بلقاء الله وإنه هو الذي خلقهم وخلق الأكوان جميعا. 3- وأمر للنبي بأن يؤكد لهم ذلك وأن يقول لهم إن هناك ملكا للموت وكّله الله بقبض أرواحهم وأنهم راجعون إليه بعد ذلك. والصلة بين هذه الآيات وسابقاتها قائمة. حيث استؤنف في هذه الآيات حكاية أقوال الكفار أيضا. والفقرة الأخيرة من الآية الأولى تلهم أن إنكارهم للبعث ليس منبعثا من إنكارهم لوجود الله ولكن من اعتقادهم باستحالة البعث بعد بلي الأجساد وهذا هو المتّسق مع ما قررته الآيات الكثيرة التي مرّت أمثلة عديدة منها في صدد اعترافهم بوجود الله وكونه هو الخالق المدبّر المحيي المميت. تعليق على ملك الموت ويلحظ أن الآية الثانية تقرر أن ملك الموت هو الذي يتوفّى الناس عند موتهم في حين أن آية الزمر [42] تذكر أنّ الله هو الذي يتوفّى الأنفس عند موتها. وهناك آيات تذكر أن رسل الله (بصيغة الجمع) هم الذين يتوفّون الناس كما جاء في آية الأعراف [37] وفي آية سورة النحل [37] أن الملائكة هم الذين يتوفّون الناس. وهذا ما ورد في آية سورة الأنعام [93] أيضا ولسنا نرى في هذا تناقضا

جوهريّا حيث يمكن التوفيق بين مدى الآيات بيسر. ولقد أورد المفسرون «1» روايات معزوّة إلى ابن عباس وبعض التابعين عن ملك الموت وأعوانه وأعمالهم منها أن اسم ملك الموت عزرائيل وهو من كبار ملائكة الله. ومنها أن له أعوانا ينزعون الأرواح من الأجساد حتى إذا بلغت الحلقوم تناولها ملك الموت. ومنها أن الأرض جعلت له كطست الماء أو راحة اليد يتناول منها من جاء أجله بدون مشقة. ومنها أن خطوته ما بين المشرق والمغرب وأن له حربة تبلغ ما بين المشرق والمغرب فيتصفح وجوه الناس فإذا رأى إنسانا انقضى أجله ضرب رأسه بتلك الحربة فتنزل به سكرات الموت. ومنها أنه ما على الأرض من بيت شعر أو مدر إلّا يطوف به ملك الموت في اليوم مرتين وفي رواية سبع مرّات لينظر هل فيه واحد أمر أن يتوفّاه! وقد أورد ابن كثير حديثا رواه ابن أبي حاتم عن جعفر بن أبي محمد قال: «سمعت أبي يقول نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملك الموت عند رأس رجل من الأنصار فقال له ارفق بصاحبي فإنّه مؤمن فقال له طب نفسا وقرّ عينا يا محمّد فإني رفيق بكلّ مؤمن. واعلم أنه ما في الأرض بيت مدر ولا شعر في برّ ولا بحر إلّا وأنا أتصفّحهم في كلّ يوم خمس مرات حتى إني أعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم. والله يا محمد لو أني أردت أن أقبض روح بعوضة ما قدرت على ذلك حتى يكون الله هو الآمر بقبضها» . وقد روى ابن كثير الذي أورد هذا الحديث تعليقا عليه عن جعفر أنه إنّما يتصفحهم عند مواقيت الصلاة فإذا حضرهم عند الموت فإن كان ممن يحافظ على الصلاة دنا منه الملك ودفع عنه الشيطان ولقنه لا إله إلا الله محمد رسول الله في تلك الحالة العظيمة! وهكذا يكون ملك الموت بمقتضى هذا الحديث موكلا بقبض أرواح البعوض وغيرها من غير بني الإنسان! ولم يرد هذا الحديث في كتب الصحاح، والروايات الأخرى غير صحيحة الأسناد كذلك. وهذا من الأمور الغيبية التي لا يصحّ التزيّد فيها عمّا ورد في القرآن إلّا بحديث نبوي ثابت وواجب المسلم الإيمان بما جاء

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن وغيرهم.

[سورة السجده (32) : الآيات 12 إلى 14]

في القرآن من ذلك ولو لم تدركه أو تدرك حكمة ذكره العقول العادية. ولعل من ذلك ما هو متصل بعقيدة المشركين في الملائكة من أنهم بنات الله وشفعاؤهم عنده وإشراكهم مع الله في العبادة والاتجاه. فهؤلاء الذين يشركونهم معه ويرجون شفاعتهم عنده ويعتقدون بتأثيرهم ليسوا إلّا خدما لله وعبيدا ومنفذين لأوامره وحسب، وأنهم أشدّاء غلاظ على الكفّار والمشركين بهم. والله أعلم. [سورة السجده (32) : الآيات 12 الى 14] وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) . في الآيتين الأولى والثالثة تنبيه على ما سوف يكون من أمر الكفار يوم القيامة حينما يرجعون إلى الله ويقفون بين يديه: فلسوف يأخذ المرء العجب حينما يرى المجرمين الذين كفروا بالله ولقائه مطأطئي الرؤوس خجلا وخزيا مستشعرين بالندم والحسرة يعلنون يقينهم بالله وصدق وعده وبأنهم قد سمعوا وأبصروا واتعظوا ويطلبون من الله إرجاعهم إلى الدنيا ليعملوا صالحا ويتلافوا ما فرط منهم. غير أن ندمهم هذا لن يجديهم نفعا. وسيقال لهم إنكم أعطيتم الفرصة فأضعتموها وتجاهلتم وغفلتم عن هذا اليوم فوقعتم في سوء العاقبة. فذوقوا عذاب الخلد الدائم بما نسيتم وتجاهلتم وبما كنتم تقترفون من الآثام وتنحرفون عن طريق الحقّ والهدى فقد استحققتم أن ينساكم الله كما نسيتموه وأن تصيروا إلى المصير الوبيل الذي صرتم إليه. أما الآية الثانية فالمتبادر أنها بمثابة استدراك أو تعليق على قول الكفار المفروض المحكي في الآية الأولى، فالله قادر على جعل كل الناس يسيرون في طريق الهدى والحق دون أن يشذّ منهم شاذّ. ولكن حكمته اقتضت وقضاؤه سبق أن يكون لجهنّم ملؤها من الجنّ والإنس معا.

تعليق على آية ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها

والاتصال قائم كذلك بين هذه الآيات وسابقاتها اتصال تعقيب وإنذار. تعليق على آية وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وقد توهم الآية الثانية أن الله قد حتّم على أهل النار من الأزل أن يحرموا من التوفيق والهدى ليملأ بهم النار. وذكر هذا بعض المفسرين والكلاميين في صدد القضاء والقدر «1» . ولكن الآية الثالثة التي تنسب الكفر والنسيان لأصحابه وتجعل النار جزءا عادلا لهم من شأنها أن تزيل الوهم وتجعل الكلام على التحتيم في غير محله هنا وتسوغ القول إن الآية في صدد بيان كون حكمة الله اقتضت أن يترك الناس إلى اختيارهم الذي أودعه فيهم بعد أن بيّن لهم طريق الهدى والضلال حتى تمتلىء جهنّم بأهلها عن بيّنة وعدل والجنة بأهلها عن بينة وعدل وأن لا يجبر الناس على الهدى إجبارا. ولعل في الآيات التالية ما يؤيد هذا التوجيه الذي أكّدته آيات كثيرة سبق تفسيرها والتعليق عليها والذي هو المتسق مع حكمة إرسال الرسل ودعوة الناس وترتيب الجزاء الأخروي حسب أعمال الناس في الدنيا. [سورة السجده (32) : الآيات 15 الى 17] إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) . (1) تتجافى: تتباعد. في الآيات إشارة إلى صفات المؤمنين ومصيرهم: فهم الذين إذا ذكّروا بآيات الله خرّوا سجدا له إعلانا لإيمانهم به وخضوعهم له وحده وسبحوا بحمده

_ (1) انظر تفسير الآية في الكشاف المذيّل بتعليقات ابن المنير، وانظر تفسيرها في تفسير النسفي.

تعليقات على آية إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وما بعدها

على ما أولاهم من نعم وقدّسوه ونزّهوه ولم يستكبروا عن عبادته. وهم الذين يهجرون النوم والراحة ويقضون أوقاتهم في عبادة الله وحده مستشعرين بالخوف منه وراجين الثواب منه. وهم الذين ينفقون مما رزقهم الله في سبل البرّ المتنوعة. فهؤلاء لا يعلم إلّا الله ما هيّىء لهم من عظيم المكافاة التي فيها قرّة أعينهم وطمأنينة قلوبهم جزاء ووفاقا على ما قدموه من صالح الأعمال. وواضح أن الآيات قد أعقبت الآيات السابقة في صدد المقابلة بين مصائر الكفار والمؤمنين وأن الاتصال بينها وبين سابقاتها. تعليقات على آية إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وما بعدها ولعل الآيات جاءت بالأسلوب الذي جاءت به كردّ على ما حكته الآيات السابقة من إعلان الكفار يوم القيامة يقينهم بالله واتعاظهم. فالإيمان في الآخرة والندم على ما فات لن يجديا نفعا. وإنما المجدي هو الإيمان والعمل الصالح في الدنيا. وفي هذا ما فيه من التلقين المستمر المدى. والإمعان في الآيات فحوى وروحا يزيل الوهم الذي قد يرد في صدد الآية الثانية من الآيات السابقة لها كما نبّهنا عليه. فكل ما وصف به المؤمنون قد نسب فعله إليهم وصدوره عنهم باختيارهم الذي أودعه الله فيهم. ومع إطلاق الآيات الذي يجعلها مستمد إلهام وتلقين وتنويه وغبطة مستمر لكل مؤمن في كل وقت فإن فيها على ما هو المتبادر صورة قوية للسابقين الأولين من المؤمنين في مكة من قيام في الليل وتقديس وتسبيح دائمين لله عزّ وجلّ وخوف منه وأمل فيه وإنفاق لأموالهم في سبيله رضوان الله عليهم. وهو ما تكررت حكايته عنهم في سور عديدة منها السورة السابقة. وجملة فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ تتضمن بشرى عظيمة غير محدودة من شأنها أن تثير في نفوس المؤمنين الصالحين أشدّ الغبطة والارتياح

وتحملهم على مضاعفة جهدهم في نيل رضاء الله في العبادة والتسبيح والذكر والإنفاق. وهو مما استهدفته الجملة فيما هو المتبادر. ولقد روى المفسرون في سياق هذه الآيات أحاديث نبويّة عديدة. منها حديث رواه الطبري بطرقه بصيغ عديدة متقاربة عن معاذ بن جبل قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له ألا أدلّك على أبواب الخير؟ الصوم جنة. والصدقة تكفر الخطيئة. وقيام العبد في جوف الليل، وتلا الآية تَتَجافى جُنُوبُهُمْ إلى آخرها» . وعن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر قال أبو هريرة ومن بله ما أطلعكم عليه اقرأوا إذا شئتم فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) » «1» . وروى البغوي بطرقه حديث معاذ بن جبل بتفصيل أكثر قال: «كنت مع رسول الله في سفر فأصبحت يوما قريبا منه وهو يسير فقلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار. قال: لقد سألت عن أمر عظيم، وإنه ليسير على من يسّره الله عليه. تعبد الله ولا تشرك به شيئا. وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحجّ البيت. ثم قال: ألا أدلّك على أبواب الخير؟ الصوم جنة. والصدقة تطفئ الخطيئة. وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ حتى بلغ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: رأس الأمر الإسلام. وعموده الصلاة. وذروة سنامه الجهاد. ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا نبيّ الله، قال: فأخذ بلسانه فقال: اكفف عليك هذا. قال: فقلت يا نبيّ الله وإنّا لمؤاخذون بما نتكلم به. قال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلّا حصائد ألسنتهم» . وروى بطرقه عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكم بقيام الليل فإنه دأب

_ (1) روى هذا الحديث الشيخان والترمذي أيضا في سياق تفسير الآية. انظر التاج ج 4 ص 181- 182.

[سورة السجده (32) : الآيات 18 إلى 20]

الصالحين قبلكم وقربة لكم إلى ربّكم ومكفرة للسيّئات ومنهاة عن الإثم» «1» . وأورد ابن كثير حديثا رواه ابن أبي حاتم عن أسماء بنت يزيد قالت: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جمع الله الأوّلين والآخرين يوم القيامة جاء مناد فنادى بصوت يسمع الخلائق، سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم ثم يرجع فينادي ليقم الذين تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ الآية فيقومون، وهم قليل» . وينطوي في الأحاديث «2» تلقينات وترغيبات وتبشيرات نبوية متساوقة مع ما في الآيات من ذلك. [سورة السجده (32) : الآيات 18 الى 20] أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) . عبارة الآيات واضحة. وهي متصلة بالسياق. وقد جاءت بمثابة تعقيب على الآيات السابقة. وفيها مقايسة بين المؤمنين والفاسقين وبيان المصير الحقّ الذي يكون لكل منهم في الآخرة المتناسب مع عمل كل منهم، واستنكار لأي تسوية بين المؤمن الصالح والفاسق المتمرد. وفيها تدعيم قوي لما ذكرناه قبل في صدد نيل الناس في الآخرة ثوابهم وعقابهم وكونه جزاء عادلا لما قدموه في الدنيا واختاروه من طريق. والمتبادر أن تعبير كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها تعبير أسلوبي بقصد توكيد شدّة البلاء الذي سيصيب الكفار في الآخرة. واستهدفت فيما استهدفته إثارة الرعب في قلوب الكفار. وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات [16- 20] مدنية. وروى

_ (1) روى هذا الحديث الترمذي وأحمد والحاكم. وجاء في روايتهم في نهايته «وفي رواية ومطردة للداء عن الجسد» انظر التاج ج 1 ص 292. (2) هناك أحاديث عديدة أخرى فاكتفينا بما أوردناه.

[سورة السجده (32) : الآيات 21 إلى 22]

الطبري عن عطاء بن يسار أن الآيات [18- 20] نزلت بالمدينة في علي بن أبي طالب والوليد بن عتبة بن أبي معيط «فقد كان بين الوليد وعلي كلام فقال الوليد أنا أبسط منك لسانا وأحدّ منك سنانا وأردّ منك للكتيبة. فقال علي اسكت فإنك فاسق، فأنزل الله فيهما أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ إلى قوله تُكَذِّبُونَ» . وروى هذا البغوي بدون عزو إلى راو وبشيء من المباينة هي أن الوليد قال لعلي اسكت فإنك صبي وأنا والله أبسط منك لسانا وأحدّ منك سنانا وأشجع منك جنانا وأملأ منك حشوا في الكتيبة، فقال له علي: «اسكت فإنك فاسق» فأنزل الله: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ولم يقل لا يستويان لأنه لم يرد مؤمنا واحدا وفاسقا واحدا. وهذه الروايات لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. والمفروض أن الوليد كان مسلما. والآية تقرر مأوى الفاسقين في النار خالدين فيها. وتنزّه عليا عن القذف بمسلم بصفة الفاسق الكافر. والإمعان في السياق يسوغ القول إن الآيات منسجمة مع الآيات السابقة بل والآيتين اللاحقتين سبكا وموضوعا كل الانسجام. وهذا ما يجعلنا نشكّ في الروايات. والله أعلم. [سورة السجده (32) : الآيات 21 الى 22] وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) . (1) العذاب الأدنى: العذاب القريب. في الآيتين: 1- إنذار رباني في صيغة التوكيد بأن الله سيصيب الكفار بالبلاء القريب قبل البلاء الأخروي الأكبر لعلّهم يتراجعون عن غيّهم وموقفهم.

[سورة السجده (32) : الآيات 23 إلى 24]

2- وتقريع في أسلوب السؤال الإنكاري يتضمن تقريرا بأنه ليس من أحد أشدّ ظلما ممن أنذره الله بآياته وذكره بها ثم أعرض وتصامم عنها. 3- وتوكيد بأن الله منتقم حتما من المجرمين الذين لا تنفع فيهم الموعظة والإنذار. والآيتان معطوفتان على سابقاتهما ومتصلتان بها سياقا وموضوعا كما هو واضح. وقد قال المفسرون إن العذاب الأدنى الذي أنذر به الكفار هو عذاب دنيوي. وهذا ما تلهمه العبارة أيضا. ولقد احتوت السورة السابقة إشارة إلى ما أصيب به الكفار من بلاء دنيوي وتأنيبا لهم على عدم اتعاظهم به وإنذارا ببلاء أشدّ، فجاءت الآيتان تؤكدان الإنذار والتأنيب. ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون عن ابن عباس وبعض علماء التابعين في ماهية العذاب الأدنى «1» . منها أنه مصائب في الأموال والأنفس تصيبهم في الدنيا. ومنها أنه القتل بالسيف صبرا أو الجوع والقتل. ومنها أنه ما أصابهم في وقعة بدر. ومنها أنه الدخان والقحط قبل الهجرة أو بعدها. ومنها عذاب القبر. ومنها أنه فتنة الدجال أو الدابة التي تخرج من الأرض في آخر الزمان. والقول الأخير غريب في مقامه لأن الإنذار للسامعين من الكفار والفاسقين. وقد يكون بعض هذه الأقوال تطبيقية بعد وقوع المصائب. ويكون في ذلك مصداق لوعيد الله وإنذاره. وعلى كل حال فالمتبادر أن الآيتين قد استهدفتا تكرار إنذار المشركين وزعمائهم من جهة وتطمين النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من جهة أخرى. [سورة السجده (32) : الآيات 23 الى 24] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) .

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي. وهناك حديث رواه مسلم عن أبي بن كعب قال: «في هذه الآية العذاب الأدنى مصائب الدنيا والروم والبطشة أو الدخان» انظر التاج ج 4 ص 182.

في الآيتين: تذكير بموسى وبني إسرائيل، فقد نزّل الله على موسى الكتاب. وجعله هدى لبني إسرائيل. وقد جعل من بني إسرائيل أئمة يهدون الناس إلى طريق الحقّ بأمر الله وتوفيقه بسبب ما بدا من هؤلاء الأئمة من الصبر والإيقان بآيات الله. والمتبادر أن الآيتين جاءتا لتطمين النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وتثبيتهم في الظرف الذي أخذ موقفهم فيه يتحرّج وأزمتهم تشتدّ من الكفار. فكما فعل لموسى وبني إسرائيل لأنهم أيقنوا وصبروا فسيفعل لهم لأنهم أيقنوا وصبروا أيضا. وبهذا التوجيه الذي نرجو أن يكون صوابا تتصل الآيتان بسابقاتهما اتصالا وثيقا بالرغم مما يبدو لأول وهلة من انقطاعهما. ولقد تعددت الأقوال في تأويل جملة فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وبخاصة في ضمير لِقائِهِ فمن المفسرين «1» من قال إن الجملة لرفع الشك في لقاء الله لموسى أو لرفع الشكّ في لقاء النبي صلى الله عليه وسلم لموسى ليلة الإسراء، وأوردوا في صدد ذلك بعض أحاديث غير واردة في كتب الصحاح جاء في بعضها عزوا إلى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أريت ليلة أسري بي موسى بن عمران رجلا آدم طوالا جعدا كأنه من رجال شنوءة. ورأيت عيسى رجلا مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الرأس. ورأيت مالكا خازن النار والدجال» . وفي بعضها عن أنس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا أسري بي إلى السماء رأيت موسى يصلّي في قبره» . ومنهم من قال عزوا إلى السدي أن الجملة بمعنى (فلا تكن في شك من تلقي موسى كتاب الله بالرضا والقبول) ومنهم من قال إنها بمعنى (فلا تكن في شك من تلقي القرآن عن الله مثل تلقي موسى الكتاب) وأورد الزمخشري الذي قال القول الأخير آية يونس هذه: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ [94] ليؤيد قوله. والأرجح فيما يتبادر لنا أن الضمير في لِقائِهِ يعود إلى الكتاب لأنه الأقرب ويكون التأويل الأخير هو

_ (1) انظر تفسيرها في تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والكشاف للزمخشري.

تعليق على الآية وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون

الأكثر وجاهة والأكثر انسجاما مع روح الآيتين ويكون معنى لِقائِهِ هو تلقيه، والله أعلم. تعليق على الآية وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ وضمير لَمَّا صَبَرُوا يحتمل أن يكون راجعا إلى بني إسرائيل كما يحتمل أن يكون إلى الأئمة. ورجوعه إلى الأئمة أوجه لأنهم الأقرب إلى الجملة أولا ولأن الوصف لا يمكن أن يكون شاملا لجميع بني إسرائيل لا في زمن موسى ولا بعده لأن أسفار العهد القديم من لدن موسى «1» قد سجلت انحرافات كثيرة دينية وخلقية لفئات كثيرة من بني إسرائيل كانت أحيانا غالبيتهم الكبرى. وهو ما رددته آيات قرآنية عديدة مكيّة ومدنيّة. وقد مرّ منها أمثلة عديدة مثل آية الأنعام [146] وآيات الأعراف [148- 153 و 160- 170] وكان ترديده في القرآن أقوى وأشدّ وأوسع لأنه ربط بين مواقفهم من الرسالة المحمدية والقرآن وبين مواقف آبائهم وانحرافاتهم الدينية والخلقية في زمن موسى وبعده كما جاء في آيات سورة البقرة [40- 149 و 246- 253] وسورة آل عمران [51- 120] والنساء [44- 52 و 149- 161] والمائدة [12- 13 و 31- 33 و 41- 45 و 50- 71] . وجملة لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ صريحة الدلالة على سبب جعل الله تعالى منهم أئمة يهدون بأمره. والآيات التي ذكرنا أرقامها آنفا من مكيّة ومدنيّة ونصوص الأسفار الكثيرة جدا. ثم عدم إيمان من لم يؤمن منهم بالرسالة المحمديّة التي ذكرت الآيات القرآنية أن صفات نبيها مكتوبة في التوراة وأنهم كانوا

_ (1) إن هذا مبثوث بكثرة في معظم أسفار العهد القديم بحيث لا يحتاج إلى إيراد الأمثلة. فكل من تصفح هذه الأسفار أو شيئا منها يجد الدليل على ذلك. اقرأ إذا شئت كتابنا «تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم» .

[سورة السجده (32) : الآيات 25 إلى 30]

يعرفون أنها الحقّ وأن كتابها منزل من الله برغم إيمان بعضهم الذين استطاعوا التغلّب على الأنانية والهوى كل ذلك قد أنهى وجود السبب المذكور كما هو المتبادر. [سورة السجده (32) : الآيات 25 الى 30] إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) . في الآيات: 1- تقرير تطميني للنبي والمؤمنين وإنذاري للكفار بأن الله سيفصل بين الناس يوم القيامة في ما اختاروه من الطرق المختلفة حيث يحقّ الحقّ ويؤيد أهله ويزهق الباطل ويخذل أصحابه. 2- وتساؤل إنكاري يتضمن التنديد بالكفار عمّا إذا لم يكن قد بان لهم وهداهم ووعظهم ما أهلكه الله قبلهم من القرون والأجيال الكثيرة الذين يعيشون ويمشون في مساكنهم، ففي ذلك موعظة كافية لمن يسمع ويعي فهل فقدوا السمع فلا يسمعون. 3- وتساؤل استنكاري آخر يتضمن التنديد بالكفار أيضا عمّا إذا لم يروا بأعينهم أن الله تعالى يرسل الماء إلى الأرض الجافة اليابسة فيخرج به زرعا يأكلونه هم وأنعامهم. وفي هذا من الدلالة على قدرة الله ما فيه الكفاية. فهل فقدوا الإبصار فلا يبصرون. 4- وحكاية لما يتكرر صدوره منهم من التساؤل الاستخفافي عن موعد

تحقيق ما يوعدون به من البعث والحساب إن كان صدقا. وأمر للنبي بإجابتهم تتضمن الإنذار والتوكيد معا بأن ذلك آت في اليوم الذي هو في علم الله وأن إيمان الكافرين في ذلك اليوم وندمهم لن يجدياهم ولن يكون لهم إمهال وفرصة أخرى. 5- وأمر آخر للنبي بأن يذرهم وما هم فيه من ضلال ويعرض عنهم ولا يبالي بموقفهم منتظرا حكم الله وأمره. فهم أيضا منتظرون ذلك مصرّون على غيّهم وعنادهم. والآيات متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا أيضا. وقد جاءت ختاما للسورة. وأسلوب الختام مماثل لأسلوب ختام سور عديدة. وقد يمكن أن تكون الآية الأولى تعني بني إسرائيل كما يمكن أن تعني الكفار أو تعني الناس عامّة. وقد رجحنا أنها تعني الكفار لأن الضمير فيها مماثل للضمائر التي في الآيات التالية لها والتي يظهر أنها تعني الكفار بجلاء. وهو ما جعلنا نعرضها مع هذه الآيات. وفي حال صحة احتمال صلتها بالآية التي سبقتها فيكون فيها تقرير لواقع اختلافات بني إسرائيل فيما بينهم ما قررته آيات عديدة مكيّة ومدنيّة مرّت أمثلة منها. والآية الثانية تنطوي على توكيد جديد بكون سامعي القرآن يعرفون البلاد التي أهلكها الله من قبلهم بسبب كفرهم معرفة مشاهدة ويعرفون أخبارها السابقة. وهو ما أكدته آيات عديدة مرّ بعضها ومن ذلك ما ورد فيه هذا بصراحة حاسمة مثل آيات سورة الصافات هذه: وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) وآية سورة العنكبوت هذه: وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) .

وكلمة (الفتح) جاءت في القرآن بمعنى الحكم والقضاء كما جاء في آية سورة الأعراف هذه: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ [89] وآية سورة سبأ هذه قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) وجاءت بمعنى النصر والانتصار على العدو كما جاءت في سورة الفتح إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) وآية سورة النساء هذه الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ [141] . ولقد تعددت روايات المفسرين في ما تعنيه الفتح هنا حيث حكت الآية الرابعة تساؤل الكفار عنه بأسلوب السخرية والاستخفاف وحيث أنذرهم القرآن بالذلّ والخزي والعذاب فيه. منها أنه فتح مكة أو نصر بدر. ومنها أنه يوم القيامة. والقول الأخير هو الأوجه على ما تلهم الآية الخامسة التي ردّت عليهم وأنذرتهم بأن إيمانهم يوم الفتح لن يجديهم ولن يكون لهم فيه مهلة أو فرصة أخرى. وهذا إنّما يصدق على يوم القيامة كما هو المتبادر. ولقد جارتهم الآية فنعتت هذا اليوم بيوم الفتح ردا على تحدّيهم واستخفافهم. وهو حقا يوم فتح ونصر على من يبقى كافرا ويموت كافرا. وأمر النبي بالإعراض عنهم لا يعني أن ينقطع عن إنذارهم وإنما هو أسلوبي بقصد تثبيت النبي وتسليته ودعوته إلى عدم الاغتمام لموقفهم. وقد تكرر في مناسبات مماثلة كثيرة مرّت أمثلة عديدة منها. ولقد كرر المفسرون القول والروايات في سياق الآية الأخيرة بأنها نسخت بآية السيف. ونكرر ما قلناه في المناسبات السابقة المماثلة بأن ذلك وجيه بالنسبة لمن يبقى على كفره وعدائه.

سورة الطور

سورة الطور في السورة توكيد للبعث والحساب. ووصف لمصائر الكفار المكذبين، والمؤمنين المخلصين يوم القيامة. وتنزيه للنبي صلى الله عليه وسلم عن الكهانة والشعر والجنون والغرض الشخصي. وتنديد مفحم بالكفار لما هم عليه من تناقض وعناد ومكابرة وسوء نيّة وما يبيتونه من المكائد للنبي صلى الله عليه وسلم وينسبون إليه من تهم. وإنذار لزعمائهم الذين يتولون كبر هذا الموقف المجرم. وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم وحثّه على الاستمرار في مهمته وتطمين له بأنه موضع عناية الله وأن عليه الاعتماد عليه وتفريغ قلبه لعبادته وتسبيحه في كل وقت وانتظار قضائه العادل. وآياتها متوازنة منسجمة مما يبرر القول إنها نزلت دفعة واحدة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الطور (52) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) . (1) الطور: جمهور المفسرين على أنه طور سيناء. والطور لغة مرادف للجبل. (2) كتاب مسطور: قال بعض المفسرين إنه القرآن وقال بعضهم إنه كتب الله إطلاقا. ومسطور بمعنى مكتوب. (3) رقّ منشور: الرقّ هو قطعة الجلد الأملس المعدّ للكتابة. وأكثر ما كان

يتخذ من جلد الغزال. ومنشور بمعنى المبسوط أو المعدّ للكتابة والقراءة. (4) البيت المعمور: كناية عن الكعبة. وبعض المفسرين رووا حديثا نبويّا بأن في السماء بيتا مثل الكعبة يسمى بهذا الاسم «1» . (5) السقف المرفوع: كناية عن السماء. وقد وصفتها إحدى آيات سورة الأنبياء بالسقف [الآية 32] . (6) البحر المسجور: تعددت الأقوال في المقصود من الكلمة «2» . والمسجور هو الممتلئ في قول، والفارغ في قول، والمتّقد نارا في قول. وفي سورة غافر هذه الآية: ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [72] بمعنى يلقون فيها وقودا. وفي سورة التكوير هذه الآية: وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) بمعنى أشعلت نارا واتقدت أو ملئت أو أفرغت وهناك قول بأن المسجور بمعنى المحبوس وإن الجملة تعني بحرا محبوسا في السماء أو تحت العرش. وعلى كل حال فلا شك في أن سامعي القرآن كانوا يفهمون المقصد من الجملة عدا القول الأخير المأثور عن بعض التابعين. احتوت الآيات أقساما ربانية ببعض الأماكن والمشاهد المباركة والعظيمة للتوكيد بأن عذاب الله الموعود واقع لا محالة ولن يستطيع أحد دفعه ولا منعه. وبدء السورة بمثل هذه الأقسام من أساليب النظم القرآني المألوف في مطالع السور. والآيات على ما تلهمه الآيات التالية لها مقدمة لحملة إنذارية وتنديدية على الكفار. ولقد أشرنا في شرح الكلمات إلى حديث يرويه المفسرون عن البيت المعمور. وهذا الحديث مروي بصيغ متعددة متقاربة أوردها الطبري في سياق الآيات. منها هذه الصيغة رواها الطبري بطرقه عن مالك بن صعصعة قال: «قال

_ (1) انظر تفسير ابن كثير والبغوي. (2) انظر تفسير الآية ثم تفسير آيات غافر [72] والتكوير [6] في كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير وغيرهم.

[سورة الطور (52) : الآيات 9 إلى 16]

نبيّ الله صلى الله عليه وسلم رفع إلى البيت المعمور فقلت يا جبريل ما هذا قال البيت المعمور يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا آخر ما عليهم» «1» . وقد ذكر الطبري فيما ذكره أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه في السماء السابعة لما عرج به إليها. وروى الطبري بعض الصيغ منسوبة إلى علي بن أبي طالب (رض) مع قوله إنه يقال له أيضا الصراخ. والصيغة المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم هي من حديث طويل في الإسراء والمعراج رواه البخاري عن مالك بن صعصعة وأشرنا إليه في تعليقنا على المعراج في سورة النجم. وهذا الأمر من الأمور الغيبية التي يجب الإيمان بها إذا ما ذكرت في القرآن أو في حديث نبويّ صحيح. والله أعلم. [سورة الطور (52) : الآيات 9 الى 16] يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) . (1) تمور: تتحرك وتضطرب وتدور. (2) يدعّون: يدفعون بعنف. في الآيات إنذار للمكذبين وبيان لمصيرهم يوم القيامة. ففي ذلك اليوم تضطرب السماء فيه وتتزلزل الجبال وتسير. والويل فيه للمكذبين لآيات الله اللاهين عنها الخائضين فيها خوض المنكر الساخر، ولسوف يساقون إلى جهنّم سوقا عنيفا. ويقال لهم هذه النار التي كنتم تكذبون بها فانظروا هل هي حقيقة أم خيال وسحر كما كنتم تزعمون. واصلوها جزاء كفركم وجرائمكم. وإنها لمصيركم الأبدي سواء أصبرتم عليها أم لم تصبروا. والآيات كما هو ظاهر متصلة بالآيات السابقة. واضطراب السماء والجبال

_ (1) انظر التاج ج 3 ص 230- 233. [.....]

[سورة الطور (52) : الآيات 17 إلى 28]

مما تكرر ذكره في القرآن من مشاهد يوم القيامة تصويرا لهول ذلك اليوم وشدّته على ما هو المتبادر. وأسلوب الآيات قوي لاذع من شأنه إثارة الخوف في الكفار وحملهم على الارعواء. وهو مما استهدفته فيما هو المتبادر أيضا. [سورة الطور (52) : الآيات 17 الى 28] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) . (1) فاكهين: متلذذين. (2) ألتناهم: نقصناهم. (3) يتنازعون: هنا بمعنى يتعاطون. (4) لا لغو فيها ولا تأثيم: يمكن أن تكون الجملة وصفا للكأس فيكون المعنى أن الكأس الذي يشربونها لا يسكر شاربها وتجعله يفحش بالقول والإثم. ويمكن أن تكون وصفا للجنات. وفي آيات سورة الواقعة آيات قد تفيد أنها وصف للجنات لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً (26) . (5) غلمان لهم: كناية عن الخدم. (6) كأنهم لؤلؤ مكنون: كأن لونهم اللؤلؤ المصون. (7) يتساءلون: هنا بمعنى يتذاكرون ما صاروا إليه من فضل الله. (8) السّموم: الهواء الحار اللافح.

تعليق على آية والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ...

وفي هذه الآيات تنويه بمصائر المؤمنين الذين اتّقوا الله بالإيمان وصالح العمل والبعد عن الإثم مقابلة لذكر مصائر المكذبين جريا على الأسلوب القرآني. وهي واضحة العبارة في وصف مظاهر النعيم الذي يتنعمون به وإدراكهم لما صاروا له من مظهر فضل الله وعنايته جزاء خوفهم منه واتجاههم إليه وحده. وأسلوبها شائق مغر من شأنه بعث الابتهاج والطمأنينة في المؤمنين والتنويه بأعمالهم الصالحة المرضية وحثّ عليها وتشويق غيرهم لها وهو مما استهدفته الآيات كما هو المتبادر. وقد تكرر مثل هذا الوصف المستمد من مألوفات الدنيا وما فيها من صور أحسن المتع للتقريب والتمثيل. وجملة كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ تتضمن كما هو المتبادر معنى تعقيبيا بالنسبة لما ذكر من مصير الفريقين الكفار والمتقين. فكل منهم ينال وفاقا لعمله وكسبه. وفي هذا توكيد للمبدأ القرآني المحكم المتكرر من مسؤولية الإنسان عن عمله وكسبه ونيله ما يستحق من الثواب والعقاب حسب ذلك. تعليق على آية وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ ... والضمير في أَلَتْناهُمْ راجع إلى المؤمنين كما هو المتبادر. والجملة تعني أن الذرية التي تتبع آباءها المؤمنين بإيمان ينالون ما يناله آباؤهم دون أن ينقص من ثواب آبائهم شيء كما هو المتبادر. ولقد روى المفسرون أحاديث متنوعة في صدد هذه الآية فيها معان أخرى غير المعنى الذي ذكرناه والذي ذكره المفسرون أيضا. منها حديث رواه البغوي بطرقه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل لتقرّبهم عينه ثم تلا الآية» . وحديث رواه البغوي كذلك عن علي بن أبي طالب قال: «سألت خديجة النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ولدين ماتا لها في الجاهلية فقال هما في النار فلما رأى الكراهة في وجهها قال لو رأيت مكانهما

لأمعضتهما. قالت يا رسول الله فولدي منك قال في الجنّة. ثم قال إن المؤمنين وأولادهم في الجنة وإن المشركين وأولادهم في النار. ثم قرأ الآية» . وحديث أورده ابن كثير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم حسب ظنّ الراوي أنه قال: «إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال إنهم لم يبلغوا درجتك فيقول يا ربّ قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به وقرأ ابن عباس الآية» . وحديث رواه الطبري بطرقه عن ابن عباس قال في هذه الآية «المؤمن ترفع له ذريته فيلحقون به وإن كانوا دونه في العمل» وقد روى مثل هذا الحديث بصيغ متقاربة عن علي بن أبي طالب وبعض علماء التابعين. وهذا من قبيل تفسير الآية كما هو واضح. وهناك حديث يرويه الطبري أيضا عن ابن عباس في الآية قال: «من أدرك ذريته الإيمان فعملوا بطاعتي ألحقتهم بآبائهم في الجنة وأولادهم الصغار أيضا على ذلك» ومثل هذا مرويّ عن الضحّاك أيضا. وليس من هذه الأحاديث شيء في كتب الأحاديث الصحيحة. ولكن ليس فيها ما لا يحتمل الصحة نصّا أو معنى. والمحصل فيها بالإضافة إلى المعنى الذي يتبادر من الآية والذي أوردناه قبل أن المؤمنين الذين لهم ذرية مؤمنة أو عاشت ذريتهم في حضانتهم وماتت قبل بلوغها يكرم الله آباءهم فيلحقها بهم في الجنة ولو لم يكن لها عمل أو عمل مواز لعمل آبائها. وينطوي في هذا المحصل على ما هو المتبادر في جملة ما ينطوي فيها ترغيب وتبشير وتطمين للمؤمنين. على أن جملة كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ وإن كانت كما قلنا قبل قليل تتضمن معنى التعقيب على مصيري الكفار والمتقين فإن مجيئها في هذه الآية يمكن أن يكون منطويا على تقرير كون الذرية التي لا تتابع آباءها بالإيمان تجزي بما كسبت دون أن تنتفع بإيمان وعمل آبائها. وإذا صحّ هذا ونرجو أن يكون صحيحا فيكون فيه توجيه وتحذير وتنبيه واتساق مع المبادئ القرآنية المحكمة.

[سورة الطور (52) : الآيات 29 إلى 34]

[سورة الطور (52) : الآيات 29 الى 34] فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) . (1) نتربص به: ننتظر له. (2) ريب المنون: الموت أو صروف الدنيا التي تقلق الإنسان وتريبه. (3) أحلامهم: عقولهم. (4) تقوّله: اخترعه. في الآيات: أولا حكاية لما كان الكفار يقولونه عن النبي صلى الله عليه وسلم وردّ وتكذيب لهم وتثبيت وتطمين للنبي والخطاب موجه إليه: فعلى النبي أن يستمرّ في تذكيره ودعوته وأن لا يبالي بأقوالهم. فقد شملته نعمة الله وعنايته. وليس هو كما يقولون كاهنا ولا مجنونا. وإذا كانوا يتواصلون باستمرار مناوأته والإعراض عنه ويقولون إنه شاعر ننتظر موته فنتخلص منه فليقل لهم على سبيل التحدي إنه هو أيضا متربّص بهم منتظر أمر الله وحكمه فيهم وفي نفسه. ثانيا: أسئلة استنكارية في صدد موقف الكفار وأقوالهم وتحدّ لهم: فهل هم حقا يقولون ما يقولون بقناعة من عقولهم أم بدافع العناد والطغيان؟ وهل يقولون جادين إن النبي هو الذي يخترع القرآن؟ وإذا كانوا جادين صادقين فليأتوا بحديث مثله لأن الاختراع قدر مشترك بينهم وبينه. ويلوح أن في الآيات توضيحا للآيتين فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ وبذلك تكون الصلة قائمة بين الآيات والسياق السابق. وقد تضمنت أيضا تثبيتا وتطمينا للنبي صلى الله عليه وسلم. وآية أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ

تعليق على كلمة كاهن ونسبة الكهانة إلى النبي صلى الله عليه وسلم

مع أسلوبها الاستفهامي تتضمن تقرير حقيقة أمرهم في مواقفهم ومزاعمهم وهي فقدان حسن النيّة والرغبة في الإيمان وتعمّد الطغيان والعدوان والإنكار وليس شيئا ناشئا عن عقل وتدبر وتروّ. ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن قريشا لما اجتمعت في الندوة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم قال قائل منهم أحبسوه في وثاق ثم تربصوا به المنون حتى يهلك كما هلك الشعراء من قبله فأنزل الله الآية أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ويلحظ أن الآية منسجمة مع السياق بحيث يسوغ الترجيح أنها نزلت مع الآيات السابقة لها جملة واحدة. فإذا صحّت الرواية ولا مانع من صحتها فتكون الآية قد أشارت إلى هذا القول بسبيل الردّ عليه في سياق ما احتوته الآيات من ردود على أقوالهم الأخرى التي صدرت جميعها منهم قبل نزول الآيات. وفي الآيتين [33- 34] تكرار لحكاية قول الكفار بأن القرآن مخترع من قبل النبي صلى الله عليه وسلم وتحدّ لهم تحدّيا ينطوي فيه ردّ وإفحام. ويلحظ أن التحدّيات السابقة تحدّتهم بالإتيان بمثل القرآن ثم بعشر سور على ما مرّ في سور الإسراء ويونس وهود. وهنا تتحدّاهم بحديث ما. وأسلوب المرات السابقة وأسلوب هذه المرة متوازيان يتضمنان تقرير عجزهم وقوّة الاستعلاء عليهم. وتعبير بَلْ لا يُؤْمِنُونَ تقرير لواقع أمرهم عند نزول الآيات وسبب مواقفهم. وليس على التأييد لأن كثيرا منهم أسلم وحسن إسلامه على ما نبّهنا عليه في مناسبات سابقة. تعليق على كلمة كاهن ونسبة الكهانة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكلمة (كاهن) ترد هنا لأول مرة. وقد قال بعضهم إنها عبرانية الأصل وهذا ما يقال في صدد كلمات عديدة غيرها مما مرّ التنبيه عليه. مع أن الكلمة كانت شائعة مستعملة قبل البعثة مع اشتقاقاتها مثل تكهن وكهانة وتعني التنبؤ بالغيب. وصيغها عربية فصحى. ولا يرد على هذا وجود الكلمة في العبرانية بنفس المعنى.

فالعبرانية والعربية من أصل واحد فلا بدع أن تكون جذور الكلمات فيهما مشتركة. وهي هنا في مقام تكذيب قول الكفار عن النبي إنه كاهن. وقد وردت في آية في سورة الحاقة في نفس المقام أيضا وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (42) والروايات العربية العديدة تفيد أنه كان يظهر بين العرب قبل الإسلام أشخاص يطلق عليهم هذا الاسم. وأن الناس كانوا يرجعون إليهم ليستفتوهم في حلّ بعض مشاكلهم وأحلامهم وكانوا يجيبونهم بالأجوبة المسجعة المطبوعة بطابع من الإلغاز والتعمية والروعة. وكان العرب يعتقدون أن للكهان صلة بالجنّ يوحون إليهم بالأجوبة ويخبرونهم بأخبار الغيب والسماء. وكان الكهان يسبغون على أنفسهم مظهرا من الخطورة التي تجعل العرب يعتقدون ذلك فيهم. ولعلّه كان في بعضهم بعض المواهب والقوى الغامضة إذا ذاك والتي تفسر اليوم بالقوى المغناطيسية والكهربائية وتظهر بمظهر قراءة الأفكار والشعور من البعد والتأثير الروحاني فكانوا يفسرون ذلك بوحي الجنّ. وقد كان من النساء كاهنات كما كان من الرجال كهان. وقد رويت روايات عديدة عنهم وعن أقوالهم قد يكون فيها صنعة ومبالغة ولكن وجود أناس يتسمون باسم الكهان واتصاف الكهان بمثل هذه الصفات أمران لا شك فيهما لأن ذكر الكهان في القرآن دليل حاسم على ذلك. والظاهر أن العرب رأوا في النبي ودعوته والقرآن الذي يتلوه شيئا مما كان يبدو من الكهان فنسبوا إليه الكهانة فيما نسبوا. وقد نفى القرآن عنه ذلك في هذه السورة وفي سورة الحاقة كما نفى عنه السحر والشعر والجنون والاتصال بالجن في آيات عديدة في سور عديدة مرّت أمثلة منها نفي تزييف وتنديد وتسخيف. واقتران النفي هنا بذكر نعمة الله يتضمن توكيد صلة النبي بالله وتسفيه رؤية صورة الكهان وسجعهم فيه وفيما يتلوه كما يتضمن التذكير بأن الكاهن لم يكن بسبيل الدعوة إلى الله وحده ومكارم الأخلاق ومحاربة الشرك والفساد والآثام وبأن قصارى ما عرف عن الكهان أنهم يجولون في نطاق وأفق ضيقين وفي سبيل العيش وليسوا هم بسبيل دعوة عظمى لا يطلب صاحبها عليها أجرا ولا مغنما.

[سورة الطور (52) : الآيات 35 إلى 43]

وهناك حديث صحيح رواه مسلم عن أبي هريرة جاء فيه: «من أتى عرّافا أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمّد» «1» . والحديث وإن لم يذكر حكم الكاهن فالمتبادر أنه يشمله ضمنا. وكفر الذي يأتي الكاهن هو من كونه جاء إليه وهو يعتقد باطلاعه على الغيب وقدرته على النفع والضرّ. وهذا وذاك من خصائص الله تعالى ويكون الذي يعتقد بذلك في الناس مشركا بدون ريب. والكاهن بنصبه نفسه لهذه المهمة صار أولى أن يتّصف بهذا الوصف. والله تعالى أعلم. هذا، ولقد روي عن ابن إسحاق أن الكهانة عند الجاهليين كانت بمثابة الأحبار والرهبان عند اليهود والنصارى، وهذا خطأ فيما هو المتبادر فإن الأحبار والرهبان عند اليهود والنصارى يتصفون بصفة دينية ويمارسون مهامّ دينية في حين أنه لم يرو أحد عن كهان العرب شيئا من ذلك. [سورة الطور (52) : الآيات 35 الى 43] أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) . (1) مغرم: أجر أو تكليف أو ضريبة. (2) يكتبون: هنا بمعنى يحكمون ويقضون. وفي هذه الآيات أسئلة استنكارية أخرى فيها كذلك تنديد بعقائد الكفار

_ (1) التاج ج 3 ص 201، ويروي مؤلف التاج صيغة أخرى رواها الإمام أحمد جاء فيها: «من أتى عرّافا فسأله أو كاهنا فصدقه لم تقبل صلاته أربعين ليلة» وفرق عظيم في الحكم في الصيغتين. والأحاديث التي يرويها مسلم هي أصحّ وأوثق عند علماء الحديث. والله تعالى أعلم.

ومواقفهم واعتدادهم وتهكم بهم وتحدّ لهم: 1- فهل بلغ فيهم الاعتداد والتناقض إلى أنهم كادوا يظنون أنه لم يخلقهم خالق، أو أنهم خلقوا أنفسهم، أو خلقوا السموات والأرض، أو ملكوا خزائن الله وسيطروا على ملكه حتى لم يعودوا يخشون نقمته. 2- أم لهم سلّم يصعدون عليه إلى السماء ويطّلعون على الغيب فعرفوا أنهم على حقّ واستغنوا بذلك عن رسالة الله بلسان رسوله وهلا تقدم الذي استمع إلى أخبار السماء واطلع على الغيب منهم فيدلي بما عنده من برهان. 3- أم تفوقوا على الله فكان نصيبهم البنين بينما جعلوا نصيبه البنات. 4- وهل عندهم علم الغيب فهم يقررون مصائر الناس ويقضون فيها بما يرون. 5- وهل رأوا رسولهم يسألهم أجرا على رسالته حتى يستثقلون الأمر ويعرضون عن دعوته إلى الحق والهدى. 7- وهل موقفهم منه بقصد الكيد له والنكاية به مع أن ذلك إنما هو الحقيقة كيد لأنفسهم. 8- وهل يعرفون إلها غير الله يلجأون إليه ويحتمون به حتى بلغت الجرأة فيهم هذا المبلغ تعالى الله وتنزّه عما يشركون. وواضح أن الآيات استمرار للآيات السابقة سياقا وموضوعا. وقد جاءت قوية لاذعة منطوية على تقرير عجزهم وإفكهم وكذبهم فضلا عن السخرية والتنديد بهم. وفيها في الوقت نفسه تصوير لشدّة عناد ومكابرة المشركين وبخاصة زعمائهم. وأكثر الأقوال والأسئلة والمواقف المحكيّة عن الكفار ورد في سور أخرى سابقة حيث يبدو أنها كانت تتكرر منهم أو تتجدد من قبل فريق بعد فريق فكانت حكمة التنزيل تقتضي تكرارها. ولقد روى البخاري في سياق تفسير السورة حديثا عن جبير بن مطعم قال:

[سورة الطور (52) : الآيات 44 إلى 49]

«سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآيات: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ [الطور: 35- 37] كاد قلبي أن يطير» «1» ، حيث ينطوي في الحديث صورة رائعة لما كان للآيات القرآنية الزاجرة من تأثير قوي في نفوس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضوان الله عليهم. [سورة الطور (52) : الآيات 44 الى 49] وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49) . (1) كسفا: قطعة. (2) مركوم: متراكم. (3) يصعقون: وردت في القرآن كلمة فَصَعِقَ (الزمر/ 68) بمعنى الموت من نفخة الصور ووردت كلمة صاعِقَةً (فصلت/ 13) بمعنى عذاب الله. وعلى هذا فتكون الكلمة إما بمعنى الموت أو بمعنى عذاب الله. (4) بأعيننا: تحت نظرنا وملاحظتنا وحفظنا وعنايتنا. وفي هذه الآيات: 1- وصف لاستهانة الكفار بما ينذرون من عذاب الله حتى لو أنهم رأوا قطعة ساقطة من السماء عليهم لقالوا إنها ليست إلّا سحابا متراكما بعضه فوق بعض. 2- وأمر للنبي بأن لا يغتمّ بموقفهم وبأن يكلهم إلى الله ويدعهم وما هم فيه

_ (1) التاج ج 4 ص 219.

من ضلال حتى يلاقوا اليوم الذي فيه يموتون ويصعقون بعذاب الله فيتحققوا حينئذ أنه لن يغني عنهم كيدهم ولا مكابرتهم شيئا ولن يجدوا لهم ناصرا. 3- وإنذار للزعماء الذين يتولّون قيادة المناوأة والمعارضة فإنّ لهم عذابا إضافيا آخر يتناسب مع عظم جرمهم ولو لم يحسبوا حسابه ويوقنوا به. 4- وحثّ للنبي على الصبر والثبات انتظارا لأمر الله وحكمه، وتطمين بأنه موضع عناية الله ونظره وحمايته ولن يصيبه من كيدهم شيء. وعليه أن يستمرّ على حمد الله وتسبيحه والتمسك بحبله والاعتماد عليه في جميع أوقاته وحركاته وظروفه وحينما يقوم من مجلسه أو منامه وحينما يغشاه الليل وحينما تغيب النجوم ويسفر النهار. والآيات كما هو واضح استمرار للسياق. وأسلوبها التطميني للنبي قوي. ولا شك في أنّ هذا الأسلوب التطميني الذي تكرر كثيرا لتكرر المناسبات كان مما يمدّ النبي صلى الله عليه وسلم بالقوّة والتأييد والتحمل ويجعله يستمر في مهمته غير مبال بقوة الكفار وكثرتهم ويستغرق في عبادة الله وذكره وهو مطمئن بحسن العاقبة. وقد جاءت الآيات خاتمة للسورة. وطابع الختام ظاهر عليها وبخاصة على الآيتين الأخيرتين. ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن المقصود من جملة عَذاباً دُونَ ذلِكَ هو عذاب القبر قبل عذاب القيامة وروى عن ابن زيد أنه مصائب تصيب الذين ظلموا في الدنيا عقوبة لهم قبل عذاب الآخرة. ويتبادر لنا من تعبير لِلَّذِينَ ظَلَمُوا في مقامه أنها في صدد زعماء الكفار وأن الإنذار بعذاب إضافي أو متقدم عن عذاب الآخرة لأنهم لا يكتفون بالإعراض عن الدعوة بل يحملون غيرهم على ذلك. وفي آية سورة النحل هذه الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88) تدعيم لذلك. وقد يكون القول إن المقصود من العذاب المنذر به هو مصائب تصيب الظالمين في الدنيا عقوبة لهم هو الأكثر تناسبا مع ذلك. وفي هذا توكيد للتلقين القرآني الذي انطوى في الإنذار الرباني المتكرر.

ولقد روى البغوي بطرقه في سياق جملة وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ حديثا عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من جلس مجلسا فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم سبحانك اللهمّ وبحمدك أشهد أن لا إله إلّا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلّا كان كفارة لما بينهما» . وروى عن عائشة حديثا جاء فيه: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة قال: سبحانك اللهمّ وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك ولا إله غيرك» حيث يفيد الحديث أن التسبيح المأمور به هو حين القيام للصلاة. وهناك من قال إنه المقصود هو تسبيح الله حين القيام من الفراش من النوم. وقد روى أبو داود «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلّم بعض بناته فيقول قولي حين تصبحين سبحان الله وبحمده لا قوّة إلّا بالله ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. أعلم أن الله على كلّ شيء قدير وأن الله قد أحاط بكلّ شيء علما، فإنه من قالهن حين يصبح حفظ حتى يمسي ومن قالهن حين يمسي حفظ حتى يصبح» «1» . وعلى كل حال فإن الأمر بتسبيح الله عز وجل في كل ظرف مما تكرر في القرآن ومرّ منه أمثلة عديدة لأن فيه ذكر الله الذي تطمئن بذكره القلوب. وفي هذا ما فيه من مدد روحاني ومعالجة نفسانية.

_ (1) التاج ج 5 ص 99، وهناك أحاديث أخرى في تسبيح الله وذكره، انظر ص 96 وما بعدها من الجزء المذكور.

سورة الملك

سورة الملك في السورة لفت نظر إلى عظمة الله وقدرته في مشاهد الكون ونواميسه، وتقرير كون الله إنما خلق الناس وقدّر عليهم البعث بعد الموت لاختبارهم. وتذكير بأفضال الله ونعمه على الناس. ووصف لمصير الكفار والمؤمنين الأخروي، وحملة تنديد وإنذار على الكفار وردود على ما كانوا يقولونه في مواقف الجدل مع النبي صلى الله عليه وسلم. وآياتها منسجمة متوازنة مما يسوغ القول بوحدة نزولها. ولقد روى بعض أصحاب الكتب الخمسة بعض الأحاديث في فضل هذه السورة. منها حديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سورة من القرآن ثلاثون آية تشفع لصاحبها حتى غفر له تبارك الذي بيده الملك» «1» . وحديث رواه الترمذي عن ابن عباس قال: «ضرب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خباءه على قبر وهو لا يعلم فإذا فيه إنسان يقرأ سورة تبارك الذي بيده الملك حتى ختمها فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر فإذا فيه إنسان يقرأ تبارك حتى ختمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر» «2» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الملك (67) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) .

_ (1) التاج ج 4 ص 20. (2) المصدر نفسه.

(1) طباقا: قيل إنها بمعنى طبقات بعضها فوق بعض. وقيل إنها بمعنى متطابقة أي متشابهة أو متساوقة في الإتقان والنظام والانتظام. (2) ما ترى في خلق الرّحمن من تفاوت: لا ترى فيما خلق الله عدم تناسب وعدم انسجام. (3) فطور: صدوع أو شقوق أو خلل. (4) خاسئا: ذليلا منكسرا. (5) حسير: كليل أو تعب. بدأت السورة بالثناء على الله. وهذا من أساليب النظم القرآني في مطالع سور عديدة، وقد أعقب الثناء تنويه بمطلق تصرف الله عزّ وجلّ والإشارة إلى حكمته في خلق الناس وموتهم وبعثهم. فلله التقديس والثناء. وهو الذي بيده ملك كل شيء المتصرف في هذا الكون تصرّفا مطلقا، القادر على كل شيء قدرة شاملة تامّة. وهو الذي بيده الموت والحياة والقادر عليهما. وقد جعل ذلك وسيلة لاختبار الجنس البشري حتى يظهر الأحسن منهم عملا، على غير حاجة وضعف لأنه قوي عزيز لا يدانيه في قوّته أحد وليس هو في حاجة إلى أحد، والمتّصف مع ذلك بالغفران والصفح والتسامح. وهو الذي خلق السموات السبع بإتقان وانتظام وتطابق لا يمكن أن يرى الناظر إليها أي تفاوت أو تناقض أو صدوع أو شقوق أو خلل مهما دقّق في النظر وعاود التدقيق مرة بعد مرة وأجال النظر في جميع الأنحاء. ولن يلبث أن يرتدّ نظره ذليلا مذهولا حائرا كليلا مما يرى من العظمة ورائع الصنع والإتقان مستشعرا بعجزه عن درك الأسرار الربانية والإحاطة بها مستبينا ضالة شأنه إزاءها. وأسلوب الآيات تقريري قوي موجّه إلى عقول السامعين وقلوبهم.

وهي مقدمة لما يأتي بعدها من التنديد بالكفر وإنذار للكافرين. والسؤال والتحدي في الآيتين الأخيرتين يزيدان في قوة الصورة العظيمة التي رسمتها الآيات الأولى لمشاهد كون الله وفي تصوير شعور المرء بها وهو الشعور الدائم العام الذي لا يستطيع أحد أن يتفلت منه حينما يرسل ببصره إلى السموات ويتفكّر في عظيم الإبداع والإتقان والسعة التي لا يحصيها ذهن ولا يحيط بها بصر. وواضح من أسلوبها أنها موجهة إلى جميع الأذهان استهدافا للتنبيه والاسترعاء والتذكير بعظمة الكون وخالقه وواجب الناس إزاءه. ومن الواجب أن تبقى في هذا النطاق لأن في إخراجها منه ابتعادا عن الهدف القرآني. ولقد صرف بعض المفسرين عبارة الموت إلى العدم الذي يسبق الحياة، وعبارة الحياة إلى الحياة الدنيا. والذي تلهمه الآية الثانية هو قصد بيان حكمة الله في خلق الناس وإماتتهم وإحيائهم ثانية وهو اختبارهم في الدنيا ومعرفة صالحهم من طالحهم. لتوفيتهم جزاء أعمالهم في الحياة الأخروية بعد الموت. وفيه ما فيه من تلقين جليل مستمر المدى في كون الناس مدعوين إلى العمل الصالح والتسابق فيه وكون حكمة خلقهم أو تميزهم عن سائر خلق الله متصلة بذلك. وقد تكرر هذا أكثر من مرة في السور السابقة وكتبنا تعليقا على مداه في سياق سورة هود، فنكتفي بهذا التنبيه. ولقد روى البغوي عن كعب الأحبار في وصف السموات السبع أن الأولى موج مكفوف والثانية من درة بيضاء والثالثة حديد والرابعة صفر أو نحاس والخامسة فضة والسادسة ذهب والسابعة ياقوتة حمراء. ومن السماء السابعة إلى الحجب السبعة صحارى من نور. والتحفظ في مثل هذه الأحاديث أولى كسائر ما يورد على هامش ما يرد في القرآن من مشاهد الكون إذا لم يكن مستندا إلى أثر نبوي وثيق.

[سورة الملك (67) : آية 5]

[سورة الملك (67) : آية 5] وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5) . (1) الدنيا: هنا بمعنى القريبة أو المواجهة للناس. الآية معطوفة على الآيات السابقة ومتصلة بموضوعها: فقد زيّن الله السماء التي يراها الناس بمصابيح وجعل من هذه المصابيح في الوقت نفسه رجوما للشياطين الذين أعدّ الله لهم عذاب السعير في الآخرة أيضا. ورجم الشياطين من السماء بالشهب قد تكرر ذكره وعلقنا على ذاتية الموضوع في سياق تفسير سورة الجن بما يغني عن الإعادة. وإذا كان من شيء يحسن أن يقال هنا هو أن من الممكن أن يستلهم من الآيتين وما قبلهما وما بعدهما قصد تقرير كون الله عزّ وجلّ بالمرصاد لكل من يجرؤ على حدوده ويقف منه موقف المتمرّد مهما خيّل للناس أنه قوي شديد كشياطين الجنّ مثلا الذين لهم في أذهان السامعين صورة ضخمة مفزعة. أما تزيين الدنيا بالمصابيح فهو تعبير متكرر ومتسق مع شعور الناس على اختلاف طبقاتهم بما تقع عليه أنظارهم من مشاهد السماء ونجومها وشهبها وبما في أذهانهم من ذلك بسبيل العظة والتنويه. ومن الواجب أن يبقى ذلك في هذا النطاق مثل سائر التعابير القرآنية المماثلة. ولقد تكرر في القرآن تقرير كون مصير الشياطين في الآخرة هو العذاب والنار مما مرّ منه أمثلة وعلقنا عليها بما يغني عن الإعادة. [سورة الملك (67) : الآيات 6 الى 11] وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11) .

(1) شهيقا: هنا بمعنى الصوت القوي. (2) تكاد تميز من الغيظ: تكاد تتشقق أو تتفجر من الغيظ. والمقصد من الجملة وصف شدّة السخط على الكفار أو وصف شدّة النار. (3) إن أنتم إلّا في ضلال كبير: قيل إنها إجابة خزنة جهنم للكفار في معرض التنديد، وقيل إنها تتمة حكاية كلام الكفار لرسلهم. والقول الثاني هو الأوجه في نظرنا. وفي هذه الآيات إنذار للكافرين بالله وآياته: فلهم أيضا عذاب جهنم وبئست هي مصيرهم. وحينما يقبلون عليها سيرونها في حالة تبعث الرعب والفزع حيث يكون لها صوت مرعب من شدّة فورانها وتكاد تتشقّق وتتفجّر من الغليان أو سخطا على الكفار. وكلما ألقي فيها فوج منهم سألهم الموكلون بها سؤال المندد المقرع عمّا إذا لم يكن قد أتاهم نذير يعظهم ويخوفهم من هذا المصير فيجيبون إجابة المتحسّر النادم أنه قد جاءنا نذير فوقفنا منه موقف المكذّب وسفّهناه وأنكرنا أن يرسل الله رسلا للناس وقلنا له إنه في دعواه في ضلال كبير فاستحققنا هذا المصير. ولو كنا نعقل أو نسمع ما صرنا إليه. وهكذا يعترفون بما اقترفوه من ذنوب فسحقا لهم وبعدا. والآيات معطوفة على سابقتها ومتصلة بها. ولعل عطف الكفار على الشياطين قد قصد به تشديد التقريع فهم من طبقة واحدة ومصيرهم واحد. والوصف قوي مرعب والمحاورة المفروض حدوثها لاذعة مستحكمة. ومن شأن ذلك إثارة الفزع والندم في الكفار وحملهم على الارعواء وهو مما استهدفته الآيات. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأخيرة حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي

[سورة الملك (67) : آية 12]

البحتري الطائي قال: سمعت من سمع من رسول الله قوله: «لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم» وحديثا آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يدخل أحد النار إلّا وهو يعلم أن النار أولى به من الجنّة» وهذا وذاك متساوق مع ما أخبر الله به من مما سيكون من اعتراف الكفار بذنوبهم واستحقاقهم للنار. ومتصل فيما يتبادر لنا بالهدف الذي استهدفته الآيات. [سورة الملك (67) : آية 12] إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) . احتوت هذه الآية بيان مصير المؤمنين الذي يتّقون الله وعذابه المغيّب عنهم مقابلة لبيان مصير الكفار جريا على الأسلوب القرآني. فإنّ لهم من ربّهم المغفرة والأجر الكبير. وفي الآية بشرى وتطمين وتثبيت للمؤمنين في الوقت نفسه. [سورة الملك (67) : الآيات 13 الى 14] وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) . المتبادر أن الخطاب في الآية الأولى موجّه للمكذبين، وفي الآيات والحالة هذه عود على بدء إلى التنديد بالكفار وإنذارهم. وقد تضمنت الأولى تحديا لهم: فسيّان عند الله أن تسروا ما تقولون أو تجهروا به فهو عليم به لأنه عليم بكل ما يجول في صدور الناس وأفكارهم. وتضمنت الثانية حجّة برهانيّة على ذلك: فالله هو الذي خلق الناس ومن الطبيعيّ أن يعلم أعمالهم وما يدور في أفكارهم وما تخفيه صدورهم. وهو اللطيف الذي يعرف دقائق الأمور، الخبير الذي لا يعزب عن علمه شيء. [سورة الملك (67) : آية 15] هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) .

تعليق على آية هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور

(1) ذلولا: مسخّرة للانتفاع بها بيسر وسهولة. (2) مناكبها: أرجائها. في الآية: 1- تذكير بفضل الله على الناس بما كان من تسخيره الأرض وتيسيره الانتفاع بخيراتها ليسعوا في مناكبها ويأكلوا من رزقه. 2- وتقرير بأن مرجع الناس إليه ليحاسبهم على أعمالهم. وواضح أن الآية استمرار للآيات السابقة سياقا وموضوعا. تعليق على آية هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ومع أن من المحتمل أن يكون الخطاب فيها موجها للكافرين الذين هم موضوع الخطاب في الآيات السابقة فإنها تنطوي على ما هو المتبادر على تلقينات جليلة المدى: 1- فقد سخّر الله الدنيا للجميع فليس لأحد أن يمنع أحدا من السعي في مناكبها والانتفاع منها. 2- وقد حثّ الجميع على السعي في مناكبها فليس لأحد أن يأكل سعي غيره أو يسلبه ثمرات سعيه ويقعد هو عن السعي. 3- وقد سخّر الدنيا ومنافعها لجميع الناس ولكنه نبههم إلى أن هذه المنافع لا تنال إلّا بالسعي والعمل. 4- وقد قرر أن الرزق الذي يستخرجه الناس من الأرض هو في الحقيقة

[سورة الملك (67) : الآيات 16 إلى 22]

رزقه لأنه هو الذي خلق مادته وأوجد القوى والأسباب التي تساعد على إخراجه، فلا حقّ لأحد أن يدّعيه لنفسه أو يحتكره من دون الناس. [سورة الملك (67) : الآيات 16 الى 22] أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) . (1) تمور: تتحرك وتضطرب. (2) حاصبا: رجوما من الحجارة. (3) نكير: نكيري أي إنكاري عليهم أو إرسال عذابي عليهم. (4) صافات: باسطات أجنحتهن. (5) يقبضن: يقبضن أجنحتهن حتى ليخيل للرائي أنهن يكدن يسقطن. (6) لجوا: تمادوا. (7) عتوّ: تمرّد وتكبّر. (8) نفور: إعراض وابتعاد. (9) مكبّا: منكبّا. (10) سويّا: مستقيم القامة. وهذه الآيات موجهة أيضا للسامعين الكافرين. وقد تضمنت: 1- إنذارا بأسلوب سؤال إنكاري عمّا إذا كانوا آمنوا وهم يكذبون بآيات الله

[سورة الملك (67) : الآيات 23 إلى 24]

ورسله من أن يخسف الله بهم الأرض فتميد تحت أقدامهم أو يرسل عليهم رجوما من الحجارة فيرون حينئذ مصداق نذره ووعيده. 2- وتذكيرا لهم بما كان من تكذيب الأمم السابقة وبما كان من عذاب الله فيهم. 3- ولفتا لنظرهم إلى الطير التي تطير في السماء فتبسط أجنحتها أو تقبضها وما يمسكها عن السقوط إلا الله حيث ينطوي في هذه الظاهرة دليل على قدرة الله وكونه البصير بكل شيء المدبّر لكل شيء. 4- وتنديدا إنذاريا آخر بأسلوب السؤال الإنكاري عمّن يمكن أن ينصرهم من دون الله إذا ما جاء وقت عذابه لهم أو عمّن يرزقهم غيره إذا هو أمسك عليهم الرزق، ومع ذلك فقد تمادوا في العتوّ والتمرّد على دعوة الله والنفور منها حيث صاروا بذلك مستحقين لهذا وذاك. 5- سؤالا تنديديا آخر عمن هو الأفضل أهو الذي يمشي مكبّا على وجهه لا يرى طريقه، أم هو المستقيم في مشيته الذي يرى الطريق الواضح المستقيم ويسير فيه. والآيات استمرار للآيات السابقة سياقا وموضوعا. وهي قوية محكمة في تنديدها وإنذارها. [سورة الملك (67) : الآيات 23 الى 24] قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) . في هاتين الآيتين أمر للنبي بتوجيه الخطاب إلى الكفار في معرض التذكير والتنديد والتقرير بأن الله هو الذي خلقهم في البدء ووهبهم نعمة السمع والبصر والعقل مع تأنيبهم على قلة شكرهم لله على هذه الأفضال. وبأن الله هو الذي كثرهم في الأرض ونمّاهم وسيحشرون إليه.

[سورة الملك (67) : الآيات 25 إلى 26]

والآيتان متصلتان بما سبقهما كذلك سياقا وموضوعا. وقد انطوى في الآية الثانية تقرير قدرة الله على حشرهم إليه ما دام هو الذي خلقهم وكثّرهم في الأرض. [سورة الملك (67) : الآيات 25 الى 26] وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) . في الآية الأولى حكاية لتساؤل الكفار تساؤلا يتضمّن معنى الإنكار والاستخفاف عن موعد تحقيق وعد البعث والحساب والعذاب الأخروي إذا كان ذلك حقا وصدقا. وفي الثانية أمر للنبي بإجابتهم بأن علم ذلك عند الله، وأنه ليس إلّا نذيرا للبيان والتبليغ. والآيتان أيضا متصلتان سياقا وموضوعا بما سبقهما. وأسلوب الآيتين والآيتين اللتين قبلهما قد يلهم أن هذه الآيات وما قبلها حكاية أو تسجيل لموقف حجاجي وجاهي بين النبي والكفار أو تعقيب عليه. [سورة الملك (67) : آية 27] فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) . (1) زلفة: سريعا أو قريبا. (2) تدّعون: بمعنى تطلبون أو تستعجلون. هذه الآية جاءت في معرض توكيد تحقيق وعد الله ووصف حالة الكفار حينئذ: فلسوف يرون تحقيق هذا الوعد أقرب مما يظنون. وحينئذ تتجهّم وجوههم هلعا من العاقبة. ويقال لهم هذا هو مصداق وعد الله الذي كنتم تنكرونه وتتعجلونه تعجّل الساخر الجاحد. والآية متصلة بالسياق كما هو واضح. وقد تضمنت إنذارا وتعنيفا وردّا.

[سورة الملك (67) : الآيات 28 إلى 30]

[سورة الملك (67) : الآيات 28 الى 30] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30) . (1) غورا: غائرا في الأرض فينقطع عن النبع والجريان. (2) معين: لا ينضب أو جار ظاهر على وجه الأرض. في هذه الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتوجيه سؤال استنكاري للكفار عما إذا كان يستطيع أحد أن يجيرهم من عذاب الله وبلائه الشديد إن مات النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه قبل نزوله عليهم أو رحمهم حين نزوله. وعمن يستطيع أن يأتيهم بالماء الدائم الظاهر إذا ما أصبح ماؤهم غائرا في الأرض. وأمر له أيضا بإعلان إيمانه وإيمان من معه إيمانا مطلقا بالله وتوكلهم عليه وحده وبإنذار الكفار بأنهم لن يلبثوا حتى يعرفوا من الفريقين المهتدي ومن هو المرتكس في الضلالة. والآيات متصلة أيضا بما سبقها سياقا وموضوعا. وفيها توكيد لما تلهمه الآيات [23 و 24 و 25 و 26] من الموقف الحجاجي الوجاهي الذي قام بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار والتعقيب عليه كما هو المتبادر. وقد جاءت خاتمة لهذا الموقف أو التعقيب وخاتمة للسورة في الوقت ذاته. ولقد قال بعض المفسرين «1» إن الآية الأولى تضمنت ردّا على الكفار الذين كانوا يتربّصون بموت النبي صلى الله عليه وسلم ويتمنونه حتى يخلصوا منه وهو ما حكته إحدى آيات سورة الطور السابقة. وقد لا يخلو القول من وجاهة. ولكن التأويل الذي أوّلناها به هو الذي تبادر لنا أنه الأوجه. والله أعلم.

_ (1) انظر تفسير الطبرسي.

سورة الحاقة

سورة الحاقة في السورة إنذار للكفار بعذاب الله. وتذكير بما حلّ بأمثالهم الأولين. ووصف لهول يوم القيامة. ومصائر المؤمنين والكفّار فيه. وتوكيد قوي بصحة صلة النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي الرباني وصدور القرآن عنه. ونفي الافتراء والشعر والكهانة عنه. وآياتها متوازنة مقفاة ومترابطة مما يسوّغ القول إنها نزلت دفعة واحدة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 12] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12) . (1) الحاقّة: الحادثة التي يحق فيها الموعود من عذاب الله. (2) وما أدراك: ما هنا موصولة والجملة في صدد لفت النظر إلى خطورة الحاقة. (3) القارعة: مشتقة من القرع بمعنى الطرق. وهي كناية عن يوم القيامة حيث تقرع الآذان من شدّة هولها.

(4) الطاغية: كناية عن البلاء الطاغي الشديد الذي حلّ بمنازل ثمود. (5) صرصر: شديد البرد أو شديد الصوت والدويّ. (6) عاتية: من العتوّ وهي صفة بمعنى الشدّة التي لا يمكن منعها. (7) حسوما: من الحسم بمعنى القطع. والكلمة بمعنى مستأصلة قاطعة. (8) صرعى: مصروعين أو مطروحين على الأرض هلكى. (9) أعجاز النخل: قرامي شجر النخل وأصولها. (10) خاوية: فارغة أو مهدمة. (11) المؤتفكات: المخسوفات. وجمهور المفسرين على أنها قرى قوم لوط. (12) رابية: زائدة. والقصد وصفها بالشدّة الزائدة على المعتاد. (13) الجارية: السفينة والفلك. الآيات الثلاث الأولى في صدد التنبيه على ما في بلاء الله حينما يحقّ ويحلّ في قوم من الأقوام من هول. وقد استعمل نفس الأسلوب في مطلع سورة القارعة في نفس المعنى. وقد قال المفسرون إن الحاقة كناية عن يوم القيامة. غير أن التذكير بما حلّ من عذاب دنيوي في الأقوام الأولين في الآيات التي تلت هذه الآيات الثلاث يلهم أن القصد من الحاقة التنبيه على بلاء الله وعذابه مطلقا. ويمكن أن يشمل عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة أو كليهما. وفي الآيات التي تبعت الآيات الثلاث: 1- إشارات تذكيرية مقتضبة إلى ما حلّ من عذاب رباني بالأمم السابقة: فقد كذبت ثمود وعاد بيوم القيامة فأهلك الأولين ببلاء طاغ شديد وأهلك الآخرين بريح قويّة شديدة سلطها عليهم سبع ليال وثمانية أيام متتابعة قطّعتهم تقطيعا مستأصلا حتى صاروا صرعى مطروحين على الأرض كأنما هم قرامي النخل الخاوية المهدمة دون أن يبقى منهم بقية كما يعرف ذلك السامعون. 2- وقد اقترف فرعون وأقوام من قبله وأهل المؤتفكات الخطيئات والآثام

[سورة الحاقة (69) : الآيات 13 إلى 37]

وعصوا رسل الله فأخذهم الله أخذا شديدا مهلكا أيضا. 3- وحينما فاض الماء وطغى وملأ الآفاق حمل الله السامعين في السفينة لتكون الحادثة مذكرة واعظة لا تبرح الأذهان. والمتبادر أن الآيتين الأخيرتين تشيران إلى حادثة طوفان نوح وسفينته. وأن توجيه الكلام للسامعين بضمير الجمع المخاطب هو من باب ما للحادثة من صلة بهم عن طريق الأجداد الأولين الذين أنجاهم الله على السفينة وهم نوح وأهله كما ورد بعبارة أوضح في مواضع أخرى من القرآن ومنها آية سورة الصافات هذه وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ وضمير الجمع المخاطب قد ينطوي على قرينة على كون السامعين يعرفون الحادثة، ويعرفون صلتهم بنوح وأبنائه الذين نجوا على السفينة. والمتبادر كذلك أن الآيات قد استهدفت تذكير كفار العرب بما كان من تكذيب الأقوام السابقين لرسلهم وما اقترفوه من آثام وما كان من انصباب بلاء الله المتنوع عليهم. وتنبيههم إلى ما يجب عليهم من الاعتبار والاتعاظ. وإنذارهم بما يمكن أن يصيبهم من عذاب وبلاء مثل أمثالهم الأولين. والأقوام المذكورة في الآيات وعذاب الله المسلّط عليهم قد ذكر في سور سابقة. واستمرار التذكير بذلك مرة بعد مرة بأساليب متنوعة متصل بالهدف الإنذاري الذي تستهدفه القصص القرآنية وبتجدد وتنوع المواقف الإنذارية ومحلها على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. [سورة الحاقة (69) : الآيات 13 الى 37] فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37) .

(1) الواقعة: كناية عن قيام القيامة. (2) واهية: متداعية. (3) الملك: الملائكة. (4) أرجائها: أطرافها أو جوانبها. (5) ظننت: هنا بمعنى علمت وتيقنت. (6) دانية: قريبة للمتناول. (7) أسلفتم: قدمتم. (8) الأيام الخالية: كناية عن الدنيا. (9) هلك عني سلطانيه: ضاع سلطاني وفقدت قوّتي أو فقدت حجتي وبرهاني. (10) فغلّوه: قيّدوه بالأغلال. (11) صلّوه: أدخلوه النار يصلى بها. (12) حميم: صديق. (13) غسلين: الصديد. هذه الآيات احتوت وصف الحالة في يوم القيامة: فحينما يحين الحين وينفخ في الصور وتحمل الأرض والجبال فتندكّ

وتنهار، وتتشقق السماء وتتداعى تكون الواقعة قد وقعت والقيامة قد قامت. وإذ ذاك يحدق الملائكة بجميع الأرجاء والجوانب. ويتجلّى الله على عرشه المحمول من قبل ثمانية من ملائكته فوق الكون والخلق. ويعرض الناس عليه دون أن تخفى منهم عنه خافية. ويكون قضاء الله فيهم حيث يكونون فريقين. فريقا يعطى كتابه بيمينه فيبتهج ويسرّ بما كان عليه من يقين بالله ولقائه وحسابه ويدخل الجنة ليتمتع فيها بالعيشة الراضية والقطوف الدانية. ويقال له كل واشرب هنيئا فهذا جزاء ما قدمت من صالح العمل في الدنيا. وفريقا يعطى كتابه بشماله فيعتريه الرعب ويستشعر بالندم والحسرة ويتمنّى لو لم يبعث ولم يحاسب، ويعول قائلا إن ماله لم يغن عنه شيئا. وسلطانه أو حجته قد غابت عنه ويؤمر الموكلون بالعذاب بأخذه وغلّ يديه وطرحه في جهنّم وربطه بسلسلة طولها سبعون ذراعا، لأنه لم يؤمن بالله العظيم ولم يكن يحضّ على طعام المسكين، ولن يجد له حينئذ صديقا حميما ولا ناصرا معينا، ولن يكون له طعام إلّا الصديد المعدّ للآثمين أمثاله. والصلة بين هذه الآيات وسابقاتها قائمة في هدف التذكير والإنذار. فكما أهلك الله المكذّبين الكافرين الأوّلين بأنواع البلاء في الدنيا فقد أعدّ لهم أنواع العذاب في الآخرة. وشأن كفار العرب شأن الكفار السابقين ومصيرهم هو نفس المصير. وقد ذكر مصير المؤمنين الصالحين في سياق ذكر مصير الكفار للمقابلة والتنويه جريا على الأسلوب القرآني. والآيات الأولى قد استهدفت- كما هو المتبادر بالإضافة إلى حقيقة المشاهد الأخروية التي يجب الإيمان بها- تصوير شدّة هول القيامة للتذكير والإنذار. وقد جاء وصف مصير المؤمنين أخاذا من شأنه أن يبعث الطمأنينة والاستبشار والرغبة في العمل الصالح في المؤمنين كما جاء وصف مصير الكفار مفزعا يثير الخوف ويحمل على الارعواء، وهذا وذاك مما استهدفته الآيات فيما هو المتبادر أيضا. ولقد استعيرت المألوفات الدنيوية في وصف مصير الفريقين جريا على النظم

تعليق على تخصيص الحض على طعام المسكين في الآية [34]

القرآني وتحقيقا لهدف التأثير في السامعين على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة عديدة. ولقد نبهنا قبل على ما تعنيه عبارات إيتاء كتب الأعمال في الآخرة من اليمين والشمال في مناسبة سابقة فلا ضرورة للتكرار. ولقد روى الطبري عن بعض التابعين أن كل ذراع من أذرع السلسلة سبعون باعا وكل باع أبعد مما بين مكة والكوفة وأن معنى فَاسْلُكُوهُ هو إدخال السلسلة في فيه حتى تخرج من دبره أو في دبره حتى تخرج من منخريه. وفي كتب التفسير الأخرى روايات وأقوال مماثلة بدون سند وثيق. ومهما يكن من أمرها فهي من باب الترهيب وإثارة الخوف في نفوس الكفار. ولقد أورد المفسرون في سياق الآية [17] أحاديث وروايات عن حملة العرش. ولقد أوردوا مثل ذلك في سياق الآية [7] من سورة غافر التي تذكر حمل الملائكة لعرش الله تعالى. وقد أوردناه في سياق تفسيرها وعلقنا عليه كما علقنا على موضوع الملائكة بصورة عامة في سياق تفسير سورة المدثر بما يغني عن الإعادة والزيادة. تعليق على تخصيص الحضّ على طعام المسكين في الآية [34] ومن تحصيل الحاصل أن يقال إنه لم يقصد من عدم الحضّ على طعام المسكين حصر البرّ في إطعام المسكين والإثم في عدمه. غير أن ذلك ينطوي- من دون ريب- على تلقين قرآني مستمرّ المدى في صدد هذا العمل والحثّ عليه واعتباره من أعظم أعمال البرّ الاجتماعية وبخاصة في البيئات التي تكون الحاجة فيها شديدة وملحّة. [سورة الحاقة (69) : الآيات 38 الى 52] فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) .

(1) تبصرون وما لا تبصرون: قيل إنها بمعنى الدنيا التي ترونها والآخرة التي لا ترونها. وقيل بمعنى ما ترون وما لا ترون من المشهودات والمغيبات في الدنيا والآخرة. (2) رسول كريم: كناية عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم. (3) لو تقوّل علينا بعض الأقاويل: لو افترى علينا بقول ما. (4) لأخذنا منه باليمين: لانقضضنا عليه بقوّتنا. (5) الوتين: وريد القلب. (6) حاجزين: مانعين. في هذه الآيات قسم رباني بما يراه السامعون وما لا يرونه من مشاهد الكون وأسراره ومن المشهودات والمغيبات في الدنيا والآخرة في معرض التوكيد بصحة رسالة النبي وصدق قوله وتبليغه: فهو رسول كريم على الله. وليس هو شاعرا ولا كاهنا. وإن هذا ليبدو حقا واضحا ساطعا لكل من تدبر في الأمر وتروّى فيما يسمعه من الأقوال وكان قلبه نقيا من الخبث مستعدا للتسليم بالحقيقة راغبا في الهدى والحق. لأن ما يقوله يعلو كل العلوّ عن متناول الشعراء والكهان وخاصة في الأهداف والجوهر والمدى. وهو تذكرة وموعظة ينتفع بهما ذوو القلوب النقيّة والرغبة الصالحة والمتّقون لغضب الله الراغبون في رضائه. وهو حقّ اليقين الذي لا يمكن أن يشوبه باطل. وهو تنزيل من الله ربّ العالمين. وإن الله لقادر على البطش به وإهلاكه لو اخترع بعض الآيات ونسبها إليه افتراء دون أن يقدر أحد على إنقاذه منه. وإن الله ليعلم أنه سيكون من الناس من يكذّبونه. ولكن هؤلاء سيندمون ويتحسّرون على تكذيبهم وجحودهم.

وانتهت الآيات بأمر موجّه إلى النبي بالتسبيح باسم ربّه العظيم مما ينطوي فيه تسلية وتثبيت بعد هذا التأييد الرباني العظيم من جهة وبعد تقرير طبيعة وجود المكذبين له. والآيات متصلة بسابقاتها كما هو المتبادر من حيث توكيد صدق ما يتلوه النبي من الآيات التي فيها تقرير مصائر الكفار والمؤمنين. وهي قوية رائعة في تنديدها وفي إنذارها وفي توكيدها وفي نفيها وفي تثبيتها من شأنها أن تبعث أعظم شعور الثقة في نفس النبي والمؤمنين بل والسامعين إطلاقا إذا تجرّدوا عن العناد والمكابرة والهوى والحقد في صدق صلة النبي بالوحي الربانيّ وصدور القرآن عنه. ويبدو على الآية الأخيرة طابع الختام الذي اختتمت بمثله سور عديدة. ويتبادر من ذكر قطع الوتين الذي قال المفسرون إنه عرق يكون في القلب أن السامعين يعرفون أن قطعه مما يودي بحياة الإنسان فورا. ولقد سبقت حكاية أقوال الكفار بأن النبي صلى الله عليه وسلم شاعر وكاهن. وعلّقنا على ذلك بما يغني عن التكرار.

سورة المعارج

سورة المعارج في السورة توكيد بوقوع عذاب الله الموعود. وتذكير بعظمة المشاهد السماوية ووصف لهول يوم القيامة وما تكون عليه حالة الكفار فيه. وتقرير لبعض طبائع الإنسان السيئة واستثناء المؤمنين المصلّين الذين يخافون الله والآخرة على اعتبار أن ذلك يحسّن هذه الطبائع ويحفّز على الخير والبرّ والعدل والحق والعفاف. وصورة من صور الهزء التي كانت تبدو من الكفّار نحو النبي، وتسلية للنبي وتنديد بالكفار بسببها. وآيات السورة متوازنة منسجمة مما يسوغ القول بنزولها دفعة واحدة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المعارج (70) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) . (1) سأل: قيل إنها بمعنى دعا وقيل إنها بمعنى السؤال العادي. (2) المعارج: جمع معراج وهو ما يصعد عليه إلى أعلى. وهي كناية عن السموات على ما روي عن ابن عباس. وهناك من قال إنها بمعنى ذي الفضل والنعم. في الآيات: إشارة إلى سؤال سائل عن عذاب الله الموعود وموعد وقوعه

تعليق على رواية شيعية في سبب نزول هذه الآيات

ومحلّه. وتوكيد بوقوعه على الكافرين دون أن يستطيع أحد دفعه عنهم من الله ربّ السموات الذي يصعد إليه فيها الملائكة والروح في يوم طوله خمسون ألف سنة من أيام الدنيا. وأمر للنبي بالصبر والثبات وعدم الاغتمام وتطمين له: فإذا كان الكفار يرون ذلك العذاب ويوم موعده بعيدا فهو عند الله قريب. والآية الأولى تحتمل أن يكون السؤال وقع فنزلت الآيات بمناسبته كما تحتمل أن تكون حكاية لما كان يتكرّر وقوعه من الكفار من استعجال العذاب أو التساؤل عن موعده على سبيل الإنكار والتحدّي والاستهتار على ما حكته عنهم آيات عديدة مرّت أمثلة منها. وقد احتوت الآيات ردّا تضمّن التوكيد والتنديد والبرهان المستمد من المحسوس وبخاصّة المستند إلى ما هو قائم في مشاهد الكون من عظمة الله وقدرته. بحيث لا يصح في العقل أن يستبعد عليه شيء. ووجود الله سبحانه وعظمته وشمول قدرته وحكمه مما كان يعترف به السامعون على ما مرّت الشواهد القرآنية العديدة عليه فتكون الحجّة هنا مستحكمة فيهم. تعليق على رواية شيعية في سبب نزول هذه الآيات ولقد روى المفسر الشيعيّ الطبرسي عن جعفر بن محمد أحد الأئمة الاثني عشر رواية في سبب نزول هذه الآيات جاء فيها: «لما نصّب رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا يوم غدير خمّ وقال من كنت مولاه فعليّ مولاه طار ذلك في البلاد فقدم على النبي صلى الله عليه وسلم النعمان بن الحرث الفهري فقال: أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلّا الله وأنك رسول الله، وأمرتنا بالجهاد والحجّ والصوم والصلاة والزكاة فقبلناها ثم لم ترض حتى نصّبت هذا الغلام فقلت من كنت مولاه فعلي مولاه فهذا شيء منك أو أمر من عند الله؟ فقال والله الذي لا إله إلّا هو إنّ هذا من الله. فولّى النعمان بن الحرث وهو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله وأنزل الله تعالى: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ وسورة كالمعارج مكيّة بدون خلاف. والحديث المرويّ عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم غدير خمّ صدر

تعليق على جملة تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة

عنه حسب الروايات بعد رجوعه من حجّة الوداع أي قبيل وفاته. أو بعد رجوعه من فتح مكة أي في السنة الهجريّة الثامنة. وجملة «اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك إلخ ... » آية في سورة الأنفال المدنيّة تحكي في سياقها أقوال مشركي مكّة في العهد المكيّ. والآيات التي بعدها تردّ عليهم. وعلي بن أبي طالب (رض) لم يعد يوم الحديث المروي غلاما فإنه جاوز الثلاثين سنين عديدة. حيث يبدو من ذلك غرابة الرواية وكونها من نوع مرويات الشيعة العديدة التي يروونها في سياق التفسير لتأييد هواهم. تعليق على جملة تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ يروي المفسرون أقوالا عديدة ومنسوبة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم في صدد هذه الجملة «1» . فمنها في صدد وَالرُّوحُ أنها تعني جبريل عليه السلام الذي يرجّح أنها عنته في آيات في سور أخرى سبق تفسير بعضها مثل سورتي النحل والشعراء. ومنها أنها تعني أرواح الناس حينما تنقضي آجالهم مما ذكر في حديث رويناه في سياق بعض آيات سورة إبراهيم التي سبق تفسيرها. ولقد ذكر الروح مع الملائكة في سورة القدر بأسلوب يدلّ على أنه رئيس الملائكة ويكون على رأسهم في نزولهم إلى الأرض كما ذكرت في مثل هذا المقام أو بعبارة أخرى في قيام الملائكة والروح صفّا أمام الله يوم القيامة في إحدى آيات سورة النبأ التي يأتي تفسيرها بعد قليل حيث يسوّغ الترجيح أنها هنا من هذا الباب. ومنها في صدد خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ أن الرقم هو المسافة التي بين تخوم الأرض إلى فوق السموات السبع حسب أيام الدنيا يقطعها الملائكة والروح في يوم واحد. ومنها أنها بمعنى أنه لو صعد غير الملائكة من منتهى أمر الله في أسفل الأرض السابعة إلى منتهى أمر الله من فوق السماء السابعة لما صعد في أقل من خمسين سنة والملائكة يقطعونها في ساعة واحدة. ومنها أن الرقم هو يوم القيامة ومنها أنه مدة

_ (1) انظر تفسيرها في كتب تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير.

الدنيا. وقد حاول المفسرون الذين رووا القولين الأولين التوفيق بين هذا الرقم وبين ما جاء في سورة السجدة التي مرّ تفسيرها في هذا الجزء فقالوا إن يوم سورة السجدة هو من الأرض الأولى إلى السماء الأولى في حين أن يوم المعارج من تخوم الأرض السابعة إلى ما فوق السماء السابعة. ولقد أورد ابن كثير بسبيل تأييد كون اليوم هو يوم القيامة حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد قال: «قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ما أطول هذا اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إنه ليخفّف على المؤمن حتى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدنيا» . ومع أن المفسر عقّب على هذا الحديث قائلا إن شخصين من رواته ضعيفان فإنه أورد حديثا آخر رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي أيضا عن أبي هريرة جاء فيه: «قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقّها إلّا إذا كان يوم القيامة صفّحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنّم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلّما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إمّا إلى الجنة وإما إلى النار» «1» . هذا في حين أن فحوى الآيات يتّسق مع القولين الأوّلين أكثر وأن المتبادر من هذا الفحوى هو بيان كون المسافات الشاسعة الهائلة التي يستعظمها الناس مثل ما بين الأرضين والسموات ليست شيئا بالنسبة لقدرة الله تعالى. ولسنا نرى تعارضا بين هذا وبين ما جاء في الحديث الصحيح في الوقت نفسه حيث يبدو منه أن القصد هو بيان كون يوم القيامة طويلا جدا على الناس حتى لكأنه خمسون ألف عام مما يعدونه من أيامهم. ومهما يكن من أمر فالخبر الذي احتوته الجملة القرآنية من المغيبات المتصلة بسرّ الله وملائكته. ومن الواجب الوقوف عنده موقف التصديق دون التخمين مع واجب تنزيه الله تعالى عن المكان والحدود الجسمانية ومع واجب الإيمان بأنه لا

_ (1) التاج ج 2 ص 6، وللحديث تتمة بالنسبة للمواشي التي لا تؤدّى زكاتها.

[سورة المعارج (70) : الآيات 8 إلى 18]

بدّ من أن يكون لورود الجملة بالأسلوب الذي وردت به حكمة سامية. وقد يكون من هذه الحكمة على ضوء الآيتين الأخيرتين [6 و 7] أنها بسبيل الردّ على الكفار الذين يستعجلون العذاب استهتارا أو تحدّيا ويسألون هازئين عن سبب تأخيره بأن ما يظنونه بعيدا هو عند الله تعالى قريب وإن اليوم عنده ليعدل خمسين ألف سنة من سنيهم. والله أعلم. [سورة المعارج (70) : الآيات 8 الى 18] يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18) . (1) المهل: عكر الزيت. (2) العهن: الصوف. (3) يبصرونهم: بمعنى يرونهم أو يعرفونهم والضمير راجع إلى الأصدقاء الحميمين أو الأقارب المذكورين في الآيات. (4) صاحبته: كناية عن الزوجة. (5) فصيلته: أسرته الخاصة، مثل عشيرته. (6) تؤويه: تضمه أو تجيره. (7) لظى: متقدة أو شديدة الالتهاب. (8) نزاعة للشوى: قرئت نزاعة بالضم وبالفتح. وفي حالة الضم تكون خبر (لأنها) وفي حالة الفتح تكون حالا أو ظرفا أو مفعولا لفعل مقدر وهو (أعنيها) والشوى جمع شواة وهي بشرة الجسم أو أطراف الجسم غير المقاتلة، والجملة تعني أن النار تنزع من شدّتها بشرة الجسم أو أطرافه. (9) أوعى: كنز وادّخر.

تعليق على اختصاص جمع المال وكنزه بالتنديد

وفي هذه الآيات إشارة إلى عذاب الله الموعود الذي أكّدت الآيات السابقة وقوعه وقربه: ففي ذلك اليوم تكون السماء كعكر الزيت قتاما أو ميوعة والجبال كالصوف ليونة وتناثرا ومع أنهم يرى بعضهم بعضا ويتعرف بعضهم على بعض فإن كلا منهم مشغول بنفسه لا يستطيع أن يسأل نصرا من صديق أو عونا من قريب ولا يمكن أن يجاب. ويكون هول العذاب الشديد على المجرمين حتى ليتمنى الواحد منهم لو فدى نفسه بكل عزيز عليه من أولاده وزوجته وأخيه وعشيرته وكل من في الأرض ليتمكن من النجاة. ولكن لا نجاة. فقد أعدّت جهنّم الشديدة الاتقاد لكل من أدبر وأعرض عن سماع آيات الله والاستجابة إلى الدعوة إليه وكان كل همّه جمع المال وكنزه لتنزع أطرافهم وتشوى بشراتهم دون أن يقضى عليهم بالموت ليظلوا يقاسون هول العذاب. والآيات كما هو واضح متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا. وفيها تأييد لما قلناه في سياق الآيات السابقة وكونها للإنذار والتأكيد بوقوع العذاب الموعود وقربه. وقد تضمنت وصفا مرعبا من شأنه إثارة الخوف والهلع في الكفار وهو مما استهدفته الآيات هنا كما استهدفته الآيات السابقة والمماثلة بالإضافة إلى المقصد الأخروي الواجب الإيمان به. ولقد روى الترمذي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا فيه تفسير للمهل قال: «إنه كعكر الزيت إذا قرّب إلى الوجه سقطت فروته من شدّة حرارته» «1» . تعليق على اختصاص جمع المال وكنزه بالتنديد وكما قلنا في صدد اختصاص عدم الحضّ على طعام المسكين في الآيات السابقة نقول هنا في صدد اختصاص جمع المال وكنزه بالتنديد من حيث إنه ليس من قبيل الحصر. ولكنه ينطوي على تلقين قرآني جليل مستمر المدى في صدد تقبيح كنز المال والشحّ به عن سبل البرّ والخير ومساعدة المحتاجين.

_ (1) التاج ج 4 ص 244.

[سورة المعارج (70) : الآيات 19 إلى 35]

[سورة المعارج (70) : الآيات 19 الى 35] إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) . (1) هلوعا: سريع التأثر والتّهيج مما يلمّ به أو سريع الضجر والتبرّم. (2) جزوعا: شديد الخوف والاضطراب. في الآيات الثلاث الأولى إشارة إلى ما انطبع عليه الإنسان من أنانية وحرص وسرعة تأثر: فهو سريع التهيج مما يلمّ به. وهو أناني لا يفكر إلّا في نفسه فإذا أصابه شرّ جزع واضطرب وإذا انفرجت أموره ونال خيرا أمسك وبخل. والآيات التالية استثنت من ذلك المصلّين المداومين على الصلاة: فهؤلاء يعرفون ما عليهم في أموالهم من حقّ واجب للسائل والمحروم. ويؤمنون باليوم الآخر. ويخافون من عذاب ربهم الجدير بالخشية. ويرعون ما يقطعونه من عهد. ويلتزمون في صلاتهم الجنسية مجالهم المشروع من زوجات وملك يمين حافظين فروجهم عن غير هذا المجال، لأن الذين يتجاوزونه يكونون معتدين. ويحتفظون بما اؤتمنوا عليه من أمانات. ويؤدون ما عندهم من شهادات على وجهها الحقّ. ويحافظون على صلاتهم في أوقاتها. فلهؤلاء عند الله التكريم في الجنات. تعليق على الآيات إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إلى الآية 25 وما ينطوي فيها من تلقينات والآيات متصلة بسابقاتها. والمناسبة قائمة خاصة بينها وبين الآية الأخيرة السابقة لها مباشرة. وقد انطوت على تقرير أثر الإيمان وعبادة الله في نفس الإنسان

واتجاهه وسلوكه، وتقويم ما في طبيعته من أنانية وجزع من الشر ومنع للخير. وهي من روائع المجموعات القرآنية المنطوية على جليل التلقينات الأخلاقية والاجتماعية المستمرة المدى. واختصاص المصلّين بالذكر في الاستثناء وتكرار التنويه بالدوام على الصلاة والمحافظة عليها في أول المجموعة وآخرها آت- كما هو المتبادر- من كون الصلاة هي مظهر رئيسي من مظاهر الإيمان بالله أولا ووسيلة مستمرة للتذكير بالله وأوامره التي فيها كل خير ونواهيه التي تنهى عن كل شرّ ثانيا. وهذا مما يجعل المصلّي يندفع في عمل الحق والعدل والخير ويمتنع عن الإثم والفواحش. وعلى هذا فإذا صدر من مصلّ آثام ومنكرات وتغلبت فيه الأنانية والجزع والبخل والمنع فلا يكون في الحقيقة مصليا لأن صلاته لا تكون صادرة عن إيمان صحيح فلا تفيد في تصفية روحه وتنقية قلبه على ما شرحناه في سياق تفسير سورة لعلق شرحا يغني عن التكرار. ومع أن الآيات انطوت كما قلنا على تقرير أثر الصلاة في المصلي الصادق فإن من الممكن أن يكون فيها أيضا صورة لما كان عليه المؤمنون الأولون في العهد المكي من أخلاق وما كان للصلاة والإيمان فيهم من أثر عظيم مما احتوت تقريره آيات عديدة في سور عديدة على ما ذكرناه في سياق الآيات الأولى من سورة (المؤمنون) . وإذا صح هذا- ونرجو ذلك- فإن في الآيتين وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ قرينة على أن الزكاة كانت مفروضة على المؤمنين ومعينة المقدار. ولقد روى الطبري عن مجاهد والشعبي وغيرهما من علماء التابعين أن جملة وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ تعني غير الزكاة أيضا. ومع أن هناك آيات عديدة حثّت على التصدّق بصورة عامة بحيث يدخل في ذلك الصدقات التطوعية فإنّ المتبادر من روح العبارة هو كما قلنا قصد المقدار المحدد

تعليق على مدى الآية والذين هم بشهاداتهم قائمون

المستوجب على الأموال باسم الزكاة في الدرجة الأولى. ولقد روى البخاري حديثا جاء فيه: «أتي النبيّ مالا فأعطى قوما ومنع آخرين فبلغه أنهم عتبوا فقال إني أعطي الرجل وأدع الرجل. والذي أدع أحب إليّ من الذي أعطي. أعطي أقواما لما في قلوبهم من الجزع والهلع. وأكل أقواما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير. منهم عمرو بن تغلب فقال عمرو ما أحبّ أن لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمر النعم» «1» . حيث ينطوي في الحديث معالجة نبوية نفسانية لمختلف فئات المسلمين تورد على هامش بعض ما جاء في هذه الآيات. وفيها تلقين رفيع نفساني للمسلمين وبخاصة لأولي الأمر منهم. تعليق على مدى الآية وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ والآية كما هو المتبادر تعتبر القيام بالشهادة من صفات المؤمنين الصادقين وتنوّه بمن يفعل ذلك. وهناك آيات فيها حثّ على ذلك منها آية سورة النساء هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [135] وآية سورة المائدة هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [8] وآية سورة الأنعام هذه وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى [152] وآية سورة الطلاق هذه وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [2] وهناك نهي عن كتمان الشهادة وإنذار لكاتميها كما هو في آية البقرة هذه وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [283] ونهي عن مضارة الشهداء كما هو في آية البقرة

_ (1) التاج ج 4 ص 244.

[سورة المعارج (70) : الآيات 36 إلى 44]

هذه وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ [282] ونهي للشهداء عن عدم الشهادة كما هو في آية البقرة هذه وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا [282] حيث يبدو من هذا مدى عناية حكمة التنزيل بهذا الأمر الذي فيه إحقاق للحقّ وتوطيد للعدل وضمان لطمأنينة الناس على حقوقهم المتنوعة. وهناك أحاديث نبويّة عديدة متساوقة مع التلقين القرآني وفي بعضها تحذير من شهادة الزور وتعظيم لإثمها. منها حديث رواه الخمسة إلّا البخاري عن زيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بخير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها» «1» وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن خريم بن فاتك قال: «صلّى النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح فلمّا انصرف قام قائما فقال: عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله ثلاث مرات ثم قرأ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ... [الحج: 30- 31] » «2» . وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بأكبر الكبائر قالوا بلى يا رسول الله قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور أو قول الزور. قال فما زال يقولها حتى قلنا ليته سكت» «3» وحديث رواه ابن ماجه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لن تزول قدم شاهد الزور حتى يوجب الله له النار» «4» . [سورة المعارج (70) : الآيات 36 الى 44] فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44) .

_ (1) التاج ج 3 ص 56- 58. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. [.....]

(1) مهطعين: مسرعين ومقبلين. (2) عزين: جماعات جماعات. (3) ربّ المشارق والمغارب: جمهور المفسرين على أن العبارة تعني مطالع الشمس والقمر ومغاربهما. وبعضهم قال إن الجمع بسبب تغير هذه المطالع والمغارب يوميا بالنسبة للقمر في كل شهر وبالنسبة للشمس في كل سنة. (4) مسبوقين: هنا بمعنى عاجزين أو مقصرين عن اللحاق بهم. والكلمة في صدد تعبير السبق. فالمسبوق في المباراة يكون عاجزا أو مقصرا. (5) نصب: مفرد الأنصاب. وهو ما ينصب للعبادة. ويمكن أن تعني الأصنام. (6) يوفضون: يسرعون. في الآيات: 1- سؤال فيه معنى الإنكار والتنديد عما يريده الكفار من إسراعهم نحو النبي ووقوفهم جماعات جماعات عن يمينه وشماله وعمّا إذا كانوا يطمعون أن يدخلوا الجنة. 2- ونفي جازم لذلك. 3- وتقرير وقسم يتضمنان معنى الإنذار بأن الله الذي خلقهم مما يعرفون قادر على إهلاكهم متى شاء واستبدالهم بخير منهم وليس هو عاجزا عنه ولن يستطيعوا الإفلات منه. 4- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن لا يعبأ بهم وأن يدعهم في خوضهم ولهوهم إلى أن يلقوا اليوم الذي يوعدون وينالهم العذاب المعدّ لهم فيه، ففي ذلك اليوم يخرجون

من قبورهم مسرعين كأنهم متجهون نحو نصب لهم وتكون أبصارهم خاشعة ويكون الذلّ والهوان قد استحوذا عليهم. والآيات متصلة بالآيات التي سبقت فصل المصلين كأنما جاء هذا الفصل للاستدراك ثم عاد الكلام فاتصل في صدد الكفار. وروح الآيات عامة والآية [42] بخاصة تلهم أن ما حكته الآيتان [36 و 37] من التفاف الكفار حول النبي يمينا وشمالا كان من قبيل إقبال الساخر المستخفّ. ولذلك انطوت الآيات على التنديد والإنذار والوعيد والتذكير بقدرة الله على تنفيذ وعيده من جهة وانطوت على تسليته للنبي وتطمين له من جهة أخرى. وهكذا تكون الآيتان [36 و 37] احتوتا صورة من صور الخبث والمكر والاستخفاف التي كانت تصدر عن الكفار نحو النبي صلى الله عليه وسلم في بعض مواقف وعظه وإرشاده وتلاوته للقرآن حيث كانوا ينظرون إليه نظر الهازئ المنكر ويقفون حوله جماعات جماعات مادّين بأعناقهم إليه وقوف الساخر الجاحد. والتنديد والإنذار اللذان تضمنتهما الآيات قويان لاذعان ومتناسبان مع الصورة الخبيثة التي انطوت فيهما. وقد جاءت الآيات خاتمة للسورة. والآية الأخيرة مما ختم بما يماثله بعض السور الأخرى أيضا.

سورة النبإ

سورة النّبإ في السورة استنكار لما يبدو من الكفار من استعظام خبر البعث والجزاء الأخرويين وتوكيد بوقوعهما وتدليل على قدرة الله عليهما بمشاهد كون الله وعظمته ونواميسه. وإنذار بأهوال القيامة ومشاهدها ووصف قوي لمصائر الكفار والمؤمنين فيها. وآياتها منسجمة متوازنة مما يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 16] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16) . (1) أزواجا: أصنافا. (2) المعصرات: الرياح في قول والسحب في قول آخر. والثاني هو الأوجه الذي تؤيده العبارة. (3) ثجّاجا: مدرارا شديد الانصباب. (4) ألفافا: متكاثفة ملتفة على بعضها.

[سورة النبإ (78) : الآيات 17 إلى 20]

في هذه الآيات: 1- سؤال عمّا يتساءل الناس عن صحته من الخبر العظيم العجيب واختلافهم في شأنه. 2- وتوكيد قوي بأن المتسائلين لا بدّ من أن يروه حقيقة ويعلموا صحته. 3- وسؤال في معنى التدليل على قدرة الله على ذلك في تقرير مشاهد عظمة الله في كونه ونواميسه. فهو الذي جعل الأرض ممهدة صالحة للسير والاستقرار. وأقام فوقها رواسي الجبال كالأوتاد. وخلق الخلق أصنافا. وجعل النوم انقطاعا عن الحركة، والليل ظرفا للراحة والسكون، والنهار للسعي والحركة والارتزاق. وبنى فوق الأرض سبع سموات عظمى. وجعل فيها سراجا شديد الحرارة والنور. وأنزل من السحب الماء المدرار فأخرج به الحبّ والنبات وجنّات الأشجار المتكاثفة. وروح الآيات تلهم أن الضمير في يَتَساءَلُونَ ومُخْتَلِفُونَ وسَيَعْلَمُونَ عائد إلى الكفار. وقد قال المفسرون إن النبأ العظيم يمكن أن يكون البعث والحساب ويمكن أن يكون أمر النبوّة. ويمكن أن يكون القرآن. بل ذكر البغوي عزوا إلى مجاهد أن الأكثرين على أنه القرآن. وقد رجّح ابن كثير أنه يوم القيامة. والأقوال الثلاثة واردة على كل حال وإن كنّا نميل إلى ترجيح القول الأول وقد يكون في الآيات التالية تأييد لهذا الترجيح. وأسلوب الآيات التي تعدد مشاهد الكون ونعم الله التي يتمتع بها الناس موجّه إلى كل فئة وقوي نافذ لأنه متّصل بمشاهداتهم وما يتمتعون به. ويلهم في الوقت نفسه أن السامعين ومنهم الكفار يعترفون بأن ما يرونه ويلمسونه ويتمتعون به هو من آثار قدرة الله تعالى وصنعته. ومن هنا يكون التدليل بها على قدرة الله على تحقيق النبأ العظيم الذي يتساءل عنه الكفار قويّا ملزما. [سورة النبإ (78) : الآيات 17 الى 20] إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20)

[سورة النبإ (78) : الآيات 21 إلى 30]

في هذه الآيات: تنبيه على أن الموعد الذي عيّنه الله تعالى للقضاء بين الناس هو يوم الفصل. ففي ذلك اليوم ينفخ في الصور فيأتي الناس أفواجا من كل صوب. وتفتح السماء فتكون أبوابا عديدة. وتتقلقل الجبال وتسير عن أماكنها فتصبح كالسراب أثرا بعد عين. والآيات متصلة بسابقاتها. وفيها قرينة على أن البعث والحساب هما النبأ العظيم الذي حكى تساؤل الكفار عنه في الآيات السابقة. وقد احتوت وصف بعض مشاهد قيام القيامة وصفا متضمنا قصد تصوير هول ذلك اليوم مما تكرر في مواضع كثيرة من السور السابقة وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار. [سورة النبإ (78) : الآيات 21 الى 30] إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30) . (1) مرصادا: مرصدا وهو المكان الذي ينتظر فيه. (2) مآبا: مكان إياب أو مصيرا. (3) غسّاقا: قيل إنه الصديد كالغسلين. وفي هذه الآيات وصف لمصير الكفار في ذلك اليوم الذين وصفوا بالطاغين للتدليل على كفرهم وبغيهم: فقد أعدّت جهنّم لتكون مأوى لهم ومرصدهم المنتظر. وسيلبثون فيها الأحقاب. ولن يذوقوا فيها شرابا يطفىء الغلة ولا بردا يذهب الحرارة. وليس فيها إلّا الماء الشديد الحرارة والغسّاق شرابا. وكل هذا جزاء عادل متناسب مع أعمالهم ومواقفهم فقد كذّبوا بآيات الله ولم يفكروا في

[سورة النبإ (78) : الآيات 31 إلى 36]

العواقب ولم يقع في خاطرهم احتمال الحساب والعقاب في حين أن الله قد أحصى عليهم كل شيء كأنما هو مسجّل في كتاب. وسيقال لهم ذوقوا فليس لكم عندنا إلّا المزيد من هذا العذاب وهذه الآلام. والآيات متصلة بسابقاتها كما هو واضح. وقد استهدفت بالوصف المفزع الذي تضمنته فيما استهدفته إثارة الرعب والرهبة في قلوب الكفار وحملهم على الارعواء كما هو المتبادر. ولقد تعددت الأقوال المعزوّة إلى بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم عن مدى ما تعنيه كلمة الأحقاب ومن ذلك أن الحقب ثمانون عاما وأن العدد الذي يتّسع للجمع يصل إلى سبعمائة. مع حساب كون يوم الآخرة يعدل ألف سنة من سني الدنيا. وبعضهم قال إنها منسوخة بجملة فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً الواردة بعدهما وبعضهم قال إن الجملة تعني في حدّ ذاتها الخلود لأنها لم تعين للأحقاب حدا. وعلى كل حال فالتعبير القرآني أسلوبي بقصد بيان طول أمد العذاب إلى ما لا نهاية له. [سورة النبإ (78) : الآيات 31 الى 36] إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) . (1) مفازا: فوزا ونجاة. (2) كواعب: جمع كاعب وهي التي نهد ثديها وهذا من أوصاف المرأة المرغوبة. (3) أترابا: خلانا ورفاقا والمقصد منها الزوجات. (4) دهاقا: مترعة. والمتبادر أن القصد من ذلك المترعة بالشراب اللذيذ. (5) لغوا ولا كذّابا: لا لغو فيها ولا كذب. في هذه الآيات وصف لمصير المتّقين في ذلك اليوم للمقابلة مع وصف

[سورة النبإ (78) : الآيات 37 إلى 40]

مصير الكفار فلهم النجاة والفوز وسينزلون الجنات فيتمتعون بها بالفواكه والأعناب والنساء الكواعب والكؤوس اللذيذة. ولا يؤذي آذانهم لغو ولا كذب. وكل هذا جزاء لهم من الله وتوفية لحسابهم على ما قدموه من صالح الأعمال. والآيات متّصلة بسابقاتها كذلك. وقد استهدفت فيما استهدفته من الوصف المبهج الترغيب والتبشير وبعث الاغتباط والطمأنينة في قلوب المؤمنين. ويلفت النظر بخاصة إلى جملة جَزاءً وِفاقاً في الآيات السابقة وجملة جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً في هذه الآيات حيث تضمنتا تقريرا صريحا بأن ما يناله الناس من عقاب وثواب إنما هو جزاء لأعمالهم وكسبهم الاختياري. [سورة النبإ (78) : الآيات 37 الى 40] رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40) . في هذه الآيات استمرار على وصف القيامة وهولها والإنذار بها: فالله الذي يوفي كلا من الطاغين والمتّقين حسابهم على أعمالهم هو ربّ السموات والأرض وما بينهما الذي من أبرز أسمائه الحسنى (الرّحمن) . والذين يأتون إليه أفواجا يوم القيامة يقفون خاشعين متهيبين. وكذلك الملائكة مع الروح يقومون صفوفا أمامه. ولا يملك في ذلك اليوم أحد حقّ الكلام والخطاب إلّا من أذن له الرّحمن وكان قوله عنده حقّا وصوابا. وذلك اليوم هو يوم الحقّ والقضاء العادل الحاسم، فمن أراد أن ينجو من هوله فعليه أن يجعل اتجاهه نحو الله وأن يسير في سبيله. وقد انتهت الآيات بتوجيه الخطاب للسامعين: فالله ينذرهم بعذابه ويخوفهم من ذلك اليوم الذي سيرى فيه كل امرئ جزاء ما قدمت يداه من خير وشر ويتمنى الكافر فيه أن لو كان ترابا حسرة وندامة وفزعا من المصير الرهيب الذي سوف يصير إليه.

والآيات قوية نافذة تتضمن وصف عظمة الله وهيبته وتضع الناس أمام مصير واضح لا ينجو من هوله إلّا من آمن بالله وسار في سبيله. ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون «1» عن بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم في كلمة الروح منها ما هو غريب مثل كونها عنت بني آدم أو أرواحهم أو خلقا يخلقه الله مستأنفا. ومنها أنه ملك عظيم أعظم الملائكة خلقا وأعظم من السموات والجبال ومنها أنه جبريل عليه السلام. ولقد وردت في سورة القدر جملة قرينة للجملة التي وردت فيها الكلمة هنا وهي تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار. ولقد انتهينا في التعليق إلى ترجيح كون جبريل عليه السلام وكونه عظيم الملائكة وهو ما نرجحه هنا وتلهمه روح العبارة أيضا.

_ (1) انظر تفسير السورة في الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي والزمخشري والخازن.

سورة النازعات

سورة النّازعات في السورة توكيد رباني بتحقيق يوم البعث والحساب وما سوف يستولي على الكفار فيه من خوف وندم. وتذكير برسالة موسى إلى فرعون وموقف فرعون وما في ذلك من عبرة. وتدليل على قدرة الله على البعث والتنكيل بالكفار بما كان من مصير فرعون. وبمشاهد الكون وعظمة الله وبديع صنعه فيه. وتنديد بالكفار لشكهم في الآخرة وبيان إنذاري وتبشيري بمصير كل من المتقين والطاغين فيها. ونظم السورة وترابط آياتها يسوغان القول إنها نزلت دفعة واحدة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) . (1) النازعات: من النزع. أي التي تنزع شيئا من آخر. (2) غرقا: بمعنى الشدّة وبلوغ الغاية بها. (3) الناشطات: المتحركات أو المخرجات أو الخارجات بسرعة وسهولة. (4) الراجفة: التي تحدث الرجفان والاضطراب.

(5) الرادفة: التي تردف ما سبقها وتدعم. (6) واجفة: مضطربة خائفة. (7) الحافرة: الطريقة المعتادة المحفورة. (8) الساهرة: الفلاة أو منبسط الأرض. تعددت الأقوال في معاني الآيات الأربع الأولى «1» . منها أنها الملائكة في قبضها الأرواح وسبحها بين السماء والأرض لتنفيذ أوامر الله وتسابقها لتدبير الأمور التي تعهد إليها. وقيل إنها صفات الأرواح حين تنزع من الأجساد فأرواح الكفار تنزع بشدّة بينما أرواح المؤمنين تخرج نشيطة مسرعة فتسبح في ملكوت الله وتتسابق إلى الحضرة الإلهية أو إلى مصائرها السعيدة. وقيل إنها صفات النجوم وحركاتها حيث تنزع من أفق إلى أفق وتطلع ثم تغيب وتغرق وتسبح في الفضاء ويسبق بعضها بعضا في السير. وهذه الأقوال تخمينية كما يبدو. والتعدد آت من إطلاق الصفات وعدم وجود أثر نبوي يحدد المدلولات تحديدا لا يبقى معه محل للتخمين. والمتبادر أن مدلولات هذه الأقسام كانت مفهومة في عهد النبي وأنها كانت ذات خطورة في الأذهان على أن الجملة الآتية الأخيرة أو الخامسة قد تساعد على القول أنها أوصاف الملائكة لأنهم الذين يمكن أن يكون منهم تدبير الأمر بأمر من الله تعالى والله أعلم. أما جواب القسم فهو على قول جمهور المفسرين محذوف مقدر بمعنى توكيد بعث الناس مرة أخرى. والآيات التالية قرائن قوية على ذلك أغنت عن ذكر الجواب. وهو ما تتحمله أساليب النظم العربي. وقد تكرر ذلك في النظم القرآني أيضا. وقد أعقب آيات القسم توكيد رباني بتحقيق وعد البعث وإشارة إلى بعض ظروفه ومشاهده وأقوال الكفار عند وقوعه: فسوف ترجف الأرض مرة تردفها رجفة أخرى حين حلول اليوم المعين. وسوف يستولي الرعب والاضطراب على

_ (1) انظر كتب التفسير السابقة الذكر.

[سورة النازعات (79) : الآيات 15 إلى 26]

قلوب كثيرة وتخشع أبصار أصحابها. وسوف يتساءل هؤلاء عما إذا كانوا حقا قد عادوا إلى الحياة مرة ثانية بعد أن كانوا عظاما بالية ويقولون إن هذا إذا كان حقا فإنها لعودة خاسرة. وقد تضمنت الآيتان الأخيرتان بيان سهولة البعث على الله، فالأمر لن يقتضي إلّا صرخة واحدة فلا يلبث الناس أن يروا أنفسهم في صعيد واحد في انتظار قضاء الله وحكمه. وواضح أن الآيات هي في صدد توكيد البعث والحساب ووصف هول يوم القيامة وأن الذين حكت اضطراب قلوبهم وخشوع أبصارهم وتساؤلهم وأقوالهم هم منكرو البعث. وقد تضمنت الآيات ردّا عليهم وإنذارا لهم. واستهدفت فيما استهدفته إثارة الخوف فيهم وحملهم على الارعواء بالإضافة إلى المشهد الأخروي الذي يجب الإيمان به وإيكال كنهه وسرّه إلى الله تعالى. ولقد تكررت حكاية تساؤل الكفار عن بعثهم بعد أن يكونوا عظاما نخرة وتكرر الردّ عليهم ووصف ما سوف يحلّ بهم بما يقارب ما جاء في هذه الآيات حيث كانت تتجدد المواقف فتقضي حكمة التنزيل بتجدد الحكاية والردّ استهدافا للهدف الذي نبهّنا عليه كما هو المتبادر. وبرغم ما في الآيات من صراحة قطعية إنها في صدد البعث الأخروي وإنذار الكفار فإن المفسّر الشيعي الكارزاني يروي عن المفسر الشيعي القمي عن الصادق عليه السلام أن الراجعة تعني الحسين والرادفة تعني أباه عليا رضي الله عنهما وأن في الآيتين إشارة إلى رجعة الحسين ثم أبيه وما سوف يعتري أعداءهما من خوف وهلع «1» . وفي هذا ما هو ظاهر من تعسف وشطط وهوى حزبي. [سورة النازعات (79) : الآيات 15 الى 26] هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26)

_ (1) التفسير والمفسرون للذهبي، ج 2 ص 71.

[سورة النازعات (79) : الآيات 27 إلى 33]

(1) تزكّى: تتزكّى، أي تطهر من كفرك وبغيك. في الآيات سؤال موجه إلى السامع يتضمن معنى التذكير بما كان من أمر رسالة موسى إلى فرعون حيث ناداه ربّه بالوادي المقدس طوى وأمره بالذهاب إلى فرعون الذي طغى ودعوته إلى التطهّر من بغيه وهدايته إلى سبيل ربه، وحيث أرى موسى فرعون آية الله الكبرى التي أظهرها على يده فكذّب وعصى وأخذ يسعى ليحشد الناس ويمنعهم عن الحق ويهتف بهم أنا ربّكم الأعلى، وحيث أخذه الله ونكّل به في الدنيا بالإضافة إلى نكال الآخرة. وانتهت الآيات بلفت النظر إلى ما في ذلك من عبرة وموعظة لمن يخشى العواقب. والصلة قائمة بين هذه الآيات وسابقاتها حيث جاءت بعد إنذار الكفار والتنديد بهم جريا على الأسلوب القرآني. وهدف التذكير والإنذار فيها واضح كما هو شأن جميع القصص القرآنية. وقصة رسالة موسى وموقف فرعون الاستكباري قد حكيت في سور سابقة بأساليب متنوعة، وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار. ولقد تعددت روايات المفسرين عن أهل التأويل في تأويل جملة فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى فقيل إنها بمعنى عاقبه الله على تكذيبه بدءا وإصراره على التكذيب بعد ظهور معجزات الله ووقوع العذاب عليه. كما قيل إنها بمعنى عاقبه الله في الدنيا بالإضافة إلى ما سوف يكون من عقابه في الآخرة. وكلا القولين وجيه. [سورة النازعات (79) : الآيات 27 الى 33] أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31) وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33)

(1) سمكها: سقفها. (2) فسوّاها: جعلها مستوية أو مضبوطة. (3) أغطش ليلها: جعله مظلما. (4) أخرج ضحاها: كناية عن ضوء النهار. (5) دحاها: بسطها. وفي هذه الآيات التفات إلى السامعين وسؤالهم سؤال المستنكر المندد عما إذا كانوا يرون خلقهم أشدّ وأشقّ على الله من الأكوان التي خلقها: فهو الذي خلق السماء وأعلى سقفها وضبط نواميسها. وقدّر الظلام ليلا والضياء نهارا. وهو الذي مدّ الأرض وبسطها ويسّرها للسير والاستقرار وأرسى فوقها الجبال وأخرج منها الماء والنبات ليكون في ذلك قوام حياتهم وأنعامهم. والمتبادر أن الجواب على السؤال منطو في الآيات نفسها. فالله الذي خلق السموات والأرض وأودع فيها النواميس اللازمة والتي تفوق في العظمة خلق الناس أهون عليه أن يخلق الناس ثانية بطبيعة الحال. والمتبادر كذلك أن السؤال موجّه إلى الكفار لأنهم هم الذين يجحدون البعث ويستعظمون وقوعه. وهكذا تكون الآيات قد جاءت في صدد توكيد البعث والتدليل على قدرة الله عليه، وهي والحالة هذه متصلة بالسياق السابق على قصة رسالة موسى عليه السلام إلى فرعون وتكون الإشارة التذكيرية إلى هذه القصة قد جاءت استطرادا مما هو مألوف في النظم القرآني. ولقد احتوت آيات عديدة في سور سابقة ما احتوته هذه الآيات وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار. ولقد أورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن أنس بن مالك في سياق

[سورة النازعات (79) : الآيات 34 إلى 41]

جملة وَالْجِبالَ أَرْساها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لمّا خلق الله الأرض جعلت تميد فخلق الجبال فألقاها عليها فاستقرّت فتعجبت الملائكة من خلق الجبال فقالت يا ربّ فهل من خلقك شيء أشدّ من الجبال؟ قال: نعم، الحديد. قالت: يا ربّ، فهل من خلقك شيء أشدّ من الحديد؟ قال: نعم، النار. قالت: يا ربّ، فهل من خلقك شيء أشدّ من النار؟ قال: نعم، الماء. قالت يا ربّ فهل من خلقك شيء أشدّ من الماء؟ قال نعم، الريح. قالت: يا ربّ، فهل من خلقك شيء أشدّ من الريح؟ قال: نعم، ابن آدم يتصدّق بيمينه يخفيها عن شماله» . وأورد الطبري في سياق الجملة حديثا عن علي جاء فيه: «لما خلق الله الأرض قمصت وقالت تخلق عليّ آدم وذريته يلقون عليّ نتنهم ويعملون عليّ بالخطايا فأرساها الله فمنها ما ترون ومنها ما لا ترون فكان أول قرار الأرض كلحم الجزور إذا نحر يختلج لحمها» . والحديثان لم يردا في كتب الأحاديث الصحيحة. ومهما يكن من أمر فإن حكمة التنزيل اقتضت أن يذكرا للسامعين هنا. وفي المناسبات العديدة السابقة ما للجبال من تأثير في ثبات الأرض اتساقا. مع ما في أذهانهم من ذلك والله أعلم بسبيل التنبيه على كون الله تعالى قد أحسن كل شيء خلقه وإيجاب الإيمان به والاتجاه إليه وحده وشكره على ما يتمتعون به من أفضاله. وإذا صحّ الحديث النبويّ فيكون في ذلك حكمة سامية. ولعلّ من هذه الحكمة ما جاء في آخره من تعظيم التصدّق خفية على المستحقين. [سورة النازعات (79) : الآيات 34 الى 41] فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41) . (1) الطامّة: هي البلاء العام الذي لا يدفع. وهي هنا كناية عن يوم القيامة. (2) آثر: فضّل.

[سورة النازعات (79) : الآيات 42 إلى 46]

وفي هذه الآيات إنذار بمجيء القيامة وما يكون فيها: فحينما تجيء يتذكّر كل امرئ ما قدمت يداه من أعمال ليؤدى عليها الحساب وتعرض الجحيم حتى يراها الناس. فمن كان قد طغى في حياته وتجاوز حدود الحق وكفر وأثم وفضّل الحياة الدنيا على الآخرة فهي مأواه. أما الذي يكون قد استشعر بخوف الله وحسب حساب الآخرة وزجر نفسه عن اتباع الهوى والباطل وسار في سبيل الله والحق فتكون الجنة مأواه. والآيات متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا. وأسلوبها إنذاري وتبشيري معا. ووصف يوم القيامة بالطامّة الكبرى متناسب مع حقيقتها وخطورتها كما هو المتبادر. وعطف إيثار الحياة الدنيا على الطغيان قرينة على أن المندّد به ليس الاستمتاع بطيبات الحياة إطلاقا وإنما هو الاستغراق فيها استغراقا يجعل المرء لا يحسب حساب الآخرة ويطغى في الأرض. وهكذا يظل المبدأ القرآني المحكم الذي قررته آية سورة الأعراف [32] وأكّدته آيات عديدة أخرى هو الضابط لهذا الأمر. وتعبير وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى تعبير قوي نافذ في صدد اجتناب الآثام والموبقات والشهوات من حيث تصوير كون أهمّ ما يورط المرء في ذلك هو اتباع هوى النفس دون وازع ولا زاجر. وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى. وفي الآيات توكيد قويّ للمبدأ القرآني المحكم الذي قررته آيات كثيرة في سور عديدة من كون الإنسان يكسب أعماله باختياره وسعيه وأنه مجزى عليه وفاقا لذلك. [سورة النازعات (79) : الآيات 42 الى 46] يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46) . في هذه الآيات:

1- حكاية لسؤال الكفار للنبي عليه السلام عن موعد قيام القيامة. 2- وتنديد بسؤالهم الذي يوردونه من قبيل التحدّي والاستخفاف. 3- وتقرير بأن موعدها عند الله وفي علمه. 4- وخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بصيغة السؤال التقريري بأنه ليس له عنها علم وبأن قصارى شأنه أنه منذر بها لينتفع بذلك من كان يستشعر بالخوف منها ويريد أن يتحاشى أسبابه بالإيمان وصالح العمل. 5- وإنذار وتوكيد للكفار بأنهم سيرونها حتما وفي برهة أقرب بكثير مما يظنون وأنهم حينما يرونها سيظنون من شدّة هذا الأمر أنه ما بينها وبين موتهم إلّا مساء أو صباح. وواضح أن الآيات استمرار مع السياق والموضوع. وقد تكرر مثل هذا السؤال والردّ عليه في مواضع عديدة مرّت أمثلة منها حيث يدل ذلك على تكرر السؤال والتحدي من قبل الكفار واقتضاء حكمة التنزيل بتكرار الردّ عليهم. ولقد أورد البخاري ومسلم في فصل التفسير من صحيحيهما حديثا مرويا عن سهل بن سعد في سياق هذه الآيات جاء فيه: «رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم قال بإصبعيه هكذا بالوسطى وبالتي تلي الإبهام بعثت والساعة كهاتين» «1» . ولقد علقنا على موضوع اقتراب الساعة في سياق تفسير سورة القمر بما فيه الكفاية فلا نرى ضرورة للإعادة. ولقد روى الطبري بطرقه في سياق هذه الآيات أيضا حديثين أحدهما عن عائشة قالت: «لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة حتى أنزل الله عزّ وجلّ فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) » وثانيهما عن طارق بن شهاب قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يزال يذكر شأن الساعة حتى نزلت يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها إلى

_ (1) التاج ج 4 ص 251.

مَنْ يَخْشاها» . ويلحظ على هذين الحديثين أن السؤال عن الساعة إنما كان يقع ويتكرر من الكفار وأن القرآن كان يأمر النبي بالقول إنه لا يعلم ولا يملك من الأمر شيئا والأمر بيد الله وعلمه على ما جاء في سور كثيرة مرّ تفسيرها مثل سور الأعراف ويونس. وقد حكت آيات مدنيّة سؤالا لهم عنها أيضا وجوابا مماثلا على ما جاء في سورة الأحزاب يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) ويتبادر لنا أن العبارة القرآنية هنا هي من هذا الباب بأسلوب آخر. وليس فيها أية دلالة كما أنه ليس في القرآن أية دلالة على أن النبي هو الذي كان يسأل عنها حتى تكون هذه الآيات خاتمة لسؤاله عنها. والحديث الذي أوردناه آنفا والذي رواه البخاري ومسلم في سياق هذه الآيات قوي المغزى.

سورة الانفطار

سورة الانفطار في السورة إنذار بالبعث وهوله ومشاهده. وتنديد بالمكذبين الذين يقفون من الله موقف الكفر والنكران مع عظيم نعمه عليهم في حسن الخلق ومواهب العقل. وبيان خطورته ومصير الأبرار والفجّار فيه ومسؤولية كل عن عمله. ونظم السورة وانسجام آياتها تسوغان القول بوحدة نزولها. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) . (1) انفطرت: تشققت. في الآيات: إنذار بالبعث وهول مشاهده: فحينما تتشقق السماء وتتساقط الكواكب وتنتثر وتتفجّر البحار وتتفتح القبور عمّا فيها يقف الناس جميعهم أمام الله موقف القضاء فيذكر ويعلم كل منهم ما صدر منه من الأعمال صغيرها وكبيرها، سرّها وعلنها. وأسلوب هذا المطلع قد تكرر في صدد الإنذار بالآخرة والتخويف من أهوالها. [سورة الانفطار (82) : الآيات 6 الى 8] يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) .

[سورة الانفطار (82) : الآيات 9 إلى 12]

(1) عدلك: جعلك معتدلا متناسب الخلق. وفي هذه الآيات وجّه الخطاب للإنسان بأسلوب التنديد والتذكير وبصيغة الاستفهام الإنكاري عما جعله يغترّ فيستهين بنقمة الله ويجرؤ على الوقوف منه موقف الكفر والجحود وهو الذي خلقه وسوّى أعضاءه وجعله متناسب الخلق ووهبه من المواهب ما ميّزه على غيره، وركّبه في أحسن الصور التي شاءت حكمته أن يكون عليها جنسه خلقا ومواهب. والآيات قويّة لاذعة حيث تذكّر السامع بكرم الله عليه وتندد به على مقابلته ذلك بالجحود. وليست منقطعة عن المطلع الذي أكّد فيه مجيء يوم القيامة ومحاسبة الناس على أعمالهم. فجاءت تندد بالذين لا يخشون الله ويكفرون بنعمته وفضله. ولقد روى البغوي عن عطاء أن هذه الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة وعن الكلبي ومقاتل أنها نزلت في الأسود بن شريق ضرب النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعاقبه الله عاجلا. ولقد جاء بعد هذه الآيات خطاب للسامعين بصيغة الجمع تقرر واقع أمرهم في تكذيبهم بيوم الجزاء وإنذارهم حيث يسوغ هذا التوقف في ما جاء من روايات في سبب نزول الآيات والقول إنها خطاب عامّ للناس والجاحدين منهم بخاصة وفي صدد توكيد البعث والجزاء الأخرويين. والتنديد بجاحدي نعم الله وأفضاله. والآيات الثلاث [6- 8] التي تنوّه بحسن خلقة الإنسان تسجل ما اقتضته حكمة الله تعالى من تميزه في ذلك عن الحيوانات الأخرى وما في ذلك من تكريم له ليستحكم التنديد بالذين يتجاهلون فضل الله العظيم عليهم ويجحدونه. [سورة الانفطار (82) : الآيات 9 الى 12] كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12) .

وفي هذه الآيات هتاف تنديدي موجّه إلى الكفار في معرض بيان الباعث على جحودهم لله وهو تكذيبهم بالجزاء الرباني يوم القيامة. وتوكيد في معرض الإنذار بأن الله قد جعل عليهم من يحصي ويحفظ كل ما يصدر منهم ويسجله عليهم من كتّاب الله الكرام الذين ينفذون أوامر الله. وواضح أن التوكيد ينطوي على توكيد الجزاء الأخروي أيضا، ومثل هذا البيان والتوكيد قد تكرر في مواضع كثيرة من القرآن. ولقد تكررت الإشارة إلى الرقباء والكاتبين لأعمال الناس في سور سابقة. ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات أيضا بعض الأحاديث. منها حديث عن مجاهد جاء فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلّا عند إحدى حالتين الجنابة والغائط فإذا اغتسل أحدكم فليستتر بجرم حائط أو ببعيره أو ليستره أخوه» . ومنها حديث مثل هذا مع زيادة عن ابن عباس جاء فيه: «إنّ الله ينهاكم عن التعرّي فاستحيوا من ملائكة الله الذين معكم الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلّا عند إحدى ثلاث حالات الغائط والجنابة والغسل. فإذا اغتسل أحدكم بالعراء فليستتر بثوبه أو بجرم حائط أو ببعيره» . ومنها حديث عن أنس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من حافظين يرفعان إلى الله عزّ وجلّ ما حفظا في يوم فيرى في أول الصحيفة وفي آخرها استغفارا إلّا قال الله تعالى قد غفرت لعبدي ما بين طرفيّ الصحيفة» . وحديث عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ لله ملائكة يعرفون بني آدم، وأحسبه قال ويعرفون أعمالهم فإذا نظروا إلى عبد يعمل بطاعة الله ذكروه بينهم وسمّوه وقالوا أفلح الليلة فلان. نجا الليلة فلان. وإذا نظروا إلى عبد يعمل بمعصية الله ذكروه بينهم وسمّوه وقالوا هلك الليلة فلان» . ولقد علقنا على هذا الموضوع في سياق سورة (ق) فلا نرى ضرورة لتعليق آخر. ومع التنبيه على أن هذه الأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة فإنها يلمح فيها قصد التأديب والتنبيه فإن صحّت فيكون من جملة مقاصدها هذا القصد. والله تعالى أعلم.

[سورة الانفطار (82) : الآيات 13 إلى 19]

[سورة الانفطار (82) : الآيات 13 الى 19] إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) . وفي هذه الآيات بيان لمصير الناس يوم الجزاء وإنذار بخطورته. فالأبرار الصالحون في النعيم، والفجار الآثمون في الجحيم. وهي مصيرهم الذي لا مفلت لهم منه حتما في ذلك اليوم العظيم الخطر الذي يكون الأمر فيه لله وحده، والذي لا يستطيع فيه أحد أن ينفع أحدا ولا تغني فيه نفس عن نفس. والاتصال بين هذه الآيات وسابقاتها قائم موضوعا وسياقا كما هو المتبادر. ومع واجب الإيمان بما احتوته من مشهد أخروي فالمتبادر من العبارة القرآنية أن من حكمتها تعظيم يوم القيامة وحسابه وتوكيده وترغيب المؤمنين وترهيب الكفار. والمؤمنون مندمجون في تعبير الأبرار. والكفار مندمجون في تعبير الفجّار. غير أن المتبادر أنه قد أريد بوصف المؤمنين بالأبرار والكفار بالفجّار تلقين كون الإيمان الصادق يوجّه صاحبه نحو الخير والبر، بينما الكفر يوجه صاحبه نحو الإثم والفجور.

سورة الانشقاق

سورة الانشقاق في السورة إشارة إلى مشاهد القيامة. وبيان لمصير الأبرار والأشرار فيها. وتوكيد إنذاري وتنديدي للكفار بأنهم ستتبدل حالهم وينالهم العذاب دون المؤمنين الصالحين. ونظم السورة وترابط آياتها يسوغان القول بوحدة نزولها. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 15] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) . (1) أذنت لربها: بمعنى استمعت واستجابت وانقادت لربّها. (2) حقّت: عرفت الحقّ فانصاعت له. (3) مدّت: قيل إنها بمعنى سويت فلا يبقى عليها جبال ولا وديان، وقيل إنها بمعنى وسعت لتتسع لجميع الناس. (4) وألقت ما فيها: أخرجت ما في جوفها: كناية عن خروج الناس من قبورهم.

(5) كادح: ساع وعامل. (6) ثبورا: هلاكا. (7) لن يحور: لن تتبدل حالته، أي لن يعود بعد الموت. في الآيات الخمس الأولى ما يلهم أنها في صدد مشاهد يوم القيامة: فحينما تنشقّ السماء انقيادا لأمر ربها وأداء لما عليها نحوه من حقّ الطاعة، وحينما تنبسط الأرض وتمتد وتنفتح عمّا في باطنها وتقذف به إلى سطحها وتتخلّى عنه انقيادا لأمر ربها كذلك وأداء لما عليها من حقّ الطاعة تكون القيامة قد قامت. وعبارة (تكون القيامة قد قامت) مقدرة تقديرا. والتقدير بديهي لأنه نتيجة طبيعية لما احتوته الآيات الخمس من المشاهد. وهو ما يقرره جمهور المفسرين. وفي الآيات التالية خطاب للإنسان في صدد مصائر الناس يوم القيامة: فكل إنسان ساع في حياته الدنيا. وكل ساع ملاق عند ربه نتيجة سعيه. فالذي يعطى يوم القيامة كتاب عمله بيمينه يكون حسابه يسيرا هينا ويعود إلى أهله راضيا مسرورا. والذي يعطى كتاب عمله من وراء ظهره فيتمنى الموت فلا يناله ويندب حظه ويصلى النار المستعرة جزاء ما قدمت يداه لأنه كان في حياته مغرورا بما كان له من قوة ومال وما كان يتمتع به من هدوء البال والنعم غير حاسب لحساب الآخرة لأنه كان موقنا بعدم البعث بعد الموت في حين كانت عين الله مراقبة له وبصيرة به ومحصية عليه عمله. ومطلع السورة من المطالع المألوفة في كثير من السور. وتعبير الانقلاب إلى الأهل مستمد من مألوف الخطاب الدنيوي على ما جرت عليه حكمة التنزيل في وصف المشاهد الأخروية مما مرّت منه أمثلة عديدة. ويلحظ أن كتاب أعمال الكافر الآثم هنا يعطى له من وراء ظهره في حين ذكر في سور سابقة أنه يعطى له بشماله. حيث يبدو أن التعبير الجديد مما يقوم في اللغة مقام ذلك التعبير. ولقد علقنا على هذا الموضوع وذاك في المناسبات السابقة بما يغني عن التكرار.

[سورة الانشقاق (84) : الآيات 16 إلى 25]

ولقد روى الشيخان والترمذي في فصل التفسير في سياق الآية السابقة من السورة وما بعدها حديثا عن عائشة رضي الله عنها جاء فيه: «قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليس أحد يحاسب إلّا هلك. قلت: يا رسول الله جعلني الله فداءك أليس الله تعالى يقول فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً قال: ذاك العرض يعرضون، ومن نوقش الحساب هلك» «1» . وفي الحديث تفسير أو توضيح لمدى الآيات من جهة وتنبيه للمسلمين ليجتهدوا في تجنب ما يعرّضهم للمحاسبة العسيرة من أعمال من جهة أخرى على ما هو المتبادر. [سورة الانشقاق (84) : الآيات 16 الى 25] فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) . (1) الشفق: الحمرة التي تبدو في الأفق عند غروب الشمس. (2) وسق: احتوى أو جمع أو ضمّ. (3) اتّسق: تمّ بدرا. وأصل الاتساق الانتظام والتكامل والاستواء. (4) طبقا عن طبق: حالا بعد حال. (5) يوعون: يضمرون. قرئت كلمة لَتَرْكَبُنَّ قراءات متعددة وتعدد تأويل جملة لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ حسب ذلك «2» . حيث قرئت بالتاء والباء المفتوحتين على أنها خطاب

_ (1) التاج ج 4 ص 254. (2) تفسير الطبري استوعب جميع القراءات والتأويلات المروية. ومنها ما هو غريب مثل كون الجملة تعني تقلّب النبي في السموات طبقة بعد طبقة. أو تطور حالات السموات من احمرار فانشقاق فانفطار.

للنبي صلى الله عليه وسلم بأن أمره سيتغير من حال إلى حال. وقرئت بالتاء المفتوحة والباء المضمومة على أنها خطاب للسامعين بأن أمرهم سيتغير من حال إلى حال. وقرئت بالياء بدلا من التاء مع الباء المضمومة على أنها خطاب للناس. وجملة فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ التي تأتي بعد هذه الجملة وما بعده قد تساعد على الترجيح بأنها خطاب موجّه للكفار الذين يصرّون على كفرهم. وتكون الأقسام في الآيات الثلاث السابقة للجملة على سبيل التوكيد لهم بأن حالتهم الراهنة التي يغترون ويعتقدون بها لن تدوم لهم وأنها سوف تتغير. ثم جاءت الآيات التالية للجملة: 1- لتتساءل تساؤل الاستنكار والتنديد عن سبب عنادهم وعدم إيمانهم وعدم تأثرهم بالقرآن والسجود لله حينما يسمعون آياته البليغة وعظاته المؤثرة. 2- لتقرر حقيقة أمرهم والباعث لهم على ذلك والله الأعلم به وهو تكذيبهم بالجزاء الأخروي. 3- لتأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتبشيرهم بالعذاب الأليم الذي سوف يلقونه مع استثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات حيث يكون لهم الأجر الذي لا يعتريه انقطاع. والآيات متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا كما هو واضح. وقد استعملت كلمة فَبَشِّرْهُمْ على سبيل الاستهزاء كما هو المتبادر أيضا. وقد تكرر هذا في مواضع عديدة. ومن عجيب تأويلات الشيعة تأويلهم جملة لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) بأن فيها إشارة إلى أن هذه الأمة ستسلك سبيل من كان قبلها من الأمم في الغدر بالأوصياء بعد الأنبياء «1» . وفي هذا من الشطط الحزبي ما يماثل كثيرا مما مرّ التنبيه إليه.

_ (1) التفسير والمفسرون للذهبي، ج 2 ص 30.

تعليق على ما يمكن أن يلهمه أسلوب ومضامين هذه السورة وما قبلها من احتمال تبكير نزولها

تعليق على ما يمكن أن يلهمه أسلوب ومضامين هذه السورة وما قبلها من احتمال تبكير نزولها وننبّه على أن بين أسلوب هذه السورة ومضامينها وكذلك أسلوب السور السابقة لها أي الانفطار والنازعات والنبأ والمعارج والحاقّة والملك والطور ومضامينها، وبين أسلوب ومضامين كثير من السور المبكرة في النزول مثل التكوير والأعلى والليل والفجر والشمس والقارعة والقيامة وق والطارق تماثل كبير مما يبعث الشكّ في صحة ترتيب نزولها في أواخر العهد المكيّ ومما يسوغ الظنّ بأنها مما نزل في عهد مبكر وإن كان ترتيبها في تراتيب النزول العديدة المرويّة متقاربا مع ترتيبها الذي ذكر في المصحف الذي اعتمدنا عليه وسرنا وفقه.

سورة الروم

سورة الرّوم في السورة إشارة إلى ما كان من انكسار الروم في بلاد الشام وما سوف يكون لهم من غلبة يفرح بها المؤمنون. وتنديد بالكفار لغفلتهم عن الآخرة واستغراقهم في الدنيا وتذكير بمن قبلهم. وتوكيد بمجيء الآخرة. وبيان لمصير المؤمنين والكفار فيها. وتنزيه لله عن الشركاء. وسلسلة رائعة في مشاهد قدرة الله وآياته ونواميسه في كونه في صدد البرهنة على عظمته وقدرته. وإشارة إلى طبائع الناس في الجزع عند الشدة والبطر عند الفرح دون شكر ولا صبر، وتقرير لما يجب على المؤمنين في هذه الحالات. وتثبيت للنبي وتطمين له ووعد متكرر بالنصر وتوكيد بتحقيق الوعد. وفصول السورة مترابطة مما يبرر القول إنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة. وقد روي أن الآية [17] مدنية. وانسجامها التّام موضوعا وسياقا مع ما قبلها وما بعدها يبرر الشكّ في الرواية. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7) .

تعليق على خبر انكسار الروم وانتصارهم وموقف المؤمنين والمشركين من ذلك

(1) أدنى الأرض: المتبادر أنها كناية عن البلاد المتاخمة للحجاز. وبعض المفسرين قالوا إنها بلاد الشام، وبعضهم قالوا إنها جزيرة الفرات. وكلا القولين وجيه لأن الروم انكسروا أمام الفرس في بلاد جزيرة الفرات ثم في بلاد الشام في زمن النبي. بدأت السورة بحروف الألف واللام والميم للاسترعاء والتنبيه على ما رجحناه من قبل ثم أعقبها: خبر بانكسار الروم في البلاد المتاخمة للحجاز. وبشرى بنصر يحرزونه خلال بضع سنين. وإشارة إلى ما سوف يكون حينئذ من فرح المؤمنين بنصر الله القوي العزيز الرّحيم بعباده القادر على نصر من يشاء. وتوكيد بأن هذا وعد رباني. وبأن الله لا يخلف وعده. ولو أن أكثر الناس لا يعرفون الحقائق وأن كل ما يعرفونه هو بعض أمور ظاهرة من شؤون الحياة الدنيا في حين أنهم غافلون عن الآخرة: مع ما هي عليه من خطورة الشأن. والسورة من السور القليلة التي أعقب حروفها المتقطعة الأولى موضوع غير القرآن والتنويه به. تعليق على خبر انكسار الروم وانتصارهم وموقف المؤمنين والمشركين من ذلك وقد أورد المفسرون روايات عديدة حول هذه الآيات «1» . ملخصها المعقول فيها أنها نزلت في ظرف كان فيه حرب بين الروم والفرس في البلاد المتاخمة للجزيرة العربية في الشام وجزيرة الفرات: وانتصر الفرس فيها على الروم ففرح مشركو مكة بذلك وأظهروا شماتتهم بالمسلمين الذين كانوا يقولون بوحدة المنبع والجوهر التي تجمع بينهم وبين الكتابيين الذين منهم الروم النصارى.

_ (1) استوعبها الطبري فانظر فيه تفسير الآيات وكل أو جلّ ما ورد في كتب التفسير الأخرى متسق مع ما رواه الطبري إجمالا.

وأن هذا الموقف قد شقّ على المسلمين وأحزنهم فبشّرهم الله بهذه الآيات وطمأنهم. ومضمون الآيات وروحها يؤيدان هذا الملخص كما هو واضح وإن لم يرد فيها ذكر للفرس وذكر لفرح المشركين وشماتتهم صراحة. وهناك روايات في صيغ مختلفة عن تشاد ومراهنة بين أبي بكر رضي الله عنه وأمية بن خلف أحد زعماء المشركين على صدق ما بشّرت الآيات به من غلبة الروم بعد انغلابهم «1» . ومنها ما يذكر أنهما جعلا مدة وقوع ذلك ثلاث سنين أو خمسا أو ستا والرهان عشر قلائص أو أربعا وأن أبا بكر أعلم النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر فأمره بزيادة قيمة الرهان ومدّ الأجل لأن البضع يمتد من ثلاث سنين إلى تسع فعدل الاتفاق إلى تسع سنين على مائة قلوص وغلب الروم فكسب أبو بكر الرهان وأسلم من المشركين خلق كثير. ومنها ما يذكر أن أبا بكر خسر الرهان ولكن الروم انتصروا بعد سنة من المدة المتفق عليها فأسلم من المشركين خلق كثير كذلك. والرواية الأخيرة رواها الترمذي عن ينّار بن مكرم الأسلمي بشيء من التفصيل قال: «لما نزلت الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ [1- 4] كانت فارس حينئذ قاهرين للروم وكان المسلمون يحبّون ظهورهم على فارس لأنهم وإياهم أهل كتاب وذلك قول الله تعالى وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وكانت قريش تحبّ ظهور فارس لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب ولا إيمان ببعث. فلما نزلت الآية خرج أبو بكر (رض) يصيح في نواحي مكة الم الآية، قال ناس من قريش لأبي بكر: فذلك بيننا وبينكم. زعم صاحبكم أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين أفلا نراهنك على ذلك، قال بلى وذلك قبل تحريم الرهان فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا على الرهان. وقالوا لأبي بكر كم نجعل البضع ثلاث إلى تسع سنين فسمّ بيننا وبينك وسطا، قال: فسمّوا بينهم ستّ سنين فمضت قبل أن تظهر الروم فأخذ المشركون رهن أبي بكر فلما دخلت السنة السابعة

_ (1) انظر تفسير الطبري فإنه استوعبها أيضا.

ظهرت الروم على فارس فعاب المسلمون على أبي بكر تسمية ستّ سنين لأنّ الله قال في بضع سنين وأسلم عند ذلك ناس كثير» «1» . ومضمون حديث الترمذي هذا قد يفيد أن انغلاب الروم وغلبتهم بعد بضع سنين قد كانت قبل الهجرة. وهذا يقتضي أن تكون السورة أو الآيات نزلت قبل الهجرة بسنين كثيرة مع أنها كانت على ما يدل ترتيب نزولها المتفق عليه تقريبا في التراتيب المرويّة من آخر ما نزل من القرآن في مكة حيث هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة بعد نزولها بمدّة قليلة. على أن هناك رواية تفيد أن انتصار الروم قد كان في ظرف معركة بدر التي كانت بعد الهجرة بنحو سنة ونصف ورواية أخرى تفيد أنه كان في ظرف صلح الحديبية الذي كان بعد الهجرة بنحو ستّ سنين. وهذه الرواية أوجه لأن بين نزول سورة الروم وصلح الحديبية نحو سبع سنين. وقد سمّى القرآن هذا الصلح بالفتح المبين ونزلت فيه سورة الفتح أو معظمها على ما سوف يأتي شرحه في مناسبتها فكانت فرحة المؤمنين مزدوجة بالفتح المبين الذي كتبه الله لهم على المشركين وبغلبة الروم الذين كان المؤمنون يعتبرونهم حزبا معهم على الفرس الذين كان المشركون يعتبرونهم حزبا معهم بعد غلبة هؤلاء على الروم. وهكذا تحققت نبوءة من نبوءات القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وحقّق الله وعده وبشراه فعلا خلال بضع سنين وفرح المؤمنون بنصر الله. وهذه الحقيقة مسجّلة في الكتب التاريخية القديمة المعتبرة. ولقد أورد الطبري وغيره في سياق الآيات بيانات كثيرة معزوة إلى علماء الأخبار في الصدر الإسلامي الأول في ما كان من وقائع ومكائد متبادلة بين الفرس والروم وفي ما كان من أحوال الفرس والروم من حالات دينية واجتماعية وسياسية وعمرانية وما كانت في القسطنطينية خاصة من آلاف الكنائس وما كان يعقد فيها من مجالس دينية إلخ ... اختلطت فيها الحقائق مع الخيال والمبالغات وتدلّ مع ذلك

_ (1) التاج ج 4 ص 178- 179.

على أن هذه الأمور مما كانت متداولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم. ولم نر طائلا من إيرادها لأنها لا تتصل بأهداف الآيات ولا ترتكز على علم وثيق. أما وحدة المنبع والجوهر التي من أجلها حزن المسلمون من انكسار الروم وفرحوا بانتصارهم فهي مؤيدة بآيات قرآنية عديدة وردت في سور عديدة مرّ تفسيرها ونبّهنا على دلالاتها. ومنها ما تضمن خبر فرح الكتابيين بما كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي القرآني مثل آية الرعد هذه: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [36] ومنها ما تضمن تقرير يقينهم بأنه منزّل من عند الله مثل آية الأنعام هذه: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [114] ومنها ما تضمن خبر إيمانهم صراحة مثل آيتي القصص هذه: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) ومنها ما تضمن وحدة الجوهر بين الشريعة الإسلامية والشرائع النبويّة السابقة مثل آية سورة الشورى هذه: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [13] . وكان كل هذا مما يثير المشركين. ولا سيما أن القرآن كان يندد بهم لكفرهم بكتاب الله ونبيه برغم ما كان من إيمان أهل الكتاب وتصديقهم. فلما انتصر الفرس فرحوا وشمتوا وحزن المسلمون واغتموا. وواضح أن شرحنا هذا لا يتناقض مع ما قررته الآيات العديدة من مكيّة ومدنيّة من وقوف فريق من أهل الكتاب غلّبوا المآرب والهوى على الحق والهدى وبخاصة اليهود في الحجاز من النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن موقف الجحود والمناوأة مما شرحنا أسبابه المؤيدة بالنصوص القرآنية في مناسبات سابقة ولا مع ما استجدّ فيما بعد من موقف العداء والحرب بين النبي صلى الله عليه وسلم والروم امتد إلى ما بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد اعتدى عمال الروم على رسل النبي صلى الله عليه وسلم واعتدت القبائل العربية النصرانية على

[سورة الروم (30) : الآيات 8 إلى 10]

قوافل المسلمين فأدّى هذا إلى ذاك. أي إن جهة الروم كانت هي البادئة في العدوان. وصار من حقّ المسلمين وواجبهم أن يدفعوا العدوان. هذا، ولما كان القرآن يستهدف من الأخبار والقصص الموعظة والتدعيم والتطمين والتثبيت والإنذار والتبشير فقد اقتضت حكمة التنزيل أن تكون هذه الحادثة وسيلة إلى ذلك أيضا فاحتوت الآيات بشرى عامة بنصر الله ووعده بالنصر والفرح للمؤمنين وتوكيده بأنه لا يخلف وعده وتنديدا بالناس الذين يهتمون للأمور العابرة والشؤون الظاهرة ويغترون بها ويغفلون عن المهم الخطير. وننبّه على أن هناك قراءة بفتح الغين في غُلِبَتِ وضم الياء في سَيَغْلِبُونَ غير أن الأوجه قراءة الضمّ في الأولى والفتح في الثانية لأن من الثابت أن الروم غلبوا في ظروف البعثة ثم غلبوا. [سورة الروم (30) : الآيات 8 الى 10] أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10) . (1) أثاروا الأرض: حرثوها واستغلوها. (2) السوأى: تأنيث الأسوأ والكلمة خبر لكان. في هذه الآيات: سؤال يتضمن التنديد بالغافلين عن الآخرة بسبب عدم تدبرهم في الأمر وتفكيرهم منطقيا وهادئا يجعلهم يدركون أن الله تعالى لا يعقل أن يكون قد خلق السموات والأرض وما بينهما عبثا، بل لحكمة جليلة تقوم على الحقّ ولأمد معين في علمه.

[سورة الروم (30) : الآيات 11 إلى 16]

2- وإشارة إلى سبب ذلك وهو كون أكثر الناس لا يؤمنون بلقاء ربهم ولا يوقنون به فينصرفون عن هذا التدبر والتفكير. 3- وسؤال آخر يتضمن التنديد بهم أيضا: فإذا كانوا لا يتدبرون في الأمور فهل لم يتجولوا في أنحاء الأرض ويروا عاقبة الذين من قبلهم ويعرفوا أخبارهم فيتعظوا بها؟ فقد كان الذين قبلهم أشدّ منهم قوّة وإعمارا واستغلالا للأرض، فلما جاءتهم رسل الله بالبينات وقفوا منهم موقف المكذّب المستهزئ ولم يتورعوا عن ارتكاب السيئات فجازاهم الله سوءا بسوء، ولم يكونوا في ذلك مظلومين وإنما كانوا هم الذين جنوا على أنفسهم. والآيات متصلة بالآيتين الأخيرتين من الفصل السابق اللتين جاءتا بمثابة استطراد وانتقال إلى التنديد بالكفار الذين لا يعرفون الحقائق ويغفلون عن المصير الأخروي. وهكذا تكون هذه الآيات استمرارا في الاستطراد وفي نقل الكلام إلى الكفار ومواقفهم. وهذا أسلوب من أساليب النظم القرآني الذي مرّت منه أمثلة كثيرة. وأسلوب الآيات قوي مستحكم وموجّه إلى القلب والعقل معا. وقد تكرر فحواها كثيرا مما مرّ منه أمثلة عديدة. والآية خاصة تحتوي بالإضافة إلى التنديد سؤالا استنكاريا يتضمن من جديد معنى التقرير بأن السامعين يعرفون مما وصل إليهم من أخبار ووقعت عليه عيونهم من مشاهد أثناء رحلاتهم أن أهل البلاد التي كانوا يرحلون إليها مما هو في جزيرة العرب أو جوارها هلكوا ودمرت بلادهم بعذاب رباني وكانوا أقوى منهم وأشدّ. ومن هنا يأتي التنديد والتذكير ملزمين مستحكمين. [سورة الروم (30) : الآيات 11 الى 16] اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16) .

[سورة الروم (30) : الآيات 17 إلى 19]

(1) يبلس: ييئس. (2) يتفرقون: هنا بمعنى يصنفون فرقا. (3) يحبرون: يسرون، من الحبور. (4) محضرون: مساقون إليها سوقا. والإحضار هو إجبار المرء على الحضور. عبارة الآيات واضحة. وهي متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا كما هو المتبادر. والأولى منها تنطوي على برهان خطابي. فالله الذي يعترف المشركون بأنه خلق الكون والخلق بدءا قادر على إعادة خلقهما ثانية. وقد تكرر هذا البرهان في المناسبات المماثلة التي مرّ كثير منها. والمتبادر أن الآية الثانية استهدفت فيما استهدفته إدخال اليأس على المشركين من الشركاء والشفعاء الذين يشركونهم مع الله ما داموا قد كذّبوا بآيات الله وأنكروا الآخرة وحملهم على الارعواء والتفكير قبل الحسرة والندم. [سورة الروم (30) : الآيات 17 الى 19] فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19) . (1) تظهرون: وقت الظهر في النهار. في الآيات تنزيه لله وتقرير لاستحقاقه الحمد والتقديس في كل وقت وفي كل مكان: في الصباح والمساء، والظهر والعشية، وفي الأرض والسموات. فهو الذي

يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها. وهو يحيي الناس ويخرجهم من الأرض بعد موتهم كذلك. والآيات تنطوي على قصد التدليل على قدرة الله تعالى على إحياء الناس ثانية تدعيما لما جاء في الآية الأولى من الآيات السابقة. وهي متصلة بها اتصال استمرار في الموضوع وتعقيب عليه كما هو واضح. وما احتوته الآية الثالثة بخاصة قد تكرر في أكثر من سورة من السور السابقة لنفس القصد. وقد علقنا على عبارتها في المناسبات السابقة بما فيه الكفاية. وقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآية [17] مدنيّة. وهذا غريب. واللحمة بادية الوثاقة بينها وبين ما بعدها بحيث تكون معها وحدة لا تنفصل. لذلك نشكّ في صحّة الرواية. ولقد أورد الطبري في سياق الآيتين الأولى والثانية قولا لابن عباس بأنهما قد جمعتا مواقيت الصلاة فحين تمسون للمغرب والعشاء وحين تصبحون للفجر وحين تظهرون للظهر وعشيا هو العصر. وهو استنباط وجيه مرّت أمثلة أخرى منه. ولقد روى البغوي بطرقه عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرّة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلّا أحد قال مثل ما قال أو زاد» . وروى كذلك عن أبي هريرة «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرّحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» . وأورد ابن كثير حديثا رواه الطبراني عن ابن عباس «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: من قال حين يصبح فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ أدرك ما فاته في يومه ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته» . وهذه الأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. وصحتها مع ذلك

[سورة الروم (30) : الآيات 20 إلى 27]

محتملة وهي بسبيل الترغيب في ذكر الله وتقديسه وتسبيحه، إعلانا للإخلاص له وتقربا إليه. والمتبادر أن انتفاع المسلم بذلك يكون رهنا بائتماره بأوامر الله وسنّة رسوله وانتهائه عن ما نهى الله ورسوله عنه. فإن لم يفعل فليس ذلك بمزيل للمسؤولية عنه. [سورة الروم (30) : الآيات 20 الى 27] وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) . (1) منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله: في الجملة لفّ ونشر كما يقول البلاغيون. وتقديرها منامكم بالليل وابتغاؤكم فضل الله ورزقه في النهار. (2) قانتون: خاضعون. في الآيات الخمس الأولى تنبيه على آيات الله ونعمه ومشاهد كونه ونواميسه: 1- فمن آياته خلق الناس من أصل ترابي فلم يلبثوا أن كثروا وانتشروا في أنحاء الأرض.

2- ومنها أنه خلق لهم من جنسهم وأنفسهم أزواجا منهم ليسكن ويستأنس ويطمئن كل زوج بزوجه وأوجد فيهم عاطفة التوادّ والتراحم تجاه بعضهم. 3- ومنها خلقه السموات والأرض واختلاف ألوان الناس وألسنتهم. 4- ومنها أنه قدّر الليل والنهار لينام الناس في الأول ويسكنوا ويستريحوا، ويكدّوا في الثاني في سبيل الرزق وابتغاء فضل الله وقضاء مصالحهم وحاجاتهم المختلفة. 5- ومنها أنه هو الذي يرسل البرق فيخيف به الناس من جهة ويؤملهم برحمته من جهة أخرى حيث ينزل الماء على أثره من السماء فيحيي به الأرض بعد جفافها وموتها. 6- ومنها أن نظام الكون ونواميسه في السموات والأرض تقوم بأمره على أتمّ وجه وأحكمه حتى إذا حان الوقت الذي في علمه دعي الناس إليه فلبّوا الدعوة وخرجوا من باطن الأرض. ففي كل ذلك آيات بيّنات ودلائل ساطعات على عظمته وبالغ قدرته وكونه مصدر كل نعمة ورحمة ومدبر كل أمر، يدركها ويقنع بها من حسنت نيته وصفا قلبه وفكّر وتعقّل ورغب في تدبّر الأمور ومعرفة الحقّ والحقيقة. وفي الآيتين الأخيرتين تقرير تعقيبي على هذه الآيات: 1- فكل من السموات والأرض والحالة هذه خاضع له. 2- وهو الذي يبدأ الخلق ثمّ يعيده. 3- وإعادة الخلق ثانية أهون من بدئه وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز القادر الذي لا يعجز عن شيء، والحكيم الذي لا يفعل إلّا ما فيه الحكمة والصواب.

تعليقات على سلسلة آيات مشاهد قدرة الله ونواميسه في الكون

تعليقات على سلسلة آيات مشاهد قدرة الله ونواميسه في الكون والآيات معقبة على سابقاتها بقصد البرهنة على عظمة الله وقدرته والتنبيه على نواميسه في خلقه وكونه. فهي استمرار للسياق والموضوع السابقين. وهي من أوفى السلاسل القرآنية الجامعة الرائعة في بابها. وقد جاءت بأسلوب تتناوله أفهام الناس على اختلاف طبقاتهم ويتسق مع الآثار المحسوسة المماثلة والواقعة تحت مشاهدتهم. والنهايات التي انتهت بها كل آية مثل (يتفكرون. ويسمعون. ويعقلون. والعالمين) تدل على أنها موجهة إلى القلوب والعقول معا. وبخاصة إلى الطبقة التي عندها شيء من العلم بالأمور وفي قدرتها التدبر والتعقل والتفكر لتذكرها بمسؤوليتها الناتجة عن ما وهبها الله من عقل وفكر وعلم وتهيب بها إلى الانتفاع بكل ذلك وترى ما في كون الله ومشاهد خلقه من آيات العظمة والقدرة والاستحقاق للعبادة والخضوع فتستجيب إلى دعوته ولا تقف موقف المكابرة والمماراة والعناد. ولقد مرّ في سورة فاطر آية في مثل هذا السياق تقرر أن العلماء هم الذين يخشون الله لأن علمهم يجعلهم بالدرجة الأولى يدركون ذلك. وعلقنا على ما تضمنته من مدى وتلقين مستمر المدى. ونبّهنا على ما في مثل هذه المقاطع في الآيات التي نحن في صددها وغيرها من تساوق وتدعيم لما قررناه في ذلك التعليق. على أن هذا لا ينبغي أن يعني أن الآيات غير موجهة إلى غير هذه الطبقة. فروح الآيات تلهم أن كل إنسان عاقل راشد مكلّف بالتدبّر والتعقّل في آلاء الكون ونواميسه حتى يتبين له خلاله عظمة الله تعالى وقدرته. وكل ما يصح أن يكون هو أن تلك الطبقة تتحمل مسؤولية أشدّ في ذلك. وما احتوته الآيات قد تكرر كثيرا في السور السابقة. وإن جاء هنا أجمع وأروع. ومردّ التكرار في هذه كمردّه في تكرار القصص والمواعظ والتنديد والإنذار

تعليق على آية ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة واستطراد إلى ما قرره القرآن من مساواة بين الرجل والمرأة ومركز الزوجة

والترغيب والتبشير، وهو تكرر مواقف الدعوة وتنوعها كما نبّهنا عليه في المناسبات السابقة. وجملة وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى جاءت بمثابة استدراك بمعنى أن ما ذكر من أن الإعادة أهون من البدء إنما هو من قبيل البرهان لأذهان البشر الذين اعتادوا أن يروا أن إعادة الشيء ومحاكاته أهون من ابتداعه. ولا يكون هذا التمثيل واردا في حقيقته نحو الله لأن البدء والإعادة بالنسبة إليه سيّان. ولقد قال بعضهم إن البرق هو مخاريق من نار يحملها الملائكة التي يسوقون السحاب أو لمعان سيوفهم وأسواطهم التي يسوقون بها أو لمعان أجنحتهم. وليس لهذه الأقوال سند وثيق وليست متسقة مع الحقائق العلميّة اليقينية. والعبارة القرآنية جاءت للتنبيه على آثار البرق في الناس والتدليل على بديع نواميس الله وخضوعها له وتصريفها بإرادته والأولى الوقوف عند هذا الحدّ. تعليق على آية وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً واستطراد إلى ما قرره القرآن من مساواة بين الرجل والمرأة ومركز الزوجة والآية الثانية رائعة المدى والتلقين المستمر. فالله عزّ وجلّ إنما جعل لكل نفس زوجا منها ليسهل سكن كل منهما لزوجه في نطاق المودة والرحمة اللتين شاء الله تعالى أن يجعلهما بين الزوجين، فمن واجب الإنسان ومن باب أولى من واجب المسلم ذكرا كان أم أنثى أن ينظر إلى الرابطة الزوجية على هذا الاعتبار وأن يبذل جهده في عدم الحيدان عنه. وفي هذا إلى ذلك ما فيه من إعارة القرآن عناية كبرى لهذه الرابطة. وقد يلمح في الآية وعلى ضوء آية سورة الأنعام هذه وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ [98] تقرير لمبدأ تساوي الرجل والمرأة

في الحياة الزوجية وأعبائها وفي القابلية العقلية والاجتماعية. فالله قد خلقهما من نفس واحدة. وجعل كلا منهما زوجا للآخر لا يكمل الواحد منهما إلّا بالآخر ولا يستطيع الواحد منهما أن يقوم بواجباته المتنوعة إلّا بمساعدة الآخر والتعاون معه وتلك هي حكمة إلهام التقاء الزوجين برابطة الزواج. ولا يمكن أن يتمّ هذا إلّا في نطاق تبادل المودّة والرحمة الذي لا يمكن أن يكون إلّا بالتراضي والتفاهم ونتيجة لاعتراف كل منهما بذاتية الآخر وبواجبه وبحقه معا. وهذا يعني التكافؤ والتساوي. وكل ما هناك أن الله قد جعل لكل منهما وظيفة جنسية يكون كل منهما بها متمما للآخر وجعل لكل منهما بسبب ذلك مجالا ينشط فيه لخيرهما ومصلحتهما معا. ولقد ذكرنا في سياق تفسير سورة الليل استنادا إلى الآية وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أن القرآن قرر مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في التكليف وفي نتائج سعي كل منهما حسب السعي وهكذا تتوطد في القرآن المساواة بين الرجل والمرأة في القابليات والمسئوليات الدنيوية والدينية والأخروية. ولقد تكرر تقرير هذا كثيرا بأساليب متنوعة وفي السور المكية والمدنية معا ومرّت أمثلة منه في السور التي مرّ تفسيرها بحيث يصح القول إنه من مبادئ القرآن المحكمة. وما ورد في بعض الآيات المدنية من تفضيل الزوج درجة كما جاء في آية سورة البقرة [228] : وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ومن جعل شهادة المرأتين معادلة لشهادة رجل واحد كما جاء في آية سورة البقرة [282] : وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى ومن قوامة الرجال على النساء كما جاء في آية سورة النساء [34] الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ ومن كون نصيب المرأة في الإرث نصف نصيب الرجل كما جاء في آيات المواريث في سورة النساء فليس من شأنه نقض هذا المبدأ على ما سوف نشرحه في مناسباته. والمؤولون والمفسرون والفقهاء متفقون على أن كل تكليف كلّف به المؤمنون وكل واجب أوجب عليهم وكل وعد ووعيد وجّه

إليهم، وكل فضيلة نوّه فيها بهم وكل نهي نهوا عنه في قرآن وحديث دون تخصيص جنسي هو موجّه للمؤمنات أيضا دون تفاوت ما. والخطاب العام الموجّه إلى المؤمنين والذي يشمل المؤمنات في كل ذلك في القرآن والحديث هو الأعمّ الأغلب. ولا يمكن أن يصحّ في العقل إلّا مع فرض الأهلية التامة للمرأة عقليا وجبلة وأخلاقا وروحيا. ويورد حديث رواه الطبراني عن الأسقع بن واثلة جاء فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لامرأة أن تنتهك من مالها شيئا إلّا بإذن زوجها إذا ملك عصمتها» «1» . وهذا الحديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة وقد قال الطبراني إن بين رواته من لا يعرفهم مما يوجب التوقف فيه ولا سيما إنه يتعارض مع النصوص القرآنية التي تأمر بإعطاء المرأة حقها وعدم أخذ شيء منها بدون إذنها وتقرر حقها المطلق في الوصية والدين والاكتساب وقبض الإرث والهبة والتملك إلخ ... وهناك حديث أقوى سندا واعتبارا من هذا الحديث رواه أصحاب السنن وجاء فيه: «قيل يا رسول الله أيّ النساء خير قال الذي تسرّه إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره» . ولسنا نرى في هذا الحديث ما ينتقص ما تقدم أيضا. وكل ما فيه أن على المرأة ألّا تفعل في مالها ما يكرهه زوجها. وليس فيه ما يسمح له بمنعها من التصرف بمالها مبدئيا. وبإناطة ذلك بإذنه. وبالنسبة لطاعته في ما يأمر فلا شك في أن الطاعة يجب أن تكون منوطة بما ليس فيه معصية ولا ضرر عليها وعلى مالها وحقوقها على ضوء بعض الآيات والأحاديث. ففي سورة الممتحنة أنه شرطت عدم عصيان المؤمنات للنبي فيما يأمرهن، من معروف أي ما فيه خير ومصلحة وليس فيه ضرر وهدر حقّ شرعي كما ترى فيها: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَ

_ (1) مجمع الزوائد ج 4.

وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ ... [الممتحنة: 12] وقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأخذ من الرجال بيعة بهذا النصّ مع استعمال الضمير المذكر. وهناك حديث رواه الخمسة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السمع والطاعة على المرء فيما أحبّ أو كره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» «1» . وتورد أحاديث أخرى بسبيل التدليل على سفاهة المرأة ونقص عقلها ودينها وعوج طبيعتها. منها حديث أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن النساء سفهاء إلّا التي أطاعت زوجها» «2» . وحديث عزاه ابن كثير إلى مسلم عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله: يا معشر النساء تصدّقن وأكثرن من الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار. فقالت امرأة منهنّ جزلة وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟ قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير. ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لبّ منكن. قالت: يا رسول الله ما نقصان العقل والدين؟ قال: أما نقصان عقلها فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل. هذا نقصان العقل، وتمكث الليالي لا تصلي وتفطر في رمضان فهذا نقصان الدين» «3» . وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره. واستوصوا بالنساء خيرا فإنهنّ خلقن من ضلع أعوج وإنّ أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء خيرا. وفي رواية إن المرأة خلقت من ضلع لن تستقيم لك على طريقة فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها» «4» .

_ (1) التاج ج 3 ص 40. (2) تفسير الآية الخامسة من سورة النساء في ابن كثير. (3) انظر تفسير الآية [282] من سورة البقرة في تفسير ابن كثير. وهذا الحديث ورد في التاج أيضا برواية الخمسة وفي آخر الحديث من رواية البخاري هذه الجملة بدلا من الجملة الأخيرة (أليس إذا حاضت لم تصلّ ولم تصم قلن بلى قال فذلك من نقصان دينها) انظر التاج ج 1 ص 25. [.....] (4) التاج ج 2 ص 287- 288.

وتعليقا على ذلك نقول إن القرآن قرر أهلية المرأة بكل تكليف إيماني واجتماعي وتعبدي ومالي وجهادي وأخلاقي كالرجل بدون أي تمييز. ورتّب عليها كل ما رتّبه على الرجل تتجه لكل عمل تقوم به من ذلك ثوابا وعقابا وحدودا في الدنيا والآخرة بدون أي تمييز. وعيّن لها نصيبا في الإرث وأمر بأدائه لها وأوجب لها أداء مهرها وقرر لها الحق المطلق في التصرف في كل ما يدخل في يدها من مال مهما كان عظيما دون أي تدخل أو إشراف أو إذن من الرجل مهما كانت صلته بها فتبيع وتشتري وتملك العقار والأرقاء والأرضين وتزرع وتحصد وتستدين وتدين وتهب وتوصي وتعتق وتكاتب وتؤجر وتستأجر. وجعل أمر نفسها بيدها إلّا إذا كانت قاصرة فتزوج نفسها بدءا ومراجعة. وتفتدي نفسها من زوجها وتصالحه وتجادل عن نفسها رسول الله ومن دونه. وأوجب عليها كل ما أوجبه على الرجل من التفكير في آلاء الله والتدبر في كتاب الله والتعلّم والتعليم. وقرر أن المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض وبعضهم من بعض ونوّه بالمؤمنات الصابرات الصادقات القانتات الخاشعات الصائمات المتصدقات الحافظات لحدود الله والذاكرات الله كثيرا على قدم المساواة مع أمثالهن من الرجال. واعترف بشخصيتهن في نطاق الدولة مستقلة عن الرجل وأمر النبي بأخذ البيعة منهن إلخ إلخ «1» ... ولا يصح هذا إلّا مع فرض الأهلية التامة للمرأة عقلا وأخلاقا وقابلية ومواهب وجبلة. والحديث الذي يذكر أنهن من السفهاء ليس من الصحاح ويتحمل التوقف إزاء ما قرره القرآن من كل ذلك. وحتى لو صحّ فإنه يستثنى من يطعن أزواجهن وهنّ عادة الأكثرية الساحقة من النساء. وقد يكون من الحكمة فيه إذا صحّ حثّ النساء على الطاعة وبيان كون نشوزهن هو من قبيل السفه وقصور

_ (1) الآيات التي تقرر ذلك مدنيّة وهي كثيرة فنكتفي بالإشارة إلى أرقامها وسنشرحها في مناسباتها: البقرة [219- 247] وآل عمران [191- 195] والنساء [4 و 7 و 12 و 19 و 21 و 24 و 124] والمائدة [38] والتوبة [67 و 68 و 71 و 72] والنور [2 و 27- 32 و 61] والأحزاب [35 و 73] والفتح [5 و 6] والمجادلة [1 و 2] والممتحنة [10 و 12] والطلاق [1- 5] .

العقل. والحديث الذي يذكر أن المرأة خلقت من ضلع أعوج قد صدر بسبيل توصية الرجال بالنساء خيرا ورعايتهن والإغضاء عمّا قد يقع منهن من هنات، والأسلوب الذي جاء به متسق مع ما كان في الأذهان من مركز المرأة. وليس فيه على كل حال نقض لما احتوته النصوص والتلقينات القرآنية من تقرير أهلية المرأة لجميع الواجبات والتكاليف والحقوق المتنوعة أسوة بالرجل سواء بسواء. أما الحديث الذي يذكر نقص عقل المرأة ودينها فإن إيماننا بحكمة الله ورسوله يأبى التسليم بناء على تلك النصوص والتلقينات بصدوره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقصد وصف جميع النساء على اختلاف أوضاعهن بنقص الدين والعقل وبقصد تقرير كونهن أكثر أهل النار. وهنّ بالإضافة إلى تلك النصوص والتلقينات التي احتوت ما احتوته النصف الثاني الذي لا تتمّ الإنسانية إلّا به وأمّهات النصف الأول ومنشئاته وراعياته ومربياته. وهنّ نصف أمّة محمد التي وعدها الله بالجنة وقرّة العين. ويأتي التسليم بأن رسول الله قد قصد تقرير كونهن أهل أكثر النار واقعا لأنهن يكثرن اللعن ويكفرن العشير وهو يعلم من دون ريب أن هذا لا يكون عادة إلّا من أغلبية النساء وأن أكثريتهن مؤمنات لهن الجنة حتما وقد وعدن بذلك مثل الرجال وبنصوص خاصة «1» بالإضافة إلى النصوص العامة. ويأبى التسليم بأن الله ورسوله يعتبران فطر الحائض وعدم صلاتها دليلا على نقص دين النساء مع أن ذلك بترخيص منهما. وقد رخصا للمؤمن بكلمة الكفر عند الإكراه [آية النحل: 106] ورخصا بأكل المحرمات حين الاضطرار [آية النحل: 115] ورخصا للمريض والمسافر بالإفطار وبالتيمم إذا لم يجدا ماء [آية النساء: 43] ويأبى التسليم بأن يتجاوز الله ورسوله التحليل الوارد في آية الدين في سورة البقرة لجعل شهادة المرأتين معادلة لشهادة رجل واحد: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى [البقرة: 282] والذي مردّه مشاغل المرأة البيتية دليلا على نقص عقل النساء وفي حين يعلم الله ورسوله أن النسيان من حيث المبدأ عارض بشري يعرض

_ (1) اقرأ مثلا آيات آل عمران [195] والتوبة [71- 72] والنحل [97] والأحزاب [35] وغافر [40] .

[سورة الروم (30) : الآيات 28 إلى 29]

للرجال والنساء معا. وكل ما يمكن التسليم به إذا صحّ الحديث أن يكون قصد به الوعظ والتحذير. والله أعلم. [سورة الروم (30) : الآيات 28 الى 29] ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29) . في الآية الأولى تمثيل وتشبيه في معرض الإفحام والتقريب موجّه للسامعين ومتضمن السؤال عمّا إذا كانوا يرضون أن يكون مماليكهم شركاء لهم في أموالهم يحسبون حسابهم في تصرفاتهم ويخافون من محاسبتهم لهم أو مقاسمتهم أو مناظرتهم. وتعليق على هذا التمثيل بأن الله يفصّل ويبيّن آياته بالأمثال ليقرب إلى أذهان الناس حتى يتدبرها من تعقّل ورغب في معرفة الحقّ. وفي الآية الثانية استدراك في معرض بيان حقيقة أمر الكافرين فهم في عقائدهم وتقاليدهم يتبعون أهواء النفس ولا يستندون إلى عقل وعلم ومنطق. ولذلك لا يجدي فيهم البرهان والإقناع والأمثال. ولن ينالوا عند الله فوزا ولا نجاحا. ومن كان هذا شأنه عند الله فلن يجد له من بعده نصيرا ولا حاميا. والآيات غير منقطعة من حيث الجوهر عن الآيات السابقة. والمقصد من المثل هو إفحام المشركين. فهم لا يرضون أن يكون مماليكهم شركاء وأندادا لهم مع أنهم مثلهم في الطبيعة والخلقة فكيف يصحّ في عقولهم أن يجعلوا لله شركاء وأندادا من خلقه وأن يظنوا أن الله يرضى بهذا. والتأويل الذي أوّلناه لجملة فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ مستمد من روح الآيات. فالكفار قد انحرفوا عن طريق الحقّ واتبعوا الأهواء بغير علم فأضلّهم الله أي حرمهم من التوفيق والسداد. وهذا من قبيل وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ

[سورة الروم (30) : الآيات 30 إلى 32]

[البقرة: 26] وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ [إبراهيم: 27] على ما نبهنا عليه في المناسبات الكثيرة المماثلة. ومع ذلك فهي تقرير لواقع أمر الكفار حينما نزلت الآيات وليست تقريرا حتميا لمستقبلهم بدليل أن غالبيتهم الذين سمعوا القرآن قد اهتدوا وآمنوا ونالوا رضاء الله ورحمته. ولقد أورد ابن كثير في سياق هاتين الآيتين حديثا رواه الطبراني عن ابن عباس قال: «كان يلبي أهل الشرك: لبّيك اللهم لبّيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك. وتملكه وما ملك» فأنزل الله الآية. وليس في الرواية ما يدلّ على أن ذلك مناسبة لنزول الآية وإنما هي بمثابة توضيح تفسيري مستمد من عادات المشركين. [سورة الروم (30) : الآيات 30 الى 32] فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) . (1) فطرة الله: أمر الله الذي أوجبه على الناس أو فطرهم وخلقهم وصنعهم عليه، أو طريقته التي أوجب عليهم السير عليها «1» . (2) لخلق الله: لدين الله على ما رواه المفسرون «2» عن عدد من علماء التابعين ومفسريهم وهو وجيه متسق مع روح الآية. في الآية الأولى أمر للنبي بالثبات على دين الله الذي هدى إليه بإخلاص تامّ دون ما اعوجاج ولا تردّد. فهذا الدين هو الذي فطر الله الناس عليه، وطريقته وأمره اللذان أوجب عليهم السير عليهما. والتي لا يصح أن يقع عليه تبديل ولا تعديل ولو لم يدرك ذلك أكثر الناس.

_ (1) انظر الطبري والبغوي وابن كثير. (2) انظر المصادر المذكورة أيضا.

تعليق على آية فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها

وفي الآيتين التاليتين أمر للنبي والمسلمين معا بأن يجعلوا إنابتهم إلى الله وحده وأن يتقوه بصالح الأعمال ويواظبوا على إقامة الصلاة له ولا يكونوا من المشركين الذين انقسموا شيعا وأهواء في أمر الدين وكل منهم فرح بما هو عليه. والآيات متصلة بسابقاتها اتصالا تعقيبيا يتضمن إيضاح ما يجب على النبي والمؤمنين تجاه ما عليه الكفار والمشركون من باطل وضلال وأهواء منحرفة عن الحق. والآية الثانية تفيد كما هو المتبادر أن الأمر الموجه إلى النبي في الآية الأولى هو شامل للمسلمين أيضا. تعليق على آية فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها وكلمة حنيف بمعنى مستقيم. وأكثر ما جاءت في القرآن في معنى التوحيد وعدم الشرك على ما شرحناه في سورة يونس وأوردنا شواهده. فالأمر والحالة هذه في صدد التنبيه على التزام توحيد الله وعلى أن ذلك هو دين الله الذي لا يصحّ عليه تعديل ولا تبديل وإن ذلك هو الفطرة التي فطر الله الناس عليها. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث جاء فيه «1» : «ما من مولود إلّا يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسّون فيها من جدعاء. ثم تلا الآية: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ» . وقد روى المفسرون عن ابن عباس وغيره عن مفسري

_ (1) انظر تفسير الآية في تفسير الطبري وابن كثير مثلا. وهذا الحديث ورد في صحيح البخاري في فصل التفسير وفي سياق تفسير الآية رواية عن أبي هريرة. انظر التاج ج 4 ص 180.

التابعين «1» أن المراد بالفطرة هو الإسلام. وقد يعني هذا التدين أي الشعور بفكرة الدين أو بقوة خالقة عاقلة وراء هذا الكون، ووحدانية هذه القوة وعبادتها وإسلام النفس لها غريزة من غرائز الناس التي فطروا عليها في كل ظرف ومكان، والمتوقع أن يمارسوها إذا لم يتأثروا بالأهواء والتقاليد المنحرفة المحيطة بهم أو التي ينشأون في جوها والتي قد يكون نشوءها نتيجة جهل أو مأرب لأن عقل الناس في حالة صفائه ومهما كان بدائيا لا يمكن إلّا أن يدرك ذلك. وهذا ما عبرت عنه بأسلوب آخر آية سورة يونس هذه: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا [19] على ما شرحناه في سياق تفسير هذه السورة. ومن هنا كانت حكمة الله عزّ وجلّ في إرسال الرسل مبشرين ومنذرين للتنبيه على الانحراف وردّ الناس عنه كما ذكر ذلك في آية سورة البقرة هذه كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) والمقصود بالذين آمنوا هم أتباع محمد صلى الله عليه وسلم. ومن هنا تبدو وجاهة تفسير ابن عباس بأن الدين الإسلامي هو دين الفطرة الإنسانية الصافية التي فطر الله الناس عليها. ولقد احتوت التقريرات القرآنية التي مرّ كثير منها في السور السابقة الدلائل التي لا ينكرها إلّا مكابر على وجود الله ووحدانيته واتصافه بجميع صفات الكمال وتنزّهه عن الشوائب واستحقاقه وحده للخضوع والاتجاه. وعلقنا عليها بما رأينا فيه الكفاية حيث يتمّ بذلك تقرير صورة العقيدة الإسلامية للدين القيّم وهي فطرة التدين وفكرة الله ووحدانيته وإسلام النفس إليه. وهذه العقيدة من شأنها أن تقي صاحبها من الأهواء والنزوات والفراغ والانهيار واليأس وتمده بمدد فيّاض من القوّة والحيويّة والطمأنينة والسكون يحرم منه من لم يدن بها.

_ (1) انظر تفسيرها في البغوي.

تعليق على آية من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ...

ومن الجدير بالذكر أن هذه الصورة التي تمثل الغريزة الإنسانية السامية قد قرر وجودها وممارستها عدد عظيم من العلماء والفلاسفة والباحثين في مختلف العصور إلى عصرنا الحاضر نتيجة لدراساتهم التاريخية والاجتماعية والفلكية والرياضية والطبيعية بحيث يصحّ القول إنه لا يجادل فيها إلّا مكابر متعنّت لا يستطيع أن يثبت عكسها في الوقت ذاته «1» . تعليق على آية مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً ... والآية الأخيرة وإن كانت في صدد النهي عن السير في طريق المشركين الذين كانوا موضوع الكلام والتنديد من الانقسام في الدين شيعا حيث كان منهم المعترف بالله مع إشراك غيره به من ملائكة وغير ملائكة، ومنهم الوثني، ومنهم عابد الكواكب، ومنهم عابد النار إلخ فإن فيها تلقينا جليلا مستمر المدى ولكل ملّة ونحلة ومذهب بتقبيح التشيع والانقسام في أمور الدين نتيجة لأهواء النفوس ومآربها وتمسك كل فرقة برأيها تمسك التعصب الأعمى والنهي عنه. والمتبادر أن هذا لا يعني أن لا يختلف الناس في الاجتهاد فيما لا صراحة فيه من نصّ قرآني أو حديث نبويّ ثابت. فهذا أمر طبيعي وواجب كل إنسان مؤهل له على شرط أن لا يكون فيه انحراف عن الأسس والمبادئ المحكمة في كتاب الله وسنّة رسوله، ولا يكون ناشئا عن هوى، أو هادفا إلى تأييده. [سورة الروم (30) : الآيات 33 الى 37] وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) .

_ (1) انظر روح الإسلام لطبارة طبعة رابعة ص 84- 90.

في الآيات: 1- إشارة تنديدية إلى ما يبدو من الناس من تناقض فإذا أصابهم ضرر وبلاء لجأوا إلى الله وحده يدعونه لكشف ما نزل بهم، ثم إذا كشف النازلة عنهم ونالوا خيرا ورحمة جنح فريق منهم إلى الشرك بالله واعتقاد تأثير الغير فيما نالوه. 2- وإنذار للمشركين: فإن إشراكهم غير الله دليل على كفرهم بنعمته ورجوعهم عن الإخلاص له. فليكفروا ما شاء لهم كفرهم وليتمتعوا بما نالوه ردحا من الزمن فلسوف يرون ويعلمون نتيجة هذا الكفر وشؤمه عليهم. 3- وتساؤل استنكاري عمّا إذا كانوا يستندون في شركهم إلى برهان ووحي رباني. 4- وإشارة تنديدية أخرى إلى ما يبدو من الناس أيضا من فرح وبطر في حالة اليسر والنعمة وقنوط وحزن في حالة الشدّة والضرّاء. 5- وتساؤل فيه معنى التعقيب والتقرير بأن الحالتين هما من الله فهو الذي يبسط الرزق لمن يشاء أحيانا ويضيّقه على من يشاء أحيانا، وهو ما ينبغي أن يكون مفهوما لأنه مألوف مشاهد، ولأن فيه آيات وحكمة ربانيّة يفهمها ويسلم بها الذين يؤمنون بالله وحده. والآيات وإن كانت مطلقة التوجيه للناس أو السامعين فإنها تضمنت التنديد بالمشركين صراحة، وتضمنت حكاية مواقف نسبتها إليهم آيات أخرى في سور أخرى مرّ تفسيرها حيث كانوا يدعون الله وحده مخلصين له الدين في الشدّة ويعودون إلى شركهم بعد الخلاص منها. فهي من هذه الناحية متصلة اتصالا استطراديا بالسياق السابق الذي انتهى بالتنديد بالمشركين كما هو المتبادر.

[سورة الروم (30) : الآيات 38 إلى 39]

ولا يبعد أن يكون وقع على المشركين بلاء أخافهم وجعلهم يدعون الله وحده فلما انكشف عنهم عادوا إلى شركهم في ظروف نزول السورة فكانت مناسبة محكمة لهذه الآيات الاستطرادية. وبعد قليل من هذه الآيات تجيء آيات عن المطر وأثره وأثر انحباسه في الناس وخوفهم وبأسهم واستبشارهم فلعل البلاء هو انحباس المطر فدعوا الله ثم عادوا إلى شركهم أو قدموا القرابين إلى أوثانهم عند هطوله. والراجح أن المعنى بالشرك هنا هم الملائكة. وروح الآية التالية تلهم ذلك. فالعرب كانوا يرون بإشراك الملائكة مبررا من حيث اتصالهم بالله ومن حيث كونهم إنما يتخذونهم شفعاء لديه فطالبتهم الآية بالبرهان على ما يذهبون إليه من عقيدة باطلة. وفي الآية الأخيرة تلقين جليل. فالإيمان يحدث في نفس صاحبه سكينة وطمأنينة ورضاء في حالتي السرّاء والضرّاء فلا تبطره النعمة ولا تؤيسه النقمة. وفي ذلك من القوّة الروحية ما فيه. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات حديثا وصفه بالصحيح «1» جاء فيه: «عجبا للمؤمن، لا يقضي الله له قضاء إلّا كان خيرا له. إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرا له. وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيرا له» . حيث ينطوي على تلقين نبويّ متساوق مع التلقين القرآني كما هو الشأن في مختلف الشؤون. [سورة الروم (30) : الآيات 38 الى 39] فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) . (1) ليربو: ليزداد ويتكاثر. (2) المضعفون: الذين يضاعفون ثوابهم بالزكاة.

_ (1) هذا الحديث من مرويات الإمام مسلم.

تعليق على جملة وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله

في الآية الأولى أمر موجه للسامع بوجوب إيتاء ذي القربى والمساكين وأبناء السبيل حقوقهم وتنويه بما في ذلك من خير وقربى عند الله لمن يريد رضاءه. وتقرير بأن الذين يعملون ذلك هم المفلحون الفائزون برضائه. وفي الآية الثانية تنبيه تعقيبي على أن الربح الحقيقي ليس فيما يعطيه المرء لغيره من مال بقصد استغلاله وتكثيره فليس لهذا عند الله أجر. وإنما الربح الحقيقي هو في الزكاة التي تعطى للمحتاجين لوجه الله بدون مقابل ولا قصد استغلال وتكثّر في الدنيا. فالذين يفعلون ذلك هم الذين يربحون أضعافا مضاعفة بما يكون لهم عند الله من الأجر العظيم. ولم نطلع على رواية في مناسبة خاصة لنزول الآيتين. ويتبادر لنا أنهما تعقيبيتان أو استطراديتان وأن الصلة بينهما وبين الآيات السابقة وبخاصة الأخيرة منها ملموحة من حيث بيان كون الله هو الذي يعطي وهو الذي يمنع، وأن على المؤمنين الذين يدركون أن المال مال الله أن لا يبطروا وأن لا يستغلوا أموالهم فيما لا خير فيه ولا أجر، وأن يساعدوا الفئات المحتاجة لوجه الله وابتغاء فضله وأجره. وحرف الفاء الذي بدئت به الآية الأولى قرينة على ذلك. والآية [38] قد وردت بنفس الصيغة في الآية [26] من سورة الإسراء ونبهنا على ما فيها من تلقين جليل مستمر المدى فلا ضرورة للإعادة. ولقد روى المفسر الطبرسي في سياق جملة فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ من هذه الآية الروايات التي أوردناها في سياق الجملة المماثلة في آية الإسراء والتي تتضمن صرف هذه الجملة إلى أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقهم. وقد علقنا على هذه الروايات والتأويلات التي يبرز عليها الهوى الشيعيّ في سياق تفسير آية الإسراء بما يغني عن التكرار. تعليق على جملة وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وذكر الربا هنا بالأسلوب الذي ورد به يمكن أن يكون إرهاصا قرآنيا مكيّا بكراهية الربا التي جاءت بأسلوب تشريعي تحريمي في القرآن المدني وفقا لأسلوبي

[سورة الروم (30) : الآيات 40 إلى 42]

القرآن المكي والمدني حيث يجنح الأسلوب المكي إلى الحظر بالتخويف من عقاب الله الدنيوي والأخروي وببيان مضار المحظور، في حين يجنح الأسلوب المدني إلى التشريع لأن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بعد الهجرة صاروا في نطاق دولة وسلطان يستطيعون فيه التنفيذ في حين لم يكن لهم ذلك في العهد المكي. ولما كان تشريع حظر الربا إنما تمّ وفاقا لنصوص قرآنية ونبويّة في العهد المدني فقد رأينا إرجاء الكلام عليه إلى مناسبته في القرآن المدني. [سورة الروم (30) : الآيات 40 الى 42] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) . في الآية الأولى: وجّه الخطاب للمشركين، فقررت أن الله هو الذي خلقهم بدءا وهو الذي يرزقهم ثم هو الذي يميتهم وهو قادر على إحيائهم بعد موتهم ثم وجهت إليهم سؤالا فيه تنديد وتحدّ عما إذا كان أحد من شركائهم يستطيع أن يفعل شيئا من ذلك. ثم قررت تنزيه الله وتقديسه عما يشركونه معه من شركاء. وفي الآية الثانية: إشارة إلى ما ظهر من الفساد في مختلف أنحاء الأرض برّها وبحرها بسبب آثام أهلها، وإلى أن هذا هو تسليط من الله عليهم ليذوقوا شيئا من وبال ما اقترفوه وليكون لهم فيه عبرة وتذكير لعلّهم يرجعون عن آثامهم. وفي الآية الثالثة: أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتحدّي المشركين بالتجول في أنحاء الأرض ليروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وما حلّ بهم من بلاء وتدمير. ثم بإخبارهم بأن هؤلاء قد حلّ فيهم ما حلّ لأنهم كانوا مشركين مثلهم. والآيات الثلاث وحدة متماسكة أولا وفيها التفات إلى المشركين موصل بينها وبين الآيات التي سبقت الآيتين السابقتين مباشرة. والانسجام في السياق والموضوع قائم بينها وبين تلك كما يظهر عند إنعام النظر.

تعليق على آية ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ...

تعليق على آية ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ... وبعض المفسرين يسوقون في صدد الآية الثانية أقوالا واحتمالات لا تخلو من غرابة وتجعلها منفصلة عن سابقتها ولاحقتها بسبب التعبير بالفساد في البحر والبرّ «1» . ومن ذلك قتل قابيل أخاه هابيل. واغتصاب الملك السفن في البحر وهو ما حكته إحدى آيات سورة الكهف. وملوحة مياه البحار بعد أن كانت عذبة. وخلو أصداف اللؤلؤ من اللؤلؤ وعدوان الأسد على البقر والغنم بعد قتل هابيل ولم يكن يفعل ذلك إلخ، غير أن إنعام النظر في الآيات الثلاث يظهر انسجامها مع بعضها انسجاما تاما. ومن المحتمل أن يكون وقع في ظروف نزول السورة أزمات في الأمن وفي الغذاء والأمطار في الحجاز أو في تخومها فكان ذلك مناسبة لتنبيه الناس إلى أنه من تسليط الله عليهم بسبب آثامهم ولحملهم على الارعواء والرجوع إلى الله والحق. وتعبير ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ يرجح أن يكون تعبيرا أسلوبيا يقصد به شيوع الفساد وشموله. وبعد قليل يأتي فصل عن الأمطار وأنهارها وانحباسها وما كان يثير ذلك من جزع وفرح في الناس. فلعل هذا متصل بذلك. حتى ولو لم يصحّ احتمال وقوع شيء فوق العادة فالوقائع المسيئة دائمة في مختلف أنحاء الأرض وأخبارها تصل إلى الحجاز. فالمناسبة قائمة دائما للتنبيه إلى أن ذلك نتيجة لما يقترفه الناس من آثام ليرعووا ويرجعوا إلى الله والحق. ولقد احتوت آيات عديدة مثل هذا التنبيه منها ما سبق مثل آية سورة الشورى هذه وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) . [سورة الروم (30) : الآيات 43 الى 45] فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45) .

_ (1) انظر تفسيرها في الطبري والبغوي والخازن.

[سورة الروم (30) : آية 46]

(1) القيّم: المستقيم. (2) يصّدّعون: يتفرقون. الآيات معقبة على ما سبقها ومتصلة بالسياق من هذه الناحية. وقد احتوت تنبيها للناس وإنذارا للكفار وتنويها للمؤمنين. فالعلاج الوحيد لاتقاء غضب الله وبلائه هو الإخلاص في الاتجاه إليه وحده. فذلك هو الدين المستقيم. والذي يختار الانحراف عن ذلك ويكفر فهو يحمل وزر نفسه ولن يحظى بحب الله ورضائه. أما الذين يؤمنون بالله ويخلصون في الاتجاه إليه وحده ويعملون الأعمال الحسنة فإنما يكونون بذلك قد مهدوا لأنفسهم طريق النجاة ونالوا جزاء الله الحسن وفضله. وأسلوب الآيات قوي موجه إلى القلب والعقل معا. وفيها توكيد جديد لما تكرر كثيرا من مسؤولية الإنسان عن عمله وترتيب الثواب والعقاب وفاقا له. [سورة الروم (30) : آية 46] وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) . في الآية تنبيه على بعض آيات الله وأفضاله على السامعين: فهو الذي يسوق الرياح مبشرة بالأمطار التي فيها لهم الرحمة والبركة. وهو الذي يحركها أيضا لتسيير المراكب في البحر حتى يقوموا عليها بأسفارهم التي يبتغون بها رزق الله وفضله. ففي ذلك آيات دالة على استحقاقه لاتجاههم إليه وحده وشكرهم على أفضاله عليهم. والمتبادر أن الآية جاءت مرادفة لسابقاتها ومتصلة بسياقها من هذه الناحية. فكما أن اتباع الدين الحق والاتجاه إلى الله وحده منج من الآخرة فإن ما يتمتع به

[سورة الروم (30) : آية 47]

الناس في البحر والبرّ وأسباب الرزق والسفر هو من فضل هذا الإله ويوجب عليهم شكره وعبادته. [سورة الروم (30) : آية 47] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) . في الآية تذكير بأن الله تعالى قد أرسل من قبل النبي رسلا إلى أقوامهم بالبينات. فمنهم من استجاب ومنهم من كفر فانتقم الله من المجرمين وأصابهم ببلائه ونصر المؤمنين لأنه يعتبر نصر المؤمنين عليه حقا. تعليق على جملة كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ وبعض المذاهب الكلامية تتوقف في تقرير حقّ على الله تعالى لخلقه. وقد يكون في هذا وجاهة ولا سيما إذا قيل هذا من إنسان لأنه قد يكون فيه معنى من معاني سوء الأدب نحو الله عز وجل. ولكن العبارة هنا ليست من ذلك. فالله تعالى هو الذي يوجب على نفسه نصر المؤمنين الذين أخلصوا له وحده. وفي هذا- فضلا عن التشجيع والتثبيت والتطمين- معنى تكريمي عظيم للمؤمنين ورفع لشأنهم وتسجيل لفضلهم ومزيتهم حيث جعلهم مستحقين أن ينصرهم مستوجبين عليه أن يظهرهم ويظفرهم. ولقد أورد المفسرون «1» على هامش تأويل هذه الآية حديثا نبويا عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه سمع رسول الله يقول: «ما من امرئ مسلم يردّ عن عرض أخيه إلّا كان حقّا على الله أن يردّ عنه نار جهنّم يوم القيامة. ثم تلا: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ. ومع ما للبشرى التي احتوتها الآية والحقّ الذي أوجبه الله على نفسه بنصر

_ (1) انظر تفسير الآية في تفسير ابن كثير مثلا.

[سورة الروم (30) : الآيات 48 إلى 53]

المؤمنين من خصوصية زمنية فإن إطلاقها يجعلها شاملة لكل زمن ومكان وحال أيضا. فالمؤمنون المستقيمون يجب أن يظلوا دائما مطمئنين إلى أن الله قد وعدهم بالنصر والتأييد وجعل ذلك حقا عليه. وأنه لن يخلف وعده ولو اشتدت عليهم الخطوب وتعاظمت الكروب أحيانا. وفي هذا ما فيه من التلقين القرآني الجليل. وليست هذه الآية الأولى من نوعها. فقد ورد في سور سابقة آيات مماثلة أو مقاربة فيها وعد الله تعالى بنصر رسله كما جاء في آيات سورة الصافات [171- 173] وبنصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا والآخرة معا كما جاء في آية سورة غافر [51] بالإضافة إلى سور أخرى جاء الوعد بأساليب أخرى حيث يمكن أن يرد إلى البال أنه فضلا عما في إيمان المؤمنين وإخلاصهم واتجاههم إلى الله وحده من مبرر لهذا الوعد الرباني وتحقيقه في كل ظرف فإن حكمة التنزيل اقتضت هذا التكرار بسبب ما كان يحدق بالمؤمنين في مكة من ظروف صعبة للتثبيت والتشجيع والتطمين. [سورة الروم (30) : الآيات 48 الى 53] اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) . (1) كسفا: قطعا. (2) الودق: ماء المطر.

في الآيات: 1- إشارة إلى مشهد من مشاهد قدرة الله في الأمطار والرياح وتدليل به على قدرة الله على إحياء الموتى: فالله يرسل الرياح فتحرك السحاب وتسوقه من مكان إلى مكان حتى يكون قطعا متراكمة بعضها على بعض فلا تلبث أن تتساقط من خلالها المياه. وحينما ينزل المطر في مكان يستبشر أهله برحمة الله ويتبدل ما كان من حزنهم وقلقهم ويأسهم قبل نزوله فرحا وأملا بما كان من آثار رحمة الله في إحياء الأرض بعد موتها وجفافها. وفي هذا عبرة تسترعي النظر والتدبر. فالله الذي أحيا الأرض برحمته بعد أن كانت جافة خامدة كالميتة قادر بالبداهة على إحياء الموتى، فالمشهدان متقاربان وكلاهما بالنسبة لقدرة الله سواء. 2- وتنديد بالناس لما يظهرونه من جزع وكفر حينما ينحبس المطر: فلقد تقضي حكمة الله أحيانا أن تهبّ الرياح وتتحرك بدون مطر. فإذا ما هبّت على هذا الوجه فاصفرّ الزرع أظهر الذين لا يؤمنون بالله جزعا وقنوطا. فهؤلاء كالموتى والعمي والصمّ لا يحسّون ولا يرون ولا يسمعون. والنبي غير مكلف بتغيير طبائع الأشياء فيجعل الميت يحسّ والأعمى يبصر والأصمّ يسمع وإنما عليه أن يخاطب الحي البصير السميع وهو الذي يؤمن بآيات الله ويرضى بما تقتضيه حكمته بدون بطر ولا يأس ولا فرح ولا حزن ويسلم أمره لله. وبين مدلول الآيات وأهدافها ومفهومها وبين الآيات [33- 37] تماثل ظاهر يسوغ القول إن الاتصال بينها وبين سابقاتها قائم سياقا وموضوعا. وروح الآيات وفحواها يلهمان أنه حدث في ظروف البعثة النبوية أن انحبس المطر ثم أرسل، وأن جزع المشركون ثم فرحوا، فجعل الحادث مناسبة للتذكير والتنبيه وتدعيم السياق وللتدليل على قدرة الله على بعث الناس بعد الموت وهو ما تكررت الإشارة إليه في هذه السورة بالذات، وتكررت البرهنة على قدرة الله عليه بأساليب متنوعة. ولقد أوردنا بعض روايات عن قحط حلّ بالحجاز ومراجعة بعض الزعماء

تعليق على ما روي من سماع الموتى لخطاب الأحياء وتعارض ذلك مع جملة فإنك لا تسمع الموتى

للنبي صلى الله عليه وسلم بدعاء الله لكشف البلاء عن الناس في سياق سورة الدخان، فلعل شيئا من هذا قد حدث في ظروف نزول هذه السورة. ولعل الشقّ الثاني من الآيات يتضمن تنديدا بالمشركين الذين ينكرون البعث وبرهانا على قدرة الله عليه، وتنويها بالمؤمنين الذين قد استجابوا لدعوة الله وأسلموا أنفسهم إليه في كل الحالات، وتطمينا للنبي صلى الله عليه وسلم: فكما أنه إذا تأخر المطر أو هبّت الريح بدون مطر لا يدل على عدم قدرة الله وإنما يكون مرده إلى حكمة الله ونواميسه في كونه فإنه إذا تأخر وعد الله بالبعث فلا ينبغي أن يكون دليلا على عدم قدرة الله عليه أيضا وإنما يكون مردّه إلى حكمته. فالمشركون هم بمثابة الموتى والعمي والصمّ لا يدركون ذلك فيجادلون ويكابرون ويضجون ويصخبون. وما على النبي من موقفهم هذا من شيء لأنه غير مكلف بفعل المستحيل. وقصارى ما عليه أن يسمع الراغبين في الهدى والحق والإيمان الذين يكونون على استعداد لإسلام أنفسهم لله تعالى. وجهوده لم تذهب عبثا لأن مثل هذه الطبقة قد قامت فعلا. تعليق على ما روي من سماع الموتى لخطاب الأحياء وتعارض ذلك مع جملة فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ولقد وقف المفسر ابن كثير عند جملة فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وأخذ يورد أحاديث عديدة بعضها وارد في كتب الأحاديث الصحيحة تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الموتى يسمعون. منها حديث رواه البخاري وأحمد عن أبي طلحة جاء فيه: «إنّ نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فقذفوا في طويّ «1» من أطواء بدر خبيث مخبث. وكان إذا ظهر قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال. فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشدّ عليها رحلها ثم مشى وتبعه أصحابه وقالوا ما ينطلق إلّا لبعض حاجته حتى قام على شقة الركيّ «2» فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان أيسرّكم أنكم أطعتم الله ورسوله

_ (1) الطوي والركي بمعنى واحد وهو البئر أو القليب أو الحفرة العميقة. (2) الطوي والركي بمعنى واحد وهو البئر أو القليب أو الحفرة العميقة.

[سورة الروم (30) : آية 54]

فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقا. فقال عمر يا رسول الله ما تكلّم من أجساد لا أرواح لها فقال والذي نفس محمّد بيده ما أنتم أسمع لما أقول منهم» «1» . ومنها حديث رواه ابن عبد البرّ عن ابن عباس مرفوعا جاء فيه: «ما من أحد يمرّ بقبر أخيه المسلم كان يعرفه في الدنيا فيسلّم عليه إلّا ردّ الله عليه روحه حتى يردّ عليه السلام» . وحديث رواه ابن أبي الدنيا عن عائشة جاء فيه: «قالت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلّا استأنس به وردّ عليه حتى يقوم» . وهناك أحاديث صحابية في ذلك وفي بعض أحداث ومشاهد من هذا الباب أيضا لم نر ضرورة إلى إيرادها. وواضح أنه يبدو شيء من التعارض بين الجملة المذكورة وهذه الأحاديث ولقد وردت هذه الجملة في سورة النمل أيضا فأوّلها ابن كثير بأن القصد منها إنك لا تسمعهم شيئا يفيدهم. وأوّلناها بمثل ما أوّلناها هنا حيث تراءى لنا أنه الأوجه إن شاء الله. على أن الذي يتبادر لنا أن الجملة في معنى ومقام غير المعنى والمقام في الأحاديث. وأنها كما قلنا في شرحها هنا في صدد التنديد بالمشركين وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم وفي شرحها في سياق سورة النمل في صدد وصف شدّة مكابرة المشركين وعنادهم بالإضافة إلى تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته. أما الأحاديث فهل بسبيل بيان كون أرواح الموتى التي لا يعتريها الموت هي التي تسمع ما يخاطب بها الأموات الذين كانت في أجسادهم. ومسألة أرواح الناس في حالتي الحياة والموت من المسائل التي لا يدرك كنهها لأنها من أمر الله فيوقف فيها عند ما يقف القرآن والثابت من الأحاديث النبويّة ويؤمن به. والله أعلم. [سورة الروم (30) : آية 54] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) . في الآية تنبيه وتذكير بأطوار خلق الله للناس. فقد خلقهم ضعفاء أولا وذلك

_ (1) التاج ج 4 ص 366- 367. [.....]

[سورة الروم (30) : الآيات 55 إلى 57]

زمن طفولتهم. ثم جعلهم أقوياء وذلك زمن شبابهم وكهولتهم. ثم جعلهم ضعفاء بعد القوة وشيبا وذلك زمن شيخوختهم وهرمهم. فهو يخلق ما يشاء على الوجوه والأطوار التي تقتضيها حكمته، وهو العليم بالمقتضيات القدير على خلق كل شيء بحسبها. والمتبادر أن الآية جاءت داعمة ورادفة لسابقاتها. فقدرة الله تتجلى في تطورات خلقة الناس وأعمارهم أيضا. وفي كل ما يفعله حكمة وغاية. فلا موجب للظنّ إذا انحبس المطر أو هطل أو تأخر البعث أن ذلك بدون حكمة ولا أن يؤدي هذا إلى الشك في قدرة الله تعالى. [سورة الروم (30) : الآيات 55 الى 57] وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) . في هذه الآيات توكيد للبعث وإنذار للكافرين بهوله: فلسوف تقوم الساعة. ولسوف يقف المجرمون أمام الله. ولسوف يذهلون ويندهشون ويقسمون أنهم لم يكد يمرّ على مفارقتهم للدنيا إلّا ساعة. ولسوف يقول لهم أهل العلم والإيمان إن قسمكم جزاف كما كان شأنكم في الدنيا لأنكم انصرفتم عن التفكير في الآخرة ففوجئتم بها، وإنكم لبثتم أمواتا طيلة الأمد الذي قدّره الله. وإنكم الآن في يوم البعث الذي وعدتموه ولو أنكم لم تدركوا حقيقة أمركم وموقفكم مما اعتراكم من دهشة وذهول. وانتهت الآيات بتقرير أنه لن ينفع الظالمين ما يقدمون من أعذار ولن يطلب منهم الاستعتاب والتوبة. والآيات داعمة لما تضمنته الآيات السابقة ومتصلة بها. وفيها قرينة على ما استنبطناه من دلالة على أن الشقّ الثاني من الآيات [48- 53] يتضمن التنديد

[سورة الروم (30) : الآيات 58 إلى 60]

بالكفار لظنهم عدم قدرة الله بسبب تأخر البعث مع ما يقوم من شواهد على قدرته على ذلك في أنفسهم وفي نواميس الكون. [سورة الروم (30) : الآيات 58 الى 60] وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60) . (1) لا يستخفّنّك: لا تدعهم يؤثروا فيك فيحركوك ويعجلوك في أمرك. في هذه الآيات: 1- تنبيه على أن الله قد ضرب للناس في القرآن من كلّ مثل، وصرف فيه الكلام بمختلف الأساليب لتفهيمهم وإرشادهم. 2- وخطاب للنبي عليه السلام بأنه إذا تلا عليهم آية من آيات الله سارع الكفار إلى تكذيبه والقول إن ما جاء به باطل لأن هذا هو شأن الجاهل الضّال المنغلق قلبه والمعمية بصيرته. 3- وأمر للنبي بعدم التأثر والقلق وبالصبر إلى أن يأتي وعد الله الحق الذي لا بد من تحقيقه، وعدم ترك مجال للكفار ليستخفوه ويحملوه على العجلة في أمره. والآيات جاءت معقبة على الفصول السابقة كما هو المتبادر. واحتوت تسلية وتثبيتا للنبي وإنذارا للكفار وتنديدا بهم أيضا. وجاءت في الوقت نفسه خاتمة لآيات السورة تحمل طابع الختام المألوف في سور عديدة. وقد أوّلنا جملة كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ بما أوّلناها به لأن المقصود منها كما يلهم فحواها وروح الآيات هو تصوير شدّة عناد الكفار وسوء نواياهم وجهلهم وعدم الجدوى منهم بسبب ذلك. وهو تعبير متكرر في

تعليق على آية فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون

ألفاظه ومعانيه بنفس القصد على ما شرحناه في مناسبات سابقة. تعليق على آية فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ولعل بين تعبير وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ والأمر بالصبر إلى أن يتحقق، ونفس التعبير في أوائل السورة لحمة صلة بين بدئها وختامها. ولقد جاء في السورة وعد الله بنصر المؤمنين أيضا حيث يكون في ذلك قرائن على ترابط فصول السورة وانعقادها في جملتها على بشرى المسلمين بالنصر. ولعل فيها إرهاصا بالنصر الذي كان يوشك أن يتمّ للنبي عليه السلام والمسلمين فيما اعتزموا عليه من الهجرة إلى المدينة حيث نزلت هذه السورة في ظروف التهيّؤ لها. ولعلها نزلت في ظروف الاتصال الأول الذي تمّ بين النبي عليه السلام وبعض زعماء الأوس والخزرج، أو الاتصال الثاني الذي آمن فيه عدد كبير منهم ووعدوه فيه بالنصرة والترحيب بهجرته وهجرة أصحابه إلى المدينة. ولعله كان يفكر في التعجيل بالهجرة فثبته الله وصبّره حتى تتكامل الأسباب أو يشرف على هجرة أصحابه قبله.

سورة العنكبوت

سورة العنكبوت في السورة تنبيه على أن المؤمنين معرضون للامتحان الذي يظهر به صدق إيمانهم. وصورة لبعض ضعفاء الإيمان وتنديد بهم. وتقرير بأن واجب الطاعة للوالدين والإحسان إليهما قاصر على غير الشرك. وحكاية لبعض أساليب الإغراء والدعاية التي كان يعمد إليها زعماء الكفار لصدّ المسلمين وردّهم. وسلسلة قصصية احتوت أخبار نوح وإبراهيم ولوط وشعيب وأممهم. وإشارات إلى مواقف عاد وثمود وفرعون. وصور العذاب الذي حاق بالمكذبين. وعناية الله بالأنبياء والمؤمنين في معرض التنديد والتذكير والتطمين معا. وحكاية لمواقف جدل ومناظرة بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار وأهل الكتاب في صدد القرآن. وحثّ للمسلمين على الصبر والثبات على الحقّ والهجرة في سبيل الله والاعتماد عليه. وتنديد بالمشركين لما يبدو منهم من تناقض في عقائدهم بالله ومواقفهم من الدعوة إليه. وأكثر فصول السورة منسجمة مع بعضها بقوة. وباقيها ليس منقطعا عنها صورا وموضوعا. ولهذا نرجّح أنها نزلت متتابعة بدون فاصل. وقد روي أن الآيات [1- 11] مدنيات وقد شكّكنا في ذلك في التعليقات التي علقناها في سياق تفسيرها. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7) .

(1) لا يفتنون: هنا بمعنى لا يمتحنون في إيمانهم. (2) فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين: أوّلها جمهور المفسرين بمعنى ليظهر الصادق والكاذب أو ليتميز الصادق والكاذب نتيجة للامتحان. لأن علم الله أزلي أبدي كذاته فلا يصحّ أن يكون قصد بالكلمة معناها الحرفي. وهو حقّ. (3) ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه: الجهاد هنا على ما عليه جمهور المفسرين مجاهدة النفس وتحمّل التكاليف والصبر على المشاق والأذى. وهذا المعنى متسق مع الامتحان الذي يتعرّض له المؤمنون في إيمانهم ودينهم. فالذي يجاهد نفسه ويثبت في الامتحان إنما ينفع نفسه في الدرجة الأولى. بدأت السورة بحروف الألف واللام والميم المنقطعة التي رجّحنا في أمثالها أنها للاسترعاء إلى خطورة ما بعدها. وهذا المطلع من المطالع القليلة التي لم يعقبها إشارة إلى القرآن مثل السورة السابقة. وقد تضمنت الآية التالية للحروف سؤالا فيه معنى الإنكار والتعجب عمّا إذا كان يصح أن يظنّ الذين آمنوا أنهم لا يتعرضون للفتنة والامتحان وأنه يكفيهم أن يقولوا آمنّا وذكرت الآية الثالثة في مقام الجواب بأن الله قد جرت سنّته على امتحان إيمان أمثالهم من قبلهم ليتميّز الصادقون من الكاذبين. واحتوت الآية الرابعة سؤالا في معنى الإنكار والتنديد معطوفا على السؤال الأول عمّا إذا كان يظنّ الذين يقترفون السيئات أن يسبقوا الله ويفلتوا منه وبيانا في معرض الجواب بأنهم إن ظنوا ذلك فإنما يكون من سوء حكمهم على الأمور وخطلهم فيه.

تعليق على الروايات الواردة في صدد الآيات الأولى [1 - 7] من السورة وما فيها من تلقينات جليلة

وقد احتوت الآيات الخامسة والسادسة والسابعة تقريرات بالنسبة لأعمال المؤمنين وأثرها: 1- فالذين يرجون لقاء الله وثوابه لهم أن يطمئنوا فإن هذا آت لا ريب فيه. والله سميع لكل ما يقال عليم بكل ما يفعل الناس ويضمرونه. 2- والذين يجاهدون في الله لا ينفعون الله بجهادهم لأنه غني عن العالمين فليس لهم أن يمنوا بجهادهم وإنما ينفعون بذلك أنفسهم ويمهدون لها سبل النجاة والسعادة. 3- ولقد آلى الله على نفسه أن يتسامح في هفوات الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأن يجزيهم بأحسن أعمالهم. والآيات وإن احتوت مواضيع أو معاني متنوعة. فإنها على ما هو المتبادر منها وحدة متماسكة. ولذلك اعتبرناها وحدة وفسرناها في سياق واحد. تعليق على الروايات الواردة في صدد الآيات الأولى [1- 7] من السورة وما فيها من تلقينات جليلة ولقد روى المفسرون «1» روايات عديدة في سبب نزول هذه الآيات. منها أنها نزلت بمناسبة استشهاد بعض المؤمنين في وقعة بدر وجزع أهلهم عليهم. ومنها أنها نزلت في عمار بن ياسر الذي كان يعذّبه مولاه. ومنها أنها نزلت في أناس مؤمنين منعهم أهلهم من قريش من الهجرة إلى المدينة لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون إليها فكتب لهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يقبل منهم الإقرار بالإسلام حتى يهاجروا. فقرروا الخروج ومقاتلة من يمنعهم وخرجوا فتبعهم المشركون فاقتتلوا فقتل بعضهم ونجا بعضهم فأنزل الله فيهم ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي والخازن والطبرسي وابن كثير.

هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل: 110] . وقد سمّى من هؤلاء سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد. وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن هذه الآيات والآيات الأربع التالية لها مدنيّة. وروى هذا البغوي وآخرون عن الشعبي من علماء التابعين وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الأحاديث الصحيحة. وإن كان الطبري يروي ما يرويه منها بطريق الإسناد المتسلسل إلى الصحابي أو التابعي. ومع أن الروايتين الأولى والثالثة يمكن أن توثق رواية مدنيتها فإننا نرجّح أنها مكيّة. وأن المناسبة التي نزلت فيها هي من نوع ما روته الرواية الثانية. وهذه السورة من أواخر ما نزل من القرآن المكي وقد اشتدّ في هذه الظروف أذى الكفار وإزعاجهم للمسلمين مما يجعل الرواية الثانية هي الأوجه. وإن كنا نظن أنها أعمّ من حادث أذى عمار لأن هذا الأذى كان في وقت مبكر نوعا على ما تفيده الروايات وعلى ما تلهمه آيات سورة البروج وما روي في سياقها من أذى وتعذيب عمار وأبويه واستشهاد أبويه وشراء أبي بكر لعمار رضي الله عنهما مما ذكرناه في سياق تفسير هذه السورة. ونظم الآيات والصورة التي تضمنتها أقرب إلى النظم المكيّ وصور العهد المكيّ منها إلى النظم المدنيّ وصور العهد المدنيّ. ولا تفهم أي حكمة في وضع آيات مدنيّة في أول سورة مكيّة بدون مناسبة نظمية وموضوعية. والآيات التي تلتها والتي يوجه الخطاب فيها إلى الكفار معطوفة عليها ولا خلاف في مكيّتها. وليس لرواية مدنيّة الآيات إسناد صحيح. وآية سورة النحل التي ذكرت إحدى الروايات أنها نزلت في الذين منعهم أهلهم من الهجرة إلى المدينة ثم هاجروا هي آية مكيّة وقد رجحنا في سياق تفسيرها نزولها في مناسبة ارتداد جماعة من المسلمين في مكة ثم فرارهم وعودتهم إلى الإسلام وهو ما يلهمه مضمونها بكل قوّة ولا نراها تنطبق على ما ذكرته الرواية المذكورة. ومع ما للآيات من خصوصية زمنية فإن المسلم واجد فيها تلقينات جليلة

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 8 إلى 9]

قوية مستمرة المدى. فأمور الناس لا يمكن أن تسير على ما يشتهونه دائما. وهم معرضون للمصاعب والمشاقّ والأذى التي من شأنها أن تصهر النفوس وتميّز قويّها من ضعيفها وسليمها من زائفها وصادقها من كاذبها. والحكم على الناس وقيمهم إنما يأتي صائبا بعد مرورهم من الامتحان بالمصائب والمشاقّ والأذى. فمن ثبت وصدق فهو القوي الصادق. ومن وهن وجزع فهو الضعيف الكاذب. والذين يثبتون ويصدقون في مقابلة المصاعب والمشاقّ ويصمدون لها بالتحمّل والصبر ومجاهدة النفس إنما ينفعون أنفسهم في الدرجة الأولى. ولن ينجو من يعمل السوء ولن يضيع عمل من آمن وعمل الصالحات. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 8 الى 9] وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) . وفي هاتين الآيتين: إشارة إلى ما أوجب الله على الأبناء من إحسان معاملتهم مع والديهم مع استثناء إطاعتهما في الشرك بالله إذا أمرا به أولادهما مهما جاهداهم وألحّا عليهم في ذلك، وبيان كون الله هو مرجع الناس جميعا فيفصل بينهم في أعمالهم. وتوكيد كون الله سيدخل المؤمنين الذين يعملون الصالحات في عداد الصالحين من عباده. ولقد ورد في سورة لقمان مثل الوصية التي احتوتها الآية الأولى كما ورد شيء يقارب في سورة الأحقاف. وقد قال المفسرون «1» إن هاتين الآيتين قد نزلتا أيضا في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأمّه كما قالوا هذا في سياق آيات سورة لقمان بل وفي سياق آيات سورة الأحقاف على ما ذكرناه في سياق السورتين. ومنهم من ذكر أنهما نزلتا في مسلم آخر عصى وهاجر إلى المدينة فأخذ أبواه يلحّان عليه ليرتدّ عن الإسلام ويعود إليهما. ولقد سلكت الآيتان في سلك رواية مدنيّة

_ (1) انظر تفسير الآية في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والزمخشري والطبرسي.

تعليق على آية ووصينا الإنسان بوالديه حسنا إلخ والآية التالية لها

الآيات من أول السورة إلى آخر الآية الحادية عشرة، ولعل الرواية الأخيرة هي سبب ذلك. تعليق على آية وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً إلخ والآية التالية لها وروح الآيتين ونظمهما ومضمونهما من جهة وورود ما يماثلهما في آيات لا خلاف في مكيتها من جهة أخرى يجعلاننا نرى فيهما صورة من صور العهد المكيّ أكثر من العهد المدنيّ ونشكّ في رواية مدنيتهما كما شككنا في رواية مدنية الآيات السبع السابقة. وليس من شأن رواية كونهما نزلتا في مسلم مهاجر إلى المدينة ومحاولة أبويه حمله على الارتداد والعودة إليهما في مكة أن تضعف من شكّنا لأنها غير وثيقة الإسناد وغير معقولة الحدوث. ولأن طابع الآيتين مماثل لطابع الآيات المكيّة المماثلة، ومضمونها متّسق مع ظروف العهد المكيّ أكثر. ولقد آمن عدد كبير من شباب قريش وشاباتهم رغم بقاء آبائهم على الشرك والجحود ومناوأتهم الشديدة للنبي ودعوته. وكان بعض هؤلاء الآباء من الزعماء البارزين. وقد اضطر أكثر هؤلاء الشباب المسلمين إلى الهجرة إلى الحبشة هربا من ضغط آبائهم واضطهادهم «1» . فالمتبادر أن حوادث ضغط الآباء على الأبناء قد تكررت وتعددت فاقتضت حكمة التنزيل تكرار الأمر والتنبيه. والصلة بين الآيتين والآيات التي قبلهما وبعدهما لا تبدو واضحة. غير أننا نستبعد- بناء على ما لمسناه من انسجام الآيات المكية وتسلسل اتصالها ببعضها- أن لا يكون للآيتين صلة ما بسابقهما أو لاحقهما. وأن يكونا قد أقحمتا في موضعهما إقحاما. ومما خطر على بالنا أن تكون الفتنة التي ذكرت في الآيات السابقة متصلة بموقف من مواقف الضغط من الآباء على الأبناء أو أن يكون هذا من صورها ومشاهدها. فهو بدون ريب موقف محرج يمكن أن يكون فيه امتحان

_ (1) انظر سيرة ابن هشام القسم الأول ص 321- 341 طبعة ثانية.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 10 إلى 11]

للمؤمن في إيمانه ليتميز الصادق من الكاذب فيه. وبهذا الذي نرجو إن شاء الله أن يكون وجيها تتصل الآيتان بالآيات السابقة. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 10 الى 11] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11) . في الآية الأولى إشارة تنديدية إلى من يدّعي الإيمان بالله في وقت السعة والعافية حتى إذا تعرّض في سبيل إيمانه لأذى الناس جعل أذى الناس وعذاب الله الموعود للكافرين والمنافقين في مستوى واحد فعمد إلى المداراة والمراءاة ليتقي عذاب الناس وأذاهم. ثم إذا فتح الله على المؤمنين ونصرهم وفرج عنهم سارع إلى توثيق رابطته بهم وتوكيد دعواه بأنه منهم. وقد تساءلت نهاية الآية في معرض الإنكار والتنديد عمّا إذا كان أمثال هؤلاء لا يعرفون أن الله تعالى هو الأعلم بما في صدور الناس. أما الآية الثانية: فمن المحتمل أن تكون تضمنت توكيدا بأن الله تعالى يعلم المؤمنين الصادقين في إيمانهم ويعلم المنافقين فيه. أو تكون قصدت تقرير كون ما حكته الآية الأولى امتحانا يمتحن الله به الذين يقولون آمنّا ليظهر المؤمن الصادق من المنافق. تعليق على آية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ إلخ والآية التالية لها وتلقيناتها والآيتان تمام الآيات الإحدى عشرة التي ذكر المصحف الذي اعتمدناه أنها مدنيّة وقد روى المفسرون «1» أنهما نزلتا في أناس كانوا أسلموا وتخلّفوا عن الهجرة

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي والخازن والطبرسي.

إلى المدينة وأكرههم زعماء قريش على الخروج معهم إلى بدر فلما انتصر المسلمون في وقعة بدر قالوا إنا مسلمون وإنا خرجنا مكرهين وطالبوا بحصة من الغنائم. كما رووا أنهما نزلتا في أناس من المنافقين في مكة إذا أوذوا وأصابهم بلاء من المشركين رجعوا إلى الكفر تفاديا من الأذى. ومع ما يبدو من اتساق بين الرواية الأولى والقسم الأول من الآية الأولى فإن القسم الثاني منها والآية الثانية تنقضان ذلك. فإذا كان هؤلاء قد انحازوا إلى جانب المسلمين أثناء وقعة بدر فيكونون قد انحازوا مخلصين حالما أمكنتهم الفرصة ولا ينطبق عليهم وصف المنافق. وإذا لم يكونوا قد انحازوا أثناء الوقعة فلا يكون محلّ لادعائهم لأن الفرصة أمكنتهم للانحياز فلم يغتنموها. ولذلك نحن نشكّ في صحة الرواية والمناسبة. هذا مع التنبيه على أن الرواية لا تستند إلى إسناد صحيح. ووصف الْمُنْفِقِينَ من الأوصاف القرآنية المدنيّة كما أن الصورة التي احتواها القسم الثاني من الآية الأولى مماثلة لصورة مدنيّة حكتها آيات مدنية عن المنافقين منها هذه الآية في سورة النساء الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) . ولكن القسم الأول من الآية الأولى ينقض هذا لأن الصورة التي احتواها هي صورة مكية من حيث إن المؤمنين إنما كانوا يتعرضون للأذى في مكة. ولهذا فنحن نرى الرواية الثانية التي رواها الطبري والبغوي عن الضحاك ومجاهد هي الأوجه ونرجّح بالتبعية مكيّة الآيتين أسوة بسابقاتهما وبسبب ما تلهمه الآيات الآتية بعدهما من جهة ولأنه ليس من مناسبة أو سياق يبرر أن احتمال مدنيتهما بدون تناقض كما أن حكمة وضعهما هنا- لو كانتا مدنيتين حقا- غير ظاهرة من جهة أخرى. ويتبادر لنا أن الصلة قائمة بينهما وبين الآيات السابقة لهما مهما بدا عكس ذلك لأول وهلة. فقد احتوتا مشهدا من المشاهد التي كانت تظهر في صفوف

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 12 إلى 13]

المسلمين مثل ما احتوت سابقاتهما. وبينما احتوت الآيتان السابقتان لهما مباشرة وعدا وبشرى احتوت هاتان وعيدا وتنديدا حسب الصورة التي انطوت في كل من الجملتين. ولعلّ من الممكن لمس الارتباط بينهما وبين الآيات الأولى من السورة بما انطوت عليه هذه الآيات من ذكر احتمال تعرّض المؤمنين للفتنة والامتحان. ثم ما احتوته الآيتان السابقتان لهما مباشرة من صورة من صور الفتنة احتوتاهما هما من صورة أخرى من صورها. أما تعبير الْمُنْفِقِينَ فليس في رأينا قرينة قاطعة على مدنية الآيتين. فالكلمة بمعنى المرائين ومرضى القلب والهائبين والمترددين والمتخوفين. وليست هذه الصورة مستحيلة الظهور في العهد المكي بين صفوف المسلمين. ولقد احتوت إحدى آيات سورة النحل التي مرّ تفسيرها ما يفيد أن بعض الذين آمنوا ارتدّوا في العهد المكي وشرحوا صدرا بالكفر وبعضهم ارتدّ مكرها أو فتن عن دينه ثم عاد إلى الإسلام على ما مرّ شرحه. وقد يكون في هذا مصداق مؤيد لتوجيهنا إن شاء الله. ومع ما يمكن أن يكون للصورة التي تضمنتها الآيتان من خصوصية زمنية فإنهما انطوتا على تلقين قرآني جليل في صدد صورة أو حالة يمكن أن تظهر في كل وقت ومكان وتستحق التنديد والتقريع. فصدق إيمان المرء إنما يثبت حينما يتعرض للامتحان من أذى أو إغراء فإذا لم يتضعضع فهو المؤمن حقا المستحقّ لرضوان الله وثوابه. أما الذين يتظاهرون بالإيمان في أوقات السّعة والعافية أو لقاء منافع ومغريات ثم يتنكرون لإيمانهم وقت الشدّة فهم المنافقون الذين ليس لهم في صفوف المخلصين مكان، المستحقون لسخط الله وغضبه وعقابه ولسخط الصادقين من المؤمنين ونبذهم واحتقارهم. وبناء على هذا لم نر محلا للتعليق هنا على النفاق والمنافقين وإيراد الأحاديث الواردة فيهم بمناسبة ورود الكلمة ورأينا تأجيل ذلك إلى سورة البقرة المدنية التي ذكروا ووصفوا في الآيات الأولى منها. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 12 الى 13] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13) .

في الآيتين: حكاية لبعض ما كان يقوله الكفّار للمسلمين حيث كانوا يقولون لهم على سبيل الحجاج أو التحدّي أو الإنكار: اتبعونا فيما نحن عليه من دين وتقاليد ودعوا دينكم الجديد ونحن نحمل عنكم وزر خطأكم وما تخافونه من عقاب وعذاب. وتزييف رباني لهم في معرض الردّ فهم كاذبون فيما يقولون ولن يحملوا عنهم شيئا. بل إنهم سوف يحملون يوم القيامة أوزارهم وأوزارا أخرى معها، وسوف يحاسبون على جرائمهم ومفترياتهم. ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيتين ولقد احتوت الآية الأولى مشهدا من المشاهد التي كانت تقع في أثناء الدعوة في العهد المكي والتشاد والتجاذب اللذين كانا يجريان بين بعض المسلمين والكفّار من آباء وأبناء وأقارب وأصدقاء مما حكت بعضه الآيات السابقة ومما يجعل الصلة قائمة بين الآيتين والآيات السابقة. ومما يقوم قرينة مؤيدة لترجيحنا بأن الآيات السابقة هي مكيّة مثل هاتين الآيتين المعطوفتين عليها وليست مدنيّة كما ذكرت الروايات. وإلى ما ذكرناه فإن الآية الأولى تنطوي على أسلوب طريف من أساليب الجدل والحوار التي كان يعمد إليها الكفار فإنهم كما كانوا يعمدون إلى الأذى والضغط أحيانا وإلى التشويش والتشكيك أحيانا، وإلى المراوغة والخديعة أحيانا. كما حكت آيات عديدة مرّت أمثلة منها، كانوا يعمدون إلى التعهد للمؤمنين بتحمل مسؤولياتهم عن خطيئاتهم وذنوبهم وكفرهم إذا عادوا إلى دين آبائهم وتقاليدهم وسبيلهم!. والمتبادر أن الذين كانوا يعمدون إلى هذه الأساليب هم الزعماء. وقد روى المفسرون «1» في سياق هاتين الآيتين اسم أبي سفيان. والغالب أن هذا القول قد صدر منه أو من غيره لبعض المسلمين في سياق الجدل والحجاج وادعاء التفاضل

_ (1) انظر تفسير البغوي والخازن.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 14 إلى 15]

والهدى أو كجواب على اعتذار المؤمنين بأنهم يخافون الله واليوم الآخر. والآية تدل على أنه لم يكن بين المسلمين والكفار قطيعة تامة أو عداء شديد. أو أن من الفريقين من كان يتلاقى ويتجادل بشيء من الهدوء. وهذا ما استدللنا عليه من آيات أخرى سبق تفسيرها. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 14 الى 15] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15) . هذه الآيات حلقة من سلسلة قصصية عن بعض الأنبياء والأمم السابقة جاءت بعد حكاية أقوال الكفار والتنديد بهم وإنذارهم جريا على الأسلوب القرآني على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة. ومن هنا تكون السلسلة متّصلة بالسياق بطبيعة الحال. وقد استهدفت التذكير والإنذار والعظة بالنسبة للكفار، والتنويه والتثبيت والتطمين بالنسبة للمسلمين أسوة بمثيلاتها. وفي هذه الحلقة شيء جديد لم يسبق ذكره. وهو خبر لبث نوح عليه السلام ألف سنة إلّا خمسين عاما في قومه. ولقد جعل هذا بعض الباحثين يعيدون ويبدون ويعلقون تعليقات متنوعة. وفي كتب التفسير أقوال على هامش هذه الآية عن عمر نوح والمدة التي عاشها قبل الطوفان وبعده ليست وثيقة السند. ونقول هنا كما قلنا في المناسبات السابقة إن واجب المسلم أن يؤمن بكل ما أخبر به القرآن من أخبار الأنبياء والأمم والوقوف عند هذا الحدّ وعند ما يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث. وأن يؤمن أنه لا بدّ من أن يكون لما يجيء في القرآن والأحاديث الثابتة من حكمة. وإن كان من شيء يحسن أن يضاف إلى هذا في صدد الخبر المذكور فهو أن بعض المفسرين «1» قالوا إن حكمة ذكر المدة هي تسلية النبي والتسرية عنه وهو قول وجيه منسجم مع أهداف القصة القرآنية. كذلك فإن سفر التكوين ذكر في الإصحاح

_ (1) انظر تفسير الآيات في الخازن مثلا.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 16 إلى 27]

التاسع نفس المدة عمرا لنوح. ولا بدّ من أن يكون السامعون أو بعضهم يعرفون ذلك. وفي هذا ما يدعم تأثير تلك الحكمة والهدف. ولقد ورد في سورة القمر جملة مقاربة لجملة فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ في سياق قصة نوح وسفينته وطوفانه. وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 16 الى 27] وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) . (1) تخلقون إفكا: تصنعون أشياء كاذبة من الأقوال والأصنام. (2) يئسوا من رحمتي: تعبير أسلوبي بمعنى أنهم لن ينالوا رحمتي.

(3) إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا: القصد من هذه الجملة تقرير كون الأوثان لن تفيدكم إلّا صلات مودّة دنيوية لا فائدة منها في الآخرة ولا معول عليها. أو إنما اتخذتموها بهدف منفعة الدنيا على غير طائل. وهذه حلقة ثانية من السلسلة. ولا تحتاج عبارتها إلى أداء آخر. وجلّ ما جاء فيها جاء في سور أخرى وبخاصة في سورة الأنبياء ممّا علقنا عليه بما رأينا فيه الكفاية. وإن كان من شيء يحسن أن يضاف إلى ذلك فهو حكاية أقوال إبراهيم عليه السلام بسبيل الاحتجاج على قومه مما فيه بعض الجديد ومما تكرر مثله في السور السابقة تقريرا موجها إلى الناس أو الكفار أو أمرا موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله للناس أو الكفار حيث يتبادر لنا من خلال ذلك حكمة سامية في حكاية أقوال مماثلة صادرة عن من ينتسب السامعون العرب إليه أو بعضهم ويزعمون أنهم على ملّته بسبيل إفحامهم والتنديد بهم. وفي الحلقة حكاية لتآمر قوم إبراهيم على قتله أو تحريقه. ولقد جاء هذا أيضا في سورة الأنبياء. غير أننا نرى في تكراره هنا أمرا متصلا بالسيرة النبوية. فهذه السورة كما قلنا من آخر ما نزل في مكة من القرآن. وكان زعماء قريش في ظروف نزولها يتآمرون على قتل النبي أو حبسه أو نفيه على ما ذكرته آية سورة الأنفال هذه وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) لأنه كان قد اتفق مع زعماء الأوس والخزرج في المدينة وآمنوا به وأخذ الإسلام ينتشر في المدينة وأخذ المؤمنون يهاجرون من مكة إليها وأخذ هو يتهيأ للهجرة إليها فشعر زعماء قريش بخطر داهم من جرّاء ذلك لأن المدينة طريق قوافلهم وستصبح تحت سلطانه. عدا عن احتمال اتساع نطاق دعوته واشتداد قوته وعواقب ذلك عليهم فأرادوا أن يحولوا دونه. فالمتبادر أن تكون حكمة ما جاء في القصة متصلة بهدف التطمين والتشجيع في موقف متماثل، بين ما حكي عن إبراهيم وقومه وبين ما كان بين النبي وقومه.

ويلحظ أن إبراهيم قال بعد أن نجّاه الله من النار إني مهاجر إلى ربي. والمتبادر أيضا أن تكون حكمة حكاية ذلك متصلة بما كان من إزماع النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة إلى المدينة وبقصد تلقينه بأن إبراهيم قد فعل ذلك من قبل، وملّته هي ملّة إبراهيم. ولقد روى الطبري عن ابن عباس وبعض علماء التابعين في تأويل جملة وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا أنها بمعنى الولد الصالح أو الثناء والذكر الحسن أو جعل ملّته متّبعة وما في ذلك من نصيب له في أجر المتّبعين. وكل هذا مما تتحمّله العبارة التي تنطوي على تلقين مستمر المدى بأن الله تعالى ييسّر وينعم على الصالحين المستقيمين الخير والكرامة في الدنيا أيضا بالإضافة إلى الآخرة مما انطوى في آيات عديدة مرّ تفسيرها. ويلحظ أن الآية [27] اقتصرت على القول إن الله وهب إبراهيم إسحق ويعقوب مع أن إسماعيل هو ابن إبراهيم البكر. وفي هذا تكرار لما جاء في الآية [72] من سورة الأنبياء وقد علقنا على هذه المسألة في سياق تفسير سورة (ص) بما يغني عن التكرار. ولقد روى الطبري أيضا على هامش جملة إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي عزوا إلى قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إنها ستكون هجرة بعد هجرة ينحاز أهل الأرض إلى مهاجر إبراهيم ويبقى في الأرض شرار أهلها حتى تلفظهم وتقذرهم وتحشرهم النار مع القردة والخنازير» . وقد أورد ابن كثير هذا الحديث بزيادة في آخره بعد كلمة الخنازير وهي: «تبيت معهم إذا باتوا وتقيل معهم إذا قالوا وتأكل ما سقط منهم» . وقد أورد ابن كثير هذا النصّ بحديث أسنده الإمام أحمد عن شهر بن حوشب عن عبد الله بن عمرو بن العاص في ظروف بيعة يزيد بن معاوية. وهذا الحديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة المشهورة. وليس في كتابي الطبري وابن كثير بيان بالمقصود بالأرض التي ينحاز أهلها إلى مهاجر

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 28 إلى 35]

إبراهيم ويبقى فيها شرارها إلخ. ونخشى أن يكون من وحي الفتن التي حدثت في الصدر الإسلامي الأول والله أعلم. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 28 الى 35] وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) . (1) في ناديكم: في مجالسكم أو دار اجتماعاتكم. (2) المنكر: يقال لكل ما هو مغاير لكريم الأخلاق وفاضل الصفات. وهذه حلقة ثالثة في لوط وقومه. وقد ذكر ما فيها في السور السابقة، وبينها وبين ما ذكر في سورة هود خاصة تماثل. وعبارتها واضحة. وقصد الموعظة والتذكير والإنذار والتثبيت واضح فيها. ولقد علّقنا على القصة بما رأينا فيه الكفاية. وليس فيما ورد هنا شيء جديد يقتضي تعليقا إلّا القول إن الآية أو العلامة التي تركت من القرية المدمرة هي على الأرجح أطلال سدوم وعمورة على ساحل البحر الميّت في غور أريحا والتي كان يمرّ بها قوافل الحجاز وهي ذاهبة إلى فلسطين فمصر أو آئبة منهما إلى الحجاز وهما البلدان اللذان ذكر سفر التكوين

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 36 إلى 40]

تدميرهما بعذاب الله على ما شرحناه بخاصة في سياق سورة الصافات. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 36 الى 40] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) . (1) كانوا مستبصرين: كانوا يتبجحون بحسن البصيرة والعقل. (2) وما كانوا سابقين: وما كانوا سابقين الله بحيث يعجز عن اللحوق بهم ويفلتون من عذابه. وهذه حلقة رابعة فيها إشارات مقتضبة إلى رسالات شعيب وموسى عليهما السلام وإلى ما كان من أمر عاد وثمود. وقصد الإنذار والتذكير والموعظة فيها ظاهر. وقد علّقنا على قصصهم في السور السابقة بما فيه الكفاية. وليس هنا شيء جديد يقتضي تعليقا إلّا التنبيه إلى تعبير وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ في صدد ذكر عاد وثمود حيث تحتوي الجملة دليلا صريحا على أن المخاطبين يعرفون أخبار هؤلاء القوم وأن منهم من شاهد آثارهم ورأى في تدمير بلادهم آثار عذاب الله فيهم أيضا أو اعتقد ذلك. ثم التنبيه إلى جملتي فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ ووَ ما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث ينطوي فيها توكيد جديد للمبدأ القرآني

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 41 إلى 44]

المتكرر في سور عديدة بمسؤولية الناس عن أعمالهم واستحقاقهم جزاءها من الله عزّ وجلّ وقتها حقا وعدلا ويكون الذي ضلّ وانحرف منهم هو الذي ظلم بنفسه بذلك. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 41 الى 44] مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) . في الآيات: 1- تمثيل للذين يتخذون من دون الله شركاء وأولياء بالعنكبوت وبيتها، فكما أن بيت العنكبوت هو أوهن البيوت وأوهاها فدين أولئك وعقيدتهم هي أوهى العقائد وأوهنها أيضا لو عقلوا وتفكّروا. 2- وتوكيد بأن الله يعلم حقائق ما يدعونه من دونه وأنه هو العزيز القادر على كل شيء الحكيم في كل شيء. 3- وتنبيه على أن الله إنما يضرب الأمثال للناس ليتبينوا الحقّ ويعقلوه وأن أصحاب الفهم والإدراك والعلم هم الجديرون بأن يعقلوها ويفهموا مرماها. 4- وتوكيد آخر بأن الله إنما خلق السموات والأرض بالحقّ ولحكمة جليلة ولم يخلقهما عبثا. وإن في ذلك آية يدركها المؤمنون الصادقون في رغباتهم ونياتهم. وصلة الآيات بسابقاتها قائمة كما هو واضح. وقد جاءت بمثابة تعقيب عليها. والخطاب فيها قوي نافذ. واحتوت تنديدا بالشرك والمشركين وعقولهم وتنويها بالمؤمنين والذين يقنعون بالبرهان حينما يقوم لهم ويفهمون الأمثال حينما تضرب لهم. والآية الثالثة توكيد سقوط أي أهلية وعدم احتمال أي نفع في من

تعليق على آية وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون

يدعوهم المشركون من دون الله. وكان عليهم أن يدركوا ذلك لو كانوا عقلاء. تعليق على آية وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ وهذه الآية جديرة بالتعليق من حيث احتواؤها تنويها بالعلماء الذين يؤهلهم علمهم لفهم الأمور والأمثال والاتعاظ بها. وقد تكرر هذا المعنى في آيات كثيرة في سور سابقة حيث ينطوي في ذلك توكيد التنويه من جهة، وحثّ الناس على توسيع حدود معارفهم من جهة، وتبيين مسؤولية العلماء وواجبهم في تدبّر مختلف الشؤون وتبيينها للناس من جهة، والوقوف منها عند حدود ما يقتضيه الحقّ والعلم من غير تجاوز ولا تغافل من جهة. وإطلاق الفصل يدل على أن كل ذلك شامل لمتنوع مراتب وصفات العلم والعلماء بحيث يشمل شؤون الدين والدنيا معا كما هو المتبادر. ولقد جاء في سورة فاطر تنويه بالعلماء، وعلقنا عليه تعليقا وافيا فنكتفي هنا بما تقدم. ولقد روى البغوي في سياق هذه الآية بطرقه حديثا عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية فقال: «العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه» . وهذا الحديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة. ولا نرى فيه إذا صحّ ما ينتقض مع ما قلناه من شمول الكلمة من حيث إن العالم الحق مهما كان العلم الذي يشتغل فيه لا بد من أن يدرك من آيات الله تعالى المتنوعة في كونه ومن آيات القرآن وجوب وجود الله والإيمان به وبرسالة خاتم رسله وبوجوب طاعته واجتناب ما يسخطه. [سورة العنكبوت (29) : آية 45] اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45) .

احتوت الآية: 1- أمرا للنبي عليه السلام بالاستمرار في تلاوة ما أوحاه الله إليه من كتاب وفي إقامة الصلاة له وذكره. 2- وتثبيتا له بأن الله يعلم ما يصنع الناس وعليه حسابهم. 3- واستطرادا تنبيهيا بما للصلاة من أثر في تجنيب الذين يقيمونها للفحشاء والمنكر وبكون ذكر الله عزّ وجلّ هو الأكبر. والآية تحتوي على ما يتبادر لنا تعقيبا على الآيات السابقة حيث تضمنت تثبيتا للنبي وتلقينا بأن لا يبالي بالمشركين وما يدعون من دون الله وبأن يستمر في تلاوة كتاب الله على الناس والصلاة له ففيها الوسيلة الكبرى لاجتناب الفحشاء والمنكر ما هو من الكبائر التي نهى عنهما القرآن. ومن تحصيل الحاصل أن يكون ما احتوته من أمر وتلقين واستطراد موجهة بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين في كل زمن ومكان. ولقد علقنا على الصلاة وأثرها في سياق سورة العلق بما فيه الكفاية، وأوردنا هناك بعض الأحاديث النبوية الواردة في الصلاة وأثرها في الصادقين وغير الصادقين في صلاتهم. وكون الصلاة التي لا تنهى عن الفحشاء والمنكر لا يمكن أن تكون صلاة صادقة فنكتفي بالتذكير دون الإعادة. غير أن البغوي روى في سياق تفسير الآية حديثين رأينا أن نوردهما بدورنا لما فيهما من تأييد وتلقين وصور حيث روى عن أنس قال: «كان فتى من الأنصار يصلّي الخمس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا يدع شيئا من الفواحش إلّا ركبه فوصف لرسول الله صلى الله عليه وسلم حاله، فقال: إن صلاته تنهاه يوما. فلم يلبث أن تاب وحسن حاله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم أقل لكم إن صلاته تنهاه يوما» . وحديث روي عن جابر قال: «قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم إن رجلا يقرأ القرآن الليل كلّه فإذا أصبح سرق قال ستنهاه قراءته، وفي رواية قيل يا رسول الله إن فلانا يقرأ بالنهار ويسرق بالليل فقال إن صلاته لتردعه» . والحديثان لم يردا في كتب الأحاديث الصحيحة. فالمتبادر إذا صحّا ولا مانع من صحتهما فيكون

تأويل جملة ولذكر الله أكبر وما ورد في ذلك من أحاديث

الشخص ممن دخل الإسلام حديثا وكانت له عادات منكرة فتوقع النبي صلى الله عليه وسلم أن يقلع عنها حينما يرسخ الإيمان في قلبه ويتأثر بذكر الله والصلاة. فكان ما توقّعه. والتلقين في الحديثين هو الأمل في تأثير ذكر الله والصلاة على كل حال فيمن تكون له عادات منكرة. تأويل جملة وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وما ورد في ذلك من أحاديث ولقد تعددت التأويلات التي يرويها المفسرون لجملة وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ منها أنها بمعنى ذكر الله إيّاكم إذا ما ذكرتموه بالصلاة وغيرها أكبر من ذكركم إيّاه. أي من باب مضاعفة الله للحسنات. ومنها أنها بمعنى ذكر الله أكبر من أن تبقى معه معصية. ومنها أنها بمعنى ذكر الله أفضل من كل شيء. وقد نبّه أصحاب هذا القول على أن الصلاة هي من ذكر الله ويكون المعنى بالتالي أن الصلاة التي هي ذكر الله أكبر من كل شيء وأفضل من كل شيء. ومنها أنها بمعنى ذكر الله في الصلاة أكبر من الصلاة ويكون المعنى بالتالي أن الصلاة هي وسيلة إلى ذكر الله الذي هو الهدف الأكبر منها، وإن نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر بسبب ذكر المرء لله تعالى فيها فيتقيه ويخشاه ويتجنب ما نهي عنه من الكبائر. والأقوال جميعها وجيهة. وقد صوّب الطبري القول الأول. وقد يتبادر أن القول الأخير على ضوء الشرح الذي شرحناه أكثر وجاهة. والله أعلم. ولقد روى البغوي بطرقه أحاديث نبوية عديدة في سياق هذه الجملة وفي صدد فضل ذكر الله. واحدا عن أبي الدرداء قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا بلى قال ذكر الله» . وثانيا عن أبي سعيد الخدري جاء فيه: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أيّ العباد أفضل وأرفع درجة عند الله يوم القيامة قال: الذاكرون الله كثيرا

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 46 إلى 49]

والذاكرات. قيل يا رسول الله والغازي في سبيل الله قال لو ضرب بسيفه في الكفّار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دما فإن الذاكر لله أفضل منه درجة» . وثالثا جاء فيه «أنّ أعرابيا قال يا رسول الله أيّ الأعمال أفضل؟ قال: أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله» . ورابعا عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقعد قوم يذكرون الله إلّا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده» . وهذه الأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة المشهورة. والمتبادر إذا صحّت أنها في الحثّ على ذكر الله الذي يؤثر في نفس المسلم فيجعله يقدم على كل ما أمر الله به وينتهي عن كل ما نهى عنه. بحيث يصح أن يقال كما قيل في الصلاة وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأوردناه في التعليق على الصلاة في سورة العلق. إن تحريك اللسان بذكر الله تحريكا آليا بدون وعي وصدق وإيمان وبدون أن يكون له أثر في سلوكه نحو الله والناس لا يمكن أن يكون له الفضل العظيم الذي نوهّت به الأحاديث. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 46 الى 49] وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49) . في الآيات: 1- أمر بصيغة الجمع المخاطب التي يمكن أن تدلّ على أن الأمر موجّه إلى النبي عليه السلام والمسلمين معا باستعمال اللين والمحاسنة في الجدل مع أهل الكتاب باستثناء الذين يبغون ويتجاوزون حدود الحقّ والإنصاف منهم. وبإعلانهم

تعليق على آية ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم والآيات التي بعدها

أنهم متفقون معهم في المبدأ والجوهر. فهم مؤمنون بما أنزل إليهم كما هم مؤمنون بما أنزل إلى النبيّ محمّد عليه السلام وهم يعبدون ويعترفون بنفس الإله الذي يعبدونه ويعترفون به. وهم مسلمون أنفسهم إليه. 2- وتنبيه موجّه للنبي صلى الله عليه وسلم يتضمن التوكيد والتثبيت بأن الله قد أنزل إليه الكتاب كما أنزل الكتب من قبله على الأنبياء السابقين وبأن أهل الكتاب يؤمنون بكتب الله ومنهم من يؤمن بالكتاب الذي أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم تبعا لذلك لما يرون فيه من المطابقة في الأسس والجوهر. ولا يمكن أن يجحد بآيات الله ويكابر فيها إلّا من صمّم على الكفر والعناد والمكابرة. 3- وتوكيد بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتلو من قبل القرآن كتابا، ولم يكن يخطّ بيده كتابا حتى يمكن أن يكون هناك محلّ لريبة المبطلين الجاحدين ومكابرتهم. 4- وتوكيد آخر بأن آيات الله التي يتلوها النبي صلى الله عليه وسلم متسقة في جوهرها وروحها وروحانيتها مع آيات الكتب الربانية التي يعرفها الذين أوتوا العلم والتي قد تشبّعت بها نفوسهم وصدورهم. تعليق على آية وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ والآيات التي بعدها ولم نطلع على رواية ما تذكر سببا لنزول هذا الفصل الذي قد يبدو فصلا جديدا لا صلة له بالآيات السابقة، ومع ذلك فإن المتبادر من آياته أنها نزلت في مناسبة موقف من مواقف الجدل في موضوع القرآن ووحيه الإلهي اشترك فيه فريق من أهل الكتاب وفريق من المؤمنين مع النبي، وربما فريق من الكفار أيضا. ولعل هذا الجدل نشب على أثر الفصل القصصي والآيات المعقبة عليه. فوضعت آيات الفصل بعدها. وإذا صحّ الاحتمال الأخير فيكون شيء من الصلة بين هذا الفصل وما سبقه.

والآية [47] بخاصة تلهم أنه كان من نقاط الجدل القائم مما كان يرى من تشابه وتماثل بين محتويات القرآن ومحتويات الكتب السماوية المتداولة بين أيدي أهل الكتاب. وأن المجادلين كانوا يتخذون ذلك وسيلة إلى الطعن بالقرآن ولدعوى اقتباس النبي من هذه الكتب. فردّت الآية بعدها على هذه النقطة ردا قويا على النحو الذي شرحناه. والنفي المذكور في الآية [48] يحتمل أن يكون أريد به نفي تلاوة النبي كتابا ما من الكتب السماوية أو الاطلاع عليه قبل القرآن أو كتابته أو نفي القراءة والكتابة بالمرة عنه تدعيما لحجة كونه لم يقرأ الكتب السماوية ولم يكتبها لأنه لم يكن يحسن ذلك، وبالتالي دحضا لدعوى اقتباسه من الكتب السماوية. والإطلاق في النفي أو تنكير المنفي مما يمكن أن يكون قرينة على أن المراد هو الاحتمال الثاني. وإطلاق النفي في الآية وأسلوبها ينطويان على التحدي والتنديد والتذكير. فكأنما أريد أن يقال إن المجادلين المدّعين يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقرأ ويكتب، وبالتالي لم يتسن له قراءة الكتب السماوية وكتابتها. وإذا لا حظنا أن هذا النفي يتلى علنا ويسمعه الناس من كتابيّين وغير كتابيّين أدركنا ما فيه من قوّة الردّ على دعوى المدّعين وتحدّيها وتزييفها. ويتبادر لنا أن النفي منصبّ على القراءة والكتابة الشخصيتين. وهذا لا ينفي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم سمع من بعض الكتابيين شيئا من أسفار العهد القديم والعهد الجديد التي كانوا يتداولونها وينسبونها إلى أنبيائهم، مما ذكرت شيئا منه بعض الروايات وذكرناه في سياق تفسير سورتي النحل والفرقان. ولقد قلنا إن الآية [47] تلهم أن من نقاط الجدل القائم ما كان يرى من تشابه وتماثل بين محتويات القرآن ومحتويات الأسفار المذكورة آنفا. ولسنا نرى في هذا إشكالا مؤيدا لدعوى المدعين. فكل ما كان يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم من آيات القرآن المحكمة والمتشابهة من وحي الله الذي كان ينزل على قلبه اقتضته حكمة التنزيل ولو كان فيه تطابق مع الأسفار وقد سيق في القرآن للعبرة والموعظة لا للتاريخ.

وأسلوب الآيات قوي رصين، يلهم أن النبي عليه السلام كان في موقف المستعلي المنتصر فيما يبديه من حجج ويبدو منه من قوة وإفحام وإلزام للمكابرين المعاندين من العرب والكتابيين معا. ومع أنه لا خلاف في مكية الآيات فإن بعض المفسرين «1» ذكروا في سياق تفسيرها عزوا إلى أهل التأويل أو تأويلا من عندهم أنها في صدد الحجاج مع يهود المدينة، وذكروا اسم عبد الله بن سلام وغيره من مسلمي اليهود وقالوا «2» إنهم الذين عنتهم الآية [47] بتعبير وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ كما ذكروا أن الذين عنتهم جملة إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ هم الذين نبذوا الذمة ومنعوا الجزية عامة، وكعب بن الأشرف وزملاءه من اليهود خاصة. وهذا نموذج لكثير من الأقوال التي خلط فيها بين مدى ومدلول ومناسبة الآيات المكيّة والمدنيّة وظروف العهد المكيّ والمدنيّ. وبعض المفسرين قال إن كلمة هؤُلاءِ تعني قريشا «3» وبعضهم «4» قال إنها تعني المسلمين بالإضافة إلى ما قاله بعضهم إنها تعني الكتابيين. وبعضهم أرجع ضمير بِهِ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبعضهم أرجعه إلى القرآن «5» . ونرجو أن يكون ما أوردناه في شرح الآيات هو الصواب إن شاء الله. وتعبير وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ صريح قاطع بأن النبي عليه السلام لم يكن يكتب ويقرأ. أما تعبير وَالْأُمِّيِّينَ [آل عمران: 20] فلا يعني ذلك بهذه الصراحة والقطعية. ولا سيما أن هذه الكلمة استعملت هي وجمعها في القرآن للدلالة على غير الكتابيين أو على العرب الذين ليسوا كتابيين كما ترى في آية آل عمران هذه: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ

_ (1) انظر مثلا تفسير الطبري والبغوي والخازن. (2) انظر المصدر نفسه. (3) انظر الطبري والخازن. (4) انظر المصدر نفسه. (5) انظر المصدر نفسه.

وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20) ولقد كان من العرب كثيرون يقرأون ويكتبون كما هو ثابت. وبالرغم من هذه الصراحة فإن كايتاني «1» وغيره من المستشرقين ظلوا يصرون على دعوى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ ويكتب ومنهم من قال إنه كان يخفي ذلك ويراوغ فيه فلا يثبته ولا ينفيه لأنه يعرف أن منهم من كان يعرفه فيه. ولو تذكروا بأن هذا مما قد يكون وجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة وأن القرآن قد ردّ عليه وزيّفه علنا وبصراحة قطعية، وأن أصحابه وأخصاءه كانوا يتلون هذا الردّ الصريح القطعي لوفروا على أنفسهم التعب ولما عرّضوها لتهمة الغرض والعناد بل والوقاحة والكذب. فلا يمكن أن يعلن النبي صلى الله عليه وسلم بلسان القرآن وبأسلوب قاطع صريح أنه لا يقرأ ولا يكتب لو كان يقرأ ويكتب، ولا سيما لو كان أصحابه يعرفون ذلك فيه. لأنه يثير حالة شكّ هؤلاء في ربانية القرآن وصدق النبي وهذا وذاك من الخطورة بمكان عظيم. إنه قال: «كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا آمنّا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون» «2» . وقد أوردوا مع هذا الحديث حديثا آخر رواه الإمام أحمد عن أبي ثملة الأنصاري قال: «بينما هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه رجل من اليهود فقال يا محمّد هل تتكلّم هذه الجنازة؟ فقال رسول الله: الله أعلم، قال اليهودي: أنا أشهد أنها تتكلّم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا حدّثكم أهل الكتاب فلا تصدّقوهم ولا تكذّبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله فإن كان حقا لم تكذّبوهم وإن كان باطلا لم تصدّقوهم» .

_ (1) انظر الجزء الأول من كتابه تاريخ الإسلام. (2) ورد هذا الحديث في التاج برواية البخاري عن أبي هريرة بفرق يسير وهو قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا ... الآية [البقرة: 136] ج 4 ص 43.

ومع واجب المسلم بالتزام التعليم النبوي إزاء ما يحدّثهم به أهل الكتاب فإنه يتبادر لنا أن ذلك إنما هو في ما ليس مغايرا أو ناقضا لما جاء في القرآن من مبادئ وأخبار، هذا أولا. وثانيا إنه يتبادر لنا من روح الآية ومقامها أن المقصود بما احتوته من نهي واستثناء هو الجدل حول نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وصلة القرآن بالله تعالى وليس الموقف الواجب وقوفه إزاء ما يحدثون به إطلاقا كما تلقاه المؤولون والمفسرون على ما هو المستفاد من كلامهم. وليس في الحديثين ما يفيد ذلك. وقد صدرا عن رسول الله في المدينة في مناسبة أو مناسبات أخرى كما هو مستفاد منهما والله تعالى أعلم. على أن هذا لا يمنع القول أن الاستثناء هو لا لأمر واقع وإنما لأمر قد يكون رسمت الخطة له إذا وقع. وقد يكون من الدلائل على ذلك أنه ليس هناك رواية ما تذكر أن كتابيين على دينهم في مكة حينما فتحها الله على رسوله في السنة الهجرية الثامنة. والسورة من آخر ما نزل في مكة فلو كان بقي كتابيون لم ينضموا إلى الإسلام في مكة وكانوا يجادلون النبي ويغلظون في الجدال لكانت الروايات ذكرت ما صار عليه شأنهم حين فتح مكة. وليس مما يعقل أن يكونوا كلّهم قد تواروا بالموت أثناء هذه المدة. ولقد علم الله أن يهود يثرب التي أزمع النبي الهجرة إليها في ظروف نزول هذه الآيات سيقفون منه موقف المجادل الظالم فرسمت له الخطة معهم في هذه الآية والله تعالى أعلم. والمستشرقون في عنادهم ودعواهم يقيسون الحاضر على الماضي فيؤدي القياس بهم إلى استحالة أن لا يكون النبي قارئا كاتبا مطلعا على الكتب السماوية. وهم مخطئون في قياسهم لأن الفرق عظيم بين الحاضر وذلك الماضي من مختلف النواحي. والخطة التي ترسمها الآية الأولى جديرة بالملاحظة أيضا. فكأنما أريد بها القول إنه ليس من محلّ لخلاف ونزاع بين المسلمين والكتابيين من حيث المبدأ

والجوهر. وإن التخاطب بالحسنى جدير بأن ييسّر التفاهم والتمازج بينهم. أما إذا ظهر منهم شاذون فإنما يصدرون في شذوذهم عن سوء النية والعدوان والظلم. ومن واجب المسلمين أن يقابلوهم بما يستحقون فالخطة عظيمة رائعة لأنها تقوم على أساس الحقّ والعدل من جهة وعلى الرغبة الصادقة من ناحية المسلمين في توطيد التفاهم والتمازج من جهة أخرى. والاستثناء الذي احتوته الآية وفحوى الآيات عامة يدلان على أن فريقا من أهل الكتاب كان معاندا مكابرا في موقف الجدل والحجاج إلى جانب فريق آخر كان مؤمنا مصدقا. وفي هذا صورة من صور العهد المكي حيث كان من العرب مؤمنون وكافرون وكان إلى جانبهم من الكتابيين مؤمنون وكافرون أيضا. وقد شرحنا ذلك في مناسبات سابقة وبيّنا أسبابه التي هي أسباب شخصية ونفعية دنيوية. وقد آمن بالرسالة المحمدية وصدق صلة القرآن بالله كل من استطاع أن يتفلّت من هذه الأسباب منهم كما ذكرته آيات عديدة مرّت في سور عديدة، واستمر هذا المظهر في العهد المدني أيضا على ما سوف يرد شرحه بعد. ولقد رسمت الخطة الآنفة الذكر في الآية [125] من سورة النحل إزاء كل الناس وبدون استثناء ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ويظن كما قلنا أن بعض الكتابيين الجاحدين كانوا في جدلهم معاندين مكابرين بل بذيئين سيئي الأدب. فاقتضت حكمة التنزيل تنزيل الاستثناء في الآية [46] . هذا ويتبادر والله أعلم أن آية وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ قد هدفت فيما هدفت إليه تقرير كون ما في القرآن وحي رباني ونفي كونه مقتبسا من كتب سابقة كانت متداولة. وهذا ما كان ينسبه إليه المشركون في جدالهم معه على ما تتضمنه الآية الرابعة والخامسة من سورة الفرقان: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً

استطراد إلى مسألة مكتسبات النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة

وَأَصِيلًا (5) . وصيغة الآية التالية تدلّ على أنهم كانوا يعرفون أنه لا يقرأ ولا يكتب وأنه كان يستكتب ما في الكتب السابقة وتملى عليه ليحفظها. وآية وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ في سورة النحل تفيد وتحكي نفس القول عنهم فهدفت الآية التي نحن في صددها بنفي ذلك مرة أخرى بالأسلوب الذي جاءت فيه والله أعلم. وفي القرآن آيات كثيرة جدا تقرر أن ما في القرآن جميعه وحي منزل من الله وبعلمه ومن ذلك آيات سورة الشعراء [191- 192- 193- 194- 195- 196] . ومجموعة آيات سورة النساء [162- 163- 164] . استطراد إلى مسألة مكتسبات النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوّة وقد يتبادر لبعضهم استلهاما من آية وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف شيئا من أحوال وقصص الأمم السابقة وأنبيائهم قبل نزول الوحي عليه. بل إن هذا قد قاله غير واحد من علماء المسلمين ومفسريهم القدماء وهذا غير سليم بل مستغرب. فالآية إنما هدفت لنفي كون ما في القرآن من ذلك مقتبسا من الكتب المتداولة السابقة وهذا حقّ وصدق على ما شرحناه سابقا. ولكن هذا شيء وكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف من أحوال وقصص الأمم السابقة شيئا قبل الوحي شيء آخر. إن النبي صلى الله عليه وسلم قد عاش خمسا وعشرين عاما قبل النبوّة في حالة وعي تام منذ بدء شبابه. وكان من أرجح العقول ذا ذهن متفتح متحرر يبحث عن الحقّ والحقيقة في مسائل الدين وأحوال الأمم السابقة وأديانها. ولقد كان في مكة أفراد من أهل الكتاب على شيء من العلم كان يلتقي بهم خلال هذه الفترة ويسمع منهم ويتحادث معهم وهذا ما أيّدته روايات عديدة وأشارت إليه ضمنا آيات قرآنية هي: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً [الفرقان: 4]

وكانوا يعرفون أنه لا يقرأ ولا يكتب فقالوا كما ورد في سورة الفرقان وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) . وجاء مثل هذه الإشارة في آية سورة النحل وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [103] على ما شرحناه في سياق السورتين المذكورتين. ولقد كان ابن عم زوجته السيدة خديجة رضي الله عنها ورقة بن نوفل متنصّرا يقرأ الكتب بالعبرانية على ما ذكرته بعض الأحاديث وهو الذي روى أنه تولّى تزويجه من السيدة خديجة فلا بدّ من أنه تردّد عليه كثيرا وسمع منه أيضا وقد قام برحلات إلى بلاد الشام مع أمه ثم في شبابه وكيلا تجاريا عن السيدة خديجة وربما ذهب إلى ما وراء الشام أيضا أي فلسطين ومصر بعدها. وفي سورة الصافات آية تذكر ما يفيد أن قوافل التجار الحجازيين كانت تمرّ بقرى لوط المدمرة على ضفاف بحر الميت بين عمان والقدس وهي وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الصافات: 133- 138] ولا بد من أن يكون التقى في رحلته بكثير من الناس ذوي العلم والمعرفة وتحدث معهم وسمع منهم. كما لا بد من أن يكون قد التقى بآلاف الناس في بيئته على اختلاف فئاتهم ومعارفهم وسمع منهم وتحدّث معهم، فمن الطبيعي جدا الذي لا يمكن أن يرد إلى العقل غيره هو أن النبي صلى الله عليه وسلم قد وعى واختزن في ذاكرته كثيرا مما سمع من أحوال وقصص وأخبار أهل الكتاب وقصصهم وأحوال الأمم السابقة وأحوال بيئته الاجتماعية والاقتصادية والدينية والثقافية وكل ذلك مما أهّله مع ما تحلّى به من عقل راجح وذهن وقّاد متفتح ورغبة في الحقيقة الربانية ووجدان لها للرسالة العظمى التي اصطفاه الله لها. ولا يتعارض هذا كما هو المتبادر مع ما نزل به الوحي في مثل تلك الأمور. فالوحي القرآني نزل بما اقتضته حكمة التنزيل لتحقيق الهدف المستهدف منها. وهذا شيء وكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف منها شيئا قليلا أو كثيرا قبل نبوته شيء آخر والله تعالى أعلم.

وبعض المفسرين «1» قالوا إن المقصود بجملة وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ هو النهي عن مجادلتهم فيما يخبرون به، وأوردوا حديثا عن النبي عليه السلام رواه أبو هريرة رضي الله عنه جاء فيه «لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا آمنّا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم إله واحد ونحن له مسلمون» . وبعض المفسرين قالوا «2» إن هذه الآية منسوخة بآية السيف وإنه لم يعد من خطته مع أهل الكتاب إلّا قتالهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، استنادا إلى آية التوبة [29] ونصّها قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ. وقال آخرون «3» بل هي محكمة ولا يصح قتال غير الظالمين المعتدين منهم. وسيرة الرسول عليه السلام وتلقينات آية سورة التوبة وغيرها في جانب القول الثاني دون الأول. وقد شرحنا ذلك بما فيه الكفاية في سياق سورة (الكافرون) . وسنذكر ظروف آية التوبة ومداها حينما يأتي دور تفسيرها إن شاء الله. وفي صدد جملة وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ نقول إننا علّقنا على جملة مماثلة في سورة الشورى وما ينبغي أن تكون عليه عقيدة المسلم في كتب الكتابيين المنسوبة إلى الله تعالى أو المحتوية لأقوال أنبيائهم بما فيه الكفاية فلا نرى حاجة للإعادة أو الزيادة، إلّا القول إن اختلاف الصيغة هنا عنها في سورة الشورى مردّه على ما هو المتبادر إلى صيغة الخطاب الموجّه في كلّ من الآيتين في كل من السورتين. فهو في آية الشورى موجّه للنبي فجاء بصيغة الخطاب المفرد وهو هنا موجّه للمسلمين فجاء بصيغة الخطاب الجمع. وصار الأمر القرآني

_ (1) انظر تفسيرها في الطبري والخازن والبغوي وابن كثير. [.....] (2) انظر الكتب المذكورة أيضا. (3) انظر الطبري.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 50 إلى 52]

في هذا الموضوع الخطير بالصيغتين شاملا للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين معا. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 50 الى 52] وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52) . في هذه الآيات: 1- حكاية لتحدّ وجّهه الكفار إلى النبي عليه السلام بالإتيان بالمعجزات والخوارق برهانا على صلته بالله. 2- وأمر للنبي بالردّ عليهم بأن المعجزات والخوارق بيد الله وبأنه ليس إلّا نذيرا مبيّنا للناس بأمر الله الطريق التي يجب أن يسيروا فيها. 3- وتساؤل في معرض الاستنكار عمّا إذا لم يكن فيما أوحى الله إلى النبي من كتاب الله الذي يتلى عليهم ما يكفيهم ويقنعهم. ففيه رحمة وتذكرة ربانيتان لا ريب فيهما لمن يؤمن أو يرغب في الإيمان حقا. 4- وأمر آخر للنبي بإعلان المجادلين المتحدّين بأن يجعل الله بينه وبينهم شاهدا وحكما وفي ذلك الكفاية والبلاغ. فهو يعلم بكل ما في السموات والأرض ويعرف المحقّ من المبطل والصادق من الكاذب مع التوكيد بأن الخاسرين في هذا الاستشهاد والاحتكام هم المكابرون المصممون على الكفر المتمسكون بالباطل. ولم يرو المفسرون رواية خاصة في نزول الآية الأولى. وكل ما قالوه إنها ردّ على الكفار الذين طلبوا من النبي آية من ربّه تؤيده في دعواه. ولقد روى الطبري في سياق الآية الثانية [51] عن جعدة بن يحيى أن ناسا من المسلمين أتوا نبي الله

تعليق على آية وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه ... وآية أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ...

بكتب قد كتبوا فيها بعض ما يقول اليهود فلما نظر فيها ألقاها ثم قال كفى بها حماقة قوم أو ضلالة قوم أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى ما جاء غير نبيهم به إلى قوم غيرهم فنزلت الآية. والرواية لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. وهي مدنية الطابع في حين أنه لا خلاف في مكية الآية. وبالإضافة إلى هذا فإن الآية منسجمة أشدّ الانسجام نظما وموضوعا بما قبلها وما بعدها. والخطاب فيها موجّه إلى الذين تحدّوا النبي باستنزال آية من ربّه. حيث يصحّ القول إن الرواية غير محتملة الصحة كمناسبة لنزول الآية. وكل ما يمكن أن يصحّ إذا صحّت الرواية أن يكون النبي قد ردّ على الذين ظنوا أنهم فعلوا صوابا بنقلهم بعض ما يقوله اليهود وأن الآية تليت في هذه المناسبة. والذي يتبادر لنا أن الآيات استمرار في حكاية موقف الجدل الذي بدئت به الآيات السابقة ومتصلة بالسياق. ومن المحتمل أن يكون التحدي من جاحدي الكتابيين كما يحتمل أن يكون من جاحدي المشركين. وإن كانت الآيات التالية لهذه الآيات ترجّح الاحتمال الثاني. تعليق على آية وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ ... وآية أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ ... وتحدّي الكفار النبي صلى الله عليه وسلم بالإتيان بالمعجزات والآيات كان يتكرر في كل مناسبة جدلية على ما حكته آيات عديدة في سور عديدة سبق تفسيرها. وقد اقتضت حكمة الله أن لا يظهر على يد رسوله معجزة إجابة للتحدي وبرهانا على صدق رسالته لأن هذه الرسالة في غنى عن المعجزة مما انطوى في آيات كثيرة وشرحناه في سياق سورة المدثر وكان جواب القرآن لهم منطويا على ذلك المعنى، ثم على ما انطوى في هذه الآيات في مواضع عديدة من أن القرآن آية عظمى فيها المقنع لمن حسنت نيته ورغب في الحق والهدى. وقد يرد على البال معجزة انشقاق القمر وقد شرحنا هذا الأمر في سياق تفسير سورة القمر بما يغني عن التكرار.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 53 إلى 55]

والتساؤل الاستنكاري الذي ابتدأت به الآية [51] ينطوي على تنديد قوي لمن غلظ قلبه وخبثت نيته وعميت بصيرته فلم ير نور القرآن الهادي السنيّ ولم ينفذ إليه روحه وروحانيته وظلّ يعاند ويتحدّى، كما أن الآية تجمعت فيها قوة رائعة في تقرير كون القرآن هو أعظم آية مصدقة لنبوّة النبي فيما احتواه من الرحمة والتذكرة البالغة والأسس الكافلة لصلاح الدين والدنيا. والردّ الذي احتوته انطوى في الوقت نفسه على الردّ على ما كان يقوم في أذهان الكفار من لزوم حدوث الخوارق في معرض تأييد نبوة النبي ودعوته. فليس ذلك من الضروري في صدد الدعوة إلى الحقّ والهدى. لأن في طبيعة الدعوة ومبادئها وأهدافها المبينة في القرآن مؤيدات كافية لصدق النبي في دعوته وصلتها بوحي الله. وهي مؤيدات خالدة قائمة للعيان في كل آن في حين أن الخوارق غير متصلة بطبيعة وأهداف الدعوة وغير دائمة. وكانت دائما موضع نقاش وتكذيب ولم تفد في تأييد دعوة الأنبياء السابقين وبخاصة بالنسبة للذين بيتوا الجحود والتكذيب لأسباب شخصية واستكبارا في الأرض ومكر السيّء. وروح الآيات، كما أن نصوص وروح الآيات الكثيرة انطوت على هذا الردّ أو ما في معناه مما مرّ منه أمثلة كثيرة. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 53 الى 55] وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) . في هذه الآيات: 1- حكاية لتحدّي الكفار للنبي بالتعجيل بالعذاب الذي ينذرهم به في معرض الاستخفاف والاستهزاء. 2- وردّ عليهم بأنه لولا اقتضاء حكمة الله بتأجيل العذاب إلى أجل معين في علمه لجاءهم فورا كما يطلبون.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 56 إلى 60]

3- وتوكيد بأن العذاب واقع عليهم حتما وسيفاجئهم مفاجأة دون أن يشعروا بمقدماته، وبأن جهنّم معدّة لهم في الآخرة دون أن يفلت منهم أحد، وبأن العذاب سوف يغشاهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقال لهم حينئذ ذوقوا ما كنتم تعملون. قال البغوي إن الآيات نزلت في النضر بن الحارث حين قال: «فأمطر علينا حجارة من السماء» ولم يعز المفسر هذا إلى أحد ولم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة. ولقد حكت إحدى آيات سورة الأنفال هذا القول بسبيل ذكر ما كان من الكفار من استعجال للعذاب على سبيل الهزء والاستخفاف وهي وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) غير أن الاستعجال منهم قد تكرر وحكته عنهم آيات عديدة سابقة مع الردّ عليهم بحيث لا نرى مرجحا لتسويغ تخصيص النضر بالذكر في صدد نزول الآية. والذي يتبادر لنا أن الآيات متصلة بحكاية موقف الكفار وحجاجهم وتحدّيهم التي احتوتها الآيات السابقة واستمرار للسياق. وقد احتوت تحدّيا جديدا للكفار فردّت عليهم كما احتوت ذلك الآيات السابقة. ولما كان التحدّي بتعجيل العذاب قد صدر مرارا من مشركي العرب فإننا اعتبرنا ذلك قرينة رجحنا بها أن التحدي بالإتيان بالمعجزات التي حكته الآيات السابقة هو منهم أيضا. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 56 الى 60] يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) . (1) وكأيّن: بمعنى وكم في مقام الاستكثار. في الآيات: خطاب موجّه إلى المؤمنين:

تعليق على آية يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون وما بعدها

1- يثبتهم في دينهم وإخلاصهم في العبادة لله وحده. 2- ويطمئنهم بأن أرض الله واسعة يستطيعون أن يجدوا فيها الأمن والعافية والحرية. 3- ويذكرهم بأن الموت مصير كل حيّ وبأن الله مرجع الناس جميعا. 4- ويؤكد لهم بأن الله سينزل المؤمنين الصالحين بأعمالهم غرفا في الجنة تجري من تحتها الأنهار. وأنها لنعم الأجر لمن آمن وعمل صالحا وصبر على الحق وجعل اعتماده وتوكّله على الله. 5- وينبههم إلى أنّ الله تعالى قد تكفّل برزق جميع خلقه من الأحياء. وكما أن كثيرا من الدواب لا تدّخر رزقا ولا تكسب ما يضمن لها الرزق والله يرزقها فإنه كذلك يرزقهم أيضا فلا يقلقوا من هذه الناحية، وهو السميع لكل ما يقال العليم بجميع الأحوال. تعليق على آية يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ وما بعدها ويبدو هذا الفصل جديدا بالنسبة للسياق السابق أو مستقلا عنه حيث ينتقل الخطاب فيه إلى المؤمنين في أمر مقامهم في مكة بعد حكاية الموقف الجدلي بين النبي والمؤمنين من ناحية، والكفار من ناحية. وحكاية تحدّي الكفار بالمعجزات وبالتعجيل بالعذاب. ومثل هذا الانتقال من أساليب النظم القرآني مما مرّ منه أمثلة عديدة ولهذا لا نرى انقطاعا تاما بين هذا الفصل وما قبله. والمتبادر أنه نزل بعد الآيات السابقة فوضع في ترتيبه. ولقد أورد المفسرون أقوالا عديدة في صدد هذه الآيات معظمها بدون سند أو عزو إلى تابعي أو صحابي وواحد منها معزو إلى ابن عمر «1» منها أنها خطاب

_ (1) انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري.

عام للمؤمنين بعدم إقامتهم في دار ظلم ومعصية وبهروبهم منها إلى أرض الله الواسعة حيث تكون لهم حرية العبادة والعمل في سبيله. ومنها أنها نداء للمؤمنين في مكة أو المستضعفين منهم للهروب والخروج من مكة لتكون لهم تلك الحرية. ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اشتدّ الأذى على المسلمين في مكة وأمرهم بالخروج إلى المدينة قال بعضهم كيف نخرج إليها وليس لنا بها دار ولا مال فمن يطعمنا ويسقينا فأنزل الله الآية الأخيرة. ومنها أنها نزلت في جماعة تخلّفوا عن الهجرة من مكة تحسبا من الموت والعوز والضيق في أرض الغربة. ومنها حديث رواه ابن أبي حاتم عن ابن عمر جاء فيه: «أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بستانا من بساتين الأنصار فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقط الرطب بيده ويأكل فقال: كل يا ابن عمر، قلت: لا أشتهيه يا رسول الله، قال: ولكنّي أشتهيه، وهذه صبح رابعة منذ لم أطعم طعاما ولم أجده، فقلت: إنّا لله، الله المستعان. قال: يا ابن عمر لو سألت ربي لأعطاني مثل كسرى وقيصر أضعافا مضاعفة ولكني أجوع يوما وأشبع يوما فكيف بك يا ابن عمر إذا عمرت وبقيت في حثالة من الناس يخبئون رزق سنتهم بضعف اليقين. قال: فو الله ما برحنا ولا رمنا حتى نزلت وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ ... إلخ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الله عزّ وجلّ لم يأمرني بكنز الدنيا ولا باتباع الشهوات فمن كنز دنياه يريد بها حياة باقية فإنّ الحياة بيد الله. ألا وإني لا أكنز دينارا ولا درهما ولا أخبئ رزقا لغد» «1» . وحديث ابن عمر والقول الذي قبله يقتضيان أن تكون الآيات أو الآية [59] مدنية نزلت لحدّتها مع أنه ليس هناك رواية ما بذلك فيما اطلعنا عليه. وقد قيل مثل القول الذي قبل الحديث في مناسبة الآيات الأولى من السورة وأوردناه وعلقنا عليه. والحديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة. والأقوال الأخرى محتملة الصحة على ما يلهمه فحوى الآيات وروحها أيضا حيث يلهمان أنها نزلت في ظرف اشتدت فيه الأزمة على المسلمين في مكة. وقد تضمنت

_ (1) النصّ من تفسير ابن كثير. وقد عقّب المفسر عليه بقوله هذا حديث غريب. وأبو العطوف الجزري- وهو أحد رواته- ضعيف. ومع ذلك فإن المفسر البغوي روى هذا النصّ بخلاف يسير بطرقه.

تشجيعا على الهجرة منها تفريجا لهذه الأزمة وتطمينا لمن يمكن أن يخطر لباله خوف من العوز وضيق العيش في المهجر الجديد. وإذا صحّ حديث ابن عمر وهو في ذاته حديث رائع فيه تلقين مستمر المدى فيمكن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تلا الآية في ظرف مثل الظرف المروي فالتبس الأمر على الرواة. وهذه السورة من آخر ما نزل من القرآن المكي أو آخره. وظروف نزولها يصادف على ما هو المتبادر لظروف اتصال النبي عليه السلام ببعض زعماء الأوس والخزرج في موسمين متواليين وإيمانهم وتعهدهم بنصرته ونصرة المؤمنين والترحيب بهم إذا هاجروا إلى المدينة المنورة التي كانت تسمى (يثرب) مما أشارت إليه آية سورة الحشر هذه إشارة تنويهية وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وقد أخذ المؤمنون يهاجرون إلى المدينة نتيجة لذلك «1» . والظاهر أن بعضهم كانوا يحسبون حساب الموت في دار الغربة أو حساب العوز والضيق فاحتوت الآيات تطمينا كافيا ومشجعا من الناحيتين. بالإضافة إلى وعدهم بغرفات الجنات في حياتهم الأخروية. ومن شأن أسلوب الآيات وفحواها أن يبعثا الطمأنينة وقوة العزيمة والاعتماد على الله والاستهانة بكل صعب في اللحظة الحرجة التي كان فيها المسلمون، حتى لقد عبرت آيات القرآن عن هجرتهم بما يفيد أنهم أرغموا عليها إرغاما كما ترى في آية سورة الحشر هذه التي احتوت تنويها بهم لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) . وتظل الآيات مستمرة التلقين في كل ظرف مماثل تبعث في نفس كل مؤمن

_ (1) انظر سيرة ابن هشام القسم الأول الطبعة الثانية ص 428 وما بعدها.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 61 إلى 64]

الطمأنينة وقوّة العزيمة والاعتماد على الله والاستهانة بكل صعب أيضا. ولقد روى البغوي بطرقه على هامش هذه الآيات وبخاصة على هامش الآيتين [58 و 59] حديثين عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء في أحدهما: «لو أنكم تتوكّلون على الله حقّ توكّله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا» . وجاء في ثانيهما عن ابن مسعود: «أيّها الناس ليس من شيء يقرّبكم إلى الجنّة ويباعدكم من النار إلّا وقد أمرتكم به وليس من شيء يقرّبكم إلى النار ويباعدكم عن الجنة إلّا وقد نهيتكم عنه. وإنّ الروح الأمين قد نفث في روعي أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها. فاتّقوا الله وأجملوا في الطلب. ولا يحملنّكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله فإنّه لا يدرك ما عند الله إلّا بطاعته» . والحديث الأول من مرويات الترمذي والحاكم عن عمر رضي الله عنه «1» . وواضح من روح الحديثين وبخاصة الأول أنهما في صدد تحذير المسلمين من التماس الرزق من طريق المعاصي إذا ما أبطأ عليهم وفي صدد تطمينهم بأن اعتمادهم وتوكّلهم على الله هما الأولى والأجدر بهم وبذلك يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 61 الى 64] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) . (1) الحيوان: الحياة.

_ (1) انظر التاج ج 5 ص 187.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 65 إلى 66]

عبارة الآيات واضحة، والمتبادر أنها متصلة بموقف الجدل والحجاج الذي حكته الآيات السابقة للفصل السابق مباشرة. وأن ضمير الجمع الغائب راجع إلى الكفار. وهكذا يعود السياق فيتصل ببعضه بعد الفصل الانتقالي ويجعل هذا الفصل غير منقطع عنه. وقد احتوت تنديدا بالكفار وبيانا لتناقضهم في عدم الإخلاص لله وحده ومكابرتهم في الدعوة إليه واستعجال عذابه مع أنهم يعتقدون أنه خالق السموات والأرض، ومسخّر الشمس والقمر، وباسط الرزق ومضيّقه، ومنزّل الماء من السماء، ومحيي الأرض بعد موتها. والآية الثانية وإن جاءت كأنها منفصلة فروح الآيات تلهم أنها منسجمة موضوعا وسياقا معها. وفي النظم القرآني أمثلة كثيرة من ذلك مرّ كثير منها في السور السابقة. والمتبادر أن الآية الرابعة هي بقصد إعظام شأن الآخرة والترغيب فيها والترهيب منها. فالسعادة الحقيقية والشقاء الحقيقي فيها لأنها أبدية خلافا للدنيا القصيرة الأمد والمتاع. ولقد احتوت السور السابقة ما احتوته هذه الآيات وعلقنا عليها بما رأينا فيه الكفاية فلا نرى ضرورة للإعادة والزيادة. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 65 الى 66] فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) . (1) ليكفروا وليتمتعوا: قال المفسرون: إن من المحتمل أن تكون اللام في الكلمتين لام الأمر ويكون في معناهما الإنذار والتحدّي كما أن من المحتمل أن تكون لام التعقيب والتنديد بمعنى أنهم عادوا إلى الكفر والاستمتاع بالحياة ونسوا الله، ونحن نرجّح القول الأول بقرينة ما ينطوي في آخر الآية من إنذار. في الآية الأولى صورة من صور تناقض الكفار المشركين فهم يخصون الدعاء لله وحده حينما يركبون الفلك لينجيهم إلى البر استتباعا لعقيدتهم بأنه خالق

[سورة العنكبوت (29) : آية 67]

الكون ومدبره الأعظم الضارّ النافع وحده، فإذا ما نجاهم عادوا إلى شركهم. وأسلوبها أسلوب تنديدي. أما الآية الثانية ففيها إنذار. فليكفروا كما شاءوا وليتمتعوا بدنياهم القصيرة الأمد لهوا ولعبا فليس هو إلا متاعا قليلا وعرضا زائلا وسوف يرون مغبة كفرهم وشركهم وسوء عاقبتهما. وواضح أن الآيتين متصلتان بسابقاتهما سياقا وموضوعا. وهذه الصورة قد تكررت في بعض السور السابقة وعلّقنا عليها بما يقتضي فلا حاجة للإعادة والزيادة، إلّا أن نقول إن في الآية الأولى دلالة على العرب من أهل مكة الذين تعنيهم الآية كانوا يقومون بالأسفار البحرية ويتعرضون فيها لمخاطر البحر وهي على الأرجح أسفار أو رحلات تجارية. [سورة العنكبوت (29) : آية 67] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) . في الآية سؤال استنكاري في معرض التنديد موجّه إلى الكفار عمّا إذا كانوا لا يرون أن من نعمة الله عليهم أن جعل لهم حرما آمنا يتمتعون فيه بالأمن والسلامة بينما الناس الذين حولهم والذين يقطنون خارجه معرضون للمهالك والأخطار. وعمّا إذا كان يتسق مع الحقّ والعقل أن يكفروا بنعمة الله ويشركوا معه غيره ويؤمنوا بما هو باطل وضلال. والآية متصلة بسابقاتها واستمرار على موقف الحجاج أو بسبيله كما هو المتبادر. وروحها يلهم أن مشركي قريش الذين يقوم الجدل بينهم وبين النبي يعترفون أنهم في حرم الله وأن أمنه المحترم من الناس جميعا هو متصل بتقليد ديني بأمر الله. ومن هنا استحكم التنديد بهم. وقد شرحنا هذه النقطة في سياق سور قريش والأعلى والقصص وإبراهيم شرحا يغني عن التكرار. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 68 الى 69] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) .

(1) فينا: بمعنى في سبيلنا أو لأجلنا. في الآية الأولى تساؤل في معرض التنديد والتقرير بأنه ليس من أحد أشدّ بغيا وانحرافا ممن يفتري على الله الكذب فينسب إليه ما هو براء منه أمرا وعملا وشركا، أو ممن يكذب بالحقّ ويعاند فيه حينما يتضح ويقوم عليه البرهان. وتساؤل آخر في معرض الإنذار والتقرير أيضا بأن جهنّم هي مثوى الكافرين الأبدي الذين منهم هؤلاء، وفي الآية الثانية تنويه بمن جاهد في الله وبشرى بأن الله موفقه وهاديه إلى سبيله لأن الله مع المحسنين دوما. والآيتان على ما هو المتبادر جاءتا بمثابة تعقيب على حكاية موقف الجدل والحجاج التي تضمنتها الآيات السابقة وبمثابة إنهاء للموقف كما جاءتا في الوقت ذاته خاتمة لآيات السورة وأسلوبها متسق مع كثير من خواتم مواقف الجدل وخواتم السور أيضا. ويلحظ أن بين جملة وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا وبين ما جاء في أول السورة وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ شيء من التساوق والتوضيح حيث يمكن أن يكون من حكمة ذلك ربط أول السورة بآخرها وأن يكون في ذلك دلالة على أن فصول السورة نزلت متوالية حتى تمّت وهذا يلحظ في كثير من السور على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة. وقد يكون في ذلك دليل على مكيّة الآيات الأولى للسورة ونقض آخر لرواية مدنيتها. والله أعلم. والآية الأولى تتضمن التقرير بأن المشركين هم الظالمون لأنهم في جدلهم وعنادهم يفترون على الله الكذب، ومع أنهم يعتقدون بأنه الخالق المدبّر يناقضون أنفسهم فيشركون معه غيره. ولعلّها في مقامها ومجيئها بعد الآيات التي حكت

تحدّيها للنبي بالإتيان بالمعجزة. أو بالتعجيل بالعذاب قد تضمنت ردّا وتسفيها لهم. فالدعوة إلى الله لا تحتاج إلى الإتيان بالمعجزة. والله سبحانه قادر في كل وقت على عذابهم ما داموا يعتقدون أنه هو وحده الضارّ النافع الخالق الرازق. أما الآية الثانية فقد جاءت للتنويه بموقف المؤمنين الذين يتحملون في سبيل الله ودينه ما يتحملون من أذى واضطهاد مقابلة للتنديد بموقف المشركين كما هو واضح. ومع ما يمكن أن يكون للآيتين من خصوصية زمنية فإن أسلوبهما القوي المطلق ينطوي على تلقين مستمرّ المدى ضدّ كل من يفتري على الله الكذب ويكذب الحق ويكابر فيه، وفي التنويه بكل من يجاهد في الله وفي وصفهم بالمحسنين الذين يعدّهم الله بأن يكون معهم دائما ناصرا ومؤيدا. والشرح الذي شرحنا به الآية الثانية هو ما تمليه ظروف العهد المكي الذي نزلت فيه غير أنها واسعة المدى والشمول بحيث تتضمن تلقينا قويا مستمرا للمسلم في كل ظرف ومكان بواجب بذل كل جهد في الدفاع عن دين الله والتزام حدوده والتبشير به ونشره لسانا وقلما ومالا وبدنا وفرادى وجماعات وشعوبا وحكومات.

سورة المطففين

سورة المطففين في السورة تنديد بالغشاشين في الكيل والميزان وإنذار بحساب الله. واستطراد إلى ذكر مصير المكذبين والمؤمنين يوم القيامة. وحكاية لسخرية الكفار بالمؤمنين في الدنيا وانقلاب الحال في الآخرة. وآيات السورة متوازنة منسجمة مما يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة. والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أن هذه السورة آخر السور المكية نزولا. ومعظم روايات ترتيب النزول تذكر أنها من السور المتأخرة في النزول كذلك، ومنها ما يتّفق مع المصحف بأنها الآخر نزولا. غير أن مضمونها وأسلوبها يثيران في النفس شكا في ذلك ويسوغان الظنّ بأنها من السور المبكرة في النزول. مثل السور القصيرة المسجّعة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) . (1) التطفيف: البخس في الوزن والكيل. احتوت الآيات: 1- تقريعا للذين إذا اشتروا لأنفسهم كالوا ما اشتروه أو وزنوه أو أخذوه

وافيا، وإذا باعوا للغير طففوا وكالوا ووزنوا ناقصا ليضمنوا لأنفسهم الربح في الحالتين على حساب ضرر الآخرين. 2- وتساؤلا في معرض الإنذار عمّا إذا كانوا حينما يفعلون ذلك لا يعرفون أنهم مبعوثون بعد الموت لليوم العظيم الذي يقف الناس فيه بين يدي الله ربّ العالمين ليقدموا الحساب عن أعمالهم. وهذه ثانية سورتين ابتدأتا بكلمة (الويل) التقريعية. والآيات تنطوي على صورة من صور أخلاق بعض التّجار في مكة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كما هو المتبادر. وهي في الوقت نفسه عامة تظهر في كل زمان ومكان. والمتبادر أن إطلاق التقريع والإنذار في الآيات هو بسبب ذلك ليكون فيها تلقين مستمر المدى في تقبيح بخس الناس وغشهم وسلب أموالهم بطريق الحيلة والخداع. ولقد احتوت سورتا الإسراء والأنعام آيات فيها أمر بوفاء الكيل والميزان والوزن بالموازين المستقيمة حيث ينطوي في هذا تقرير كون هذا الأمر من الأخلاق الهامة التي عنى القرآن بإيجابها لما له من صلة بجميع الناس تتكرر في كل وقت. والإنذار والتقريع في الآيات هما توكيد لما احتوته آيات السورتين بأسلوب آخر. والتساؤل ينطوي على تقرير ما فتىء القرآن يقرّره وهو أن جرأة كثير من الناس على الآثام تأتي من عدم مراقبتهم الله وحسبانهم حساب الآخرة. وهذا من دون ريب متصل بحكمة الله فيما يقرره القرآن من حقيقة البعث والجزاء الأخرويين. وقد روى المفسرون «1» عن ابن عباس أن أهل المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا وأنه كان فيها رجل يقال له أبو جهينة معه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله الآيات. ومقتضى هذا أن تكون الآيات مدنية. ولا تفهم حكمة لوضع آيات مدنية في رأس سورة تجمع الروايات

_ (1) انظر تفسيرها في الطبري والبغوي والطبرسي.

[سورة المطففين (83) : الآيات 7 إلى 17]

على سلكها في عداد السور المكية. ويؤيد ذلك مضمونها وأسلوبها. وموضوعها من المواضيع التي ذكرت في سور مكية على ما ذكرناه آنفا. والذي يتبادر لنا أن الآيات تليت في موقف ما في المدينة على سبيل الإنذار والتقريع، فأدّى ذلك إلى الالتباس. وهو ما نرجّحه في كثير من الآيات التي يروى أنها مدنية ووردت في سور مكيّة. ولقد روى البخاري والترمذي في سياق آية يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ حديثا عن ابن عمر قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم يقوم الناس لربّ العالمين حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه» «1» . وهناك حديث آخر رواه البغوي بطرقه فيه توضيح لتعبير (رشحه) عن المقداد قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد حتى تكون قدر ميل أو ميلين فتصهرهم فيكونون في العرق بقدر أعمالهم فمنهم من يأخذه إلى عقبيه ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه ومنهم من يأخذه إلى حقويه ومنهم من يلجمه إلجاما» . وفي الحديثين تنبيه إنذاري متساوق مع التنبيه القرآني كما هو واضح. [سورة المطففين (83) : الآيات 7 الى 17] كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) . (1) إن كتاب الفجار لفي سجّين: قيل في تخريج كلمة سجّين اللغوي إنها صفة مبالغة من السجن على سبيل التخليد لمن يدخلونه. وقيل إنها المكان السحيق أو العميق المظلم أو الأرض السفلى وقيل إنها بئر في جهنّم وعلى كل حال فالذي

_ (1) التاج ج 4 ص 253.

يتبادر من الجملة أن المقصود من الكلمة مكان العذاب الذي يعذّب فيه الكفار في الآخرة وأن المقصود من الجملة بيان كون الذي كتب وقضى على الفجار هو أن يكونوا في سجّين. وجملة وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ في الآيات والإشارة إلى يوم القيامة في الآيات السابقة قرائن أو دلائل على ذلك. (2) وما أدراك ما سجّين: تعبير بقصد تهويل أمر سجين. (3) مرقوم: بمعنى مكتوب أي إن مصير الفجّار قد كتب عليهم وتقرر. (4) ران: غطّى أو حجب. في الآيات حملة شديدة على الفجّار المكذّبين بيوم الدين. وقد ابتدأت بالردع والزجر للتنبيه على أن الأمر أعظم مما يظنون. ثم آذنتهم بأن مصير الفجّار قد كتب وتقرر في الهوة السحيقة المظلمة المعدّة لعذابهم يوم القيامة. وما أعظم هولها. والويل لهم في يوم الجزاء الذي يكذّبون به. ولا يكذّب به إلّا كل أثيم باغ إذا سمع آيات الله هزأ بها وقال إنها ليست إلّا أساطير الأولين. والحقيقة من أمرهم أن ما اقترفوه من آثام وجبلت عليه نفوسهم من شر وخبث قد غطّى على بصائرهم وحجّر قلوبهم. وإنهم لمبعدون عن الله ورضوانه. ولسوف يصلون الجحيم، ويقال لهم عند ذلك هذا الذي كنتم به تكذّبون. ويربط بين هذه الآيات وما قبلها الإنذار بالبعث ليوم الدين العظيم الذي يقف الناس فيه بين يديّ الله. فهي والحالة هذه متصلة بها سياقا وموضوعا. والحملة قويّة مفزعة من شأنها بالإضافة إلى واجب الإيمان بالمشهد الأخروي إثارة الرعب في قلوب السامعين وحملهم على الارعواء من جهة، وقد انطوت على صورة لما كان عليه الكفار من شدّة العناد والمكابرة حين نزولها من جهة أخرى، والإنذار متحقق بالنسبة للذين ظلوا على كفرهم وإثمهم. ولقد روى الترمذي في سياق الآية [14] حديثا عن أبي هريرة قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم إنّ العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء فإذا هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه وهو الران الذي ذكره الله

[سورة المطففين (83) : الآيات 18 إلى 28]

كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» . حيث ينطوي في الحديث تفسير وتبشير وإنذار معا. وقد أورد المفسرون أقوالا لابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم تفيد أن القصد من الجملة هو بيان ما يحدثه الكفر والآثام في قلب صاحبها من تحجّر وانغلاق وموتان. ولقد روى المفسرون في مناسبة جملة كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ إلى الكلام عن رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة حيث استدل بعضهم وأوردوا أقوالا لبعض علماء التابعين وللإمام الشافعي في الاستدلال بها على ذلك وحيث أورد بعضهم أقوالا تفيد أن المقصود بالجملة حجب الكرامة والرحمة الربانية. وقد قال الطبري إن الجملة قد تحتمل هذا المعنى وقد تحتمل ذلك ولكن ليس فيها وليس هناك أثر نبوي يساعد على ترجيح أحدهما على الآخر. ولقد شرحنا الموضوع الأصلي وعلقنا عليه في سياق تفسير الآيات وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) في سورة المدثر بما يغني عن الإعادة. [سورة المطففين (83) : الآيات 18 الى 28] كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) . (1) إن كتاب الأبرار لفي علّيين: كلمة علّيين صفة مبالغة من العلو. وقد جاءت في مقابل سجّين ومما قيل إنها في السماء السابعة أو في السموات العليا أو عند عرش الله أو الجنة وعلى كل حال فإن الجملة تعني أن كتاب الأبرار قد كتب بأنهم سوف يكونون في عليين التي يتنعمون فيها. (2) المقرّبون: الأولى تعني الملائكة. والثانية تعني عباد الله المقربين على ما يلهمه مقام كل منهما.

[سورة المطففين (83) : الآيات 29 إلى 36]

(3) رحيق: الشراب الصافي الرائق. (4) مختوم ختامه مسك: إبريق الشراب مختوم بطينة من المسك فيكون طعمه ورائحته مسكا. (5) مزاجه من تسنيم: مزاجه بمعنى السائل الذي يمزج به الشراب. وهو من عين ماء في الجنّة تسمّى تسنيما. والتسنيم من السنام وهو الشيء المرتفع. فتكون الكلمة بمعنى عين الماء المسمّاة تسنيما لأنها تجري من مكان مرتفع. وجريا على الأسلوب القرآني جاءت هذه الآيات لوصف مصير الأبرار الأخروي بالمقابلة: فمصيرهم قد كتب وتقرر في عليين حسب كتاب أعمالهم الذي يشهد عليه الملائكة المقربون. ومنازلهم منازل النعيم حيث تعلو فيها وجوههم بهجة السرور ويتناولون في مجالسهم الشراب الصافي النفيس الذي يمزج بماء عين التسنيم العالية في الجنة، والذي تكون أباريقه مختومة بطينة من المسك ليكون مذاقه ورائحته مسكا. وإن هذا لهو مجال التنافس الممدوح الذي يحسن أن يتنافس فيه المتنافسون للوصول إليه. واتصال الآيات بالسياق والموضوع قائم. والوصف قوي شائق حقا من شأنه بثّ الطمأنينة والشوق في نفس المؤمنين من جهة وقد انطوى على التنويه بالمؤمنين الذين استحقوا هذه الدرجة من النعيم والتكريم من جهة وعلى الحثّ على الإيمان والعمل الصالح لنيلها من جهة. [سورة المطففين (83) : الآيات 29 الى 36] إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) . (1) فكهين: هنا بمعنى معجبين مسرورين بأنفسهم.

(2) ثوّب: أثيب وجوزي. وفي هذه الآيات حكاية لموقف الكفار من المؤمنين في الدنيا وموقف المؤمنين من الكفّار في الآخرة، فقد كان المجرمون يسخرون من المؤمنين ويتغامزون عليهم كلما مروا بهم ويرمونهم بالضلال مع أنهم ليسوا عليهم وكلاء ولا حفّاظا. ثم يعودون إلى أهلهم وقد شفوا نفوسهم واغتروا بباطلهم. ولسوف ينقلب الأمر إلى عكسه يوم القيامة حيث يفوز المؤمنون بالعاقبة السعيدة ويتمتعون بمنازل النعيم ويقفون من الكفار موقف الساخر الشامت لما صاروا إليه من مصير رهيب. وقد جاءت الآية الأخيرة بمثابة التعقيب متسائلة عما إذا لم يكن الكفار بما صاروا إليه قد جوزوا الجزاء الحقّ على ما كانوا يفعلونه. وقد تضمنت جوابا إيجابيا على السؤال. والآيات جاءت في معرض التعقيب على الآيات السابقة. وانطوت على التنديد بالكفار والبشرى للمؤمنين كما هو المتبادر. وفيها صورة لما كان عليه موقف الكفار من المؤمنين في مكة وقد جاءت ختاما للسورة وهو ختام مشابه لخواتم سور عديدة أخرى. وقد تكون الصورة التي احتوتها الآيات بنوع خاص قرينة على ما نبهنا إليه من احتمال عدم صحة ترتيب السورة كآخر السور نزولا، ورجحان نزولها مبكرة بالإضافة إلى مضامين السورة وأسلوبها بصورة عامة.

تنبيه

تنبيه تفسير السور الخمسة التي يروي المصحف الذي اعتمدناه أنها مدنية وتروى روايات أخرى أنها مكية والتي رجّحنا مكّيتها بدورنا على ما نبهنا عليه في الكلمة التي أضفناها إلى مقدمة التفسير في الجزء الأول. وستكون بالترتيب التالي على ما ذكرناه في الكلمة المذكورة: الرعد- الحجّ- الرّحمن- الإنسان- الزلزلة.

سورة الرعد

سورة الرعد في السورة مقدمة رائعة في تقرير عظمة الله ونواميس كونه. وفصول من المشاهد الجدليّة التي كانت تقوم بين النبي والمشركين فيها صور من أقوالهم وتحدّيهم ومكابرتهم وإنكارهم رسالة النبي والآخرة، وطلبهم الآيات منه وردود عليهم فيها إفحام وإنذار وتسفيه وتمثيل ومقايسة بين الصالحين وذوي النيّات الحسنة والعقول السليمة، والأشرار ذوي العقول الغليظة والسرائر الخبيثة. وتمثيل للحقّ والباطل وتقرير بقاء الحقّ ونفعه. وتذكير بمواقف الأمم السابقة وإشارة إلى موقف أهل الكتاب المؤيد للرسالة النبوية والوحي القرآني وتثبيت وتطمين للنبي، وبيان مصائر المؤمنين والكفار المشركين في الآخرة. وفصول السورة منسجمة تكاد تكون سلسلة واحدة مما يسوغ القول إنها نزلت متتابعة إن لم تكن نزلت دفعة واحدة. وهذه السورة من السور المختلف في مكيتها ومدنيتها. وقد رجّحنا مكيتها لأن ما احتوته من تقريرات وتنبيهات وأمثال وصور مماثلة لما في السور المكيّة من مثل ذلك ولأنها تمثّل العهد المكيّ دون العهد المدنيّ. ولقد جاءت في المصحف الذي نعتقد أنه مرتّب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وفي حياته في سلسلة من السور المكيّة التي تبدأ بحروف متقطعة مماثلة لما بدأت به وهي سور يونس وهود ويوسف وإبراهيم والحجر مما يمكن أن يكون قرينة قوية إضافية على مكيتها والله أعلم. والروايات التي تذكر مكية السورة تذكر أن بعض آياتها مدنية مع شيء من الاختلاف حيث يذكر بعضها أن من أول السورة إلى الآية [30] مدنيّ والباقي مكيّ، ويذكر بعضها أن الآيتين [31 و 43] مدنيتان وبعضها أن الآيات [11- 13]

[سورة الرعد (13) : الآيات 1 إلى 4]

مدنيات «1» . وأسلوب هذه الآيات جميعها ومضامينها وانسجامها في سياقها نظما وموضوعا يسوغ الشك في هذه الروايات أيضا. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الرعد (13) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) . (1) صنوان: جمع صنو وهو المثيل والمعادل. وقال المفسرون في معنى الكلمة النخلات العديدة أو الشجرات العديدة التي هي من أصل واحد. وما لم يكن كذلك فهو غير صنوان. بدأت السورة بحروف الألف واللام والميم والراء وقد روى المفسرون أنها ترمز إلى جملة (أنا الله أعلم وأرى) وزادوا (أعلم) لأن في الحروف قيما زائدة على ما في مطالع السور السابقة. ونحن نرجّح كما رجّحنا في أمثالها أنها للتنبيه والاسترعاء. وقد أعقبت الحروف إشارة تنويهية إلى آيات الله التي أنزلها الله على نبيه بالحق. وتنديد بأكثر الناس الذين لا يؤمنون بها وهذا مماثل لأكثر المطالع المماثلة. ثم أخذت الآيات تلفت أنظار السامعين إلى كون الله العجيب في سمائه

_ (1) انظر كتب تفسير البغوي والخازن والطبرسي والقاسمي.

وأرضه، وشمسه وقمره، وليله ونهاره، وجباله وأنهاره، وجنّات الأعناب والنخيل والزرع التي تكون في أراض متجاورة والتي يكون من شجرها ما يمتّ إلى أصل واحد ويسقي الجميع بماء واحد ويتفاضل مع ذلك في الأكل والطعم. وتقرر أن الله إنما يفضل هذا لقوم رزقوا العقل السليم والفكر اليقظ والنيّة الحسنة ليروا آيات الله الباهرة الدّالة على وجوده وقدرته وحكمته واستحقاقه للعبودية وصدق الدعوة إليه ووجوب الإيمان بأن الله لم يخلق هذا عبثا وأنه لا بدّ للناس من رجعة إليه والوقوف بين يديه. وقد جاءت الآيات مقدمة وتمهيدا لما يأتي بعدها مما هو مألوف في النظم القرآني وجاءت مطلعا جامعا ورائعا من شأنه أن يسترعي الأسماع والأذهان وأن ينفذ إلى العقول والقلوب. وهي ليست الأولى من بابها فقد سبق مثلها في سور أخرى. ومردّ التكرار هو تكرر المناسبات والمواقف ولقد سبق التعليق على ما احتوته من تقريرات وبخاصة موضوع اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وموضوع ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ بما يغني عن تعليق جديد. وجمل إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وإِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ قد تكررت أو تكرر معناها في أمثال هذه الآيات التي وردت في السور السابقة ومن ذلك سورتا النحل الآيات [11- 13] والروم الآيات [21- 24] . وينطوي فيها كما هو المتبادر تنويه بالعقلاء والمتفكرين الذين تؤهلهم عقولهم ومداركهم وتفكيرهم لتدبر نواميس الله في كونه وتفهمها تنويها ينطوي في ما يتبادر لنا على تحميلهم مسؤولية ذلك. ثم حثّ للسامعين والناس عامّة في كل وقت ومكان على تدبّر هذه النواميس وتفهمها بكل وسيلة وطريقة. وينطوي في ذلك وجوب دراستها للانتفاع بها على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة. هذا وللصوفيين تفسير عجيب للآية الثالثة جاء فيه: «هو الذي بسط الأرض وجعل فيها أوتادا من أوليائه وسادة من عبيده. فإليهم الملجأ وبهم النجاة. فمن

[سورة الرعد (13) : الآيات 5 إلى 7]

ضرب في الأرض يقصدهم فاز ونجا ومن كان بغيته لغيرهم خاب وخسر» «1» . والصوفية وأهل الطرق يقصدون بالأوتاد أقطابهم وزعماءهم. وفي التفسير كما هو ظاهر شطح يبتعد به المفسر عن معنى العبارة القرآنية الواضحة الصريحة الدلالة التي تكرر مثلها كثيرا في القرآن للتدليل على قدرة الله ومشاهد وحدانيته وعظمته في كونه ليستخرج من الآية تكأة للألقاب الصوفية وليجعل أوتاد الصوفيين وأقطابهم مرجعا للبشر وأملا في كشف الضرّ والفوز والنجاة وفي هذا ما فيه من شرك يخرج به المؤمن من ربقة إيمانه والعياذ بالله. [سورة الرعد (13) : الآيات 5 الى 7] وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7) . (1) المثلات: الأمثال. والمراد منها عقوبات الله في الأمم السابقة. وفي هذه الآيات تنديد بالكفار الذين يأخذ المرء أشد العجب من مواقفهم وأقوالهم بالرغم عما في كون الله العظيم من آيات باهرة مقنعة على النحو التالي: أولا: يتساءلون تساؤل المنكر عمّا إذا كانوا حقيقة سيخلقون من جديد بعد أن يصبحوا ترابا، مما لا يصدر من الكفّار بالله ولقائه. وسيجزون على ذلك بالأغلال في أعناقهم وبالنار التي يخلدون فيها. ثانيا: لا يفتأون يستعجلون السيء دون الحسن مما يوعدون وهو عذاب الله استعجال المستخفّ مع ما يعرفون من عقوبات الله السابقة في أمثالهم. ولقد جرى

_ (1) التفسير والمفسرون ج 3 ص 54.

الله على التسامح مع الناس فيما يصدر منهم من ظلم وبغي. ولكنه إذا عاقب فإن عقابه يكون شديدا قاصما. ثالثا: وهم لا يزالون يتحدّون النبي صلى الله عليه وسلم بآية تنزل عليه من ربّه ومعجزة تقع على يده حتى يؤمنوا ويستجيبوا مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس إلا داعيا إلى الله منذرا بعذابه مبشرا بثوابه. وليس في دعوته شذوذ يحتاج إلى البرهنة عليه بالآيات، كما أنه ليس في رسالته بدعا فقد جرت سنة الله على إرسال الرسل الهداة المنذرين إلى أقوامهم من قبله. وفي الآيات صور مما كان يقع من الكفار من مشاقة وعناد وتحدّ كما هو واضح. وأسلوبها مطلق الحكاية والتنديد. وقد تكررت حكاية أمثالها مرات عديدة لأنها كانت تتكرر وقوعا. وفيها ردود تنديدية وإنذارية كأمثالها السابقة. وقد احتوت الفقرة الأخيرة من الآية الأخيرة بالإضافة إلى الردّ تطمينا وتسرية عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا مما تكرر ذلك في المواقف المماثلة. ولا يروي المفسرون رواية خاصة في نزول الآيات. ويجوز أن تكون من باب حكاية حال الكفار كما يجوز أن تكون حكاية لمشهد من مشاهد المواقف الجدلية الوجاهية التي كانت تقع بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار. ولعلّ في الآيات التالية بعض القرائن على ذلك. وقد أوّلنا تعبير وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ بما أوّلناه به آنفا لأن هذا هو المتّسق مع روح الآيات القرآنية بوجه عام. وهو ما عليه الجمهور أيضا. ولقد أورد الطبرسي وهو من مفسري الشيعة في سياق الآية الأخيرة حديثا عن ابن عباس جاء فيه: «أنه لما نزلت الآية قال رسول الله: أنا المنذر وعليّ الهادي من بعدي يا عليّ بك يهتدي المهتدون» وحديثا آخر قال إنه رواه الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتاب «شواهد التنزيل» عن أبي بردة الأسلمي جاء فيه: «إنّ رسول الله دعا بالطهور وعنده عليّ بن أبي طالب فأخذ بيد عليّ بعد ما تطهّر فألزمها بصدره ثم قال: إنما أنت منذر ثم ردّها إلى صدر عليّ ثم قال: ولكلّ قوم هاد ثم

[سورة الرعد (13) : الآيات 8 إلى 13]

قال إنك منارة الأنام وغاية الهدى وأمير القرى وأشهد على ذلك إنك كذلك» . والتكلف والهوى الحزبي بارزان على هذه الأحاديث شأنها شأن أحاديث وروايات كثيرة سبق إيرادها والتعليق عليها، ولقد أورد ابن كثير هذه الأحاديث وقال إن فيها نكارة شديدة. [سورة الرعد (13) : الآيات 8 الى 13] اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) . (1) تغيض: تنقص وتشحّ. (2) سارب: سائر وذاهب في طريقه. (3) معقّبات: موكلون يتعاقبون على مراقبته. (4) من أمر الله: بمعنى بأمر الله. (5) وال: ملجأ وولي. (6) شديد المحال: شديد الأخذ، أو شديد العذاب، أو شديد الحيلة والكيد والمكر والخصومة. في هذه الآيات: 1- تقرير بإحاطة علم الله بكل شيء: فهو يعلم ما تحمل كل أنثى في رحمها

وما يطرأ على أرحام الإناث من أسباب الولادة والعقم والزيادة والنقص. وكل شيء مقدر من لدنه بمقدار يجري وفقه. وهو يعلم بكل حاضر وغائب وظاهر وخفي. ولا فرق في علمه بين ما يقوله الناس سرّا أو جهرا وبين ما يعملونه وهم مستخفون في ظلال الليل أو ظاهرون متحركون في النهار. وله على كل امرئ مراقبون وحفظة من أمامه وخلفه يراقبون حركاته وسكناته بأمر الله ومهيأون لتنفيذ أمر الله فيه. 2- وإشارة إلى خضوع الظواهر الجوية لمشيئته وتصريفه: فالبرق الذي يرى الناس فيه ما يخيفهم ويطمعهم إنما يرونه بأمره ويسير بتسييره. والسحب المثقلة بالماء إنما تنشأ وتتألف بتقديره. والرعد المثير لفزع الناس هو خاضع لهيبته مسبّح بحمده، والملائكة الذين لهم في النفوس الصور العظيمة هم مستشعرون دائما بخوفه، وهو الذي يرسل الصواعق من السماء فتصيب من تصيب بتقديره ومشيئته. 3- وتعقيب تنديدي بالذين يجادلون في الله وهو المحيط بعلمه المطلق في تصرفه الذي يخضع له كل قوى الكون. وإنذار لهم بنقمة الله وبطشه. فإنه شديد الحول والكيد والقوّة. 4- والفقرتان الثانية والرابعة من الآية الرابعة استطراديتان فيما هو المتبادر. فالله الذي له على كل امرئ مراقبون وحفظة قد جعل تغيير ما عليه أي قوم من حالات وأطوار منوطا بما يبدو في خاصة أنفسهم من تغير. فإذا ما استحق قوم نقمة الله بسبب سوء تصرفهم فلا يمكن أن يكون لها دافع ولا راد، ولا يمكن أن يكون لهم ناصرون وأولياء ومعاذ من دونه مما ينطوي فيه إنذار قاصم لهم. ويروي المفسرون «1» بعض روايات في نزول بعض هذه الآيات منها أن رسول الله أرسل يدعو إليه أحد عتاة العرب وفراعنتهم فلما قال له الرسول (رسول الله يدعوك) قال وما رسول الله وما الله أمن ذهب هو أم من فضة أم من لؤلؤ. فرجع الرسول إلى النبي فأمره بالعودة إليه ثانية ودعوته ففعل فكرر مقالته فأمر بالعودة إليه

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن والطبرسي وابن كثير وغيرهم.

ثالثة فكرر مقالته فلم يلبث أن بعث الله سبحانه حيال رأسه وهو يتكلم ويجادل فرعدت ثم وقعت منها صاعقة ذهبت بقحف رأسه فأنزل الله وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ ومنها أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة قدما على رسول الله فسأله عامر ماذا يجعل له إذا هو اتّبعه وطلب أن يكون له المشرق وللنبي المغرب أو الوبر وللنبي المدر أو يكون الأمر مشتركا بينهما فأتى النبي فقال له أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا فقال له رسول الله يأبى الله عليك وأبناء قيلة- أي الأوس والخزرج- وقد حاولا أن يجدا غرة منه لقتله فمنع الله رسوله فخرجا يجمعان الناس لحربه فأرسل الله صاعقة فأحرقت أربد وطاعونا أهلك عامرا. فأنزل الله هذه الآية أو الآية السابقة لها أو الاثنتين معا. ومما جاء في الروايات أن جملة لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ عنت رسول الله حين حفظه الله من الرجلين الذين تآمرا على قتله. ولسنا نرى تناسبا منطقيا بين الروايات وبين الآيات كسبب للنزول. ويلحظ أن الآيات منسجمة مع بعضها كل الانسجام ومنسجمة في الوقت نفسه مع الآيات السابقة بحيث تبدو السلسلة وحدة تامة. لذلك فنحن نتوقف في صحة الروايات كسبب لنزول الآيات ونرجّح أن الآيات استمرار للسياق وتعقيب عليه. كأنما أريد القول بها والله أعلم أن الكفار الذين كانوا موضوع الكلام في الآيات السابقة يجادلون في الله ويستعجلون عقابه ويشكّون في لقائه ويتحدّون رسوله بالمعجزات في حين أن الآيات والبراهين على عظمته وقدرته وجبروته وإحاطته بهم قائمة في كل شيء يشاهدونه في الكون وفي أنفسهم. والروايات مدنية، وتقتضي أن تكون الآيات مدنية مع أن الأسلوب المكي قوي البروز عليها بالإضافة إلى انسجامها الشديد بالآيات السابقة لها على ما نبّهنا عليه ولعل الروايات من أسباب رواية مدنية السورة. ومن المحتمل أن تكون الأحداث التي ترويها الروايات قد وقعت فعلا وأن

تكون الآيات تليت من قبيل الاستشهاد حين حلّ عذاب الله بالكافرين فالتبس الأمر على الرواة والله أعلم. ومحتويات الآيات مما تكرر متفرقا ومجتمعا في مواضع عديدة لتكرر المواقف. وهي هنا مجموعة رائعة قوية النفوذ إلى العقول والقلوب كما هو شأن مطلع السورة. وقد تكون بسبيل ما ضمناه من الموقف الجدلي الوجاهي بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار. وقد أورد المفسرون ورووا بعض الأقوال والتعليقات على بعض الآيات «1» . ومن ذلك ما يتعلق بحمل المرأة ومدته وأيام حيضها وأيام غيض هذا الحيض مما لم نر في إيراده طائلا وفائدة. ومنها ما يتعلق بجملة لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ فيما قيل وروي في ذلك أنها تعني الجلاوزة والحرس الذين يحيط أصحاب السلطان بهم أنفسهم للمحافظة عليهم مما قدر الله أن يصيبهم بقصد بيان أن ذلك لن يجديهم إذا ما أراد الله بهم سوءا. ومنها قيل إنها عنت رسول الله حين حفظ من اللذين أرادا قتله على ما جاء في الرواية التي أوردناها آنفا. غير أن معظم التأويلات والأقوال في جانب كون المقصود من المعقبات هم الملائكة الموكلون بمراقبة الناس. وقد فسرت جملة مِنْ أَمْرِ اللَّهِ بمعنى (بإذن الله) وبذلك استقام المعنى. ونرى هذا التأويل لمدى الآية هو الأوجه من القول الأول كما هو المتبادر. ولقد علقنا على موضوع توكيل الله الملائكة لمراقبة الناس وإحصاء عملهم في سورة (ق) وأوردنا بعض الأحاديث المروية في صدد ذلك. ومن جملتها أحاديث وردت في سياق هذه الآيات. وذكرنا ما تبادر لنا من حكمة التنزيل والحديث من ذكر ذلك بالأسلوب الذي ذكر به فلا نرى ضرورة للإعادة أو الزيادة.

_ (1) انظر كتب التفسير المذكورة آنفا.

ومن ذلك في صدد تسبيح الرعد، حيث روى بعضهم أن الرعد اسم لملك من ملائكة الله وبعضهم أنه زفرة ملك السحاب وهو يسوقه. والقولان يعنيان أن الملك هو المسبّح لله تعالى. وقد أورد بعضهم حديثا رواه الترمذي عن ابن عباس في تأكيد ذلك حيث جاء فيه: «أقبلت يهود إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا يا أبا القاسم أخبرنا عن الرعد ما هو؟ قال: ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله قالوا فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر قالوا صدقت» «1» . ويظهر أن هناك من لم يثبت عنده هذا الحديث حيث قال الطبرسي في تخريج الجملة إن الرعد يدل بنفسه على عظمة الله وصولته وهذا معنى تسبيحه. وقال الخازن إن صوت الرعد يسبّح الله عزّ وجلّ لأن التسبيح والتقديس عبارة عن تنزيه الله عز وجل عن جميع النقائص. ووجود هذا الصوت المسموع من الرعد وحدوثه دليل على وجود موجود خالق قادر متعال عن النقائص فهذا تسبيح ومن ذلك قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: 44] وإلى هذا قال الخازن قولا آخر وهو أن المراد من تسبيح الرعد أن من سمعه سبّح الله فلهذا المعنى أضيف التسبيح إليه، ونحن نميل إلى الأخذ بهذه الأقوال الظاهرة وجاهتها في تأويل وتخريج الجملة القرآنية. ومن ذلك في تعريف الصواعق حيث قالوا إنها نار تنزل من السماء فتحرق ما تصادفه من مواد قابلة للاحتراق. ومما جاء في كشاف الزمخشري بصيغة قالوا إنها نار تنقدح من السحاب إذا اصطكت بأجرامه وهي نار لا تمرّ بشيء إلّا أتت عليه إلّا أنها مع حدتها سريعة الخمود. وهي من فعل صعق الذي يفيد شدة الذهول أو الموت المفاجئ بسبب حادث أو صوت قوي يشهده المرء أو يسمعه. ومن هذا ما وصف به موسى حينما تجلّى ربّه للجبل بهذه الجملة فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً [الأعراف: 143] وما وصف به ما يطرأ على

_ (1) التاج ج 4 ص 135، وقد قال المؤولون إن مخاريق النار هي البرق.

تعليق على جملة إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له

البشر حينما يسمعون نفخ الصور بهذه الجملة وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزمر: 68] التعريف مقارب للمعروف من الصاعقة. وعلى كل حال فالسمعون للقرآن يسمعون اسم ظاهرة كونية ويعرفون مداها بالمشاهدة والسماع بدون ريب. ومن ذلك في صدد كلمة البرق حيث أوردوا ما أوردناه في سياق الآية [24] من سورة الروم التي وردت الكلمة فيها لأول مرة. وعلقنا على ما أوردوه وذكرنا ما تبادر لنا أنه الصواب إن شاء الله. وإن كان من شيء نقوله هنا في مناسبة ذكر الرعد والصواعق والبرق معا فهو أن هذه الظواهر الكونية مما كان ولا يزال يثير في نفوس الناس رهبة وهيبة وتساؤلا. وإن حكمة التنزيل اقتضت ذكرها هنا بالأسلوب الذي وردت به بسبيل التدليل على كونها مما يخضع لأمر الله وتسييره على ما ذكرناه في شرحها وأسوة بسائر مشاهد كون الله في السموات والأرض وما بينهما على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. وأن الأولى أن تبقى في هذا النطاق دون تزيد لا طائل ولا ضرورة له في مقام الهدف القرآني. والله تعالى أعلم. تعليق على جملة إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ والجملة الأولى جديرة بالتنويه لما تحتويه من تقرير لناموس إلهي اجتماعي يتقلّب البشر وفاقه بين النعم والنقم والصلاح والفساد وبالتالي لما تحتويه من تلقين جليل مستمر المدى حيث قصدت تقرير كون النعم والنقم والخيرات والويلات لا تأتي على الناس عفوا وإنما هي منوطة بسلوكهم وسيرتهم. فإذا كانوا متمتعين بالقوة والعزّة والنجاح والصلاح فإنما يكون ذلك بسبب ما يقوم عليه سلوكهم من أسس الاستقامة والحق فلا تتبدل حالتهم من الحسن إلى السيء إلا إذا انحرفوا عن الطريق القويم الذي يسيرون فيه. وإذا كانوا ضعافا يقاسون الويل والذلّ والفقر

[سورة الرعد (13) : الآيات 14 إلى 15]

والفوضى فإنما يكون هذا بسبب ما يقوم عليه سلوكهم من انحراف وإهمال وفساد فلا تتبدل حالتهم من السيء إلى الحسن إلا إذا عدلوا عمّا هم فيه وساروا في طريق الصلاح والاستقامة. وفي هذا ما هو ظاهر من الاتساق مع حقائق الأشياء. والإطلاق في الجملة يجعل مداها المشروح شاملا لجميع الناس والبيئات والطبقات والملل والنحل والحالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ولذلك فإنها تصحّ أن تعد من أمهات وجائز الحكم والأمثال والشواهد القرآنية البليغة. وفي سورة الأنفال آية فيها بعض المشابهة لهذه وهي: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ. [53] على أن الجملة التي نحن في صددها أشمل بسبب إطلاقها الذي يتناول حالتي النعمة والنقمة معا. وفي الجملة كما هو واضح صراحة بأن الناس يتحملون مسؤولية كسبهم بقابليتهم لتغيير ما في أنفسهم بإرادتهم مما هو متّسق مع التقريرات القرآنية التي نبّهنا عليها في المناسبات العديدة السابقة. أما الجملة الثانية فليس فيها ما يفيد أن إرادة الله تعالى بقوم سوءا تكون جزافا وبدون سبب. بل إن الجملة الأولى من الآية تمنع ورود هذا الخاطر. وكل ما أرادت تقريره هو عدم قدرة أحد على منع السوء الذي تشاء حكمته إنزاله بقوم ما. وروح الجملة الأولى قوية الإلهام بأن ذلك إنما يكون حين ينحرف القوم عن الحق والهدى إلى البغي والضلال فيغير الله ما بهم وينزل نقمته عليهم. وهناك آيات فيها توضيح وتفسير ودعم حاسم لذلك منها آية سورة القصص هذه: وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59) وآية سورة هود هذه: وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (117) . [سورة الرعد (13) : الآيات 14 الى 15] لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15) .

(1) ضلال: هنا بمعنى الباطل الذي لا غناء منه ولا نفع فيه. (2) الغدوّ: أول النهار. (3) الآصال: جمع أصيل وهو آخر النهار. في هاتين الآيتين: 1- تقرير على سبيل التنديد بأن الدعوة إلى الله هي الدعوة للحقّ. فمن يدعو إليه إنما يدعو إلى حقّ. ومن يدعوه إنما يدعو حقا سميعا مستجيبا قادرا مطلق التصرف. في حين أن غيره من المعبودات التي يدعوها الكفار لا يستجيبون لهم بشيء لعجزهم عن أي شيء. وأن مثل دعائهم إياهم كمثل العطشان الذي يدعو الماء إليه بيده ليرتفع ويصل إلى فمه من نفسه وإنه لن يفعل لأنه جماد عاجز لا يسمع ولا يشعر. وهكذا يذهب دعاء الكفار هباء ولا يكون منه إلا الخسارة والحسرة لهم. 2- وتعقيب على ذلك يحتوي تقريرا بخضوع كل شيء لله. فله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها ويسجد له ظلال كل شيء فيهما أيضا في الغدو والآصال. ولقد خمّن المفسر الخازن أن يكون الضمير في (له) عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأن تكون الآية الأولى بسبيل تقرير كون دعوة النبي على عامر وأربد هي المستجابة لأنها حقّ. وفي هذا تكلف ظاهر لا يبرره روح الآية ولا نصها. والكلام في الآيات السابقة عن الله عز وجل ومظاهر قدرته وعظمة ملكوته ونواميسه. والمتبادر أن الآيتين هما استمرار للسياق. وعلى سبيل المثال بين الله عز وجل وبين الذين يدعوهم المشركون من دونه مقايسة تنطوي على التنديد والتسفيه.

[سورة الرعد (13) : آية 16]

ولقد تعددت تخريجات المؤوّلين والمفسرين لجملة طَوْعاً وَكَرْهاً. منها أن الملائكة والمؤمنين يسجدون طوعا والمنافقين يسجدون كرها. ومنها أن الكفار المشركين يسجدون بقوة السيف، ومنها أن هؤلاء يسجدون لله مضطرين حين ما يحيق بهم الخطر ويدعون الله مخلصين له الدين كي ينجيهم مما حكته آيات عديدة في سور سابقة «1» . والذي يتبادر لنا أن التعبير أسلوبي بسبيل تقرير خضوع كل شيء في السموات والأرض لتصريف الله ومشيئته. وفي هذا يتساوى كل ما في الكون من طائعين وعصاة ومن جماد ونبات ومعالم علوية وسفلية. وقد قررت هذا آيات عديدة جاءت مطلقة منها ما مرّ تفسيره «2» . والمتبادر أن ذكر (ظلالهم) هو بقصد توكيد ذلك الخضوع الشامل. وجملة بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ يمكن أن تكون في صدد السجود. كما يمكن أن تكون في صدد الظلال. فإذا صحّ الاحتمال الأول فيكون التعبير أسلوبيا قصد به جميع الأوقات لأن هذا هو ما تقتضيه روح الآية التي هي بسبيل تقرير خضوع كل شيء لله في كل وقت. وإذا صحّ الاحتمال الثاني فيكون بقصد تقرير كون الظلال المرئية المتحركة في غدوّ النهار وأصيله للأشياء والناس هي في حركاتها وسكناتها خاضعة لتصريف الله تعالى كما تخضع له أصولها. [سورة الرعد (13) : آية 16] قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16) .

_ (1) انظر آيات سورة يونس [12 و 32] والعنكبوت [65] . [.....] (2) انظر مثلا آيات سورة النحل [48- 49] .

[سورة الرعد (13) : آية 17]

الخطاب في الآية موجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: 1- أمر بالتساؤل عمّن هو ربّ السموات والأرض وبالإجابة على ذلك بأنه هو الله. 2- وأمر ثان بتوجيه أسئلة تنطوي على التنديد والتسفيه إلى المشركين عمّا في اتخاذهم غيره أولياء ونصراء وشركاء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا فضلا عن غيرهم من سخف. وعما إذا كان يصح في عقل عاقل أن يسوى بين الأعمى والبصير وبين الظلمات والنور حتى تصحّ التسوية بين القادر والعاجز. وعما إذا كان شركاؤهم قد خلقوا شيئا مثل ما خلق الله فالتبس الأمر عليهم ورأوا فيهم قدرة أو مزية. 3- وأمر ثالث بتقرير كون الله وحده هو خالق كل شيء وأنه هو الإله المتفرّد في الألوهية القهّار الذي يعنو لعظمته كل شيء. والآية متصلة بالسياق كذلك كما هو المتبادر. وقد يكون فيها قرينة أخرى على أن السياق هو بسبيل مشهد من مشاهد الجدل الوجاهي بين النبي والمشركين. وأسلوبها جدلي قوي وملزم كما هو ظاهر. والأمر بالإجابة على السؤال الأول من قبل النبي وإن كان يبدو بذاته غير ملزم للمشركين في سياق الجدل فإن ما جاء في آيات كثيرة مرّت أمثلة منها في سورة يونس [31] والمؤمنون [84- 86] والزخرف [9 و 87] من حكاية جوابهم واعترافهم بأن خالقهم وخالق الكون هو الله يمكن أن يكون قرينة على أن هذا الجواب قد جاء كتقرير حقيقة لا يكابر فيها الفريق الآخر. وهذا سائغ مألوف في مواقف الجدل والمناظرة. وفي مضمون بقية الآية قرينة قوية على هذا التوجيه. [سورة الرعد (13) : آية 17] أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) .

(1) الزبد: الرغوة والحبب الذي ينعقد على وجه السوائل عند شدّة حركتها أو غليانها. (2) رابيا: عاليا على السطح. (3) جفاء: هباء. وهي من جفأه السيل أي رمى به. في هذه الآية تمثيل للحقّ والباطل وعاقبة كل منهما: فالله ينزل من السماء الماء فتسيل به الوديان بالقدر المقدر له فيعلو على سطحه من شدّة الحركة والجريان زبد ورغوة. والمعدن الذي يوقد الناس تحته النار لصنع الحلي والأدوات الأخرى يظهر على سطحه كذلك زبد وحبب من شدّة الغليان والحرارة. فكما أن الرغوة والزبد والحبب لا يلبث أن يزول حين خمود حركة السيل أو الحرارة ولا يبقى إلّا النافع الحقيقيّ من الماء أو المعدن فكذلك الباطل الذي ليس هو إلّا كالرغوة والزبد لا أصل له ولا مادة ولا يحصل إلّا في الحركة الصاخبة فإنه لا يلبث أن يزول ويزهق حين الموازنة الهادئة ولا يبقى ثابتا قائما إلّا الحقّ الذي هو النافع الحقيقي. والآية متصلة بالسياق، والتمثيل متصل بعقيدتي التوحيد والشرك اللتين ووزن بينهما في الآية السابقة وندد فيها بالمشركين الذين يتخذون شركاء لا نفع ولا قدرة لهم كما هو المتبادر. والتمثيل قوي مقتطع من مشاهد السامعين ومألوفهم كما هو ظاهر، وفي الآية مثل من روائع الأمثال التي احتوى القرآن طائفة منها مرّت أمثلة منها في السور السابقة. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا ورد في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت

[سورة الرعد (13) : آية 18]

منها أجادب فأمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا وأصابت طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقّه في دين الله ونفعه الله بما بعثني ونفع به فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» . وينطوي في الحديث صورة تطبيقية للمثل الذي احتوته الآية كما هو المتبادر. والتمثيل وإن كان متصلا من حيث السياق بعقيدتي التوحيد والشرك وما في الأولى من حقّ قائم نافع ودائم وفي الثانية من باطل وسخف ووهم فإنه بإطلاقه يصحّ أن يكون عامّ التطبيق شامل التلقين في كل متناقضين كالحقّ والباطل والصدق والكذب والإيمان والنفاق والكفر والجد والتهريج والعقل والهوى والعلم والجهل والنظام والفوضى إلخ وفي وجوب التمسك بالأولى دون الثانية وتأييدها. [سورة الرعد (13) : آية 18] لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18) . وفي هذه الآية: 1- بشرى للذين استجابوا إلى دعوة الله فآمنوا به وصدقوا برسالة رسوله، فلهم العاقبة الحسنى. 2- وتنديد وإنذار للذين لم يستجيبوا: فإن لهم سوء الحساب ومأواهم جهنّم وبئست هي من مضجع ومهاد. وأن مصيرهم من السوء والهول بحيث لو كان لهم ما في الأرض ومثله لهان عليهم أن يفدوا به أنفسهم!. وظاهر أن الآية متصلة بالسياق ومعقبة عليه. ومستهدفة لتثبيت المؤمنين وتطمينهم وإرهاب الكفّار المشركين وحملهم على الندم والارعواء قبل فوات الوقت.

[سورة الرعد (13) : الآيات 19 إلى 25]

[سورة الرعد (13) : الآيات 19 الى 25] أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) . (1) يدرأون: يدفعون. تساءلت الآية الأولى تساؤلا استنكاريا عمّا إذا كان يصحّ التسوية بين الذي رأى نور الحق فشعّ في قلبه فاهتدى وتيقّن بأن ما ينزل على النبي إنما هو من الله، وبين أعمى القلب والبصيرة ثم قررت: إنما يعقل هذا ويتذكر به ذوو العقول السليمة. ثم احتوت الآيات التالية وصفا قويّا محببا لمن يشع الإيمان في قلوبهم ويهتدوا بهدى الله ورسوله. فهم الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون ما ارتبطوا به من مواثيق. ويصلون ما أمر الله به أن يوصل من رحم وبرّ ومعونة وتسديد وإصلاح. ويحسبون حساب الوقوف بين يدي الله ويستشعرون خشيته. ويصبرون على الشدائد والمواقف الصعاب في سبيل الله وابتغاء رضوانه وحسب. ويقومون بواجباتهم التعبديّة. وينفقون المال في السرّ والعلن في وجوه البرّ والمعروف. ويتقون عواقب الهنوات والسيئات ويدفعونها بالحسنات وأعمال الخير. فهؤلاء لهم خير الجزاء والتكريم في الآخرة ولمن سار على طريقتهم القويمة من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم. حيث يدخلون الجنة ويتلقون تحية الملائكة من كلّ صوب. واحتوت الآية الأخيرة بالمقابلة وصفا قويا لمن أظلمت قلوبهم وخبثت

تعليق على مجموعة الآيات أفمن يعلم أنما أنزل ... إلى آخر الآية [25]

سرائرهم: فهم الذين ينقضون عهد الله ويقطعون ما أمر به أن يوصل ويفسدون في الأرض، ولهم اللعنة من الله وسوء المنزل والمصير في الآخرة. تعليق على مجموعة الآيات أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ ... إلى آخر الآية [25] ذكر البغوي بلفظ (قيل) إن الآية الأولى نزلت في حمزة وأبي جهل أو في عمّار وأبي جهل على سبيل المقايسة. وروح الآية ونصّها يلهمان أنها والآيات التي تأتي بعدها وحدة تامة. وروح الآيات ونصّها يلهمان بقوة أنها على سبيل المقايسة بين المؤمنين الذين استجابوا لربّهم والكافرين الذين لم يستجيبوا بصورة عامة وأنها بالتالي معقبة على ما قبلها. والراجح أن ما جاء في وصف الأولين هو وصف لواقع حال المؤمنين الأولين في العهد المكي. وقد تكرر مثل ذلك في سور سابقة على ما نبّهنا عليه في مناسباتها. وفي الوصف صورة رائعة لما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأولون من استغراق في دين الله وما أوجبه عليهم من واجبات تعبديّة واجتماعية وسلوكيّة. ويتبادر لنا أن حكمة مجيء الأفعال فيها بصيغة المضارع هي ليكون ما فيها عام المدى مستمر التلقين. والمجموعة ليست الأولى من بابها حيث اقتضت حكمة التنزيل تكرار ما فيها بتكرار المواقف. وفيها تنويه بأثر الإيمان والكفر في سلوك الناس وصلاح المجتمع وفساده. وفيها جماع أهداف الدعوة الإسلامية والصفات الصالحة الشخصية والاجتماعية التي يمكن أن يقوم عليها أفضل مجتمع إنساني إذا اتصف أفراده أو غالبهم بها، كما فيها ما فيه سبب فساد الأرض والمجتمع. ويصح أن تعدّ من أجل ذلك من روائع المجموعات القرآنية التي امتاز بها القرآن في الأسلوب وبعد المدى. وروح الآيات تلهم أن الصفات التي وصف بها المؤمنون هي ما ينبغي أن يكون عليه المسلمون في كل دورة، أو هي الصفات الطبيعية التي ينبغي أن يتصفوا بها. وهذا يؤدي إلى القول بأن المسلم الذي لا يتّصف بها لا يكون قد أحسن

إدراك أهداف الرسالة الإسلامية وأخلص في الاندماج فيها. وجملة وَمَنْ صَلَحَ قيد احترازي كما هو المتبادر لإخراج غير الصالحين من تبعية ومرتبة الصالحين من المؤمنين مهما كانت صلات القربى بينهم وشيجة. ومثل هذا القيد ورد في سور سبق تفسيرها مثل آية سورة غافر [8] وآية سورة الذاريات [21] حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت توكيد هذا المعنى مرة بعد مرة. وهي حكمة جليلة المدى والمغزى بدون ريب. ومما انطوى فيها كما يتبادر حضّ ذوي الصالحين من آباء وأزواج وذرية على اللحاق بأعمالهم بالصالحين منهم لينالوا مرتبتهم عند الله تعالى. ويتبادر لنا معنى عظيم لمدى تعبير الوفاء بعهد الله في هذا المقام من حيث إن المرء بدخوله في دين الله يكون قد عاهد ربّه على القيام بجميع ما أمر به واجتناب جميع ما نهى عنه من أخلاق شخصية واجتماعية وواجبات شخصية واجتماعية أيضا. ولقد قال البغوي في سياق تفسير جملة وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ إن الأكثرية على أن الجملة هي في صدد صلة الرحم ثم أخذ يورد أحاديث نبويّة في ذلك رواها بطرقه منها حديث عن عبد الرّحمن بن عوف قال: «سمعت رسول الله يحكي ربّه عزّ وجلّ قال أنا الله والرّحمن خلقت الرحم وشققت لها من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته» «1» . وحديث عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خلق الله الخلق فلمّا فرغ منه قامت الرحم فأخذت بحقوي الرّحمن فقال مه قالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك قالت بلى يا ربّ قال فذاك لك ثم قال أبو هريرة اقرأوا إن شئتم فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ [محمد: 22] » «2» . وحديث عن عبد الرّحمن بن عوف قال: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ثلاثة تحت العرش يوم

_ (1) روى هذا الحديث الترمذي وأبو داود أيضا. انظر التاج ج 5 ص 10. (2) روى هذا الحديث الشيخان أيضا، انظر المصدر نفسه ص 9.

القيامة يحاجّ العباد له ظهر وبطن والأمانة والرحم تنادي ألا من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله» «1» . وحديث عن أنس بن مالك قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحبّ أن يبسط الله في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه» «2» . وحديث عن أبي بكرة قال: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما من ذنب أحرى أن يعجل الله لصاحبه بالعقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم» . وحديث عن أبي أيوب الأنصاري قال: «إنّ أعرابيا عرض لرسول الله في مسير له فقال أخبرني بما يقرّبني من الجنّة ويباعدني من النار، قال: تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم» «3» . وحديث عن عبد الله بن عمرو قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس الواصل بالمكافىء ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها» «4» . وصلة الرحم من الأعمال المبرورة التي يجب أن يتّصف بها المسلم بدون ريب. وفي الأحاديث المروية تلقينات واجبة الالتزام في ذلك. ومع ذلك فالذي يتبادر لنا من إطلاقه العبارة القرآنية أنها أعمّ وأشمل من صلة الرحم وأنها تتناول كل ما أمر الله به أن يوصل ولا يقطع بصورة عامة. ولقد رأينا الطبرسي وهو مفسّر شيعي يروي في سياق العبارة تأويلا عن موسى بن جعفر الكاظم أحد الأئمة أن الأمر الذي في الآية هو في صدد رحم آل محمد وأنها معلّقة بالعرش تقول اللهمّ صل من وصلني واقطع من قطعني. وهي تجري في كل رحم. والتكلّف والهوى الحزبي بارزان على الرواية كما هو ظاهر. ولقد أورد البغوي في سياق جملة وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ حديثا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «إذا عملت سيئة فاعل بجنبها حسنة تمحها السرّ بالسرّ والعلانية بالعلانية» . وحديثا آخر عن عقبة بن عامر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن

_ (1) روى مسلم شيئا من هذا الحديث عن عائشة قالت: «قال النبي صلى الله عليه وسلم: الرحم معلّقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله» . انظر المصدر السابق نفسه ص 10. (2) هذا الحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي، انظر المصدر السابق نفسه، ص 9. (3) روى هذا الحديث بصيغة مقاربة الشيخان، انظر المصدر السابق نفسه ص 8- 9. (4) روى هذا الحديث البخاري وأبو داود أيضا انظر المصدر السابق نفسه ص 9.

[سورة الرعد (13) : آية 26]

مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل كانت عليه درع ضيقة قد خنقته ثم عمل حسنة فانفكّت عنه حلقة ثم عمل أخرى فانفكّت أخرى حتى يخرج إلى الأرض» . حيث ينطوي في الحديثين تلقين وتأديب نبويان حكيمان. وهذا التلقين والتأديب مندمجان في جملة إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ الواردة في الآية [114] من سورة هود والتي ورد في سياقها أحاديث نبوية أخرى أوردناها في مناسبتها. ولقد ورد في سورة القصص جملة مماثلة للجملة التي نحن في صددها بسبيل الثناء والتنويه ببعض المؤمنين من أهل الكتاب حيث اقتضت حكمة التنزيل تكرار التلقين والتأديب واقتضت حكمة النبي تكرار مثل ذلك في هذه المسألة والحكمة في ذلك جليلة المدى والمغزى بدون ريب. [سورة الرعد (13) : آية 26] اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26) . عبارة الآية واضحة، والمتبادر أن تعبير وَفَرِحُوا قد عنى الذين وصفوا في الآية السابقة مباشرة بنقض ميثاق الله وقطع ما أمر الله به أن يوصل والفساد في الأرض ولعنوا بناء على ذلك وأنذروا بسوء العقبى. وقد تضمنت الآية حكاية فرح هذه الطبقة وزهوها بما تيسّر لهم من وسائل القوّة والثروة في الحياة الدنيا والتنديد بهم لاغترارهم بذلك إلى الدرجة التي أعمتهم عن الهوى وجعلتهم يرتكسون فيما ارتكسوا فيه من مواقف المناوأة لرسول الله ورسالته والبغي والفساد. ثم نبهتهم إلى الحقيقة الكبرى التي غفلوا عنها وهي أن بسط الرزق وتقتيره هما بيد الله وأن الحياة الدنيا مهما بسمت للناس فإنها ليست إلّا متاعا تافها جدا في قيمته ومدّته بالنسبة للحياة الأخرى. وبهذا الشرح تكون الآية متصلة بالسياق السابق اتصال تعقيب واستطراد وتعليل وتنديد. وننبّه على أن مثل هذا التنبيه والتنديد الذي تضمنته الآية قد تكرر في آيات

عديدة وردت في مثل المقام الذي وردت فيه هذه الآية. حيث يدل هذا على تكرر المواقف المماثلة واقتضاء حكمة التنزيل ومعالجتها بمثل هذه المعالجة القوية. ومع ما للآية من خصوصية زمنية وتنديدية فإن فيها تلقينا مستمر المدى في التنبيه على عدم الاغترار بما يتيسر للمرء من قوّة وثروة والاستغراق في ذلك استغراقا يذهله عن واجباته نحو الله والناس ويعميه عن الحقّ وفاضل الأخلاق والأعمال ويجعله يرتكس في البغي والفساد. وينسيه الحياة الأخروية التي ليست الحياة الدنيا بالنسبة إليها إلّا متاعا تافها بقيمته ومدّته. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثين عن النبيّ صلى الله عليه وسلم جاء في أحدهما: «ما الدّنيا في الآخرة إلّا كمثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليمّ فلينظر بماذا ترجع» «1» . وفي ثانهيما: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بجدي أسكّ ميت- والأسكّ الصغير الأذنين- فقال: والله للدنيا أهون على الله من هذا على أهله حين ألقوه» «2» . ويتساوق الحديثان مع ما احتوته الآية من تلقين حكيم. ومع ذلك فإن من الحقّ أن ننبّه على أن التلقين الذي احتوته الآية والأحاديث يهدف بالدرجة الأولى إلى التحذير من الاستغراق في الدنيا ومتاعها وشهواتها استغراقا ينسي الإنسان الحياة الأخرى وينسيه ربّه ويجعله ينحرف عن واجباته ويبغي ويفسد في الأرض. وليس فيه ما يمنع من فرح المسلم واغتباطه بما ييسره الله من أسباب الثروة وحسن الاستمتاع في الحياة الدنيا ولا السعي في سبيل ذلك إذا ما اتّصف بالصفات التي يجب أن يتّصف بها المسلم الصادق والتي نوّهت الآيات السابقة بالمتّصفين بها.

_ (1) روى هذا الحديث الترمذي أيضا، انظر التاج ج 5 ص 147. (2) روى هذا الحديث مسلم والترمذي أيضا بصيغة أخرى. قال راوي الحديث المستورد: «كنت مع الركب الذين وقفوا مع النبي صلى الله عليه وسلم على السخلة الميتة فقال رسول الله: أترون هذه هانت على أهلها حين ألقوها. قالوا: من هوانها ألقوها يا رسول الله؟ قال: فالدنيا على الله أهون من هذه على أهلها» . انظر المصدر نفسه ص 146.

[سورة الرعد (13) : الآيات 27 إلى 29]

[سورة الرعد (13) : الآيات 27 الى 29] وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) . (1) طوبى: روى المفسرون روايات كثيرة عن أصحاب رسول الله وتابعيهم بأن الكلمة اسم شجرة في الجنة. وأوردوا بعض الأحاديث النبوية في ذلك وإلى هذا فقد قالوا «1» في معناها اللغوي إنها بمعنى حسنى لهم وقرّة عين وفرح وغبطة وإنها من مصدر طاب وأن (طوبى لك) بمعنى أصبت خيرا وطيبا، أي هي دعاء. وإنها مؤنث أطيب مثل حسنى مؤنث أحسن. وفضلى مؤنث أفضل. وجاء في لسان العرب (العرب يقولون طوبى لك إن فعلت كذا) ونحن نرجّح أنها هنا في معناها اللغوي. ولقد وهم بعضهم فقال إنها معرّبة من العبرانية لأن فيها كلمة مقاربة لها لفظا ومعنى. وهذا لا يقتضي أن تكون معرّبة لأن في العربية والعبرانية أصولا كثيرة مشتركة لأنهما من أصل واحد. وعروبة الكلمة اشتقاقا وصيغة واضحة. وهناك روايات غريبة عن ابن عباس أنها اسم الجنة في الحبشية وعن سعيد بن مسجوع أنها اسم الجنة في الهندية. لم يرو المفسرون رواية خاصة في نزول الآيات والمتبادر أنها هي الأخرى متصلة أيضا بالسياق اتصال تعقيب وتنديد بالكفار وتنويه بالمؤمنين بالمقابلة. وفيها حكاية لما كان يتكرر من تحدي الكفار للنبي بالآيات وتطمين وتسرية له. فالكفار يظلون يتحدّون النبي بالإتيان ببرهان من ربّه على صدق دعوته. فعليه أن لا يعبأ بتعجيزهم. وأن يعلن أن الله يضلّ من يشاء وأن دعوته إنما يهدي الله إليها الذين حسنت نياتهم وطابت قلوبهم ورغبوا في الإنابة إلى الله فهم الذين تطمئن قلوبهم بذكر الله. وهو الجدير باطمئنان القلوب بذكره. فيؤمنون ويعملون الأعمال

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والقاسمي والزمخشري والطبرسي.

الصالحة. وهؤلاء لهم قرّة العين وحسن المصير والمنقلب وكل ما هو طيب. ومن الأحاديث المروية في كونها شجرة في الجنة حديث رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول الله: طوبى لمن رآني وآمن بي وطوبى لمن آمن بي ولم يرني. قال له رجل: وما طوبى؟ قال: شجرة في الجنة مسيرتها مائة عام ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها» - النص من ابن كثير- وحديث رواه الطبري بطرقه جاء فيه: «جاء أعرابيّ إلى رسول الله فقال يا رسول الله إنّ في الجنة فاكهة؟ قال: نعم. فيها شجرة تدعى طوبى هي تطابق الفردوس تشبه شجرة تدعى الجوزة لو ارتحلت جذعة من إبل أهلك ما أحاطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتاها هرما» . وهناك حديث يرويه رواة الشيعة والهوى الحزبي بارز عليه جاء فيه: «سئل رسول الله عن طوبى، قال: شجرة أصلها في داري وفرعها على أهل الجنة ثم سئل عنها مرة أخرى فقال في دار علي فقيل في ذلك فقال إن داري ودار علي في الجنة بمكان واحد» . وهذه الأحاديث وما في بابها مما لم نر ضرورة إلى استقصائه لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. وقد ورد في هذه الكتب حديث عن شجرة عظيمة في الجنة بدون أن تسمّى طوبى. وهو حديث رواه الشيخان والترمذي عن سهل بن سعد قال: «قال رسول الله: إنّ في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلّها مائة عام لا يقطعها» «1» . ومع ذلك فمن الجدير بالتنبيه أن الأحاديث التي تذكر أن شجرة في الجنة تسمّى طوبى برغم أنها لم ترد في الكتب الصحيحة ليست بسبيل تفسير الآية وإنما رويت في مناسبات أخرى وفي العهد المدني كما هو ظاهر. أما الذين خبثت سرائرهم وغلظت قلوبهم فهم الذين يقفون منها موقف المعاند المكابر المعجز المتحدي. وهؤلاء لن تفيد معهم المعجزات والبراهين لأنهم ليسوا صادقي الرغبة في الهدى. وهذه المعاني مما تكرر في المواقف المماثلة العديدة التي حكاها القرآن

_ (1) انظر التاج ج 5 ص 369.

تعليق على جملة ألا بذكر الله تطمئن القلوب

ومرّت أمثلة عديدة منها، وفي وصف الذين يهديهم الله بما وصفوا توضيح صريح يسوّغ التأويل الذي أوّلناه هنا وفي المواضع المماثلة لتعبير إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ وهو التأويل المتسق مع روح القرآن وحكمة الدعوة النبوية. ويصح أن يكون مقيدا لما جاء في بعض الآيات مطلقا لإزالة ما قد يتبادر إلى الوهم من الإطلاق. تعليق على جملة أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ وتعبير أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ قوي نافذ حقا، فالمرء الذي يتفكّر في آلاء الله ويستشعر عظمته يذكره دائما فتخشع بذكره جوارحه وتهدأ نفسه ويصغر في نظره كل ما عدا الله ويهون عنده كل ما يكون فيه من مصاعب ومشاكل وتطمئن نفسه وقلبه. ولقد علقنا على موضوع ذكر الله وما أعاره كتاب الله له من عناية بالغة وما ورد في صدد ذلك من أحاديث نبويّة في سياق سورة الأعراف فنكتفي هنا بهذه الإشارة. [سورة الرعد (13) : آية 30] كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30) . (1) متابي: مرجعي أو إنابتي وتوبتي. في الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وتضمنت التقريرات التالية: إن الله قد أرسله إلى أمته ليتلو عليهم ما أوحاه إليه ويدعوهم إلى الحقّ، ومع أنه ليس في هذا بدع ولا غرابة فإن الكفّار تحدّوه بالآيات وكذّبوا وجحدوا، وهم في الحقيقة إنما يجحدون الله الرّحمن ويقعون بذلك في التناقض لأن يعترفوا بالله. فليس عليه، والحالة هذه إلّا أن يعلن أن الرّحمن هو ربّه وأن لا إله إلّا هو وإليه وحده إنابته ومرجعه.

[سورة الرعد (13) : آية 31]

وواضح أن الآية متصلة بالسياق. وفيها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت، وقد تكرر معناها لتكرار المواقف والمناسبات. ولقد روى بعض المفسرين أن أبا جهل سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو في الحجر يدعو يا الله يا رحمن، فقال لقريش: إن محمدا يدعو إلهين يدعو الله ويدعو إلها آخر يسمّى الرّحمن ولا نعرف الرّحمن إلّا رحمن اليمامة فنزلت الآية «1» . ويلحظ أن الجملة جزء من آية متصلة بسياق سابق ولاحق مما يحمل على التوقف في الرواية كسبب لنزول الآية. ولقد روى الطبري عن مجاهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كاتب قريشا في الحديبية كتب بسم الله الرّحمن الرّحيم قالوا لا تكتب الرّحمن وما ندري ما الرّحمن لا تكتب إلّا باسمك اللهمّ فأنزل الله الآية حاكية لقولهم منددة بهم. والرواية تقتضي أن تكون الآية مدنيّة مع أن الطابع المكي قوي البروز عليها فضلا عن صلتها الوثيقة بالسياق السابق. ولقد حكت إحدى آيات سورة الفرقان سؤال المشركين الاستنكاري عن الرّحمن حينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الله ويصفه بالرحمن: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ ... [الفرقان: 60] وروى المفسرون رواية مماثلة لهذه الرواية في سياقها «2» . ورووا ذلك أيضا «3» في سياق آية سورة الإسراء هذه: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الإسراء: 110] على ما ذكرناه في سياق تفسير السورتين حيث يبدو أن المشركين ظلوا يجادلون في اسم الرّحمن بشيء في أذهانهم عنه لا يمكن التأكد منه فاقتضت حكمة التنزيل تكرار توكيد أنه اسم من أسماء الله. [سورة الرعد (13) : آية 31] وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) .

_ (1) انظر تفسير الخازن وابن كثير والبغوي. (2) انظر تفسير الخازن وابن كثير والبغوي. (3) انظر تفسير الخازن وابن كثير والبغوي. [.....]

روى المفسرون أن الآية نزلت ردا على تحدّي أبي جهل وغيره من زعماء المشركين حيث طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يذهب عنهم جبال تهامة حتى تتسع لهم رقعة الأرض للزراعة وأن يحيي موتاهم حتى يخبروهم إن كان ما يقوله حقا. وقد تكون الرواية صحيحة ولكنا نرجّح أن الآية لم تنزل بمفردها وفي مناسبة هذا التحدّي لأنها منسجمة جدا مع السياق السابق. فضلا عن عطفها عليه. وفي إحدى الآيات القربية في السياق حكاية تحدّ من الكفار باستنزال آية فمن المحتمل أن تكون بسبيل الردّ عليهم. على أن جملة أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً تورد على البال احتمالا آخر، وهو أن المسلمين كانوا يتمنون أن يجاب المشركون إلى طلبهم أملا في إيمانهم وحرصا عليه، فأريد بالجملة أن يقال لهم إنه ليس من شأن الآيات أن تحملهم على الإيمان. وهذا التمني من المسلمين ليس الأول، فقد وقع قبل، وحكته آيات سورة الأنعام بعبارة مقاربة: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) والضمير في يُشْعِرُكُمْ عائد إلى المسلمين على ما شرحناه في سياق تفسير الآيات. وهذا الاحتمال لا يتعارض مع القول إن الآية متصلة بالسياق السابق كما هو واضح. وهناك قراءة مروية عن علي وابن عباس وغيرهما تجعل تعبير (يتبين) بدلا

من (ييأس) على ما ذكره الطبري وغيره. وصحة هذه القراءة لا تخلّ بالمعنى المراد. حيث تكون بمعنى (ألم يتيقن المؤمنون مما رأوه من شدّة عناد الكفار أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا) وإن كانت كلمة (ييئس) أقوى تعبيرا في هذا المقام حيث ينطوي فيها تقرير كون ما ظهر من الكفار من عناد من شأنه أن ييئس المؤمنين من ارعوائهم. ونكرر هنا ما قلناه في مناسبات سابقة من أن الآية- وهي تتضمن الإشارة إلى شدّة عناد الكفار وإصرارهم وترهص باليأس منهم ولو على سبيل تسلية المؤمنين- إنما تسجل واقع أمرهم حين نزولها حيث اهتدى معظمهم وآمنوا. ولقد روى المفسرون «1» عن ابن عباس أن جملة وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ أنها السرايا التي كان يبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لإزعاجهم. وهذا يقتضي أن تكون الآية مدنية. ولقد روى بعض الذين ذكروا مكية السورة أن هذه الآية مدنية حيث يكون في ذلك- إذا صحّ- تأييد للرواية. غير أن الذي يتبادر لنا أن الجملة جزء من آية فيها صورة مكية لا تتحمل شكا مما يجعلنا نتوقف في مدنية الآية. ونرجح أن القارعة هي ما روي عن إصابة أهل مكة بالجوع، أو من قبيل الإنذار مما تضمنته آيات سورة الدخان [8- 16] والمؤمنون [75- 77] والسجدة [21] التي لا خلاف في مكيتها على ما شرحناه في سياقها. وروح الآية بل ونصّها يزيل ما يمكن أن توهمه عبارة أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً من كون عدم إيمان الكفار قد كان لأن الله لم يشأه. فالعبارة من جهة أسلوبية بسبيل تسلية المؤمنين وتطمينهم وتسكين روعهم. والجملة الأخيرة من الآية من جهة أخرى قوية الدلالة على كون الكفار قد كفروا عن عمد وتصميم فاستحقوا قواصم الله بما صنعوا وبالتالي قوية الدلالة على أن كفرهم كان باختيارهم. وطبعا إن هذا لا يعني أنهم كفروا رغم مشيئة الله. فالأسلوب القرآني قد جرى على نسبة كل شيء إلى هذه المشيئة من باب كون الله تعالى هو المتصرف

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير.

[سورة الرعد (13) : آية 32]

المطلق بخلقه وكونه. ويمكن أن يقال إن ترك الناس لاختيارهم وجعلهم ذوي قدرة وقابلية للاختيار هو نفسه بمشيئة الله فيزول الإشكال. وفي جملة قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ التي سبقت هذه الآية ثم في جمل كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [يونس: 33] ووَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ [إبراهيم: 27] ويُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ [البقرة: 26] معالجة قرآنية أخرى لهذا الإشكال. والآية التالية لهذه الآية تنطوي على توكيد لذلك أيضا. وفي سورة يونس آية فيها عبارة مثل هذه العبارة واضحة الدلالة على أنها بقصد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتهدئة روعه حيث يتأكد بهذا ما ذكرناه من أهداف العبارة القرآنية. والله أعلم. [سورة الرعد (13) : آية 32] وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32) . (1) أمليت: بمعنى مددت لهم وأمهلتهم. في الآية التفات للنبي صلى الله عليه وسلم تقرر له أن الأمم السابقة قبله استهزأت برسلها فأملى الله لها مؤقتا وأمهلها ثم أخذها أخذا شديدا معروف الخبر مشهود الأثر. والآية استمرار للسياق. وتعقيب على ما سبقها كما هو المتبادر. وفيها تطمين وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم وإنذار للكفار. وقد استهدفت فيما استهدفته تذكير الكفار الذين يقفون من النبي صلى الله عليه وسلم موقف الاستهزاء والجحود بما كان من عقاب الله لأمثالهم من الأمم السابقة وحملهم على الاتعاظ به. ولقد تكرر محتوى الآية بسبب تكرر المواقف المماثلة، واستهدافا للهدف الذي استهدفته. ولقد احتوت آيات عديدة في سور سابقة «1» إشارات إلى معرفة السامعين لأخبار الأمم السابقة وما حلّ فيهم من نكال الله تعالى بعد الإملاء والإمهال الذي اقتضتهما حكمة الله

_ (1) انظر مثلا آيات سورة العنكبوت [48] وإبراهيم [45] وطه [128] والسجدة [260] .

[سورة الرعد (13) : الآيات 33 إلى 35]

حيث يستحكم بذلك الإنذار والوعظ القرآنيان. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا رواه البخاري ومسلم عن النبي جاء فيه: «إنّ الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» «1» حيث يتساوق الإنذار النبوي مع الإنذار القرآني كما هو أي في شأن آخر. [سورة الرعد (13) : الآيات 33 الى 35] أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35) . في هذه الآيات: 1- تساؤل استنكاري عمّا إذا كان الأحقّ بالألوهية والعبادة ذلك الإله المراقب لكل امرئ والعالم بما كسب والقادر على جزائه عليه، أم معبود عاجز لا يعلم شيئا ولا يقدر على شيء. 2- وتنديد بالمشركين الذين يناقضون هذه البديهة فيجعلون لله شركاء من الطراز الثاني. 3- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتحدّيهم في تسمية هؤلاء الشركاء ووصفهم حتى تتبين حقيقتهم. وبسؤالهم سؤالا تنديديا عمّا إذا كانوا بسبيل إخبار الله بوجود شركاء له في الأرض لا يعرفهم أو إذا كان أمرهم منهم هو التعلّق بألفاظ تقليدية ليس لها حقيقة وليسوا منها على حقيقة. وتنبيههم إلى ما في هذا وذاك من سخف. 4- وبيان لحقيقة أمر الكفار فيما هم عليه من موقف وعقيدة بيانا فيه تنديد من جهة وتسرية عن النبي والمؤمنين من جهة أخرى: فقد زيّن لهم المكر والكيد لرسالة النبي ودعوته فاندفعوا فيهما. وقد عميت أبصارهم فضلّوا عن طريق الحق.

_ (1) انظر التاج ج 4 ص 131.

5- وإنذار لهم وبشرى للمؤمنين بالمقابلة: فمن كان أمره كذلك فقد ضلّ فلا تجدي فيه دعوة ولا هداية. ومثل هؤلاء قد حقّ عليهم عذاب الدنيا أولا ثم عذاب الآخرة الذي هو أشدّ وأشقّ دون أن يكون لهم من يقيهم ويحميهم من غضب الله ونقمته. وعقباهم الأخروية النار في حين أن عاقبة المتقين ما وعدهم الله به من الجنات التي تجري تحتها الأنهار الدائمة الثمر والظل جزاء إيمانهم وتقواهم. ولا يروي المفسرون رواية خاصة في نزول هذه الآيات والمتبادر أنها هي الأخرى متصلة بالسياق والموقف الجدلي. وهي بسبيل التنديد والتسفيه والإفحام للمشركين وعقائدهم والتطمين والبشرى للمسلمين الذين أخلصوا إيمانهم بالله وحده. وقد تكرر فيها الإنذار بالبلاء الدنيوي الذي احتوته إحدى الآيات السابقة وآيات سور أخرى سابقة أيضا. ومما لا ريب فيه أنه قصد إلى تبشير المؤمنين بذلك فضلا عن إنذار المشركين. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأخيرة بعض الأحاديث عن مشاهد الجنة ونعيمها. منها حديث عن أبي عقيل قال: «بينما نحن في صلاة الظهر إذ تقدّم رسول الله فتقدّمنا ثم تناول شيئا ليأخذه ثم تأخر فلما قضى الصلاة قال له أبيّ بن كعب يا رسول الله صنعت اليوم في الصلاة شيئا ما رأيناك كنت تصنعه فقال إني عرضت عليّ الجنة وما فيها من الزهرة والنضرة فتناولت منها قطفا من عنب لآتيكم به فحيل بيني وبينه ولو أتيتكم به لأكل منه من بين السماء والأرض لا ينقصونه» «1» . ومنها حديث رواه الإمام أحمد عن عتبة بن عبد السلمي قال: «إنّ أعرابيا سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الجنة فقال فيها عنب قال نعم قال فما عظم العنقود قال مسيرة شهر للغراب الأبتع ولا يفتر» . ومنها حديث أخرجه الطبراني عن ثوبان قال:

_ (1) روى هذا الحديث بشيء من الزيادة والنقص الشيخان والنسائي أيضا. وقد جاء فيه: (إني رأيت الجنة فتناولت عنقودا ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا ... إلخ) . انظر التاج ج 1 ص 279.

[سورة الرعد (13) : آية 36]

«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الرجل إذا نزع شجرة من الجنة عادت مكانها أخرى» . ومنها حديث عن عبد الله بن جابر رواه مسلم قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يأكل أهل الجنة ويشربون ولا يتمخّطون ولا يتغوّطون ولا يبولون طعامهم ذلك جشاء كريح المسك ويلهمون التسبيح والتقديس كما يلهمون النفس» «1» . وواضح أن من أهداف هذه الأحاديث التي روى أصحاب كتب الأحاديث الصحيحة بعضها بالإضافة إلى أحاديث أخرى وردت في هذه الكتب من بابها «2» تبشير المؤمنين وإثارة الغبطة في نفوسهم. وهذا مما استهدفته الجملة القرآنية. [سورة الرعد (13) : آية 36] وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) . (1) الأحزاب: الكفار المتحزبين ضد النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته. (2) مآبي: مرجعي. في هذه الآية: 1- تقرير تدعيمي لرسالة النبي صلى الله عليه وسلم وصدق القرآن مستمد من موقف أهل الكتاب: فهم يفرحون بما أنزل الله إليه برغم إنكار الأحزاب بعضه. 2- وأمر للنبي بأن يهتف بأنه إنما أمر بعبادة الله وحده وعدم إشراك أي شيء معه وبالدعوة إليه وحده وبتقريره كونه تعالى مرجعه وحده. روى البغوي رواية عجيبة في سبب نزول الشطر الأول من الآية الأولى بلفظ (وقال آخرون) إن ذكر الرّحمن كان قبلا في القرآن في أول الأمر فلما أسلم

_ (1) روى هذا الحديث مسلم بصيغة أخرى جاء فيها عن جابر: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون. قالوا: فما بال الطعام؟ قال: جشاء ورشح كرشح المسك يلهمون التسبيح والتحميد كما تلهمون النفس» . انظر التاج ج 5 ص 376. (2) انظر المصدر نفسه، ص 364 وما بعدها.

عبد الله بن سلام وأصحابه ساءهم قلة ذكره في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة. فلما تكرر ذكره في القرآن فرحوا به فأنزل الله الآية. وقال في صدد الشطر الأخير إنه يعني مشركي مكة حين كتب رسول الله في كتاب الصلح بسم الله الرّحمن الرّحيم قالوا ما نعرف الرّحمن إلّا رحمن اليمامة وإنما قال ومن الأحزاب من ينكر بعضه لأنهم كانوا لا ينكرون ذكر الله وينكرون ذكر الرّحمن. على أن معظم المفسرين لا يروون مناسبة خاصة في نزول الآية ويفسرونها على ظاهرها. والمتبادر أن شطرها الأول هو بسبيل تقرير ما روي من إيمان أهل الكتاب في مكة واستبشارهم بالقرآن المطابق لما عندهم على ما حكته آيات سورة الإسراء [107- 109] وآيات سورة القصص [52- 53] التي مرّ تفسيرها. وأن شطرها الثاني هو بسبيل تقرير ما كان واقعا من أمر جماعات المشركين العرب الذين كانوا يؤمنون بالله وإنه هو الخالق الرازق المدبر مع عدم إيمانهم بالبعث وبالوحي النبوي. بل وفي سورة القصص آية تفيد أن بعضهم كان يؤمن بصحة الهدى والوحي النبوي ثم لا ينضوي كليا إلى الإسلام خوفا على منافعه ومركز مدينته ولعلّه عنى هؤلاء أيضا فيما عناه. هذا بالنسبة لمدى الآية بذاتها، ويتبادر لنا أنها من حيث مقامها ليست منفصلة عن السياق والموقف الجدلي مع المشركين مما تضمنته الآيات السابقة. وفيها إلزام قوي لهم بأسلوب آخر: فأهل الكتاب الذين هم أعلم من جماعات المشركين الكفار الذين هم موضوع السياق السابق يستبشرون بما أنزل الله على النبي ويفرحون به ويصدقونه. فإذا كانت تلك الجماعات تنكر بعضه فهذا لا يضيره وعليه أن يعلن أنه إنما أمر بعبادة الله وحده وعدم الإشراك به والدعوة إليه وتقرير كون مرجعه ومصيره إليه والثبات على ذلك وكفى. وما احتواه الشطر الأول من الآية قوي الدلالة على أن ما ذكر فيه من فرح أهل الكتاب هو مستمدّ من مشهد واقعي. ويجوز أن يكون جديدا وقع في ظروف نزول السورة كما يجوز أن يكون ما حكته آيات سورة الإسراء [107- 109] والقصص [52- 55] . والأسلوب هنا قوي حيث يتضمن تقرير فرحهم بالقرآن بالإضافة إلى الإيمان به. ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن ذلك بسبب ما وجدوه

[سورة الرعد (13) : آية 37]

في القرآن من دعوة صادقة وتطابق قوي لما كان عندهم. وهكذا تتوالى شهادات أهل العلم الكتابيين العيانية بصدق الوحي القرآني وأعلام النبوة والرسالة المحمدية والانضواء إليها في العهد المكي الذي كان فيه النبي وأصحابه قلة ضعيفة أمام أكثرية ساحقة قوية كافرة ومناوئة. فيكون في ذلك ردّ مفحم على كلّ مكابرة من الكتابيين على مرّ الدهور. [سورة الرعد (13) : آية 37] وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37) . (1) حكما: بمعنى محكما أو حكمة. المتبادر أن هذه الآية استهدفت أيضا التدعيم للرسالة النبوية وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم في موقفه وأنها هي الأخرى متصلة بالسياق والموقف الجدلي: فكما أنزل الله الكتب على الأنبياء السابقين أنزل عليه القرآن. وقد جعله عربيا محكما حتى يتبين السامعون فحوى الدعوة وحكمة الله وأحكامه ولا يكون عليهم فيها إبهام ولا غموض. وعلى النبي أن يلتزم ذلك وأن لا يحيد عنه بعد ما جاءه من العلم ولا يجاريهم أو يسايرهم في أهوائهم. ولن يكون له من الله إن فعل ناصر ولا واق. والمتبادر أن الضمير في أَهْواءَهُمْ راجع إلى الأحزاب. وأن جملة حُكْماً عَرَبِيًّا قرينة على أن المقصود هم أحزاب العرب. وأنه ينطوي في كلمة أَهْواءَهُمْ تقاليد العرب المشركين المتنوعة أو رغباتهم أو أهواؤهم. ولقد حكت آيات أخرى في سور سابقة مثل سورتي القلم والإسراء أن المشركين كانوا يودون أن يداهنهم النبي ويلاينهم ويسايرهم في بعض تقاليدهم. فمن المحتمل أن يكونوا قد عادوا إلى محاولاتهم. وأن يكون التحذير متصلا بذلك على سبيل التنبيه والتثبيت.

[سورة الرعد (13) : الآيات 38 إلى 43]

[سورة الرعد (13) : الآيات 38 الى 43] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43) . (1) لا معقب: لا ناقض ولا رادّ. في هذه الآيات أولا: تطمين وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم وردّ على الكافرين: 1- فليس النبي بدعا في رسالته ولا في شخصيته البشرية. فقد أرسل الله من قبله رسلا وكانوا مثله بشرا لهم أزواج ولهم ذرية. 2- ولم يكن لرسول أن يأتي بآية من عند نفسه حينما كان يتحدّاه الناس وإنما كانت الآيات تأتي بإذن الله وفي الوقت المناسب الذي يقدّره الله لأن لكل أمر وقتا معينا في علمه. 3- ولله مطلق التصرف في الحكم والأحكام يمحو ما يريد ويثبت ما يريد. وعنده علم كل شيء. 4- وإن من الممكن أن يري الله النبي بعض ما يتوعد به الجاحدين كما أن من الممكن أن يتوفّاه الله قبل ذلك. 5- وعلى كل حال فإن قصارى مهمته تبليغ رسالة الله. أما حساب الناس فهو على الله وحده. وفيها ثانيا: التفات إنذاري إلى الكفّار. 1- فوجّه إليهم سؤال استنكاري عما إذا لم يروا آثار عقوبة الله من تدمير

وانتقاص من أطراف الأرض التي كانت مساكن الكفار من قبلهم حتى يقفوا موقف المعاند والمكابر. 2- وعقّب على السؤال بأن الله إذا ما حكم بأمر فهو نافذ حتما لا يستطيع أحد أن ينقضه أو يردّه وبأنه سريع الحساب أكثر مما يتوهمون. 3- وذكروا بما كان من أمثالهم السابقين: فقد مكروا مثل ما يمكرون. ولكن المكر المؤثر المتحقق هو مكر الله فهو يعلم ما تكسب كل نفس ويحصيه عليها. ولن يلبث الكفار أن يروا لمن تكون العاقبة والغلبة ومن الذي يجدي مكره وكيده. وفيها ثالثا: التفات إلى النبي ثانية بسبيل التثبيت والتطمين: فالكفار ينكرون رسالته فما عليه إلّا أن يقول لهم إنه يجعل الله شهيدا بينه وبينهم فهو خير الشاهدين ثم يجعل الذي عنده علم الكتاب أيضا شاهدا على صحة رسالته. ولقد روى البغوي في سياق الشطر الأول من الآية الأولى أن اليهود أو المشركين قالوا إن هذا الرجل ليست له همّة إلّا في النساء، فأنزله الله للردّ عليهم. وروى في سياق الشطر الثاني أنه جواب لعبد الله بن أبي أمية الذي تحدّى النبي بالإتيان بآية. والآيات منسجمة مع بعضها. وبعضها معطوف على بعض بحيث تبدو وحدة متماسكة. والرواية الأولى لا يمكن أن تصحّ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوّج في العهد المكي إلّا بأمّ المؤمنين خديجة وكانت أكبر منه سنا حينما تزوّجها وبلغت عنده سنّ الشيخوخة ولم يتطلّع إلى غيرها. والطابع المكيّ قوي البروز على الآيات وقد ورد أمثالها في سور لا خلاف في مكيتها. ولم يرو المفسرون الآخرون رواية ما في صدد نزولها وإنما قال بعضهم إن في الآية الأولى ردّا على المشركين الذين كانوا يستغربون أن يكون النبي بشرا يتزوج النساء وينجب ذرية ويظنون أنه ينبغي أن يكون من جنس الملائكة ثم الذين كانوا يتحدّون النبي بالآيات. ومع وجاهة ذلك بالنسبة للآية الأولى فإن الذي يتبادر أن الآيات متصلة أيضا

بالسياق والمشهد الجدلي. وقد احتوت تثبيتا وردا وتدعيما وإنذارا وجاءت خاتمة قوية للموقف الجدلي وللسورة في آن واحد. ولقد تضمنت آيات مكية عديدة مرّت أمثلة منها حكاية استغراب المشركين بشرية النبي «1» . فمن المحتمل أن يكونوا كرروا ذلك في ظروف نزول السورة فاحتوت الآية الأولى ردّا عليهم في سياق ما احتوته الآيات من ردود وتقريرات. ولقد كان تحدّي المشركين النبي بالإتيان بآية مما تكررت حكايته في السياق المتوالي من السورة فاحتوت الآية الأولى كذلك ردّا جديدا على تحدّيهم بالأسلوب الذي اقتضته حكمة التنزيل. ولقد كانوا يعرفون أن الرسل السابقين كانوا يأتون بالمعجزات فاستهدف هذا الردّ تقرير كون ذلك لم يكن إلّا بإذن الله وفي المناسبة والحالة اللتين تقتضيهما حكمته. ولقد كانوا يعرفون حتما أن من الرسل من كان له أزواج وذرية. فإن هذا مستفيض الذكر في كتب أهل الكتب وأوساطهم، فجاء الردّ بذلك قويّا مفحما. ولقد أورد المفسرون في سياق جملة أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أقوالا عديدة معزوّة إلى ابن عباس وبعض علماء التابعين أوردناها وعلقنا عليها في سياق تفسير الآية [44] المماثلة لها في سورة الأنبياء. وما قلناه هناك يقال هنا بتمامه فلا حاجة للإعادة. ولقد روى الطبري والبغوي عن قتادة أحد علماء التابعين أن المقصود بجملة وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ عبد الله بن سلام أحد أحبار اليهود الذين أسلموا في المدينة ثم رويا إنكار الشعبي وسعيد بن جبير من علماء التابعين كذلك لذلك وقالا: كيف يكون عبد الله بن سلام والسورة مكية، وهذا حقّ. ولقد حكت آيات عديدة مكية تصديق أهل الكتاب لرسالة النبي صلى الله عليه وسلم وصدق وحي القرآن وإيمانهم بذلك على ما مرّ بيانه في هذه السورة ثم في سور عديدة سابقة «2» . والمتبادر أن

_ (1) انظر مثلا آيات سورة الفرقان [8 و 20] وسورة الإسراء [94- 95] . (2) في التاج حديث يرويه الترمذي عن عبد الله بن سلام نفسه قال: «إن هذه الآية نزلت فيّ» . وقد نبّه صاحب التاج أن سند الحديث غريب. انظر التاج ج 3 ص 360.

تعليق على جملة لكل أجل كتاب وعلى آية يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب

استشهاد الآية إنما كان بالذين كانوا في مكة من هؤلاء. ومع وضوح القصد من هذه الجملة وهو استشهاد أهل العلم والكتاب على صحة نبوّة النبي ووحي القرآن فإن الطبرسي المفسّر الشيعي أورد في سياقها فيما أورد رواية عن إمامي الشيعة أبي جعفر وأبي عبد الله أن المراد به علي بن أبي طالب وأئمة الهدى ورواية عن أبي عبد الله أنه قال: إيّانا عنى وعليّ أولنا وأفضلنا وخيرنا بعد النبي وأنه وضع يده على صدره ثم قال: عندنا والله علم الكتاب. والهوى الحزبي والتكلّف والخروج عن الصدد بارز على الرواية كما هو واضح. تعليق على جملة لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ وعلى آية يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ولقد تعددت التأويلات التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم للجملة الأولى «1» . منها أنها بسبيل الردّ على استعجال الكفار لعذاب الله المنذر به. ومنها أنها بسبيل الردّ على تحديهم النبي بالآيات. ومنها أنها بسبيل تقرير كون الله قد جعل لكل كتاب أنزله على أنبيائه السابقين مدة محدودة فيثبت منها ما يشاء ويمحو ما يشاء في الكتب التي ينزلها بعد حتى نسخت بالقرآن. ورأى بعضهم في هذا دليلا على صحة القول بالنسخ في القرآن. وقد يكون للقول الأول وجاهة مستمدة من الآيتين [34 و 40] من هذه السورة. وقد يكون للقول الثالث وجاهة من حيث الاستنباط. لأن بعض الأحكام المنزلة على بعض الأنبياء كانت تنسخ بأحكام أخرى تنزل على أنبياء آخرين. ثم نزل القرآن الذي صار هو المرجع للمبادىء والأحكام الإلهية وصار هو كتاب الدين الذي أذن الله أن يظهره على الدين كلّه. غير أن الذي يتبادر لنا أن القول الثاني هو الأكثر اتساقا مع السياق على ما شرحناه آنفا وفي سورة غافر آية تدعم هذا الشرح بقوة.

_ (1) انظر تفسير الآية في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي وغيرهم.

وهي وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) . وتعددت كذلك التأويلات التي يرويها المفسرون أو يوردونها باجتهادهم لمدى جملة يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ من ذلك إنها بسبيل تقرير كون كل الأحكام والأقدار والأقوال والأفعال الربانية قابلة للمحو والإثبات. واستثنى بعضهم الموت والحياة والسعادة والشقاء، ويعنون بالسعادة والشقاء تقدير الله الأزلي لسعادة المهتدين الناجين وشقاء الأشقياء الضالين الهالكين في الآخرة بمعنى أن من قدر عليه الشقاء ظلّ شقيا لا يتبدّل أمره وكذلك من قدّر له السعادة. وأنكر بعضهم استثناء السعادة والشقاء وأوردوا للتدليل على ذلك خبرا يفيد أن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما كانا يدعوا الله فيقولان: اللهمّ إن كنت كتبتني شقيا فامحه عني وأثبتني سعيدا إنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب. وأوردوا مثل هذا الدعاء أو قريبا منه لبعض التابعين أيضا. ومن ذلك أنها بسبيل تقرير كون الله يمحو ما يشاء مما أنزل من الأحكام ويثبت ما يشاء مما هو مقرّر عنده في أم الكتاب. أو إن الذي يثبته هو المقرر عنده في أم الكتاب. ومنها أنها بسبيل تقرير كون الله يغفر ما يشاء من ذنوب عباده ويمحوها من كتب أعمالهم ويبقي منها ما يشاء. ومنها أنها بسبيل بيان كون الله يأمر بطرح كل ما ليس فيه ثواب وعقاب من أعمال الناس من كتبهم. ومنها أنها بسبيل تقرير مطلق تصرف الله تعالى بالمحو والإثبات في كل ما يريد بكونه وخلقه وأحكامه وعقابه وثوابه وإرزاقه الناس وأعمالهم وآجالهم وسعادتهم وشقائهم إلخ وأن علم ذلك كله عنده في أم الكتاب. واستدلّ بعضهم بهذه الآية على جواز البداء على الله تعالى أي رجوعه عمّا كان قدّره وقضاه. ورأى بعضهم في هذا التعبير مسّا بذات الله فقال إن لله لوحين واحدا فيه كل ما هو كائن حقا وهذا لا يقع فيه تبديل ولا رجوع وهو المعبّر عنه بعبارة أم الكتاب، وآخر يمحو منه ما شاء أن يمحوه ويثبت ما شاء أن يثبت.

وقال بعضهم في الردّ على جواز البداء على الله إن علم الله قديم أزلي وهو من لوازم ذاته وما كان كذلك كان دخول التغيير والتبديل فيه محال. وتعددت الأقوال المروية والواردة في مدى أُمُّ الْكِتابِ كذلك ... منها أنها الحلال والحرام، ومنها أنها علم الله الشامل لكل شيء. ومنها أنه الأصل الذي لا يتغير ولا يتبدل. ومنها أنه المحتوي لكل شيء سواء ما شاءت حكمة الله محوه أم شاءت إثباته. ومنها أنه علم الله ما هو خالق وما خلقه عاملون وأنه قال لعلمه كن كتابا فكان كتابا. وهذا القول الأخير مروي عن ابن عباس عن كعب بن أبيّ أحد علماء أصحاب رسول الله. وقد قال الطبري الذي استوعب الأقوال المرويّة تعقيبا عليها إن أولى الأقوال بالصواب قول من قال (عنده أصل الكتاب وجملته ويدخل في ذلك ما شاء أن يمحوه وما شاء أن يثبته) . وبعض هذه الأقوال متصل بموضوعي اللوح والقدر. وقد علقنا عليهما في سورتي البروج والقمر بما يغني عن التكرار. ونكتفي بالقول هنا إنّ فيما رواه المفسرون وقالوه حول الجملة الثانية ما هو أمور غيبية لا يصح الأخذ بشيء منها إلّا عن النبي صلى الله عليه وسلم. وليس هناك شيء صحيح عنه في صدد هذه الجملة. وكل الأقوال اجتهادية وتخمينية. ويلمح شيء من التعارض بينها في الوقت نفسه. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن الذي يتبادر لنا أن الجملة جزء من آية والآية جزء من سلسلة استهدفت الردّ على الكفار وإفحامهم وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم تجاه مواقفهم منه وإن ما احتوته هو بسبيل ذلك حيث أريد بها تقرير كون الله عز وجل مطلق التصرف في جميع الأمور ما علم منها وما لم يعلم وما غاب وما حضر وما حدث وما لم يحدث. وما مضى وما يأتي فإذا شاءت حكمته أن يقع أمر في الموعد وقع، وإذا شاءت حكمته أن يمحوه أو يثبته تمّ ذلك حسب مشيئته. وأن الأولى أن تظلّ الجملة في هذا النطاق دون تخمين وتزيد وخروج عن الصدد والله تعالى أعلم. [تم بتوفيق الله تعالى الجزء الخامس ويليه إن شاء الله تعالى الجزء السادس وأوله تفسير سورة الحج]

فهرس محتويات الجزء الخامس

فهرس محتويات الجزء الخامس تفسير سورة الأحقاف 7 تعليق على آية وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ ... 16 تعليق على جملة أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي 17 تعليق على جملة إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ 20 تعليق على آية وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً 24 تفسير سورة الذاريات 33 تعليق على وصف المتقين 37 تعليق على آية فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ 43 تفسير سورة الغاشية 45 تعليق على ما روي في إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ 48 تفسير سورة الكهف 50 تعليقات على آيات قصة أصحاب الكهف 57 تعليق على الآية وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ 62 تعليق على الآية وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ 64 تعليق على مثل الرجلين اللذين كان لأحدهما جنتان 69 تعليق على آية وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ 71 تعليق على وصف إبليس أنه من الجن 275 تعليق على قصة موسى والعبد الصالح 83 تعليق على قصة ذي القرنين ويأجوج ومأجوج 91 تفسير سورة النحل 115 تعليق على اختصاص آيات الأنعام بالأكل 122 تعليق على جملة وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ 138 تعليق على قول المشركين أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى 151 تعليق على جملة تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً 153 تعليق على جملة يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ 155 تعليق على جملة وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ 158 أرذل العمر 158 تعليق على جملة وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ 166 تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ 167 شرح الآية وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ 170 تعليق على آيات فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ 175 مسألة النسخ في القرآن 177 تعليق على آية وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ 183 تعليق على جملة رُوحُ الْقُدُسِ 184

تعليق على الأمر بالاستعاذة من الشيطان 184 تعليق على آية مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ 186 تلقينات الآية مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ 189 تعليق على جملة وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ 192 تلقين آية وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً 195 التلقين الذي احتوته جملة وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ 197 تعليق على آية ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ 202 تعليق على آية وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا 204 تفسير سورة نوح 207 تعليق على أسماء معبودات قوح نوح 211 تفسير سورة إبراهيم 213 دلالة جملة لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ 214 تعليق على جملة وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ 216 تعليق على جملة وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ 222 تعليق على آية يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا 232 تعليق على آية وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ 240 تفسير سورة الأنبياء 253 تعليق على جملة لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ 262 تعليق على قصة إبراهيم مع قومه في هذه السورة 276 تعليق على قصة داود وسليمان في هذه السورة 279 تعليق على قصة مريم 285 تعليق على جملة أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ 295 تأويل الشيعة للجملة السابقة وموضوع المهدي 297 تفسير سورة المؤمنون 300 تعليق على الأمانة وخطورتها 304 تعليق على استفراش ملك اليمين 306 تعليق على آية وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ 308 تعليق على تخصيص طور سيناء بشجرة الزيتون 311 تعليق على محتويات الآيات 325 تفسير سورة السجدة 340 تعليق على الآية لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ 341 تعليق على آية يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ 344 تعليق على ملك الموت 345 تعليق على آية وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ 348 تعليقات على آية إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ 349 تعليق على الآية وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ 355 تفسير سورة الطور 359 تعليق على آية وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ 363 تعليق على كلمة كاهن 366 تفسير سورة الملك 373 تعليق على آية هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا 379 تفسير سورة الحاقة 384

تعليق على الحضّ على طعام المسكين 389 تفسير سورة المعارج 392 تعليق على رواية شيعية في سبب نزول هذه الآيات 393 تعليق على جملة تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ 394 تعليق على اختصاص جمع المال وكنزه 397 تعليق على الآيات إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً 398 تعليق على الآية وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ 400 تفسير سورة النبأ 404 تفسير سورة النازعات 410 تفسير سورة الانفطار 419 تفسير سورة الانشقاق 423 تعليق على ما يلهمه أسلوب ومضامين السورة 427 تفسير سورة الروم 428 تعليق على خبر انكسار الروم 429 تعليق على قدرة الله ونواميسه في الكون 439 تعليق على آية وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ 440 تعليق على آية فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً 448 تعليق على آية مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ ... 450 تعليق على جملة وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا 453 تعليق على آية ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ 2455 تعليق على جملة كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ 457 تعليق على سماع الموتى لخطاب الأحياء 460 تعليق على آية فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ 464 تفسير سورة العنكبوت 465 تعليق على الآيات [1- 7] من السورة 467 تعليق على آية وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ 470 تعليق على آية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ 471 تعليق على آية وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها 482 تأويل جملة وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ 484 تعليق على آية وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ 486 استطراد إلى مكتسبات النبي قبل النبوة 492 تعليق على آية وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ 496 تعليق على آية يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا 499 تفسير سورة المطففين 507 تنبيه 514 تفسير سورة الرعد 515 تعليق على جملة إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ 525 تعليق على مجموعة الآيات [19- 25] . 533 تعليق على جملة أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ 540 تعليق على جملة لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ 553

الجزء السادس ثبت بالسور المدنية مرتبة حسب نزولها الذي يرويه المصحف الذي اعتمدناه هكذا: 1- البقرة 2- الأنفال 3- آل عمران 4- الأحزاب 5- الممتحنة 6- النساء 7- الحديد 8- محمد 9- الطلاق 10- البينة 11- الحشر 12- النور 13- المنافقون 14- المجادلة 15- الحجرات 16- التحريم 17- التغابن 18- الصف 19- الجمعة 20- الفتح 21- المائدة 22- التوبة 23- النصر على أننا سوف نخالف ترتيب بعض هذه السور لأن في بعضها دلالات تكاد تكون قطعية على أن ترتيبها حسب ما رواه المصحف الذي اعتمدناه لا يمكن أن يكون صحيحا ومبررا. من ذلك سورة الممتحنة التي ذكرت كخامسة السور المدنية ترتيبا، مع أنها تحتوي إشارات إلى وقائع جرت بعد صلح الحديبية، الذي أشير إليه في سورة الفتح، التي جاء ترتيبها العشرين، والتي احتوت سورة المائدة إشارة إليها. ولذلك سوف نؤخر تفسير سورة الممتحنة إلى بعد سورتي الفتح والمائدة. ومن ذلك سورة الجمعة التي ذكرت كتاسعة عشرة، مع أن فيها تنديدا بمواقف اليهود يدل

على أنها نزلت قبل التنكيل بجميع يهود المدينة. ولذلك سوف نقدم تفسيرها على سورة الأحزاب التي ذكرت فيها آخر وقائع التنكيل بيهود المدينة. ومن ذلك سورة الحديد التي ذكرت كسابعة السور ترتيبا مع أنها تحتوي إشارة إلى ما بعد الفتح المكي، الذي وقع بعد صلح الحديبية بسنتين. ولذلك سوف نؤخر تفسيرها إلى ما بعد تفسير سورة الممتحنة التي فيها إشارة إلى حركة الفتح المكي قبيل وقوعه. ومن ذلك سورة الحشر، التي جاء ترتيبها الحادية عشرة، مع أنها نزلت في مناسبة وقعة إجلاء بني النضير التي كانت قبل وقعة الأحزاب أو الخندق المشار إليها في سورة الأحزاب ولذلك سوف نقدم تفسيرها على هذه السورة. وعلى هذا فسوف يكون ترتيب تفسير السور المدنية في هذا الجزء والأجزاء التالية كما يلي: البقرة- الأنفال- آل عمران- الحشر- الجمعة- الأحزاب- النساء- محمد- الطلاق- البينة- النور- المنافقون- المجادلة- الحجرات- التحريم- التغابن- الفتح- المائدة- الممتحنة- الحديد- التوبة- النصر، والله سبحانه وتعالى أعلم. السور المفسّرة في هذا الجزء «1» 1- الحج 2- الرحمن 3- الإنسان 4- الزلزلة 5- البقرة

_ (1) انظر الفهرست المفصل في آخر الجزء

سورة الحج

سورة الحجّ في السورة إنذار بالقيامة وهولها. وتدليل على قدرة الله على بعث الناس ومحاسبتهم. وتنديد بفئات من الكفار وذوي القلوب المريضة وتنويه بالمؤمنين. وإنذار رهيب للأولين وبشرى للآخرين. وتوبيخ للكفار على صدّهم عن المسجد الحرام. وبيان عن صلة إبراهيم بالكعبة والحج. واستطراد إلى مناسك الحج وبخاصة ما يتعلق بالقرابين وإقرارها بعد تنقيتها من شوائب الشرك. وبشرى للمهاجرين بنصر الله وعنايته في حالتي الموت والحياة. وتقرير باعتبار المسلمين مظلومين بما كان من قتال المشركين لهم وأذاهم. وتقرير حق الدفاع لهم وتقرير ما يمكن أن يكون من سعادة المجتمع إذا تمكنوا في الأرض حيث يقيمونه على أساس قويم من صلاة وزكاة وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر. وتطمين وتثبيت للنبي إزاء عناد الكفار وتذكير بآثار عظمة الله في كونه. وبعذاب الله للأمم السابقة لكفرها وتكذيبها لرسلها، ومشاهد ومواقف جدلية. وختام قوي موجّه للمسلمين، منوّه بالمكانة العظمى التي خصّوا بها، احتوى فيما احتواه تقرير نسبة العرب بالأبوة إلى إبراهيم (عليه السلام) وما جعل الله لهم من مزيّة ليكونوا شهداء على الناس. والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن هذه السورة مدنية، في حين أن المفسرين البغوي والنيسابوري والزمخشري والطبرسي والخازن والبيضاوي والنسفي يروون أنها مكية، وبعضهم يذكر أن بعض آيات منها مدنيّة. والآيات المرويّة مدنيتها هي [19- 22] في رواية و [19- 24] في رواية أخرى، ثم الآيات [38- 41 و 52- 55 و 58- 60] . والمتمعن في الآيات [19- 24] ومضمونها، يجد أن أسلوبها ومضمونها

مكّيان أكثر من كونهما مدنيين. وكذلك الآيات [52- 55] . أما الآيات [38- 41 و 58- 60] فقد يؤيّد أسلوبها ومضمونها مدنيتها، مع احتمال أن تكون- وبخاصة الآيات [38- 41]- مكية أيضا لأن أسلوبها ومضمونها يسوغان تخمين ذلك. وهناك آيات لم يذكرها الرواة في عداد الآيات المدنية على ما اطّلعنا عليه، مع أن مضمونها قد يسوغ بل قد يرجّح مدنيتها وهي الآيات [25- 27] ثم الآيتان الأخيرتان من السورة اللتان يحتمل أن تكونا مدنيتين أيضا على ما سوف نشرحه بعد. وعلى كل حال، فإن أسلوب معظم آيات السورة ومضمونها يسوغان ترجيح صحّة رواية مكّيتها، مع احتمال أن تكون بعض آياتها مدنية. وفي هذه السورة موضعان يسجد عندهما سجود تلاوة، وهما الآيتان [18 و 77] وقد ورد في صدد ذلك حديث رواه أبو داود والترمذي والحاكم عن عقبة بن عامر قال: «قلت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله في سورة الحجّ سجدتان قال: نعم، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما» » . وروى هذا الحديث الإمام أحمد بفرق مهم وهو أن عقبة قال: «يا رسول الله، أفضلت سورة الحجّ على سائر القرآن بسجدتين؟ قال: نعم» «2» . وهناك حديث رواه أبو داود عن خالد بن معدان «أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: فضلت سورة الحجّ على سائر القرآن بسجدتين» «3» . وحديث رواه الحافظ أبو بكر الإسماعيلي عن أبي الجهم قال: «سجد عمر سجدتين في الحجّ- أي في سورة الحجّ- وهو بالجابية، وقال إنّ هذه فضلت بسجدتين» «4» . والحديث الأول وارد في كتاب من كتب الأحاديث الصحيحة، والأحاديث الأخرى محتملة الصحّة. وسجدات التلاوة منحصرة في السور المكيّة. فبالإضافة

_ (1) التاج ج 1 ص 198- 199. (2) من تفسير السورة لابن كثير. (3) انظر المصدر نفسه. (4) انظر المصدر نفسه. [.....]

[سورة الحج (22) : الآيات 1 إلى 2]

إلى ما في الأحاديث من تنويه بفضل هذه السورة، فإن فيها، والحالة هذه، دلالة على مكيتها، والله أعلم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الحج (22) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) . (1) الزلزلة: معناها اللغوي شدّة التحريك وإزالتها للأشياء عن أماكنها. في الآيتين: حثّ للناس على تقوى الله والتزام حدوده. وتحذير من هول يوم القيامة، الذي يحاسب الناس فيه على أعمالهم. وتشبيهه بالزلزلة العظيمة، التي تذهل الأمهات، حين ما تحدث، عن أطفالهن وتجهض الحاملات، ويبدو الناس كالمخمورين ولو لم يشربوا خمرا بسبب الرعب الشديد والاضطراب اللذين يستوليان عليهم. ولقد روى الطبري وغيره «1» روايات متعددة الصيغ مع اتفاقها بالجوهر، في صدد هذه الآيات، جاء في واحدة منها رواها الطبري عن عمران بن الحصين قال: «بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بعض مغازيه، وقد فاوت السير بأصحابه، إذ نادى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بهذه الآية يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، فجثوا المطي حتى كانوا حول رسول الله، قال: هل تدرون أيّ يوم ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذلك يوم ينادي آدم ويناديه ربّه ابعث بعث النار من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار، قال: فأبلس القوم فما وضح منهم ضاحك، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ألا اعملوا وأبشروا فإنّ معكم خليقتين ما كانتا في قوم

_ (1) انظر تفسير البغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري أيضا.

إلّا كثرتاه فمن هلك من بني آدم ومن هلك من بني إبليس ويأجوج ومأجوج، قال: أبشروا وأما أنتم في الناس إلّا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في جناح الدابة» . وفي بعض صيغ الروايات التي يرويها الطبري، ذكر أن الآيتين نزلتا حينئذ حيث يقتضي هذا إذا صحّت الرواية أن تكون الآيتان مدنيتين. غير أن الرواية التي أوردناها لا تذكر ذلك صراحة وكل ما ذكرته أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نادى بهذه الآية. وفي بعض صيغ الروايات ذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأها عليهم وليس فيها خبر نزولها حينئذ. وشيء من الرواية التي أوردناها رواه الشيخان في سياق تفسير الآيتين، ولكن ليس في نصّهما أنهما نزلتا حينئذ، وهذا هو نصّ حديث الشيخين عن أبي سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقول الله تعالى يا آدم، فيقول: لبّيك وسعديك والخير بين يديك، فيقول: أخرج بعث النّار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعين. فعنده يشيب الصغير، وتضع كلّ ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد. قالوا: يا رسول الله وأيّنا ذلك الواحد؟ قال: أبشروا فإنّ منكم رجلا ومن يأجوج ومأجوج ألفا. ثم قال: والذي نفسي بيده، إني أرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبّرنا، فقال: أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، فكبرنا، فقال: أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، فكبّرنا، فقال: ما أنتم في الناس إلّا كالشعرة السوداء في جلد ثور أبيض، أو كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود» «1» . وأسلوب الآيتين من الأساليب المكية، وصلتهما قويّة بالآيات التالية لهما التي تذكر البعث وارتياب الناس وجدلهم فيه، وتبرهن على قدرة الله تعالى عليه حتى ليصحّ أن يقال إنهما مقدمة لما بعدهما. مما يجعلنا نستبعد نزولهما في العهد المدني، ونرجّح نزولهما في العهد المكي، ونفسّر ما جاء في الروايات بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأها عليهم في أثناء الغزوة، وفي موقف أو ظرف شاءت حكمته أن يذكر أصحابه بهول يوم القيامة ويعظهم ويبشرهم ويطمئنهم في الوقت نفسه فالتبس الأمر على الرواة. ومع واجب الإيمان بما يصحّ عن رسول الله من خبر المشاهد

_ (1) التاج ج 4 ص 159.

[سورة الحج (22) : الآيات 3 إلى 4]

الأخروية فإن هذه الحكمة ملموحة في الحديث الذي يرويه الشيخان، والذي لا يذكر مناسبة النزول التي ترويها الروايات، والله أعلم. [سورة الحج (22) : الآيات 3 الى 4] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4) . (1) مريد: متمرد. وفي هاتين الآيتين: إشارة تنديدية إلى الذين يجادلون في وجود الله وربوبيته الشاملة واستحقاقه وحده للعبادة بغير علم ولا برهان اتباعا لوسوسة كلّ شيطان متمرّد يضلّ من يتبعه عن طريق الحقّ ويوصله إلى عذاب السعير. وقد روى المفسرون «1» أن الآيتين نزلتا في النضر بن الحارث أحد أشداء مجادلي كفار قريش مع النبي ومناوئيهم له. وهذا الشخص تكرر اسمه في مناسبة كثير من المواقف الجدلية التي حكتها الآيات المكية. وأسلوب الآيتين تنديدي عام من جهة، وفيهما قرينة على أن التنديد فيهما موجّه إلى فريق من الكفار الذين يسيرون في مواقفهم الجحودية والجدلية وراء تلقين زعماء كفار من جهة ثانية. وهما تعقيب بياني على المطلع فيما هو المتبادر من جهة ثالثة فقد احتوى المطلع هتافا بالناس ليتقوا الله من اليوم العظيم، فجاءت الآيتان تذكر موقف بعض الناس الضّالين الذين يجادلون في الله ويستمعون إلى وساوس الشياطين. وفيهما على كلّ حال صورة من صور المواقف الجدليّة التعجيزية، التي لا يسندها منطق ولا حقّ ولا برهان، والتي كان يقفها الكفار من الدعوة النبويّة بتأثير زعماء الضلال والمناوأة، الذين يمكن أن يكونوا قصدوا في جملة كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ من جهة رابعة.

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي وغيرهم.

[سورة الحج (22) : الآيات 5 إلى 7]

وهذا لا يمنع بالطبع أن يكون في الآيتين إشارة إلى شخص وقف موقفا جدليا تعجيزيا قبل نزول السورة فكان ذلك مناسبة لهذه الإشارة. ولقد انطوى في الآيتين، مع خصوصيتهما الزمنية، تلقين قوي مستمر المدى والشمول بتقبيح من يتّصف بالصفات المذكورة فيهما، وتقبيح هذه الصفات والحثّ على اجتنابها مما تكرر في مناسبات عديدة مماثلة. [سورة الحج (22) : الآيات 5 الى 7] يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) . (1) مضغة: قطعة اللحم التي تتطور من العلقة والنطفة. (2) مخلّقة وغير مخلّقة: قال المفسرون: إن المخلّقة هي المضغة التي تتشكل جنينا، وغير المخلقة هي التي تسقط من الرحم دون أن تتشكّل. (3) ربت: نمت وتفتحت. في هذه الآيات خطاب للناس بسبيل البرهنة على البعث بعد الموت: فإذا كانوا في ريب من ذلك فعليهم: 1- أن يفكروا في نشأتهم وأطوارها. فقد خلق الله أوّلهم من تراب ثم جعلهم يتناسلون عن طريق النطفة، حيث تتطور النطفة إلى علقة دم، والعلقة إلى مضغة لحم، ومن المضغ ما يسقط قبل أن تتخلّق، ومنها ما يستقر في الرحم

فتتخلّق على صورة الإنسان وتبقى إلى مدة معينة، ثم طفلا ثم يبلغ أشدّه من القوّة والتمييز. ومن الناس من يتوفّون من قبل أن يمتدّ بهم العمر، ومنهم من يمتدّ بهم فيضعفون بعد قوة ويفقدون وعيهم بعد التمييز، حتى لا يكادون يعلمون شيئا مما كانوا يعلمونه. ففي هذا بيان لهم ومثال على عظيم قدرة الله. 2- وعليهم أن يفكروا في الأرض فإنّها تكون هامدة جامدة، فإذا ما أنزل الله عليها الماء، اهتزت ونفشت وتفتحت وأنبتت النباتات المتنوعة البهيجة. ففي هذا وذاك ما من شأنه أن يقنعهم بأن الله هو الحقّ، وأنه لا يمكن أن يكون خلق الخلق إلّا بالحق، وأنه قادر على كلّ شيء، وأنه قادر بطبيعة الحال على إحياء الموتى ثانية. وبأن ما أخبر به رسوله من مجيء الساعة وبعث من في القبور إلى الحياة حق لا ريب فيه. والآيات غير منقطعة الصلة بالآيات السابقة حيث ما تزال تهتف بالناس. فقد بدأت السورة بإنذارهم بزلزلة الساعة والإهابة لهم لتقوى الله، وعقبت بذكر فئات الناس الذين يجادلون في الله، فجاءت هذه الآيات تقيم للناس البرهان على قيام الساعة، وسخف المجادلين في الله وضلالهم بما يرونه في أنفسهم وفي الأرض. وهذا الأسلوب بل وهذه المعاني والأمثلة لإقناع الناس بالبعث وقدرة الله عليه وحكمته، مما تكرر في القرآن كثيرا في مناسبات حكاية مواقف الجدل التي كانت تتكرر كثيرا في الموضوع، والتي كانت مسألة البعث بعد الموت من أهمّ مواضيعها ومثيراتها. وقد يكون في الآيات دلالة على أنها وما قبلها نزلت في موقف من هذه المواقف. ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات عدّة أحاديث. منها حديث عزاه إلى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: «حدّثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو الصادق المصدوق، أن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين ليلة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات،

[سورة الحج (22) : الآيات 8 إلى 10]

فيكتب رزقه وعمله وأجله وشقيّ أو سعيد، ثمّ ينفخ فيه الروح» «1» . ومنها حديث رواه الإمام أحمد عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من معمّر يعمّر في الإسلام أربعين سنة إلّا صرف الله عنه ثلاثة أنواع من البلاء: الجنون والبرص والجذام» . وحديث من بابه مع زيادة مهمة رواه الحافظ أبو بكر البزار عن أنس أيضا قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما من عبد يعمّر في الإسلام أربعين سنة إلّا صرف الله عنه أنواعا من البلاء الجنون والجذام والبرص. فإذا بلغ خمسين سنة ليّن الله له الحساب، فإذا بلغ ستين سنة رزقه الله الإنابة إليه بما يحبّ، فإذا بلغ سبعين سنة غفر الله ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، وسمّي أسير الله، وأحبّه أهل السماء. فإذا بلغ الثمانين تقبّل الله حسناته وتجاوز عن سيّئاته. فإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر وسمّي أسير الله في أرضه، وشفع في أهل بيته» . والحديث الأول متّصل بموضوع القدر، وقد أوردناه مع زيادته في التعليق الذي علقنا به على هذا الموضوع في سياق سورة القمر، فلا نرى حاجة إلى تعليق آخر. والحثّ على الإخلاص له والتزام حدود الدين الإسلامي- وهذا هو المقصود من جملة ما من معمّر في الإسلام- والتبشير والتطمين للمسلمين من الحكمة الملموحة في الأحاديث الأخرى إن صحت، والله أعلم. [سورة الحج (22) : الآيات 8 الى 10] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10) .

_ (1) روى ابن كثير هذا الحديث بصيغ أخرى ومن طرق أخرى. وهذا الحديث وارد في التاج ج 1 ص 32 عزوا إلى الأربعة (أي البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود) بزيادة مهمة وهي: «فو الله الذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلّا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلّا ذراع فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» .

(1) ثاني عطفه: لاوي جانبه. والقصد من التعبير وصف المندد به بالكبر والتبختر في الوقفة والمشية. في هذه الآيات: 1- إشارة تنديدية إلى فريق آخر من الناس يجادل ويكابر في الله وآياته بدون علم ولا هدى ولا برهان من كتاب صادق، متكبرا متبخترا مشتدّا في العناد ليؤثر على غيره ويمنعه عن سبيل الله والاستجابة إلى دعوته. 2- وإنذار شديد له، فله الخزي والهوان في الدنيا وله عذاب الحريق في الآخرة. وهذا جزاؤه الحقّ على ما قدمت يداه وليس فيه ظلم. فالله لا بظلم أحدا من عبيده وإنما يجزي كلا بما يستحقّ. وقد روى المفسرون أن هذه الآيات نزلت في النضر بن الحارث، ومنهم من روى أنها نزلت في أبي جهل، ومنهم من روى أنها عنتهما. والمتبادر أنها استمرار في السياق، أو أنها استطراد إلى ذكر فريق آخر من زعماء الكفار يصدّ غيره ويوسوس لغيره، بينما احتوت الآيتان [3 و 4] صورة الفريق الذي يتبع غيره ويتأثر بوسوسة غيره. وأسلوبها تنديدي كأسلوب الآيتين المذكورتين. وهذا لا يمنع بطبيعة الحال أن تكون احتوت إشارة إلى موقف جدلي خاص وقفه أحد زعماء الكفار قبل نزول السورة، بل لا بدّ من أن يكون الأمر كذلك لأنها تنطوي على مشهد واقعي. ومع خصوصية الآيات فإنها هي الأخرى تحتوي تلقينات جليلة مستمرة المدى وعامة الشمول بتقبيح المكابرة في الحقّ، والاستكبار عليه وصدّ الناس عنه، وتقبيح المتصفين بهذه الصفات.

[سورة الحج (22) : الآيات 11 إلى 13]

[سورة الحج (22) : الآيات 11 الى 13] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) . (1) على حرف: على طرف، والمقصد إنه شاكّ وإنه على غير اطمئنان وصدق بإيمانه. (2) العشير: الصاحب والمعاشر. وفي هذه الآيات: إشارة تنديدية إلى فريق آخر من الناس يعبد الله على غير اطمئنان وإيمان صادق ويكون مذبذبا. فإذا أصابه خير اطمأنّ وابتهج به، وإذا أصابه شرّ انقلب عن موقفه وجحد ما كان عليه وأخذ يدعو غير الله الذي لا ينفعه ولا يضرّه، بل والذي ضرره هو الأوكد. وفي هذا من الخسران الدنيوي والأخروي والضلال البعيد ما فيه. ولبئس المولى مولاه ولبئس العشير عشيرة. وقد روى المفسرون «1» أن الآيات نزلت في أعراب كانوا يفدون على النبي في المدينة فيسلمون، فإن أصابهم خير ورخاء بعد إسلامهم أو كان عامهم عام غيث وخصب وولادة حسنة أقاموا على الإسلام، وقالوا هذا دين صالح وإن أصابهم مصيبة أو جذب جحدوا وقالوا ليس في هذا الدين خير وارتدوا إلى شركهم. وهناك رواية أخرى «2» تفيد أنها نزلت في يهودي أسلم ثم تشاءم وطلب من النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقيله من بيعته على الإسلام. وهناك حديث رواه البخاري عن ابن عباس جاء فيه: «كان الرجل يقدم المدينة، فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال: هذا دين صالح وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال هذا دين سوء» «3» .

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن. (2) انظر تفسير الزمخشري. (3) التاج ج 4 ص 160.

وهذه الروايات تقتضي أن تكون الآيات مدنيّة. ولم يذكر المفسرون ذلك صراحة، وقد تكون في الآيات صورة من صور مواقف المنافقين ومرضى القلوب وهؤلاء كانوا في العهد المدني. غير أننا وقد رجحنا مكية السورة لسنا نرى حكمة في وضع هذه الآيات في سياق مواقف وصور مكية. وأسلوب الآيات بعد مماثل كل المماثلة لأسلوب الآيات السابقة التي تحكي هذه المواقف والصور المكيّة لذلك فإننا نرجح أن هذه الآيات استمرار في السياق السابق أو استطراد آخر إلى وصف فريق آخر من الناس في العهد المكي بأسلوب تنديدي، كما وصف الفريقان السابقان. مع احتمال قوي أن يكون هذا الفريق قد أسلم ثم تردّد أو ارتدّ استبطاء لنصر الله واستحبابا للدنيا. وفي سورة النحل التي فسرناها في الجزء السابق آيات تذكر أن بعض المسلمين في مكة ارتدوا عن دينهم استحبابا في الحياة، حيث يورد هذا كشاهد على صواب القول إن الصورة التي وصفت في الآيات صورة مكية وهي مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) . وفي سور عديدة أخرى آيات حكت حالة أناس كانوا يعترفون بالله ويدعونه ويخلصون له الدعاء والدين في الأزمات، ثم ينسونه ويشركون به غيره في الأوقات العادية، منها آية سورة العنكبوت هذه: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) وآيات سورة الروم هذه وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) ووَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) «1» فلعلّ هذه الآيات وأمثالها مما يصحّ أن يدخل في ذلك النطاق. ولعلّ في الآية [15] التالية لها قرينة على ذلك. وهذا لا ينفي صحة الحديث الذي

_ (1) انظر أيضا: آيات سورة الأعراف [189- 191] ويونس [12 و 22- 23 و 31- 36] والنحل [52- 55] والإسراء [67- 69 و 83] والزمر [8] فهي من هذا الباب.

[سورة الحج (22) : آية 14]

رواه البخاري عن ابن عباس وما فيه من صورة لبعض الناس في العهد المدني. ومن الجدير بالتنبيه أن الحديث لا يذكر أن الآية نزلت في الصورة الواردة فيه. وقد يبدو أن الآية [13] متناقضة مع الآية [12] ، من حيث إن الآية الأولى تجعل الضرر والنفع محتملين من الشركاء مع تغليب الضرر على النفع، في حين أن الثانية تنفي قدرة الشركاء على النفع والضرر. حتى لقد وصف المفسّر البغوي هذا بأنه من مشكلات القرآن. وقد حاول المفسّر وغيره «1» تخريج ما ظنّوه مشكلة ولم يتوصلوا فيما يتبادر لنا إلى حلّ مقنع. والذي يتبادر لنا أن التعبير أسلوبي على سبيل المساجلة، بمعنى أن ضرره هو الأوكد في حين ليس هناك أي دليل على نفعه. والله أعلم. وهذه الآيات انطوت كسابقاتها على تلقين عامّ مستمرّ المدى بتقبيح النفاق والتقلّب في الحقّ وعدم الاستقامة عليه، وجعل الموقف منوطا بالنفع الشخصي العاجل ثباتا وانحرافا، والحثّ على تجنّب هذا الخلق البشع والاستمساك بالحقّ والاستقامة على دين الله في كلّ حال. [سورة الحج (22) : آية 14] إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14) . المتبادر أن هذه الآية جاءت معقبة على الآيات السابقة مباشرة حيث انطوت على التنويه بالذين آمنوا وأخلصوا وثبتوا في إيمانهم وعملوا الأعمال الصالحة ووعد لهم بجنات الله الأخروية مقابلة للتنديد الذي احتوته تلك الآيات بالذين يعبدون الله على حرف وبالفريقين اللذين وصفا في الآية الأولى. وهذا من مألوف النظم القرآني. وواضح أنها احتوت حثّا على الثبات في الإيمان والإقبال على العمل الصالح وبيانا بأن جزاء ذلك مضمون عند الله، وتوكيدا بتقبيح الأخلاق المنعوتة في الآيات السابقة.

_ (1) انظر تفسير الخازن والزمخشري والطبرسي.

[سورة الحج (22) : آية 15]

[سورة الحج (22) : آية 15] مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15) . (1) بسبب: بحبل. (2) كيده: هنا بمعنى عمله أو محاولته. الآية تأمر الذي يظنّ أن الله لن ينصره في الدنيا والآخرة بتعليق حبل في السقف، وشنق نفسه به ليرى ما إذا كان هذا العمل يشفي غيظه ويذهب حنقه. ولقد روى الطبري والبغوي وغيرهما، أن هذه الآية نزلت في أسد وغطفان، الذين كانوا حلفاء لليهود وتباطأوا عن الإسلام وقالوا نخاف أن لا ينصر محمد فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا. والرواية تقتضي أن تكون الآية مدنية ولم يذكر المفسرون ذلك صراحة. وكما استعدنا الرواية المروية في سياق الآيات [11- 13] والتي تقتضي أن تكون هذه الآيات مدنية لأسباب ذكرناها نستبعد هذه الرواية لنفس الأسباب. وليس من الضرورة أن تكون الصورة صورة مدنية وحسب. وما دام وجد في العهد المكي من يرتدّ عن دينه استحبابا للحياة الدنيا، يصحّ أن يوجد فيه من يظنّ ما ذكرته الآية من ضعاف الإيمان والعصبية من مسلمي هذا العهد أيضا. ويتبادر لنا أن الآية جاءت كتعقيب آخر على تلك الآيات التي نددت بالذين يعبدون الله على حرف ويجعلون إخلاصهم رهنا بما يصيبهم من رحمة الله وبرّه. وقد انطوت على توبيخ وتقريع ساخرين. وعلى تقرير كون الإنسان لا يصحّ أن يؤمن إلّا على شرط أن لا يناله إلّا الخير. وكون الإيمان بالله مسألة مستقلة لا علاقة لها بأعراض الدنيا المتقلّبة على الناس، وكون واجب المؤمن التأميل في رحمة الله ونصره في الدنيا والآخرة لأن ذلك مما وعده الله به، وكون البطء في تحقق هذا الوعد والجزع والهلع واليأس منه غير متّسق مع معنى الإيمان بالله والثقة به والاعتماد عليه. وعلى من لا يتدبّر ويرعوي ويصدق أن يشنق نفسه! وكما أن شنق الإنسان لنفسه لن يشفيه من غيظه وغير ضارّ بغيره فكذلك المغيظ المحنق

[سورة الحج (22) : آية 16]

المرتدّ بسبب تأخّر نصر الله له لن يضرّ غير نفسه لأن مصيره إلى عذاب الله وسخطه. وفي الآية معالجة روحية قوية نافذة من دون ريب في مثل الحالات التي جاءت في صددها. هذا وإنعام النظر في هذه الآية ومداها يظهر قوة توجيه واحتمال كون الصورة التي احتوتها الآيات [11- 13] صورة مكية على ما قلناه قبل، ويسوغ القول إنها بسبيل تطمين ومعالجة من تعرّض للأذى والحرمان بسبب إسلامه، والتنديد بالذين لم يثبتوا ويصبروا فخاروا وارتدّوا. [سورة الحج (22) : آية 16] وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) . وهذه الآية متصلة بالسياق والموضوع اتصال تعقيب وتنبيه كما هو المتبادر. فالله قد أنزل آيات القرآن واضحة بيّنة، وهو إنما يهدي بها من أراد له السعادة والهدى. وأسلوب الآية أسلوب تسلية وتطمين، وقد تكرر في مواضع كثيرة من القرآن في مثل هذه المواقف. وعلى ضوء الآيات العديدة التي قررت أن الله إنما يهدي من ينيب إليه ومن يستمع القول فيتبع أحسنه، أي من حسنت نيته وصدقت رغبته في هدى الله، ومنها آيات سورة الرعد [27- 29] والزمر [18] لا يكون محل للالتباس في هذه الآية، بسبب إطلاق الفقرة الأخيرة منها على ما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة. [سورة الحج (22) : آية 17] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) . تقرّر هذه الآية أن الله هو الشهيد على كلّ شيء في حقيقة أصحاب النحل والمذاهب الموجودة من مؤمنين بالله والنبي، ومن يهود وصابئين ونصارى

تعليق على تسميات اليهود والنصارى والمجوس والصابئين

ومجوس ومشركين. وكونه هو الذي سيفصل بينهم يوم القيامة حيث يؤيّد الحقّ وأصحابه ويزهق الباطل وأصحابه. والمتبادر أن الصلة غير منقطة بين هذه الآيات وما قبلها وبخاصة الآية السابقة لها مباشرة. وأنها بسبيل توكيد قوّة الدعوة النبوية وصحتها وتطمين المؤمنين بها وتثبيتهم. والمتبادر أن تعبير وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا قد شملهم. ولا سيّما إن القرآن قد ذكر أن هؤلاء كانوا يعترفون بالله العظيم حيث تكون عبادتهم للأوثان والكواكب إشراكا. تعليق على تسميات اليهود والنصارى والمجوس والصابئين هذه التسميات تأتي لأول مرة هنا وبهذه المناسبة نقول: أولا: إن تعبير وَالَّذِينَ هادُوا هو عربي صرف في صيغته وجذره. ويعني اليهود على ما هو متفق عليه، وقد تكرر وروده في السور المدنية، وهو من جذر هاد بمعنى مال وتاب. ومن ذلك جملة إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ في الآية [156] من سورة الأعراف حكاية عن لسان موسى عليه السلام. وما دام أن التعبير يعني اليهود فصار من المناسب الاستطراد إلى هذا الاسم. ولقد تكرر ورود هذا الاسم كثيرا في السور المدنية. وجاء في بعضها مختزلا بصيغة (هود) وجاء في بعضها منسوبا (يهوديا) وورد في بعض الأحاديث بدون حرف تعريف وغير مصروف كأنه اسم أعجمي حيث روى الترمذي بسند صحيح عن زيد بن ثابت قال: «أمرني رسول الله أن أتعلّم له كتاب يهود قال والله إني ما آمن يهود على كتاب. قال فما مرّ بي شهر حتى تعلمته له. فلمّا تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم» «1» . ومن المفسرين من يرجع تسمية (اليهود) و (يهود) و (هود)

_ (1) التاج ج 5 ص 230.

إلى ذلك الجذر العربي. غير أن الأكثر على أنها تعريب يهوذا اسم أكبر أبناء يعقوب. وأبو السبط الذي منه داود وسليمان وعيسى عليهم السلام. ولقد سميت المملكة التي قامت في بيت المقدس بعد سليمان باسم مملكة يهوذا لأن سبط يهوذا كان يقيم في منطقة بيت المقدس وكان أكبر وأشهر أسباط بني إسرائيل. ونحن نرجّح ما عليه الأكثر وعدم صرفه في الحديث قد يكون داعما لهذا الترجيح. ونرجّح أن تسمية (اليهود) و (يهود) و (هود) للذين كانوا يدينون بالدين الموسوي سابقة للبعثة. وأصبحت بذلك جزءا من اللغة العربية. لأن القرآن نزل بلسان عربي مبين. وقد غدت كذلك بعد البعثة وصار منها اشتقاق فصار يقال تهوّد لمن صار يهوديا، ومن ذلك الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من مولود إلّا يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه» «1» . وثانيا: إن كلمة (النصارى) وردت في السور المدنية كثيرا وبصيغ متعددة مثل (نصارى) و (نصرانيا) ، فأكثر الأقوال على أن كلمة نصارى هي جمع نصران مثل نشاوى جمع نشوان وسكارى جمع سكران. وروى الطبري بيتين من الشعر الجاهلي ورد فيهما المفرد مذكرا ومؤنثا: 1- تراه إذا زار العشي محنفا ... ويضحى لديه وهو نصران ثامن 2- فكلتاهما خرت وأسجد رأسها ... كما سجدت نصرانة لم تحنف والبيت الثاني صريح الدلالة على أن الكلمة تسمية لامرأة نصرانية. وهناك بيت جاهلي ثالث يرويه الطبري فيه كلمة أنصار جمعا للنصارى وهو: لما رأيت نبطا أنصارا ... شمرت عن ركبتي الإزارا كنت لهم من النصارى جارا ويقول الطبري إن هذه الأبيات تدلّ على أنهم سمّوا نصارى لنصرة بعضهم بعضا وتناصرهم بينهم. وهذا يعني أن الكلمة عربية صريحة من جذر نصر. وقد

_ (1) التاج ج 4 ص 180.

قال الطبري: إن هناك من يقول إن التسمية مقتبسة من جملة قرآنية حيث جاء في آية سورة آل عمران [52] هذه: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ وهذا القول يتسق مع القول إن الكلمة من جذر عربي صريح. غير أن الجملة المذكورة هي جملة قرآنية. ونعتقد أن كلمة النصارى للدلالة على معتنقي الديانة المسيحية كانت مستعملة قبل نزول القرآن. وهذا قد يجعل القول بأنها منبثقة من الجملة القرآنية محل نظر، إلّا أن يقال إن العرب الصرحاء من النصارى الذين كانوا كتلا كبيرة في الشام والعراق ومشارف الشام واليمن قد تسموا بهذا الاسم على اعتبار عيسى عليه السلام، وأنهم كانوا يتداولون فيما بينهم معنى الحوار الذي أخبر القرآن به بين عيسى والحواريين. وهناك من قال إن الكلمة مشتقة من اسم الناصرة. وهذا اسم مدينة في فلسطين ذكرت الأناجيل المتداولة أن عيسى عليه السلام كان يعيش فيها أو من أهلها. وقد نسب إليها في الأناجيل فجاء في بعض الإصحاحات تعبير (يسوع الناصري) غير أن كلمة (الناصرة) عربية الصيغة والمعنى. واسم هذه المدينة لم يكن بهذه الصيغة قبل الإسلام، ولم نطلع على خبر وثيق يجعلنا على يقين بأن هذه الصيغة تعريب سابق للبعثة لاسم المدينة القديم لأننا كما قلنا نعتقد أن تسمية النصارى سابقة للبعثة. وورودها في القرآن بصيغ مختلفة من الدلائل على ذلك. وقد غدت كلمة عربية وصار يشتقّ منها فيقال تنصر وينصرانه ومن ذلك الحديث الذي أوردناه آنفا. وثالثا: إن كلمة المجوس تأتي للمرة الأولى والوحيدة في هذه الآية. وفي القرآن كلمة (جاسوا) وكلمة (تجسسوا) ولكن كتب اللغة لا تذكر صلة بين هذا الجذر وبين تلك الكلمة التي يتفق المفسرون واللغويون على أنها للدلالة على معتنقي عبادة النار. والمشهور أن هذه الديانة هي ديانة أهل فارس قبل الإسلام. وقد ذكرت كتب التاريخ القديمة أنه كان للفرس معابد تسمّى بيوت النار وكان لها سدنة يهتمون لإدامة اتقادها وأن ذلك استمرّ إلى ما بعد الفتح الإسلامي في عهد الخلفاء الراشدين. ونحن نرجّح أن الكلمة بدلالتها غير عربية الأصل وأنها كانت

مستعملة في اللسان العربي للدلالة على أهل تلك الديانة. وإن لم نستطع العثور على أصلها التي عرّبت عنه. ولقد كان من العرب من اعتنق اليهودية والنصرانية فتسمّى العرب المتهوّدون والمتنصّرون باسم يهود ونصارى. فجاء اسمهم في القرآن كذلك. وذكر كلمة المجوس في القرآن قد يفيد أن من العرب من كان يعتنق تلك الديانة ويتسمّى بهذه الكلمة. وهناك روايات يمكن الاستئناس بها على ذلك. فقد روى ابن سعد في الجزء الثاني من كتاب الطبقات «1» أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أرسل كتابا ورسولا إلى ملك البحرين يدعوه وقومه إلى الإسلام فاستجاب، وأرسل إلى النبي يخبره أن عنده جماعة يدينون بالمجوسية واليهودية، وسأله أمره فيهم فأمره النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يدعوهم، فإن بقوا على دينهم أن يأخذ منهم الجزية وقد يكون المجوس من هؤلاء عربا. ولقد روى الآلوسي في كتابه «بلوغ الأرب» أن أشتاتا من العرب ومن بطون تميم، الذين كانوا في أنحاء العراق وجزيرة الفرات قبل الإسلام يعبدون النار ومن جملتهم زعماؤهم زراره بن عدس وابنه حاجب والأقرع بن حابس والأسود بن وكيع. ولقد بسط الفرس سلطانهم على اليمن في أواخر القرن السادس بعد الميلاد، أي في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا بدّ من أن يكونوا مارسوا ديانتهم في اليمن. وليس من المستبعد أن يكون بعض العرب من أهل اليمن اقتبسوها منهم «2» . ولقد غدت كلمة المجوس بورودها في القرآن عربية على كل حال، وصار ينحت منها اشتقاق تمجّس ويمجّسانه على ما ورد في الحديث الذي أوردناه قبل. ولقد روى الإمام أبو يوسف في كتاب «الخراج» حديثا عن عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب» وأنه أخذ الجزية منهم

_ (1) الطبقات الكبرى ص 27- 28. (2) انظر طبقات الأمم لابن صاعد والخراج لأبي يوسف ص 73- 75 والأموال لأبي عبيد 32- 34 وطبقات ابن سعد ج 2 ص 28 وتاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي ج 5 ص 362 وما بعدها، والجزء الثالث من تاريخ الطبري وفتوح البلدان للبلاذري والجزء الثاني من بلوغ الأرب في أحوال العرب.

على هذا الاعتبار، كما روي عن علي بن أبي طالب رواية تفيد أنهم كانوا أصحاب كتاب سماوي انحرفوا عنه «1» ، والله تعالى أعلم. ورابعا: إن كلمة الصابئين وردت مرتين أخريين في سورتي البقرة والمائدة مع المؤمنين واليهود والنصارى فقط كما ترى فيما يلي: 1- إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 62] . 2- إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [المائدة: 69] . ولقد تعددت أقوال المفسرين في الصابئين، فمنهم من قال إنهم فريق من النصارى ومنهم من قال إنهم فريق من المجوس ومنهم من قال إنهم عبدة الكواكب ومنهم من قال إن دينهم مزيج من اليهودية والنصرانية يقرّون بالله ويقرأون الزبور ويعبدون الملائكة ويصلّون إلى الكعبة قد أخذوا من كل دين شيئا. ومنهم من قال إن أصل دينهم هو دين نوح بل ومنهم من قال إنهم الذين لا دين لهم «2» . وهذه الأقوال لا تستند إلى سند وثيق وقد لا تخرج عن حدّ التخمين كما يؤيد ذلك تعددها وتموّجها. ولقد غاب عن الذين قالوا إنهم مجوس ورود اسم المجوس في آية الحجّ التي نحن في صددها مع اسم الصابئين. كما غاب عن الذين قالوا إنهم عبدة الملائكة أن هذا يعني أنهم مشركون مع أن اسم المشركين قد ورد أيضا مع اسمهم. وورود اسمهم في آيتي البقرة والمائدة مع المؤمنين واليهود والنصارى، أي مع الموحّدين توحيدا صريحا أو مؤوّلا، يسوّغ القول إنهم هم الآخرون موحّدون بشكل من الأشكال.

_ (1) انظر المصدر السابق نفسه. [.....] (2) اقرأ تفسير آية البقرة [62] في كتب تفسير الطبري والنسفي والرازي وأبي السعود والخازن والبيضاوي والطبرسي والبغوي وابن كثير.

ولقد استقرّ في الأذهان أن هذه التسمية هي للنحلة الموجودة في العراق الآن، والتي يطلق عليها اسم الصبّة الذي يظنّ أنه تحريف (الصبا) أو (الصبئة) ، بل إن بعض المفسرين قالوا هذا فيما قالوه. ومعروف أن بين رجال الأدب العربي القديم أفراد مشهورون من هذه النحلة احتفظوا بنسبتهم إليها منهم أبو إسحاق الصابي. ولقد أورد بعض المفسرين «1» قصة حول هذه النحلة، وهي أن المأمون مرّ بقرية فيها طائفة تعبد الكواكب فأراد أن يعتبرها من المشركين وأن لا يقبل منهم الجزية، فقيل له: إنهم (الصابئون) المذكورون في القرآن مع اليهود والنصارى وينسحب عليهم ما ينسحب على هؤلاء، فأبقاهم على الذمة وأخذ منهم الجزية. ونعتقد أن الربط بين صبّة العراق والصابئين في عهد المأمون وبعده وبين التسمية القرآنية وهم وتجوّز، أو بالأحرى تلفيق مرتجل بعد الإسلام. إلى جانب هذا نذكر أن الكلمة اشتقاق عربي أصيل من صبا أو صبأ بمعنى مال وانحرف «2» ، وقد ورد اشتقاق منها في آية سورة يوسف هذه: قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) بمعنى الميل أو الانحراف ونذكر كذلك أن العرب في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم كانوا يقولون للذي يفارق دين آبائه ويدخل في دين جديد (صابىء) وأنهم سموا النبي صلّى الله عليه وسلّم بهذا الاسم وسموا به المسلمين الأولين لأول عهد الإسلام. وكانوا ينعتونهم بالصبأة والصابئين. ولقد روى ابن هشام «3» أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) كان يقول عن النبي إنه صابىء وإنه لما أسلم وجاء لأول مرة بعد إسلامه إلى فناء الكعبة قال المجتمعون: إن ابن الخطاب قد أقبل عليهم بوجه صابىء. وفي صحيح البخاري أن امرأة بدوية عبّرت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بقولها: (ذلك الذي يقولون عنه الصابىء) . وفي «أسد الغابة» حديث عن الحارث الغامدي أنه رأى جماعة من

_ (1) المصدر السابق نفسه. (2) انظر لسان العرب. (3) ابن هشام ج 1 ص 311.

قريش تجمعوا على رجل من مكة فقال لأبيه: ما هذه الجماعة؟ فقال له: هؤلاء قوم اجتمعوا على صابىء لهم. فأشرفنا فإذا رسول الله يدعو الناس إلى عبادة الله وحده. فإطلاق التسمية على النبي والذين آمنوا به في أول عهد الإسلام، ثم سلك الصابئين في آيتي البقرة والمائدة في سلك الموحدين يزيد في قوة الاستدلال على أن الكلمة القرآنية عنت الموحدين بشكل ما والمنحرفين عن دين الآباء وتقاليدهم الشركية. وورودها في القرآن دليل على أنها من تعابير ما قبل البعثة وأنها كانت تطلق على جماعة ما في بيئة النبي متصفين بهذه الصفة، وأن منهم من ظلّ على ما كان عليه ولم يتّبع النبي صلّى الله عليه وسلّم. ولقد ورد في كتب السيرة والتفسير ذكر أفراد من عرب الحجاز كانوا ألمّوا بالكتب السماوية، واستنارت عقولهم فأنفوا أن يظلوا يعبدون ما يعبد آباؤهم ويشركون مع الله آلهة أخرى ففارقوا ذلك واستقروا على عقيدة التوحيد ومنهم من اعتزم التطويف في الأرض للبحث عن ملّة إبراهيم ومنهم من أخذ يتعبّد على ملّة إبراهيم أو ما ظنّه كذلك ومنهم من تنصّر ومنهم من كان في مكة ومنهم من كان في يثرب. وممن ذكرتهم الروايات زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وعثمان بن الحويرث وعبد الله بن جحش وأمية بن الصلت وأبو قيس البخاري اليثربي وأبو الهيثم بن التيهان اليثربي وأبو عامر الأوسي وسلمان الفارسي وأبو ذرّ الغفاري «1» . ومنهم من آمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم مثل سلمان وأبو ذرّ وعبد الله بن جحش. ومنهم من مات قبل بعثته مثل زيد بن عمرو وعثمان بن الحويرث ومنهم من مات في أوائل بعثته مثل ورقة بن نوفل، الذي أدرك أوائل البعثة وقال للنبي صلّى الله عليه وسلّم لأن أدركني أمرك لأنصرنك نصرا مؤزرا «2» . ومنهم من كفر بنبوة النبي وناوأه مناوأة شديدة حسدا وعنادا مثل أمية بن الصلت وأبي عامر الأوسي المعروف بالراهب.

_ (1) انظر ابن هشام ج 1 ص 215- 223 وج 2 ص 103 و 177- 178 وطبقات ابن سعد ج 1 ص 202 وتفسير الرازي ج 3 ص 369- 370. (2) انظر التاج ج 3 ص 226.

[سورة الحج (22) : آية 18]

ومما روي «1» أن النبي صلّى الله عليه وسلّم التقى بزيد بن عمرو وقال عنه: إنه يبعث أمة وحده، وإنه كان يناجي ربه فيقول: (لبيك حقا حقا تعبّدا ورقّا. عذت بما عاذ به إبراهيم. إنني لك عان راغم. مهما تجشمني فإني جاشم) ، وهو أبو سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة، الذي كان من السابقين الأولين إلى الإسلام وأسلمت معه زوجته فاطمة بنت الخطاب أخت عمر رضي الله عنهم. هذا، ويلحظ أن الآية لم تذكر صنفين ذكرا في آيات أخرى وهما عبّاد الشمس والقمر أو الكواكب وعبّاد الأوثان. وقد ذكر الأولون في الآية [37] من سورة فصلت، وذكر الآخرون في آيات سورة الأعراف [191- 198] ، وآيات سورة النجم [19- 24] وآيات سورة الأنبياء [52] وإبراهيم [35] والعنكبوت [17] . والمتبادر أن جملة وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا قد شملتهم لأنهم كانوا يعبدون الكواكب والأوثان من قبيل إشراكهم مع الله واتخاذهم شفعاء لديه، على ما شرحناه في سياق بعض الآيات. وقد يكون هناك ملل تعبد مظاهر الطبيعة الأخرى، وهذه أيضا لا تخرج عن الشرك وصفة المشركين. وقد يكون هناك ملل كتابية أخرى على ما شرحناه في سياق تفسير الآية [77] من سورة غافر، والآية [15] من سورة الشورى. والآية التي نحن في صددها لا تنفي ذلك. والمتبادر أن اقتصارها على ذكر اليهود والنصارى من الملل الكتابية آت من كونهم هم الذين يعرفهم العرب ويتصلون بهم. والله تعالى أعلم. [سورة الحج (22) : آية 18] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18) .

_ (1) أسد الغابة ج 2 ص 178.

[سورة الحج (22) : الآيات 19 إلى 24]

تتضمن الآية: 1- سؤالا للنبي صلّى الله عليه وسلّم أو للسامع في معنى التقرير والتوكيد بخضوع كلّ من في السموات والأرض، بما في ذلك الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب، لله وبإخلاص كثير من الناس له أيضا في العبادة والخضوع. 2- وإشارة إلى أن كثيرا من الناس قد استحقّوا عذاب الله بسبب جحودهم وتمرّدهم. 3- وإنذارا لهذا الفريق بأن الله إذا قضى على أحد بالخزي والهوان بسبب كفره وتمرّده فلن يكون له من يبدّل هوانه بكرامة وهو الفعّال لما يشاء. والصلة كذلك غير منقطعة بين هذه الآية وما قبلها وبخاصة الآية السابقة لها مباشرة كما هو المتبادر. وهي بسبيل التدليل على عظمة الله وشمول حكمه، وخضوع من في الكون له، وتوكيد كون الدعوة النبوية هي المتسقة مع واجب الإنسان بالاعتراف بالله وحده والاتجاه إليه وحده. وهي كذلك بسبيل تطمين النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين وتثبيتهم، والتنديد بالمنحرفين عن الطريق القويم وإنذارهم بالخزي وسوء العاقبة. وأسلوبها قوي نافذ. وما احتوته من تقرير كون جميع ما في كون الله خاضع له تعالى قد مرّ في سور سابقة في مناسبات مماثلة وبأساليب متنوعة. ولقد كتبنا تعليقا على آية سورة الإسراء هذه تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) ويمكن أن ينسحب هذا التعليق على هذه الآية، وبخاصة بالنسبة لسجود من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والشجر والدواب. [سورة الحج (22) : الآيات 19 الى 24] هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24) .

(1) يصهر: يذاب. (2) مقامع: سياط مدببة الرؤوس. في الآيات إنذار وبشرى لكل من المؤمنين والكفار بالمصير الذي يصيرون إليه يوم القيامة ووصف له. وقد تضمنت التقريرات التالية: 1- إن الناس يوم القيامة فريقان قد اختلفا في موقفهم من الله ربهم فمنهم من كفر به ومنهم من آمن وعمل الصالحات. 2- إن مصير الجاحدين رهيب جدا حيث يهيأ لهم ثياب من نار ويصبّ فوق رؤوسهم الماء الشديد الحرارة الذي يذيب ما في البطون والجلود. وحيث يعدّ لهم مقامع الحديد التي تلهب أجسامهم وتحطّم أطرافهم. وكلّما ظنوا أن عذابهم وهمهم انتهيا أو كلما أرادوا أن يخلصوا منهما، عادا فتجددا قويين شديدين وقيل لهم ذوقوا عذاب الحريق. 3- أما المؤمنون الذين يعملون الصالحات فإن الله يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، ويتزينون بالأساور الذهبية وباللؤلؤ ويلبسون الثياب الحريرية جزاء لما كان من اهتدائهم إلى أحسن الأقوال، وسيرهم في أحمد الطرق وأضمنها للنجاة. ولقد روى الطبري والبغوي وغيرهما روايات وتأويلات عديدة في المقصود من الآية الأولى، من ذلك أن أبا ذرّ أقسم بالله أنها نزلت في ستة من قريش حمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وعبيدة بن الحرث (رضي الله عنهم) ، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، يوم تبارزوا في بدر. حيث دعا الثلاثة الآخرون أكفاءهم من بني عمومتهم إلى المبارزة قائلين نحن وإياهم أحقّ

بالخصومة، فبرز إليهم الثلاثة الأولون. ومن ذلك عن ابن عباس أن الخصمين هما أهل الكتاب والمسلمون، حيث قال الأولون للآخرين: نحن أولى بالله وأقدم منكم كتابا ونبينا قبل نبيكم وقال الآخرون للأولين: نحن أحقّ بالله آمنا بمحمد وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله من كتاب فأنتم تعرفون نبيّنا وكتابنا ثم تركتموه وكفرتم به حسدا. ومن ذلك عن مجاهد أن الخصمين هما المشركون والمسلمون اختصموا أيّهم على حقّ. ومن ذلك عن مجاهد أن الخصمين الجنة والنار حيث قالت الأولى خلقني الله لرحمته وقالت الثانية خلقني لعقوبته. والرواية الأولى من مرويات الشيخين ونصّهما هو: «كان أبو ذرّ يقسم أن هذه الآية نزلت في حمزة وصاحبيه وعتبة وصاحبيه يوم برزوا في يوم بدر» «1» . وقد روى الشيخان كذلك عن علي قوله: «أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة. قال قيس وفيهم نزلت هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ قال هم الذين بارزوا يوم بدر علي وحمزة وعبيدة وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة» «2» . وقد صوّب الطبري من هذه الروايات رواية كون الآية في صدد الكفار عامّة والمؤمنين عامة. حيث يفيد أن ما رواه الشيخان لم يثبت عنده، والروايات الأخرى تفيد هذا أيضا. وتقتضي رواية الشيخين أن تكون الآية مدنية، ولم يرو أحد ذلك بصراحة والأسلوب والطابع المكيان بارزان عليها، والنفس مطمئنة بتصويب الطبري، مع القول أنها بسبيل توكيد ما انطوت عليه الآيات السابقة من صدق الدعوة النبوية وما فيها من حقّ وهدى، والتنويه بالذين استجابوا لها وبشرى لهم، وبسبيل توكيد خطأ الكافرين بها وضلالهم وإنذارهم. وأسلوبها التقريري العام مما يؤيد ذلك حيث تضمّن تقرير كون الناس من الدعوة النبوية فريقين جاحد ضالّ ومؤمن مخلص ولكل مصيره الذي يستحقه. ووصف مصير كل فريق نافذ يثير الرغبة والشوق والغبطة من جهة، والفزع والرعب من جهة أخرى. وهذا وذاك مما استهدفته الآيات كأمثالها العديدة.

_ (1) التاج ج 4 ص 160- 161. (2) المصدر نفسه.

ولقد حمل الشيعة القول المروي عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) بأنه أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة، على كون الخصومة التي يجثو لها هي مع الذين ناوأوه في حقّه من الإمامة. وهذا من غرائب تخريجاتهم، فعلي رضي الله عنه بايع برضائه وتعاون مع أبي بكر وعمر وعثمان (رضي الله عنهم) مثل سائر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وما كان ليفعل ذلك لو كان يعتقد أن الله ورسوله قد قررا حقّ التقدم له في خلافة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وليس هو أضعف منهم عصبية وشخصية وما كان يمكن أن يقبل ذلك غالبية أصحاب رسول الله بل كلهم. ونحب أن ننزهه عن القول المروي عنه. ونرجّح أن الهوى الحزبي قد لعب دوره فيه. فبالإضافة إلى الغرابة التي تبدو في التخريج، فإن القول بحدّ ذاته يبدو غريبا وغير مفهوم المدى. ولقد روى الطبري والبغوي، كل بطريقه، عن أبي هريرة في سياق جملة يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ حديثا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الحميم ليصبّ على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه، فيسلق ما في جوفه حتى يبلغ قدميه، وهو الصهر ثم يعاد إلى ما كان» . وأورد ابن كثير في سياق جملة وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لو أنّ قمعا من حديد وضع في الأرض فاجتمع له الثقلان ما أقلوه من الأرض» . وحديثا آخر رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد أيضا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لو ضرب الجبل بمقمع من حديد لتفتّت ثم عاد كما كان، ولو أن دلوا من غسّاق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا» . والحديث الأول رواه الترمذي أيضا «1» كما روى الترمذي الشطر الثاني من الحديث الثاني أيضا «2» . ووصف هول العذاب الأخروي والتخويف منه مما يلمح من الحكمة في الحديثين. وهو ما يلمح من الحكمة في الآيات بالإضافة إلى وجوب الإيمان بما جاء

_ (1) التاج ج 5 ص 390 و 391. (2) المصدر نفسه.

[سورة الحج (22) : الآيات 25 إلى 29]

في القرآن وصحّ في الحديث من المشاهد الأخروية وكونها في نطاق قدرة الله تعالى. [سورة الحج (22) : الآيات 25 الى 29] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) . (1) العاكف: هنا بمعنى المقيم، وقد تطلق على الذي يقيم في المسجد للتعبّد. (2) البادي: هنا بمعنى الطارئ الآتي من البادية أو الخارج. (3) بإلحاد بظلم: الباء زائدة. والإلحاد بمعنى الميل. ومعنى الجملة (ومن يرد فيه الانحراف والميل نحو الظلم والبغي) . (4) أذّن في الناس بالحجّ: نادهم واهتف بهم ليأتوا ويحجّوا البيت. وكلمة الحجّ في اللغة بمعنى القصد والاتجاه إلى الشيء والمكان، ثم صار علما على زيارة الكعبة كطقس ديني قبل الإسلام واستمرّ بعده كذلك. (5) رجالا: مشاة. (6) ضامر: من الضمور بمعنى النحافة. والكلمة وصف للخيل التي يخفف من شحمها لتكون أقدر على الركض. (7) يأتين: الضمير عائد (لكل ضامر) . (8) فجّ: طريق أو ناحية. (9) عميق: هنا بمعنى بعيد.

تعليقات على الآية إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام ... وما بعدها [25 - 29] مع بيان حكمة الإبقاء على تقاليد الحج

(10) ويذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام: القصد من الجملة ذكر الله عند ذبح القرابين من الأنعام. (11) ليقضوا تفثهم: قيل إنها بمعنى ليزيلوا أوساخهم أو يحلقوا شعرهم ويقلموا أظفارهم وذلك حينما يتحلّلون من الإحرام وقيل إنها بمعنى ليقضوا ما عليهم من واجبات ومناسك، أو ليقضوا ما لهم من حاجات. في هذه الآيات: 1- إشارة تنديدية إلى الكفار. فهم بالإضافة إلى كفرهم يمنعون الناس عن سبيل الله والاستجابة إلى دعوته. ويمنعونهم كذلك عن المسجد الحرام الذي جعله الله لجميع الناس على السواء المقيم منهم في جواره والقادم من الخارج. 2- وإنذار بالعذاب الرباني الأليم لكل من يقترف الظلم والبغي والعدوان فيه. 3- واستطراد تعقيبي على ذلك: فالله قد عيّن لإبراهيم مكان بيته وأمره بعدم الإشراك به ثم بتطهير هذا المكان وتهيئته للطائفين حوله والقائمين الراكعين الساجدين عنده لله. وبدعوة الناس إلى الحجّ إليه في أيام معينة من السنة ليأتوا إليه من كلّ ناحية ودرب مهما بعد مشاة وركبانا، ويشهدوا منافع جمّة لهم في موسمه ويقرّبوا فيه القرابين من الأنعام التي رزقهم الله إياها، ذاكرين اسمه عليها، ويأكلوا منها ويطعموا البؤساء والفقراء، ويؤدّوا شعائرهم التعبدية من وفاء نذور وطواف حول البيت، ويقضوا حاجاتهم المتنوعة. تعليقات على الآية إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ ... وما بعدها [25- 29] مع بيان حكمة الإبقاء على تقاليد الحج فحوى الآيات يحتمل أن تكون مكيّة كما يحتمل أن تكون مدنيّة. وفي حالة صحّة الاحتمال الأول يكون في الآيات دلالة على أن الكفار كانوا يمنعون

المسلمين من أداء صلاتهم عند الكعبة والحجّ إليها والطواف حولها. وقد ذكر هذا المفسّر الطبرسي في سياق تفسيرها. ولقد أشارت إحدى آيات سورة العلق إلى محاولة منع أحد الزعماء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الصلاة عندها على ما شرحناه في سياق تفسيرها كما أن بعض الروايات ذكرت محاولات الكفار في ذلك منها رواية عن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) جاء فيها أن المسلمين ما كانوا يجرأون على الصلاة عند الكعبة والطواف حولها إلّا بعد إسلام عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بسبب ضعفهم وصدّ المشركين لهم عن ذلك «1» . وفي حالة صحة الاحتمال الثاني الذي انفرد المفسر ابن كثير فيه يكون في الآيات دلالة على أن المسلمين كانوا يأتون من دار هجرتهم إلى مكة بقصد أداء الحج أو العمرة، فيتصدّى لهم كفار قريش ويمنعونهم ويعتدون عليهم ويظلمونهم، وفي سورة الأنفال المدنية آية تذكر صدّ الكفار عن المسجد الحرام والادعاء بأنهم أولياؤه وهي هذه: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) وفي سورة الفتح المدنية آية أخرى فيها نفس الدلالة وهي هذه: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [25] إلخ. وفي هذه إشارة إلى حادث تاريخي يقيني وهو رحلة النبي صلّى الله عليه وسلّم مع أصحابه إلى مكة بقصد زيارة المسجد الحرام وتصدي المشركين لهم ومنعهم. ونحن نرجّح الاحتمال الأول على ضوء ما شرحناه من تناسب بين الآيات وسابقاتها والله أعلم. والآيات صريحة التقرير بأن تهيئة الكعبة لعبادة الله وتطهيرها والحجّ إليها وجعلها لجميع الناس من مقيمين وغير مقيمين، وإنشاء تقاليد الحجّ متصل بإبراهيم (عليه السلام) بأمر الله تعالى، وهذا التقرير تكرر في آيات في سورة البقرة مضافا إليه إن الله قد جعل الكعبة وحرمها مثابة للناس وأمنا وهي هذه: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ

_ (1) انظر تاريخ عمر بن الخطاب للإمام ابن الجوزي، ص 14.

طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) ووردت إشارة ما إلى ذلك في آيات سورة إبراهيم [35- 38] التي مرّ تفسيرها. وورود هذه الصراحة في الآيات التي احتوت التنديد بمشركي قريش وإنذارهم بسبب صدّهم عن المسجد الحرام وظلمهم فيه وخرقهم بذلك حرمته وقدسيته، يلهم أن هؤلاء كانوا يعرفون ما جاء فيها ويتناقلون ذلك على ما شرحناه في مناسبات سابقة وبخاصة في سياق تفسير سورتي الأعلى وإبراهيم شرحا يغني عن التكرار. ولقد بلغ من اهتمامهم لحفظ تقاليد الحجّ وحرمة المسجد الحرام ومنطقته ومنع كل بغي وقتال وسفك دم فيها أن قدّسوا أشهر الحج وحرّموا القتال فيها، حتى الصيد داخل منطقة الحرم وخارجها، وحرّموا القتال في هذه المنطقة في كل وقت. وكانوا يعتبرون خرق ذلك فجارا، وكانت لهم أيام عرفت بأيام الفجار، بسبيل منع خرقها. وعقدوا فيما بينهم حلفا سمّي حلف الفضول لمنع أي ظلم في الحرم ونصر أي مظلوم فيه «1» . وفي كتب التفسير روايات معزوة إلى علماء التابعين والأخبار في الصدر الإسلامي الأول في سياق هذه الآيات. منها ما يتصل بأوّلية الكعبة، وقد أوردناه وعلّقنا عليه في سياق تفسير سورة قريش بما يغني عن التكرار. ومنها ما يتصل بالعبارات الجديدة في الآيات. ومن ذلك أن الله أمر إبراهيم (عليه السلام) بعد أن أتمّ بناء البيت مع إسماعيل، أن يؤذن في الناس بالحج، فقال: ربّ وماذا أستطيع أن أبلغ؟ فقال له عليك النداء وعليّ الإسماع، فهتف قائلا: ألا إن ربكم قد اتخذ بيتا وأمركم أن تحجّوه فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء فأجابه من

_ (1) انظر طبقات ابن سعد ج 1 ص 108- 111.

آمن ممن سبق في علم الله أن يحجّ إلى يوم القيامة لبيك اللهم لبيك وفي رواية (ما سمعه يومئذ من إنس وجن وشجر وأكمة وتراب وجبل وماء، ولا أي شيء آخر من خلق الله إلّا قال: لبيك اللهم لبيك) . وليس شيء من ذلك واردا في كتب الأحاديث المعتبرة. والأولى الوقوف عند ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاؤه والإيمان به، مع القول إن الروايات تؤكد ما قلناه من أن أهل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم كانوا يتداولون ذلك قبل الإسلام، ومع الإيمان بأنه لا بدّ من أن يكون لما جاء في الآيات من ذلك حكمة. لعلّ منها تذكير السامعين بما يعرفون، وبأن الله الذي يعترفون به ويقدسون بيته قد جعل هذا البيت مثابة للناس جميعا، ومطهرا من الشرك من لدن إبراهيم الذي ينتسبون إليه بالنبوة، ثم التنديد بهم لمخالفتهم ذلك وصدّهم المسلمين عنه، وخرقهم حرمته وشركهم بالله وإقامة أوثانهم عند بيته المطهر، حيث تستحكم بذلك فيهم الحجة. ولقد روى الطبري قولين في معنى بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ أحدهما إنه القديم جدا حيث ورد في آية في سورة آل عمران أنه أوّل بيت وضع للناس وهي إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) . وثانيهما أنه بمعنى أعتقه الله من الجبابرة. وقد روى الترمذي في هذا المعنى حديثا عن عبد الله بن الزبير أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّما سمّي البيت العتيق لأنّه لم يظهر عليه جبّار» «1» . فإذا صحّ الحديث فمن الحكمة الملموحة فيه توكيد قدسيته وعناية الله به وتحريم البغي والظلم فيه وصدّ الناس عنه، وبهذا يتسق الحديث مع مدى الآيات. ومع أن الآيات تحكي ما أمر الله به إبراهيم، فإنها تلهم أنها تحكي كذلك ما توطّد من عادة العرب قبل الإسلام من الحجّ للكعبة في أيام معينة ومجيئهم إليها من كلّ صوب قريب وبعيد، وتجشّمهم المشاق بسبيل ذلك ومن الطواف حولها

_ (1) التاج ج 4 ص 161. [.....]

والنذر لها وتقريب القرابين عندها، وما كان يتيسر لهم في موسمها من منافع ويقضون من حاجات. وكان من ذلك على ما روته الروايات المتواترة قيام أسواق عديدة في موسم الحج يتبادل العرب فيها سلعهم ويقضون حاجاتهم ويعقدون مجالس قضائية لحلّ المشاكل والخلافات، ويقيمون ندوات الشعر والمفاخرة إلخ وكان ذلك من أسباب تطور اللغة العربية وتهذيبها وتوحيدها ووصولها إلى ذروة الفصحى التي نزل بها القرآن وغدوّها لغة جميع العرب إجمالا على اختلاف منازلهم. كما كان ذلك من مظاهر اتحاد العرب، أو اتحادهم في الاتجاه والتقارب بين مختلف قبائل العرب على اختلاف منازلهم أيضا في داخل الجزيرة وخارجها. ولقد كانت تقاليد الحجّ راسخة شائعة في العرب، وكان أهل مكة خاصة يخشون الأضرار والأخطار من زوالها نتيجة للدعوة الإسلامية على ما أشير إلى ذلك في آية سورة القصص [57] وما شرحناه في مناسبتها. فكان كل هذا فيما يتبادر لنا من حكمة الله في الإبقاء على طقوس وتقاليد الحجّ في الإسلام مهما بدا في بعضها من غرابة ومن عدم تبيين الناس حكمة لها الّا بعد تجريدها من آثار الوثنية والشرك ومشاهد القبح، مثل الطواف بالعري وجعله فرضا على المستطيعين من المسلمين ولو مرة في العمر ليكون لهم في ذلك فرصة سنويّة متجدّدة، فتأتي فئات منهم في كل سنة من كلّ صوب من أقطار الدنيا إلى مهبط وحي الله وبيته العتيق ليعلنوا خضوعهم له على صعيد واحد، متساوين في كلّ مظهر وليتقرّبوا إليه بالعبادة والأضاحي والصدقات والنذور، ولينتفعوا بشتى وجوه الانتفاع الروحي، والرياضي، والاجتماعي، والاقتصادي، والشخصي، والسياحي، والتعارفي، والسياسي. ولتكون رابطة دينية متجددة تظل تربط المسلمين في كافة أنحاء الدنيا وفي كلّ ظرف ما دامت الدنيا قائمة بمهبط وحي الله ورسالته على خاتم أنبيائه ورسله كمظهر من مظاهر شكر الله واحترام البلد العربي الذي اختصّه الله بذلك. ويتراءى لنا في الإبقاء على هذا التقليد بعد تجريده من شوائب الشرك

ومشاهد القبح كالطواف في حالة العري تلقين جليل آخر، وهو أن المهم في الدعوة الإسلامية هو التوحيد، وكل ما فيه كفالة خير الناس ومصالحهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة. وليس المهم هو هدم القديم مطلقا، فما كان متناقضا مع ذلك المهم فيجب هدمه بما هو الأصلح والأفضل والأوجب. وليس من حرج من بقاء قديم لا يتناقض مع ذلك إذا كان في بقائه فوائد ينتفع بها المسلمون أو إذا كان في هدمه إثارة للنفوس. ولقد قال بعض المفسّرين» إن العرب كانوا لا يأكلون من لحوم أضاحيهم التي ينحرونها في موسم الحج، وإن الآية [28] قد أحلّت ذلك للمسلمين. ومع أن الآيات هي بسبيل الاستطراد كما قلنا فإن في استنباط حلّ أكل صاحب القربان من لحم قربانه وجاهة ظاهرة. وتعبير وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ بعد كلمة الطائفين في الآية [26] قد يلهم أن القيام والركوع والسجود على التوالي- وهو شكل الصلاة الإسلامية- قد كان ممارسا عند الكعبة قبل الإسلام بالإضافة إلى الطواف حولها. ولقد تعددت أقوال المفسرين «2» عزوا إلى بعض الأحاديث في مدى تعبير أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ حيث روي أنها العشر الأولى من ذي الحجة كما روي أنها يوم عرفة ويوم العيد وأيام التشريق بعدهما. وقد تعددت أيضا في تعدادها بين يومين وبين أربعة أيام. والمتبادر أن سامعي القرآن لأول مرة كانوا يعرفون الأيام المعلومات التي تقرّب فيها القرابين. وإذا لحظنا أن المشهور المتعارف عند المسلمين أن يوم العيد وأيام التشريق التي تليه هي التي تنحر فيها القرابين ساغ القول إنها هي المقصودة والله تعالى أعلم. ولقد أورد ابن كثير في سياق هذا التعبير حديثا رواه البخاري عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما العمل في أيام أفضل منها في هذه. قالوا ولا الجهاد في

_ (1) انظر تفسيرها في تفسير ابن كثير. (2) انظر تفسيرها في الخازن وابن كثير والطبري والبغوي.

تعليق على موضوع النذر

سبيل الله. قال ولا الجهاد في سبيل الله إلّا رجل يخرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء» . وحديثا آخر رواه الإمام أحمد عن ابن عمر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما من أيام أعظم عند الله ولا أحبّ إليه العمل فيهنّ من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهنّ من التهليل والتكبير والتحميد» . فإن صحّت الأحاديث فمن الحكمة الملموحة فيها توكيد فضل هذه الأيام والحثّ على التقرّب إلى الله فيها بالعبادة والذكر. وهناك أحاديث نبوية وصحابية وتابعية في صدد مناسك الحج المتنوعة رأينا تأجيل إيرادها وشرحها إلى تفسير آيات الطواف والحج في سورة البقرة لأنها أكثر مناسبة. تعليق على موضوع النذر وبمناسبة الإشارة إلى وفاء الحجاج بنذورهم في الآية الأخيرة من هذه الآيات نقول: إن النذر عهد يقطعه الإنسان على نفسه بتقديم قربان ما للمعبود، أو فعل فعل ما يظنّ أنه يرضى به المعبود تقرّبا إليه واسترضاء له ورغبة في قضاء مطلب من دفع شرّ وضرّ وخطر أو جلب خير ونفع، أو تعبيرا عن الشكر إذا تحقق له مثل هذا الطلب. وقد اعتاد البشر ذلك منذ أقدم الأزمنة وعلى اختلاف بيئاتهم وعقائدهم. والآية التي نحن في صددها تدلّ على أن العرب في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم وعصره لم يخرجوا عن ذلك. وفي الكتب العربية روايات كثيرة تفيد هذا بالنسبة للعرب في غير بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم وعصره كما كان شأن سائر البشر. وليست هذه الآية أولى الآيات التي ذكر فيها النذر، ففي سورة مريم آية فيها حكاية قول عيسى (عليه السلام) لأمه عقب ولادته وحينما خافت من عاقبة هذه الولادة وهي: فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) . وقد رأينا أن التعليق على هذا الموضوع في مناسبة آية سورة الحجّ أكثر ملاءمة، لأن الآية قد تفيد أنها بسبيل حكاية ما كان يفعله العرب ثم المسلمون بعد البعثة من وفاء نذورهم.

وفي القرآن آيات أخرى منها ما هو حكاية عن أم مريم قبل الإسلام وهي آية سورة آل عمران هذه: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) وفي هذه الآية، كما في آية مريم بيان لمدى النذر في نطاق ما قلناه. ومنها ما فيه ثناء على الأبرار الذين يوفون بالنذر. ويمكن أن يكون شاملا للمؤمنين المخلصين قبل البعثة النبوية وبعدها، وهي آية سورة الإنسان هذه يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) ، ومنها ما ينطوي فيه إقرار للنذر في الإسلام وإيجاب للوفاء به ووعد بالثواب عليه، وهي آية سورة البقرة هذه: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270) . ولقد أثرت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أحاديث عديدة في النذر وردت في كتب الأحاديث الصحيحة «1» ، فيها دلالة على شيوع النذر عند العرب وتشريع لما سكت عنه القرآن في موضوعه، ولا يجزىء إيراد بعضها لأن فيها صورا متنوعة وتشريعات وتلقينات متنوعة تبعا لها فرأينا إيرادها كلها على كثرتها: 1- عن ابن عمر قال: «نهى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن النذر، وقال إنّه لا يردّ شيئا ولكنّه يستخرج به من البخيل» . 2- عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ النذر لا يقرّب من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدّره له ولكنّ النذر يوافق القدر فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج» . روى الحديثين البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي. 3- عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» رواه الخمسة إلّا مسلما. 4- عن عمران بن الحصين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «خيركم قرني ثم الذين

_ (1) انظر التاج ج 3 ص 73- 78.

يلونهم، لا أدري ذكر اثنين أو ثلاثة بعد قرنه ثم يجيء قوم ينذرون ولا يفون ويخونون ولا يؤتمنون ويشهدون ولا يستشهدون ويظهر فيهم السّمن» رواه البخاري والنسائي. 5- جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم الفتح فقال يا رسول الله: «إني نذرت لله إن فتح عليك مكة أن أصلّي في بيت المقدس ركعتين، قال: صلّ هاهنا ثم أعاد عليه فقال: صلّ هاهنا ثم أعاد عليه فقال: شأنك إذا، وزاد في رواية والذي بعث محمدا بالحقّ لو صلّيت هاهنا لأجزأ عنك صلاة في بيت المقدس» . رواه أبو داود والبيهقي والحاكم وصححه. 6- وأتت امرأة إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدّفّ قال: أو في نذرك. قالت: إني نذرت أن أنحر بمكان كذا وكذا قال: لصنم قالت: لا، قال: لوثن قالت: لا، قال: أوفي بنذرك. رواه أبو داود والترمذي بسند صحيح. 7- عن ابن عباس قال: «استفتى سعد بن عبادة رسول الله في نذر كان على أمّه توفّيت قبل قضائه فقال رسول الله فاقضه عنها» رواه الخمسة. 8- وعنه أن رجلا أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إنّ أختي نذرت أن تحجّ وقد ماتت فقال النبيّ لو كان عليها دين أكنت قاضيه، قال: نعم، قال: فاقض الله فهو أحقّ بالقضاء» . رواه البخاري والنسائي. 9- وعنه أن امرأة ركبت البحر فنذرت إن نجّاها الله أن تصوم شهرا فنجّاها الله فلم تصم حتى ماتت فجاءت ابنتها أو أختها إلى النبيّ فأمرها أن تصوم عنها. رواه أبو داود والنسائي. 10- وعنه «بينما النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس فسأل عنه فقالوا أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظلّ ولا يتكلّم ويصوم فقال النبيّ مره فليتكلّم وليستظلّ وليقعد وليتمّ صومه. رواه الخمسة.

11- عن أبي هريرة أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أدرك شيخا يمشي بين ابنيه يتوكّأ عليهما فسأل ما شأنه قال ابناه: يا رسول الله كان عليه نذر المشي إلى بيت الله فقال اركب أيّها الشيخ فإنّ الله غنيّ عنك وعن نذرك. رواه مسلم وأبو داود والترمذي. 12- عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله يقول لا يمين عليك ولا نذر في معصية الربّ ولا في قطيعة الرحم ولا فيما لا تملك. رواه أبو داود والنسائي. 13- قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من نذر نذرا لم يسمّه فكفّارته كفّارة يمين ومن نذر نذرا في معصية فكفّارته كفارة يمين ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفّارته كفارة يمين ومن نذر نذرا أطاقه فليف به. رواه أبو داود. 14- عن كعب بن مالك قال: إنّ من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله فقال النبيّ أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك. رواه الشيخان وأبو داود والنسائي وفي رواية أنه قال له يجزي عنك الثلث «1» . 15- عن عمر بن الخطاب قال: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أوف بنذرك فاعتكف ليلة. رواه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وأبو داود «2» . وقد روي أن امرأة بدوية جاءت في صدر الإسلام إلى المدينة تذكر أنها نذرت نحر ابنها عند الكعبة إن هي فعلت أمرا ففعلته وتستفتي في وفاء نذرها فقيل لها إنّ الله قد حرّم ذلك وإنّ عليها أن تقدّم فدية كما فعل عبد المطلب جدّ النبي صلّى الله عليه وسلّم «3» . وفي كل حديث من الأحاديث النبوية كما قلنا تشريع وتلقين وحكمة. ولا

_ (1) كعب هو أحد الثلاثة الذين تخلفوا بدون عذر عن غزوة تبوك وتاب الله عليهم في آية سورة التوبة هذه وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) . (2) هذا الحديث في الجزء الثاني من التاج ص 96. (3) تاريخ العرب قبل الإسلام ج 5 ص 200.

[سورة الحج (22) : الآيات 30 إلى 31]

تعارض فيها. فلا ينبغي أن يعتقد المسلم أن للنذر تأثيرا في ما يصيبه وما لا يصيبه. ومع ذلك فإذا نذر المسلم أن يؤدي لله عبادة أو يفعل خيرا إذا تحقق له مطلب أو أراد أن يشكر الله على تحقيق مطلب له أو أراد أن يتقرّب إلى الله فهو عهد يجب الوفاء به على أن لا يكون في معصية أو فيه مشقة وعناء وتزمّت وغرابة. [سورة الحج (22) : الآيات 30 الى 31] ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) . (1) حرمات الله: قيل إنها ما حرّم الله هتكه ونقضه بصورة عامة. وقيل إنها المحرّمات المتصلة بتقاليد الحجّ وهي: المسجد الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والصيد في الحرم، والأشهر الحرم، والهدي الذي يهديه الحجّاج من الأنعام قربانا لله. وكلا القولين وجيه. ونحن نرجّح القول الأول لأننا نراه يتسق أكثر مع روح الآيات. في هاتين الآيتين: 1- تعقيب على الآيات السابقة: ففي ذلك الكلام السابق بيان كاف عن حرمات الله ووجوب تعظيمها والوقوف عندها. ومن يفعل ذلك فإنه يضمن لنفسه الخير عند ربه. 2- واستدراك وجه الخطاب فيه للمؤمنين بخاصة، بأن الله قد أحلّ لهم أكل الأنعام باستثناء ما نهوا عنه من ذلك في القرآن. 3- وتحذير وأمر للمؤمنين بخاصة باجتناب الأوثان الرجسة واجتناب قول الزور والإفك، وبأن يكون اتجاههم إلى الله وحده غير مشركين به شيئا، فإن مثل

تعليق على الأمر باجتناب قول الزور

من يشرك به كمثل من تردّى من علوّ شاهق حيث يتحطّم وتتمزق أشلاؤه فتتخاطفها الطيور أو تطوّح به الريح إلى المهاوي السحيقة. والآيتان متصلتان كما هو واضح بسابقاتهما سياقا وموضوعا. وما قلناه من احتمال كون الآيات السابقة لهما مكية أو مدنية ينسحب عليهما أيضا لأنها سلسلة واحدة. والمتبادر أن تعبير إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ يعني إلّا ما ذكر تحريمه من قبل في القرآن. وقد ذكر في سورتي الأنعام والنحل تحريم أكل الذبائح التي لم يذكر اسم الله عليها والميتة ولحم الخنزير والدم المسفوح. وقد قال المفسرون «1» في صدد تعبير قَوْلَ الزُّورِ إن المشركين كانوا يقولون هذه الصيغة في تلبيتهم بالحجّ (لبيك لا شريك لك إلّا شريك هو لك تملكه وما ملك) ، وأن التحذير متّصل بذلك. وورود التعبير في سياق النهي عن الشرك والأوثان وذكر تقاليد الحجّ قد يدلّ على أنه في صدد التحذير من شيء مثل هذا إن لم يكن هو نفسه. ولا سيما أن الصيغة متّسقة مع ما حكاه القرآن عن عقيدتهم بالله واعتبارهم الشركاء وبتعبير آخر اعتبارهم شركاءهم ملكا لله وخاضعين له. ولقد صارت التلبية التي كانت شركية قبل الإسلام التي ذكرناها قبل في الإسلام خالصة لله عزّ وجلّ (لبّيك اللهم لبّيك. لبّيك لا شريك لك لبّيك. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) . تعليق على الأمر باجتناب قول الزور على أن بعض المفسرين «2» أخذوا الأمر باجتناب قول الزور على عموميته، ونبّهوا على عظم الإثم الذي ينطوي في قول الزور، وشهادة الزور، وأوردوا في صدد ذلك وفي سياق هذه الآية أحاديث نبوية منها حديث قال راويه إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قام خطيبا فقال: «أيّها الناس عدلت شهادة الزور بالشرك مرتين ثم قرأ

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير البغوي والخازن والطبرسي. (2) انظر تفسير الآيات في الطبري وابن كثير والبغوي والخازن والطبرسي.

استدلال على ممارسة المسلمين الحج قبل فتح مكة

فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ. ومنها حديث ورد في الصحيحين عن أبي بكرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور فما زال يكرّرها حتى قلنا ليته سكت» «1» . وبعض الذين نقلوا هذا من المفسرين من قال إن جملة قَوْلَ الزُّورِ هي صيغة تلبية المشركين المذكورة آنفا. ومهما يكن من أمر فإن الإطلاق في عبارة الأمر يجعل عمومية الأمر باجتناب قول الزور وجيهة، حتى ولو صحّ أن الجملة من الوجهة الزمنية ومقام ورودها قد عنت تلك الصيغة، ويوجب على المسلم أن يتجنب الزور وقول الزور وشهادة الزور في كل ظرف ومكان لما في ذلك من عظيم البغي والضرر والشرّ، حتى استحقّ وصف الرسول الأعظم له بأنه من أكبر الكبائر وبأنه يعدل الشرك. استدلال على ممارسة المسلمين الحجّ قبل فتح مكة والمتبادر من الأمر باجتناب الأوثان في هذا المقام أنه يقصد اجتناب الأوثان التي كانت في فناء الكعبة والصفا والمروة، والتي كان المشركون يقومون بطقوسهم ويقرّبون قرابينهم عندها على ما تواترت فيه الروايات «2» . وإذا صح ذلك فإن الآيات تلهم أنه كان يتسنى لبعض المسلمين أن يمارسوا مناسك الحج، فاقتضت حكمة التنزيل تنبيههم إلى وجوب اجتناب الأوثان في أثناء ذلك، وجعل حجّهم خالصا لله مجردا من شوائب الشرك ومظاهره مطلقا. وإذا صحّ احتمال كون الآيات مدنية فمعنى ذلك أن بعض المسلمين كانوا يفدون إلى مكة ويتسنى لهم دخولها في أثناء موسم الحجّ.

_ (1) وردت هذه الصيغة في التاج معزوّة إلى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبي داود معا. انظر ج 3 ص 111. (2) انظر تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي ج 5 ص 75 وما بعدها.

دلالة تعبير حنفاء لله في هذا المقام

دلالة تعبير حنفاء لله في هذا المقام وورود تعبير حُنَفاءَ لِلَّهِ في هذه المناسبة قرينة قد تكون حاسمة على أن تعبيري حَنِيفاً وحُنَفاءَ ليسا كما وهم المستشرقون بمعنى نحلة معينة خاصة قبل البعثة على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة يونس، وإنما هما تعبيران لغويان بمعنى الميل عن الشرك والوثنية إلى الله. لأن حُنَفاءَ هنا أطلقت على المسلمين أو حثتهم على التمسك بكل مظاهر التوحيد وعدم الانحراف عنها إلى أي مظهر من مظاهر الشرك. [سورة الحج (22) : الآيات 32 الى 33] ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) . (1) محلّها: المكان الذي يحلّ فيه نحرها وهو الكعبة التي عبر عنها بتعبير الْبَيْتِ الْعَتِيقِ. قال المفسرون «1» في صدد كلمة شَعائِرَ استنادا إلى الروايات واستلهاما من القرينة التي احتوتها الآية الثانية: إن العرب كانوا يجرحون بهيمة الأنعام التي يسوقونها هديا إلى الحجّ لتكون قربانا جرحا خفيفا، فيسيل دمها ويكون ذلك علامة على أنها قد خصصت قربانا فيتحاشاها الناس. وإنهم كانوا يسمّون هذه العملية (إشعارا) و (شعيرة) ويسمّون الأنعام المعلّمة بهذه العلامة (شعائر) . ورووا عن أصحاب رسول الله وتابعيهم في تأويل وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ أن تعظيمها هو استسمانها واختيار الصالح السليم دون الهزيل والمشوّه «2» . ورووا في هذا المعنى أحاديث عديدة، ففي تفسير ابن كثير رواية

_ (1) انظر تفسير البغوي والخازن وابن كثير. (2) انظر الطبري وابن كثير والبغوي وغيرهم.

البخاري عن أبي أمامة قال: «كنّا نسمّن الأضحية بالمدينة وكان المسلمون يسمّنون» . وحديث رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن علي (رضي الله عنه) قال: «أمرنا رسول الله أن نستشرف العين والأذن وأن لا نضحّي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء» «1» . وحديث رواه الأئمة أنفسهم جاء فيه «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن نضحّي بأعضب القرنين أو الأذن» «2» . وحديث رواه الأئمة أنفسهم عن البراء قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا يجوز في الأضاحي العوراء البيّن عورها والمريضة البيّن مرضها والعرجاء البيّن عرجها والكسيرة التي لا تتقى» . ومع ذلك فإن البغوي قال: «وقيل إن شعائر الله هي أعلام دينه بصورة عامة» . ومع أن هناك آيات مؤيدة لهذا القول مثل آية سورة البقرة هذه: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158) ، وآية سورة المائدة هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2) ، فإن الآية التي تأتي بعد الجملة تجعل التأويل الأول هو الأوجه في مقامها. ولقد روى المفسرون في تأويل لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أن في الجملة إباحة للانتفاع من الأنعام المعدّة للتضحية في المدة التي تنقضي بين إشعارها ونحرها، مثل شرب حليبها وجزّ صوفها ووبرها وتحميلها وركوبها والاحتفاظ بما تلده. ورووا في تأويل جملة مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أن في الجملة تعيين المكان الذي يحلّ أن تنحر فيه الشعائر، وهو الكعبة أو منطقتها أو فناؤها وفي هذه التأويلات السداد والصواب.

_ (1) المقابلة التي قطع مقدم أذنها والمدابرة التي قطع مؤخر أذنها والشرقاء التي قطعت أذنها طولا والخرقاء المخروقة الأذن. (2) الأعضب المكسور. [.....]

[سورة الحج (22) : الآيات 34 إلى 35]

والآيتان متصلتان بالسياق والموضوع كما هو واضح. واحتمال مكيتهما ومدنيتهما واردان تبعا لورودهما في سياق واحد مع الآيات السابقة التي تحتمل ذلك كما هو المتبادر. [سورة الحج (22) : الآيات 34 الى 35] وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) . (1) منسك: على وزن مفعل بمعنى محلّ نسك أو واجب نسك. ومن معاني النسك في اللغة القربان. وقد ورد بهذا المعنى في آية سورة البقرة هذه: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [196] . (2) المخبتين: المتواضعين أو الخاشعين أو الخاضعين. وقيل إنها بمعنى المطمئن أيضا والمعاني الأولى أوجه ويؤيدها آية سورة هود هذه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) . وفي هاتين الآيتين: 1- تنبيه على أن الله تعالى قد أوجب على كلّ أمة واجبات في صدد ذبح القرابين أمكنة وأشكالا، ليذكروا اسمه عند ذبح الأنعام شكرا له على تسخيرها لهم. 2- وتعقيب على هذا التنبيه: فإن إله الناس جميعا هو واحد لا يصحّ عليه التعدد، وإن من واجبهم الإسلام والإخلاص والخضوع له. 3- وأمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بتبشير المخلصين الخاضعين الذين إذا ذكروا الله استشعرت قلوبهم هيبته، وإذا ما أصابتهم مصيبة صبروا وتحمّلوا والذين يواظبون على إقامة الصلاة له والإنفاق مما رزقهم. الجزء السادس من التفسير الحديث 4

[سورة الحج (22) : الآيات 36 إلى 37]

والآيتان استمرار في السياق والموضوع أيضا كما هو واضح. ويبدو أنهما استهدفتا بيان كون ما أوجبه الله في الآيات السابقة من حدود وواجبات ليس بدعا وإنما هو سنّة سنّها الله لكل أمة وأوجبها عليهم. وإن هذا متّسق مع بديهة وحدة الله وعدم تعدده. واستهدفتا كذلك الحثّ على التزامها وممارستها خالصة لوجهه. والتنويه بالمؤمنين الصالحين الخاضعين له الملتزمين لحدوده المعظمين لحرماته القائمين بواجباتهم نحوه المنفذين أوامره بالإنفاق مما رزقهم. ولعلّ سؤالا أورد على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يتعلّق بالقرابين فرعيا أو أصليا فاقتضت الحكمة تنزيل الآيتين في سياق متصل بالقرابين. واحتمالا مدنية الآيتين ومكيتهما أيضا واردان لأنهما والآيات السابقة سلسلة واحدة في موضوع واحد. [سورة الحج (22) : الآيات 36 الى 37] وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) . (1) البدن: جمع بدنة. وهي الإبل والبقر من الأنعام التي تقرّب قربانا وسمّيت كذلك لعظم جثتها أو بدنها. (2) صوافّ: صافات أقدامهن وأيديهن، أي واقفات وقرئت صوافن بمعنى عقل إحدى يديها وإبقائها قائمة على اليد الثانية والرجلين. وقرئت صوافي بمعنى صافية خالصة لله تعالى. (3) وجبت: سقطت أو انطرحت أو سكنت أنفاسها، أو بمعنى ماتت بعد الذبح. (4) القانع: المحتاج المتعفف عن الطلب.

(5) المعترّ: المحتاج الذي يطلب. في الآية الأولى: 1- تنبيه موجّه للمسلمين على أن الله تعالى قد جعل الإبل والبقر المسمّاة بالبدن مما يصحّ أن تكون شعائر له، أي أن تعلم بالدم وتنذر لتكون قرابين له، وأن لهم فيها خيرا وبركة. 2- وبيان بكيفية ذبحها والتصرف فيها حيث تنحر وهي صافة أي قائمة مع ذكر اسم الله. وحينما تنطرح على الأرض يتمّ ذبحها ثم توزع لحومها فيأكل منها صاحبها ويطعم المحتاجين سواء منهم المتعفف أو السائل. 3- وتنبيه على أن الله إنما سخّرها لهم وأحلّها على هذا الوجه ليشعروا بفضله ورحمته ويشكروه عليهما. وفي الآية الثانية: 1- تنبيه على أن الله تعالى، وهو يوجب عليهم واجب القربان له، إنما يتوخّى آثاره في قلوبهم وحملهم على التزام حدوده وأوامره. وأنه لا ينتفع بلحوم القرابين ولا بدمائها، وأنه إنما سخّرها لهم وبيّن لهم تلك الحدود والواجبات في شأنها ليشكروه ويعظّموه على هدايتهم وإرشادهم إلى ما هو الأقوم. 2- وأمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم يتبشير الذين يحسنون أداء الواجبات المفروضة عليهم ويتحرون أحسن الطرق لأدائها. والآيتان كذلك استمرار في السياق والموضوع، واحتمالا مكيتهما ومدنيتهما واردان لأنهما من السلسلة. وروحهما تلهم أنهما احتوتا حثّا على تخصيص البقر والإبل بالتعليم بالدم وعلى تفضيلهما، ولعلّ العرب كانوا يعلّمون الغنم بالدم أيضا فنبّه المسلمين إلى ما هو الأفضل والأنفع. وقد قال المفسرون إن العرب لم يكونوا يأكلون من لحم البدن التي يقربونها

تعليق على جملة لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم

فأحلّت جملة فَكُلُوا مِنْها ذلك للمسلمين كما قالوا مثل هذا في المناسبة السابقة وهو وجيه. ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن الأمر بالأكل هو على سبيل الرخصة والإباحة وحسب. تعليق على جملة لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ وقد قال المفسرون في صدد هذه الجملة، واستنادا إلى الروايات، أن العرب كانوا يلطّخون جدران الكعبة بدماء القرابين. وأن هذه الجملة لصرف المسلمين عن هذه العادة الجاهلية. ولا نستبعد ذلك، كما أنه ليس من المستبعد أن تكون تعبيرا أسلوبيا لبيان كون هدف وصايا الله وحدوده في شعائر القرابين وغيرها، إنما هو إثارة التقوى في قلوب عباده حتى يجتنبوا الآثام والمحظورات ويقبلوا على الأعمال الصالحة المفيدة. ومهما يكن قصد الآية، فإنها قد احتوت تنبيها بليغا فيه إشارة إلى جوهر وهدف الشريعة الإسلامية. فالله لا ينتفع بصلاة الناس ولا بصومهم ولا بقرابينهم ولا بتوجيه وجوههم قبل مشرق أو مغرب. وإنما يتوخّى من كل ما يأمر به من هذه الأشكال إثارة التقوى في قلوبهم، وحملهم على تحرّي الخير والبرّ والعمل الصالح، وفي هذا ما فيه من تلقين جليل. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا صحيحا جاء فيه: «إنّ الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ألوانكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» . وهذا الحديث ورد في التاج معزوّا إلى أبي هريرة ومن رواية مسلم وابن ماجه وبفرق هو بدل ألوانكم أموالكم «1» . وينطوي في الحديث تلقين متساوق مع التلقين المنطوي في الآية كما هو واضح.

_ (1) التاج ج 1 ص 47.

تعليق على خطورة أمر القوانين قبل الإسلام وحكمة الإبقاء عليها

تعليق على خطورة أمر القوانين قبل الإسلام وحكمة الإبقاء عليها هذا، وتكرر الكلام حول القرابين بالصورة التي ورد بها، يلهم أنه كان لها في موسم الحجّ قبل البعثة خطورة عظمى، لعلّ من أهمها ما كان من انتفاع جماهير العرب الفقراء المحرومين من لحومها وجلودها. ومن هنا نلحظ حكمة إبقاء هذه العادة في الإسلام مع تنقيتها من مظاهر الشرك ذبحا ومكانا ومع التخفيف في أمر التصرّف بلحومها والانتفاع بها، وتوسيع دائرة هذا الانتفاع حتى شمل أصحاب القرابين والفقراء والمحتاجين سواء منهم المتعففون والسائلون، وهذا كله متّسق مع أسلوب التشريع القرآني الذي له علاقة بالتقاليد السابقة بوجه عام. ولقد جاء في سورة المائدة هذه: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ [97] . والهدى والقلائد هي ما كان يقدم من الأنعام قرابين لله في موسم الحج. وقد سلكت الآية ذلك في عداد البيت الحرام والشهر الحرام ونوّهت بما كان في كل ذلك من أسباب حياة الناس. هذا، وهناك بيانات ومأثورات في صدد مناسك الحجّ المختلفة، رأينا أن نؤجّل إيرادها وشرحها إلى مناسبة أكثر ملاءمة، وهي آيات سورة البقرة التي فيها تشريع الحجّ ومناسكه. [سورة الحج (22) : الآيات 38 الى 41] إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) .

(1) خوّان: صيغة مبالغة من الخيانة. (2) أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا: أي قرّر الله بأن الذين يقاتلون من المؤمنين هم في موقف المظلوم، أو أذن لهم أن يقابلوا بالمثل لأنهم في موقف المظلوم. (3) الذين أخرجوا من ديارهم بغير حقّ: المتبادر أن الجملة هي بمعنى الذين ألجئوا أو اضطروا إلى الخروج لشدّة الأذى والاضطهاد والضغط. (4) صوامع: جمع صومعة، وهي مكان عبادة كان يتخذه رهبان النصارى في الأماكن المنعزلة. (5) بيع: جمع بيعة، وكانت تطلق على كنائس النصارى. (6) صلوات: تعريب صلوتا العبرانية التي تعني معابد اليهود. في هذه الآيات: 1- تطمين رباني للمؤمنين بأن الله تعالى يدافع عنهم ويحميهم، وأنه لا يمكن أن يحبّ ويسعد ويوفق الخوّانين للأمانات والعهود الكفورين بنعمة الله وألوهيته. 2- وتقرير وإيذان بأن الذين يؤذون ويقاتلون من المسلمين والذين أخرجوا من وطنهم بدون سبب مبرر إلّا إعلانهم بأن ربّهم هو الله، هم في موقف المظلوم المبغى عليه. وتطمين بأن الله قادر على نصرهم لأنه آلى على نفسه أن ينصر من ينصر دينه وهو القوي العزيز الذي لا غالب له. 3- وتبرير للدفاع عن النفس إزاء الظلم والبغي: فلولا دفع الله الناس بعضهم ببعض، أي إلهامه المبغى عليهم بالوقوف في وجه البغاة ومقابلتهم والدفاع عن أنفسهم لانتشر الظلم والفساد في الأرض ولما ذكر الله أحد ولهدمت معابده المتنوعة التي يذكر اسمه فيها من إسلامية ويهودية ونصرانية.

تعليقات على الآية إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور والآيات الأربع التالية لها

4- وبيان لما يترتب على نصر الله للمؤمنين وتمكينه لهم في الأرض من نتائج عظمى. فإنهم وقد آمنوا بالله وجعلوا الحقّ والعدل والخير هدفهم وفقا لما شرّع لهم وأوجب عليهم إذا مكّن الله لهم في الأرض وجعل لهم القوّة والسلطان فيها أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر. 5- وتعقيب نهائي بسبيل توكيد تحقيق وعد الله ونصره: فإن كل شيء مسيّر بأمر الله، وإن عاقبة كل أمر هي إلى الله. تعليقات على الآية إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ والآيات الأربع التالية لها والآيات على ما يبدو فصل جديد مستقلّ. وقد روى المفسرون أقوالا في صدد نزولها. فممّا رواه الطبري عن سعيد بن جبير وابن عباس أنه لما أخرج النبي من مكة قال رجل أو قال أبو بكر أخرجوا نبيّهم فأنزل الله الآيات. وعن مجاهد أنها نزلت في جماعة من المسلمين خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة فمنعهم المشركون فأنزل الله الآيات لتبرير دفاع المسلمين عن أنفسهم. وعن الضحاك أن أصحاب رسول الله لما اشتدّ عليهم أذى الكفار استأذنوا رسول الله في قتال الكفار وقتلهم فأنزل الله الآية الأولى فلما هاجر رسول الله إلى المدينة أنزل الآيات التالية لها. ومما ورد في تفسير البغوي: «قال المفسرون كان مشركو مكة يؤذون أصحاب رسول الله فلا يزالون محزونين بين مضروب ومشجوج ويشكون ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيقول لهم اصبروا فإني لم أومر بالقتال، حتى هاجر رسول الله فأنزل الله الآيات وهي أول آيات أذن الله فيها بالقتال» . ورواية ما قاله أبو بكر قد وردت في سنن الترمذي بهذه الصيغة: «قال ابن عباس لما أخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم من مكة قال أبو بكر أخرجوا نبيّهم ليهلكنّ فأنزل الله: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ، فقال

أبو بكر: لقد علمت أنه سيكون» «1» . ولم تخرج روايات المفسرين الآخرين عن هذا «2» ورواية الطبرسي عن مجاهد تقتضي أن تكون الآية الأولى نزلت لحدتها وقد توقف الطبري في ذلك وتوقفه في محلّه، لأن الآية الأولى هي كما يبدو استهلال أو مقدمة لما بعدها. ومضمون الآيات والروايات معا قد يسوغ القول إن الآيات مدنيّة. ومع أنها لا تحتوي الإذن بالقتال. والآية الأولى صريحة في أن المسلمين كانوا يقاتلون، في حين أننا لم نطلع على رواية ما تذكر أنه كان عدوان حربي جماعي من مشركي قريش على المسلمين حينما كانوا في مكة، أو أنهم بدأوا بحركات هجومية على المسلمين بعد خروجهم من مكة. فإما أن تكون الآية عنت بهذا التعبير ما كان ينال ضعفاء المسلمين في مكة من عدوان وأذى فردي يصل أحيانا إلى إزهاق الروح، وإما أن يكون المشركون قد اعتدوا على فريق من المسلمين عدوانا حربيا بعد الهجرة لم يرد بيانه في الروايات. وفي هذه السورة آية تنوّه بالذين هاجروا في سبيل الله ثم ماتوا أو قتلوا. واحتمال مدنية الآية وتبكير نزولها قويان، فمن المحتمل بالتبعية أن تكون قد تضمنت إشارة ما إلى مثل ذلك العدوان. وإذا صحّ ترجيحنا بأن هذه الآيات مدنية فتكون قد وضعت في السياق الذي وضعت فيه بمثابة استطراد آخر لذكر مواقف الكفار بعد الهجرة بمناسبة ذكر مواقفهم قبلها. ومع ما قلناه من ترجيح مدنية الآيات، فإنّ من المحتمل أن تكون مكية تبعا لاحتمال مكية السورة جميعها. وفي هذه الحالة يكون ما احتوته من تقرير مظلومية المسلمين في ما يقع عليهم من أذى الكفار لهم ومدافعة الله عنهم، هو تقرير تطميني وتثبيتي لهم معا، وتكون الإشارة إلى إخراجهم من ديارهم عنت هجرتهم

_ (1) التاج ج 4 ص 161. (2) انظر تفسير ابن كثير والبغوي والخازن والزمخشري والطبرسي.

إلى الحبشة بسبب ما كان من ضغط الكفار وأذاهم. ومع ذلك فإن روح الآيات حتى في حالة صحة احتمال مكيتها، تلهم أنها تضمنت ترشيح المؤمنين لقتال الكفار المعتدين، وتضمنت أن المرشحين لذلك في الخطوات الأولى حين ما تسنح الفرصة هم بخاصة المهاجرون، والله أعلم. وروايات السيرة «1» تذكر أن سرايا الجهاد الأولى التي سيّرها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد أن استقرّ في المدينة والتي سبقت وقعة بدر، تتألف من المهاجرين. وقد يدلّ هذا على أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه المهاجرين قد فهموا أيضا من الآيات أنهم هم المرشحون لقتال مشركي مكة لأنهم هم الذين كان يقع عليهم أذاهم وظلمهم وهم الذين أذن الله أنهم ظلموا ووعد بنصرهم. وفي سورة البقرة آية تؤيد تلك الروايات وهي هذه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) وقد نزلت في سياق حادث اشتباك حربي بين سرية من المسلمين كانت بقيادة عبد الله بن جحش والمشركين في حدود مكة في بطن نخلة في يوم اشتبه بأنه من أيام رجب أحد الشهور المحرمة «2» ، فأخذ المشركون يشغبون على النبي والمؤمنين ويتهمونهم بخرق حرمة الشهر الحرام فأنزل الله هذه الآية، وأنزل قبلها آية تبرر ما وقع لأن المشركين آذوا المسلمين وفتنوهم في المسجد الحرام والشهر الحرام حينما كانوا في مكة وهي: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [البقرة: 217] . وننبّه على أن هذا الشرح ليس من شأنه أن يذهب باحتمال مكية الآيات

_ (1) انظر طبقات ابن سعد ج 3 ص 43- 49. (2) المصدر نفسه.

التلقينات البليغة المنطوية في هذه الآيات

حيث يكون المسلمون قد استندوا إليها فيما أخذوا يقومون به من حركات انتقامية من مشركي مكة بعد أن هاجروا إلى المدينة. ولقد توقف الطبري وغيره عند جمع المساجد مع معابد اليهود والنصارى، فقال الطبري إن جملة يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً عائدة إلى المساجد التي هي الأقرب ذكرا. وقال ابن كثير: قال بعض العلماء إن في الجملة ترقّ من الأقل إلى الأكثر إلى أن انتهى إلى المساجد وهي أكثر إعمارا وأكثر عبادا وهم ذوو القصد الصحيح. وقال البغوي إن معنى الجملة لَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لهدم في حقبة كل نبي مكان عبادة أتباعه، فهدمت في زمن موسى صلوات اليهود وفي زمن عيسى بيع النصارى وصوامعهم، وفي زمن محمد مساجد المسلمين. وقال الزمخشري قولا متفقا مع البغوي بأسلوب أقوى فقال: إن المعنى لولا تسليط المؤمنين على الكافرين بالمجاهدة لاستولى الكافرون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم وعلى معابدهم، فهدموها ولم يتركوا معابد لليهود ولا للنصارى ولا للمسلمين. وفي كل من هذه الأقوال وجاهة ما، مع القول إن كلام الزمخشري أكثر قوّة ووجاهة. ومهما يكن من أمر فالمتبادر أن العبارة أسلوبية بقصد بيان ما يمكن أن يترتب من عدوان الكفار على المؤمنين ومعابدهم، لولا حكمة الله التي اقتضت أن يلهم المؤمنين ويقويهم على دفع عدوان الكفار وإيقافهم عند حدّهم في كلّ وقت ومكان. والله تعالى أعلم. التلقينات البليغة المنطوية في هذه الآيات ولقد انطوى في الآيات تلقينات وقواعد ونتائج اجتماعية عامة، رائعة بليغة مستمرة المدى كما انطوى فيها بيان ما سوف يكون عليه المجتمع الإنساني في ظلّ الإسلام من صورة فاضلة حيث انطوى فيها: 1- تقرير حقّ المظلوم وحقّ المعتدى على حريته وحقوقه وكرامته بالانتصار والدفاع، حتى يزول عنه الظلم وتضمن حقوقه وحريته وكرامته.

[سورة الحج (22) : الآيات 42 إلى 46]

2- وتقرير كون دفع البغي والظلم والتضامن فيه ضرورة اجتماعية لا بدّ منها لأجل ضمان سيادة الحرية والحقّ والعدل والطمأنينة التامة لأي مجتمع. 3- وتقرير كون كل حرب غير دفاعية أصلا أو نتيجة هي حرب باغية مخلّة بحقوق الناس وأمنهم ومصالحهم. 4- وتطمين المؤمنين الصالحين بأن الله ناصرهم ومؤيدهم وممكّن لهم في الأرض تمكينا لا يتوخّى فيه استعلاء ولا استغلال ولا ابتزاز ولا استكبار، ولا يكون فيه ظلم وبغي وتحكّم واستعباد وإنما يتوخّى فيه إقامة الدين والصلاة لله وحده وإعطاء الزكاة للفقراء والمحتاجين والمحرومين مما يتحقق به العدل الاجتماعي، ثم الأمر بكل ما هو معروف فيه الخير والبرّ والصلاح والحقّ والعدل والكرامة والمساواة والنهي عن كل ما هو منكر فيه الشر والفساد والبغي والكسل والبطالة والجور والهوان والظلم والفجور والرجس، وبكلمة أخرى تمكينا يقوم في ظله المجتمع الإنساني الفاضل. وبالإضافة إلى هذا فإنه ينطوي في فحوى الآية الأخيرة وروحها تقرير كون ما يفعله المسلمون حينما يمكّنهم الله في الأرض هو من الخصائص التي أهّلهم دين الله لها. وينطوي في هذا تقرير كون المسلمين الذين لا يفعلون ذلك حينما يمكّنهم الله في الأرض قد أخلّوا بتلك الخصائص، فخرجوا بذلك عن حدود ما رسمه الله للمسلمين المخلصين الصادقين وجعله من خصائصهم، وفي هذا ما فيه من روعة وجلال. [سورة الحج (22) : الآيات 42 الى 46] وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) .

(1) خاوية: ساقطة أو خارّة. (2) عروشها: قال الزمخشري في الكشاف كل مرتفع أظلّك من سقف بيت أو خيمة أو ظلة فهو عرش. وجملة خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها بمعنى خرّت سقوفها على الأرض. (3) معطلة: متروكة لا يرد الورّاد إليها. (4) مشيد: قيل إن الكلمة بمعنى المنيف العالي، وقيل إنها بمعنى المزين بالجص الأبيض وقيل إنها بمعنى الجفصين. في هذه الآيات: 1- خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم: فإذا كان الكفار يقفون منه موقف التكذيب والجحود فقد كذّب قبلهم أمثالهم من أقوام نوح وعاد وثمود وإبراهيم ولوط ومدين أنبياءهم كما كذّب موسى. فأمهل الله الكافرين قليلا ثم أخذهم وكان نكاله فيهم شديدا خالد الأثر. 2- تذكير ينطوي على الزجر: فلكم أهلك الله من أهل القرى الظالمة خلقا فخرّت قراهم على عروشها وتدمّرت. ولكم تعطل نتيجة لذلك آبار كانت عامرة بورّادها. وخلت قصور مزينة شاهقة كان أهلها يرفلون فيها بالهناء. 3- وتساؤل يتضمّن الإنكار والتنديد عمّا إذا كان الكفّار الذين يكذّبون النبيّ لم يسيروا في الأرض ويروا آثار نكال الله وتدميره في منازل الظالمين السابقين أمثالهم ويسمعوا أخبارها فيتعظوا ويعتبروا. والإنكار والتنديد ينطويان على تقرير بأن السامعين العرب كانوا يعرفون مساكن الأمم السابقة البائدة ورأوا فيها آثار التدمير. وكانوا يعلمون أنها آثار تدمير رباني.

[سورة الحج (22) : الآيات 47 إلى 48]

4- وبيان لسبب عدم اعتبارهم واتّعاظهم يتضمن التقريع والتعقيب: فإن قلوبهم هي المتعامية عن الحقيقة المنصرفة عن الحق. ومن كان قلبه كذلك فلا يجدي إبصاره ورؤيته شيئا. ولم نطلع على مناسبة خاصة للآيات. ولا تحتوي موضوعا مستقلا كما هو واضح. وإنما تعطف الكلام إلى الكفار منددة مذكّرة لهم ومسلّية للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم إزاء موقفهم وتكذيبهم. والطابع المكي عليها وعلى ما بعدها بارز. ويتبادر لنا أنها استئناف واستمرار للكلام الذي سبق الآية [24] وما بعدها، وقد تضمن هذا الكلام موضوعا من مواضيع الدعوة الرئيسية وهو الإنذار بالبعث والتنديد بفئات الناس المنحرفين الذين يتبعون وساوس الشياطين أو يلتمسون مصالحهم الخاصة من وراء الإيمان بالله. ووصفا لمصير الكفار والمؤمنين في الآخرة وأن الآيات [24] وما بعدها قد جاءت بمثابة استطراد سواء أكانت مدنية أو مكية. وهذا مما تكرر في النظم القرآني المكي. [سورة الحج (22) : الآيات 47 الى 48] وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) . في الآيتين: 1- حكاية لاستعجال الكفّار عذاب الله الموعد به. 2- وتوكيد بتحقيق الله وعده بسبيل الردّ عليهم. 3- وتنبيه بأن اليوم الواحد عند الله مثل ألف سنة عند الناس. 4- وتذكير للكفار على سبيل الإنذار: فكم من أمم كثيرة قبلهم وقفت موقف البغي والجحود مثلهم فأمهلها الله قليلا ثم أخذها. وإن مصير كل شيء ومرجعه إليه أولا وآخرا.

تعليق على جملة وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون

والمتبادر أن الآيتين متصلتان بالآيات السابقة سياقا وموضوعا. وأن استعجال الكفار المحكي عنهم هو من قبيل التحدّي. وقد تكرر حكاية ذلك عنهم في السور المكية وتكرر الردّ عليهم بمثل ما احتوته الآيات من إنذار وتذكير وتنديد. تعليق على جملة وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ جاء هذا التعبير في إحدى آيات سورة السجدة في صدد بيان كون الله تعالى يعرج من الأرض إلى السماء في يوم مقداره ألف سنة. غير أن الجملة هنا قد جاءت لمقصد آخر. ولقد روى المفسرون «1» عن أهل التأويل عدّة أقوال في صددها منها عزوا إلى ابن عباس أنّه اليوم من الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض. ومنها عزوا إلى عكرمة ومجاهد أنه من أيام الآخرة. وساقوا في التدليل على هذا القول قولا مرويا عن أبي هريرة جاء فيه: «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بمقدار نصف يوم، قيل له وما نصف يوم قال: وما تقرأ القرآن قال بلى قال وإن يوما عند ربّك كألف سنة ممّا تعدّون» . وحديثا عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبشروا يا معاشر صعاليك المهاجرين بالنور القادم يوم القيامة، تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذلك مقدار خمسمائة سنة» . ومنها عزوا إلى ابن عباس أن معنى الجملة هو أن يوما وألف سنة في الإمهال سواء على الله وأن البطيء عندهم قريب عنده وأنه قادر على أخذهم متى شاء لا يفوته شيء بالتأخير، فيستوي في قدرته التأخير والاستعجال. وحديثا أبي هريرة وأبي سعيد لم يردا في كتب الأحاديث الصحيحة. والقول الأخير هو أوجه الأقوال فيما يتبادر لنا. والله أعلم. وقد انطوى في الآية الثانية ردّ على تحدّيهم: فإذا كان عذاب الله تأخّر عنهم ورأوا أن أسباب القوّة والسلامة توفرت لهم فليس معنى ذلك أن الله قد أخلف

_ (1) انظر الطبري والبغوي وغيرهما.

[سورة الحج (22) : الآيات 49 إلى 51]

وعده. فقد كان هذا شأنه مع كفار الأمم السابقة حيث أملى لهم ثم أخذهم. وأسلوب الآيتين قد يدل على أنهما وسابقاتهما بسبيل مشهد جدلي من المشاهد التي كانت تتكرر بين النبي صلّى الله عليه وسلّم والكفار، والتي حكت الآيات المكيّة كثيرا منها. [سورة الحج (22) : الآيات 49 الى 51] قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51) . وفي هذه الآيات أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بأن يهتف بالناس مذكرا بجوهر مهمته، فهو ليس إلّا منذرا ليبين لهم طريق الهدى وليحذرهم من الضلال والغواية. فالمهتدون المستجيبون المؤمنون الصالحون لهم من الله المغفرة والرزق الكريم. أما الذين يقفون من الدعوة إلى الله وآياته ورسالة رسوله موقف التعجيز والتعطيل والشقاق فهم أصحاب الجحيم. والآيات متصلة بالآيات السابقة سياقا وموضوعا كما هو المتبادر. والهتاف الذي فيها قد تكرر كثيرا في السور المكية لتكرر وتجدد المواقف والمناسبات. [سورة الحج (22) : الآيات 52 الى 57] وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57) .

(1) تمنّى: حدّث نفسه بالرغبة فيما يشتهي، أو رجا تحقيق ما يشتهي. (2) الأمنية: هي الرغبة في تحقيق ما يشتهيه الإنسان ويحبه. (3) فتنة: هنا بمعنى اختبار. (4) فتخبت: فتخشع وتذعن. (5) يوم عقيم: يوم لا يأتي مثله بعده. وهو كناية عن يوم القيامة وبسبيل وصف هوله المنقطع النظير. وقال بعض المفسرين إنه كناية عن يوم حرب طاحنة للكفار «1» . وقال بعضهم إنه كناية عن يوم بدر «2» . وأكثر المفسرين مع القول الأول وهو الأكثر اتّساقا مع الآيات. الآيات تقريرية الأسلوب، وقد وجّه الخطاب فيها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وتضمنت فيما هو المتبادر تقرير ما يلي: 1- إن الله لم يرسل من قبله رسولا أو نبيا وتمنّى أمرا إلّا وقف الشيطان في طريق تحقيق أمنيته. 2- ولكن الله تعالى يؤيد رسوله أو نبيّه ويحكم آياته ويحبط دسائس الشيطان ووساوسه. 3- ولا يستطيع الشيطان إغواء غير مرضى القلوب وقساتها حيث يكون إلقاؤه لهم من قبيل الابتلاء فيتلقّونه بالقبول بسبب خبث سرائرهم ومرض قلوبهم. والظالمون أمثالهم يكونون في العادة شديدي المشاققة والعناد. 4- أما الذين أوتوا العلم والفهم فيدركون أن ما جاء من آيات الله المحكمة

_ (1) انظر تفسير القاسمي. (2) انظر تفسير الخازن والبغوي وابن كثير.

تعليق على الآيات وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ... من الآية [52] إلى الآية [57]

على لسان نبيه ورسوله إنّما هو الحقّ من ربّه فيؤمنون ويهتدون وتخشع قلوبهم. 5- والله سبحانه إنما يهدي إلى صراطه المستقيم المؤمنين المستجيبين لدعوته نتيجة لما أوتوه من علم وفهم وما هم عليه من نيّة حسنة ورغبة صادقة وقلوب سليمة. أما الكافرون المشاقون فيظلون في ريبتهم وشكوكهم ومشاققتهم حتى تأتيهم ساعتهم- أي أجلهم- بغتة أو يأتيهم عذاب الله المنقطع النظير في هوله والذي لا فرصة لهم بعده في يومه الموعود. 6- وحينئذ يكون الحكم والسلطان والقضاء لله تعالى فيقضي بين الناس قضاءه الأخير: فمن كان آمن وعمل صالحا فينزله جنات النعيم ومن كان كفر وكذّب بآيات الله فله العذاب المهين. تعليق على الآيات وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى ... من الآية [52] إلى الآية [57] لقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة الإسراء [73- 75] الرواية التي يرويها المفسرون في سياق آيات الحجّ التي نحن في صددها وعلقنا عليها وانتهينا بتعليقنا إلى نفيها بما يغني عن التكرار. ولقد روى المفسرون أن ابن عباس أول كلمة تمنّى بمعنى قرأ وكلمة أمنية بمعنى قراءة استنباطا من آية سورة البقرة هذه وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) . وقالوا إن ذلك متصل برواية إلقاء الشيطان ما ألقاه حينما قرأ النبي صلّى الله عليه وسلّم سورة النجم على ما فصلناه في سياق تفسير آيات الإسراء المذكورة آنفا. وتبعا لنفي تلك الرواية ننفي صدور هذا التأويل عن ابن عباس أيضا ونرجح أن الذين دسّوا تلك الرواية من أعداء الإسلام الهدّامين في القرن الثاني أو الثالث قد دسّوا هذا القول ليكون مرتكزا لها. وفي تأويل الكلمتين بالقراءة تكلّف ظاهر وتأويلنا لكلمتي تمنّى وأمنية هو الأكثر وجاهة وهو متّسق مع تأويل جمهرة المفسرين.

وكل هذا يجعلنا نرجو أن يكون الشرح الذي شرحناه للآيات هو الوجه الصواب. ويجعلنا نرى أن الآيات غير منقطعة عن سابقاتها، وأنها متصلة بها اتصال تعقيب وتطمين وتسلية وتنديد وبشرى. فقد حكت الآيات السابقة مواقف الكفار وتكذيبهم وتحدّيهم ثم انتهت بتقرير مهمة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهي الإنذار والتبشير. فجاءت هذه الآيات معقبة عليها لتقرر أن كل نبي ورسول يتمنّى أن يؤمن الناس برسالته كما كان يتمنّى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ويشتدّ به الحزن لعدم تحقق أمنيته أو تأخّرها مما حكته آيات كثيرة، وأن الشيطان يقف في طريق هذه الأمنية بوساوسه للناس. وأن ما كان من مواقف الكفار الشقاقية والتعجيزية والجحودية من أثر ذلك. ولتنبه مع ذلك على أن الشيطان إنما يؤثر في الخبثاء المجرمين فقط وأنه ليس له سلطان على ذوي النوايا الحسنة الذين يرون نور الرسالة النبوية فيهتدون به. وهكذا تكون الآيات بسبيل تطمين للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتثبيت للمسلمين وتنديد وإنذار للمكذّبين. وتأتي بعد هذه الآيات آيات تعد الذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا بالرزق الحسن والمدخل المرضي، حيث يخطر بالبال أن تكون الآيات التي نحن في صددها قد نزلت في ظروف حركة الهجرة إلى المدينة بعد أن يئس النبي صلّى الله عليه وسلّم من قريش وناله هو والمسلمين ما نالهم منهم من أذى واضطهاد. ولقد كان يشعر- كما قلنا قبل- بحزن شديد من إخفاق جهوده العظيمة في سبيل هدايتهم مع شدّة رغبته في ذلك وتمنّيه وحرصه، فجاءت الآيات لتسلّيه وتهوّن عليه وتذكّره أن له أسوة بالرسل والأنبياء من قبله لتبثّ فيه الأمل والرجاء في الفئة الصالحة العاقلة من الناس الذين وهبوا العقل والعلم وحسن السريرة فآمنوا وخبتت قلوبهم. حتى لو لم يصحّ هذا الخاطر فإن الذي نرجّحه أنها نزلت في ظروف ألمّت بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم من جراء موقف شديد وقفته قريش تجاهه أو تجاه أصحابه فجاءت الآيات من أجل الأهداف المذكورة. والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن هذه الآيات أو بتعبير أدق الآيات [52- 55] منها نزلت بين مكة والمدينة. أي في طريق هجرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة. ولم نطلع على ما يؤيد هذه الرواية. فإن صحّت فيمكن الاستئناس بها على صحة ما ذهبنا إليه، بل وقد يكون ما ذهبنا إليه مما يجعل صحة الرواية قويّة

[سورة الحج (22) : الآيات 58 إلى 60]

الاحتمال. وفضلا عن هذا فالرواية في حالة صحتها تنطوي على دليل جديد على عدم صحة رواية الغرانيق لأنها تبعد وقت نزولها كثيرا عن وقت وقوع الحادث الذي ذكر في رواية الغرانيق والله تعالى أعلم. [سورة الحج (22) : الآيات 58 الى 60] وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) . (1) ومن عاقب بمثل ما عوقب به: ومن قابل البغي والعدوان والأذى بالمثل. في هذه الآيات: 1- تطمين وبشرى للمهاجرين: فالذين هاجروا تمسكا بدينهم الحقّ فقتلوا أو ماتوا، لهم من الله أعظم الأجر والكرامة وليرزقنهم الله أحسن الرزق وهو خير من يستطيع ذلك. وليدخلنهم المدخل الذي يرضونه وتقرّ به أعينهم، وهو العالم بنوايا الناس وأعمالهم والذي يعاملهم بمقتضى حلمه الواسع. 2- وعد رباني بتأييد ونصر الذين يبغي الناس عليهم ويظلمونهم. إذا استعملوا حقّهم المشروع بمقابلة البغي والأذى بالمثل. وتثبيت لهم على موقفهم. فالله العفوّ الغفور يشملهم بعفوه وغفرانه. ولم نطلع على مناسبة خاصة لنزول الآيتين الأوليين. أما الآية الثالثة فقد روى المفسرون «1» أنها نزلت في سرية من المسلمين المهاجرين التقت بجماعة من المشركين، وكان الوقت في الشهر الحرام فناشدهم المسلمون بأن لا يقاتلوهم فأبوا وهاجموهم فقابلوهم وانتصروا عليهم.

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي والخازن وابن كثير.

تلقين الآية والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ... والآيتين التاليتين لها

وقد يبدو على ضوء هذه الرواية المتّسقة مع الآيات ثم على ضوء مضمون الآيات أن الآيات الثلاث مدنية وأنها مترابطة مع بعضها ونزلت معا، وأن من المحتمل أن يكون بعض المهاجرين قد قتلوا في الاشتباك، وأن بعض الناس قد لاموا المهاجرين لاشتباكهم مع المشركين في الشهر الحرام فجاءت الآيات على سبيل التثبيت والتطمين والتهدئة والتبرير. ونرجّح أن هذه الحادثة هي غير حادثة سرية عبد الله بن جحش التي ذكرناها في سياق تفسير الآيات [38- 41] من هذه السورة، لأن هذه الحادثة قد أشير إليها في آيات سورة البقرة هذه: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) . وإذا كان ما خمّنّاه من أن الآيات السابقة قد نزلت بين يدي هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة فيكون وضع الآيات بعدها متصلا بذلك والله أعلم. تلقين الآية وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا ... والآيتين التاليتين لها ومع خصوصية موضوع الآيات الثلاث الزمنية على ضوء ما شرحناه فإن فيها تلقينات جليلة مستمرة المدى بالحثّ على الهجرة في سبيل الله من البلد الظالم أهلها وحكامها. وبالبشرى للمهاجرين بحسن العاقبة على كلّ حال سواء اقتلوا أم ماتوا أم ظلوا أحياء، وما في ذلك من حفز على عدم رضاء المسلم بالإقامة في دار الظلم والذلّ والهوان. ويتبرير مقابلة العدوان بمثله وتشجيع المدافع عن نفسه

والمقابلة على العدوان بالمثل. وببثّ الطمأنينة فيه بوعده بتأييد الله ونصره لأنه في موقف المظلوم المبغى عليه مع تقرير كون العقوبة أي المقابلة والقتال لا يصحّ أن تكون إلّا دفاعا عن النفس ومقابلة للعدوان بالمثل وحسب. وقد تكرر هذا في آيات عديدة مكية ومدنية مرّ منها بعض الأمثلة مثل آية سورة النحل [126] وآيات سورة الشورى [36- 43] وآيات سورة البقرة هذه: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) «1» . وفي سورة النساء آيات فيها تنديد شديد بمن يقبل الإقامة في دار الظلم ولم يهاجر منها وبيان تشجيعي بما يمكن أن يكون في الهجرة في مثل هذه الحالة من مجال لإرغام الظالم مع وعد رباني بعفو الله ومغفرته لمن يموت في سبيل ذلك وهي: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100) . ولقد أورد ابن كثير حديثين في سياق هذه الآيات رواهما ابن أبي حاتم واحد منهما عن سلمان الفارسي قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من مات مرابطا

_ (1) سوف نشرح مدى الآيات في مناسباتها ونرد على ما يقال من نسخ هذه الآيات.

[سورة الحج (22) : الآيات 61 إلى 62]

أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر وأجرى عليه الرزق وأمن من الفتّانين. واقرأوا إذا شئتم: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ» . وثانيهما عن ربيعة بن سيف قال: «كنّا برودوس ومعنا فضالة بن عبيد الأنصاري صاحب رسول الله فمرّ بجنازتين إحداهما قتيل والأخرى متوفّى فمال الناس على القتيل فقال فضاله: ما لي أرى الناس مالوا مع هذا وتركوا هذا؟ فقالوا: هذا القتيل في سبيل الله، فقال: والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت اسمعوا كتاب الله وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا حتى بلغ آخر الآية» . والحديثان لم يردا في كتب الأحاديث الصحيحة. وصحتهما محتملة وفيهما تفسير للآية الأولى فيه تأييد لما ذهبنا إليه من عموم تلقينها. [سورة الحج (22) : الآيات 61 الى 62] ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) . أسلوب الآيتين قد يلهم أنهما متصلتان بالآيات السابقة اتصال تعقيب وتدعيم وتدليل. وهو أسلوب قوي نافذ ولا سيما في المناسبة التي جاءت فيها: 1- فالله قادر على تحقيق ما يعد، فهو الذي يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل. وفي ذلك ما فيه من آيات عظمته ومطلق تصرّفه في الكون. 2- وهو المحيط بكلّ شيء، السميع لكلّ ما يقال، البصير بكل ما يجري. وهو الحقّ في ذاته وفي دعوته وفي قضائه. وهو العليّ الكبير الذي لا يدانيه في علوه وكبره شيء. في حين أن ما يدعوه المشركون من دونه هو باطل في أصله وفرعه ومظهره ومخبره. وإذا كنا قلنا إن الآيتين متصلتان بسابقاتهما فلا يقتضي هذا أن تكونا مدنيتين

[سورة الحج (22) : الآيات 63 إلى 66]

إذا صحّ تخمين مدنية هذه السابقات، فالمناسبة في المعنى قائمة. تظهر منها حكمة وضعهما بعدها. والطابع المكي قوي البروز عليهما. وفي سورة لقمان التي مرّ تفسيرها آيتان مشابهتان لهما. [سورة الحج (22) : الآيات 63 الى 66] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66) . في هذه الآيات سؤالان ينطويان على معنى التقرير ولفت النظر عما إذا كان الرائي لا يرى آثار قدرة الله تعالى في كونه ويقنع بقدرته على تحقيق ما يعد: 1- فالله هو الذي ينزل من السماء الماء فلا تلبث الأرض أن تصبح مخضرّة بعد الاربداد والجفاف. 2- والله سخّر للناس ما في الأرض ليتمتعوا به وسخّر لهم البحر لتجري فيه الفلك أيضا. وفي ذلك ما فيه من منافع لهم. 3- وهو الذي يمسك السماء بتدبيره وقدرته وما أودعه فيها من ناموس فلا تقع على الأرض. وفي ذلك من آثار رأفته بالناس وحكمته ورحمته ما هو ظاهر. 4- وهو الذي أحيا الناس من العدم وهو الذي يميتهم. وهو الذي يحييهم ثانية. فإن له ما في السموات وما في الأرض. وكل شيء خاضع له، وهو غني عن كل شيء حميد لما يبدو من عباده من الإخلاص والعبودية له. وانتهت الآيات بفقرة تنديدية بجحود الإنسان لنعم الله. وتعاميه عن آثار عظمته، وشكّه في قدرته ومطلق تصرفه أمام ساطع الآيات وباهر البراهين. والآيات كما هو المتبادر متصلة بسابقاتها سياقا وهدفا. والطابع المكي قوي البروز عليها. وأسلوبها متّسق مع أسلوب أمثالها الكثيرة في القرآن المكي.

[سورة الحج (22) : الآيات 67 إلى 70]

ومستهدفة ما استهدفته من لفت نظر الناس جميعا إلى ما يقع تحت مشاهدتهم من آثار عظمة الله وقدرته في كونه سماء وأرضا وبحرا، وما يتمتعون به من نعم الله وتيسيره للتدليل على وجوده وعظمته ومطلق تصرفه. وللتنديد بالشك في صدق ما يعد به وقدرته على تحقيقه. والجحود بنعمه وعدم الاستشعار بخشيته والخضوع التامّ له وحده ونبذ ما سواه. ولقد شرحنا في سورة لقمان مدى ومعنى تسخير الله ما في السموات والأرض للناس فنكتفي بالإشارة إلى ذلك في مناسبة ما جاء هنا من مثله. وللصوفيين تفسير عجيب للآية [63] جاء فيه أن معناها: (أنزل الله مياه الرحمة من سحائب القربة وفتح إلى قلوب عباده عيونا من ماء الرحمة. فأنبتت فاخضرّت بزينة المعرفة. وأثمرت الإيمان وأينعت التوحيد. وأضاءت بالمحبة فهامت إلى سيّدها واشتاقت إلى ربّها فطارت بهمّتها. وأناخت بين يديه وعكفت فأقبلت عليه. وانقطعت عن الأكوان أجمع. إذ ذاك آواها الحقّ إليه وفتح لها خزائن أنواره وأطلق لها الخيرة في بساتين الأنس ورياض الشوق والقدس) «1» وفي هذا ما فيه من شطح ... [سورة الحج (22) : الآيات 67 الى 70] لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) . (1) منسكا: قيل إن الكلمة هنا بمعنى شريعة. وقيل إنها بمعنى مكان العبادة أو مكان تقريب القرابين. ونحن نرجّح الأول. وجّه الخطاب في هذه الآيات إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم متضمنة تقرير ما يلي:

_ (1) التفسير والمفسرون للذهبي ج 3 ص 54.

1- إن الله قد جعل لكل أمة مناسك وطرائق. فليس للكفار أن ينازعوه ويجادلوه فيما رسمه الله له من ذلك. 2- وعليه أن يستمرّ في الدعوة إلى ربّه والتمسك بالمناسك والطرائق التي رسمها له. وليكن على ثقة بأنه على الطريق المستقيم. 3- وإذا ما حاول الكفار الجدل والمكابرة فليقل لهم إن الله أعلم بما يعمله كلّ منّا وإنه سيحكم بيننا يوم القيامة فيما نحن فيه من خلاف فيؤيد الحقّ ويزهق الباطل. 4- وتعقيب على ما تقدم بسؤال موجّه إلى النبي أيضا يتضمن معنى التقرير عما إذا كان لا يعلم أن الله يعلم كل ما يقع في السماء والأرض وأن كل شيء محصي عنده وأن ذلك من الأمور اليسيرة عليه. وقد روى المفسرون «1» أن الآيات نزلت بمناسبة اعتراض وجّهه بعض مشركي مكة على ما حرّم وحلّل في القرآن. وقولهم لبعض المسلمين ما لكم لا تأكلون مما قتله الله وتأكلون مما تقتلون بأيديكم. ويقصدون على ما يبدو تحريم الميتة. والآيات على ما يبدو فصل مستقلّ. وقد حكت آيات قرآنية عديدة مكيّة مواقف جدلية بين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمشركين حول بعض الطقوس والتشريعات والمحرّمات والمحلّلات مما مرّ منه أمثلة عديدة في سور الأعراف والأنعام والنحل وغيرها. وروح الآيات قد تلهم صحة الرواية وقد تلهم أيضا أنها نزلت في صدد مشهد جدلي بدءا وجوابا وأن هذا المشهد لم يكن من المشاهد العنيفة. وهذا النوع من المشاهد كان مما يقع أحيانا بين النبي صلّى الله عليه وسلّم ومعتدلي المشركين على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة في سورتي الأنعام والقصص وغيرهما. ولقد روى الطبري وغيره عن أهل التأويل أن كِتابٍ في الآية [70] كناية عن اللوح المحفوظ الذي أمر الله القلم أن يكتب عليه ما هو كائن من خلقه وأوردوا بعض الأحاديث في صدد ذلك، منها حديث أورده ابن كثير وقال: إنه

_ (1) انظر تفسيرها في البغوي والخازن.

[سورة الحج (22) : الآيات 71 إلى 72]

وارد في السنن من حديث جماعة من أصحاب رسول الله أن رسول الله قال: «أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب قال وما أكتب قال اكتب ما هو كائن فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» . ومع ذلك فقد روى الطبري في سياق الآية أن ابن عباس سأل كعب الأحبار عن أُمُّ الْكِتابِ [الرعد: 39] فقال: (علم الله ما هو خالق وما خلقه عاملون فقال لعلمه كن كتابا) . ولقد أوردنا هذه الأحاديث وغيرها وعلّقنا عليها وعلى موضوع القلم واللوح وأم الكتاب في سياق تفسير سور القلم والبروج والرعد بما يغني عن التكرار. [سورة الحج (22) : الآيات 71 الى 72] وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) . في هذه الآيات: 1- تنديد بعقائد الكفار المشركين ووهن أساسها. فهم يعبدون آلهة غير الله ويشركونها معه من دون برهان وبيّنة وعلم. فهم ظالمون لأنفسهم جانون عليها وليس للظالمين من نصير. 2- ووصف فيه معنى التعقيب والتوبيخ لشدة مكابرتهم وغيظهم. فبينما تكون عقائدهم واهية الأساس فإنهم إذا تليت عليهم آيات الله البينات التي تحتوي البرهان الساطع تجهّمت وجوههم واربدّت وبدا عليها أمارات الغيظ والشرّ حتى ليكادون يبطشون بالذين يتلون عليهم هذه الآيات. 3- وأمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بسؤال هؤلاء سؤالا ينطوي على التحدّي والتقريع عما إذا كانوا يودّون أن ينبئهم بما هو أشدّ إثارة وغيظا لهم وهو وعد الله للكافرين بالنار وبئست هي من مصير لهم. ولقد روى الطبري في سياق تفسير جملة قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ

تعليق على مدى الوصف الذي احتوته الآية وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات إلخ ومدى جرأة النبي صلى الله عليه وسلم في ما كان يبلغه عن الله من الزواجر القاصمة دون مبالاة بعنف الكفار وقوتهم

عزوا إلى مجاهد أن بعضهم قال إن المشركين قالوا والله إن محمدا وأصحابه لشرّ خلق الله، فأمر في الجملة النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن يردّ عليهم قولهم ويخبرهم أن الكافرين هم شرّ خلق الله. والمتبادر من الآيتين أنهما وحدة وأن مضمونهما لا يتحمّل صحة هذا القول الذي لم يوثق بسند ما، وأن الأوجه في تأويل الجملة هو ما ذكرناه في الفقرة الثالثة من الشرح إن شاء الله. والمتبادر كذلك أن الصلة غير منقطعة بينها وبين الآيات السابقة التي كان موضوعها الكفار، وقد حكت الآيات السابقة موقف مشركين معتدلين فجاءت هذه الآيات لتحكي موقف مشركين عنيفين. تعليق على مدى الوصف الذي احتوته الآية وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ إلخ ومدى جرأة النبي صلّى الله عليه وسلّم في ما كان يبلغه عن الله من الزواجر القاصمة دون مبالاة بعنف الكفار وقوّتهم والوصف الذي احتوته الآيات يدلّ على شدّة عناد فريق من المشركين وعنفهم وما كانت تحدثه فيهم تلاوة القرآن ودعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم من غيظ وثورة نفس مما فيه صورة من صور السيرة النبوية في مكة. ويتجلّى في الآيات قوّة التنديد بهذا الفريق من جهة وقوّة الاستهانة بغيظهم وثورة نفوسهم من جهة أخرى، حيث يقابلون بما هو أشدّ إثارة وأبعث على الغيظ وأصكّ للسمع. وفي خلال ذلك تتجلى جرأة النبي صلّى الله عليه وسلّم واستغراقه في مهمته العظمى في إبلاغ الآيات وإسماعها لأناس شديدي العناد والغيظ يكادون يبطشون به حينما يدعوهم إلى الله ويتلو عليهم آيات القرآن. غير مبال بعنادهم وثورة نفوسهم وسورة غضبهم. وقد تجلّت هذه الصفات النبويّة الرائعة في مواقف كثيرة مماثلة حكتها آيات عديدة أخرى على ما نبّهنا إليه في مناسباته.

[سورة الحج (22) : آية 73]

[سورة الحج (22) : آية 73] يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) . وفي هذه الآية هتاف بالناس، والمقصود منهم المشركون، على ما يفيده فحواها ليستمعوا إلى ما يقال لهم ويتدبّروه: فالذين يدعونهم من دون الله ويشركونهم معه لن يخلقوا شيئا مهما تفه كالذباب ولو اجتمعوا وظاهر بعضهم بعضا. بل إنّ عجزهم لا يقف عند هذا فإن الذباب الذي هو من أتفه وأضعف مخلوقات الله لو هبط على آلهتهم وامتصّ ما يعلوها من المواد لعجزوا عن منعه من ذلك واستنقاذ ما امتصّه منهم ومنعه عن أنفسهم. وإن في هذا الواقع لتتجلّى شدّة عجز الشركاء وشدّة سخف الذين يشركونهم مع الله. والآية متصلة على ما هو المتبادر بما سبقها اتصال تعقيب وتسفيه وتنديد وتحدّ وسخرية وهي قوية لاذعة في كلّ ذلك وفي صكّ أسماع المشركين بها وفي الاستهانة بما ستحدثه فيهم من غيظ وثورة نفس ويتجلّى خلالها ما تجلّى خلال سابقاتها من عظمة موقف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وصفاته أيضا. وفحوى الآية يفيد أن المقصود من الشركاء هم الأصنام والأوثان وفي ذلك تتضاعف قوّة التحدّي والسخرية وإبراز الضعف والعجز. [سورة الحج (22) : آية 74] ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) . وهذه الآية متصلة بالسياق اتصال تعقيب وتنديد أيضا: فالمشركون لم يقدروا الله حقّ قدره ولم يفهموه واجب فهمه فسخفوا وضلّوا مع أنه هو القوي الذي لا يباريه في قوته شيء والعزيز الذي لا يدانيه في عزّته أحد. وإذا لا حظنا أن المشركين يعترفون بصفاته المذكورة ظهرت قوّة التناقض والتنديد والتسخيف التي انطوت في الآية.

[سورة الحج (22) : الآيات 75 إلى 76]

[سورة الحج (22) : الآيات 75 الى 76] اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) . وهاتان الآيتان أيضا متصلتان بالسياق على ما يتبادر لنا. وتضمّنتا تقرير ما جرت سنّة الله عليه من اصطفاء رسله من الملائكة ومن الناس. وهو السميع لما يقال البصير لما يقع العليم بما يكون منهم ويدور حولهم ظاهرا أو خفيا، حاضرا ومستقبلا، وإليه مصير الأمور والتصرّف فيها أولا وآخرا. واتصال الآيتين بالسياق قائم فيما احتوته الفصول السابقة القريبة وحكته من مواقف وأمرته للنبي من أوامر وسؤالات يبلغها ويوجهها ويعمل بها. وهما من هذا الاعتبار قد احتوتا تأييدا للنبي وتثبيتا له. فليس في رسالته- وهو بشر- بدع فإن ذلك من سنن الله الجارية. وهذا المعنى قد تكرر تقريره كثيرا في السور المكية بسبيل الاحتجاج والردّ على المشركين. أما رسالة الملائكة فقد ذكرت أيضا في آيات عديدة مرّت في سور سابقة مثل سورة النحل وسورة فاطر وسورة غافر يستلهم منها أنها بسبيل تقرير كونها خاصة بين الله وبين الذين يصطفيهم من البشر لدعوة البشر وهدايتهم، أو لبشاراته إليهم وعنايته بهم في حالة لا يدركها إلّا هؤلاء المصطفون، وتدخل في نطاق المغيبات عن عامة الناس كما تدخل في نطاق الحقائق الإيمانية التي يجب الإيمان بها غيبا لأنها مما قرره القرآن. [سورة الحج (22) : الآيات 77 الى 78] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) . في هاتين الآيتين:

تعليقات على الآيتين الأخيرتين من السورة وما فيهما من تلقين وخطورة

1- هتاف ربّاني بالمؤمنين بأن يعبدوا الله ويسجدوا ويركعوا له ويفعلوا الخير. ففي ذلك فوزهم ونجاحهم. 2- وأمر لهم بأن يجاهدوا كذلك في سبيل الله ودينه حقّ الجهاد. 3- وتنويه بالمنزلة والعناية الكبيرتين اللتين اختصّهم بهما: فقد اجتباهم واصطفاهم وهداهم إلى دينه القويم. ولم يجعل عليهم فيه حرجا ولا إعناتا. وهو ملّة أبيهم إبراهيم وقد سمّاهم المسلمين من قبل وفي القرآن الآن. وأعدّهم بذلك كلّه ليكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليهم شهيدا. وهذه مكانة خطيرة وعناية كريمة تقتضيان منهم الشكر والاجتهاد في أداء ما ترتّب عليهم من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والتمسّك بأهداب دين الله والاعتصام بحبله. وهو مولاهم ونعم هو من مولى ونصير لهم. تعليقات على الآيتين الأخيرتين من السورة وما فيهما من تلقين وخطورة ولم نطلع على رواية خاصة بنزول الآيتين. ويتبادر لنا أنهما متصلتان بالسياق السابق كلّه في الآيات السابقة كما ثبتت النبي صلّى الله عليه وسلّم في ما هو عليه من مناسك وشريعة، وأكدت له أنه على الحقّ والهدى، وندّدت بالمشركين وعقائدهم، فجاءت هاتان الآيتان على الأثر تختتمان الكلام بالالتفات إلى المسلمين فتهتفان بهم بما تهتفان، وتعظانهم بما تعظان وتبثّان فيهم روح الطمأنينة والسكينة والاغتباط، وتنوّهان بالملّة السمحاء التي هداهم الله إليها وبالعناية الكبرى التي خصّهم بها وتنبهانهم إلى ما أوجبه عليهم من الجهاد في سبيل دينه وما أعدّهم له من رفعة الشأن بين الأمم والملل إذا هم اعتصموا بالله وتمسّكوا بدينهم وجاهدوا في سبيله حقّ الجهاد. ولقد قال المفسرون «1» إن جملة لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ

_ (1) انظر تفسيرها في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن وغيرهم.

عَلَى النَّاسِ في صدد يوم القيامة، حيث يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم شهيدا على المسلمين بأنه بلّغهم رسالة ربّه وحيث يكونون هم شهداء على الناس بدورهم بأنهم بلّغوها إليهم لأنه الدين الذي ارتضاه الله للبشرية على يد خاتم أنبيائه. ومع وجاهة هذا القول من الناحية الموضوعية، فالذي يتبادر لنا أنها تلهم أيضا كون المسلمين الذين اجتباهم الله وهداهم إلى ذلك الدين قد تأهلوا بنوره ومبادئه وروحانيته وتلقيناته وتشريعاته ليكونوا شهداء على الناس بصفة هداة ومرشدين. وجملة وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ التي تبتدئ بها الآية التي فيها الجملة وكلمة هُوَ اجْتَباكُمْ من القرائن القوية على ذلك. ولقد جاءت هذه الجملة في آية سورة البقرة هذه: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [143] وكلمة وسط بمعنى العدول والخيار والمتّصف بالاعتدال وعدم الغلوّ والتفريط والإفراط في كل أمر. وهي في هذه الجملة تبرّر جعل المسلمين شهداء على الناس في مقام هُوَ اجْتَباكُمْ في جملة سورة الحجّ. وهذا الوصف أو هذا التبرير قرينة على أن لهم مهمّة في الدنيا وهي إرشاد الناس وهدايتهم أيضا. وتعبير أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ قد قصد به العرب ولا يمكن أن ينصرف إلى غيرهم حيث كانوا يتناقلون ويعرفون نسبتهم بالأبوة إلى إبراهيم وإسماعيل على ما شرحناه في مناسبات سابقة شرحا يغني عن التكرار. ولقد جاء هذا في آيات سورة إبراهيم [35- 41] التي مرّ تفسيرها قوي الدلالة، ثم جاء في هذه الآيات بهذه الصراحة الحاسمة. وفي سورة البقرة آيات قوية الدلالة والحسم وهي: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وذكر إسماعيل مع إبراهيم مانع لانصراف كلمة الذريّة هنا إلى بني إسرائيل لأنهم ليسوا من ذريّة إسماعيل عليهم السلام.

والمتبادر أنه قد استهدف بالتعبير تثبيت الذين أسلموا من العرب وتدعيم الرسالة المحمدية إزاء العرب بوجه عام. فالملّة التي يدعو إليها النبي صلّى الله عليه وسلّم واعتنقها من اعتنقها منهم هي الملّة الصحيحة الصادقة لإبراهيم الذي ينتسبون إليه بالأبوة ويعزون إليه تقاليدهم. فهم أولى الناس بها. وهذا المعنى هو الذي استهدفته الآيات المكيّة التي احتوت ذكر إبراهيم وملّته وقصصه التي لم ترد في سفر التكوين المتداول على ما نبّهنا إليه في مناسبات عديدة سابقة. ومع خصوصية الآيتين الزمنية على ضوء هذه الشروح وصلتها بالسياق السابق فإنهما احتوتا بأسلوبهما القويّ ومضامينهما الواعظة المنبّهة المنوّهة تلقينات خطيرة تظلّ مستمرّة التلقين والفيض والمدد والنفحات للمسلمين عامة والعرب خاصة بحيث يمكن أن يقال إنها قد جعلت للعرب المسلمين في المجتمع الإسلامي شأنا خاصا وحملتهم مهمة كبرى ونبّهتهم إلى أن الله قد اجتباهم وجعلهم وسطا وعدولا وهداة ليرشدوا الناس ويهدوهم بهدى دينه الذي ارتضاه لهم والذي رشّحه ليكون دين الإنسانية عامة. وهذا المعنى مندمج في آية سورة الزخرف هذه: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) على ما شرحناه في سياق تفسيرها. وجملة وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ تنطوي على تقرير ما حمّله الله تعالى للمسلمين عامة والعرب خاصة من مهمة الجهاد وبذل الجهود في سبيل نشر دين الله والدفاع عنه حيث يزيد هذا في سعة التلقين وخطورته. وجملة وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ خطيرة في مقامها حيث تأمر المسلمين والعرب بأن يعتصموا بالله ويجعلوا اعتمادهم عليه في أداء هذه المهمة الخطيرة وتبثّ فيهم الثقة والأمل في نصره لهم فيها. ولقد أورد ابن كثير حديثا في سياق الآية [123] من سورة الأنعام رواه الإمام أحمد عن سلمان وليس فيه ما يمنع صحّة صدوره عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا سلمان لا تبغضني أفتفارق دينك. قلت يا رسول الله كيف أبغضك وبك هدانا الله قال تبغض العرب فتبغضني» . وفي الحديث توكيد لشأن

العرب في الدعوة الإسلامية مستمدّ من شرف ظهور رسولها العظيم منهم وأعظم به من شرف. ومن الجدير بالتنبّه أن شأنية العرب في الإسلام لا تعني تميّزا ولا تغلّبا ولا استعلاء ولا استغلالا ولا مختارية من نوع «الشعب المختار» بالنسبة لعقيدة بني إسرائيل واليهود في أنفسهم الذي جعلهم يعتبرون ما عداهم عبيدا يملكونهم وما يملكون ويكون لهم أن يحققوا ذلك، ولا يقبلون من أحد أن يرتفع إلى مستواهم دينيا أو اجتماعيا ما استطاعوا «1» . في حين أن الإسلام قد سوّى بين المسلمين على اختلاف أجناسهم وألوانهم في جميع الحقوق والواجبات وجميع شؤون الدين والدنيا تسوية تامة وسمّاهم أخوة. كما جاء في آيات عديدة منها آية سورة الحجرات هذه إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [10] وكما جاء في أحاديث عديدة منها هذا الحديث الذي رواه الأربعة عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا. ولا يبغ بعضكم على بعض. وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى هاهنا- ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقّر أخاه المسلم، كلّ المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه» «2» . فليس لغير المسلمين والحالة هذه أن يروا غضاضة في هذه الشأنية للعرب في الإسلام في نطاق المدى المشروح آنفا. وما قلناه من انصراف الآية في الدرجة الأولى إلى العرب سواء أفي ما احتوته من دلالة لفظية أم في كونها كانت توجّه الخطاب إليهم لا يتعارض مع معنى آخر يمكن أن يتبادر من إطلاق تعبير يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وهو أن غير العرب من المسلمين يدخلون في شمولها أيضا. فقد غدوا بانتمائهم إلى الإسلام أمة وسطا ليكونوا شهداء

_ (1) لما أراد بنو إسرائيل أن يعيدوا بناء معبدهم في القدس بعد عودتهم من السبي من بابل، جاء السامريون الذين كانوا يدينون بديانة اليهود فقالوا لهم: نبني معكم لأن ربنا واحد. فقالوا لهم: لا، ليس البيت الذي نبنيه لنا ولكم وإنما نبنيه للربّ إله إسرائيل. سفر عزرا، الإصحاح 4. [.....] (2) التاج ج 5 ص 35.

على الناس وهداة لهم بدورهم. وصاروا مطالبين بأن يجاهدوا في الله حقّ جهاده. ومع أن هناك من روى عن أهل التأويل أن جملة وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ ما عنت الجهاد الحربي في سبيل الله. فإن هناك من قال إنها عنت بذل الجهد واستفراغ الطاقة في نشر دين الله ومجاهدة النفس. وهناك من قال إنها بمعنى بذل كل جهد في سبيل الله بدون أدنى خوف من أي شيء. ومكية الآية تجعل التأويل الثاني هو الأوجه. وسبيل الله أشمل من الجهاد الحربي وهي الدعوة الإسلامية على ما جاء في آيات عديدة مرّ بعضها مثل آية سورة النحل [125] وفي القرآن المكيّ بخاصة آيات عديدة وردت فيها كلمة الجهاد في غير معنى الحرب مرّت أمثلة منها مثل آية سورة الفرقان [52] ومثل آية سورة العنكبوت [69] . ولقد اختلفت أقوال أهل التأويل من التابعين التي يرويها المفسرون في مرجع ضمير الفاعل في سَمَّاكُمُ فمنهم من قال إنه إبراهيم ومنهم من قال إنه (الله) ونحن نرى القول الثاني هو الأوجه بقرينة وَفِي هذا فإن هذا التعبير مصروف إلى القرآن والحال الحضر ولا علاقة لإبراهيم بذلك. وهذا ما رجّحه الطبري الذي قال إنه لا وجه للقول الأول لأنه معلوم أن إبراهيم لم يسمّ أمة محمد مسلمين في القرآن لأن القرآن أنزل بعده بدهر طويل وإن الذي سمّاهم المسلمين هو الله تعالى في القرآن وفي غيره من كتبه السابقة. وعلى هذا فتكون تسميته الذين آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم واتبعوه بالمسلمين هي تسمية قرآنية ربانية. وقد خوطبوا بها في آيات قرآنية عديدة أيضا مثل آية الزخرف هذه: الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69) وآية النحل هذه: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وآية سورة الزمر هذه: وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) وآية سورة فصلت هذه: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وآية سورة القلم هذه: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) فمن المحتمل أن يكون تعبير مِنْ قَبْلُ يعني السور التي نزلت قبل هذه السورة والله أعلم.

تعليق على جملة وما جعل عليكم في الدين من حرج

هذا، وصيغة فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ لم ترد في آيات مكية. وما ورد في هذه الآيات قد ورد بصيغة الحثّ والتنويه مما مرّ منه أمثلة كثيرة من حيث إن هذا الأسلوب هو الأسلوب العام للأوامر والنواهي الربانية في السور والآيات المكية، في حين أن أسلوب السور المدنية تبعا لطبيعة وظروف كلّ من العهدين المكي والمدني على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. ولقد وردت هذه الصيغة في الآية الأخيرة من سورة المزمل. غير أن هذه الآية مدنية على ما نبهنا عليه. وهذا قد يورد احتمال أن تكون الآيتان الأخيرتان مدنيتين في جملة ما يرد من احتمال أن تكون بعض آيات السورة مدنية على ما ذكرناه قبل. ويلحظ أنهما فصل تامّ غير معطوف وغير متصل بما سبقه مما قد يدعم هذا الاحتمال. فإذا صحّ هذا فيكون وضعهما خاتمة للسورة لحكمة علمها الله ورسوله والله تعالى أعلم. تعليق على جملة وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل في مدى هذه الجملة. منها أنها بمعنى أنه ما من ذنب يذنبه المسلمون إلّا جعل الله لهم منه مخرجا من توبة أو كفّارة. ومنها أن ذلك في هلال شهر رمضان والفطر ووقت الحجّ إذا التبس عليهم وأمثال ذلك. ومنها أن الله قد جعل الدين واسعا ولم يجعله ضيّقا بصورة عامة. ومنها ما جعله الله من رخص للمسلمين في العبادات وغيرها عند الضرورات. ومنها إيذان بأن الله قد رفع عنهم ما وضعه على بني إسرائيل من تكاليف فيها مشقّة وحرج. والجملة تتحمّل كلّ هذه الأقوال حيث يبدو بذلك ما لها من خطورة بالغة تستدعي التنويه من حيث إنها تتضمّن تقرير كون الله عزّ وجلّ قد يسّر على المسلمين الأمور فلم يحملهم في دينهم ما لا يطيقون ولم يجعل عليهم فيه إعناتا وشدّة وجعل لهم فيه لكلّ ضيق فرجا ولكلّ عسر يسرا. وهذا المعنى قد تكرر في سور عديدة بحيث يصحّ أن يقال إنه مما امتازت به الشريعة الإسلامية عمّا قبلها. وقد أشير إلى هذا المعنى في آية سورة الأعراف هذه: الَّذِينَ

يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) ومما يصح أن يذكر في صدد ذلك باب التوبة الذي فتحه الله على مصراعيه لكلّ الناس وفي كلّ حال على ما شرحناه في سياق سورة الفرقان. ثم تحليل الأطعمة المحرّمة عند الاضطرار والرخص الكثيرة المتنوعة كالتيمّم وصلاة الخوف وتحلّة اليمين. ثم إباحة الاستمتاع بزينة الحياة الدنيا والطيبات من الرزق. وحصر المحظورات في الخبائث والفواحش والبغي والشرك والمنكرات من الأخلاق الشخصية والاجتماعية وإباحة كل عمل وتصرف للمسلم خارجا عن هذا النطاق. وقد أشير إلى ذلك في آيات سورة الأعراف [31- 33 و 42] وعلّقنا عليه تعليقا يغني عن التكرار. ولقد أراد فريق من المؤمنين المخلصين نبذ الطيبات التي أحلّها الله زهدا وتورّعا وتقرّبا إلى الله فنهاهم الله عن ذلك في آيات سورة المائدة هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) وقد كانوا تعاهدوا فيما بينهم وحلفوا فأنزل الله هذه الآية لإخراجهم من عهدة يمين حلفوها بتحريم ما أحلّ الله على أنفسهم ولو كان تورّعا وزهدا: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) وفي سورة البقرة آية قررت أن الله لا يكلّف نفسا إلّا وسعها وأن الإنسان لا يسأل إلّا عمّا صدر منه فعلا. وعلّمت المسلمين الدعاء لله بعدم مؤاخذتهم بما يصدر عنهم من عمل مغاير لما أمر به بسائق النسيان والخطأ، وبعدم تكليفهم تكاليف شديدة وإلزامهم بإلزامات محرجة كما كان شأن الذين من قبلهم وبعدم تحميلهم فوق طاقتهم وهي

هذه لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (28) . ولقد روى البخاري ومسلم والترمذي حديثا في سياق هذه الآية وما قبلها، يفيد أن الله عزّ وجلّ آذن المسلمين أنه يستجيب لهذا الدعاء الذي علّمهم إياه. والحديث مروي عن أبي هريرة قال: «لمّا نزلت آية لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 284] اشتدّ ذلك على أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فأتوه ثم بركوا على الركب فقالوا أي رسول الله كلّفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها «1» . فقال رسول الله: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير، قالها مرّتين فلما اقترأها القوم وذلّت بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة: 285] فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل عزّ وجل: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا [البقرة: 286] قال نعم رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا [البقرة: 286] قال نعم رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ [البقرة: 286] قال نعم وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [البقرة: 286] قال نعم «2» . وفي سورة البقرة في سياق آيات الصيام هذه الجملة يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ، [185] وفي سورة المائدة في سياق آيات الوضوء

_ (1) يريدون أنهم لا يطيقون أن يحاسبهم الله بما يخفون في أنفسهم. (2) التاج ج 4 ص 62- 64.

هذه الجملة ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) حيث يتساوق بذلك التلقين القرآني الجليل الذي انطوى في هذه الآية كما هو ظاهر. ولقد أثرت أحاديث نبوية عديدة وردت في كتب الأحاديث الصحيحة متصلة بمدى الجملة منها حديث رواه الشيخان جاء فيه «يسّروا ولا تعسّروا وبشرّوا ولا تنفّروا» «1» . وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة جاء فيه: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم. فإنّما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» «2» . وحديث رواه البخاري ومسلم عن عائشة جاء فيه: «عليكم بما تطيقون. فو الله لا يملّ الله حتى تملّوا وكان أحبّ الدين إلى الله ما داوم عليه صاحبه» «3» . ومنها حديث عن عبد الله بن عمر رواه مسلم جاء فيه: «ألم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار؟ قلت: إني أفعل ذلك. قال: فإنّك إن فعلت ذلك هجمت عيناك ونفهت نفسك، ولعينك حقّ، ولنفسك حقّ ولأهلك حقّ وقم ونم وصم وأفطر» . ومنها حديث عن أبي هريرة رواه الشيخان جاء فيه «4» : «إنّ هذا الدين يسر ولن يشادّ الدين أحد إلّا غلبه. فسدّدوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» «5» . وحديث رواه ابن ماجه عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «إنّ الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» «6» . وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله تجاوز لأمتي ما حدّثت به نفسها ما لم يتكلّموا أو يعملوا به» «7» وحديث رواه الإمام أحمد عن عروة

_ (1) التاج ج 4 ص 62. (2) التاج ج 1 ص 37. (3) المصدر نفسه ص 41. (4) المصدر نفسه ص 41. (5) المصدر نفسه ص 41- 42. (6) المصدر نفسه ص 29. (7) المصدر نفسه ص 28.

تعليق على جملة وافعلوا الخير

الفقيمي قال: «جعل الناس يسألون رسول الله أعلينا حرج في كذا؟ فقال: أيها الناس إن دين الله عزّ وجلّ يسر قالها ثلاثا» «1» . وحديث آخر رواه الإمام أحمد عن أبي أمامه جاء فيه: «قال رجل إني مررت بغار محمد فحدثتني نفسي أن أقيم فيه وأتخلّى عن الدنيا، فقال له رسول الله: «إني لم أبعث باليهودية ولا النصرانية لكن بعثت بالحنيفية السمحة» «2» . وهكذا يكون التساوق تاما بين التلقين القرآني والتلقين النبوي ويصبح المعنى الذي احتوته الجملة من المبادئ المحكمة في الإسلام. ولقد روي عن ابن زيد أحد علماء التابعين قوله في مدى الجملة: (ما من ذنب يذنبه المسلمون إلّا ولهم مخرج منه من توبة أو كفّارة) . وعن ابن عباس تأويله لكلمة حرج بالضيق وقوله: (إنّ مدى الجملة ينطبق على هلال شهر رمضان وذي الحجة إذا شكّ الناس فيه أو التبس عليهم أو أشباه ذلك) . مما فيه صور تطبيقية وجيهة لمدى هذه الجملة. تعليق على جملة وَافْعَلُوا الْخَيْرَ كذلك فإن جملة وَافْعَلُوا الْخَيْرَ جديرة بالتنويه من حيث إنها تحثّ على فعل الخير إطلاقا. والخير هو كل عمل نافع ومفيد قولا وفعلا. والإطلاق يفيد الحثّ على عمل الخير في كل ظرف ولكل الناس بدون قيد وشرط مما فيه رائع التلقين. ولقد تكرر ذلك في آيات عديدة مما يزيد الروعة. منها آية سورة البقرة هذه لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) حيث انطوت على حثّ على التسابق إلى فعل الخير وآية سورة آل عمران هذه: يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) حيث انطوت على التنويه بالمسارعين في الخيرات. ومنها آية سورة آل عمران هذه: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ

_ (1) تفسير القاسمي لآية البقرة [185] . (2) انظر المصدر نفسه.

يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وهذه الآية أقوى تلقينا حيث لا يكتفى فيها بالحثّ على فعل الخير بل توجب الدعوة إليه دائما مثل ما توجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحيث إذا لم يكن فئة من الناس في وقت من الأوقات لا يقومون بهذا الواجب أثم جميع المسلمين. ولقد نددت آيات عديدة بالذين يمنعون الخير أو يشحّون عليه تنديدا شديدا. من ذلك آية سورة القلم هذه: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) وآية سورة (ق) هذه: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) ، وهذه الجملة في آية من سورة الأحزاب أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ [19] حيث يبدو من هذا أن فعل الخير والدعوة إليه من أمّهات الأخلاق والمبادئ التي قررها القرآن وندّد بالذين يشحّون عليه أو يمنعونه. وهناك أحاديث نبويّة صحيحة كثيرة جدا في الحضّ على الصبر والعفو وتحمّل الأذى وقضاء حوائج الناس ونصر المظلوم والذبّ عن المسلمين وستر عوراتهم والصدق والوفاء والرفق والحياء والتواضع وحسن الخلق والمعاملة الحسنة مع الناس والسخاء والكرم والشكر على المعروف والنصح للناس والعدل. وحبّ المسلم لأخيه ما يحبّه لنفسه والبرّ بالآباء والأقارب والضعفاء والمساكين واليتامى والجيران، وغيرها وغيرها مما يدخل في شمول كلمة الخير ومما أوردنا منه أمثلة كثيرة في مناسبات سابقة ومما سنورد منه أمثلة أخرى في مناسبات آتية، مما فيه تساوق مع التلقين القرآني. وهناك حديث عام في هذا الباب فيه حثّ على المساعدة على عمل الخير إذا لم يستطع المرء أن يفعله بنفسه رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة جاء فيه: «جاء رجل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إني أبدع بي فاحملني، قال: لا أجد ما أحملك عليه ولكن ائت فلانا فلعلّه أن يحملك فأتاه فحمله فأتى النبيّ فأخبره فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله» «1» .

_ (1) انظر التاج ج 5 ص 67- 68.

سورة الرحمن

سورة الرّحمن في السورة تنويه بنعم الله ومشاهد عظمته في الكون وذاته وإشارة إلى عنايته بالإنسان. وتنديد بالمكذبين وإنذار لهم وتنويه بالمتّقين وبشرى لهم. وبيان ما سوف يلقاه الأولون في الآخرة من هول وعذاب والآخرون من نعيم ورفاه. والسورة فريدة في أسلوبها النظمي، كما أنها عرض عام للدعوة مثل السور النازلة في وقت مبكّر كالأعلى والشمس والليل والقارعة والمرسلات. والطابع المكي قوي البروز عليها ومعظم المفسرين يروون مكيتها عن ابن عباس وغيره «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4) . (1) علّم القرآن: يسّر فهمه وما فيه من هدى. (2) علّمه البيان: الجمهور على أن معنى الجملة (علّم الإنسان النطق اختصاصا له من دون الأحياء) . في الآيات بيان لبعض نواحي عناية الله تعالى بالإنسان: فقد خلقه ممتازا عن سائر الأحياء واختصّه بالنطق والبيان ويسّر له فهم القرآن. وأسلوب الآيات تقريري عامّ موجه إلى الناس جميعا كما هو المتبادر. وقد

_ (1) انظر تفسير الخازن وابن كثير والبغوي والزمخشري والطبرسي والنسفي والنيسابوري والقاسمي. [.....]

قال المفسرون إن اسم الرحمن هنا هو بسبيل توكيد كونه هو اسم الله تعالى وبسبيل الردّ على الكفار الذين كانوا ينكرون تسمية الله به ويتساءلون عن ذلك تساؤل المنكر المستغرب. والتعليل وجيه. وقد أشرنا إلى شيء مما كان حول اسم الرحمن في سورتي الفرقان والرعد وعلّقنا على ذلك بما يغني عن التكرار. ولعلّ بدء هذه السورة بهذا الاسم ونسبة مشاهد الكون إليه قرينة على وجاهة هذا التعليل ووجاهة ما قيل في صدد التنديد بالكفّار لكفرهم بالرحمن على ما حكته سورتا الفرقان والرعد. ولقد ذكرت روايات ترتيب السور أن هذه السورة نزلت بعد سورة الرعد «1» . ولعل مطلعها قرينة على صحة الرواية. ولقد روى البغوي عن ابن عباس أن الْإِنْسانَ في الجملة تعني آدم وأن جملة عَلَّمَهُ الْبَيانَ تعني تعليم آدم الأسماء كلّها مفضلا إيّاه على الملائكة على ما جاء في آيات سورة البقرة هذه: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) كما روى عن ابن كيسان أن الْإِنْسانَ تعني محمدا. وروى فيما رواه في سياق هذا القول أن الله علّم آدم اللغات جميعها حتى إنه كان يتكلّم بسبعمائة ألف لغة أفضلها العربية! وإلى هذا فقد روى روايات أخرى منها أن الْإِنْسانَ تعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم وعَلَّمَهُ الْبَيانَ تعني القرآن. ومنها أن الْإِنْسانَ تعني الجنس البشري وعَلَّمَهُ الْبَيانَ تعني علّمهم النطق والكتابة والفهم والإفهام. وقد روى الطبري بعض ما رواه البغوي ثم قال: إن كون الإنسان هو الجنس الإنساني وأن معنى عَلَّمَهُ الْبَيانَ هو تعليمه الكلام والحلال والحرام وأمور الدنيا والآخرة هو الصواب. وهذا القول مع القول الأخير الذي يرويه البغوي هما الأكثر اتساقا مع روح الجملتين وعموم الخطاب فيهما. ويصحّ أن يضاف إليهما أن الجملتين هما بسبيل التنبيه إلى نعمة الله العظمى على الجنس

_ (1) ذكر ذلك المصحف الذي اعتمدناه ثم السيوطي في الإتقان وورد في الترتيب المروي عن ابن عباس وفي ترتيب الخازن.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 5 إلى 13]

البشري باختصاصه بميزة الكلام والبيان وتكامل الصقل وتيسيره له فهم ما أنزله الله. وبكلمة ثانية فتحه له آفاق العلم والمعرفة والارتفاع به إلى ذرى الكمال. وقد ينطوي فيهما دعوة للجنس البشري إلى تقدير نعمة الله عليه وشكره واستعمالها فيما فيه الخير والحقّ والصلاح. [سورة الرحمن (55) : الآيات 5 الى 13] الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) . (1) بحسبان: بحساب وتقدير. (2) النجم: النبات اللين الذي لا يغلظ ساقه كالبقول والقمح وهناك قول إنه نجم السماء ورجّح الطبري القول الأول وهو الصواب إن شاء الله. (3) الميزان: جمهور المفسرين على أن الأول والثاني يعنيان العدل، والثالث يعني الميزان الذي يوزن به. (4) ألّا تطغوا: ألا تتجاوزوا وتبغوا. (5) ولا تخسروا: ولا تنقصوا. (6) الأنام: الخلق عامة. (7) ذات الأكمام: ذات البراعم التي يخرج منها الثمر. (8) العصف: ورق الشجر والنبات. ومعنى الحبّ ذو العصف أي الزرع الذي ينتج حبّا ويكون في أوله ورقا. (9) الريحان: هناك من قال إنه النبات ذو الرائحة المعروفة، وهناك من قال إنه الرزق والطعام وأن جملة وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ بمعنى الحبّ الذي

يكون في بدئه ورقا والذي يصير حبا فيكون رزقا وطعاما وعلى كل حال فالكلمتان كانتا مفهومتي الدلالة عند السامعين. (10) آلاء ربّكما: نعم ربكما وآياته. وهذه الآيات استمرار للآيات السابقة في صدد تعداد نعم الله وعظمته: فالشّمس والقمر يجريان بحسابه وتقديره. والشجر والنبات يخضعان لأمره وتصريفه. وهو الذي رفع السماء فوق الأرض ومدّ الأرض وسخّرها لينتفع فيها الخلائق التي بثّها فيها. وجعل فيها فيما جعل الفاكهة والنخل والحبّ ذا العصف والريحان. وقد تخلّل الآيات استطرادات إلى ما أوجبه الله على الناس: فقد أوجب عليهم العدل والإنصاف وحسن التعامل. وعدم بخس الكيل والوزن لما في ذلك من قوام العمران وطمأنينة المجتمع. وانتهت الآيات بسؤال استنكاري يتضمّن تقرير كون كل ذلك لا يكون إلا من إله قادر عاقل حكيم عادل فأي آلاء الله محلّ للتكذيب والمماراة. وفي الآية الأخيرة تنديد موجّه للكفار المكذّبين الذين يكابرون في الحقائق ويتعامون عن آلاء الله الباهرة ويظلون يكررون جحودهم وتكذيبهم. وقد جاء بصيغة التثنية لتشمل الإنس والجنّ منهم على ما يستلهم من ذكر الجنّ والإنس معا في الخطاب الموجّه إليهم في آيات تأتي بعد قليل. ولقد تكررت الآية الأخيرة المذكورة بعد مقاطع السورة وصارت كاللازمة مما يتضمّن معنى شدّة التنديد والتقريع. ولقد قال المفسّرون «1» إن كلمة لِلْأَنامِ تشمل جميع ما خلقه الله من أحياء. ومع ما في هذا من وجاهة فإنه يتبادر لنا استلهاما من مضمون الآيات ومما احتوته من تنبيهات وواجبات أنه لا يمكن أن يكون موضوعها غير الجنس البشري وأن الكلمة تعني هذا الجنس بنوع خاص. والتنبيهات والواجبات المذكورة من أمّهات الأخلاق الشخصية والاجتماعية

_ (1) انظر تفسير البغوي وابن كثير.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 14 إلى 16]

التي تكررت في سور عديدة بأساليب متنوعة والتي هي من أمّهات أهداف الرسالة المحمديّة في صدد تعامل الناس مع بعضهم على أساس الحقّ والعدل والإنصاف وعدم بخس الناس وغشّهم والطغيان عليهم مما هو مستمر التلقين والمدى في كل ظرف ومكان. [سورة الرحمن (55) : الآيات 14 الى 16] خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) . (1) الصلصال: الطين اليابس الذي يرنّ إذا نقر عليه. (2) الفخّار: الطين المطبوخ بالنار. (3) مارج: قيل إنه اللهب الصافي الذي لا دخان فيه. وقيل إنه المختلط بالدخان. ولعل الثاني أوجه لأن مارج من مرج بمعنى خلط أو مزج. الآيات استمرار للسياق في بيان عظمة الله والتنديد بالمكذبين لها: فقد خلق الله الإنسان من طين يابس حتى صار له صلصلة إذا قرع عليه يشبه الفخار وخلق الجان من النار فما الذي يكذبه المكذبون من ذلك؟. وأسلوب الآيات تقريري عام كسابقاتها كما هو ظاهر. ولقد ذكر خلق الإنسان من صلصال ومن طين والجن من نار في آيات سابقة في بعضها تطابق وفي بعضها تباين لفظي وتطابق جوهري. وكما قلنا في المناسبات السابقة نقول هنا بوجوب الوقوف من هذه الأخبار التكوينية القرآنية عند ما وقف القرآن دون تزيد مع ملاحظة أن ذلك بسبيل بيان عظمة الله وقدرته وبديع خلقه. ونرجّح أن السامعين يعترفون بأصلية تراب الإنسان ونارية الجنّ فذكروا بما يعرفونه ليستحكم التنديد بمماراة الممارين منهم. [سورة الرحمن (55) : الآيات 17 الى 18] رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18) .

[سورة الرحمن (55) : الآيات 19 إلى 25]

والآيتان استمرار للسياق وبأسلوب تقريري عام كسابقاتهما أيضا. وقد قال المفسرون «1» فيما قالوه إن القصد من المشرقين والمغربين مشرقا الشمس ومغرباها، ومشرقا القمر ومغرباه في الشتاء والصيف، أو مشرقاهما ومغرباهما إطلاقا. وعلى كل حال فالقصد على ما هو المتبادر لفت نظر السامعين إلى ما يرونه من دقّة سير كل من الشمس والقمر شروقا وغروبا وما في ذلك من مشاهد قدرة الله وبديع صنعه. ولقد قال بعضهم إن عبارة المشرقين والمغربين تعني ما هو معروف اليوم من أن الشمس تشرق على نصف الكرة الغربي في حين تغرب عن نصفها الشرقي وتشرق على نصف الكرة الشرقي في حين تغرب عن نصفها الغربي. واعتبروها دليلا قرآنيا على هذا الناموس الكوني أو أرادوا أن يستخرجوا هذا الناموس من النصّ القرآني. ونحن نرى في هذا تمحّلا وتجوّزا وخروجا بالقرآن عن نطاق هدفه الهادي المنبّه إلى بديع كون الله ونواميسه مما يقع تحت مشاهدة الناس وحسب. ومما يمكن أن يورد على المتجوزين والمتمحّلين أن هذا كان سرّا خافيا عن البشر في وقت نزول القرآن لأنه إنما عرف بعد اكتشاف أميركا في القرن التاسع الهجري أو القرن الخامس عشر الميلادي. ولا يجوز أن يدّعي أحد أن هذا السرّ الذي كان من جملة نواميس الكون الجارية كان مغيّبا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولم يرو أحد أن النبي قال هذا السرّ لأحد من أصحابه ولا يجوز لأحد أن يدّعي أن النبي كتمه عنهم لأن كل هذا مناقض للقرآن الذي يقول فيما يقول وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 44] ووَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89] . [سورة الرحمن (55) : الآيات 19 الى 25] مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25) .

_ (1) انظر تفسير البغوي وابن كثير والطبرسي والكشاف.

(1) مرج: خلط ووصل. (2) برزخ: حاجز. (3) لا يبغيان: لا يطغى أحدهما على الآخر. (4) الجواري: جمع جارية وهي سفينة البحر. (5) كالأعلام: كالجبال. والآيات استمرار في السياق والهدف كما هو واضح: فبتقدير الله تعالى يتصل البحران ببعضهما دون أن يطغى أحدهما على الآخر كأن بينهما برزخ يحجزهما عن بعضهما. وقد يسّر الله للناس استخراج اللؤلؤ والمرجان منهما. وبتقديره تسير المراكب العظيمة المشابهة للجبال فيهما أيضا فبأي هذه الآلاء يكذب المكذبون ويمارون؟. وقد تعددت أقوال المفسرين في المقصود من البحرين: منها أنهما البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر. ومنها أنهما البحر الأحمر وبحر الهند. أو شطّ العرب وخليج البصرة «1» أو خليج البصرة وبحر الهند. وقد روى الطبري مع هذه الأقوال قولا عن سعيد أنهما بحر في السماء وبحر في الأرض حجزت بينهما قدرة الله وينزل من الأول القطر على أصداف الثاني فيتكون اللؤلؤ والمرجان فيه. والأوجه أحد الأقوال السابقة. حيث يلتقي بحر مع بحر وحيث يخرج من كل منهما اللؤلؤ والمرجان ومهما يكن من أمر فالقصد كما هو المتبادر هو لفت الأذهان إلى ما يشاهده الناس من اختلاط مياه البحار والأنهار ببعضها دون أن يطغى بعضها على بعض. وفي الآيات دلالة على أنه كان يجري في البحار التي تقع عليها بلاد العرب مراكب عظيمة. وكان يستخرج منها اللؤلؤ والمرجان. وأن هذا وذاك كان مشاهدا أو معروفا في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم ومنتفعا به. وموضع حديث عن قدرة الله وعظمته.

_ (1) انظر تفسير البغوي والطبرسي والخازن.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 26 إلى 28]

وللشيخ محيي الدين بن العربي الصوفي تفسير للآيتين مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ جاء فيه: (مرج البحرين بحر الهيولى الجسمانية الذي هو الملح الأجاج وبحر الروح المجرّد الذي هو العذب الفرات. يلتقيان في الوجود الإنساني. بينهما برزخ هو النفس الحيوانية التي ليست في صفاء الروح المجرّدة ولطافتها ولا في كثرة الأجساد الهيولانية وكثافتها. لا يبغيان لا يتجاوز أحدهما حده فيغلب على الآخر بخاصتيه. فلا الروح يجرد البدن ويخرج به ويجعله من جنسه ولا البدن يجسد الروح ويجعله ماديا. سبحان الخالق القادر على ما يشاء) «1» . وفي هذا ما هو واضح من الشطح الذي يبتعد به الشيخ عن معنى العبارة القرآنية الصريحة ودلالتها القطعية. والشيعة يفسرون جملة مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بعلي وفاطمة رضي الله عنهما وجملة يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ بالحسن والحسين (رضي الله عنهما) «2» . وفي هذا كذلك ما هو واضح من الشطط والتعسف. [سورة الرحمن (55) : الآيات 26 الى 28] كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28) . هذا المقطع فصل جديد في الخطاب والتقرير مع اتصاله ببيان عظمة الله. فالآيات السابقة احتوت تقريرات عن آلاء الله وكونه ونواميسه ونعمته على الإنسان ووصاياه له. وهذا المقطع احتوى تقريرا عن ذات الله. والأسلوب كسابقه تقريري عام وهدفه تقرير عظمة الله أيضا: فكل كائن سواه قابل للفناء وهو الباقي الذي لا يطرأ عليه زوال ولا تغيير. وتعبير وَجْهُ رَبِّكَ بمعنى ذات الله عزّ وجلّ هو تعبير أسلوبي مألوف من المخاطبات البشرية التي نزل القرآن بأسلوبها. وقد نبّهنا على ما ينبغي أن يفهم من كلمة (وجه الله) وأمثالها مع وجوب تنزيه الله عن مماثلة خلقه

_ (1) التفسير والمفسرون للذهبي ج 3 ص 7. (2) الصراع بين الإسلام والوثنية ج 1 ص 4 المقدمة.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 29 إلى 30]

في سياق الآية [88] من سورة القصص بما يغني عن التكرار. [سورة الرحمن (55) : الآيات 29 الى 30] يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30) . وهذا المقطع من نوع المقطع السابق أيضا من حيث إنه تقرير عن ذات الله: فكل من في السموات والأرض محتاج إليه وسائله. وتصريفه للأكوان وشؤون الخلق دائم لا سكون فيه. ولقد روى البغوي عن مقاتل أحد علماء التابعين ومفسّريهم أن الآية الأولى نزلت في اليهود حين قالوا إن الله لا يقضي يوم السبت شيئا. وأسلوب الآية تقريري عام. والمقطع استمرار للسياق. فإن صحّ أن اليهود قالوا ذلك فإن الآية تكون احتوت ردّا عليهم في سياق عام ولا تكون قد نزلت لحدتها لأجل ذلك فيما هو المتبادر على أن مكية الآية والسورة وكون أكثر اليهود الممارين في المدينة يحمل على التوقف في الرواية. ولقد روى الطبري بطرقه حديثا عن عبد الله الأزدي قال: «تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فقلنا يا رسول الله وما ذلك الشأن. قال: يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع أقواما ويضع آخرين» . وقد أورد ابن كثير هذا الحديث مرويا بطرق ابن عساكر وابن أبي حاتم عن أبي الدرداء أيضا. والمتبادر أن الحديث بسبيل توضيح نبويّ مختصر مفيد لجانب من جوانب شأن الله عزّ وجلّ الدائم في كل أمر ومطلب من أمور ومطالب الكون والخلق وهو ما انطوى في الأسلوب الشامل الذي جاءت عليه الجملة القرآنية. [سورة الرحمن (55) : الآيات 31 الى 36] سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36) .

(1) أن تنفذوا: أن تخرجوا وتخلصوا وتتفلتوا. (2) شواظ: قيل إنه الشرر أو اللهب. (3) نحاس: ذكر الطبري أن العرب تسمي الدخان نحاسا بكسر النون. وذكر احتمال أن يكون المعدن المعروف الذي كان يسمى صفرا. وروى البغوي عن قتادة أن المقصود هو النحاس المذاب وهذا إنما يكون من شدّة الحرارة. وهذه المقاطع فصل جديد آخر، ولكنه غير منقطع عن الفصول السابقة والسياق السابق. فالثقلان هما الإنس والجنّ. والسؤال في اللازمة موجه إلى المكذبين منهما. وقد وجّه الخطاب في الآيات إليهما مباشرة. واحتوت وعيدا وتحدّيا للمكذّبين منهما. فلسوف يفرغ الله لحسابهم على أعمالهم. ولن يستطيعوا أن ينجوا من قبضته ويهربوا من نطاق سلطانه من أي ناحية في السموات والأرض، ولن تتيسر لأحد النجاة إلّا ببرهان أي بإذن من الله تعالى وحجّة مقبولة عنده. وهي الإيمان والعمل الصالح كما هو المتبادر. ولسوف يرشقون بشواظ من النيران والمذاب من النحاس الحارّ فيغلبون أمام الله ويخذلون، ولا ينتصرون ولا يكون لهم أي غلبة ومخلّص. ولقد اقتضت حكمة التنزيل أن تكون معظم أوصاف النعم والعذاب الأخرويين مستمدة من مألوفات الدنيا على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. والراجح أن الرشق بالنار والنحاس المذاب من هذا الباب. حيث يصحّ القول والحالة هذه أن العرب كانوا يعرفون أو يسمعون بأن ذلك من وسائل الحرب الشديدة. ولعلّها مما كان يعرف بالنار اليونانية ومواد القذف النارية الأخرى. وتعبير سَنَفْرُغُ لَكُمْ تعبير أسلوبي كما هو المتبادر. فالله عز وجل لا يشغله شأن عن شأن حتى يصحّ في حقه معنى الشغل والتفرّغ والفراغ. والمقصود منه كما قلنا الإنذار والتهديد بأن الله سوف يحاسبهم ويجزيهم بما يستحقون.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 37 إلى 45]

ولقد ذكر في سورة الجنّ وسورة الأحقاف وغيرهما شمول تكليف الله للجنّ وشمول حساب الآخرة وثوابها وعقابها لهم تبعا لذلك وأسوة بالإنس، ولما كان هذا مما أخبر به القرآن في جملة ما أخبر به من شؤون الجنّ المغيبة فقد صار من الواجب الإيمان به والوقوف منه عند ما وقف القرآن بدون تزيد. مع ملاحظة أن ذكر ذلك لا بدّ من أن يكون له حكمة ربانية. ولعلّ منها تقرير كون الجن- الذين يعبدهم العرب ويعوذون بهم ويشركونهم في الدعاء مما حكته آيات عديدة في سور سابقة هم أيضا- خاضعين لأمر الله ينال المحسن منهم ثوابه والمسيء عقابه في الآخرة. ولقد وهم بعضهم أن بين هذه الآيات وبخاصة بين الآية الأولى منها وما يجري اليوم من محاولات الارتفاع في الفضاء والوصول إلى القمر والكواكب الأخرى شيئا من التعارض، حتى لقد أرسل لي أمين عام جماعة الإرشاد الإسلامية في شيبرون في جاوا أندينوسيا يسألني عن ذلك. وواضح من الآيات وشرحها أنها في صدد الآخرة وعذابها وإنذار الجنّ والإنس بهما. وننبه في هذه المناسبة إلى أنه ليس بين تلك المحاولات والنصوص القرآنية أي تعارض. وأن القرآن بما نبّه عليه في الآيات العديدة ومن تسخير الله تعالى السموات والأرض وما بينهما والشمس والقمر والنجوم هو في مقام الحضّ على بذل الجهد في سبيل معرفة كل شيء عن ذلك والانتفاع بكل ناموس أودعه الله في كونه والتنبيه على أن ذلك هو بسبيل معرفة عظمة الله وقدرته وبديع صنعه واستحقاقه وحده للعبادة والاتجاه. والله تعالى أعلم. [سورة الرحمن (55) : الآيات 37 الى 45] فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45) . (1) وردة كالدهان: وردة بمعنى اللون الأحمر، وسميت الفرس الحمراء

[سورة الرحمن (55) : الآيات 46 إلى 61]

بالورد من ذلك. أما الدهان فقيل إنه الدهن ومنه الزيت فتكون الجملة (حمراء بلون الزيت) وقيل إنه الجلد فتكون الجملة (حمراء بلون الجلد المدبوغ) . (2) آن: شديد الحرارة. وهذه المقاطع متصلة بالمقاطع السابقة. وهي بسبيل الوعيد بعذاب الآخرة ووصف أهواله على المجرمين المكذبين من الثقلين: فإذا ما جاء الأجل المعين في علم الله انشقت السماء فكانت حمراء مهيبة المنظر. وحشر الإنس والجن جميعا. وعرف المجرمون بعلاماتهم الظاهرة معرفة تغني عن سؤالهم عن هوياتهم وذنوبهم. وأمر بهم فسيقوا مسحوبين من نواصيهم أو مجرورين من أقدامهم إلى جهنّم حيث يقال لهم هذه جهنّم التي كانوا يكذبون بها وحيث يظلون يتنقلون بين النار والماء البالغ نهاية الشدّة في الحرارة. والوصف رهيب، والمتبادر أنه استهدف فيما استهدفه إثارة الفزع في قلوب الكفار وحملهم على الارعواء. [سورة الرحمن (55) : الآيات 46 الى 61] وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61) . (1) أفنان: جمع فنن وهو الغصن اللين الدقيق. (2) جنى الجنتين: ثمرهما. (3) دان: قريب.

(4) قاصرات الطرف: مرّ تفسيرها في سورة الصافات. (5) لم يطمثهن: لم يفضضهن. والطمث هو دم الرحم. وأصل المعنى لم يستنزل دمهن أحد قبلهم من إنس وجان. والمقاطع فصل جديد فيه بيان المصير الأخروي للذين يخافون الله ويتقونه بالإيمان وصالح الأعمال مقابل فصلي الإنذار والوعيد السابقين، وبيان مصير المجرمين الأخروي جريا على مألوف النظم القرآني. فهي والآيات السابقة سياق متسلسل. وعبارتها واضحة. والوصف الذي احتوته مشوق قوي. وقد استهدف فيما استهدفه كما هو المتبادر تبشير المؤمنين المتقين وتشويقهم. وإغراء غيرهم على الخوف من الله وتقواه والارعواء عن الغي والضلال. وذكر الفرش التي بطائنها من إستبرق وتشبيه جمال نساء الجنة بالياقوت والمرجان قد يدلّ على أن هذه الأشياء مما يعرفها السامعون ويعرفون أنها عنوان الترف والبهاء والصفاء والجمال. ولقد روى الشيخان في سياق آية وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ عن عبد الله بن قيس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربّهم إلّا رداء الكبر على وجهه في جنّة عدن» «1» حيث ينطوي في الحديث توضيح أو تعليل لتثنية الجنة فيه إشارة إلى تفاوت ما بين الجنتين. ومع ذلك فالمفسرون يروون تأويلات أخرى منها أن واحدة للجنّ وأخرى للإنس. ومنها أن واحدة لمستحقيها وأخرى لأزواجهم. ومنها أن واحدة للنزهة وأخرى للسكن. وعلى كل حال فإنه لا بدّ من أن يكون لورود الجملة بالنظم الذي وردت به حكمة ربانية في صدد التطمين والتشويق إلى ما أعدّه الله تعالى لمن يخشونه ويتقونه من النعيم الأخروي. والخوف من مقام الله ذو مدى واسع إيجابي وسلبي حيث يشمل الإيمان بالله تعالى والعمل الصالح في مختلف المجالات من ناحية واجتناب الإثم

_ (1) انظر التاج ج 4 ص 224.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 62 إلى 78]

والفواحش والبغي من ناحية أخرى. ولقد روى الطبري بطرقه عن أبي الدرداء أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ يوما وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فقلت يا رسول الله وإن زنى وإن سرق يا رسول الله فقال: وإن زنى وإن سرق رغم أنف أبي الدرداء. وروى بطرقه أنه قيل لأبي الدرداء في هذه الآية وإن زنى وإن سرق فقال إنه إن خاف مقام ربّه لم يزن ولم يسرق. حيث يبدو أن في الحديث الثاني توضيحا لما فهمه أبو الدرداء من الحديث الأول. وعلى كل حال فإن صحّ الحديث النبويّ الذي لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة فالأولى حمله على أن الزاني أو السارق إذا استشعر بخوف الله بعد عمله وندم وتاب وحسنت توبته وأصلح واصطلح نال رضاء الله وعفوه وصار مستحقا لما وعده لمن خاف مقامه. [سورة الرحمن (55) : الآيات 62 الى 78] وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78) . (1) ومن دونهما: هناك من أوّلها بأنها في معنى من دونهما مرتبة وخطورة. وهناك من أوّلها بأنها قربهما أو جنتان أخريان. (2) مدهامتان: منظرهما ضارب إلى السواد من شدّة الاخضرار والنضرة. (3) نضاختان: فوارتان. أو ممتلئتان أو الماء فيهما لا ينقطع عن النبع والفوران. (4) خيرات: قيل إنها مخففة من خيّرات جمع خيّرة فتكون الجملة: نساء حسان مختارات أو خيّرات.

(5) مقصورات في الخيام: قيل إنها بمعنى محبوسات محفوظات في خيامهن على أزواجهن فلا يخرجن منها لغيرهم. (6) رفرف: قيل إنها الوسائد. وقيل إنها الطنافس والبسط، ووصف الرفرف (بالخضر) قد يلهم أنها جمع وأنها متكئات عالية من النبات الأخضر على ما هو معتاد في أيام الربيع. (7) عبقري: قيل إنها كناية عن الطنافس والبسط. وقيل إنها وصف لكل جليل نفيس نادر حيا كان أم جمادا. وقيل إنها نسبة إلى بلد يصنع فيها الوشي. وقيل إن عبقر بلد أو واد للجن في أساطير العرب ينسب إليه كل عجيب. ويستلهم من نظم الآية أن الكلمة وصف ثان لرفرف. فالرفرف التي يتكىء عليها المنعمون في هذه الجنات خضراء عجيبة في رونقها ومنظرها. وهذا الفصل متصل بالسياق أيضا. وعبارة آياته واضحة هي الأخرى. وقد روى المفسرون فيما رووه «1» في مفهوم وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ إنهما دون الأوليين في المرتبة لأن المؤمنين متفاوتون في الأعمال فاقتضت الحكمة أن تكون جناتهم متفاوتة. وقد لا يخلو هذا من وجاهة. وفي القرآن آيات نبهت على التفاوت في درجات المؤمنين وجزائهم في الآخرة. منها ما مرّ في سورة الواقعة [الآيات 7- 39] ومنها آية سورة الحديد هذه: وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) ، وورد أيضا أنهما جنتان أخريان قربهما وهذا أيضا وارد، ومتسق مع مفهوم الإنسان الدنيوي من تعدد الجنات والمنتزهات. وقد يؤيد هذا الاحتمال بالنسبة للمقام أنه ليس في وصف الجنتين السابقتين ونعيمهما ووصف هاتين الجنتين ونعيمهما فرق وتفاوت كما هو الحال في منازل السابقين وأصحاب اليمين الأخروية الموصوفة في سورة الواقعة مثلا.

_ (1) انظر تفسير البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي والطبري.

ولقد أورد ابن كثير في سياق آية: فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ حديثا رواه عمر بن الخطاب (رض) قال: «جاء أناس من اليهود إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا محمّد أفي الجنة فاكهة؟ قال: نعم فيها فاكهة ونخل ورمان. قالوا: فيأكلون كما يأكلون في الدنيا؟ قال: نعم وأضعاف. قالوا فيقضون الحوائج قال لا ولكنهم يعرقون ويرشحون فيذهب الله ما في بطونهم من أذى» . وأورد حديثا آخر عن أبي سعيد الخدري (رض) قال: «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: نظرت إلى الجنة فإذا الرمانة من رمانها كالبعير المقتب» وأورد في سياق جملة حور مقصورات في الخيام حديثا رواه البخاري جاء فيه: «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال إن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها ستون ميلا في كلّ زاوية منها أهل ما يرون الآخرين يطوف عليهم المؤمنون» «1» . وأورد في سياق وصف الجنة وخدمها وما أعد لها وفي أهلها حديثا عن أبي سعيد جاء فيه: «قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أدنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون ألف خادم واثنتان وسبعون زوجة، وتنصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية وصنعاء» . وروى الطبري عن ابن مسعود في تفسير الخيام حديثا جاء فيه: (هي الدرّ المجوّف) ، وهناك روايات من هذا الباب عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما فنكتفي بما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونقول إن من الواجب التسليم بما ثبت عن رسول الله والإيمان بأن في ذلك حكمة سامية. ولعلّ من هذه الحكمة التشويق والترغيب. والله أعلم. ولقد أورد البغوي في سياق الآية الأخيرة حديثا عن عائشة (رض) قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سلم من الصلاة لم يقعد إلّا مقدار ما يقول اللهمّ أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام» والمسلمون مدعوون للاقتداء بالنبي صلّى الله عليه وسلّم في هذا الثناء المأثور.

_ (1) أورد الحديث صاحب التاج أيضا. انظر ج 4 ص 224 مرويا عن عبد الله بن قيس.

سورة الإنسان

سورة الإنسان في السورة تقرير وتذكير بخلق الإنسان بعد العدم ومنحه العقل والاختيار لاختباره. وإنذار للكفار وتنويه بالمؤمنين وبيان مصير كلّ منهم في الآخرة مع وصف رائع لمصير المؤمنين. وتلقين بتقوى الله والرأفة بالبؤساء. وتثبيت للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتهوين لموقف الكفار منهم ونعي عليهم لمحبتهم الدنيا وإهمالهم الأخرى. وهذه السورة من المختلف في مكيتها ومدنيتها أيضا غير أن الطابع المكي قوي البروز عليها. ومعظم المفسّرين يروون مكيتها «1» . ولقد ذكر في عدد من تراتيب النزول المرويّة أنها نزلت بعد سورة الرحمن «2» . ولعلّ في ذلك قرينة على مكيتها أيضا وفي بعض آياتها قرائن بل دلائل قوية على مكيتها كذلك. وللسورة اسم آخر هو الدهر اقتباسا من كلمة الدهر التي جاءت في آياتها الأولى. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) . (1) هل أتى: قيل إن الجملة في معنى قد أتى للتقرير. وقيل إنها في معنى ألم يأت كسؤال إنكاري وتقريري أيضا. والجملة تتحمل كلا من المعنيين ولا تتحمل غيرهما.

_ (1) انظر تفسير ابن كثير والبغوي والطبرسي والنسفي والقاسمي والزمخشري والخازن. (2) ترتيب المصحف الذي اعتمدناه وترتيب السيوطي وترتيب الخازن وترتيب الحسين وعكرمة.

[سورة الإنسان (76) : الآيات 4 إلى 6]

(2) أمشاج: وهي جمع مشج أو مشيج بمعنى أخلاط. وقيل القصد من ذلك تكوّن الإنسان من اختلاط ماءي الرجل والمرأة. وإن كلّ لونين اختلطا فهما أمشاج. وقيل إنها إشارة إلى ما يتقلّب فيه نشوء الإنسان من أطوار وهو جنين. (3) نبتليه: نختبره، ومن الممكن أن تحمل على التعليل فيكون معناها لكي نختبره. ومن الممكن أن تحمل على التقرير فيكون معناها سوف نختبره. الآيات تضمنت معنى التقرير والتذكير والعظة والتنبيه. فقد مرّ دهر طويل لم يكن الإنسان فيه موجودا ولا شيئا مذكورا. ثم خلقه الله من نطفة مختلطة متطورة. وجعله سميعا وبصيرا، ثم أودع فيه قابلية التمييز واختيار السبيل الذي يسير فيه ليختبره في سيره واختياره ليظهر إما أن يكون شاكرا لله في إيمانه وعمله الصالح أو جاحدا شريرا. وأسلوب الآيات تقريري ينطوي على عرض عام. وفيها توكيد لما قرره القرآن في مواضع كثيرة من قابلية الإنسان للتمييز واختيار الطريق الذي يسير فيه ومسؤوليته عن هذا الاختيار. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيتين الأخيرتين حديثا عن جابر بن عبد الله قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلّ مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه إما شاكرا وإما كفورا» . وحديثا رواه الإمام مسلم عن أبي مالك الأشعري قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلّ الناس يغدو فبائع نفسه فموبقها أو معتقها» . حيث ينطوي في الحديثين توضيح نبوي داعم للتوكيد الذي ينطوي في الآيات وغيرها من قابلية الإنسان للتمييز والاختيار ومسؤوليته عن ذلك. [سورة الإنسان (76) : الآيات 4 الى 6] إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) . (1) مزاجها: المادة التي يمزج بها الشراب.

[سورة الإنسان (76) : الآيات 7 إلى 10]

هذه الآيات تتضمن النتائج التي تترتب على اختيار الناس لطريقهم بأسلوب إنذاري للجاحدين وتطمين تبشيري للصالحين. فقد أعدّ الله للأولين السلاسل والقيود والنار. أما الآخرون فلهم النعيم والتكريم في الجنات والأشربة اللذيذة التي يكون مزيجها الكافور. والمتبادر أن مزج الشراب بالكافور مما كان مألوفا عند المترفين ومرغوبا فيه، فذكر ذلك جريا على مألوف النظم القرآني في ذكر أوصاف العذاب والنعيم الأخروي بما اعتاده السامعون، مع واجب الإيمان بحقيقة الخبر القرآني الغيبي. [سورة الإنسان (76) : الآيات 7 الى 10] يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) . (1) مستطيرا: منتشرا أو واسعا أو شاملا. (2) على حبّه: على شدّة الحاجة إليه والرغبة فيه. (3) أسيرا: هي في أصلها الذي يؤسر في الحرب من الأعداء وقد تكون هنا بمعنى المملوك لأن غالبية المملوكين هم من أسرى الحرب حيث جرت العادة على استرقاق الغالب الأسرى. (4) عبوسا: شديد الوطأة أو شديد التجهم والظلام. (5) قمطريرا: شديد الكرب أو مثيرا للفزع. والآيات متصلة بالسياق. وفيها وصف للأبرار الذين ذكرت الآية السابقة ما أعدّه الله لهم من نعيم وشراب لذيذ في الآخرة وحكاية لأقوالهم بسبيل التنويه، فهم يوفون بما ينذرونه على أنفسهم من أعمال بارّة. ويخشون عذاب يوم الآخرة وشرّه العظيمين. ويطعمون الطعام على شدّة حاجتهم إليه المساكين والأيتام والأرقاء ولسان حالهم يهتف بأنهم يطعمونهم دون انتظار شكر وجزاء منهم. وإنما ابتغاء

وجه الله وتقرّبا إليه ومخافة اليوم العبوس المخيف الذي يقفون فيه أمامه. وقد روى بعض المفسرين «1» أن هذه الآيات وما بعدها نزلت في علي بن أبي طالب وزوجته فاطمة (رضي الله عنهما) في قصة طويلة حيث جاءهم في ثلاثة أيام متوالية مسكين ويتيم وأسير فكانا يحرمان أنفسهما مما أعداه لغذائهما من طعام الشعير الذي اقترضا ثمنه وكانا في أشد الحاجة إليه، فيعطيانه لهم ويبيتان على الطوى. وهناك من روى أنها نزلت في رجل من الأنصار اسمه أبو الدحداح لأنه فعل ما روته الرواية السابقة «2» وهناك من روى أنها نزلت في ابن عمر حيث كان مريضا واشتهى العنب فاشتروه له فجاء سائل فأمر بإعطائه له أول مرة وثاني مرة «3» . والروايات تقتضي أن تكون الآيات مدنية مع أن الطابع المكي قوي البروز عليها كما قلنا قبل. والرواية الأولى مما نالت حفاوة المفسرين الشيعيين كثيرا «4» الذين ولعوا في صرف كثير من الآيات إلى علي (رضي الله عنه) وذريته بقطع النظر عن المناسبة والسياق. حتى لقد يخطر بالبال أن تكون رواية مدنية السورة أو الآيات من ذلك الباب. وقد نبهنا على أمثلة عديدة منه أيضا في مناسبات سابقة. ومع احترامنا لعلي وزوجته ثم لسائر أصحاب رسول الله السابقين (رضوان الله عليهم) جميعا وما كانوا عليه من ورع وزهد وتقوى ورأفة بالمحتاجين، واعتقادنا بأن حبّ الخير وو البرّ فيهم قد يحملهم على التصدّق بطعامهم للمساكين والأيتام والأسرى والأرقاء على شدة حاجتهم إليه فإن أسلوب الآيات ومضمونها وروحها وطابعها المكي القوي كل ذلك يلهم أنها بسبيل وصف الأبرار الذين ذكروا في الآية السابقة مباشرة بصورة عامة. وفيها مع ذلك صورة رائعة واقعية لما كان

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبرسي والخازن والبغوي. (2) انظر الخازن والبغوي. (3) انظر تفسير ابن كثير. [.....] (4) انظر الطبرسي.

تعليق على موضوع النذر

يصدر من المؤمنين الأولين رضوان الله عليهم من إيثار للمساكين والمعوزين على أنفسهم ومن برّهم بهم على شدّة حاجتهم تقربا إلى الله تعالى. وقد احتوت آيات عديدة في سور مكية مثل هذه الصورة الرائعة مما نبهنا عليه في مناسباته مثل سور الواقعة والذاريات والمؤمنون والليل وغيرها وغيرها. ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن فيما حكي عن الأبرار بهذا الأسلوب المحبب تلقينا مستمرا قويا بما يجب أن يتصف به المسلم من الرفق بالبؤساء والمحتاجين والأرقاء ومساعدتهم في كل ظرف ومن مراقبة الله وابتغاء مرضاته وعدم انتظار الشكر والجزاء من أحد على ما يفعله من خير وبرّ ومعروف، ثم بتحميل نفسه أقصى ما يمكن من الجهد في سبيل ذلك. وبمناسبة التنويه بالذين يطعمون الطعام على حبّه المساكين واليتامى والأسرى نقول إن هذا الأمر قد تكرر في القرآن والحديث بحيث يقال إنه من المكارم الأخلاقية التي تبنتها الرسالة الإسلامية ودعت إليها في كل ظرف وموقف. ولقد علقنا على ما أولاه القرآن والحديث من عناية باليتيم والمسكين والأسير أي المملوك في مناسبات سابقة فنكتفي بهذا التنبيه. تعليق على موضوع النذر وبمناسبة جملة يُوفُونَ بِالنَّذْرِ نقول إن النذر هو ما يوجبه المرء على نفسه من عمل فيه برّ وخير وقربى إلى الله أو يظنه كذلك. وهذا مما كان جاريا عند العرب وغيرهم قبل الإسلام. ومن ذلك ما حكته الآية [26] من سورة مريم فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) والآية [35] من سورة آل عمران إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وهناك روايات عديدة تدلّ على أن هذه العادة كانت شائعة عند العرب قبل الإسلام، كما قلنا، منها رواية المرأة التي نذرت ذبح ابنها عند الكعبة التي أوردناها في سياق تفسير الآيات [135- 140] من سورة

الأنعام. وقد روى الخمسة حديثا عن عمر بن الخطاب قال: «يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال له النبيّ أوف بنذرك فاعتكف ليلة» «1» . وروى أبو داود والترمذي أن امرأة قالت: «يا رسول الله إني نذرت أن أنحر بمكان كذا وكذا قال لصنم قالت لا قال لوثن قالت لا قال أوفي بنذرك» «2» وروى أبو داود والترمذي «أنّ امرأة أتت النبيّ فقالت يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدفّ قال أو في بنذرك» «3» . وجملة يُوفُونَ بِالنَّذْرِ جاءت في مقام التنويه بالذين يفعلون ذلك. وبالتالي ينطوي فيها إقرار لفكرة النذر. وهذا منطوق في آية سورة البقرة هذه: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270) وهو منطو في الأحاديث التي أوردناها كذلك. وهناك أحاديث أخرى فيها تنويه وتنديد وتنظيم وتعليم وتشريع في صدد النذر. منها حديث رواه الخمسة إلّا مسلما عن عائشة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» «4» . وحديث رواه البخاري والنسائي عن عمران بن الحصين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «خيركم قرني ثم الذين يلونهم. قال عمران لا أدري ذكر اثنين أو ثلاثة بعد قرنه. ثم يجيء قوم ينذرون ولا يفون. ويخونون ولا يؤتمنون. ويشهدون ولا يستشهدون ويظهر فيهم السمن» «5» . وحديث رواه أبو داود والبيهقي والحاكم وصححه جاء فيه: «جاء رجل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوم الفتح فقال يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلّي في بيت المقدس ركعتين. قال صلّ هنا. ثم أعاد عليه فقال صلّ هاهنا. ثم أعاد عليه فقال شأنك إذا وزاد في رواية والذي بعث محمدا بالحقّ لو صليت هاهنا

_ (1) التاج ج 2 ص 96. (2) التاج ج 3 ص 74. (3) انظر المصدر نفسه. (4) انظر المصدر نفسه ص 73- 75. (5) انظر المصدر نفسه.

لأجزأ عنك صلاة في بيت المقدس» «1» ، وحديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال: «استفتى سعد بن عبادة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نذر كان على أمّه فتوفيت قبل قضائه فقال رسول الله فاقضه عنها» «2» . وحديث رواه البخاري والنسائي عن ابن عباس قال: «جاء رجل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال إن أختي نذرت أن تحجّ وقد ماتت فقال النبيّ لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم، قال: فاقض فإنّ الله أحقّ بالقضاء» «3» . وحديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال: «بينما النبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب إذ هو برجل قائم في الشمس فسأل عنه فقالوا أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظلّ ولا يتكلّم ويصوم فقال مروه فليتكلم وليستظلّ وليقعد وليتمّ صومه» «4» . وحديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال: «إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أدرك شيخا يمشي بين ابنيه يتوكأ عليهما فقال النبيّ ما شأن هذا قال ابناه يا رسول الله كان عليه نذر المشي إلى بيت الله فقال اركب أيها الشيخ فإن الله غنيّ عنك وعن نذرك» «5» . وحديث رواه الخمسة إلّا البخاري عن عقبة بن عامر قال: «نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله فاستفتيته فقال لتمش ولتركب» «6» . وحديث رواه الخمسة عن عمران بن الحصين عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «لا وفاء لنذر في معصية ولا فيما لا يملك العبد» «7» . وحديث رواه أبو داود والنسائي عن سعيد بن المسيب جاء فيه: «إن أخوين كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال إن عدت سألتني عن القسمة فكلّ مالي في رتاج الكعبة فقال له عمر إن الكعبة غنية عن مالك كفّر عن يمينك وكلّم أخاك. سمعت رسول الله يقول لا يمين عليك ولا

_ (1) التاج ج 3 ص 73- 75. (2) انظر المصدر نفسه. (3) انظر المصدر نفسه. (4) انظر المصدر نفسه ص 75- 76. (5) انظر المصدر نفسه. (6) انظر المصدر نفسه. (7) انظر المصدر نفسه.

نذر في معصية الربّ ولا في قطيعة الرحم ولا فيما لا تملك» «1» . وحديث رواه أبو داود والترمذي «قال رسول الله من نذر نذرا لم يسمّه فكفارته كفارة يمين. ومن نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين. ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين. ومن نذر نذرا أطاقه فليف به» «2» . وحديث رواه النسائي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «النذر نذران فما كان من نذر في طاعة الله فذلك لله وفيه الوفاء. وما كان من نذر في معصية الله فذلك للشيطان فلا وفاء فيه ويكفره ما يكفر اليمين» «3» وحديث رواه الشيخان وأبو داود والنسائي عن كعب بن مالك قال: «إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك» «4» . وحديث رواه أبو داود وأحمد أن كعبا أو أبا لبابة قال: «إنّ من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي كلّه صدقة قال النبيّ يجزي عنك الثلث» «5» . وهناك حديثان رواهما الخمسة واحد عن ابن عمر قال: «نهى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن النذر وقال إنه لا يردّ شيئا ولكنه يستخرج به من البخيل» «6» وثان عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن النذر لا يقرب من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدّره له ولكن النذر يوافق القدر فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج» «7» . والمتبادر أن الحديثين بسبيل تعليم المسلمين بأن لا يجعلوا النذر لأجل مطلب يريدون أن يقضى سواء أكان فيه جلب نفع أو دفع ضرّ. وينطوي في هذا

_ (1) التاج ج 3 ص 75- 76. [.....] (2) انظر المصدر نفسه ص 76- 77. (3) انظر المصدر نفسه. (4) انظر المصدر نفسه. وكعب بن مالك أحد الثلاثة الذين تخلّفوا عن رسول الله وذكرتهم آية التوبة [118] . (5) انظر المصدر نفسه. وأبو لبابه هو الذي أرسل خبرا إلى مكة بعزم النبي صلّى الله عليه وسلّم على غزو مكة وأشارت إليه آيات سورة الممتحنة [1- 5] . (6) المصدر نفسه ص 79. (7) المصدر نفسه ص 73.

[سورة الإنسان (76) : الآيات 11 إلى 22]

كما هو المتبادر قصد تعليمهم أن تكون نذورهم لله بدون شرط وذريعة. ومع ذلك فإن فحوى الحديثين لا يفيد النهي عن هذا النوع من النذور بل ويفيد إقراره بسبيل استخراج مال ينفق في سبيل الله والخير من البخيل ... وهناك أحاديث أخرى رواها أئمة آخرون ولم ترد في الكتب الخمسة فيها شيء مما ورد في الأحاديث التي أوردناها «1» فاكتفينا بما أوردناه. [سورة الإنسان (76) : الآيات 11 الى 22] فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22) . (1) ذلّلت قطوفها: جعلت قريبة التناول إليهم. (2) قوارير: أصل معناها الزجاج. وهي هنا تشبيه لصفاء الفضة ورقتها. (3) قدروها تقديرا: جاءت حسب ما قدروه مما يفي رغباتهم أو ريّهم حين يشربون منها. (4) سلسبيلا: معناها اللغوي غاية السلاسة والسهولة في الجريان. (5) مخلدون: دائمون على أحسن الصفات من دون تغيير. في الآيات تقرير لما يقابل الله تعالى به الأبرار الذين حكت الآيات السابقة أعمالهم وأقوالهم فقد نجاهم الله من شرّ ذلك اليوم وجعلهم نضرين مسرورين. وأنزلهم الجنة وكساهم الحرير ولسوف يكونون فيها متكئين على السرر في طقس

_ (1) انظر مجمع الزوائد ج 4 ص 185- 192.

معتدل لا برد ولا حرّ. وقد ظللتهم الأشجار ودنت منهم قطوفها. ولسوف يطاف عليهم بأوان وأكواب من فضة غاية في الرقة والصفاء كأنها الزجاج. ولسوف يسقون فيها شرابا مزيجا بالكافور من عين غاية في السلاسة والروقان سميت من أجل ذلك بالسلسبيل. ولسوف يقوم بخدمتهم غلمان كاللؤلؤ جمالا لا يعتريهم تبدّل. ولسوف يلبسون ثيابا من حرير أخضر ويحلّون من الأساور الفضية، وفي الجملة حينما ينظر إليهم الناظر يندهش لما يراهم فيه من الملك الكبير والنعيم العظيم. ولسوف يقال لهم إن كل هذا كان لكم جزاء لأعمالكم وسعيكم المشكور. والوصف أخّاذ رائع من شأنه أن يشيع في النفوس كل مشاعر السرور والانجذاب والطمأنينة والرضى والرغبة، وهو ما استهدفته الآيات فيما استهدفته سواء في السابقين الأولين من المؤمنين أم فيمن يسير على هداهم. وفيها حثّ وترغيب على ذلك بطبيعة الحال. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية [20] حديثا رواه ابن عمر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة ينظر إلى أقصاه كما ينظر إلى أدناه» . حيث ينطوي في الحديث توضيح لجانب من الجوانب التي نوّه الله بها في الآيات من الملك العظيم الذي سوف ينعم به المؤمنون الذين يفعلون تلك الأفعال متساوق في تلقينه وتبشيره مع التلقين والتبشير القرآنيين. وهناك أحاديث عديدة أخرى مرّت أمثلة كثيرة منها في وصف الجنة وصفا أخّاذا متساوقا مع ما احتواه القرآن من وصف أخّاذ ومنطويا على ما انطوى في الوصف القرآني في جملة ما انطوى فيه من تلقين وتبشير. هذا، والمتبادر أن الأوصاف والمواد التي ذكرت في الآيات هي مما يعرفه السامعون كالقوارير والزجاج والفضة والأواني الفضيّة والأكواب والكؤوس الزجاجية والبلورية والزنجبيل ومزجه بالشراب وثياب الحرير الأخضر المعروف بالسندس والإستبرق. وقد يكون في ذلك دلالة على أن بعض فئات من أهل مكة وأغنيائها كانوا يجلبون هذه المواد من البلاد التي تصنعها ويستعملونها.

[سورة الإنسان (76) : الآيات 23 إلى 26]

[سورة الإنسان (76) : الآيات 23 الى 26] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) . هذه الآيات جاءت معقبة على سابقاتها مستهدفة تثبيت النبي صلّى الله عليه وسلّم في موقفه وتهوين أمر الكفار عليه: 1- فالله عزّ وجلّ هو الذي نزّل عليه القرآن. 2- وعليه أن يثبت وينتظر حكم الله ويستمر على ذكره في جميع أوقاته وعلى إقامة الصلاة له وتسبيحه وبخاصة في هدأة الليل. 3- وأن لا يعبأ بالكفار الآثمين أو يجنح إلى ملاينتهم والاستماع إلى إغراءاتهم. وهذا الأسلوب مما تكرر في القرآن المكي منذ السور المبكرة. وتكراره يدلّ على تكرار البواعث والمواقف. وهذا متسق مع طبيعة مهمة النبي صلّى الله عليه وسلّم أولا وفيه دلالة على أن الكفار كانوا في ظروف ومواقف عديدة يحاولون حمل النبي على الملاينة ثانيا. وفي هذه الآيات قرينة بل دليل على مكية السورة لأنها تحتوي حكاية أحداث وصور مكية تكررت في السور المكية بنوع خاص. وفي الآية الأخيرة بخاصة قرينة أو دليل آخر. فالله تعالى قد فرض على النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يتفرغ في الليل لعبادته وذكره وقراءة القرآن في آيات سورة المزمل الأولى. وفي الآية مشابهة قوية لذلك. هذا في حين أن الله قد خفف من ذلك عليه وعلى المسلمين الذين حذوا حذوه في مكة بعد الهجرة إلى المدينة بسبب ما صار لهم من أعمال ومشاغل وأعذار على ما ذكرته الآية الأخيرة من سورة المزمل التي هي مدنية ألحقت بالسورة للمناسبة على ما شرحناه في سياق سورة المزمل. ولقد روى البغوي عن قتادة أن المراد بالآثم والكفور أبو جهل حيث نهى النبي عن الصلاة وقال لئن رأيت محمدا يصلّي لأطأن عنقه. وعن مقاتل أن المراد

[سورة الإنسان (76) : الآيات 27 إلى 28]

بهما عتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة قالا للنبي إن كنت صنعت ما صنعت لأجل النساء والمال فارجع عن هذا الأمر، وقال عتبة أنا أزوجك ابنتي وأسوقها إليك بغير مهر وقال الوليد أنا أعطيك من المال حتى ترضى فارجع عن هذا الأمر فأنزل الله الآية. والروايات محتملة الصحة. لأن الآيات فصل جديد، غير أننا لا نزال نرجّح أنها جاءت معقبة بسبيل تثبيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وتهوين مواقف الكفار عليه جملة. ولا ننفي بهذا ما جاء في الروايات عن أبي جهل وعروض الوليد وعتبة. وقد روي ما روي عنهم في سياق آيات أخرى مما مرّ شرحه في مناسبات سابقة. [سورة الإنسان (76) : الآيات 27 الى 28] إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) . (1) أسرهم: قوّتهم أو خلقهم. الآيات تعقيب على سابقاتها: فالكفار والآثمون الذين هم موضوع الحديث يحبون الدنيا وأعراضها ويستغرقون فيها ويهملون التفكير في اليوم الآخر الآتي الهائل الشديد. ولن يعجزوا الله: فهو الذي خلقهم ومكّنهم وهو قادر على محوهم وتبديلهم بغيرهم إذا شاء. وقد انطوى في الآيات تنديد بالكفار والآثمين وإنذار قوي لهم توكيدا للأمر بعدم الإصغاء لإغراءاتهم ولتثبيت النبي. وقد استهدفت فيما استهدفته تخويف الكفار وحملهم على الارعواء فيما هو المتبادر أيضا. [سورة الإنسان (76) : الآيات 29 الى 31] إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31) .

وهذه الآيات تعقيب على سابقاتها أيضا: فدعوة النبي ورسالته هما تذكير للناس وإيقاظ وليستا بقصد الإجبار والإبرام. فمن شاء تذكر واتعظ فسلك سبيل الله واستحقّ رضاءه، ومن أعرض وانحرف وأجرم وظلم كان له العذاب الأليم. والمشيئة بعد لله تعالى العليم بأحوال الناس ونيّاتهم وطبائعهم، الحكيم فيما أمر ويسّر، الذي يعرف المستحق لرحمته فيشمله بها. ويعرف الظالمين فيكون لهم العذاب الأليم عنده. وهذا الأسلوب قد تكرر في مواضع عديدة من السور المكيّة وفي المبكرة منها بنوع خاص. وقد استهدفت الآيات إنذار الكفار من جهة والتنويه بالمؤمنين من جهة وتطمين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والتسرية عنه من جهة بتقرير كون دعوته تذكرة وإيقاظا فمن شاء اتعظ وتذكّر وأناب إلى الله وليس هو مسؤولا عن الكافرين فلا موجب لحزنه إذا لم يستجيبوا وليكل أمرهم إلى الله العليم بهم القادر عليهم. وليس في جملة وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ما ينفي قابلية الاختيار والمشيئة التي أودعها الله في الناس لأن ذلك مما أكّدته التقريرات القرآنية العديدة الحاسمة حتى صار من المبادئ المحكمة. وهذه القابلية والمشيئة مما شاء الله أن تكون للإنسان، فاختيار الناس الهدى أو الضلال هو من ذلك فلا يكون هناك تناقض فيما هو المتبادر لنا إن شاء الله. والآية وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً أيضا مما يدعم ما نقول حيث ينطوي فيها أن الله سبحانه وتعالى يعلم المستحق في رحمته وأنه يعامل الناس بمقتضى حكمته. وفي سورة الأعراف هذه الآية وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) وفي هذه الآية إيضاح صريح في صدد من يدخلهم الله في رحمته ويكون فيها ضابط محكم في هذه المسألة. وفي سورة التكوير آية مماثلة لآية وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وقد علقنا عليها بما فيه الكفاية ويزيل ما قد يرد على البال من استشكال والله أعلم.

سورة الزلزلة

سورة الزلزلة في السورة إنذار بيوم القيامة وهوله وحسابه. وحثّ على الخير وتحذير من الشرّ بصورة عامة. ومن المفسّرين من روى مكيتها وحسب «1» ومنهم من قال إنها من المختلف على مكيته ومدنيته بسبب تعدّد الروايات «2» والطابع المكي قويّ البروز عليها بحيث يسوغ ترجيح مكيّتها إن لم نقل الجزم بذلك، بل ويلهم أنها من السور المبكرة في النزول. وتكاد تكون هي وسورة القارعة المتفق على مكيتها ونزولها مبكرة صورتين متماثلتين. ولقد جاء في حديث رواه الترمذي عن أنس أن قراءة هذه السورة تعدل نصف القرآن وفي حديث آخر عنه أنها تعدل بربع القرآن «3» . وقد يكون التباين من الرواة. وعلى كل حال فقد يكون قصد التذكر بأهوال يوم القيامة والحثّ على الخير واجتناب الشرّ من الحكمة المتوخاة في الحديث والله تعالى أعلم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) .

_ (1) انظر تفسير البغوي وابن كثير. (2) انظر تفسير الخازن والنسفي والطبرسي والزمخشري والقاسمي. (3) التاج ج 4 ص 21.

طائفة من الروايات والأحاديث في سياق آيات هذه السورة

(1) يصدر: يأتي. في الآيات إشارة إلى يوم القيامة وهوله وحسابه: فالأرض ترتجف وتتشقق وتقذف ما في بطنها كأنها تتزلزل. والناس يتساءلون عما كان ويكون. ولا يلبثون أن يعرفوا أن الله قد حقق بذلك وعده بيوم القيامة والحساب. وحينئذ يهرعون جماعات جماعات ليروا نتائج أعمالهم ويوفوا عليها أجورهم كلّ بما قدّم من خير أو شرّ. فالذين يعملون خيرا مهما قلّ سيلقون خيرا ولا يضيع عليهم منه شيء. والذين يعملون شرا مهما قلّ سيلقون شرا. والسورة مع احتوائها حقيقة يوم القيامة والحساب الإيمانية هي سورة وعظ وترغيب وترهيب مطلقة التوجيه للناس عموما، واستهدفت كما هو المتبادر إثارة الخوف من ذلك اليوم وحمل الناس على الإقبال على العمل الصالح والابتعاد عن الأعمال السيئة وعدم الاستهانة بالشرّ مهما قلّ وعدم إهمال الخير مهما ضؤل. وهي من هذه الناحية تنطوي على تلقين مستمر المدى. طائفة من الروايات والأحاديث في سياق آيات هذه السورة ولقد روى البغوي في سياق وتأويل جملة وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها حديثا عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تقيء الأرض أفلاذ أكبادها أمثال الأسطوانة من الذهب والفضة فيجيء القاتل فيقول في هذا قتلت. ويجيء القاطع فيقول في هذا قطعت رحمي. ويجيء السارق فيقول في هذا قطعت يدي ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا» . والحديث إن صحّ فإن روايته لم تذكر أنه بسبيل تفسير الجملة. كما أن أثقال الأرض التي في بطنها ليست فقط القاتل والقاطع والسارق. ولذلك نظل نرجّح التأويل الذي أوّلنا به الجملة.

ولقد روى المفسر نفسه بطرقه حديثا عن أبي هريرة قال: «قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الآية يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها قال أتدرون ما أخبارها قالوا الله ورسوله أعلم قال فإن أخبارها أن تشهد على كلّ عبد وأمة بما عمل على ظهرها أن تقول عمل عليّ كذا وكذا يوم كذا وكذا فهذه أخبارها» . وهذا الحديث مما ورد في جامع الترمذي أيضا «1» حيث ينطوي فيه تفسير نبوي فيه إنذار وتنبيه متساوقان مع ما احتوته السورة من ذلك. ولقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة حديثا في سياق آيتي وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ جاء فيه: «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الحمر- وقد أوضح الشارح أن السؤال عن ما إذا كان يجب على ما يقتنيه المسلم من الحمر زكاة- فقال لم ينزل عليّ فيها شيء إلّا هذه الآية الجامعة الفاذة وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ «2» . حيث ينطوي في الحديث حثّ على عمل الخير ومن ذلك الصدقات مهما قلّت وبأي اسم كان ونهى عن الشرّ مهما تفه فيتساوق التلقين النبوي كذلك مع التلقين القرآني. ولقد روى البغوي بطرقه عن مقاتل قوله إن الآيتين المذكورتين نزلتا في رجلين وذلك أنه لما نزلت وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ كان أحدهما يأتيه السائل فيستقل أن يعطيه الثمرة والكسرة والجوزة ونحوها ويقول ما هذا بشيء إنما نؤجر على ما نعطى ونحن نحبّه وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير كالكذبة والغيبة والنظرة وأشباه ذلك ويقول إنما وعد الله النار على الكبائر وليس في هذا إثم فأنزل الله الآيتين يرغّبهم في القليل من الخير أن يعطوه فإنه يوشك أن يكثر. ويحذرهم اليسير من الذنب فإنه يوشك أن يكثر. والآيتان منسجمتان مع آيات السورة وهما بسبيل تبشير وإنذار عامين ومبدأين

_ (1) التاج ج 4 ص 264. (2) انظر المصدر نفسه.

قرآنيين شاملين محكمين. والمتبادر من صيغة الرواية أنها بسبيل شرح ما ينطوي فيهما من بعض حكمة التنزيل. ولقد روى الطبري بطرقه في سياق الآيتين حديثا عن أبي إدريس قال: «إنّ أبا بكر كان يأكل مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأنزلت هذه الآية فرفع يده من الطعام وقال إني لراء ما عملت من خير وشرّ فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إن ما ترى مما تكره فهو بمثاقيل ذرّ الشر ويدخر الله لك مثاقيل ذرّ الخير حتى تعطاه يوم القيامة» . وحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «أنزلت إِذا زُلْزِلَتِ وأبو بكر قاعد فبكى فقال له رسول الله: ما يبكيك؟ قال: يبكيني هذه السورة، فقال له: لولا أنكم تخطئون وتذنبون فيغفر الله لكم لخلق الله أمة يخطئون ويذنبون فيغفر لهم» . فإذا صحّت الأحاديث فتكون الحكمة النبويّة قد توخّت تطمين المخلصين من المؤمنين في صدد ما قد يصدر منهم من هفوات والله أعلم. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيتين حديثا رواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال: «لما أنزلت وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ قلت يا رسول الله إني لراء عملي؟ قال: نعم، قلت: تلك الكبار الكبار؟ قال: نعم، قلت: الصغار الصغار؟ قال: نعم، قلت: وأثكل أمي؟ قال: أبشر يا أبا سعيد فإنّ الحسنة بعشر أمثالها ثم إلى سبعمائة ضعف ويضاعف الله لمن يشاء والسيئة بمثلها أو يغفر الله ولن ينجو أحد منكم بعمله إلّا أن يتغمدني الله منه برحمة» . فإن صحّ الحديث فتكون الحكمة النبوية قد توخت فيه التحذير من الكبائر والصغائر معا والتحذير كذلك من اعتداد الإنسان بأعماله ومنه على الله بها مع تأميل المؤمنين المخلصين في نفس الوقت بعفو الله ورحمته. ولقد روى الطبري بطرقه في سياق الآيتين كذلك حديثا عن عائشة قالت: «قلت يا رسول الله إن عبد الله بن جدعان كان يصل الرحم ويفعل ويفعل هل ذاك نافعه؟ قال: لا إنه لم يقل يوما ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين» . وحديث عن سلمة بن يزيد الجعفي قال: «ذهبت أنا وأخي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول

الله إن أمّنا كانت في الجاهلية تقري الضيف وتصل الرحم هل ينفعها عملها ذلك شيئا؟ قال: لا» . وحديث جاء فيه: «إن سلمان بن عامر جاء رسول الله فقال: إن أبي كان يصل الرحم ويفي بالذمة ويكرم الضيف، قال: مات قبل الإسلام؟ قال: نعم، قال: لن ينفعه ذلك. فولّى، فقال رسول الله عليّ بالشيخ، فجاء فقال له: إنها لن تنفعه ولكنها تكون في عقبه فلن تخزوا أبدا ولن تذلوا أبدا ولن تفتقروا أبدا» . وحديث عن أنس جاء فيه: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيعطيه بها في الدنيا فإذا كان يوم القيامة لم تكن له حسنة» . وهذه الأحاديث لم ترد بصيغها في كتب الأحاديث الصحيحة. وهذا لا يمنع صحّتها. وفحواها متّسق مع التقريرات والتلقينات التي انطوت في آيات عديدة والتي تنبّه على أن الإيمان بالله ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر شرط لا بد منه لنفع الأعمال الصالحة في الآخرة.

سورة البقرة

سورة البقرة مقدمة للسورة في هذه السورة مواضيع عديدة وفصول ومواقف ومشاهد متنوعة، منها الحجاجية ومنها التنديدية ومنها التشريعية ومنها التعليمية ومنها التذكيرية ومنها الإيمانية ومنها الكونية. وفيها قصة خلق آدم وسجود الملائكة وكفر إبليس. وسلسلة طويلة في بني إسرائيل ومواقفهم من الدعوة المحمدية وأخلاقهم وربط ذلك بتاريخهم القديم. وبعض صور من تاريخهم بعد موسى وإشارة إلى المنافقين وتآمر اليهود معهم ضد الدعوة. وفيها تشريعات في القبلة والوصية والصيام والقتال في سبيل الله والحج والحيض والأنكحة والطلاق وعدة الزوجة المتوفى عنها زوجها والربا وتسجيل الأعمال التجارية والديون والحث على الإنفاق في سبيل الله. وقد تخللتها عظات وتلقينات وتعليمات إيمانية وأخلاقية واجتماعية، وانطوى فيها صور عديدة من العهد المدني وظروف المسلمين فيه. وهي أطول سور القرآن عدد آيات وسعة حيز، وطابع العهد المدني بارز على فصولها وأسلوبها، وبعض فصولها منسجمة مع بعض بحيث يصح أن يقال إنها نزلت معا أو متتابعة. وبعض فصولها غير منسجمة ظرفا ولكنها منسجمة موضوعا مع بعض بحيث يصح أن يقال إنها نزلت في ظروف متباعدة. ولا يستبعد أن يكون بعضها نزل متأخرا وبعد نزول سور أو مجموعات قرآنية من سور أخرى ثم وضع بعضها وراء بعض بسبب التساوق الموضوعي. ولا يستبعد أن يكون بعضها أخر في الترتيب مع تبكيره في النزول وبعضها قدم في الترتيب مع تأخره في النزول حتى إن منه ما نزل قبيل وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم مما تلهمه المضامين وتسوغه المقارنات. وكل هذا

يسوغ القول إن فصول هذه السورة نزلت في فترات متفاوتة وإنها ألفت على الوجه الذي رتبت آياتها أو فصولها عليه تأليفا بعد أن نزلت جميع فصولها بل وربما بعد أن نزل كثير من السور والفصول المدنية الأخرى. ولقد أثر حديث عن زيد بن ثابت (رضي الله عنه) أخرجه الحاكم ووصف بأنه بسند صحيح على شرط الشيخين- وزيد هو الذي تولّى عمل تدوين المصحف بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم والذي كان من كتّاب وحي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- جاء فيه «كنا نؤلف القرآن من الرقاع» وقد علق البيهقي على ذلك بقوله: يشبه أن يكون المراد به تأليف ما نزل من الآيات المفرقة في سورها وجمعها فيها بإشارة النبي صلّى الله عليه وسلّم «1» . مما فيه توضيح لما قلناه في صدد تأليف فصول هذه السورة بعد أن تكامل نزولها في ظروف متباعدة. وهذا يصدق على كل السور المدنية الطويلة على ما سوف ننبه عليه في مناسباتها، حيث يبدو أن ظروف العهد المدني كانت تقتضي أن تدون فصول القرآن النازلة فيه متفرقة لأنها مواضيع متنوعة نزلت في مناسبات مختلفة ثم تؤلف السور منها. وطابع البدء والختام على مطلع سورة البقرة وخاتمتها بارز حتى ليسوغ القول إنهما وضعا ليكونا كالإطار للسورة. ولعل الفصل الأول من السورة كان أول فصول السورة نزولا في المدينة وأول فصول القرآن المدني نزولا، مما قد يلهمه مضمونه فاعتبرت السورة من أجل ذلك في ترتيب النزول كأولى السور المدنية نزولا مثل سورة العلق التي اعتبرت في ترتيب النزول كأولى سور القرآن المكي نزولا لأن آياتها الخمس الأولى دون بقيتها هي أول القرآن نزولا. ولقد أثر حديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش» «2» وحديث آخر جاء فيه: «إنّ ملكا نزل من السماء فقال للنبي صلّى الله عليه وسلّم:

_ (1) انظر الإتقان للسيوطي ج 1 ص 60. (2) انظر تفسير ابن كثير للآيات الأخيرة من سورة البقرة، وهذا الحديث ورد في التاج برواية مسلم عن ابن عباس أيضا. انظر التاج ج 4 ص 13 و 14. [.....]

تعليق على ترتيب السور في المصحف

أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبيّ قبلك، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة. لن تقرأ منهما حرفا إلّا أوتيته» «1» حيث يدل هذا دلالة قوية بل قاطعة على أن هذه السورة قد تمّ تأليفها على الوجه الذي ورد في المصحف في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو ما نعتقده بالنسبة لسائر السور الطويلة المدنية التي فيها فصول مختلفة المواضيع نزلت في ظروف مختلفة ومتباعدة. ولقد روى المفسرون بعض الأحاديث في فضل سورة البقرة منها حديث جاء فيه: «لكلّ شيء سنام وإنّ سنام القرآن سورة البقرة» «2» . وهذا الحديث إذ يذكر سورة البقرة يدل أيضا على أنها كانت مؤلفة تامة في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم. والمجمع عليه أن تفوقها على غيرها في عدد الآيات والحيز من أسباب وضعها في أول المصحف بعد سورة الفاتحة التي وصفت بأنها مفتتح القرآن وبراعته الاستهلالية على ما شرحناه في سياق تفسيرها. وليس من شأن هذا أن ينقض ما وضحناه من أن جعلها أولى سورة مدنية هو بسبب احتمال كون فصلها الأول هو أول فصول القرآن نزولا في المدينة، والله تعالى أعلم. تعليق على ترتيب السور في المصحف وننبه بهذه المناسبة على أن علماء القرآن قالوا إن ترتيب سور القرآن في المصحف قد جاء حسب أطوالها. حيث قدمت السور المسماة بالطوال ثم ما عرف بالمئين- أي التي عدد آياتها في حدود المائة تزيد قليلا أو تنقص قليلا- ثم ما عرف بالمثاني ثم ما عرف بالقصار ثم ما عرف بالمفصل أي القصار جدا «3» .

_ (1) انظر تفسير ابن كثير للآيات الأخيرة من سورة البقرة، وهذا الحديث ورد في التاج برواية مسلم عن ابن عباس أيضا. انظر التاج ج 4 ص 13 و 14. (2) انظر تفسير السورة في تفسير ابن كثير وغيره. (3) انظر أيضا الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ج 1 ص 60- 68. والمفصل هي السور القصيرة. وسمّيت كذلك لكثرة الفصل بينها. وهناك أقوال مختلفة في تعيين كل مجموعة من المجموعات الأربع، منها أن السبع الطوال هي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف وقد ذكر الراوي أنه نسي السابعة. وهناك ما يذكر الأنفال والتوبة معا كسابعة وهناك ما يذكر سورة يونس كسابعة. والمئين بعد يونس إلى الكهف وبعدها المثاني. والمفصل يبدأ في رواية بالحجرات وفي رواية بسورة (ق) وفي رواية بسورة الضحى.

ويروي المفسرون «1» حديثا عن ثوبان عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة وأعطاني المئين مكان الإنجيل، وأعطاني مكان الزبور المثاني وفضّلني ربي بالمفصّل» «2» وهذا الحديث لم يرد في الصحاح، وصيغته لا تبعث الطمأنينة بصدوره عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. والملاحظ أن القول: إن سور القرآن رتبت على النحو المذكور آنفا أي الطوال فالمئين فالمثاني فالمفصل ليس دقيقا كل الدقة إلا بالنسبة لسورة البقرة فقط. فثانية السور في عدد الآيات هي سورة الشعراء مثلا غير أنها وضعت في عداد المثاني وبعد عدد كبير من السور التي منها ما هو أقل منها حيزا أي أقصر طولا فضلا عن كونه أقل في عدد الآيات مثل سورة الرعد وإبراهيم والحجر والفرقان والنور والمؤمنون والأنبياء والحج. وسورة الرعد وإبراهيم والحجر قد قدمت في الترتيب مع أن بعدها سورا كثيرة أكثر منها عدد آيات وأطول حيزا. ومثل هذا يلاحظ في سور عديدة أخرى في الطوال والمئين والمثاني والقصار والمفصل. ولما كنا نعتقد أن ترتيب السور في المصحف قد تم في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم وبإرشاده وهو بمصطلح علماء القرآن توقيفي «3» فنحن نعتقد أنه لا بد من أن يكون لهذا الترتيب حكمة وإن كانت قد خفيت علينا وعلى غيرنا. هذا، والذي نرجحه أن تأليف السور على الصورة التي شرحناها إنما هو بالنسبة للسور المدنية فقط وبخاصة للطوال والمئين والمثاني منها دون السور المكية. ففي السور المكية وحدة مواضيع وتشابه قوي في الفصول. وهي قاصرة على الدعوة ومبادئها وتدعيماتها المتنوعة والحجاج حول ذلك، مما لا يقتضي أن ينزل فصل من سورة ثم يعقبه فصل من سورة أخرى قبل أن تتم فصول السورة التي

_ (1) انظر تفسير الآية [87] من سورة الحجر في تفسير البغوي. (2) انظر تفسير الآية [87] من سورة الحجر في تفسير البغوي. (3) انظر المصدر السابق.

قبلها. وهذا بالنسبة للسور الطويلة منها حتى التي فيها فصول تبدو غير مترابطة حيث إنها لا تخرج عما قلناه مما نبهنا عليه وأوردنا قرائنه في سياق تفسيرها. وهذا القول يكون أقوى بالنسبة للسّور الطويلة المسجعة منها التي تكون وحدة السبك والنظم فيها من دلائل هذه القوة. ويمكن أن يكون أقوى وأكثر بالنسبة للسور القصيرة والقصيرة جدا كما هو المتبادر باستثناء سورة العلق على التأكيد وسور القلم والمزمل والمدثر على الاحتمال، على ما شرحناه في سياق تفسيرها. يضاف إلى هذا أن السور المكية كانت قد تمت نزولا في آخر العهد المكي «1» . ولا يتعارض هذا مع ما هو محقق من إضافة بعض الآيات المدنية إلى بعض السور المكية إذ أن هذه الآيات قد أضيفت إلى مناسباتها على ما شرحناه في سياقها في سور المزمل والأعراف والشعراء، والله سبحانه وتعالى أعلم «2» . أما ما روي عن تدوين القرآن أو جمعه في زمن أبي بكر وعثمان (رضي الله عنهما) فليس ذلك جمعا وتدوينا وترتيبا جديدا. فالقرآن كان مدونا ومرتبا وكان لكثير من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مصاحف. غير أن القرآن كان مفتوح الصحف لاحتمال نزول الوحي بقرآن جديد. فلما مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يعد هناك احتمال لذلك رأى أبو بكر وعمر وكبار الصحابة أن يكون هناك مصحف إمام ليكون المرجع لما قد يكون من خلاف في المصاحف المتداولة فكتب هذا المصحف الذي بذلت الجهود العظيمة في كتابته وقورن وقوبل كل ما كان متداولا مخطوطا ومحفوظا من القرآن بسبيل ذلك «3» . غير أن هذا على ما يظهر لم يحل المشكلة، لأن المسلمين كثروا وتفرقوا في البلاد وكانوا يكتبون مصاحفهم بخطوطهم. وكان يقع تباين في الكتابة وصار الناس في زمن عثمان (رضي الله عنه) يقرؤون قراءات متباينة نتيجة لذلك فرأى بعض كبار أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلافيا لذلك أن يكتب المصحف من جديد بإملاء واحد

_ (1) انظر كتابنا القرآن المجيد ص 52- 112 ففي هذه الصفحات بحث مسهب واستعراض للروايات والأحاديث واستدلالات من القرآن على صحة ما قررناه إن شاء الله. (2) انظر كتابنا القرآن المجيد ص 52- 112 ففي هذه الصفحات بحث مسهب واستعراض للروايات والأحاديث واستدلالات من القرآن على صحة ما قررناه إن شاء الله. (3) انظر كتابنا القرآن المجيد ص 52- 112 ففي هذه الصفحات بحث مسهب واستعراض للروايات والأحاديث واستدلالات من القرآن على صحة ما قررناه إن شاء الله.

وخط واحد فتم ذلك ونسخ من هذا المصحف الجديد نسخ عديدة أرسلت إلى العواصم الإسلامية وأمر الناس بنسخ المصاحف عنها وإحراق ما هو متداول بين الأيدي من المصاحف المتباينة في الخطوط فكان هذا مما حفظ القرآن سليما على مدى القرون وتحققت به المعجزة القرآنية المنطوية في آية سورة الحجر هذه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [9] «1» . ولقد أوردنا ما يورد على ذلك وشرحنا الأمر شرحا يضعه في نصابه الحق إن شاء الله في سياق تفسير الآية المذكورة.

_ (1) اقرأ كتابنا القرآن المجيد ص 52 وما بعدها. ونستطرد إلى القول إنه لا يعرف على وجه اليقين أن في الدنيا اليوم مصحفا من المصاحف التي نسخت عن المصحف الذي كتب بأمر عثمان وأرسلت إلى الأمصار الإسلامية. ولقد جاء في الجزء الأول من الاستقصاء في تاريخ المغرب الأقصى خبر عن النسخة التي أرسلت إلى دمشق من هذه النسخ حيث روى المؤلف أن أبا القاسم التجيبي السبتي قال إنه رآها وعاينها في سنة 657 هجرية في مقصورة جامع بني أمية في دمشق المعروفة بقبة الشراب. ولقد نقل مؤلف الاستقصاء أيضا قولا للخطيب بن مرزوق في كتابه المسند الصحيح الحسن جاء فيه: إني اختبرت الذي في المدينة والذي نقل من الأندلس فألفيت خطهما واحدا وقد كتب على ظهر المدني: هذا ما أجمع عليه جماعة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منهم زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وغيرهم ممن أشرف على تدوين هذا المصحف وقد روى المؤلف أن عبد المؤمن نقل المصحف العثماني من قرطبة إلى مراكش سنة 552 هجرية وصنع له كسوة من السندس المزركش بالذهب والفضة والمرصعة بأنواع الحجارة الكريمة واتخذ للحمل كرسيا على شاكلته ثم اتخذ للجميع تابوتا يصان فيه (الجزء الأول من الاستقصاء ص 50) وليس من الممكن أن يجزم أن نسخة قرطبة كانت أصلية لأنها لم تكن من عواصم الإسلام التي أرسل إليها النسخ في زمن عثمان (رضي الله عنه) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 1 إلى 5]

(سورة البقرة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة البقرة (2) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) . بدأت السورة بحروف الألف واللام والميم وهي هنا للاسترعاء والتنبيه أيضا على ما رجحناه في أمثالها. وقد أعقبت الحروف إشارة تنبيه وتنويه إلى القرآن جريا على الأسلوب القرآني في معظم السور المبدوءة بالحروف المتقطعة. وتعتبر ذلِكَ الْكِتابُ وإن كان قد يفيد من الوجهة الموضوعية ما نزل من القرآن إلى حين نزول الآية، غير أنه يجب أن يعتبر تعبيرا شاملا لجميع القرآن ما نزل منه وما سوف ينزل بعده كما هو المتبادر. وبعضهم يقف عند استعمال ذلِكَ ويقول: إن هذا للبعيد ولا يفيد أن القصد هو القرآن، وهذا تمحل لا مبرر له، فصيغة الآيات ومحتواها فيها الدلالة على أن المقصود هو القرآن الكتاب الذي يتلى على الناس. وقد تضمنت بقية الآيات: تقرير كون القرآن هدى للذين يتقون الله ويرغبون في رضائه، والذين يؤمنون بما يسمعون فيه من الحقائق المغيبة عنهم ولو لم تدركها حواسهم أو يقم دليل مادي عليها لأنهم يؤمنون بأن القرآن من عند الله وهو الذي يخبر بها، والذين يقيمون الصلاة لله وينفقون مما رزقهم في وجوه البر،

والذين يؤمنون بما أنزل الله على النبي صلّى الله عليه وسلّم وبما أنزل كذلك على الأنبياء من قبله، والذين يوقنون بالحياة الآخرة وحسابها وجزائها. فهم السائرون في سبيل الله القويم وعلى هداه، وأنهم لهم الناجون الفائزون. والآيات احتوت بيان الصفات التي يجب أن تتحقق في المؤمن الصالح وبشرى وتنويها لمن يتصف بها. وقد انطوت- كما هو المتبادر- على التنويه بالذين كانوا يؤمنون بالله ورسوله حين نزوله. وانطوت إلى هذا على تقرير كون كتاب الله إنما هو هدى لذوي النيات الحسنة الذين يراقبون الله ويتّقونه ويرغبون في رضائه. وما تقرره هذه الآيات قد تكرر في الآيات المكية، غير أنه جاء هنا قويا محبوكا. ولقد رجحنا في مقدمة السورة أن هذه السورة اعتبرت أولى سور القرآن نزولا لأن فصلها الأول هو أول القرآن المدني نزولا. وبدء هذا الفصل بالحروف المتقطعة يدل على أن هذه الآيات هي مطلع السورة، وتكون- والحالة هذه- أولى الآيات نزولا في المدينة والله أعلم. وتعليقا على جملة: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ نقول إن الله أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين في آية سورة الشورى [15] وآية سورة العنكبوت [45] بإعلان إيمانهم بما أنزل الله من كتاب فجاءت هذه الجملة لتقرر اتباع المؤمنين لهذا الأمر واتصاف المؤمن به. ولقد بينا ما ينبغي أن تكون عليه العقيدة الإسلامية المنطوية في هذا الأمر بالنسبة للكتب المتداولة اليوم بين أيدي الكتابيين من نصارى ويهود في سياق تفسير سورتي الشورى والعنكبوت فلم نر ضرورة للإعادة أو الزيادة. ولقد روى الطبري وغيره عن بعض أهل التأويل أن جملة وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ عنت مؤمني أهل الكتاب. غير أن هناك مؤولين كثيرين قالوا إنها عنت المؤمنين بالرسالة المحمدية إطلاقا لأنهم أمروا بالإيمان

[سورة البقرة (2) : الآيات 6 إلى 7]

بكتب الله المنزلة على الأنبياء السابقين فآمنوا، ونرى هذا هو الأوجه وقد أخذنا به في شرح الآيات. [سورة البقرة (2) : الآيات 6 الى 7] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7) . في الآيتين تقرير بأن الكفار لا يؤمنون سواء أأنذرهم النبي أم لم ينذرهم لأن قلوبهم مغلقة عن فهم الحق، وآذانهم مسدودة عن سماعه، وأبصارهم معمية عن رؤية نوره، وقد استحقوا من أجل ذلك عذاب الله العظيم. ولم نطلع على رواية خاصة بنزول الآيتين والمتبادر أنهما جاءتا استطرادا تعليليا لموقف الكفار ومكابرتهم وللمقابلة بين موقفهم وموقف المتقين الذين اهتدوا بهدى القرآن. فهؤلاء ذوو رغبة صادقة في الهدى يخشون الله فآمنوا وصدقوا حينما سمعوا القرآن ورأوا أعلام الحق، في حين انفقدت النية الحسنة والرغبة الصادقة في الكفار فكأنما انغلقت قلوبهم وسدت آذانهم وعميت أبصارهم. ومضمون الآيتين تكرر في مواضع عديدة من القرآن المكي، وقد أولناه هنا بما أولنا به ما يماثله في المواضع المكية لأن هذا هو المتسق مع روح القرآن وتلقينه ومضامينه ثم مع الإنذار بالعذاب العظيم للكفار ثم مع تعبير الَّذِينَ كَفَرُوا الذي هو صريح بصدور الكفر عنهم. وفي آيات سورة يس هذه توضيح وتأييد: وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) حيث تضمنت كون الكافرين هم الذين خبثت سرائرهم وقست قلوبهم، وكون المؤمنين هم الذين رغبوا في اتباع الحق وآمنوا بالله واستشعروا خوفه.

[سورة البقرة (2) : الآيات 8 إلى 15]

هذا، وننبه هنا بهذه المناسبة إلى ما نبهنا إليه في المناسبات السابقة من أن هذا إنما هو تسجيل لواقع أمر الكفار حينما نزلت الآيات وليس هو على سبيل التأييد لأن معظم الذين وصفوا به قد آمنوا فيما بعد في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأنه إنما يظل قائما بالنسبة للذين كفروا وماتوا وهم كفار. وللشيخ محيي الدين بن العربي تفسير للآيتين جاء فيه: «يا محمد إن الذين كفروا ستروا محبتهم فيّ. دعهم فسواء عليهم أأنذرتهم بوعيدك الذي أرسلتك به أم لم تنذرهم لا يؤمنون بكلامك، لأنهم لا يعقلون غيري. وأنت تنذرهم بخلقي وهم ما عقلوه ولا شاهدوه. وكيف يؤمنون بك وقد ختمت على قلوبهم فلم أجعل فيها متسعا لغيري. وعلى سمعهم فلا يسمعون كلاما في العالم إلا مني وعلى أبصارهم غشاوة من بهائي عند مشاهدتي فلا يبصرون سواي. ولهم عذاب عظيم عندي. أردهم بعد هذا المشهد السّنيّ إلى إنذارك وأحجبهم حتى كما فعلت بك بعد قاب قوسين أو أدنى. أنزلتك إلى من يكفر بك، ويرد ما جئت به إليه مني في وجهك وتسمع فيّ ما يضيق له صدرك. فأين ذلك الشرح الذي شاهدته في إسرائك، فهكذا رضائي على خلقي الذين أخفيتهم رضاي عنهم» «1» . وفي هذا من الشطح الذي يقلب به معاني العبارة القرآنية ويبتعد بها عن معناها ودلالتها القطعية ما هو ظاهر أيضا. [سورة البقرة (2) : الآيات 8 الى 15] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) .

_ (1) التفسير والمفسرون للذهبي ج 2 ص 13 عزوا إلى تفسير ابن العربي المعروف بالفتوحات.

(1) السفهاء: هنا بمعنى قاصري العقل والفهم والتمييز. (2) شياطينهم: الذين يوسوسون لهم، والمتفق عليه أن المقصود هم اليهود. يتفق المؤولون على أن الآيات تعني المنافقين وقد تضمنت صفاتهم ومواقفهم والرد عليهم والتنديد بهم: فهم الذين يقولون آمنا بألسنتهم وقلوبهم غير مؤمنة بقصد خداع الله والمؤمنين، في حين أنهم لا يخدعون إلا أنفسهم، لأن الله يعرف حقائقهم ولأن هذه الحقائق غير خافية على المؤمنين. ولقد خبثت نياتهم ومرضت قلوبهم فازدادوا بخداعهم وكذبهم خبثا ومرضا واستحقوا عذاب الله الأليم بسبب ذلك. وهم إذا نصحوا ونهوا عن الإفساد بنفاقهم وخداعهم ودسهم وكيدهم أنكروا وادعوا الصلاح مع أن ما هم فيه هو الفساد بعينه، ولكنهم لا ينتبهون إلى ما هم فيه من تناقض. وهم إذا قيل لهم آمنوا إيمانا صحيحا قلبا وقالبا مثل غيرهم من المؤمنين الصادقين استكبروا وغمزوا المؤمنين الصادقين، ونعتوهم بالسفهاء وتساءلوا تساؤل المستهزئ عما إذا كان يصح أن يؤمنوا مثل إيمانهم. مع أنهم السفهاء لا غيرهم، ولكنهم لا يدركون حقيقة أمرهم. وهم الذين إذا لقوا المؤمنين سايروهم وخادعوهم وقالوا لهم إننا مؤمنون، ثم إذا خلوا إلى شياطينهم الذين يحرضونهم ويوسوسون لهم أكدوا لهم بقاءهم في جانبهم وأن ما يتظاهرون به ليس إلّا من قبيل الهزء والسخرية، فالله هو الذي يهزأ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون عن الحق لينالوا جزاءه الرهيب. والآيات أولى الآيات المدنية التي احتوت إشارة إلى طبقة المنافقين التي نجمت في العهد المدني في وقت مبكر جدا بل قبل وصول النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة أو عقب وصوله مباشرة ولو لم ترد فيها كلمة النفاق أو المنافقين. لأن الوصف منطبق عليهم والمؤولون متفقون على ذلك. ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزولها. والمتبادر أنها استمرار في الاستطراد لإتمام سلسلة مختلف فئات الناس

إزاء الدعوة المحمدية حين نزولها وهم المؤمنون الصادقون والكافرون المكابرون، والمنافقون الكاذبون المخادعون. والوصف القوي الذي وصف به المنافقون في الآيات، والتنديد الشديد الذي ندد بهم فيها، يدلان على ما كان لظهور هذه الطبقة من خطورة وأثر. ولقد احتوت آيات قرآنية كثيرة في سور مدنية عديدة صورا كثيرة متنوعة عن حركة النفاق والمنافقين، وما كانوا يقفونه من مواقف ضد الإسلام والنبي صلّى الله عليه وسلّم ومصلحة المسلمين كانت حقا شديدة الخطورة والأثر على ما سوف نشرحه في مناسباته. ولقد كان منافقون من أهل المدينة ومنافقون من الأعراب، غير أن نفاق منافقي المدينة هو الأبكر والأشد خطورة وأثرا. والأرجح أن الآيات إنما عنت هؤلاء. ولقد ذكر المفسرون «1» أن كلمة شَياطِينِهِمْ مصروفة إلى اليهود، وهو وجيه ومتسق مع مفهوم الآيات، حيث يفهم منها أن المنافقين شيء وشياطينهم شيء آخر، حتى ولو كانوا زعماءهم، بل إن العبارة تفيد أن الموصوفين هم من الزعماء مما فيه توكيد للتوجيه. وفي القرآن المدني آيات كثيرة تؤيد أن المنافقين وزعماءهم خاصة كانوا حلفاء مع اليهود ضد الدعوة الإسلامية، وأن اليهود كانوا يوسوسون للمنافقين ويوجهونهم في طرق الكيد والمكر والتشكيك. من ذلك آيات سورة النساء هذه: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) «2» وآيات سورة محمد هذه: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26) «3» .

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي. (2) المقصود من الكافرين هنا اليهود. انظر تفسير الآية في تفسير الخازن مثلا. (3) هذه الآيات ليست كل ما ورد في هذا الصدد انظر آيات سورة المجادلة [14] وسورة الحشر [11] وسورة المائدة [52- 53] . [.....]

تعليق على حركة النفاق وأسبابها ومداها

وهكذا يكون اليهود بعد أن قرر معظمهم جحود رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم ومناوأته على ما سوف يأتي في آيات أخرى من السورة قد وجدوا في الطبقة المريضة القلب الخبيثة النية من أهل المدينة الذين وسموا بالنفاق مجالا لدسائسهم فخالفوهم وظلوا يوسوسون لهم ويقفون معهم مواقف الكيد والدس والتعجيز ضد الدعوة وصاحبها والمؤمنين بها. ولم يضعف شأن النفاق والمنافقين إلّا بعد أن أظهر الله تعالى نبيه على اليهود ومكّنه منهم فأجلى بعضهم عن المدينة وبطش ببعضهم في المدينة والقرى اليهودية الأخرى في طريق الشام. غير أن حركة النفاق لم تزل بالمرة لأنها طبيعة من طبائع الاجتماع. ومع ما في الآيات من خصوصية زمنية واحتوائها صورة للمنافقين في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم فإن في إطلاق الخطاب وتعميمه تلقينا عاما مستمر المدى بتقبيح الأخلاق والمواقف والأقوال المنسوبة للمنافقين والتي تبدر من بعض الناس في كل زمن ومكان. ويقف بعضهم عند الآية الأخيرة بل ويتشاد أهل المذاهب الإسلامية فيها «1» . ولسنا نرى فيها ما يتحمل توقفا ولا مشادة، وقد ورد من بابها جمل كثيرة في السور المكية وشرحنا مداها بما يزيل الإشكال فجملة وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ هي في معنى (ندعهم مستمرين فيه) لأنهم اختاروه لينالوا جزاءه العالي ولا نعني أن الله يفعل ذلك جزافا فيهم. ومن باب (يضل الله الظالمين) وجملة اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ هي من قبيل المشاكلة الأسلوبية الخطابية، ومن باب وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران: 54] . فهم يستهزئوون بالله ورسوله وهم الأولى بالاستهزاء من الله ورسوله. تعليق على حركة النفاق وأسبابها ومداها إن المستفاد من مضامين الآيات القرآنية الكثيرة الواردة في هذه الحركة وأصحابها ومن روايات السيرة أن هذه الحركة نجمت قبل هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى

_ (1) انظر تفسير الكشاف وفي ذيل تعليقات ابن المنير.

المدينة. فقد التقى النبي مرتين ببعض زعماء قبيلتي الخزرج والأوس سكان يثرب (المدينة المنورة) في المواسم فدعاهم فآمنوا واتفق معهم على الهجرة إلى المدينة هو وأصحابه. وأرسل إليهم مصعب بن عمير (رضي الله عنه) نائبا عنه وقارئا وداعية للإسلام وإماما. فصار يدعو الناس ويساعده في دعوته الزعماء الذين آمنوا فانبرى له بعض أهل المدينة يناوئون دعوته ويعطلون عليها، وكان عبد الله بن أبي بن سلول أحد زعماء الخزرج وهم الأقوى والأكثر من قبيلة الأوس ثانية القبيلتين التي ينتسب إليهما معظم سكان المدينة على رأس هذه الحركة. وقد استطاع أن يؤثر على بعض أقاربه فانضووا إلى حركته. ولقد كان الخزارجة على وشك المناداة به ملكا على يثرب في الظرف الذي اتصل النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه ببعض رجال الأوس والخزرج وبايعوه على الإسلام ورحبوا بهجرته مع أصحابه إليهم وعاهدوه على النصر والدفاع فاعتبر حركة النبي وهجرته سببا في حرمانه من ذلك فحقد ونقم «1» . وهناك شخص قوي آخر تذكره الروايات من الأوس وهو أبو عامر المسمى بالراهب والذي كان من زمرة الموحدين الصابئين وتنصّر حيث حسد النبي على اختصاصه بالنبوة دونه وحقد عليه واستطاع أن يؤثر على بعض أقاربه وأن يكون هو وإياهم إلبا مع عبد الله بن أبيّ وزمرته. وإلى جانب هاتين الزمرتين في المدينة فقد كان في الأعراب الذين هم حول المدينة منافقون أيضا وإن كان الدور المؤذي الذي قام به المنافقون هو في الدرجة الأولى دور منافقي المدينة حيث كان إسلام الأعراب المنافقين يدور مع المنفعة، فإن رأوا في الإقدام منفعة أقبلوا وتضامنوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وإن رأوا خطرا تحايدوا وابتعدوا. ولقد كانت مواقف منافقي المدينة ومكايدهم بعيدة المدى والأثر حتى لكأنه نضال قوي يذكر بما كان من نضال بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وزعماء مكة وإن اختلفت الأدوار والنتائج، إذ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يلبث أن أخذ مركزه يتوطد وقوته تزداد ودائرة دعوته تتسع وصار صاحب سلطان وأمر نافذ وجانب عزيز. ولم يكن هؤلاء المنافقون كتلة متضامنة ذات شخصية بارزة وكانوا وظلوا قلة وكان شأنهم يتضاءل بنسبة تزايد

_ (1) انظر سيرة ابن هشام ج 3 ص 335 و 336.

قوة النبي صلّى الله عليه وسلّم واتساع دائرة الإسلام. وكان جل أقاربهم من المؤمنين المخلصين. ومن جملتهم ابن كبيرهم عبد الله بن أبيّ الذي كان من أكابر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والذي أظهر استعداده لقتل أبيه إذا أمره النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك في موقف من المواقف «1» . وكانوا يتنصلون من النفاق ويحلفون أنهم مؤمنون مخلصون، ويؤدون فرائض الإسلام ويشتركون في الحركات الجهادية ولو على كره منهم على ما حكته آيات عديدة. منها آية سورة المنافقون هذه: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) وآيات سورة التوبة هذه: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وآية سورة التوبة هذه: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74) وآية سورة التوبة هذه: وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ (54) . وإنما كانوا يقومون بحركاتهم المؤذية المنافية للإيمان ومصلحة الدعوة الإسلامية والمسلمين بطرق مريبة ملتوية، ولا يتظاهرون بعض الشيء إلّا في الظروف الحرجة التي كانت تمرّ بالمؤمنين في بعض الأحيان. وكل هذا جعلهم مدموغين بالنفاق وموضع سخط الله ورسوله وجمهور المؤمنين وغضبهم ونقمتهم ومستحقين للدرك الأسفل من النار إلّا إذا تابوا على ما جاء في آية سورة النساء [145] . ويورد في صفات النفاق والمنافقين أحاديث نبوية منها ما ورد في كتب الصحاح. ومن ذلك حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «آية المنافق ثلاث إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا

_ (1) انظر المصدر السابق.

تعليق على رواية في صدد الآية [14]

اؤتمن خان» «1» . وحديث رواه الأربعة أيضا عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خلّة منهنّ كانت فيه خلّة من نفاق حتى يدعها. إذا حدّث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر» «2» . والصفات حقا جماع من المنكرات الأخلاقية. والأحاديث تنطوي على التحذير منها وحثّ على تجنب الصفات التي تدمغ صاحبها بدمغة النفاق. ونرى أن ننبه بهذه المناسبة على أن المنافقين الذين نددت بهم الآيات التي نحن في صددها والآيات الكثيرة الأخرى هم الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر على ما تلهم نصوص الآيات وعلى ما يقرره جمهور العلماء والمفسرين. وقد يصح أن يقال على ضوء ذلك إن من يتصف بالصفات المذكورة في الأحاديث، ولا يكون مستحلا لها من جهة، ويكون مؤمنا بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر إيمانا صادقا من جهة أخرى لا يكون من مشمول تلك الآيات. ويكون قد ارتكب كبيرة يعاقب عليها ولا يخلد بها في النار إذا لم يتب ويصلح والله تعالى أعلم. ونكتفي بهذا القدر من التعليق تاركين شرح صور أفعال المنافقين وأقوالهم ومواقفهم إلى مناسبة الآيات الكثيرة الواردة فيهم في السور التالية لهذه السورة. تعليق على رواية في صدد الآية [14] ولقد ذكر المفسر الخازن عزوا إلى ابن عباس أن الآية [14] نزلت في عبد الله ابن أبيّ وأصحابه المنافقين، وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال عبد الله لأصحابه: انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم، فذهب فأخذ بيد أبي بكر فقال: مرحبا بالصديق سيد بني تيم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله في الغار الباذل نفسه وماله لرسول الله، ثم أخذ بيد عمر فقال: مرحبا بسيد بني عدي بن كعب الفاروق القوي في دين الله الباذل نفسه وماله لرسول

_ (1) التاج ج 5 ص 41. (2) المصدر نفسه.

تعليق على روايات الشيعة في صدد الآيات عامة

الله، ثم أخذ بيد علي فقال: مرحبا بابن عمّ رسول الله وختنه وسيد بني هاشم ما خلا رسول الله، فقال له علي: اتق الله يا عبد الله ولا تنافق فإن المنافقين شرّ خليقة الله تعالى، فقال: مهلا يا أبا الحسن إني لا أقول هذا نفاقا والله إن إيماننا كإيمانكم وتصديقنا كتصديقكم، ثم تفرقوا فقال عبد الله لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت فأثنوا عليه خيرا. والصنعة قوية البروز على الرواية لأن هذه الأوصاف التي وصف بها الثلاثة (رضوان الله عليهم) إنما صاروا يوصفون بها بعد مدة طويلة من الهجرة إن لم نقل بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم بل وبعد وفاتهم. ويخيل إلينا أنها حيكت لإبراز علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) أنه هو وحده الذي فطن لنفاق المنافق، والرواية بعد تقتضي أن تكون الآية نزلت لحدتها مع أنها منسجمة انسجاما قويا في الفصل يدل على أنها نزلت مع آيات الفصل دفعة واحدة. والذي نرجحه أن ما حكته الآية كان يقع من المنافقين عموما حينما كانوا يلتقون بأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمهاجرين منهم خاصة وبغير أقاربهم الذين يمكنهم أن يتبسطوا معهم فجاء في الآية وصفا عاما من أوصافهم ومواقفهم. تعليق على روايات الشيعة في صدد الآيات عامة ومفسرو الشيعة «1» يروون روايات في سياق هذه الآيات عزوا إلى بعض أئمتهم مفادها أن هذه الآيات نزلت في الذين وافقوا على وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بولاية علي بن أبي طالب في حياة النبي بأفواههم دون قلوبهم ثم نقضوا ذلك وصرفوا الخلافة عنه بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم. وطابع التزوير والكذب بارز على الروايات التي تنسب النفاق بل الكفر والعياذ بالله ومخالفة رسول الله إلى الجمهور الأعظم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان من

_ (1) انظر كتاب التفسير والمفسرون للذهبي ج 2 ص 85 و 86.

تعليق على ما جاء في بعض كتب التفسير في سياق جملة أنؤمن كما آمن السفهاء من تقرير كون النساء سفهاء

أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والذين سجل الله رضاءهم عنه في الآية [100] من سورة التوبة التي كانت من أواخر ما نزل من القرآن. وحاشاهم أن يكونوا كذلك، ولا نستثني الروايات من الجمهور الأعظم من أصحاب رسول الله السابقين الأولين إلا بضعة أشخاص مع أن من الأمور اليقينية التي لا يكابر فيها الشيعة أن عليا والذين استثنوهم (رضي الله عنهم) بايعوا الخلفاء الراشدين الثلاثة الأولين وتعاونوا معهم. ولو كان النبي صلّى الله عليه وسلّم وصى بالولاية والخلافة بعده لعلي لكان هذا منهم مخالفة لوصيته وكفرا لأن الله أمر المؤمنين بطاعة رسوله وأخذ ما آتاهم والانتهاء عما نهاهم عنه وحاشاهم أن يفعلوا. تعليق على ما جاء في بعض كتب التفسير في سياق جملة أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ من تقرير كون النساء سفهاء إن كلمة السفهاء جاءت قبل هذه الآية في الآية [155] من سورة الأعراف وصفا من موسى عليه السلام لبعض قومه لأنهم طلبوا منه مطالب تعجيزية منها رؤية الله تعالى جهرة على ما فسره المفسرون وتؤيده آيات أخرى، هذا أولا. وثانيا إن المفسرين متفقون على أن معنى الكلمة هم ناقصو العقل والرشد والتمييز مطلقا. وثالثا إنهم رووا عن أهل التأويل أن المنافقين قصدوا بالكلمة المحكية عنهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبخاصة الأرقاء والضعفاء. ومع ذلك فإن بعض المفسرين قالوا إن الكلمة هنا تعني النساء والصبيان وأوردوا في مناسبة ذلك قولا معزوا إلى ابن عباس وابن مسعود في صدد آية سورة النساء هذه: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً أن الله عز وجل (سمى النساء والصبيان سفهاء) للتدليل على كونها هنا أيضا عنت النساء لأن بعضهن آمن بالله ورسوله. وواضح بادىء الأمر أن ذكر النساء في سياق الآية مقحم، ثم إن قول ابن

[سورة البقرة (2) : الآيات 16 إلى 20]

عباس وابن مسعود غير وثيق السند، وفيه غرابة لأنه يعزو تسمية النساء بالسفهاء لله تعالى وليس في القرآن شيء من ذلك. وهما بعد أفقه من أن يغيب عنهما أن الكلمة في الآية مطلقة تشمل كما هو المعقول والمتسق مع روح الآية ومقامها كل قاصري العقول ضعفاء الأحلام من رجال ونساء وصبيان. ولقد رد القرآن على قول المنافقين: أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ قائلا: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وهذا يدعم ذلك لأن القائلين رجال فوصفهم الله بأنهم ضعاف العقول والأحلام. وقد يقال إن هناك أحاديث نبوية فيها وصف للنساء بأنهن ناقصات عقل ودين يوردها المفسرون في سياق هذه الآية وآية سورة النساء وغيرها بسبيل التدليل على صواب ما قالوه، ومن هذه الأحاديث ما هو صحيح. ولقد أوردنا هذه الأحاديث في التعليق الذي علقنا به على الآية [21] من سورة الروم والذي استطردنا فيه إلى بحث مساواة الرجل والمرأة ومركز المرأة والزوجة في القرآن وذكرناه ما يتبادر لنا أنه الصواب إن شاء الله في صدد هذه الأحاديث وفي صدد ما قرره القرآن وخاطبها به من المساواة التامة مع الرجل في كل شأن من شؤون الدين والدنيا، ومن أهليتها التامة لكل ذلك، ومن تكليفها بكل ما كلف به الرجل، ومن ترتيب كل ما رتب عليه عليها بدون أي تمييز مما يتنافى مع وصف النساء بالسفهاء بصورة مطلقة، بالإضافة إلى الحقيقة القرآنية الكبرى وهي أن كل ما خوطب به المؤمنون والكافرون والمشركون والمنافقون من تلك الشؤون مما ليس فيه قرينة تخصيصية للذكور هو شامل للذكور والإناث معا، ولا يمكن أن يصح هذا في عقل عاقل إلا مع فرض الأهلية التامة للمرأة عقليا وروحيا وأخلاقيا وجبلة. وقد يكون في بعض آيات القرآن في السور المدنية ما يوهم تعارضا شيئا ما مع هذا التعميم والإطلاق. ولكنه في حقيقته ليس من شأنه أن ينقضه على ما سوف نشرحه في مناسباته والله تعالى أعلم. [سورة البقرة (2) : الآيات 16 الى 20] أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) .

(1) استوقد: بمعنى أوقد أو سعى حتى أوقد. (2) صيّب: المطر الشديد الانهمار. (3) قاموا: بمعنى أقاموا أي توقفوا عن السير. الآيات كما هو المتبادر معقبة على سابقاتها بسبيل وصف حالة المنافقين والتمثيل لهم والتنديد بهم: 1- فقد اشتروا الضلالة بالهدى فلم تربح تجارتهم ولم يهتدوا. 2- وإن مثلهم كمثل الذي أوقد نارا في الظلمة فلم تكد تضيء ما حوله حتى ذهب الله بنوره فعاد إلى الظلمات لا يبصر شيئا. 3- وأنهم صاروا بمثابة العمي والبكم والصمّ فلم يعودوا يرون الحق ولا يسمعونه ولا ينطقون به، فلا أمل في رجوعهم إليه. 4- وإن مثلهم كذلك كمثل الذي يسير في ليلة شديدة المطر والرعد والبرق قد اكتفته الظلمات وملأه الخوف من الصواعق واصطكت أذناه من الرعد حتى إنه ليسدها بيده من شدته ويتخطف البرق عيونه فإذا لمع البرق وأضاء ما حوله سار، غير أن البرق لا يلبث أن ينقطع فيقف حائرا ذاهلا. 5- وإن الله لو شاء لأخذ سمعهم وأبصارهم فهو القادر على كل شيء والمحيط بالكافرين فلن يفلتوا منه. والآيات قوية رائعة في تمثيلها ووصفها وتنديدها. وقد تضمنت تقرير كون

الرسالة المحمدية جاءت نورا يهتدي به الناس وقد رآه المنافقون فاهتدوا به ثم غلب عليهم خبث نواياهم فكفروا أو نافقوا وعموا عن النور وخسروا. ولقد أول جمهور المفسرين جملة ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ بأن الله قد أطفأ النار التي أوقدوها فلم يعودوا يرون شيئا. ويتبادر لنا أن التعبير أسلوبي على ما جرى عليه النظم القرآني وأن شرحنا للجملة آنفا هو أكثر اتساقا مع روح الآيات. فالنور الذي لاح هو نور الرسالة المحمدية ولم يكن الله ليطفئه. وإنما هم الذين غلبت عليهم نياتهم الخبيثة فلم يعودوا يرونه. وجملة اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى مما يدعم هذا التوجيه فقد أحرزوا الهدى بإيمانهم ثم باعوه واستبدلوا النفاق والضلال به فهم المسئولون عن النتيجة التي هي من فعلهم وكسبهم. ونقول هذا ما قلناه في صدد وصف الكافرين في الآية السابقة لفصل المنافقين. ففي هذا الفصل تسجيل لواقع أمر المنافقين حينما نزلت الآيات، وليس على سبيل التأبيد إلّا للذين ماتوا على نفاقهم مع التنبيه على أن كثيرا منهم تابوا وحسن إسلامهم. ولقد أورد المفسرون في سياق ذكر البرق والرعد والصواعق روايات عن أهل الصدر الأول عن ماهيات هذه الظواهر. وقد أوردناها في سياق آيات الرعد [12- 13] والروم [24] التي وردت فيها هذه الكلمات. والروايات بعد غير وثيقة السند والبيانات لا تتسم بسمة العلم. والمتبادر أنها مما كان يقال عن هذه الظواهر في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم وغيرها وقت نزول القرآن. والآيات تسوق ما يعرفه الناس ويشاهدون آثاره على سبيل التمثيل والتنديد والوصف. والأولى أن تبقى في هذا النطاق دون تزيد وتخمين لا ضرورة لهما ولا طائل بالنسبة لأهداف الآيات ومقامها. وللسيد رشيد رضا «1» تقرير وجيه في هذا الصدد حيث قال: إن ذلك ليس من مباحث القرآن. وإنما تذكر الظواهر الطبيعية في القرآن لأجل الاعتبار

_ (1) انظر تفسيرها في الجزء الأول من تفسير المنار.

[سورة البقرة (2) : الآيات 21 إلى 24]

والاستدلال وصرف العقل إلى البحث الذي يقوى به الفهم والدين وهذا متسق مع ما فتئنا ننبه إليه في المناسبات المماثلة. [سورة البقرة (2) : الآيات 21 الى 24] يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24) . (1) وأنتم تعلمون: قيل إنها بمعنى وأنتم تعلمون أن الله هو خالق السموات والأرض ومالكها وقد حكت آيات عديدة اعترافهم بذلك. وقيل إنها بمعنى أنكم غير جاهلين وتستطيعون أن تميزوا الحق من الباطل والخطأ من الصواب، وكلا التأويلين وارد وسديد. (2) شهداءكم: هنا بمعنى شركاءكم أو مناصريكم على الأرجح بقرينة جملة (من دون الله) . في الآيات: 1- هتاف بالناس إلى عبادة الله ربهم الذي هو وحده المستحق للعبادة اتقاء لغضبه واستحقاقا لرضائه. فهو الذي خلقهم وخلق من قبلهم، وهو الذي جعل لهم الأرض مبسوطة ممهدة لتيسير الإقامة والحياة فيها. وبنى فوقها السماء وأنزل من السماء الماء فأخرج به لهم شتى أنواع الثمرات التي يقيمون بها أودهم وحياتهم. 2- ونهي لهم عن اتخاذ الأنداد والشركاء مع الله، ولا سيما أنهم يعلمون أنه الإله الأعظم مما يقتضي تنزيهه عن ذلك. 3- وتحدّ لهم فيما إذا كانوا في ريب من صحة ما أنزله الله على نبيه وصدق

تعليق على تحدي الناس جميعا بالإتيان بشيء من مثل القرآن في أول العهد المدني

صلته به بالإتيان بسورة من مثله وبالاستعانة على ذلك بمن يريدون من الشركاء والأنصار. 4- ودعوة لهم إلى اتقاء النار التي أعدها للكافرين والتي سيكون الناس والحجارة وقودها بالإيمان والتصديق إذا عجزوا عن استجابة هذا التحدي لأن الحجة تكون قد لزمتهم مع التقرير بأنهم سيظلون عاجزين عن ذلك أبدا. ولم نطلع على رواية خاصة بنزول الآيات والمتبادر أنها جاءت بمثابة التعقيب على الآيات السابقة. فبعد أن ذكرت هذه الآيات الفرق الثلاث للناس إزاء الدعوة النبوية جاءت لتهتف بهم جميعا بأسلوب مطلق بالإيمان والإذعان. وتذكرهم بمشاهد قدرة الله في الكون وما فيه من منافع عظيمة ميسرة لهم واستحقاقه وحده للعبادة، وتنذر الذين يصرون على الجحود والعناد. ولقد ذكر خلق السموات والأرض، وبناء السماء وبسط الأرض وجعلها فراشا مرارا في الآيات المكية وعلقنا على ذلك بما يغني عن التكرار، وواضح أن هدفها هنا كما هو في الآيات المماثلة لفت نظر السامعين إلى مشاهدة قدرة الله تعالى في السماء والأرض، وما فيهما من منافع للناس. ولقد روى بعض المفسرين عن ابن مسعود أن الحجارة التي ستكون من وقود النار الأخروية هي من الكبريت. وهذه الرواية لم ترد في كتب الصحاح والمشهد المذكور في الآية مشهد أخروي غيبي لا يؤخذ فيه إلا بما يثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم والأولى والحالة هذه الوقوف عند ما وقف عنده القرآن مع الإيمان به. تعليق على تحدي الناس جميعا بالإتيان بشيء من مثل القرآن في أول العهد المدني والتحدي بالإتيان بشيء من مثل القرآن قد تكرر في السور المكية، وهذه مرة ثانية يقرر فيها عجز الناس عن ذلك حيث قررت ذلك آية سورة الإسراء [88] مع فارق واحد هو أن آية سورة الإسراء قررت عجزهم عن الإتيان بمثل القرآن وآية الجزء السادس من التفسير الحديث 10

تعليق على زعم بعض المستشرقين بأن هذه الآيات وما بعدها إلى آخر الآية 39 مكية

البقرة التي نحن في صددها قررته عن الإتيان بسورة من مثله. وتكرار التحدي بهذه القوة للناس جميعا في أوائل العهد المدني مع تقرير العجز بأسلوب التأييد ينطوي على أن هذا العجز استمر طيلة العهد المكي أولا ثم على معنى قوي بسبيل تلقين الشعور التام بالوثوق في صحة الرسالة النبوية وصلة القرآن بالوحي الرباني وصدوره عنه كما ينطوي على موقف القوة والاستعلاء للنبي صلّى الله عليه وسلّم كما هو المتبادر. ولقد علقنا على موضوع هذا العجز ومدى الإعجاز القرآني الذي عجز عنه الناس في سياق تفسير آية الإسراء المذكورة ثم في سياق تفسير الآية [51] من سورة العنكبوت فنكتفي بهذا التنبيه دون الإعادة. تعليق على زعم بعض المستشرقين بأن هذه الآيات وما بعدها إلى آخر الآية 39 مكية وقد رأينا بعض المستشرقين يزعمون أن هذه الآيات إلى آخر الآية [39] مكية لأن أسلوبها مشابه للأسلوب المكي. ولم نطلع على رواية ما قد تفيد هذا. وتشابه المضمون الذي قد يكون واردا ليس كافيا لتصويب الزعم. ولا سيما أن معظم الناس في الجزيرة العربية وحول يثرب كانوا حين نزولها كفارا يتحملون الخطاب بهذا الأسلوب. وهذا فضلا عن معنى التعقيب الذي ذكرناه على الآيات السابقة وتحمله لهذا الأسلوب أيضا. وقد يكون القائلون استندوا إلى ما قاله بعض العلماء من أن كل جملة تبتدئ بيا أيها الناس تكون مكية. غير أن هذا القول اجتهادي شخصي غير متفق عليه. وقد استعمل هذا الخطاب في آيات مدنية لا خلاف في مدنيتها ولا تتحمل أي احتمال لذلك مثل مطلع سورة النساء. [سورة البقرة (2) : آية 25] وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25) .

تعليق على جملة كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها

عبارة الآية واضحة، وفيها التفات إلى الذين آمنوا بالرسالة المحمدية بمثابة تنويه وبشرى ومقابلة لما أنذر الكفار به من نار وعذاب في الآخرة كما هو المتبادر. وهكذا تكون الصلة قائمة بينها وبين ما سبقها. مع واجب الإيمان بحقيقتها الآتية. ولقد أورد ابن كثير حديثا أخرجه ابن مردويه عن أبي سعيد وقال: إن الحاكم رواه في مستدركه وقال إنه صحيح على شرط الشيخين في معنى أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وهو «إنهن مطهرات من الحيض والغائط والنخامة والبزاق» . تعليق على جملة كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً ولقد روى المفسرون «1» عن ابن عباس وغيره أقوالا متعددة في تأويل جملة: كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً منها أن الكلام في صدد ثمر الجنة حيث يكون متشابها في اللون والشكل مختلفا في الطعم واللذة، فيظن المنعم أنه نفس ما أكله من قبل. ومنها أن الكلام في صدد تشبيه ثمر الدنيا بثمر الجنة، حيث يرى المنعم الذي يؤتى إليه به في الجنة مشابها لما اعتاده في الدنيا. وقد عقب المفسرون على القول الثاني بأنه يكون مشابها لثمر الدنيا في الشكل والاسم مختلفا عنه في الطعم واللذة ونحن نرجح القول الثاني لأن كلمة مِنْ قَبْلُ تنصرف إلى الدنيا أكثر فيما يتبادر لنا. وفي الآيات المكية الكثيرة التي ذكرت فيها وسائل النعيم الأخروي تدعيم لهذا القول حيث ذكر في كثير منها أسماء كثير من الفواكه والثمار والأشربة

_ (1) انظر تفسير الطبري والخازن وابن كثير والطبرسي.

[سورة البقرة (2) : الآيات 26 إلى 29]

والوسائل المعروفة في الدنيا مثل الرمان والنخل ولحم الطير والزنجبيل والكافور والمسك والأرائك والنمارق والزرابي والأكواب والصحاف والحرير واللؤلؤ إلخ ... إلخ. وحيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت أن تكون أوصاف ومشاهد الحياة الأخروية ووسائل نعيمها وعذابها مستمدة من مألوفات الناس في الدنيا لأن الفكر البشري لا يستطيع أن يفهم ما لم يكن قد رآه ودخل في نطاق تصوره المستمد من حواسه على ما نبهنا إليه في المناسبات السابقة. مع واجب الإيمان بحقيقة الأوصاف والمشاهد الأخروية التي أخبر عنها القرآن وكونها في نطاق قدرة الله تعالى ومقتضى حكمته. [سورة البقرة (2) : الآيات 26 الى 29] إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) . في الآيتين الأوليين: تقرير بأن الله تعالى لا يرد في حقه الحياء من ضرب الأمثال للناس في القرآن مهما بدا أنها بديهية أو تافهة كبعوضة أو ما فوقها. فالمؤمنون يقبلون على تدبر هذه الأمثال وتلقيها حقا لأنها وحي الله الذي لا يمكن أن يصدر عنه إلّا الحق والحكمة. وأما الكافرون فهم الذين يتمحلون ويتساءلون، تمحّل المستخف المستهين وتساؤله عن مدى مراد الله منها. وإن الله ليهدي بالأمثال القرآنية كثيرين ويضل كثيرين، غير أن الذين يضلون بها هم الفاسقون المتمردون سيئو النية وخبثاء الطوية. الذين من صفاتهم نقض عهد الله من بعد

توكيده وقطع ما أمر الله به أن يوصل والفساد في الأرض، ومن كان هذا شأنه فهو الخاسر الخائب حقا. وفي الآيتين الأخيرتين: تعقيب تنديدي بالكفار في صيغة التساؤل الإنكاري عن جرأتهم على الكفر بالله وانحرافهم عن سبيله، وهو الذي أحياهم بعد أن كانوا أمواتا ثم يميتهم ثم يحييهم، وإليه مرجعهم في النهاية. كما أنه هو الذي خلق لهم ما في الأرض جميعا لينتفعوا به ويتمتعوا، وهو الذي استوى بعد خلق الأرض إلى السماء فسواهن سبع سموات، وهو العليم بكل شيء. وجمهور المؤولين الذين يروي الطبري وغيره أقوالهم على أن جملة وَكُنْتُمْ أَمْواتاً هي بمعنى كنتم عدما أو لا شيء، وهو تأويل وجيه. ولقد روى المفسرون «1» عزوا إلى ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والتابعين روايتين كسبب لنزول الآية الأولى. واحدة تذكر أن الله لما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت والنمل قال المشركون أو قال اليهود والمشركون معا: ماذا أراد الله بذكر هذه الأشياء الخسيسة، وإنه أجل من أن يضرب بها الأمثال. والثانية جاء فيها أن الله لما ضرب المثلين اللذين وردا في الآيات السابقة أي مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً وكَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ للمنافقين قال المنافقون: الله أعلى وأجل من ضرب هذه الأمثال. والمتبادر أن الرواية الثانية هي الأكثر مناسبة للمقام ولا يرد على هذا كون المنافقين لم يذكروا وإنما ذكر الَّذِينَ كَفَرُوا فوصف المنافق المتفق عليه هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر. وقد نعتهم القرآن بالكفر في آيات عديدة على ما ذكرناه في التعليق السابق عنهم. ولما كانت الآيات الثلاث منسجمة مع الآية الأولى موضوعا وهدفا، فالمتبادر كذلك أنها نزلت معا، وأن الآية الأولى لم تنزل لحدتها. وعلى ضوء هذه الرواية تبدو الصلة بين هذه الآيات وما قبلها واضحة. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعدها بسبيل الرد والتنديد بالكفار لاعتراضهم

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري وابن كثير والخازن.

وتمحلهم والتنويه بالمؤمنين لتصديقهم وحسن تلقيهم. والرد ينطوي على حقيقة من الحقائق التي نبهنا عليها أكثر من مرة في المناسبات السابقة. وهي أن القرآن في أمثاله وتقريراته إنما يخاطب الناس بما يفهمونه وما هو مستمد من مألوفاتهم وأساليبهم لأجل التقريب لأذهانهم وإثارة انتباههم بقطع النظر عن ماهيته. وأسلوب الآية الرابعة الأخيرة يلهم أولا أنه بسبيل تقرير ما هو واقع أمر الناس من انتفاعهم بما خلق الله في الأرض من مختلف الأسباب والوسائل، وثانيا أن السامعين يسلمون بذلك ويعترفون به، وثالثا أن فيه تنويها أو تكريما لبني آدم الذين هم أكثر خلق الله انتفاعا بما خلق الله في الأرض حتى لكأنه خلقه لهم ولعل فيه بالإضافة إلى ذلك هدف التدليل على ما قررته الآية التي قبلها من قدرة الله على إحياء الناس بعد الموت، ومن كون مرجعهم إليه. والتدليل على هذه النقطة الأخيرة منطو في شطر هذه الآية الذي يقرر أن الله أحيا الناس بعد أن كانوا أمواتا- أي عدما على ما أوله جمهور المفسرين «1» - مما يعترف به الكافرون المشركون حيث حكته عنهم آيات مكية عديدة. وفي كل هذا إلزام وإفحام للكفار وهو ما انطوى في السؤال التنديدي الإنكاري الذي بدأت به الآية الثالثة. ولقد احتوت السور المكية تقريرات كثيرة مماثلة، والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت تكراره بالأسلوب الذي جاء به في مطلع العهد المدني وبمناسبة اعتراض المنافقين. والفقرة الأخيرة من الآية الرابعة جاءت تتمة أو استطرادا على ما هو المتبادر. ولقد علقنا على ما فيها من خلق الله الأرض وما فيها والسموات السبع في مناسبات سابقة تعليقا يغني عن التكرار «2» .

_ (1) انظر تفسير الطبري وابن كثير وغيرهما. (2) انظر تفسير سور ق والإسراء وفصلت.

تعليق على جملة وما يضل به إلا الفاسقين وما بعدها

تعليق على جملة وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ وما بعدها وهذه الجملة من الجمل القرآنية المحكمة التي يصح أن تكون مفسرة لكل ما يأتي مطلقا من آيات الهدى والضلال، حيث ينطوي فيها تقرير كون الضلال هو نتيجة للفسق المنبثق عن سوء النية وخبث الطوية وفساد الخلق، وحيث يتسق هذا مع التقريرات القرآنية المحكمة في صدد كون الله قد بين للناس طريق الهدى والضلال بواسطة رسله وكتبه، وأودع فيهم قابلية التمييز والاختيار، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فإنما يضلّ عليها، مما نبهنا عليه في المناسبات الكثيرة السابقة. وفي الآية التي تلي هذه الجملة وصف قوي للفاسقين، ومظاهر فسقهم نحو الله والناس فهم ينقضون عهد الله من بعد ما ارتبطوا به، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل من رحم، وفعل برّ وخير وتعاون وتضامن، ويفسدون في الأرض بأفعالهم وأقوالهم. ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره عن المؤولين السابقين في المقصود بالفاسقين منها أنهم المنافقون، ومنها أنهم كفار أهل الكتاب، ومنها أنهم الكفار من أهل الكتاب والمشركين والمنافقين جميعا. بل هناك من قال إنهم الخوارج. والقول الأخير هو على ما هو المتبادر من وحي الأحداث والاجتهاد في التطبيق. والأفعال المنسوبة إلى (الفاسقين) في الآية تدل على أن المقصودين ليسوا الكفار والمشركين مطلقا وإنما الناقضين للعهد والقاطعين لما أمر الله به أن يوصل والمفسدين في الأرض. وقد يكون هذا يسوغ ترجيح المنافقين الذين كان نفاقهم بمثابة نقض لما عاهدوا الله ورسوله عليه من الإيمان. ومما أدى إلى حالة الكره والشقاق والقطيعة والبغضاء بينهم وبين أقاربهم ثم إلى حالة الاضطراب والبلبلة والفساد بما كان من مساعيهم الهادفة إلى إفساد حالة الإسلام والمسلمين،

[سورة البقرة (2) : الآيات 30 إلى 39]

وبخاصة بما كان من تآمرهم مع اليهود على ذلك. ويتبادر لنا مع ذلك أن حكمة التنزيل اقتضت أن تكون عبارة الآية مطلقة ليكون تلقينها مستمر المدى في التنديد بهذه الأخلاق والمواقف وتقبيحها وخطرها. [سورة البقرة (2) : الآيات 30 الى 39] وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34) وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39) . (1) أزلهما الشيطان عنها: قيل بمعنى ساقهم إلى ارتكاب الزلة. وقرأها بعضهم (أزالهما) من الزوال والإزالة من الجنة. وقيل: إن زلّ بمعنى ذهب، وأزلهما بمعنى نحاهما. وعلى كل حال فالعبارة تفيد أنها بمعنى إخراجهما من الجنة. الآيات تتألف من مجموعتين متناسبتين، ولذلك أوردناهما معا. والأولى

تضمنت حكاية محاورة بين الله سبحانه والملائكة في صدد خلق آدم أول البشر. والثانية تضمنت حكاية أمر الله للملائكة بالسجود لآدم وامتناع إبليس وإغرائه لآدم وزوجته حتى كان سببا في إخراجهما من الجنة، وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. والمجموعة الثانية مماثلة بعض المماثلة لما جاء في سورة الأعراف وغيرها من السور المكية عن قصة آدم وإبليس. أما المجموعة الأولى فهي جديدة، ولكن روح المجموعتين وفحواهما يلهمان أن الأولى بمثابة مقدمة وتمهيد للثانية، ولم نطلع على رواية خاصة بنزول آيات المجموعتين. وقد رأى الطبري أن بدء الآيات في كلتا المجموعتين بحرف (إذ) التذكيري مع واو العطف يعني أن الكلام استمرار للآيات السابقة التي تضمنت تذكير الكفار بنعمة الله عليهم بما خلقه لهم في الأرض، والتنديد بهم لكفرهم حيث جاءت هذه الآيات بعدها لتذكيرهم كذلك بما كان من نعمته على آدم وذريته باستخلافهم في الأرض. وهو رأي وجيه يؤيده فحوى الآيات ونظمها ويفيد قيام الصلة بين هذه الآيات وسابقاتها. لقد أورد المفسرون أقوالا وأحاديث كثيرة متنوعة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وبعض أصحابه وتابعيهم في صدد هذه الآيات. منها ما هو غفل المصدر. ومنها ما فيه إغراب وخيال، ومنها ما هو متعدد ومتناقض مع وحدة مصدره حتى لقد شغل ذلك من تفسير الطبري أربعين صفحة كبيرة وليس شيء من ذلك واردا في كتب الأحاديث الصحيحة إلا أربعة أحاديث نبوية. وكثير مما أوردوه ومن ذلك الأحاديث النبوية الأربعة هو مما يتصل بالمجموعة الثانية أي بقصة آدم وإبليس. ولقد أوردنا هذه الأحاديث وأوردنا بعض النماذج من المرويات الأخرى في سياق آيات هذه القصة الواردة في سورة (ص) مع تعليق مسهب في هذه السورة شرحنا فيه ما تبادر لنا أنه الصواب إن شاء الله.

تعليق على الآية وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة والآيات التسع التالية لها

كما أوردنا بعض نماذج أخرى من المرويات في سياق آيات القصة في سور الأعراف والحجر والإسراء وطه والكهف. وعلقنا عليها ولذلك لم نر ضرورة إلى إيراد شيء أو التعليق بشيء جديد على هذه القصة إلّا القول إن هذا الفيض من الروايات مهما يكن أمرها تدل كما قلنا قبل على أن قصة آدم وإبليس وحواشيها مما كان معروفا متداولا في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم. تعليق على الآية وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً والآيات التسع التالية لها قلنا إن هذه الآيات مجموعتان. ونقول هنا إن المجموعة الأولى جديدة يأتي فحواها لأول مرة وفيها ما يفيد أن الله تعالى قد أراد منذ الأزل أن يسكن الله آدم وذريته الأرض ويعمروها ويكونوا فيها خلفاء. وأن ذلك لم يكن سببا طارئا بسبب مخالفة آدم لأمر الله عز وجل وأكله من الشجرة بإغراء إبليس وإخراجه مع زوجته من الجنة، وأن ذلك إنما كان سببا ظاهريا ومباشرا. وننبه على أن ما جاء في هذه المجموعة لم يرد شيء منه في سفر التكوين المتداول اليوم الذي ذكر قصة خلق السموات والأرض وخلق آدم وخروجه من الجنة مع زوجته بسبب أكلهما من الشجرة. مما ورد أيضا في سورتي الأعراف وص. ولكن هذا لا يمنع أن يكون شيء منه قد ورد في أسفار أو قراطيس كانت في أيدي الكتابيين كما هو شأن ما لم يرد في سفر التكوين وورد في القرآن مثل أمر الله الملائكة بالسجود لآدم وسجودهم وامتناع إبليس من مثل ذكر الحية بدلا من إبليس إلخ. وفي كتب التفسير أحاديث وروايات عديدة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وتابعيه في صدد هذه المجموعة. من ذلك في صدد جملة: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً حديث عن ابن سابط عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «دحيت الأرض من مكة وكانت الملائكة

تطوف بالبيت فهي أول من طاف به، وهي الأرض التي قال الله إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، وكان كل نبي إذا هلك قومه ونجا هو والصالحون أتوا إليها فتعبدوا الله فيها حتى يموتوا. وإن قبر نوح وهود وصالح وشعيب بين زمزم والركن والمقام. ومن ذلك عن ابن عباس: أن الأرض كانت معمورة بالجن فأفسدوا وسفكوا الدماء فأرسل الله عليهم جندا من الملائكة بقيادة إبليس فقاتلوهم وألحقوهم بجزائر البحور وأطراف الجبال وذلك أن الله خلق الجن قبل آدم فكفر قوم منهم وسفك بعضهم دم بعض فكانت الملائكة تقاتلهم فقالوا ما قالوه نتيجة للتجربة. ومن ذلك أن الملائكة قالوا ما قالوه لأن الله لما قال لهم إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً سألوه عنها فقال ذرية يخلف بعضها بعضا في الأرض ويفسدون فيها ويسفكون الدماء فقالوا له ما قالوه. ومن ذلك أنه لم يكن أحد في الأرض غير الملائكة فقالوا ما قالوه على سبيل الفرض. ومن ذلك في تأويل كلمة (خليفة) أنها بمعنى أناس يعمرون الأرض ويخلف بعضهم بعضا. أو بمعنى حكام يحكمون الأرض أو أناس يسكنون الأرض بعد الطوائف التي كانت فيها وأبيدوا بسبب فسادهم. ومن ذلك في تأويل جملة: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها أن الله ألهمه أسماء كل شيء في الأرض وفي السماء وأفعال وحركات كل شيء فيهما فصار يسمي كل شيء يراه أو يحس به باسمه من دواب وطيور وزواحف وجن وملائكة وجبال وبحار وأنهار ونجوم وشجر وهواء وماء إلخ، ومن ذلك في تأويل الجملة أن الله علمه إياها تعليما ... والحديث المروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة، وفحواه يسوغ التوقف فيه، والأقوال الأخرى لم توثق بأسناد صحيحة، وكثير منها غفل، وهي مع ذلك اجتهادية وتخمينية وهذه الأمور مغيبة لا يصح الأخذ بها بالاجتهاد والتخمين. وفي تفسير المنار لرشيد رضا في سياق تفسير الآيات تعليقات صائبة على المجموعتين معا جاء فيها فيما جاء: «إن أمر الخلقة وكيفية التكوين من الشؤون

الإلهية التي يعز الوقوف عليها كما هي. وقد قص الله علينا في هذه الآيات خبر النشأة الإنسانية على نحو ما يؤثر عن أهل الكتاب قبلنا. ومثل لنا المعاني في صور محسوسة. وأبرز لنا الحكم والأسرار بأسلوب المناظرة والحوار كما هي سنته في مخاطبة الخلق وبيان الحق. وقد ذهب الأستاذ- يعني الشيخ محمد عبده- إلى أن هذه الآيات من المتشابهات التي لا يمكن حملها على ظاهرها لأنها بحسب قانون التخاطب إما استشارة وذلك محال على الله تعالى، وإما إخبار منه سبحانه للملائكة واعتراض منهم ومحاجة وجدال وذلك لا يليق بالله تعالى أيضا ولا بملائكته ولا يجامع ما جاء به الدين من وصفهم بأنهم: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6] » . ومما أورده الأستاذ رشيد رضا من كلام أستاذه على سبيل تدعيم ما قاله: «إن الأمة الإسلامية أجمعت على أن الله تعالى منزه عن مشابهة المخلوقات. وقد قام البرهان العقلي والبرهان النقلي على هذه العقيدة فكانت هي الأصل المحكم في الاعتقاد الذي يجب أن يرد إليه غيره. وهو التنزيه، فإذا جاء في نصوص القرآن أو السنة شيء ينافي ظاهره التنزيه فللمسلمين فيه طريقتان، إحداهما طريقة السلف وهي التنزيه الذي أيد العقل فيه النقل كقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] وقوله: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات: 180] . وتفويض الأمر إلى الله تعالى في فهم حقيقة ذلك مع العلم بأن الله يعلمنا بمضمون كلامه ما نستفيد به في أخلاقنا وأعمالنا وأحوالنا، ويأتينا في ذلك بما يقرب المعاني من عقولنا ويصورها لمخيلاتنا. والثانية طريقة الخلف وهي التأويل حيث يقولون إن قواعد الدين الإسلامي وضعت على أساس العقل فلا يخرج شيء منها عن المعقول فإذا جزم العقل بشيء وورد في النقل خلافه يكون الحكم العقلي القاطع قرينة على أن النقل لا يراد به ظاهره ولا بدّ له من معنى موافق يحمل عليه فينبغي طلبه بالتأويل، وطريقة السلف هي الأولى بالأخذ في مثل هذه الأمور» . ومما أورده من فوائد وحكم ما احتوته الآيات: 1- إن الله تعالى في عظمته وجلاله يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في

صنعه وما يخفى عليهم من أسراره في خلقه ولا سيما عند الحيرة. والسؤال يكون بالمقال ويكون بلسان الحال. والتوجه إلى الله تعالى في استفاضة العلم بالمطلوب من ينابيعه التي جرت سنته تعالى بأن يفيض منها كالبحث العملي والاستدلال العقلي والإلهام الإلهي. وربما كان للملائكة طريق آخر لاستفاضة العلم غير معروفة لأحد من البشر فيمكننا أن نحمل سؤال الملائكة على ذلك. 2- إذا كان من أسرار الله تعالى وحكمه ما يخفى على الملائكة فنحن أولى بأن يخفى علينا. فلا مطمع للإنسان في معرفة جميع أسرار الخليقة وحكمها لأنه لم يؤت من العلم إلّا قليلا. 3- إن الله تعالى هدى الملائكة في حيرتهم وأجابهم عن سؤالهم لإقامة الدليل بعد الإرشاد إلى الخضوع والتسليم. وذلك بعد أن أخبرهم بأنه يعلم ما لا يعلمون ثم علّم آدم الأسماء كلها فعرضهم على الملائكة فعجزوا عن معرفة شيء منها. 4- تسليته النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن تكذيب الناس، ومحاجتهم في النبوة بغير برهان على إنكار ما أنكروا وبطلان ما جحدوا. فإذا كان الملأ الأعلى قد مثلوا على أنهم يختصمون ويطلبون البيان والبرهان فيما لا يعلمون، فأجدر بالناس أن يكونوا معذورين، وبالأنبياء أن يعاملوهم كما عامل الله الملائكة المقربين وهذا الوجه هو الذي يبيّن اتصال هذه الآيات بما قبلها وكون الكلام لا يزال في موضوع الكتاب وكونه لا ريب فيه وفي الرسول وكونه يبلغ وحي الله تعالى ويهدي به عباده، وفي اختلاف الناس فيهما. وفي كل هذا كثير من الصواب والوجاهة، وهو متسق مع ما فتئنا ننبه عليه في مختلف المناسبات السابقة. وإذا كان من شيء يحسن أن يزاد إلى هذا فهو القول إن فحوى وروح المجموعتين يدلان على أنهما استهدفتا العظة والتدعيم للدعوة النبوية دون بيان

تعليق على تقديم تعليم آدم على مقطع الأمر بالسجود له

الوقائع لذاتها، وأن الأولى إبقاؤها في هذا النطاق وعدم التزيد والتخمين في صدد ماهية ما احتوتاه. ومما يتبادر لنا أيضا أن في آيات المجموعتين قصدا إلى تذكير بني آدم بتكريم الله لهم في اختيارهم ليكونوا أصحاب الشأن والأمر في الدنيا- وهو ما نرجحه من معنى جملة: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً وفي أمره الملائكة بالسجود لأبيهم وفي تعليم أبيهم الأسماء كلها مما لم يكن يعلمه الملائكة، وكون ذلك كله مما يوجب عليهم شكره والإخلاص له وحده. وقد يكون مما قصدته بيان حالة الملائكة للعرب الذين كانوا يعبدون الملائكة ويشركونهم مع الله ولهم في أذهانهم صورة فخمة حتى يرعووا ويخلصوا العبادة والاتجاه إلى الله وحده والله أعلم. ولقد جاءت الآيتان الأخيرتان من المجموعة الثانية لتدعما كل ذلك أو تركزه بتذكيرهما بني آدم بأنهم معروضون في الأرض للامتحان بما يرسله الله تعالى إليهم من رسل يدلونهم على طريق الهدى، فمن اهتدى نجا وسعد ومن كفر وكذب هلك وشقي. تعليق على تقديم تعليم آدم على مقطع الأمر بالسجود له هذا ويلحظ أن المقطع الأول من المقطعين في الآية الذي فيه المحاورة بين الله عز وجل والملائكة وتعليم آدم قد سبق المقطع الثاني الذي فيه الأمر للملائكة بالسجود لآدم. في حين أن صيغة القصة في سورتي (ص) والحجر صريحة لأن الأمر بالسجود كان فوق خلق آدم وهذا يقتضي أن يكون تعليم آدم بعد ذلك. والله أعلم، بل ويقتضي أن يكون بعد هبوط آدم إلى الأرض وإيذانه بأن الله سوف ينزل هداه عليه وعلى ذريته فينجو المتبع له ويخسر المنحرف عنه. ويتبادر لنا بناء على ذلك أن في نظم المقطعين تقديما وتأخيرا وهذا مألوف في النظم القرآني ولا حمل للاستشكال بسبب تقدم المحاورة وخبر تعليم آدم للأسماء ونقول هذا في صدد الصيغة ونظمها. ونقول إن الموضوع كله من المتشابهات التي قال الله في آية سورة

تعليق على توبة آدم وحكمة ذكرها

آل عمران السابعة: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ. ونقول كما أوجبت الآية: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ونقف عند ذلك ثم نستشف الحكمة من الصيغة وهو ما قلناه هنا. وفي سياق قصة آدم في السورة الأخرى. وهو ما نرجو أن يكون فيه إنشاء الله الصواب والسداد والله أعلم، وندعو الله أن لا يؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا. تعليق على توبة آدم وحكمة ذكرها ولقد روى المفسرون «1» روايات عديدة عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربّه ليتوب عليه منها جملة: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ الأعراف: [23] الواردة عن لسانهما في سورة الأعراف ومنها عبارات أخرى مماثلة ومنها أن آدم سأل ربه إن كان له توبة فقال له نعم فدعا ربه تائبا مستغفرا. ومنها رواية غريبة وهي أن الله علّم آدم أركان الحج وأمره بالطواف حول مكان الكعبة الذي كان ربوة حمراء سبعا ثم بصلاة ركعتين وطلب المغفرة. وليس لكل ما رووه سند وثيق، وليس من طائل في التخمين في أمر مغيب. وقد أخبرنا الله في الآيات أنه ألهمه أن يتوب عن ذنبه ففعل فتاب وتاب عليه، وكفى. ونكرر هنا ما قلناه في سياق القصة في سورة طه من أنه قد تبادر لنا من حكمة ذكر قبول الله لتوبة آدم الرد على ما كان النصارى وما زالوا يعتقدونه من عقيدة عجيبة وهي تسلسل خطيئة آدم في ذريته من بعده وكون الله إنما أرسل ابنه الذي هو نفسه سبحانه وتعالى بعد مدة طويلة ليفتدي بني آدم من خطيئة أبيهم!. ومفسرو الشيعة يروون روايات عديدة على هامش آيات القصة، من ذلك أن الشجرة التي نهى الله آدم وحواء عنها هي شجرة علم محمد وآل محمد الذين آثرهم

_ (1) انظر تفسير الآيات في الخازن والطبري وابن كثير وغيرهم.

[سورة البقرة (2) : الآيات 40 إلى 48]

الله عز وجل بها. وأن محمدا وعليا وفاطمة والحسن والحسين كانوا يأكلون منها فلا يحسون بجوع ولا عطش ولا نصب ولا تعب. ومن ذلك إن الله إنما أمر الملائكة بالسجود لآدم لأنه كان في صلبه أنوار النبي وآله المعصومين المفضلين على الملائكة. ومن ذلك أن آدم رأى على العرش أسماء يتلألأ النور منها فسأل فقيل إنها أسماء أجلّ الخلق عند الله محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين فتوسل بهم إلى ربّه فقبل توبته. وطابع الصنع والهوى الحزبي بارز على هذه الروايات العجيبة التي يبدو منها شدة استغراق رواة الشيعة في الحزبية العمياء مهما بدا فيما يروونه من صنعة وغرابة «1» . [سورة البقرة (2) : الآيات 40 الى 48] يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) . (1) إنها لكبيرة: بمعنى إنها لشاقة أو ثقيلة أو مستثقلة. (2) يظنون: هنا بمعنى يتوقعون أو يتيقنون. (3) عدل: هنا بمعنى بدل معادل.

_ (1) انظر كتاب التفسير والمفسرون للذهبي ج 2 ص 91 و 92 و 93 و 161 و 162 وانظر تفسير الطبرسي الذي نقلنا عنه بعض الروايات أيضا.

تعليق على أولى الحلقات الواردة في يهود بني إسرائيل في العهد المدني

تعليق على أولى الحلقات الواردة في يهود بني إسرائيل في العهد المدني هذه الآيات بداية سلسلة طويلة في بني إسرائيل ومواقفهم من الدعوة الإسلامية. ولم نطلع على رواية خاصة بنزول هذه البداية، وتوجيه الكلام فيها إلى بني إسرائيل بدعوتهم إلى الإيمان بالنبي والقرآن قد يدل على أنها أول ما نزل من قرآن مدني في اليهود كما أن وضعها بعد الآيات السابقة قد يدعم هذه الأولية. بل ويجوز أن تكون قد نزلت بعد الآيات السابقة مباشرة فوضعت بعدها. وتدل كذلك على أن اليهود وقفوا موقف الجحود من الدعوة النبوية منذ بدء العهد المدني. وقد تكون بمثابة استطراد إلى ذكر اليهود ومواقفهم من هذه الدعوة بعد وصفهم في فصل المنافقين بأنهم شياطين المنافقين وقد يصح أن يضاف إلى هذا أن الآيات السابقة قد احتوت بيان حالة ثلاث فئات من الناس من الدعوة الإسلامية في أوائل العهد المدني وهم المؤمنون والكفار المشركون والمنافقون فجاءت هذه الآيات لبيان حالة فئة أخرى وهي الكتابيون. ولما كان اليهود هم الفئة الأكبر عددا والأرسخ قدما والأوسع حيزا ونفوذا في المدينة فقد اقتضت حكمة التنزيل أن يدار الكلام عليهم. وكل هذا يجعل الصلة بين هذه الآيات وسابقاتها قائمة. ولقد احتوت الآيات: 1- تذكيرا مكررا بأفضال الله على بني إسرائيل. 2- وإهابة لهم للوفاء بعهده حتى يوفي لهم بعهده مع اتقاء غضبه. 3- وأمرا بالإيمان برسالة النبي والقرآن مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والركوع مع الراكعين دون انفراد. 4- ونهيا عن أن يكونوا من أول الكافرين بها ابتغاء أعراض الدنيا التافهة وعن تشويه الحق بالباطل وكتمه مع معرفتهم به حق المعرفة. 5- وتنديدا بأسلوب السؤال الاستنكاري عما إذا كان يصح مع دعواهم

العقل أن يأمروا الناس بالبر والعمل الصالح وينسون أن يفعلوا هم ذلك وهم يعرفون مدى ما في هذا من مناقضة لأنهم يقرأون الكتاب ويعلمون منه الحق والواجب. 6- ودعوة لهم إلى اتقاء غضب الله في اليوم الآخر يوم لا تجزى فيه نفس عن نفس ولا يقبل في أحد شفاعة والتماس ولا يؤخذ من أحد بدل ولا يجد أحد نصيرا له من دون الله. وقد تضمنت الآيتان الخامسة والسادسة [44 و 45] وهما تأمرانهم بالاستعانة بالصبر والصلاة تقرير كون الاعتراف بالحق والتزامه وإن كان شاقا على الطبع إلّا أن ذلك ليس على الناس الخاشعين لله المعترفين له الذين يوقنون أنهم ملاقوه وراجعون إليه والمفروض أنهم منهم. ولقد روى المفسرون «1» عن أهل التأويل بيانات توضيحية لمدى بعض الآيات. من ذلك أن النعمة التي يذكرهم الله بها هي ما كان من تنجيتهم من آل فرعون وما أغدقه الله عليهم من منح. وهذا حق وقد حكته آيات مكية عديدة وحكته آيات في السلسلة من باب التذكير والتنديد. ومن ذلك أن العهد الذي طلب منهم الوفاء فيه هو الميثاق الذي أخذه الله منهم بالاستقامة على توحيد الله والتزام أوامره ونواهيه والإيمان برسله. وهذا حق أيضا وقد حكته آيات مكية عديدة. ومن ذلك أن جملة وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ هي في صدد ما يعلمونه من كون رسالة النبي محمد حق وهذا حق أيضا وقد حكته عنهم وعن أهل الكتاب عامة آيات مكية عديدة. ولقد تعددت أقوال المؤولين في صدد جملة وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ بسبب ما يبدو فيها من إشكال من حيث إن اليهود ليسوا في الواقع أول الكافرين بالقرآن وبالرسالة المحمدية، فمن ذلك أنها بمعنى لا تكونوا أول كافر به من أهل الكتاب، ومن ذلك أنها في مقام التنديد بهم لأنهم أولى أن يكونوا أول المؤمنين ولا يصح أن يكونوا من أول الكفار به حينما هاجر النبي إلى المدينة التي كانت مقرّ

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والخازن والبغوي وابن كثير والطبرسي. [.....]

تلقينات الآيات الواردة في حق اليهود [40 - 48]

كتلتهم الكبرى في الديار الحجازية. وكلا القولين وجيه وإن كان المتبادر أن القول الأول أوجه على ضوء الآيات المكية العديدة التي حكت فرح أهل الكتاب وإيمانهم وتصديقهم واعترافهم بأن رسالة محمد حق والقرآن منزل من الله بما جاء في آيات الأنعام [20 و 114] والأعراف [157] والرعد [36] والإسراء [107 و 108] والقصص [52- 55] والعنكبوت [48] والأحقاف [10] . ومضمون الآيات وأسلوبها يلهمان أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وجه الدعوة إلى اليهود على أثر هجرته إلى المدينة فلم يقابلوا الدعوة مقابلة حسنة وحاولوا تشكيك الناس فيها وصرفهم عنها والمكابرة فيها مع يقينهم بصحتها وصدقها وتطابقها بالأسس مع ما عندهم ثم تحالفوا مع المنافقين ضدها واستغلوا حركة النفاق استغلالا كبيرا فاستحقوا التنديد والإنذار والزجر الذي احتوته الآيات. تلقينات الآيات الواردة في حق اليهود [40- 48] ومع أن الآيات هي بسبيل بيان موقف اليهود والتنديد به فإنها احتوت تلقينات جليلة مستمرة المدى لكل مسلم في كل وقت. سواء في التنبيه على ما في كتم الحق وتشويهه بالباطل والمكابرة فيه عن تعمد وعلم ونبذ آيات الله لقاء منافع دنيوية من إثم ديني وأخلاقي، أم ما في أمر المرء غيره بالخير والمكرمات ومناقضته لذلك في خاصة نفسه، أم ما في نسيان فضل الله وجحوده من مثل ذلك، وفي وجوب اجتناب ذلك أيضا. وفي الآيتين الخامسة والسادسة ينطوي تلقين جليل فيه معالجة روحية رائعة وهي التنبيه على ما في الصلاة من التوجه إلى الله وذكره والخشوع له والخوف منه والتحلي بالصبر في سبيل مرضاته من أسباب طمأنينة النفس وإلانة الطبع وجعل الإنسان يعترف بالحق ولا يماري فيه مهما كان ذلك شاقا. وقد تكرر هذا في مواضع عديدة من السور المكية ونبهنا على ما فيه من مثل هذه المعالجة الروحية.

حيث يتسق القرآن المدني مع القرآن المكي في هذا كما يتسقان في كل شأن آخر وإن اختلف الأسلوب اختلافا اقتضته طبيعة كل من العهد المكي والعهد المدني على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة أيضا. وهناك أحاديث نبوية أوردها ابن كثير في سياق الآيات فيها تلقينات متسقة مع التلقينات التي انطوت في الآيات، منها حديث رواه الطبراني عن عبد الله قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: مثل العالم الذي يعلّم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه» . وحديث رواه الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار قلت من هؤلاء؟ قال: خطباء أمّتك من أهل الدنيا كانوا يأمرون الناس بالبرّ وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب» «1» . وحديث رواه الإمام أحمد أيضا عن أسامة قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق به أقتاب فيدور بها في النار كما يدور الحمار بالرّحى فيطيف به أهل النار فيقولون يا فلان ما أصابك ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر فيقول كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه» «2» . وحديث رواه الطبراني عن ابن عمر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل في سخط الله حتى يكفّ أو يعمل ما قال أو دعا إليه» . وحديث رواه البخاري عن سمرة بن جندب جاء فيه: إن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رأى في منامه رجلا يشدخ رأس رجل وكلّما التأم جرحه عاد فشدخه فسأل عنه فقيل له إنه رجل علّمه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل به في النهار» «3» وحديث رواه الترمذي وابن ماجه عن كعب بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من طلب العلم ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار» «4» . وحديث رواه الترمذي وابن

_ (1) أورد ابن كثير هذا الحديث من طرق عديدة أخرى عزوا إلى ابن مردويه وابن حبان وابن أبي حاتم. (2) روى هذا الحديث البخاري ومسلم وأبو داود أيضا، انظر التاج ج 5 ص 203. (3) التاج ج 4 ص 275- 277 والحديث طويل. (4) التاج ج 1 ص 65 والمتبادر أن المقصد من الحديث الأخير هو استغلال العلم في ما لا يرضي الله تعالى أو في معصيته أما من يتعلم العلم وينتفع به في شأن من شؤون الدنيا المباحة ولا يكون في ذلك معصية ولا إهمال لجانب الله وتقواه فالمتبادر أنه لا يدخل في شمول الإنذار النبوي والله أعلم.

جنسية يهود الحجاز الذين وجه إليهم الخطاب في الآيات

ماجه أيضا عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من تعلّم علما لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار» «1» . جنسية يهود الحجاز الذين وجه إليهم الخطاب في الآيات هذا، وفي توجيه الخطاب القرآني إلى بني إسرائيل دلالة حاسمة على أن اليهود الذين كانوا في المدينة وحولها إسرائيليون أصلا وطارئون على الحجاز. وفي القرآن دلالات كثيرة على ذلك أيضا منها هذه الآية في سورة الأنعام: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) والآية تخاطب العرب وتذكر ما كانوا يقولونه حيث كانوا يقولون إن الكتب السماوية الأولى هي بلغة غير لغتهم وأن الذين يقرأونها إنما يقرأونها بلغتها الأصلية وحيث ينطوي في هذا أن اليهود كانوا لا يزالون يعرفون لغة آبائهم الأصلية ويقرأون كتبهم بها. ومنها ربط أخلاق يهود الحجاز هؤلاء بأخلاق آبائهم ومواقفهم القديمة ومخاطبتهم كسلسلة متصلة بعضها ببعض مما احتوته الآيات التي تلي هذه الآيات من السلسلة الطويلة. والأسماء المأثورة من أسمائهم عبرانية. ولقد تسمى بعضهم بأسماء عربية غير أن أسماء آبائهم التي تذكر معهم على ما هو المعتاد عند العرب من ذكر الأب والجد مع اسم الشخص عبرانية «2» . ولقد ذكر ابن

_ (1) انظر المصدر السابق نفسه. (2) مثال على ذلك ما أورده ابن هشام من أسماء (عبد الله بن صوريا- ثعلبة بن شعيا، رفاعة بن زيد بن التابوت- نعمان بن آصى إلخ اقرأ سيرة ابن هشام ج 2 ص: 140 و 142 و 149 و 151 و 152 و 157 و 160 و 161 و 163. وفي سياق الآيات في الطبري أسماء لأشخاص منهم عبرانية مثل يامين وبنيامين وعازر وآزر وأشيع وصوريا إلخ.

سعد في طبقاته «1» أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أرسل سرية لقتل أبي رافع بن أبي الحقيق في خيبر، وقد اختير رئيسا لها عبد الله بن عتيك لأنه كان يرطن باليهودية أي يعرف العبرانية لغة اليهود. حيث يدل ذلك على أن اليهود كانوا ما يزالون يتكلمون في ما بينهم بلغتهم الأصلية أيضا وبالتالي يدل على أنهم إسرائيليون. وهناك حديث رواه الترمذي بسند صحيح عن زيد بن ثابت قال: «أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أتعلّم له كتاب يهود، قال: إني والله لا آمن يهود على كتاب. قال فما مرّ بي نصف شهر حتى تعلّمته، فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت لهم وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم» . حيث يفيد هذا أن المكاتبات كانت تجري بين النبي وبينهم باللغة العبرانية. وهناك حديث آخر رواه البخاري عن أبي هريرة قال: «كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسّرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا آمنّا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط ... » حيث يفيد هذا بصراحة أن اليهود كانوا يحتفظون بأسفارهم باللغة العبرانية ويقرأونها بها ولا يمكن أن يكون هذا إلّا إذا كانوا عبرانيين أي إسرائيليين. والمتبادر من وقائع التاريخ القديم أنهم جاءوا من فلسطين في القرنين الأول والثاني بعد الميلاد على أثر الضربة الشديدة التي أنزلها بهم الرومان سنة 70 ب. م، والتي شتتت من بقي حيا منهم في آفاق الأرض، وقد نزلوا في المدينة وأماكن أخرى في طريق يثرب- الشام مثل وادي القرى، وخيبر، وفدك، ومقنا، والحرباء وتيماء. وقد امتلكوا الأرضين فيها واستثمروها وأنشئوا كثيرا من بساتين النخل والعنب بالإضافة إلى الزراعات الموسمية واشتغلوا بالتجارة والصناعة والرّبا. وقد شادوا الحصون والقلاع ليكون لهم بها منعة في الوسط الجديد الذي حلوا فيه والذي كان مباءة تجوال القبائل العربية. وتعلموا اللغة العربية والعادات

_ (1) طبقات ابن سعد ج 3 ص 134.

العربية واستطاعوا بما كان لهم من أموال ونشاط زراعي وتجاري وصناعي ومعارف دينية وغير دينية أن يحتلوا في نفوس العرب وبيئتهم مكانة وأن يصبحوا عندهم ذوي نفوذ وتأثير. وننبه على أننا لا نريد أن ننفي أن يكون بعض عرب الحجاز قد تهودوا بتأثيرهم. غير أن ما يروى من أنه كان في الحجاز قبائل عربية متهودة، أو أن قبائل اليهود في المدينة بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، كانت أو كان بعضها عربا غير صحيح ويؤيد ذلك الوقائع والأحوال التي ذكرناها. وبخاصة توجيه الخطاب ليهود المدينة باسم بني إسرائيل. على أن من الحقائق التاريخية المؤيدة بالآثار القديمة أن اليهودية قد تسربت من إسرائيليي الحجاز إلى اليمن في القرن الخامس بعد الميلاد واعتنقها بعض ملوك حمير وقبائلها «1» ، غير أنها توارت عن اليمن فيما نعتقد بعد غزو الأحباش النصارى لليمن في أوائل القرن السادس بعد الميلاد واستيلائهم عليها. وكان من أسباب هذه الغزوة اضطهاد ملك حمير وحكومته المتهودون نصارى اليمن ومحاولتهم إجبارهم على اعتناق اليهودية على ما شرحناه في سياق سورتي الفيل والبروج شرحا يغني عن التكرار. ونعتقد أن الأحباش طاردوا اليهودية واليهود وطردوهما عن اليمن أو أبادوهما. ومن الأدلة على ذلك أن الروايات لم تذكر شيئا عن وجود اليهود في اليمن في زمن بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم والخلفاء الراشدين. ولقد أثر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم حديث جاء فيه: «أخرجوا اليهود من الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب» كآخر وصية له. وروى الإمام أبو يوسف في كتاب الخراج «2» أن عمر بن الخطاب أجلى عن اليمن نصارى نجران وعن الحجاز اليهود عملا بهذه الوصية ولم يرد شيء عن إجلاء يهود عن اليمن. وكل هذا يدعم ما قلناه. واليهود الذين كانوا

_ (1) انظر تاريخ العرب قبل الإسلام، لجواد علي ج 3 ص 150- 273 وكتابنا تاريخ الجنس العربي ج 5 ص 88 وما بعدها. (2) ص 29 و 40 و 42 وانظر أيضا فتوح البلدان للبلاذري ص 29- 41 و 70- 75 وطبقات ابن سعد ج 2 ص 119- 121 وابن هشام ج 4 ص 345.

[سورة البقرة (2) : الآيات 49 إلى 61]

إلى عهد قريب في اليمن هم على الأرجح من مهاجري اليهود في العهود الإسلامية. والغالب أنهم ممن أجلي عن الأندلس بعد استيلاء الأسبان عليها حيث انتشروا في بلاد العرب من شمال افريقية إلى جنوب آسيا. ونكتفي الآن بما تقدم عن اليهود على أن نزيد أحوالهم وأخلاقهم ومواقفهم شرحا في المناسبات الآتية. [سورة البقرة (2) : الآيات 49 الى 61] وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61) .

تعليقات على الحلقة الثانية من الآيات الموجهة إلى بني إسرائيل في المدينة [47 - 57]

(1) بلاء: هنا بمعنى اختبار وامتحان. (2) الفرقان: تعبير يراد به ما في كتاب الله من بيان وتفريق بين الحقّ والباطل والهدى والضلال. (3) ظللنا عليكم الغمام: جعلنا السحاب ظلا عليكم يمنعكم من حرّ الشمس. (4) وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون: تقديرها وما آذونا أو ما أضرونا بكفرهم وعنادهم وتعجيزهم وإنما آذوا وأضروا أنفسهم. (5) رجزا: عذابا. (6) لا تعثوا: لا تتمادوا ولا تسعوا. (7) البقل: هو الخضرة مطلقا. (8) فومها: قيل بمعنى الحنطة وقيل بمعنى الثوم. (9) مصرا: تعددت الأقوال في تخريج ورود هذه الكلمة منونة مصروفة مع أنها جاءت في سور مكية غير منونة وغير مصروفة. وأوجه الأقوال أنها في السور المكية عنت القطر المعروف وأنها هنا عنت ما تعنيه الكلمة لغة وهو المدينة مطلقا أو المكان المعمور مطلقا. تعليقات على الحلقة الثانية من الآيات الموجهة إلى بني إسرائيل في المدينة [47- 57] هذه حلقة ثانية من السلسلة الطويلة النازلة في بني إسرائيل ولم نطلع على رواية خاصة بنزولها. والمتبادر أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة لتربط كما هو

المتبادر بين ما بدا من يهود المدينة من كفر ودسائس وتعطيل للدعوة المحمدية بما كان من بني إسرائيل أجدادهم الأولين من مواقف وأخلاق ولتهيب بهم بأن لا يكرروا تاريخهم ويعرضوا أنفسهم لنكال الله وانتقامه. ومن المحتمل أن تكون نزلت مع الآيات السابقة في سلسلة واحدة أو عقبها بعد فترة ما والله أعلم. وعبارتها واضحة، وقد تضمنت بعض وقائع بني إسرائيل في زمن موسى عليه السلام وبعده وتذكير اليهود السامعين بما كان من أفضال الله على آبائهم وبما كان من هؤلاء الآباء إزاء هذه الأفضال من تمرد وجحود وكفر وعبادة عجل وحجاج ولجاج وقتل أنبياء ظلما وعدوانا، وبما كان من نكال الله لهم وضربه الذلة والمسكنة عليهم وتعرضهم لغضب الله وسخطه. واستعمال ضمير المخاطب في توجيه الكلام حتى ليكاد يكون للسامعين مع أنه في صدد اليهود القدماء مما يقوي معنى التعقيب والربط والإهابة الذي استهدفته الآيات كما هو واضح. وينطوي فيه قصد بيان وتوكيد شدة اللحمة في الأخلاق والجبلة والمواقف بين القديمين والحاضرين. وهو أسلوب من أساليب الخطاب المألوفة في المواقف المماثلة وبخاصة في صدد التنديد بأفعال الأبناء المكروهة إذا كانت على وتيرة أفعال الآباء. وينطوي في ذلك توكيد بأن اليهود السامعين هم أنسال بني إسرائيل القدماء كما هو المتبادر. وفحوى الآيات وصيغتها تدلان على أن اليهود السامعين كانوا يخاطبون بأمور ووقائع معروفة عندهم ومتداولة فيما بينهم، وهذا مما يجعل الإنذار والتنديد أشد إلزاما وتأثيرا بطبيعة الحال، ولقد وردت الأحداث المذكورة فيها في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم وإن كان فيما ورد في هذه الأسفار مباينة في الأسلوب والجزئيات لما جاء في الآيات. ونحن نعتقد أن ما جاء في الآيات مما كان متداولا عند اليهود السامعين أو واردا في قراطيس أخرى عندهم ولم تصل إلينا، لأن هذا هو المتسق مع حكمة التنزيل التي استهدفت التنديد والزجر والتذكير بأحداث وأمور معروفة.

وبعض ما ورد في الآيات ورد في سياق قصص بني إسرائيل في السور المكية مثل الأعراف ويونس وطه والقصص مع اختلاف في الأسلوب حيث ورد في السور المكية في معرض التمثيل والتذكير للعرب، في حين ورد هنا في معرض التذكير لليهود والتنديد بهم. وهناك فارق آخر وهو أن الأسلوب هنا ليس قصصيا كما هو في السور المكية وإنما هو تقريعي وهذا منسجم مع الموقف الذي نزلت فيه وهو فارق يلحظ في ما نزل في شأن بني إسرائيل عامة، وبه يتميز الأسلوب المكي عن الأسلوب المدني. والجديد في هذه الآيات الذي لم يرد في السور المكية ما جاء في الآيات [55 و 56 و 61] والمتبادر أن المقصود بالطعام الواحد الذي أعلن بنو إسرائيل أنهم لا يصبرون عليه هو المنّ والسلوى، وشيء مما ورد في هذا وارد في سفر العدد من أسفار العهد القديم. ولقد أورد المفسرون روايات معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتابعيهم فيها تفصيل لما جاء في الآيات منها ما هو متطابق مع ما جاء في الأسفار ومنها ما لا يتطابق. ومنها ما فيه إغراب ومبالغة حتى لقد شغل ذلك في تفسير الطبري أربعين صفحة كبيرة. ولم نر طائلا لإيرادها مسهبة أو ملخصة لأنها غير متصلة بأهداف الآيات وإن كانت تدل على أن ما جاء فيها كان متداولا في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم. ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن القرية والسجود وقول (حطة) والتبديل الذي بدل بنو إسرائيل من القول مما جاء في الآيتين [58 و 59] وأوردوا بعض الأحاديث في ذلك. ولقد جاءت كل هذه النقاط في آيتي سورة الأعراف [161 و 162] فعلقنا عليها وأوردنا ما ورد في صددها من أقوال وأحاديث فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار. وننبه بمناسبة هذا الفصل التنديدي وما بعده من فصول وربطها بين حاضر اليهود وغابرهم على أن أسفار العهد القديم قد احتوت فصولا كثيرة عما كان من

انحرافات اليهود وآثامهم المتنوعة. وفيها صور بشعة جدا من ذلك. كما احتوت تنديدات شديدة وإنذارات قارعة وحملات عنيفة عليهم بسببها، منها ما هو مبلغ عن الله بواسطة موسى (عليه السلام) ومنها ما هو مبلغ عن الله بواسطة أنبيائهم بعد موسى، ومنها ما سجل عليهم من الأنبياء أنفسهم ومنها ما سجل به عليهم قتلهم الأنبياء وتكذيبهم لهم وعبادتهم العجل والأصنام والمعبودات الأخرى بصورة مستمرة وارتكابهم مختلف المنكرات والموبقات مما هو متسق في جوهره مع هذه الفصول «1» . والمتبادر من أسلوب الآية [61] أن جملة وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ليست استمرارا لحكاية قول موسى لهم وإنما هي تقرير رباني مباشر بأن الله كتب ذلك على مختلف أجيال بني إسرائيل من لدن موسى وما بعده نتيجة للمواقف اللجاجية والانحرافات الدينية والأخلاقية التي كانوا وظلوا يرتكبونها بما في ذلك تكذيب الأنبياء وقتلهم، وعصيان أوامر الله وعدوانهم حيث يكون في ذلك عقاب رباني ملازم لهم على مدى الدهر يشاهده بنو الإنسان جيلا بعد جيل منذ آلاف السنين. وفي كل زمن ومكان رغم ما قد يبدو من ظروف يتاح فيها لبعضهم أن يبرزوا في المجتمعات حيث لا يلبث المرء أن يكتشف أن ذلك مظهر سطحي وحسب فضلا عن أنه ليس إلا بالنسبة لأفراد وظروف وأن الكثرة الكاثرة منهم مسربلة دوما بذلك العقاب الذي كتبه الله عليهم. ولقد جاء هذا في آية سورة الأعراف هذه قويا حاسما وشاملا: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ ... [167] . هذا، ومع أن الآيات بسبيل التنديد باليهود ومواقفهم فمما لا ريب فيه أن فيها تلقينات عامة مستمرة المدى في تقبيح ما بدا من اليهود سابقا ولا حقا من انحرافات وآثام ومكابرة وتعجيز وجحود وكفر، وفي تعليل ما حل باليهود بسببه

_ (1) هذه التقريعات والإنذارات والتسجيلات مبثوثة في معظم الأسفار التي هي في متناول الجميع، اقرأ إذا شئت كتابنا تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم.

[سورة البقرة (2) : آية 62]

من عذاب وذلة ومسكنة وفي الإهابة بالمسلمين بتجنب ذلك، واعتبار ما كان من أمر اليهود دروسا يتعظون بها. وفي كتب التفسير تفصيلات طويلة في صدد القصة وجزئياتها معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتابعيهم «1» قد تدل على أن القصة كانت متداولة في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم مع حواش وشروح. وليس لهذا مصدر غير اليهود ولم نر طائلا في إيراد تلك التفصيلات أو تلخيصها لأن القصة كما هو واضح من أسلوبها لم تورد لذاتها وإنما وردت لبيان ما كان اليهود القدماء يجنحون إليه من لجاج. [سورة البقرة (2) : آية 62] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) . تعليق على آية إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ عبارة الآية واضحة، وفيها تقرير لرضاء الله عن من آمن بالله واليوم الآخر إيمانا صادقا وعمل الصالحات من أهل الملل المذكورة فيها وتبشير لهم. ولقد روى الطبري أن الآية نزلت جوابا على سؤال من سلمان الفارسي للنبي صلّى الله عليه وسلّم بعد إسلامه عن مصير قوم من النصارى أخبروه ببعثته وكان من الممكن أن يؤمنوا لو التقوا به. والمشكل في الأمر وضع الآية في سلسلة يعود ما قبلها وما بعدها إلى أحوال اليهود المعاصرين ومواقف الموجودين منهم في الحجاز من الرسالة الإسلامية وسيرة بني إسرائيل القديمة أولا، وكون اليهود بعد عيسى يعتبرون على ما تفيده نصوص قرآنية عديدة مثل آيات سورة آل عمران [52- 57] وآية سورة النساء [150] وآية سورة الصف [14] لأنهم كذبوا عيسى وكفروا به واستحقوا العذاب

_ (1) انظر تفسير الطبري الذي استغرقت هذه التفصيلات فيه اثنتين وعشرين صفحة.

ولم يعودوا يستحقون كيهود المصير المذكور في الآية إلّا إذا لم يكونوا مرتكبين المنكرات المعزوة إلى بني إسرائيل قديما وحديثا وماتوا كذلك قبل عيسى ثانيا وكون النصارى بعد بعثة النبي محمد يعتبرون كفارا إذ ظلوا يجحدون رسالته ولا يستحقون ذلك المصير كنصارى حتى لو لم يكونوا ممن سجل القرآن عليهم الكفر بقولهم إن الله هو المسيح ابن مريم أو إن الله ثالث ثلاثة أو إن المسيح هو ابن الله على ما تفيده آيات عديدة منها آيات سورة النساء هذه: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152) . ويقال هذا بالنسبة لليهود الذين بقوا على يهوديتهم بعد عيسى ثم بقوا عليها بعد بعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم بطبيعة الحال. ومثل هذا كله يقال بالنسبة للصابئين الذين لم يؤمنوا برسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم ولو كانوا متصفين بما وصفوا به في الآية. ولقد قال السيد رشيد رضا: إن الآية بمنزلة الاستثناء من حكم الآية السابقة لها لكل من اتصف بما جاء فيها. وقال ابن كثير: إن الله تعالى لما بيّن حال من خالف أوامره وارتكب زواجره نبّه على أن من أحسن من الأمم السابقة وأطاع فإن له الجزاء الحسن. وكلا القولين وجيه ووارد ويفيد أن من جهة أن الآية جاءت بمثابة استطراد واستثناء وهذا مألوف في النظم القرآني وقد يكون سؤال ما ورد على النبي صلّى الله عليه وسلّم من سلمان الفارسي بعد نزول الآية فتلاها النبي صلّى الله عليه وسلّم كجواب على السؤال الذي فيه سؤال عن حالة أناس صالحين من النصارى لم يدركوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فالتبس الأمر على الرواة وظنوا أنها نزلت لحدتها جوابا على السؤال. وهذا يجعلنا نرجح أن الآية في صدد بيان حالة اليهود الصالحين قبل بعثة عيسى وحالة النصارى الصالحين قبل بعثة محمد وحالة الصابئين قبل بعثة محمد كذلك والقرآن يتمم بعضه بعضا. ولما كان قد دعا جميع الناس بما فيهم اليهود والنصارى والصابئين

[سورة البقرة (2) : الآيات 63 إلى 66]

إلى الإيمان برسالة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وبالقرآن والانتهاء عن ما هم عليه من انحراف عن الدين الحق والطريق القويم بآيات عديدة منها ما مرّ في سورة البقرة وفي السور السابقة ومنها ما سوف يأتي بعد. ولما كان طوائف مختلفة فيها يهود ونصارى وصابئون قد فهموا ذلك وآمنوا برسالة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن على ما حكته آيات عديدة في سور مكية ومدنية مرّ بعضها وسيأتي بعضها بعد فلا يصح أن يوقف عند هذه الآية لحدتها وتؤخذ على ظاهرها ويتوهم متوهم أنها تنطوي على تقرير نجاة اليهود والنصارى والصابئين عند الله مع بقائهم على مللهم بعد البعثة النبوية إذا لم يؤمنوا بالنبي محمد والقرآن ويصبحوا من معتنقي الرسالة الإسلامية التي يمثلانها. وهناك حديث رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهوديّ ولا نصرانيّ ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» «1» . [سورة البقرة (2) : الآيات 63 الى 66] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) . تعليق على الحلقة الثالثة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل وهذه حلقة ثالثة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل في هذه السورة. وفيها وصل ما انقطع بالآية [62] التي جاءت استطرادية. وفيها استمرار للخطاب الموجه لبني إسرائيل السامعين في صدد ما كان من آبائهم من مواقف منحرفة بضمير الجمع المخاطب توكيدا للّحمة الوثيقة بين السامعين والآباء الغابرين بقصد

_ (1) التاج ج 1 ص 30.

الإنذار والتحذير من أن يكرروا مواقف وانحرافات أولئك الآباء. ومن الممكن أن تكون نزلت بعد سابقاتها مباشرة أو بعد فترة ما فوضعت بعدها. وعبارتها واضحة، وقد تضمنت حكاية ما كان من رفع الله الطور فوق بني إسرائيل وأخذه عليهم الميثاق بأن يتمسكوا بما أنزل الله إليهم من وصايا وتعليمات بقوة، ويظلوا يحافظون عليه ويذكروه حتى يتقوا غضب الله وما كان من انحرافهم عنه، وتذكيرا بالذين احتالوا في يوم السبت واعتدوا على حرمته من أولئك الآباء وما كان من غضب الله عليهم ومسخه إياهم قردة ليكون ذلك نكالا للمنحرفين في كل وقت وعبرة وموعظة للمتقين. وأسلوب الآيات كأسلوب ما سبقها يلهم أن اليهود المخاطبين يسمعون أمورا معروفة متداولة بينهم عن آبائهم مما فيه توثيق لقوة الإنذار والتحذير لهم. ولقد روى الطبري عن مجاهد أن الله رفع فوقهم الطور بقصد قذفه عليهم لأنهم أبوا أن ينفذوا أمره فيدخلوا الباب سجدا ويقولوا حطة. وعن ابن عباس أن الله أنذرهم بقذف الجبل عليهم إذا لم يلتزموا بميثاقه. وروح العبارة تفيد أن الله رفع فوقهم الجبل فعلا. وهذا وارد في الآية [171] من سورة الأعراف. وعبارة هذه الآية تفيد أن ذلك كان من قبيل إظهار معجزة لهم حينما أمرهم بإطاعته والتزام وصاياه وعلى كل حال فالأسلوب التذكيري الذي وردت به العبارة القرآنية يفيد أن بني إسرائيل كانوا يسمعون أمرا واضح المدى في أذهانهم وواردا في بعض قراطيسهم على ما نبهنا عليه في سياق تفسير آية سورة الأعراف. وعدوان بني إسرائيل على السبت ومسخ المعتدين قردة مما ورد في سورة الأعراف، وقد علقنا على ذلك بما يغني عن التكرار. والمتبادر أن جملة فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ قد عنت ما كان من عفو الله عنهم وتوبته عليهم بعد انحرافهم إلى عبادة العجل في حياة موسى ولجاجهم معه مما ذكر في الآيتين [52 و 54] من آيات الحلقة الثانية وما كان بعد ذلك من صلاح أحوالهم واستقامة أمورهم ردحا من الزمن.

[سورة البقرة (2) : الآيات 67 إلى 74]

هذا ومع أن ما في الحلقة هو في صدد بني إسرائيل فإن فيما احتوته تلقينا مستمرا للمسلمين أيضا كما هو شأن الحلقات السابقة سواء في وجوب التمسك بتعاليم الله وعدم الانحراف عنها، أم في عدم الاحتيال عليها. [سورة البقرة (2) : الآيات 67 الى 74] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) . (1) فارض: هي البقرة المسنة. (2) بكر: هي البقرة الفتية. (3) عوان بين ذلك: متوسطة أو متناصفة في العمر. (4) ذلول: بمعنى متمرنة على العمل مذللة له. (5) تثير الأرض: تحرث الأرض. (6) ولا تسقي الحرث: أي لا تستخدم في عملية إرواء الأرض. (7) مسلّمة لا شية فيها: صافية ليس فيها بقعة ما: أي هي صفراء تمام الصفرة.

تعليق على الحلقة الرابعة من سلسلة الآيات الواردة في السورة عن بني إسرائيل

(8) ادارأتم فيها: اختصمتم فيها وأنكرتموها وهي من درأ بمعنى منع وحجب وحال، وقيل بمعنى اختلفتم فيها. تعليق على الحلقة الرابعة من سلسلة الآيات الواردة في السورة عن بني إسرائيل وهذه رابع حلقة من السلسلة وعبارتها واضحة، وفيها حكاية قتل ومعجزة ربانية حيث قتل بعضهم شخصا وتنصلوا من قتله أو اختلفوا واختصموا فيه فطلب موسى بأمر الله منهم أن يذبحوا بقرة ويضربوا القتيل ببعضها ففعلوا فأحياه الله. وقد حكت الآيات في سياق حكاية ذلك ما كان من لجاج اليهود وكثرة مراجعاتهم حتى شقوا بذلك على أنفسهم بأسلوب فيه تنديد وتقريع. فقد أمروا بذبح بقرة ما، وكان يجزيهم أن يذبحوا أية بقرة. وقد انتهت الآيات بذكر ما كان بعد الحادث من قسوة قلوبهم بدلا من أن تلين لمعجزة الله حتى صارت أقسى من الحجارة التي منها ما يلين فيتفجر من خلاله الأنهار ويتشقق فيخرج من خلاله الماء ويهبط من خشية الله، ثم بتقرير كون الله غير غافل عن أفعالهم بأسلوب ينطوي على التنديد أيضا وأسلوب الآيات التذكيري مثل أسلوب سابقاتها من السلسلة فيجوز أن تكون نزلت معها أو بعدها بفترة ما والله أعلم. ولقد روى المفسرون «1» روايات عديدة عن القصة معزوة إلى ابن عباس وغيره من الصحابة والتابعين متفقة في الجوهر حيث أراد ابن أخ فقير استعجال موت عمّ له غني ليرثه فقتله ووضع جثته على باب دار رجل آخر ليحصل من ذلك على دية عنه أيضا زيادة في الطمع والإثم فكان شغب وكاد يقع قتال فأمر الله موسى أن يطلب منهم ذبح بقرة وضرب القتيل ببعضها ففعلوا بعد اللجاج فأحيا الله القتيل فسألوه عن قاتله فأشار إلى ابن أخيه ثم مات. وهذه القصة غير واردة في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم، وإن كان في

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن وابن كثير.

سفر التثنية المتداول اليوم والذي فيه تذكير بأحداث رسالة موسى وعهده شيء قد يمتّ إليها حيث احتوى الإصحاح الواحد والعشرون تشريعا في صدد القتيل الذي لا يعرف قاتله جاء فيه فيما جاء أن يكسر عنق بقرة لم يحرث عليها ولم تجر بالنير في واد لم يفلح ولم يزرع ويغسل جميع شيوخ القرية أيديهم على العجلة المكسورة العنق ويقولون أيدينا لم تسفك هذا الدم وعيوننا لم تر ويسألون الله الغفران. على أن أسلوب الآيات وهي توجه الخطاب إلى السامعين من بني إسرائيل- كأنما هم الفاعلون وليسوا آباءهم- وتندد بهم وتصف لجاجهم وقسوة قلوبهم بسبيل توكيد اللحمة بينهم وبين آبائهم الغابرين أفعالا وأخلاقا ونسبا يدل على أنها تساق إلى قوم يعرفونها وعلى أنها كانت مذكورة في بعض قراطيسهم التي لم تصل إلينا. وفي كتب التفسير تفصيلات كثيرة في صدد القصة وجزئياتها معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم حتى لقد استغرقت من تفسير الطبري اثنتين وعشرين صفحة كبيرة. وليس منها شيء وارد في كتب الصحاح وقد تدل مع ذلك على أن القصة كانت متداولة في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم مع حواش وشروح. وليس لهذا مصدر غير اليهود ولم نر طائلا في إيراد تلك التفصيلات ولو تلخيصا لأن القصة كما هو واضح من أسلوبها لم تورد لذاتها وإنما أوردت لبيان ما كان اليهود القدماء يجنحون إليه من لجاج ومشاقة إزاء ما كان يأمرهم الله به بلسان موسى حتى لقد كانوا يشقون على أنفسهم أو يجعلون الله يشق عليهم نتيجة لذلك. ثم لبيان ما كان من عدم اتعاظهم بآيات الله وقسوة قلوبهم بعد هذا الحادث، تلك القسوة الشديدة التي صورتها الآيات بأروع أسلوب وأقواه. وبمعنى آخر للتنديد بآباء اليهود السامعين والإهابة بالسامعين إلى عدم تكرار تاريخ هؤلاء الآباء وتحذيرهم من قسوة القلب التي كان عليها أولئك الآباء. وهكذا تتسق أهداف هذه الحلقة مع أهداف الحلقات السابقة. وكما قلنا في أعقاب الحلقات السابقة نقول هنا إن في القصة تلقينا مستمر

[سورة البقرة (2) : الآيات 75 إلى 82]

المدى سواء في التحذير من اللجاج والشقاق وتوريط النفس بهما أم في التحذير من قسوة القلب إزاء أوامر الله تعالى وآياته. ولم يترك مفسرو الشيعة قتيل بني إسرائيل القديم وبقرتهم بدون تخريف في مناسبتهما. فأوردوا أربع روايات «1» . في واحدة أن الله أوحى إلى موسى بأمر بني إسرائيل بالتوسل بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وآله عند ضربهم القتيل ببعض البقرة ليحييه لهم ففعلوا فأحياه الله. وفي واحدة أن القتيل توسل بعد أن أحياه الله بمحمد وآله أن يبقيه في الدنيا ويجزي أعداءه ويرزقه رزقا كثيرا طيبا فاستجاب له. وفي واحدة أن الله أوحى إلى موسى حينما يشتبه في قتل قتيل أن يحلف شيوخ المدينة التي وجد القتيل في أرضها بمحمد وآله الطيبين بأنهم لم يقتلوه ولم يعلموا قاتله. وفي رابعة أن البقرة الموصوفة في القرآن كانت عند شاب من بني إسرائيل رأى في منامه محمدا وعليا والحسن والحسين فأحبهما فقالوا له إننا بسبب هذا الحب سنسوق لك جزاءك في الدنيا فلا تبع بقرتك إلّا بملء جلد ثور من الدنانير، فتمسك ببقرته عملا بالوصية حتى حصل على ما بشر به!. وهم إلى هذا يسوقون الآيتين [72 و 73] للتدليل على صحة عقيدتهم في الرجعة أي رجعة علي والأئمة إلى الحياة على ما شرحناه في سياق آية سورة النمل [82] . [سورة البقرة (2) : الآيات 75 الى 82] أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82) .

_ (1) انظر التفسير والمفسرون للذهبي ج 2 ص 215 و 216. [.....]

تعليق على الحلقة الخامسة من سلسلة الآيات الواردة في السورة في بني إسرائيل

(1) من بعد ما عقلوه: من بعد ما فهموه. (2) بما فتح الله عليكم: قال المفسرون إن الجملة تعني ما يعرفونه من صفات النبي صلّى الله عليه وسلّم وصدق نبوته ودعوته. (3) أميون: فسر الكلمة بعض المؤولين بأنهم الذين لا يحسنون القراءة والكتابة. وعزا بعضهم إلى ابن عباس تأويلا آخر لها وهو الذين غير ضليعين في أمور الدين وكتبه. وللكلمة معان أخرى وأقوال في أصلها أوردناها في سياق تفسير الآية [157] من سورة الأعراف. (4) أمانيّ: قيل إنها بمعنى التمني والأمل بالعفو. وقيل إنها جمع أمنية بمعنى ما يشتهيه المرء ويطلبه وقيل إنها بمعنى القراءة الضعيفة. وقد وردت الكلمة في حلقة أخرى من السلسلة تفيد أنها التمني أو الظن، والذي نرجحه أنها في مقامها هنا بمعنى التخمين والظن بدليل جملة وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ الواردة في نفس الآية التي وردت فيها. (5) يكسبون: هنا بمعنى يجترحون من الإثم أو يقترفون. تعليق على الحلقة الخامسة من سلسلة الآيات الواردة في السورة في بني إسرائيل وهذه حلقة خامسة من سلسلة الآيات. وقد وجه الخطاب في الآية الأولى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بأسلوب سؤال يتضمن التقرير بأن طمعهم في إيمان اليهود

في غير محله. ثم أخذت الآيات تعدد أفعالهم وأقوالهم ومواقفهم للبرهنة على فقد أي أمل في إيمانهم: 1- فقد كان منهم من يسمع آيات القرآن ثم يحرفون ما سمعوا تعمدا بقصد التشويش والتعطيل والتشكيك بعد أن يكونوا عقلوه وفهموه. 2- وكان فريق منهم إذا التقى بالمؤمنين قالوا لهم آمنّا بأن ما جاء في القرآن حق مطابق لما عندنا، فإذا خلا بعضهم إلى بعض ندد بعضهم بهذا الفريق وقرعوهم وقالوا لهم إنكم بما تقولونه للمؤمنين عما عندكم من علم الله وكتبه تعطونهم حجة عليكم وبرهانا ضدكم عند الله. 3- ومنهم الأميون الجاهلون الذين لا يعلمون ما في الكتاب علما يقينيا ويتظاهرون مع ذلك بالعلم به وينسبون إلى كتاب الله ما ليس فيه أو يكتبون كتابات بأيديهم ويدعون أنها من كتاب الله قاصدين بذلك المنافع الخسيسة والقيم البخسة. 4- وكانوا يتبجحون بحظوتهم عند الله ويزعمون أن النار لن تمسهم إلّا أياما معدودة. وقد تخلل الآيات مقاطع فيها تنديد وإنذار جريا على الأسلوب القرآني: فالويل لهم مما يكتبون ويكذبون ويتبجحون وإنهم لعلى سخف وضلال لتجاهلهم أن الله يعلم ما يسرّون كما يعلم ما يعلنون. وهم إذ يقولون لن تمسّنا النار إلا أياما معدودة يقولون ذلك كأنما أخذوا عهدا من الله به فلم يعودوا يبالون بما يصدر منهم من آثام، فضلا عما في ذلك من افتراء على الله، لأن سنته وعدله يجريان دائما على أن من اقترف سيئة وأحاطت به خطيئة فهم من أصحاب النار خالدين فيها أيا كانوا وأن من آمنوا وعملوا صالحا فهم وحدهم أصحاب الجنة الخالدون فيها. وأسلوب هذه الحلقة التفاتيّ، فالحلقات الأولى خاطبت اليهود ونددت بهم وربطت بين مواقفهم ومواقف آبائهم. في حين أن هذه الحلقة التفتت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين لتذكرهم بما يقولون ويفعلون ولتبرهن لهم على أن الطمع في إيمانهم لا محل له مع هذه الأقوال والأفعال التي تصدر عنهم.

وقد يدل هذا على أن اليهود قد أسفروا عن وجوههم ووقفوا نهائيا موقف الجحود للدعوة الإسلامية ومناوأتها. والمتبادر أن ذلك كان تدريجيا، فالحلقة الأولى حكت جحودهم لنبوة النبي والقرآن، ولا بد من أن يكون ذلك بعد فترة ما من وصول النبي إلى المدينة. والمتبادر أن الحلقة الخامسة التي نحن في صددها قد نزلت بعد فترة ما من الحلقات السابقة لأنها تضمنت نتيجة لمواقفهم المتنوعة التدريجية والله أعلم. ولقد وقف المفسرون عند بعض عبارات الحلقة وأوردوا روايات عن المؤولين القدماء في صددها، وفي ما يلي ما رأينا فيه فائدة مع تعليقنا عليه: 1- في صدد جملة وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ حيث رووا أنها حكاية عن ما كان القدماء يفعلونه وأن الأحبار القدماء، كانوا يحرفون معاني التوراة مقابل رشاو تعطى لهم. والجملة تتحمل هذا بدون ريب غير أن جملة وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا المعطوفة عليها جعلتنا نرجح أن الصورة لليهود المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم. 2- في صدد جملة: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ رووا أن بعضهم كان يعترف للمسلمين بأن محمدا نبيّ حقا ولكنه مرسل للعرب. وأن آخرين نهوهم عن هذا الاعتراف لأن فيه على كل حال حجة عليهم كما رووا أن بعض المسلمين كانوا يسألونهم عن النبي وعن مطابقة ما جاء به مع كتبهم فكانوا يجيبونهم بإجابات إيجابية فنهاهم الآخرون عن ذلك. وفحوى العبارة وروحها متسقان مع هذه الروايات. 3- في صدد جملة: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً رووا أن اليهود تجادلوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا لن ندخل النار إلا أربعين ليلة ويستخلفنا قوم آخرون يعنون محمدا وأصحابه فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بل أنتم خالدون بها لا يخلفكم أحد وأنزل الله الآية. كما رووا أن اليهود كانوا يقولون إن مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وأن الله يعذب الناس يوم القيامة لكل سنة يوما فأنزل الله الآية. والرواية

استطراد إلى بيان أسباب تنكر اليهود للدعوة الإسلامية ومناوأتها وما ردده القرآن من فقد الأمل بإيمانهم بها

الأولى قد تكون أكثر انسجاما مع فحوى الآية مع القول أن الآية منسجمة مع حلقة السلسلة انسجاما تاما. فإذا كان لهذه الرواية أصل فيكون أنهم قالوا ما قالوه قبل نزول الحلقة فرد الله عليهم قولهم في سياق آيات الحلقة. وعلى كل حال فروح الآيات وفحواها يفيد أن اليهود كانوا يتبجحون بالعلم والمعرفة والحظوة عند الله وأن بعض المسلمين كانوا ينخدعون بذلك فيسألونهم عن أمور متنوعة فكانوا يجيبونهم بإجابات ينسبونها إلى كتب الله كذبا وتضليلا فاقتضت حكمة الله تنبيه المسلمين إلى ذلك. وهناك حديث يرويه البخاري عن أبي هريرة جاء فيه: «كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية لأهل الإسلام فقال رسول الله لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا آمنّا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربّهم» «1» . حيث ينطوي في الحديث تنبيه نبوي أيضا مع التنبيه على أن المتبادر من النهي في الحديث أنه لما لا يكون صدقه وكذبه معلوما علما يقينيا من السائل والمستمع. وأنه ليس فيه ما يمنع المسلم من التكذيب والتصديق إذا كان على علم يقيني بذلك والله أعلم. ومن المؤسف أن كثيرين من مفسري المسلمين برغم هذه التنبيهات دونوا كثيرا مما كان اليهود أو مسلمتهم يحدثون به من أحاديث فيها ما لا يصح أن يخفى عليهم من كذب وتناقض وغلوّ ومفارقات فكان من ذلك ما امتلأت به كتبهم مما عرف بالإسرائيليات التي شوشت أذهان المسلمين وما تزال تشوشها. استطراد إلى بيان أسباب تنكر اليهود للدعوة الإسلامية ومناوأتها وما ردده القرآن من فقد الأمل بإيمانهم بها لقد قلنا إن اليهود قد أسفروا عن وجوههم ووقفوا نهائيا موقف الجحود للدعوة الإسلامية ومناوأتها على ما تلهمه هذه الحلقة بل السلسلة باستثناء أفراد منهم

_ (1) التاج ج 4 ص 43.

آمنوا وحسن إسلامهم ونوهت بهم آيات سورة آل عمران [199] والنساء [162] فصار من المناسب الاستطراد إلى شرح أسباب ذلك فنقول إنهم ظنوا على ما يبدو أن يجعلهم النبي صلّى الله عليه وسلّم خارج نطاق دعوته معتبرين أنفسهم أهدى من أن تشملهم وأمنع من أن يأمل النبي صلّى الله عليه وسلّم دخولهم في دينه وانضواءهم إلى رايته بل كانوا يرون أن من حقهم أن ينتظروا انضمامه إليهم كما يمكن أن تلهمه آيات عديدة منها آية البقرة هذه: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) وهذه: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) وهذه: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) «1» ، ولا سيما حينما رأوه يصلي إلى قبلتهم ويعلن إيمانه بأنبيائهم وكتبهم بلسان القرآن ويجعل ذلك جزءا لا يتجزأ من دعوته ويتلو فيما يتلوه: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ الأنعام: [90] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ السجدة: [23- 24] وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ الجاثية: [16] فخاب ظنهم ورأوه يدعوهم في جملة الناس بل يختصهم بلسان القرآن أحيانا بالدعوة ويندد بهم لعدم إسراعهم إلى استجابتها ولموقفهم منها موقف الانقباض ثم موقف التعطيل والتناقض على ما جاء في الآيات [40- 44] من الحلقة الأولى فكان هذا على ما هو المتبادر باعثا على تنكرهم للدعوة وحقدهم على صاحبها منذ الخطوات الأولى من العهد المدني. ثم رأوا الناس قد أخذوا ينصرفون عنهم ويتخذون النبي صلّى الله عليه وسلّم مرجعهم الأعلى

_ (1) آيات البقرة هذه واردة في حلقة من حلقات هذه السلسلة، ولذلك يمكن القول إن ما جاء فيها يعبر عن أقوال اليهود وأن ذكر النصارى جاء فيها استطراديا.

ومرشدهم الأعظم وقائدهم المطاع فاستشعروا- حقا أو باطلا- بالخطر العظيم يحدق بمركزهم وامتيازاتهم ومصالحهم فاندفعوا في خطة التنكر والحقد والتامر والصدّ والتعطيل والتحالف مع المنافقين ثم مع مشركي العرب إلى نهايتها. ولقد كان من المتوقع على ما تلهمه آيات عديدة مكية ومدنية أن يجد النبي صلّى الله عليه وسلّم في اليهود سندا وعضدا وأن يكونوا أول من يؤمن به ويصدقه ويلتف حوله لما كان بين دعوته وأسس دينهم من وحدة، ولما احتواه القرآن من تقريرات متنوعة وكثيرة بأنه مصدق لما بين يديه وبأنه محتو حلّ المشاكل والخلافات التي يتعثر فيها الكتابيون وهم منهم باستشهاد الكتابيين على صحة رسالته استشهادا ينطوي على الثقة فيهم والتنويه بهم، ولما رآه من حسن استجابة الكتابيين وفيهم أناس من بني إسرائيل إلى دعوته واندماجهم فيها ووقوفهم منها موقف المصدق المؤمن المؤيد على ما احتوته آيات مكية عديدة أوردناها في مناسبات عديدة سابقة فلما رأى منهم ما رآه من الانقباض أولا والتنكر والصد وكتم الحق عن علم والتحالف مع الأعداء والدسائس والتشكيك تأثر تأثرا عميقا من خيبة أمله فيهم فرددته هذه الآيات وكثير غيرها في الحلقات السابقة والآتية. وهذا القول يصدق على معظم اليهود، لأن هناك آيات مدنية ومكية تفيد أن بعضهم- ومنهم علماء راسخون في العلم- قد استطاعوا أن يتغلبوا على مآربهم وأحقادهم فيؤمنوا بالرسالة المحمدية التي عرفوا أنها حق ويصدقوا بالقرآن الذي عرفوا أنه من عند الله على ما جاء في آيات سورة آل عمران هذه: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وآية سورة آل عمران هذه: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) ، وآية سورة النساء هذه: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ

تعليق على الآية بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون

مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) وآية سورة المائدة هذه: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) «1» ، وآية سورة الأحقاف المكية هذه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) . تعليق على الآية بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لقد وقف المفسرون عند هذه الآية من الحلقة واعتبروها شاملة المدى. وهذا وجيه لأن عبارتها مطلقة رغم كونها بسبيل الرد على اليهود وتكذيبهم. ولقد تعددت الأقوال التي يروونها عن أهل التأويل أو يقولونها من أنفسهم في صددها. من ذلك أن السيئة في الآية في معنى الشرك. وأن جملة وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ تعني استمراره في الشرك وعدم مفارقته له بالإيمان والتوبة. وهذا وجيه وصواب لأنه متسق مع وعيد الخلود في النار الذي جاء في الآية ومن ذلك أن السيئة تعني الكبيرة أيضا وأن مرتكب الكبيرة مخلد في النار وهذا قول المعتزلة. وهناك من قال إن خلود مرتكب الكبيرة في النار رهن باستحلاله لها، وهو الأوجه فيما هو المتبادر وهناك أحاديث نبوية تدعم هذا منها ما هو صحيح ومن ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يخرج من النار

_ (1) آيات سور آل عمران والنساء والمائدة وإن لم يكن فيها صراحة فإنها من سلسلة في حق بني إسرائيل كما جاء فيها بصراحة. وهناك آيات مدنية ومكية أخرى فيها خبر إيمان بعض أهل الكتاب لم يسبقها صراحة بأنهم من بني إسرائيل مع احتمال أن يكون منهم من بني إسرائيل مثل آيات سور القصص [52- 55] والإسراء [107- 108] والرعد [36] التي مر تفسيرها.

[سورة البقرة (2) : الآيات 83 إلى 86]

من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من إيمان ... » «1» . وحديث رواه الشيخان والترمذي أيضا عن أبي ذرّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أتاني جبريل عليه السلام فبشّرني أنه من مات من أمّتك ولم يشرك بالله شيئا دخل الجنّة. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق ... » «2» والمفروض على ضوء صراحة الحديث الأول أن يكون الشخص دخل النار على ذنوب ارتكبها وهو مؤمن ولم يستحلّها وهذا ينسحب على الزاني والسارق الذي يدخل الجنة إذا مات لا يشرك بالله كما هو المتبادر. لأن الحديث لا يقول إنه لا يعذب أو لا يدخل النار قطّ، وإنما يقول إنه يدخل الجنة. وهناك حديث رواه الخمسة عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يزني العبد حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب حين يشرب وهو مؤمن ولا يقتل وهو مؤمن» «3» . وشراح الحديث يحملون هذا الحديث على فرض أن يكون مرتكبو هذه الكبيرات وهم مستحلّون لها وهذا حقّ وصواب فيما هو المتبادر. أما الذنوب التي يتوب عنها أصحابها توبة صادقة ولو كانت من الكبائر فمن حقهم أن يأملوا عفو الله وعدم دخول النار بسببها. وهناك آيات كثيرة تفتح باب التوبة وتعد بغفران الله لكل فئة من المذنبين بما فيهم المشركون والمنافقون والمحاربون لله ورسوله والمفسدون في الأرض والزناة والسارقون والقاتلون إلخ إذا ما تابوا توبة صادقة على ما شرحناه في تعليقنا على موضوع التوبة في تفسير سورة البروج، والله أعلم. [سورة البقرة (2) : الآيات 83 الى 86] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) .

_ (1) التاج ج 1 ص 26 و 27. (2) انظر المصدر نفسه. (3) التاج ج 3 ص 5.

تعليق على الحلقة السادسة من سلسلة الآيات الواردة في السورة في بني إسرائيل

(1) قولوا للناس حسنا: بمعنى لتكن مخاطبتكم للناس بالحسنى. وقال المؤولون إن الجملة تشمل حسن التعامل مع الناس وقول الحق وفعل الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. (2) ثم أنتم هؤلاء: هنا في مقام المنادى، والتقدير ثم أنتم يا هؤلاء. (3) تظاهرون عليهم: تساعدون الغير عليهم. تعليق على الحلقة السادسة من سلسلة الآيات الواردة في السورة في بني إسرائيل وهذه حلقة سادسة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل في السورة، وفيها عود على بدء في مخاطبة بني إسرائيل التي انقطعت بالآيات الالتفاتية السابقة، وذكر انحرافاتهم والتنديد بهم وربط حاضرهم في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيئته بأسلافهم القدماء. وقد تضمنت تذكيرا بالعهود التي أخذها الله على بني إسرائيل وتنديدا بالحاضرين بسبب نقضهم لها: 1- فقد أخذ الله عليهم العهد بعبادته وحده وبالبرّ بالوالدين والأقارب واليتامى والمساكين، وبقول الحق والصدق وحسن التعامل مع الناس وإقامة

الصلاة وإيتاء الزكاة وأقروا بذلك وتعهدوا به ولكن أكثرهم نقض ولم يفعل بما عاهد الله عليه. 2- وقد أخذ الله عليهم العهد بالتضامن فلا يقتل بعضهم بعضا ولا يظاهر أحد منهم غريبا على أحد منهم فنقضوا العهد حيث سفك بعضهم دم بعض وأجلى بعضهم بعضا عن أرضه وظاهر بعضهم الغريب على بعض آخر بغيا وعدوانا. وفيما هم يفعلون ذلك وهو محرّم عليهم أصلا يناقضون أنفسهم ويفتدون الأسرى الذين أسرهم الغرباء بمساعدتهم ومظاهرتهم. وهكذا يكونون مؤمنين ببعض ما أمروا به وهو فك أسراهم من يد الغرباء وكافرين ببعض وهو سفك دم بعضهم وإجلاء بعضهم وأسر بعضهم والمظاهرة على بعضهم. ومن يفعل ذلك يستحق الخزي في الدنيا وأشد عذاب الله في الآخرة لأنه يكون بذلك قد سار سير من يرغب في منافع الدنيا وأعراضها دون أن يراقب الله ويذكر الآخرة وأهوالها. وبعبارة أخرى سير من يشتري دنياه بآخرته، ومثل هؤلاء لا يخفف عنهم عذاب الله ولا ينصرون في موقف من مواقفهم. والآيات قوية في تنديدها وإفحامها، وقد روى المفسرون «1» في صدد الآية [84] أن بني النضير وبني قينقاع من يهود يثرب كانوا حلفاء للخزرج وأن بني قريظة كانوا حلفاء للأوس. وكان بين الخزرج والأوس خلافات تجرّ أحيانا إلى القتال، فكان كل من فريقي اليهود يقاتل مع حليفه فيقتل بعضهم بعضا ويأسر بعضهم بعضا ويجلي بعضهم بعضا ويظاهر كل فريق حليفه نتيجة لذلك. وكانوا

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والخازن وابن كثير وغيرهم، وقد ذكر بعض هؤلاء أن بني قينقاع كانوا حلفاء الخزرج وأن بني النضير وبني قريظة كانوا حلفاء للأوس وهذا غلط فحلفاء بني قريظة هم الأوس أما بنو النضير وبنو قينقاع فقد كانوا حلفاء الخزرج. انظر الجزء الخامس من كتابنا تاريخ الجنس العربي ص 147 وما بعدها، وانظر فصلي المنافقين واليهود في الجزء السادس من هذا الكتاب على أن هؤلاء المفسرين قد صححوا غلطهم دون انتباه في سياق تفسير سورتي الحشر والأحزاب حيث ذكروا أن بني قريظة كانوا حلفاء الأوس، وبني النضير كانوا حلفاء عبد الله بن أبيّ الزعيم الخزرجي المنافق.

[سورة البقرة (2) : الآيات 87 إلى 96]

حينما تهدأ الحرب وتنعقد الهدنة يتعاونون على فداء الأسرى اليهود فيما بينهم. والرواية متسقة مع فحوى الآيات كما هو المتبادر. وفي ذلك صورة من صور الحياة الاجتماعية والسياسية اليهودية في البيئة العربية اليثربية وقرينة على ما كان من اندماج اليهود في الحياة العربية وتقاليدها أولا، وعلى قدم وجودهم في هذه البيئة ثانيا، وعلى أن اليهود لم يكونوا كتلة واحدة متضامنة، بل كانوا كتلا عديدة متعادية أيضا ثالثا. وذكر بني إسرائيل في الآيات في سياق الإشارة إلى مخالفات قبائل اليهود مع العرب قرينة بل دليل على أن هذه القبائل كانت إسرائيلية الجنس. وفي أسفار الخروج والعدد واللاويين وتثنية الاشتراع من أسفار العهد القديم حكاية وصايا كثيرة وصى الله بها بني إسرائيل بواسطة موسى (عليه السلام) واتخذ عليهم الميثاق بها. ومن جملة ذلك ما جاء في الآية الأولى حيث ينطوي في ذلك إفحام وإلزام لليهود في زمن النبي الذين نزلت الآيات فيهم. وكما انطوى في الحلقات السابقة تلقينات مستمرة للمسلمين انطوى في هذه الحلقة حيث تلقنهم وجوب القيام بعهد الله وميثاقه في كل ما أمر به من خير وبرّ ومعروف وحسنى وما نهى عنه من إثم وبغي وعدوان، والحذر من التناقض في ذلك، وما في هذا وذاك من دلالة على ضعف الإيمان والرغبة في منافع الدنيا العاجلة وعدم مراقبة الله مما يجعلهم يستحقون غضبه وعذابه. [سورة البقرة (2) : الآيات 87 الى 96] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96) .

(1) قفينا من بعده: أرسلنا من بعده. وأصل معنى قفينا أردفنا وراءه وفي قفاه. (2) غلف: قيل إنها بمعنى مسدودة. وقيل إنها بمعنى أوعية مملوءة لا محل للزيادة أو الاستزادة فيها. (3) لعنهم الله: اللعن في الأصل بمعنى الطرد والحرمان من الخير والجملة هنا استدراك تنديدي بمعنى وحقيقة أمرهم أن الله لعنهم وجعلهم موضع سخطه وغضبه ونقمته. (4) يستفتحون: يتفاخرون ويتعالون ويقولون إن الفتح والعاقبة لهم. (5) فباءوا: فعادوا. (6) قالوا سمعنا وعصينا: هذه حكاية حالهم على ما هو المتبادر، فقد تلقوا أمر الله ولكنهم عصوه بما بدا من انحرافاتهم. (7) أشربوا في قلوبهم العجل: تمكنت عبادة العجل في قلوبهم.

تعليق على الحلقة السابعة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل

(8) بمزحزحه: بمبعده. تعليق على الحلقة السابعة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل وهذه حلقة سابعة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل على سبيل التنديد، وقد ربط فيها بين أفعال بني إسرائيل في الغابر ومواقفهم الحاضرة في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم لتوكيد اللحمة الأخلاقية بين السابقين واللاحقين تبعا للحمة الجنسية كما كان الأمر والهدف في الحلقات السابقة. وقد جاء بعض آياتها على سبيل الحكاية عن الغابرين والحاضرين وبعضها بضمير الجمع المخاطب الذي يعود إليهم كما هو المتبادر من الآيات صراحة وضمنا. وقد تضمنت الآيات ما يلي: 1- لقد آتى الله موسى الكتاب لهدايتهم وتعليمهم ثم أرسل إليهم من بعده رسلا عديدين ثم أرسل عيسى مؤيدا بالمعجزات وروح القدس. فكانوا- أي بني إسرائيل الغابرين على ما يلهمه فحوى الآيات- كلما جاءهم رسول من عند الله لا يجاريهم في أهوائهم استكبروا عليه وخالفوه وكذبوه أو قتلوه. 2- وكانوا- أي- بني إسرائيل المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم على ما يلهمه فحوى الآيات كذلك- كلما تلا النبي صلّى الله عليه وسلّم عليهم آيات القرآن ودعاهم إلى التدبر فيها تجاهلوا وتصامموا وقالوا قلوبنا غير واعية لما تقول أو مملوءة فلا محل فيها لزيادة وأصروا على الجحود والكفر حيث يدل هذا على ضعف إيمانهم لأنهم لو كانوا مؤمنين إيمانا صادقا وتاما بما عندهم لما وقفوا هذا الموقف لأن ما يتلوه النبي صلّى الله عليه وسلّم عليهم هو متطابق مع ما عندهم وهكذا كفروا بما أنزل الله متطابقا مع ما عندهم فاستحقوا لعنة الله التي يستحقها الكافرون. 3- ولقد كانوا يستفتحون على العرب بما عندهم من علم ومعرفة فلما

جاءهم ما عرفوا أنه حق ومطابق لما عندهم كفروا وجحدوا وكان ذلك منهم بغيا وحنقا لكون الله ينزل من فضله على عبد من عباده من غير جنسهم وملتهم. وهكذا اشتروا الكفر بالإيمان ولبئس ما كان من بيع وشراء باؤوا بهما بعذاب الله المهين وغضبه الشديد المضاعف ولعنته المحيطة بالكافرين أمثالهم. 4- ولقد كانوا كلما قال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم آمنوا بما أنزل الله عليه قالوا نكتفي بما أنزل الله علينا ولسنا في حاجة إلى غيره. مع أن ما أنزل عليه هو متطابق مع ما عندهم والحق والمنطق يلزمانهم بالإيمان به لأنه حلقة من نفس السلسلة وصادر من نفس المصدر. 5- ولقد كان هذا شأن آبائهم من قبل فقد جاءهم موسى بالبينات فانحرفوا عنها ظالمين لأنفسهم وعبدوا العجل وقتلوا أنبياء الله بعد موسى ولقد أخذ الله منهم العهد والميثاق على أن يستمسكوا بما جاءهم من عند الله بكل قوة ويسمعوا إليه فقالوا سمعنا بأفواههم ولسان حالهم يقول عصينا لأنهم انحرفوا عما عاهدوا عليه وتمكنت عبادة العجل في قلوبهم. فلبئس هذا الإيمان الذي يتبجحون به إذا كان يأمرهم ويأمر آباءهم من قبل بما يفعلونه هم وبما كان يفعله آباؤهم قبلهم من المنكرات والانحرافات. وفي الآيات الثلاث الأخيرة تحدّ قوي لهم: 1- حيث تأمر النبي بأن يقول لهم إذا كانت الدار الآخرة ونعيمها لهم وحدهم من دون الناس كما يزعمون فليتمنوا الموت حتى يصيروا إليها: 2- وحيث تقرر أنهم لن يتمنوا الموت لأنهم يعرفون ما اقترفت أيديهم ويتيقنون في قرارة أنفسهم أن ما هم فيه بغي متعمد وأن الذي لهم عند الله هو ما للظالمين. وأنهم نتيجة لذلك أحرص على الحياة والرغبة عن الموت وما بعد الموت حتى إنهم ليفوقون في ذلك المشركين وحتى إن الواحد منهم ليتمنى أن يعيش ألف سنة ولكن هذا لن يجديهم نفعا ولن يجعلهم يفلتون من عذاب الله الذي

هو خبير بكل ما يفعلون، غير غافل عنه قد أحصاه عليهم وأعدّ لهم جزاءه. والتقريع والتنديد في هذه الحلقة عنيفان جدا، وهذا العنف متناسب مع ما تحكيه من انحراف الآباء والأبناء وكفرهم وبغيهم وقتلهم الأنبياء تارة، واستكبارهم وتكذيبهم تارة، وعبادتهم العجل ونقضهم عهد الله وميثاقه عمدا وبغيا مما يستثير النقمة والسخط حقا ويدل على ما كان لمواقف الحاضرين من أثر أو ما كان يتوقع لها من أثر في الأوساط العربية التي كان لهم فيها مركز ديني وثقافي. ولا سيما أن القرآن المكي كثيرا ما استشهد بالكتابيين- ومنهم بنو إسرائيل- على صحة الرسالة المحمدية والوحي القرآني وصدق صلتهما بالله. وفي الأسفار المتداولة اليوم صور كثيرة من مواقف اليهود القدماء فيها تكذيب وانحراف وتمرد وقتل أنبياء حيث ينطوي في ذلك أولا قصد تذكير اليهود السامعين بما كانوا يعرفونه من مواقف آبائهم والتنديد بهم لأنهم يكررون بمواقفهم الجحودية ما فعله أولئك الآباء، ويستحكم فيهم بذلك الإفحام والإلزام. وقد أورد المفسرون «1» في جملة وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أقوالا معزوة إلى بعض التابعين وتابعيهم، منها أن اليهود كانوا يتفاخرون على العرب بما عندهم من كتاب سماوي وبما هم عليه من دين سماوي فلما جاءهم ما هو متطابق مع ما كانوا يتفاخرون ويعرفون أنه حق كفروا به. ومنها أن اليهود كانوا يقولون للعرب حينما يشتد بينهم الجدل أو الخلاف إنه سوف يبعث قريبا نبي عربي، صفاته مذكورة عندنا وسنتفق معه عليكم ونقتلكم معه قتل عاد وإرم. والجملة تتحمل هذا وتتحمل ذاك وفي آية سورة الأعراف هذه: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ

_ (1) انظر تفسير الطبري وابن كثير والخازن والطبرسي والبغوي. وننبه على أن المفسرين أوردوا أقوالا أخرى مختلفة في الصيغة متفقة في الجوهر فاكتفينا بما لخصناه.

وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) ما قد يؤيد القول الثاني. ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن اليهود لما كفروا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وجحدوا رسالته قال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء: اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ونحن أهل شرك وتخبروننا أنه مبعوث وتصفونه لنا. فقال سلام بن مشكم من بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله الآية: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ... وعلى كل حال فإن الآية تقرر بصراحة أنه قد جاءهم ما عرفوا أنه الحق فكفروا به وأن الآية التالية لها تقرر أن ذلك إنما كان حسدا وبغيا وغيظا فاستحقوا الحملة العنيفة التي احتوتها الآيات. وآيات الحلقة بنوع خاص تدعم ما شرحناه من أسباب تنكر اليهود للدعوة المحمدية حيث كبر عليهم أن يبعث الله نبيا من غيرهم فيدعوهم إلى الانضواء إليه ويهدد بحركته ما كان لهم من مراكز ومصالح. ولقد روى الطبري عن أهل التأويل أن جملة فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ تنطوي على الإشارة إلى ما كان من كفرهم بالمسيح والإنجيل ثم بمحمد والقرآن فاستحقوا بذلك غضب الله المضاعف. وأن جملة: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ عنت ما كان من كفرهم بالإنجيل ثم بالقرآن. وإن جملة: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ عنت ما كان من مخالفتهم لما أنزل إليهم وقتلهم أنبياءهم الذين كانوا يبلغونهم أوامر الله. وأن التحدي بتمني الموت الذي أمر الله النبي بتوجيهه إليهم هو جواب على تبجحهم بأنهم أبناء الله وأحباؤه وأنهم الذين اختصهم الله بالجنة يوم القيامة، وجميع هذه التأويلات واردة وسديدة. وبعض آيات الحلقة تلهم أنها تتضمن حكاية مواقف حجاجية كانت تحدث من النبي واليهود قبل نزولها فتضمنت الآيات الإشارة إليها بسبيل الرد عليهم والتنديد بهم وتحديهم.

تعليق على جملة وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس

وخبر رفع الطور فوقهم ورد في الآية [170] من سورة الأعراف، وقد أوردنا في سياق ما روي عن أهل التأويل في صدده وعلقنا عليه بما رأيناه متبادرا، فنكتفي بهذا التنبيه بمناسبة ورود الخبر ثانية في هذه الحلقة. والآيات وإن كانت في صدد مواقف اليهود فهي كسابقاتها تنطوي على تلقين مستمر المدى للمسلمين، سواء في تقبيح التناقض بين الأقوال والأفعال أم المكابرة في الحق ومحاربته حقدا وغيظا وحسدا على أصحابه. أم عدم التمسك بعهد الله وميثاقه باتباع الحق وعمل المعروف والانحراف عن ذلك إلى البغي والجحود والعدوان. تعليق على جملة وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ في هذه الجملة موضوعان الأول: إتيان عيسى (عليه السلام) البينات، والثاني: تأييده بروح القدس. وفي صدد الأول فإن جمهور المفسرين على أن البينات هي المعجزات التي أظهرها الله على يد عيسى من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى وإخباره بأمور مغيبة وخلقه من الطين كهيئة الطير ونفخه فيه ليصير طيرا مما ورد بصراحة في آيات في سورة آل عمران والمائدة. وندع الكلام على ذلك إلى تفسير هاتين السورتين لأن ذلك أكثر مناسبة. وفي صدد الثاني نقول إن جملة: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ قد تفيد لأول وهلة أن هذا شيء خاص بعيسى (عليه السلام) ، ولقد تكررت هذه الصدقية في آية سورة البقرة [253] والمائدة [113] ، وننبه أولا على أن تعبير روح القدس قد ورد في آية سورة النحل هذه: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) التي يمكن أن تفيد خلافا لما يبدو من جملة: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ بالنسبة لعيسى أن تأييد الله لعيسى بروح القدس في القرآن ليس محصورا به وأن القرآن قد ذكر أيضا أن الله قد أيّد نبينا محمدا صلّى الله عليه وسلّم به. وثانيا: أن آية النحل تفيد أن بِرُوحِ الْقُدُسِ هو اسم الذي كان ينزل بالقرآن على النبي صلّى الله عليه وسلّم.

وقد ورد هذا التعبير بلفظ الرُّوحُ الْأَمِينُ في آيات سورة الشعراء هذه: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وفي آية سورة البقرة التي ستأتي بعد قليل اسم جبريل بوصفه الذي كان ينزل بالقرآن حيث يكون التعبير في سورتي النحل والشعراء كناية عن جبريل، ومع هذا فإن المفسرين قد أوردوا في تأويل جملة: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ الواردة في الآية والتي قد لا يكون معناها في معنى ما جاء في سورتي النحل والشعراء أقوالا عديدة، منها أن تأييد الله بمعنى تأييده بروحه وقوته ونصره، وأنه بمعنى تأييد الله له بجبريل. ومنها أنه تأييد الله له بالإنجيل. ومنها أن الجملة تعني إفاضة الله التقديس والطهارة على نفس عيسى (عليه السلام) ، وقد يكون أوجه هذه الأقوال القول الأول. ولقد ورد تعبير (بروح القدس) في الأناجيل الأربعة المتداولة اليوم والتي يعترف بها وحدها النصارى بأساليب ومناسبات متعددة بل وبمعان مختلفة أيضا على ما يفيده السياق الذي وردت فيه. فمن ذلك ما ورد في سياق حبل مريم في إنجيل متى (لما خطبت مريم أمه ليوسف وجدت من قبل أن يجتمعا حبلى من الروح القدس) . وفي إنجيل لوقا على لسان الذي بشر مريم بحبلها: (فأجاب الملاك وقال لها إن الروح القدس يحل عليك) . ومن ذلك في إنجيل متى على لسان عيسى: (من قال كلمة على ابن البشر يغفر له وأما من قال على الروح القدس فلا يغفر له لا في هذا الدهر ولا في الآتي) . وفي إنجيل مرقس على لسان عيسى أيضا: (فإذا ساقوكم وأسلموكم فلا تهتموا من قبل بما تتكلمون به بل بما أعطيتم في تلك الساعة تكلموا لأنكم لستم أنتم المتكلمين ولكن الروح القدس) . و (وأما من جدف على الروح القدس فلا مغفرة له) . وفي إنجيل لوقا (ورجع يسوع من الأردن وهو ممتلىء بالروح القدس) . و (كان رجل في أورشليم اسمه سمعان وهو رجل صديق تقي كان ينتظر تعزية إسرائيل والروح القدس كان عليه. وكان أوحى إليه بالروح القدس أنه لا يرى الموت حتى يعاين مسيح الرب) . وفي إنجيل يوحنا على لسان يوحنا المعمدان الذي هو النبي يحيى في القرآن: (إن الذي ترى الروح ينزل ويستقر عليه هو الذي يعمد بالروح القدس) .

وبعض هذه العبارات الانجيلية قد يفيد أن روح القدس شخصية إلهية مقدسة. كما قد يفيد بعضها أنه روح ربانية تنزل لتأييد الأشخاص المؤمنين. أو أنه رسول رباني لتنفيذ أوامر الله وهذا المعنى الأخير مطابق لما جاء في القرآن على ما شرحناه في سياق تفسير سورة مريم. ومعلوم أن هذا التعبير في العقيدة النصرانية يعني أحد أقانيم أو صور الذات الإلهية التي هي الأب والابن وروح القدس. وهذه الألفاظ وردت في الأناجيل المتداولة. ولكن تلك العقيدة ليست محبوكة بشكلها الراهن في أي إنجيل، وإنما هي من قرارات مجامع دينية انعقدت في القرن الرابع بعد الميلاد بأمر ورعاية الامبراطور الروماني بسبب ما كان بين رجال الدين النصراني من خلافات حول لاهوتية المسيح والروح القدس على ما شرحناه في سياق سورة مريم أيضا. والمرجح أن هذا التعبير كان مستعملا من قبل نصارى العرب قبل الإسلام ترجمة عن اللغة الإنجيلية السريانية أو اليونانية. ومهما يكن من أمر فالذي يتبادر لنا أن التعبير القرآني يضع الأمر في نصابه من وجهة نظر القرآن والعقيدة الإسلامية في عيسى (عليه السلام) حيث ينطوي في الجملة التي جاء فيها تقرير كون عيسى رسول من رسل الله وأن الجملة تعني تأييد الله إياه بروح وقوة منه اقتضت حكمة التنزيل تسميتها بِرُوحِ الْقُدُسِ ولا ضير على المسلم بل من واجبه أن يستعمل هذه التسمية في التعبير عن تأييد الله تعالى لعيسى (عليه السلام) لأن ذلك نص قرآني، مع الوقوف عند ذلك وإيكال مدى هذه الحكمة لله تعالى ودون أن يكون ذلك من المسلم تسليما منه بما استقرت عليه عقائد النصارى المجمعية من مدى ومعنى روح القدس لأن فحوى الجملة وروحها ومقامها في القرآن لا يمكن أن يتحمل ذلك. وهي صريحة كل الصراحة بأن روح القدس الذي يؤيد الله به عيسى غير ذاته وليس جزءا منه أو صورة له بأي حال كما هو في تلك العقائد. والقرآن هو الضابط المهيمن على الكتب السماوية التي ينسبها أهل الكتاب إلى الله ويتداولونها كما جاء صراحة في آية سورة المائدة: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فما يقرره هو

[سورة البقرة (2) : الآيات 97 إلى 98]

الحق وما يتناقض معه يكون محرفا بصورة ما لفظا أو معنى من وجهة العقيدة الإسلامية. هذا، وننبه تعليقا على جملة وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ في الآيات على أن في القرآن آيات كثيرة منها في سور مرّ تفسيرها ومنها في سور آتية تذكر أن الله قد أتى النبيين الآخرين ومنهم سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم البينات وأرسلهم بالبينات وجاؤوا بالبينات. حيث يفيد هذا أن هذه الجملة ليست على سبيل حصر ذلك بعيسى (عليه السلام) وإنما جاءت في مقامها وبأسلوبها حسب ما اقتضته حكمة التنزيل وحسب. وأكثر ما ورد في صدد الأنبياء من ذلك ورد في معنى التعبير عن المعجزات الذي يتفق المفسرون على أن الجملة التي نحن في صددها عنت ذلك أيضا بالنسبة لعيسى (عليه السلام) . [سورة البقرة (2) : الآيات 97 الى 98] قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) . في الآية الأولى من هاتين الآيتين أمر رباني للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالرد على من يعلن عداءه لجبريل وتوكيد له بأن جبريل هو الذي ينزل القرآن على قلبه بإذن الله مصدّقا لما سبقه من كتب الله وليكون بشرى وهدى للمؤمنين. أما الآية الثانية ففيها تقرير إنذاري بأن الله عدو للكافرين الذين يكون منهم من يعادي الله ورسله وملائكته وبخاصة جبريل وميكال منهم. تعليق على الآية قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ ... والآية التالية لها وقد روى المفسرون «1» في سياق طويل روايات عديدة مختلفة في الصيغ

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري وابن كثير وغيرهما، والطبري وابن كثير استوعبا جميع الروايات. والثاني ينقلها عن الأول تقريبا.

والوقائع متفقة في الجوهر في صدد الآيتين، منها أن فريقا من اليهود سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم أسئلة عديدة ووعدوه بأن يتابعوه إذا أجاب عليها إجابات صحيحة فأجابهم إجابات اعترفوا بصحتها ثم سألوه عمن ينزل عليه بالوحي فقال جبريل فقالوا إنه عدونا وإنه ينزل بالخسف والشدة وإنه حال دون قتل بختنصر فكان سببا في حياته وتخريبه هيكلنا. ولو كان غيره الذي يأتيك لتابعناك. ومنها أن محاورة جرت بين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وفريق من اليهود قالوا له فيما قالوا إن جبريل عدونا وينزل بالخسف والحرب وإن ميكال سلمنا وينزل بالخصب. وأن جبريل وميكال عدوان لبعضهما وأن أولهما يقف إلى يمين الله وثانيهما إلى يساره فسفههما قائلا كيف يكونان عدوين وهما المقربان من الله، ثم نقل خبر المحاورة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت الآيتان. وهناك حديث عن أنس بن مالك رواه البخاري جاء فيه «1» : «إنّ عبد الله بن سلام سمع بقدوم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتاه فقال له: إنّي سائلك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلّا نبيّ، فما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال: أخبرني بهنّ جبريل آنفا، قال: جبريل؟ قال: نعم. قال: ذاك عدوّ اليهود من الملائكة فقرأ هذه الآية: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ ثم قال له: أمّا أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب. وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت. وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد وإذا سبق ماء المرأة نزعت. قال: أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنك رسول الله. ثم قال: يا رسول الله إن اليهود قوم بهت وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني. فجاء اليهود فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أيّ رجل عبد الله فيكم؟ فقالوا: خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا. قال: أرأيتم إن أسلم عبد الله؟ فقالوا: أعاذه الله من ذلك. فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمّدا رسول الله، فقالوا: شرّنا وابن شرّنا وانتقصوه، قال: فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله» .

_ (1) التاج ج 4 ص 36- 37.

ويلحظ أن الآية الثانية قرنت جبريل وميكال معا في معرض إعلان عداء الله للذين يعادونهما في حين أن الروايات تذكر أن اليهود قالوا إن جبريل عدونا وميكال سلمنا وأن الحديث لم يذكر ميكال. ومهما يكن من أمر فإن روح الآيتين وورودهما في سياق جملة طويلة على اليهود واختصاص جبريل وميكال بالذكر يلهم أنهما نزلتا بسبب محاورة جرت بشأنهما مع اليهود وأن هؤلاء أعلنوا عداءهم لهما أو لأحدهما فردت الآيتان عليهم كأنما تقولان: إذا كانوا أعداء لجبريل فليموتوا بغيظهم فهو الذي ينزل بالقرآن على قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنه هو وميكال صاحبا حظوة عند الله وأن معاداتهما هي كمعاداة الله وكفر به ومجلبة لعدائه. وواضح من هذا أن الآيتين جزء من السلسلة والمتبادر أن الحادث وقع في أثناء نزول السلسلة وبعد نزول حلقاتها الأولى فتضمنت الآيات الرد عليهم والله أعلم. هذا، وأسلوب الآية الأولى أسلوب توكيد وتطمين للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين كما هو المتبادر منه. وهذه أول مرة يرد فيها ذكر جبريل بصراحة، وأنه هو الذي ينزل بالقرآن على قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم. أما قبل ذلك فقد ورد بتعبير الروح الأمين في سورة الشعراء والروح القدس في سورة النحل. وجبريل لفظ معدول أو معرب عن جبرائيل المؤلفة من مقطعين (جبرا) و (ايل) والمقطع الثاني يعني الله في اللغات العربية القديمة. وفي تفسير الطبري ما يفيد أن هذا كان مفهوما كذلك عند أهل التأويل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتابعيهم. وهكذا يكون معنى الاسم جبر الله أو قوة الله وقد ورد ذكره في الأناجيل بوصفه ملك الله الذي بشر زكريا بابنه يحيى «1» . وأسلوب ذكره هنا يشعر بعظم مقامه عند الله وهذا ما يشعر به أسلوب ذكره للمرة الثانية في آية سورة التحريم التي نزلت في ظروف أزمة وقعت بين النبي صلّى الله عليه وسلّم ونسائه وهي: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ

_ (1) انظر الإصحاح الأول من إنجيل لوقا.

وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) . ولقد ورد ذكر نزول الروح والملائكة ليلة القدر في سورة القدر. وأوردنا في سياق ذلك ما رواه المفسرون عن أهل التأويل من تأويل الروح بجبريل، واستنتجنا من ذلك أنه عظيم الملائكة. وقد ورد في نفس المعنى في آيات المعارج [4] والنبأ [38] . وهناك أحاديث عديدة تذكر أن جبريل هو الذي كان ينزل عادة بالقرآن وبأوامر الله على النبي. وقد أوردنا بعضها في مناسبات سابقة. وميكال أيضا يذكر هنا للمرة الأولى والوحيدة، وهو أيضا معرب أو معدول عن ميكائيل. وقد ورد اسمه في حديث نبوي رواه أبو سعيد الخدري جاء فيه: «ما من نبيّ إلّا وله وزيران من أهل السّماء ووزيران من أهل الأرض فأمّا وزيراي من أهل السماء فجبريل وميكائيل وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر» «1» . والمرجح وهو ما تعضده الروايات أن اسمي جبريل وميكال كانا يذكران في الأوساط الكتابية اليهودية والنصرانية وأن العرب قد عرفوهما بوصفهما من كبار ملائكة الله المقربين عن طريق هذه الأوساط قبل نزول القرآن، وقد عربوا اسميهما في صيغة عربية قبل ذلك أيضا على ما هو المتبادر. وتعبير نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ قد ورد في آيات سورة الشعراء هذه: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) وعلقنا على مدى هذا التعبير في سياق تفسير هذه الآيات بما يغني عن التكرار هنا بمناسبة ورود مثل هذا التعبير في الآية الأولى من الآيتين اللتين نحن في صددهما، هذا بالإضافة إلى شرحنا لمدى الوحي الرباني الذي كان ينزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم في سياق سورة القيامة. ولقد أورد المفسران ابن كثير والقاسمي في سياق الآيتين بعض أحاديث نبوية، ومما أورده الأول حديث عزاه إلى صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب» ، ومما أورده الثاني حديث عزاه كذلك إلى البخاري عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ الله

_ (1) التاج، ج 3 ص 281.

[سورة البقرة (2) : الآيات 99 إلى 101]

يقول من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتّى أحبّه. فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها. وإن سألني لأعطينّه ولئن استعاذني لأعيذنّه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله بتردّدي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته» «1» . والمتبادر أن المفسرين أوردا ما أورداه في مناسبة ما جاء في الآية الثانية من إيذان الله بأن من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدوّ للكافرين الذين يكون منهم من يعاديه ويعادي رسله وملائكته. وفيها إيذان بمثل ما في الآية. أما بقية الحديث الثاني فمن الحكمة الملموحة فيها تطمين المؤمنين المخلصين وتبشيرهم وحثّ على الإخلاص لله تعالى والله أعلم. [سورة البقرة (2) : الآيات 99 الى 101] وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) . (1) نبذ: رمى ورفض ونقض وترك. تعليق على الحلقة الثامنة من سلسلة الآيات الواردة في هذه السورة في اليهود في الآية الأولى تقرير وجّه الخطاب فيه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن الله أنزل إليه آيات القرآن بينات واضحات وأن الفاسقين المتمردين على الله الذين خبثت نياتهم

_ (1) هذا الحديث ورد في التاج برواية البخاري والإمام أحمد ج 5 ص 188 و 189 ونرجح أن الحديث الأول هو جزء ملتبس من الحديث الثاني والله أعلم.

وأخلاقهم هم فقط الذين يكفرون بها لأن فيها من الهدى والحق والوضوح ما لا يمكن أن يكابر فيه ذو نية حسنة ورغبة صادقة. وفي الآية الثانية سؤال تنديدي يتضمن التقرير بأنهم كلما عاهدوا عهدا نقضه فريق منهم وتجاهله، بل إن ذلك دأب أكثرهم لأن إيمانهم بالله ضعيف واه فلا يبالون بنقض ما عاهدوا عليه باسمه. وفي الآية الثالثة تقرير إخباري بأنهم لما جاءهم من عند الله رسول مصدق لما معهم تجاهل فريق من أهل الكتاب كتاب الله ونبذوه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون من حقائقه شيئا. وجملة نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ تحتمل أن يكون الكتاب الذي نبذوه هو القرآن كما تحتمل أن يكون كتاب أهل الكتاب الذي يأمرهم بما جاءهم به الرسول مصدقا لما معهم أو الذي يعرفون منه صفات هذا الرسول وخبر رسالته وهم مأمورون فيه باتباعه. والاحتمال الثاني هو الأوجه حيث تستحكم به الحجة عليهم وهو ما رجحه غير واحد من المفسرين «1» . وجمهور المفسرين متفقون على أن ضمائر الجمع الغائب في الآيتين الثانية والثالثة عائدة لليهود وبسبيل حكاية موقفهم من رسالة النبي والقرآن. فالآيات والحالة هذه حلقة ثامنة من السلسلة، وفحواها الذي يماثل إجمالا ما وصف به اليهود ومواقفهم في الآيات السابقة يؤيد ذلك. ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن ابن صوريا الحبر اليهودي قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا محمّد ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل الله عليك من آية بيّنة فنتبعك بها فأنزل الله الآية [99] «والرواية ليست واردة في كتب الصحاح. والآية منسجمة في السياق بحيث يسوغ الترجيح بأنها لم تنزل لحدتها في مناسبة قول اليهودي. ويتبادر لنا أنها بمثابة تمهيد لما احتوته الآيات التالية لها ولدمغهم بالفسق لأنه لا

_ (1) انظر تفسير الخازن وابن كثير والطبري والطبرسي والبغوي. [.....]

[سورة البقرة (2) : الآيات 102 إلى 103]

يقف المواقف المذكورة بها إلّا الفاسقون. وهذا لا يمنع أن يكون بعض اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم ما روته الرواية عن موقف من مواقف حجاجهم ولجاجهم. ومما أورده المفسرون في صدد العهد الذي نبذه فريق من اليهود المذكور في الآية الثانية أنه العهد الذي أعطوه لله تعالى بأن يعملوا ما في التوراة ومن جملة ذلك اتباع كل نبي يدعوهم إلى الله وشرائعه ومن جملتهم النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي يجدونه مكتوبا عندهم على ما جاء تقريره في الآية [157] من سورة الأعراف، وقد رووا أنهم قالوا للنبي حينما ذكرهم بهذا العهد: إن الله لم يعهد إلينا فيك شيئا ولم يأخذ لك علينا عهدا. وهذا وجيه ومتسق مع التقريرات القرآنية فيما هو المتبادر. ومن المحتمل أن تكون الآية الثانية بسبيل ربط غابر اليهود بحاضرهم حيث أرادت القول إن في كل وقت يأخذ الله عهدا على بني إسرائيل أو يعاهدون فيه الله على عهد ينبذه فريق منهم وإن هذا كان شأنهم في الغابر وهو شأنهم اليوم. وفي حالة صحة هذا الاحتمال كما نرجو تكون كلمة فريق في الآية بالنسبة للحاضرين شاملة لجميع اليهود. ولسنا نرى ورود كلمة (فريق) في الآية الثالثة ناقضا لهذا الاحتمال على ضوء التقريرات القرآنية التي مرت والتي تنسب الكفر والجحود إلى عامة بني إسرائيل الحاضرين. على أن من المحتمل أنه أريد بذلك استثناء الذين آمنوا وصدقوا منهم على ما ذكرناه وأوردنا الآيات الدالة عليه في نبذة سابقة عقدناها على أسباب تنكر اليهود للدعوة المحمدية. وجملة: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ في الآية الثانية على كل حال تفيد أن النابذين هم الأكثر. [سورة البقرة (2) : الآيات 102 الى 103] وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103) .

تعليق على آية واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ... والآية التالية لها وهما الحلقة التاسعة من السلسلة واستطراد إلى هاروت وماروت والسحر وحقيقته وحكمه

(1) ما تتلو الشياطين على ملك سليمان: ما كانت تتلوه في عهد ملك سليمان. (2) وما أنزل على الملكين: ما ألهموه وما تلقوه. (3) بابل: اسم مدينة كانت عاصمة ملك الكلدانيين في العراق الذين كان منهم الملك نبوخذ نصر المشهور باسم بختنصر الذي نسف دولة اليهود في القدس ودمرها وسبى أهلها. (4) خلاق: نصيب وحظ. (5) شروا به أنفسهم: باعوا به أنفسهم. (6) لمثوبة: الجملة بمعنى أنهم لو آمنوا واتقوا لكان ثواب ذلك من عند الله هو خير لهم. تعليق على آية وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ ... والآية التالية لها وهما الحلقة التاسعة من السلسلة واستطراد إلى هاروت وماروت والسحر وحقيقته وحكمه جمهور المفسرين على أن ضمير وَاتَّبَعُوا عائد لليهود والآيتان معطوفتان على ما قبلهما الذي فيه تنديد بأفعال اليهود وأقوالهم مما فيه تأييد لذلك. وهكذا تكون الآيتان حلقة تاسعة من السلسلة. ولقد روى الطبري عن أهل التأويل في

نزول الآية الأولى روايات عديدة منها أن اليهود سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم عن السحر وجادلوه وزعموا أن كتب السحر مروية عن سليمان. ومنها أنهم لما سمعوا النبي صلّى الله عليه وسلّم يذكر أن سليمان من أنبياء الله تعجبوا وأنكروا وقالوا ما كان سليمان إلا ساحرا وأنه كان يضبط الإنس والجن والريح. والروايات طويلة، وما تقدم خلاصة لها وليس شيء من الروايات واردا في كتب الصحاح، ويلحظ أن الآية الأولى لم تقتصر على نسبة السحر إلى سليمان وأن الآية الثانية منسجمة مع الأولى وأن الآيتين بسبيل التنديد باليهود لأنهم اتبعوا ما تتلوه الشياطين من السحر ونسبوه إلى سليمان، واتبعوا كذلك أعمال السحر التي يعلمها هاروت وماروت. وهذا ما يجعلنا نتوقف في الروايات كسبب لنزول الآية ونرجح أن الآيتين استمرار في حكاية أفعال اليهود وانحرافاتهم والتنديد بهم، ويجوز أن تكونا نزلتا لحدتهما كحلقة جديدة، ويجوز أن تكونا نزلتا مع الآيات السابقة ونحن نرجح هذا وقد تضمنت الآيتان تقرير كون اليهود لم يقفوا عند نقض كل عهد، وعند نبذ كتاب الله وجحود رسالة رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي جاء مصدقا لما معهم مع معرفتهم صدقه، بل اتبعوا ما كانت الشياطين يتلونه منذ عهد سليمان وأقوالهم وأفعالهم المأثورة التي كانوا يعلمون بها السحر. ونسبوا ذلك إلى سليمان كذبا فنسبوا بذلك إليه الكفر لأن أعمال السحر من الكفر. واتبعوا كذلك ما يتلو الملكان هاروت وماروت في بابل اللذان كانا يعلمان الناس السحر أيضا واللذان كانا مع ذلك لا يعلمان أحدا إلا بعد أن يقولا له إننا أو إن ما نعلمه فتنة وامتحان ويحذراه من الكفر ثم يتعلم منهما بعض الأعمال السحرية التي منها ما يفرق بين المرء وزوجه والتي تضرّ المتعلمين ولا تنفعهم والتي لا تضرّ مع ذلك أحدا إلا بإذن الله. فاليهود اتبعوا ما يتلو الشياطين وهاروت وماروت وهم يعلمون أن الذي يسير في مثل هذه الطرق والأساليب مستحق لخزي الله وعذابه ومحروم من رضائه في الآخرة. ولبئس ما باعوا به أنفسهم. في حين أنهم لو آمنوا وصدقوا برسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأيدوا الحق واتقوا الله في أعمالهم وأقوالهم ومواقفهم لكان ذلك خيرا ووسيلة قربى وثواب لهم عند الله.

والآيتان قويتا التعبير والتنديد وقد رجحنا أنهما في صدد اليهود السامعين المعاصرين. وينطوي فيهما والحالة هذه أن من هؤلاء من كان يتعاطى السحر ويعزوه إلى سليمان وهاروت وماروت. ولقد أوردنا في تفسير سورة العلق حديثا ذكر فيه اسم ساحر يهودي اسمه لبيد بن الأعصم في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم مما فيه تأييد لذلك. ولقد أوردنا في سياق تفسير سورة طه نصوصا من أسفار العهد القديم فيها حكاية عن الله في شجب السحر والعرافة والنهي عنهما ورجم من يتعاطاهما وبهذا يستحكم التنديد الذي تضمنته الآيات باليهود. وفي تفسير الطبري وغيره بيانات كثيرة معزوة إلى ابن عباس وغيره في صدد السحر الذي كان ينسبه اليهود إلى سليمان متفقة المدى على اختلاف في الصيغ خلاصتها أن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء ويوحون بما يسمعونه إلى الكهان ويزيدون عليه أكاذيب كثيرة وأنهم كانوا يعلمونهم السحر أيضا. وأن الكهان كتبوا ذلك وفشا في الناس حتى علم به سليمان فصادر هذه الكتب ودفنها تحت عرشه وأنذر كل من يتعاطى السحر ويزعم أن الشياطين يعلمون الغيب بالقتل. فلما مات سليمان جاء شيطان إلى الكهنة فقال لهم إني أريد أن أدلكم على كنز لا ينفد، فإن سليمان إنما كان يضبط الناس والجن والريح والطير والوحوش بالسحر. وإن كتب سحره مدفونة تحت عرشه فحفروا فوجدوها وصاروا يتداولونها ويتعاطون السحر على أن ذلك من صنع سليمان وظلوا على ذلك إلى زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم. ومهما كان من أمر هذه الروايات فإن الآية الأولى قد تضمنت حكاية ما كان من تعاطي اليهود السحر ونسبته إلى سليمان. وإن المتبادر أن ذلك مما كان متداولا في أوساط بني إسرائيل ومما كان يسمعه العرب أو بعضهم منهم وفي صدد هاروت وماروت نقول إن في تفسير الطبري وغيره أحاديث وروايات وبيانات كثيرة في ذلك. من ذلك أن اليهود كانوا يزعمون بالإضافة إلى زعمهم أن سليمان كان

يعلم السحر ويعلمه أن جبريل وميكال أيضا كانا يعلمانه. وهناك من قرأ لام الملكين بالكسر وقال إن اليهود عزوا السحر إلى داود أيضا حيث يكون الملكان هما داود وسليمان، وأن العبارة القرآنية بسبيل نفي السحر وتعليمه عنهما أو عن الملكين جبريل وميكال ونسبة السحر وتعلمه إلى رجلين من البشر كانا في بابل وهما هاروت وماروت ومن ذلك أن نعت هاروت وماروت بالملكين هو على سبيل التشبه لأنهما كانا يظهران الصلاح ويعلمان الناس السحر بعد تحذيرهم فشبهوهما بالملائكة أو لأنهما كانا صاحبي سمات ووقار فشبهوهما بالملوك على اختلاف قراءة اللام بالفتح أو الكسر. وإلى هذا فهناك أحاديث عديدة مختلفة الصيغ والطرق متفقة المدى معزوة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء في صيغة يرويها الإمام أحمد عن نافع مولى عبد الله بن عمر عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ آدم عليه السلام لمّا أهبطه الله إلى الأرض قالت الملائكة أي ربّ أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30) . قالوا ربّنا نحن أطوع لك من بني آدم، قال الله لهم: هلمّوا ملكين منكم حتى نهبطهما إلى الأرض فننظر كيف يعملان. قالوا: ربّنا هاروت وماروت. فأهبطا إلى الأرض ومثّلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر فجاءتهما فسألاها نفسها فقالت: لا والله حتى تتكلما بهذه الكلمة من الإشراك. فقالا: والله لا نشرك بالله شيئا أبدا. فذهبت عنهما ثم رجعت بصبيّ تحمله فسألاها نفسها فقالت: لا والله حتى تقتلا هذا الصبيّ. فقالا: لا والله لا نقتله أبدا. ثم ذهبت ورجعت بقدح خمر تحمله، فسألاها نفسها، فقالت: لا والله حتى تشربا هذا الخمر، فشربا فسكرا فوقعا عليها وقتلا الصبيّ، فلما أفاقا قالت المرأة والله ما تركتما شيئا أبيتماه عليّ إلّا قد فعلتماه حين سكرتما. فخيّرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا» . وعقب ابن كثير على هذا الحديث الذي نقلناه عنه بقوله: هكذا رواه أبن أبي حاتم وابن حبّان في صحيحه. وهو حديث صحيح كل رجاله ثقات من رجال الصحيحين إلا موسى بن جبير، وأورد ابن كثير صيغة أخرى فيها نوع العذاب وهو أن الملكين جعلا في بكرات من

حديد في قليب مملوءة نارا. وهناك رواية تذكر أن الذي أمر بحبسهما وعذابهما في بابل هو سليمان. وبعض الصيغ أن الملائكة لما اعترضوا قال لهم الله إنه ركّب في بني آدم الشهوات فيها يقعون في الآثام فقالوا لو ركّبتها فينا لما وقعنا فيها فركّبها في اثنين منهما هما هاروت وماروت وأهبطهما إلى الأرض فأثما مع المرأة وارتكبا الآثام الأخرى. وهناك حديث طويل يرويه ابن كثير عن عائشة جاء فيه: أن امرأة من أهل دومة الجندل جاءت إليها عقب وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم وكانت تريد أن تقصّ عليه أمرها وتستعتبه. فقصّته عليها وهي تبكي خائفة أن تكون أثمت وخلاصته أن زوجها غاب عنها فذهبت إلى عجوز ساحرة لتعيده إليها فأركبتها كلبا أسود وركبت مثله فلم تلبثا أن وصلتا إلى بابل ورأتا هاروت وماروت معلّقين من أرجلهما وطلبت منهما أن يعلّماها السحر فقالا لها إنما نحن فتنة فلا تكفري وارجعي فأبت وظلّت تلحّ عليهما حتى علّماها بعض أعمال السحر حيث جعلاها تبذر حبا فينضج فتحصده فتطحنه فتخبزه في يوم واحد. وليس شيء من هذه الأحاديث والروايات التي اكتفينا بما أوردناه منها- لأنها متماثلة- واردا في الصحاح وفيها ما هو ظاهر من الغرائب التي توجب التحفظ والتوقف. والصيغ الأولى لا تنطبق على فحوى الآية حيث لا تذكر تعليم هاروت وماروت السحر للناس والتلفيق في الصيغة الأخيرة واضح. ولقد أورد ابن كثير الذي لخصنا عنه الروايات قولا عن سالم بن عبد الله بن عمر جاء فيه أن المروي عن أبيه ليس مرويا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وإنما هو مروي عن كعب الأحبار. ثم قال وسالم أثبت عن أبيه من نافع عن مولاه. وقال المفسر القاسمي عن جميع الروايات إنها من قصص القصاصين واختلاق اليهود. وأورد هذا المفسر أقوالا للرازي وابن حزم وأبي مسلم فيها تفنيدات قوية في بطلان صحة نسبة السحر وتعليمه إلى الملائكة نقلا وموضوعا. وكلام السيد رشيد رضا في الموضوع في تفسيره متطابق إجمالا مع ذلك. ومهما يكن من أمر فالآيتان هما بسبيل حكاية ما كان يتعاطاه اليهود من أعمال السحر ومزاعمهم وتكذيب لهم والتنديد بهم. وما جاء عن هاروت وماروت

جاء استطرادا، وما دام أنه ليس في ذلك أثر نبوي صحيح فالأولى الوقوف عند ما وقف عنده القرآن وعدم الأبوه للأخبار غير الوثيقة التي فيها ما فيها من غرائب، وإن كانت تدل على أن ما جاء فيها وبخاصة هاروت وماروت كان مما يتداول عند سامعي القرآن من عرب ويهود فاقتضت حكمة التنزيل الاستطراد إلى ذكرهما على سبيل تدعيم التنديد باليهود الذين يتبعون ما عرف عنهما من أعمال السحر. والمتبادر أن الاسمين معربان عن لفظين أعجميين ونعتقد أنهما معربان بصيغتهما قبل نزول القرآن وفي هذا توثيق لما قلناه من أن خبرهما لم يكن مجهولا والله تعالى أعلم. والآيتان وإن كانتا في صدد اليهود وآثامهم ومواقفهم فإنهما تنطويان على تلقين مستمر المدى شأن الفصول السابقة والقصص القرآنية عامة. ومن هذا التلقين أنه لا يجوز للمؤمنين أن يعتقدوا أن السحر يضرّ أحدا بغير إذن الله، وأن الذين يتعاطونه آثمون عند الله ولن يكون لهم حظ ونجاة في الآخرة. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيتين بعض الأحاديث المتساوقة مع هذا التلقين منها حديث رواه أصحاب السنن جاء فيه: «من عقد عقدة ونفث فيها فقد سحر» وحديث رواه الإمام أحمد عن جندب الأزدي قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حدّ الساحر ضربة السّيف» وحديث رواه البخاري عن بجيلة قال: «كتب عمر بن الخطاب أن اقتلوا كلّ ساحر وساحرة فقتلنا ثلاث سواحر» . وهناك حديث رواه الخمسة ذكر السحر فيه بعد الشرك من جملة الموبقات السبع التي نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عنها حيث روي أن النبي قال: اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: وما هنّ يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرّم الله إلّا بالحقّ وأكل الرّبا وأكل مال اليتيم، والتولّي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» «1» . وقد يكون من الحكمة في ما احتوته الآيتان والأحاديث أن الناس إذ يرجعون إلى السحرة لتحقيق مطالب ليست في نطاق الجهد الإنساني العادي، وإذ يتعاطى

_ (1) التاج ج 4 ص 81.

السحرة السحر بزعم أنهم قادرون على تحقيق تلك المطالب يكون الأولون قد انصرفوا في مطالبهم عن الله عز وجل الذي هو وحده القادر على تحقيق تلك المطالب والذي لا يجوز لمؤمن أن يرجع في تحقيقها إلى غيره ويكون ذلك منهم في معنى الشرك بالله ودعاء غيره. ويكون الآخرون قد ارتكسوا في ما فيه الكذب والتدجيل والضرر الخلقي والحسي والتشجيع على ذلك للانصراف عن الله عز وجل ودعاء غيره. وفي كتب التفسير وبخاصة ابن كثير استطراد مسهب في السحر وأنواعه وصوره وحقيقته وأثره وحكمه وأقوال المذاهب الإسلامية فيه. والمستفاد منها «1» : أولا: إن حقيقة السحر وأثره من المسائل الخلافية في المذاهب الإسلامية حيث يذهب المعتزلة والشيعة إلى أنه لا حقيقة له، وكونه تخييلا وتمويها وشعوذة، وحيث يذهب أهل السنة إلى أن له حقيقة وأثرا ولكن أثره لا يكون إلا بإذن الله، وكلا الفريقين يستند إلى النصوص القرآنية. وقد نبه ابن كثير على أن أبا حنيفة يذهب المذهب الأول ويقول إنه لا حقيقة للسحر. وليس في القرآن نصّ صريح بحقيقته وأثره إلا جملة: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وليس هناك أحاديث صحيحة في حقيقة السحر وأثره إلّا الحديث الذي رواه الشيخان عن عائشة في حادث سحر النبي صلّى الله عليه وسلّم والذي أوردناه في سياق تفسير سورة الفلق. ولقد قرأنا لابن كثير تخريجا للنصّ القرآني المذكور آنفا يقول فيه إن الساحر يخيل لزوج من الزوجين سوء منظر الزوج الثاني وسوء خلقه فيؤدي ذلك إلى الفراق. ولا يخلو هذا من وجاهة فيما نرى، ويتسق مع مذهب أبي حنيفة والمعتزلة والشيعة. ولقد علقنا على حديث حادث سحر النبي صلّى الله عليه وسلّم بما فيه وضع الأمر في نصابه المتبادر لنا إن شاء الله بما يغني عن التكرار. وثانيا: إن حكم السحر مختلف فيه حيث ذهب بعضهم إلى أن تعلم السحر لذاته غير محظور شرعا إذا كان لأجل اتقاء أذاه ولم يعمل به، وحيث ذهب بعضهم

_ (1) انظر أيضا تفسيري الزمخشري والطبرسي ففيهما مشاركة لما في تفسير ابن كثير.

[سورة البقرة (2) : الآيات 104 إلى 110]

إلى أن ذلك محرّم شرعا وأن الاعتقاد بحلّه كفر. وفحوى الآيتين اللتين نحن في صددهما والأحاديث التي أوردناها في جانب الرأي الثاني فيما يتبادر لنا. وثالثا: إن معظم أئمة المذاهب متفقون على كفر الساحر المسلم ووجوب قتله إذا لم يتب دون الساحر الكافر إلا إذا أدى سحره إلى قتل نفس، وأنهم متفقون كذلك على تكفير من يراجع السحرة ويطلب منهم تحقيق مطلبه ولم يقل أحد بقتله. والظاهر أن الذين ذهبوا إلى قتل الساحر قد أخذوا بحديث الإمام أحمد الذي أوردناه قبل. أما كفر من يراجع الساحر فليس فيه نصّ صريح قرآني أو نبوي ويكون والحالة هذه منوطا باستحلال ذلك إلا أن يكون القائلون قذ قاسوا هذا على حالة من يراجع عرّافا أو كاهنا حيث روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم حديثا جاء فيه: «من أتى عرّافا أو كاهنا فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمّد» «1» . وقد يكون القياس وجيها، ولقد أورد مؤلف التاج صيغة أخرى لهذا الحديث رواها الإمام أحمد جاء فيها: «من أتى عرّافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة» «2» وواضح أن هذا النص يتناقض مع نص الكفر الوارد في الصيغة الأولى، ويظهر أن الذين قالوا بالكفر لم يأخذوا به، والله تعالى أعلم. [سورة البقرة (2) : الآيات 104 الى 110] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) .

_ (1) التاج ج 3 ص 201. (2) التاج ج 3 ص 201.

تعليق على الحلقة العاشرة من سلسلة الآيات الواردة في السورة في اليهود

(1) راعنا: ارعنا سمعك أو راقبنا وهي من الرعاية أو المراعاة. (2) انظرنا: انظر إلينا. (3) ننسها: قيل إنها من النسيان، بمعنى نجعل حافظها أو ذاكرها ينسى. وقيل إنها من الإنساء وهو التعليق والتأجيل، وقرئت ننسئها وننسأها وننسكها أيضا: أي ننسيك إياها. تعليق على الحلقة العاشرة من سلسلة الآيات الواردة في السورة في اليهود في الآيات انتقال استطرادي عن اليهود إلى خطاب المؤمنين مما هو مماثل للحلقة الخامسة ومضامينها واضحة الدلالة على أنها متصلة بمواقف اليهود وأقوالهم، وقد احتوت بعض صور من مواقفهم ودسائسهم وعبارتها واضحة. وقد روى المفسرون «1» في صدد الآية الأولى أي [104] ولفظ (راعنا) الذي جاء فيها أن هذا اللفظ كان لفظ شتيمة عند اليهود أو أن اليهود كانوا يخلطون بين

_ (1) انظر تفسير الآية في الطبري وابن كثير والخازن.

معناها من الرعاية والمراعاة وبين مشابههما اللفظي وهو (الرعونة) فكانوا حينما يسمعون المسلمين يخاطبون النبي صلّى الله عليه وسلّم به وهو من أساليب الخطاب المعتادة يتخذون ذلك موضوع تفكه وسخرية، فأمرتهم الآية الأولى بالكف عن استعمال هذا اللفظ واستعمال اللفظ البديل وهو انظر إلينا. والرواية لم ترد في كتب الصحاح ولكن روح الآية قد يفيد احتمال صحتها. وفي سورة النساء آية تذكر أن اليهود كانوا يخاطبون النبي صلّى الله عليه وسلّم بلفظ (راعنا) ويلوون به ألسنتهم ليؤدي ما يعنون حقا من الغمز والسخرية والنعت بالرعونة وهي هذه: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) . ومما روي أن سعد بن معاذ زعيم الأوس انتبه إلى خبث اليهود ومقصدهم من ترديد الكلمة فقال لهم: يا أعداء الله عليكم لعنة الله والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأضربنّ عنقه. فقالوا له: ألستم أنتم تقولونها له؟. وقد روى المفسّرون «1» في صدد الآية الثالثة أي الآية [106] أن المشركين أو اليهود كانوا يغمزون النبي صلّى الله عليه وسلّم ويثيرون الشك في المسلمين نحوه بقولهم: إنه يأمر بالشيء ثم ينهى عنه وأن هذا ليس هو شأن الأنبياء. فاحتوت الآية ردا عليهم حيث تضمنت تقريرا ربانيا بأنه ليس من غير الجائز لله أن ينسخ آية بآية أو يؤجل حكما ويبدله بآخر أو ينسي أحدا آية من آياته بقصد نسخها ورفعها. فإن له ملك السموات والأرض وله الأمر من قبل ومن بعد. ولقد يأمر في وقت بأمر ثم ينسخه أو يستبدل به آخر أو ينسيه تبعا لمقتضيات الحوادث والظروف. وهو شيء طبيعي لا ينبغي أن يكون محلا للاستغراب ولا مجالا للدس، والسامع يعلم أو النبي صلّى الله عليه وسلّم يعلم أن الله له ملك السموات والأرض وهو على كل شيء قدير، وليس لأحد من دونه ولي ولا نصير وقد جاء هذا بصيغة السؤال الذي يتضمن التقرير والتوكيد.

_ (1) انظر تفسير الآية في تفسير الخازن والنسفي والقاسمي.

وهذه الرواية لم ترد كذلك في الصحاح ولكنها متسقة مع فحوى الآية، مع التنبيه على أن رواية كون الغمز من اليهود أوجه من كونه من المشركين، فلم يكن في المدينة مشركون يجرؤون على مواجهة النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك، وفي شرح الآيات التالية ما يدعم ما قلناه إن شاء الله. ويتبادر لنا أنه جرى في ظروف نزول هذه الفصول حادث ما من نسخ أو تبديل أو إنساء في أوامر النبي صلّى الله عليه وسلّم أو آيات القرآن فنشأ عنه بعض القيل والقال ووجد اليهود فيه مجالا للدس والتشكيك فاحتوت الآية ردا وتنديدا. وننبه على أننا لم نطلع فيما اطلعنا عليه على رواية في حادث معين بالذات ولما كانت السلسلة التالية لهذه الآيات تحتوي في قسمها الأخير أي الآيات [142- 150] إشارة إلى تبديل سمت القبلة عن المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام وإلى ما كان بسبب ذلك من اعتراض اليهود ودسهم فمما يرد على البال أن يكون بين ما احتوته الآية وبين هذا الحادث صلة ما. ولا ندري إذا كان تعبير ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها مما يمكن أن يضعف هذا الخاطر. غير أن الأسلوب القرآني من جهة والإطلاق في التعبير من جهة أخرى قد يساعدان على تصويبه. وهذا بالإضافة إلى أن علماء القرآن يعتبرون تبديل سمت القبلة مما يدخل في نطاق المنسوخات القرآنية «1» . وقد روى بعض المفسرين أن الآية [108] موجهة إلى اليهود لأنهم طلبوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم أن ينزل عليهم كتابا من السماء «2» وروى بعضهم أنها موجهة إلى المشركين الذين سألوا أن يأتيهم النبي بالله والملائكة وأن يفجر لهم الأنهار ويجعل جبل الصفا ذهبا «3» . وروى بعضهم أنها موجهة إلى المسلمين لأن واحدا منهم

_ (1) انظر الإتقان للسيوطي ج 2 ص 22، وانظر أيضا تفسير الآية في تفسير الطبري وابن كثير فهما يذكران أن تبديل سمت القبلة من النسخ. ومما رواه الطبري عن ابن عباس قوله: «كان أول ما نسخ القرآن القبلة» . (2) انظر كتب تفسير الطبري والطبرسي والخازن وابن كثير ومنهم من أورد جميع الروايات ومنهم من أورد بعضها. والجواب المأثور عن النبي صلّى الله عليه وسلّم منقول من تفسير الطبري برواية أبي العالية. (3) انظر كتب تفسير الطبري والطبرسي والخازن وابن كثير ومنهم من أورد جميع الروايات ومنهم من أورد بعضها. والجواب المأثور عن النبي صلّى الله عليه وسلّم منقول من تفسير الطبري برواية أبي العالية.

قال: يا رسول الله لو أن كفاراتنا ككفارات بني إسرائيل. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم لا نبغيها، ما أعطاكم الله خير مما أعطاهم، كانوا إذا فعل أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه مع بيان كفارتها. فإن كفرها كانت له خزيا في الدنيا وإن لم يكفرها كانت له خزيا في الآخرة. وقد أعطاكم وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً النساء: [110] وإن الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن، وإن من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشر أمثالها ولا يهلك على الله إلّا هالك» فأنزل الله الآية [2] . وكل هذه الروايات لم ترد في الصحاح، وطلبات المشركين رويت وأوردت في سياق آيات أخرى مكية فليس لها هنا محل في ما هو المتبادر. وطلب اليهود المروي قد حكته إحدى آيات سورة النساء: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) فليس له هنا محل أيضا. وفحوى الآية وروحها تؤيدان كون الآية موجهة إلى المسلمين. ومع ما في الجواب المأثور عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من قوة وروعة على السؤال المروي من أحد المسلمين فإنه لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة. ويلحظ أن الآية: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) هي في سورة النساء المتأخرة كثيرا في النزول عن ظروف نزول هذه الآية وهذا فضلا عن أن ما تمناه المسلم لا ينطبق تماما على ما في الآية من سؤال تنديدي. والذي يتبادر لنا من فحوى الآية ثم من فحوى الآيات عامة أن بعض المسلمين سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم سؤالا فيه قصد تعجيزي أو شكّ ما، واحتواء الآية إنذارا لمن يتبدل الكفر بالإيمان مما يؤيد ذلك. وقد روى الطبري عن ابن عباس أن الآية [109] نزلت في حيي بن أخطب

وياسر بن أخطب من أشد اليهود حسدا للعرب واجتهادا في ردّ الناس عن الإسلام. والرواية كسابقاتها لم ترد في الصحاح وإن كان ما ذكر فيها يتسق مع ما حكته الآية مع القول إن صيغة الآية تفيد أن الأمر لم يكن قاصرا على شخصين من اليهود بل كان شأن الكثيرين منهم بالإضافة إلى المشركين. وأن هذا كان باديا منهم قبل نزول آيات الحلقة بل وقبل نزول آيات حلقات سابقة أخرى. وأن الآية أرادت تنبيه المسلمين إلى سوء نية اليهود ضدهم وشدّة غيظهم وحسدهم لهم رغم ما يعرفونه من الحق والصدق في رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم والقرآن. وإن ورودها بعد الآية التي فيها إنكار لرغبة المسلمين في إيراد الأسئلة على رسول الله وإنذار لمن يبدل الكفر بالإيمان يدل على أن هذه الرغبة كانت من إيحاء اليهود وتلقينهم. ومن نوع ما حكي عن اليهود القدماء وتعجيزهم لموسى عليه السلام. ويتبادر لنا أن ذكر المشركين في الآيتين [105 و 109] قد جاء من قبيل الاستطراد وأن المقصد القريب هو اليهود. ولعله أريد بذكر المشركين في هذا المقام تقرير كون اليهود الذين يفرض أنهم أقرب إلى المسلمين دينا هم والمشركون سواء في إرادة الشرّ وسوء النية نحو المسلمين. وقد تكون التنبيهات التي وردت في الآيتين المذكورتين آنفا قد هدفت إلى توكيد النهي القريب الذي احتوته الآية [104] للمسلمين عن مخاطبة النبي صلّى الله عليه وسلّم بكلمة يلوي اليهود بها ألسنتهم لتكون شتيمة له وسخرية به حتى لا يتحججوا بهم، غير أن روح الآيتين بل فحواهما يلهمان أنهما أوسع مدى من الكلمة المنهي عنها فاليهود يريدون أن يردوهم عن دينهم بكل وسيلة ويضمرون لهم الغيظ والحسد فيجب عليهم أن يتنبهوا لدسائسهم ولا يقعوا في حبائلهم. وقد تدل هذه التنبيهات على ما كان من قوة أثر اليهود في أوساط المسلمين الذين كانت غالبيتهم من أهل المدينة، وهم مواطنوهم وحلفاؤهم قبل الإسلام. وقد يكون من مقاصدها بل ومن مقاصد الآيات السابقة واللاحقة من السلسلة الطويلة فضح نوايا اليهود وخبث سرائرهم وتخليص المسلمين من أثرهم القوي. وتجريدهم من أسباب النجاح من دسهم على النبي صلّى الله عليه وسلّم ودعوته.

وفي صدد الشطر الثاني من الآية [109] نقول إنه احتوى خطة للمسلمين وإنذارا لليهود، فعلى المسلمين أن يتسامحوا ويصبروا إلى أن يكون أمر آخر لله، وعلى اليهود أن لا يستعجلوا هذا الأمر الآخر الرباني. والمتبادر أن اليهود لم يكونوا قد تجاوزوا المماحكات الكلامية ومواقف الدسّ الحذرة إلى النكث والعداء الصريحين فاقتضت حكمة التنزيل أن يؤمر المسلمون بما أمروا. ثم تجاوزوها إلى النكث والعداء الصريحين فأتى بذلك أمر الله الأخير بقتالهم والتنكيل بهم على ما سوف يأتي شرحه في سياق تفسير سورة آل عمران والأنفال والأحزاب والفتح والحشر، وقد لحظ المفسرون هذا ونبهوا عليه بدورهم. والمتبادر أن ما جاء في الآية [110] قد أريد به تلقين المسلمين عدم الاهتمام والاغتمام بدسائس اليهود ومكائدهم، فعليهم أن يقوموا بواجباتهم نحو الله والناس فهو المطلوب منهم وسيكون ما يقدمونه بين أيديهم من خير عدة لهم في الآخرة. ومع خصوصية الآيات الزمنية والموضوعية فإن فيها تلقينات قرآنية جليلة مستمرة المدى مثل سابقاتها بالإضافة إلى ما نبهنا عليه سواء أفي تعليمها أدب الكلام والاستماع، أم في تحذيرها من الألفاظ التي تحدث امتعاضا ولو لم يكن مقصودا أم في الشك بعد الإيمان وإثارة المواضيع التي لا طائل من ورائها أو يكون من ورائها تشويش وبلبلة. أم في الاستماع لوساوس ذوي النوايا الخبيثة الذين يصدرون عن حقد وحسد ومكابرة في الحق ولا يطيب لهم إلا الكيد والدس وإثارة الشبهات وإضعاف القلوب والعزائم. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية [108] بعض الأحاديث المتساوقة معها مدى وتلقينا. من ذلك حديث رواه مسلم جاء فيه: «إنّ أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرّم فحرّم من أجل مسألته» «1» . وحديث رواه الشيخان عن

_ (1) أورد هذا الحديث مؤلف التاج ج 4 ص 95.

[سورة البقرة (2) : الآيات 111 إلى 113]

المغيرة قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينهى عن قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال» «1» . وحديث رواه الشيخان والترمذي جاء فيه: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» «2» . وحديث روي عن أنس بن مالك قال: «نهينا أن نسأل رسول الله عن شيء، فكان يعجبنا أن يأتي الرجل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع» . ونرى محلا للتعليق على الأحاديث والآية التي تساق الأحاديث في سياقها، فالذي يتبادر لنا من الآية أن المنكر من السؤال هو ما فيه تمحّل وتكلف وتشكيك وتعجيز وتنطع. وليس له ضرورة من حاجة ومصلحة وعلم ودين. ويلمح هذا من الأحاديث الثلاثة الأولى. وحديث أنس إن صح وابن كثير لا يذكر سندا ومسندا له فيكون زيادة في الورع وخشية من الوقوع في نطاق ما أنكره الله على المسلمين. وبناء على ما تقدم فإن السؤال عن ما في كتاب الله وسنة رسوله من أحكام وعلم في مختلف الأمور ولا يكون فيه تمحل وتكلف وتعجيز وابتغاء فتنة ويكون فيه مصلحة عامة وخاصة مباحة لا يمكن أن يدخل في ما نهى الله ورسوله عنه. وهناك آيات كثيرة أنزلها الله وأحاديث كثيرة صدرت عن رسول الله بناء على أسئلة واستفتاءات دون أن يرافقها لوم وتثريب وإنكار مما فيه تأييد لهذه النقطة التي تبدو من تحصيل الحاصل وفي السور التي سبق تفسيرها أمثلة كثيرة، وفي السور الآتية أمثلة كثيرة أيضا. وفي كتب الحديث أمثلة كثيرة. وقد أوردنا كثيرا من ذلك في السور السابقة وسنورد كثيرا منها في السور الآتية. [سورة البقرة (2) : الآيات 111 الى 113] وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) .

_ (1) هذا الحديث لم يورده مؤلف التاج. (2) أورد مؤلف التاج هذا الحديث ج 2 ص 100.

تعليق على آية وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ... إلخ وما بعدها إلى الآية [113] وهي الحلقة الحادية عشرة من السلسلة

(1) أمانيهم: تمنياتهم أو ظنونهم وأوهامهم. تعليق على آية وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى ... إلخ وما بعدها إلى الآية [113] وهي الحلقة الحادية عشرة من السلسلة في الآيات: (1) حكاية لقول كل من اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة إلّا أبناء ملتهم. (2) وأمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بتحديهم وطلب البرهان على صدق قولهم بأسلوب يقرر عجزهم عن ذلك. (3) وتقرير بأن هذا القول من قبيل الظن والتمني وهوى النفس. (4) ووضع للأمر في نصابه الصحيح: فالذين يحوزون رضاء الله ويستحقون الأجر والثواب عنده ولا يكون عليهم خوف ولا حزن هم الذين يسلمون أنفسهم إليه فيؤمنون به وحده ويخضعون لأوامره ويتقونه ويحسنون فيما يفعلون. (5) وحكاية لما كان يقوله كل من اليهود والنصارى في حق بعضهم حيث كان اليهود يعتبرون أنفسهم هم المهتدون وينكرون أن يكون النصارى على شيء من الحق، وحيث كان هؤلاء يقفون من اليهود نفس الموقف، وتنديد بالفريقين معا فأقوالهم كأقوال الجاهلين الذين يتخبطون في الظلام وليس عندهم شيء من العلم في حين أن بين أيديهم كتاب الله يتلونه، وأن المفروض أنهم يعرفون حقائق الأمور وليس من اللائق أن يصدر ذلك الكلام عنهم. (6) وتعقيب على ذلك يتضمن تقرير كون الله سوف يحكم يوم القيامة فيما يختلف فيه الفريقان فيؤيد الحق وأصحابه ويخذل الباطل وأصحابه.

وقد روى المفسرون «1» أن الآية الثالثة نزلت في مناسبة قدوم وفد نصارى نجران إلى المدينة للقاء النبي ومناظرته، وأن فريقا من أحبار اليهود شهدوا مجلس المناظرة وقال الفريقان فيه في حقّ بعضهم ما ذكرته الآية. وهذه الرواية لم ترد في الصحاح. ولم يذكر المفسرون شيئا عن مناسبة الآية الأولى. وقد تقتضي الرواية أن يكون ما حكته هذه الآية من جملة ما قاله كل من الفريقين في المجلس أيضا، لأنه من باب واحد وإن اختلفت الصيغة. وننبه إلى أن سلسلة طويلة من سورة آل عمران حكت مجلس مناظرة بين النبي صلّى الله عليه وسلّم والنصارى، وروى المفسرون أنهم وفد نصارى نجران. وقد جاء فيها بعض آيات يمكن أن تفيد أن مجلسا ما شهده بعض اليهود مع وفد نجران على ما سوف يأتي شرحه في سياق تفسير آيات آل عمران فلم يعد والحالة هذه محل لذكر مشاهد مناظرة نصارى نجران أو بعضها في هذه السورة ولا سيما أن قدوم هذا الوفد كان في أواسط العهد المدني. وكان اليهود قد أجلوا جميعهم تقريبا عن المدينة قبل ذلك. يضاف إلى هذا أن الآيات في مكانها وسياقها ومضمونها تبدو كأنها جزء من السلسلة الطويلة الواردة في السورة في حق اليهود في أوائل العهد المدني، واستمرار في حملة التنديد بدسائس اليهود ومواقفهم وأقوالهم. لذلك نحن غير مطمئنين لما روي من صلة وفد نجران بهذا الموقف. ونرجح أن الآيات هي في الدرجة الأولى في صدد مواقف اليهود وأقوالهم وأن ذكر النصارى فيها إما أن يكون بسبب قول مماثل صدر عن النصارى في موقف ما فاقتضت حكمة التنزيل ذكرهم استطرادا، وإما أن يكون حكاية حال صادقة وهذا ما نرجحه لأن الذين تمسكوا بنصرانيتهم لا بد من أنهم كانوا يظنون أنفسهم أنهم الناجون أصحاب الجنة وأن اليهود منحرفون عن شرائعهم وليسوا على شيء من

_ (1) انظر تفسير الخازن وابن كثير.

الحق، وسياق الآيات الخاص باليهود ومواقفهم يرجح ما نقول فيما نرى ونرجو أن يكون هو الصواب. والآية الثانية أي الآية [111] تحتوي تقرير المعنى الذي قررته الآية [62] كما شرحناها بشمول أوسع. فالدعوة النبوية القرآنية قائمة على الدعوة إلى الله وإسلام النفس إليه وحده والعمل الصالح الحسن. فاليهود والنصارى وغيرهم مدعوون إليها. فمن اعتنقها نال رضاء الله ونال أجره وأمن من الخوف والحزن، ويدخل في ذلك المؤمنون برسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم. وعقيدة اليهود في النصارى، والنصارى في اليهود المحكية في الآية [110] كانت وما تزال واقعة ومشاهدة. وفيها تدعيم لقوة الرسالة المحمدية فكل منهما يسفّه الآخر ويراه على باطل وضلال. والناجي منهما هو الذي يسلم وجهه لله ويعمل الصالحات. وهذا حال الذين يستجيبون إلى تلك الرسالة وينضوون إليها لأنها تدعو إلى الحق وتبين الحق من الباطل والهدى من الضلال. وتضع كل شيء في نصابه الحق وتحل الإشكالات التي يرتكس فيها كل من النصارى واليهود سواء أفي نظرة كل من الفريقين إلى عيسى (عليه السلام) - وفي إحداهما إفراط كبير وفي أخراهما بغي كبير- أم في مناقضة شرائع الله وكتبه وتحريفها والانحراف عنها وتغدو هي المنار الهادي والملاذ الواقي والطريق القويم الوسط الذي لا عوج فيه ولا تعقيد ولا انحراف ولا غلو ولا إفراط ولا بغي مصداقا لهذه الآية من هذه السورة: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً البقرة: [143] ولآية المائدة هذه: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ... [48] . والتدعيم بهذا الشرح يبدو قويا رائعا كما هو واضح، وتزداد قوته وروعته حينما يذكر أن التوراة والإنجيل المنزلين من الله تعالى على موسى وعيسى (عليهما السلام) واللذين لم يصلا إلى عهدنا قد ذكرا صفة الرسول الأمين وأمرا أهلهما باتباعه كما جاء في آية سورة الأعراف [157] ، وأن عيسى (عليه السلام) بشّر بنبي

[سورة البقرة (2) : الآيات 114 إلى 115]

من بعده اسمه أحمد كما جاء في سورة الصف، مما يتضمن أمرا باتباعه بطبيعة الحال. ولقد جاء الحديث الذي يرويه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي قال فيه: «والذي نفس محمّد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهوديّ ولا نصرانيّ ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار» حاسما في هذا الباب. ولقد تعددت الأقوال المروية في المقصودين في جملة: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ حيث روى الطبري عن عطاء أنهم الأمم السابقة لليهود والنصارى والتوراة والإنجيل. وعن السدي أنهم مشركو العرب الذين كانوا يقولون إن محمدا ليس على شيء، وهذه الأقوال لم ترد في الصحاح وإن كانت مما تتحمله الجملة ونحن نرجح القول الثاني لأن روح الجملة قد تلهم أنها في صدد واقع حاضر. وهذا لا ينقض بطبيعة الحال ما قلناه في الشرح من أن المراد بالجملة تقوية التنديد باليهود والنصارى بتشبيههم بالجاهلين الذين يلقون الكلام جزافا بدون علم. [سورة البقرة (2) : الآيات 114 الى 115] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115) . (1) سعى في خرابها: سعى في تعطيل الشعائر الدينية فيها. الآية الأولى تضمنت تنديدا شديدا بمن يمنع الناس من ذكر الله في مساجده ويسعى في تعطيل إقامة شعائر الله فيها، مع أن أمثال هؤلاء ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين. وإنذارا لهم بما يستحقون من الخزي والهوان في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة.

تعليق على آية ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه والآية التي بعدها وهما الحلقة الثانية عشرة من سلسلة بني إسرائيل

والآية الثانية تضمنت تقرير كون المشرق والمغرب لله، وأن عابد الله والمتجه إليه يجده أينما ولّى وجهه، فالله سبحانه غير محصور في جهة دون أخرى وهو واسع الملك والحكم عليم بحقائق الأمور ومقتضياتها. ومن المؤولين من أوّل جملة وَجْهُ اللَّهِ برضائه وتوجيهه ومنهم من أوّلها بذاته ومنهم من أوّلها بوجوده وكل من هذه التأويلات وارد ومن الواجب الوقوف عند ذلك دون تزيد على ما نبهنا عليه في مناسبة الآية [89] من سورة القصص التي ورد فيها كلمة وَجْهُ بمعنى وجه الله تعالى. تعليق على آية وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ والآية التي بعدها وهما الحلقة الثانية عشرة من سلسلة بني إسرائيل لقد تعددت الروايات والأقوال التي يرويها ويذكرها المفسرون في صدد كل من الآيتين، فمن ذلك في صدد أولاهما أنها للتنديد ببختنصر البابلي الذي هدم معبد بيت المقدس وبالنصارى والروم الذين ساعدوه على ذلك لحقدهم على اليهود الذين قتلوا يحيى بن زكريا (عليهما السلام) ، ومن ذلك أنها للتنديد بالنصارى الذين كانوا يطرحون الأذى في ذلك المعبد ويمنعون الناس عن الصلاة فيه، ومن ذلك أنها للتنديد بالروم الذين خربوا ذلك المعبد، ومن ذلك أنها للتنديد بالمشركين الذين صدوا النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين عن المسجد الحرام يوم الحديبية «1» . وفي بعض هذه الأقوال تهافت وغرابة وبعد مناسبة مثل مساعدة النصارى لبختنصر مع أن بختنصر سابق لميلاد المسيح وليحيى بن زكريا بستة قرون. ومثل طرح النصارى الأذى على المعبد ومنعهم من الصلاة فيه مع أن المعبد هدم وصار أطلالا في زمن الروم قبل أن يستطيع النصارى فعل شيء بل كانوا هم أيضا مضطهدين.

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري وابن كثير والخازن والطبرسي والبغوي. [.....]

ورواية كونها في صدد منع قريش للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين بعيدة أيضا لأن هذا كان في السنة السادسة وبعد التنكيل باليهود وإجلائهم عن المدينة. وهذه الآيات وما قبلها وما بعدها نزلت فقط فيما كان اليهود لا يزالون موجودين في المدينة وعلى شيء من القوة والحيوية. ومما أوردوه في صدد الآية الثانية أنها ردّ على اليهود الذين استنكروا تحويل القبلة عن المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام وقالوا إن محمدا قد ضيّع على المسلمين صلاتهم. ومن ذلك أنها نزلت في النجاشي حين توفي قبل أن يصلي إلى القبلة. ومنها أنها نزلت لتخيير المسلمين بتوجيه وجوههم في الصلاة أنى يريدون وأن ذلك كان قبل فرض التوجه نحو البيت الحرام. ومنها أنها نزلت في مناسبة صلاة بعض المسلمين في ليلة مظلمة دون تيقنهم من القبلة ومراجعتهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك. ومعظم الروايات لم ترد في الصحاح. وهناك حديث رواه الترمذي عن عامر بن ربيعة قد يؤيد الرواية الأخيرة جاء فيه: «كنّا مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة فصلّى كلّ رجل منّا على حياله. فلمّا أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ «1» . والحديث يقتضي أن تكون الآية نزلت منفردة مع أنها منسجمة مع سابقاتها ومع السلسلة. ويتبادر لنا من سياق السلسلة أن رواية كونها للردّ على اليهود الذين استنكروا تحويل القبلة عن المسجد الأقصى قوية الاحتمال والصحة. وأن ذلك يشمل الآية الأولى أيضا. وأن الآية الأولى هي بمثابة تمهيد تنديدي وإنذاري للرد الذي احتوته الآية الثانية على اليهود وأن لهذا الرد صلة بالآية [106] من الحلقة التاسعة التي رجحنا أنها في صدد نسخ القبلة وتحويل سمتها عن المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام. ومما يدعم توجيهنا إن شاء الله كون الآيتين غير منفصلتين عن السلسلة الطويلة التي ما فتئت تذكر دسائس اليهود وتعطيلهم وجحودهم وتندد بهم. ثم الآيات [124- 129] الآتية بعد قليل والتي فيها تنويه بالكعبة وبنائها من قبل

_ (1) التاج ج 1 ص 137.

إبراهيم وإسماعيل بأمر الله لتكون مثابة للناس وأمنا ومكانا للطائفين والعاكفين والركع السجود مما ينطوي فيه تبرير لتحويل سمت القبلة إليها. ثم الآيات [141- 150] التي تذكر إنكار اليهود لتحويل القبلة وتشكيكهم المسلمين في صلواتهم وفي نبيهم. وقد قالوا لهم فيما قالوه إنه يأمرهم بشيء ثم يعدل عنه وهذا ليس من شأن الأنبياء وأن استقبال المسجد الأقصى إذا كان خطأ فيكون قد أضاع صلواتهم وإن كان صوابا فيكون في عدوله عنه إضاعة لصلواتهم أيضا «1» فجاءت الآيتان لتنددا باليهود لأنهم يمنعون الناس عن ذكر الله في مساجد الله ويسعون في خرابها والمسجد الحرام منها على اعتبار أن إهماله من المسلمين بالمرة بمثابة خرابه. ولتطمئنا المسلمين بأن الله تعالى موجود في كل مكان وليس منحصرا في اتجاه بيت المقدس. وبأن الأمر في جوهره هو عبادة الله الموجود في كل مكان. والمتبادر إذا صح هذا كما نرجو أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم تلا هذه الآية حينما أخبره عامر بما كان من أمرهم في الليل فالتبس الأمر عليه أو على الرواة وظنوا أنها نزلت جوابا على السؤال. ولقد تعددت تأويلات المفسرين «2» في جملة: أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ فمن ذلك أن الذين يعطلون مساجد الله هم الأحرى ألا يدخلوها إلا خائفين من بطش المسلمين. ومن ذلك أن الأحرى بهم أن يدخلوها خائفين من هيبة الله فكيف يكونون مفسدين ومخربين لها وهذا هو ما اختاره السيد رشيد رضا، ونحن نراه الأوجه. ومع خصوصية الآيات ففيها تلقينات سامية مستمرة المدى سواء في تقريرها حرية العبادة لله وأماكنها، وتنديدها بمن يحول دونها ويعتدي عليها بالتخريب والتعطيل أم في تقريرها سعة أفق الدين الإسلامي واهتمامه للجوهر دون العرض. ولقد روى الطبري عن بعض أهل التأويل أن الآية الثانية نسخت بالآية:

_ (1) انظر تفسير آيات سورة البقرة [142- 150] في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن. (2) انظر المصدر نفسه.

فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [144] التي تأتي بعد قليل. وقد يكون هذا في محله من حيث الموضوعية. غير أن الآية قد جاءت في معرض الرد على دس اليهود وشغبهم ويظل مداها محتملا لسعة أفق الإسلام على ما ذكرناه آنفا فيما هو المتبادر والله أعلم. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» «1» . وروى عن ابن عمر حديثا فيه توضيح وإن لم يرد في الصحاح جاء فيه: «إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة إذا استقبلت القبلة» والحكمة الملموحة في الحديث الأول التوسيع على المسلمين وعدم المشقة عليهم في التحري والتدقيق. وتقرير كون الواجب عليهم هو الاتجاه نحو سمت الكعبة. وهناك حديث رواه الخمسة عن جابر قال: «كان النبيّ يصلّي على راحلته حيث توجّهت فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القبلة وفي رواية كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسبّح على الراحلة قبل أيّ وجه توجّه ويوتر عليها غير أنه لا يصلّي عليها المكتوبة» «2» . وحديث رواه الترمذي عن ابن عمر قال: «كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يصلّي على راحلته تطوّعا أينما توجّهت به وهو جاء من مكة إلى المدينة ثم قرأ ابن عمر وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ وقال أنزلت في هذا» «3» . وحديث رواه أصحاب السنن عن جابر قال: «بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حاجة فجئت وهو يصلّي على راحلته نحو المشرق والسجود أخفض من الركوع» «4» . وفي الأحاديث توسيع على المسلمين في صلواتهم التطوعية التي يصلونها على ظهور رواحلهم مستمد من سعة الأفق المنطوي في الآية. ويصح أن يقاس عليه الصلوات التطوعية في البواخر والقطارات والطيارات كما هو المتبادر والله تعالى أعلم.

_ (1) التاج ج 1 ص 136 وممن رووا الحديث مع الترمذي الحاكم والدارقطني. (2) المصدر نفسه ص 137. (3) التاج ج 4 ص 37. (4) المصدر السابق نفسه.

[سورة البقرة (2) : الآيات 116 إلى 119]

[سورة البقرة (2) : الآيات 116 الى 119] وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119) . تعليق على الحلقة الثالثة عشرة من سلسلة الآيات الواردة في اليهود في الآيتين الأوليين: حكاية بأسلوب تنديدي لقول الذين يقولون إن الله اتخذ ولدا وتنزيه له عن ذلك. فهو الذي أبدع السموات والأرض وخلقهما من العدم على هذا النظام البديع وهو الذي يخضع له كل ما فيهما. وهو الذي يقول للشيء إذا أراده كن فيكون ومثل هذا الإله منزه ومستغن عن الولد والشريك والندّ. وفي الآيتين الأخريين: 1- حكاية لاقتراح بعض الجاهلين أن يكلمهم الله أو تأتيهم منه آية بأسلوب فيه تحدّ وتعجيز. 2- وردّ تنديدي عليهم فهم في اقتراحهم وتعجيزهم كالذين من قبلهم وهذا مظهر من مظاهر تشابه القلوب والأخلاق. 3- وتنبيه إلى أن الله تعالى إنما أنزل آياته بينات لمن يريد أن يؤمن به ويرغب في الاهتداء إليه. وأن الله إنما أرسل النبي صلّى الله عليه وسلّم داعيا إلى الحقّ وبشيرا ونذيرا وحسب. 4- وتسلية للنبي فهو غير مسؤول عن إيمان الذين خبثت سرائرهم وقست قلوبهم واستحقوا النار بوقوفهم موقف التعجيز والمكابرة.

وقد تعددت أقوال وروايات المفسرين «1» في من عنته الآيات فقالوا إنهم النصارى، وقالوا إنهم اليهود، وقالوا إنهم المشركون. وكل من هؤلاء قد نسب الولد لله سبحانه وتعالى وفي سورة التوبة آية تحكي عقيدة اليهود بأن العزير ابن الله: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) أما دعوى المشركين والنصارى فقد حكتها آيات كثيرة مكية ومدنية. وقد حكت آيات مكية ومدنية كثيرة تحدي المشركين واليهود النبي بالإتيان بالمعجزات ومنها ما هو من نوع ما ذكرته الآية الثانية «2» . غير أن عطف الآيات على ما قبلها وكونها من سلسلة طويلة في حق بني إسرائيل وأفعالهم ومواقفهم يجعلنا نرجح أن اليهود هم المقصودون في الآيات. ولعل جملة الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قرينة على أن المقصود هم اليهود في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث كان أجدادهم يطلبون من موسى أن يريهم الله جهرة تارة وأن يكلمهم الله تارة وأن يأتيهم بالآيات تارة على ما ذكرته بعض آيات السلسلة على سبيل التذكير والتنديد. وبهذا الذي نرجو أن يكون صوابا تكون هذه الآيات حلقة من سلسلة الآيات الواردة في يهود بني إسرائيل أيضا. ولقد ورد أن وصف اليهود بجملة لا يَعْلَمُونَ فيه نظر، لأنهم كانوا يوصفون بأهل العلم وأهل الكتاب ووصفوا بذلك في القرآن. وقد أجاب القاسمي على هذا جوابا سديدا وهو أن الله تعالى نفى عنهم العلم بطلبهم ما طلبوا لأن ذلك لا يطلبه من عنده علم، وقد يصح أن يزاد على هذا أن النفي من قبل التبكيت والتنديد والله أعلم. ولقد روى الطبري في صدد الآية الثالثة عن محمد بن كعب القرظي وابن

_ (1) انظر تفسيرها في كتب التفسير السابقة الذكر. (2) انظر آيات سورة آل عمران [183] والنساء [153] والأنعام [158] والنحل [33] والفرقان [21] .

[سورة البقرة (2) : الآيات 120 إلى 123]

جريج أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال ذات يوم: «ليت شعري ما فعل أبواي ثلاثا فأنزلها الله» . وقد فند الطبري الرواية وأول الجملة بتأويل مماثل لتأويلنا. وهذه الجملة قد تكررت في مقامات عديدة نصا أو معنى ولا سيما في العهد المكي للهدف نفسه على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة ويظهر أن حكمة التنزيل اقتضت إيحاءها في هذا المقام في صدد ما كان من شدة إنكار اليهود وجحودهم ودسائسهم. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأولى حديثا رواه البخاري أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله تعالى كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأمّا شتمه إياي فقوله لي ولد فسبحاني أن أتخذ ولدا» «1» . وفي الحديث تنديد رباني بالمشركين والجاحدين لليوم الآخر بأسلوب آخر غير الأسلوب القرآني الذي تكرر ذلك كثيرا لحكمة يعلمها الله ورسوله. [سورة البقرة (2) : الآيات 120 الى 123] وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) . تعليق على الحلقة الرابعة عشرة من سلسلة الآيات الواردة في اليهود في هذه السورة وجّه الخطاب في الآية الأولى للنبي صلّى الله عليه وسلّم لتقرر له فيها بأن اليهود والنصارى

_ (1) التاج ج 4 ص 37 و 38 فصل التفسير.

لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم ويسير على طريقتهم، ولتأمره بالرد عليهم بأن هدى الله الذي هداه إليه هو الهدى الصحيح ولتنبهه بأنه لو اتبع أهواءهم بعد ما جاءه من العلم الذي فيه الحق والهدى لتخلّى الله عن نصرته ولما وجد له من دونه وليا ولا نصيرا. وفي الآية الثانية إشارة تنويهية إلى الذين يتلون كتاب الله حق تلاوته ممن آتاهم الله الكتاب. فهؤلاء هم الذين يعرفون الحق الذي فيه ويسيرون على هداه ولا يمارون فيه، أما الذين يكفرون بالحق والهدى منهم فإنهم الخاسرون. وفي الآيتين الثالثة والرابعة خطاب إنذاري وتذكيري موجه إلى بني إسرائيل ليذكروا نعمة الله عليهم وما كان من تفضيله إياهم على الناس وليتقوا هول اليوم الآخر الذي لا تغني فيه نفس عن نفس، ولا يقبل فيه بدل ولا عدل، ولا تنفع فيه شفاعة ولا يكون لأحد نصر من أحد. ولقد ذكر المفسرون في صدد الآية الأولى أن كلا من اليهود والنصارى كانوا يطلبون من النبي صلّى الله عليه وسلّم المهادنة ويأملون أن يتبع ملتهم ويراودوه على ذلك ليؤمنوا به. ومما ذكروه كذلك أن كلا منهم كان يطلب منه الثبات على استقبال المسجد الأقصى لأنه قبلتهم حتى يؤمنوا برسالته فنزلت للرد عليهم وتحذير النبي صلّى الله عليه وسلّم من وساوسهم. ويتبادر لنا أن اليهود هم المقصودون في الدرجة الأولى في الآية وأن ذكر النصارى هو للتعبير عن لسان حال الذين تمسكوا بنصرانيتهم كما رجحنا ذلك بالنسبة للآية: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى وأن اليهود قد اضطربوا وانفعلوا حينما تحول سمت القبلة عن قبلتهم إلى المسجد الحرام فحاولوا خداع النبي صلّى الله عليه وسلّم أو إغراءه، والخطاب موجه لبني إسرائيل فقط في الآيتين الأخريين حيث يدعم هذا ترجيحنا كون اليهود هم الموضوع الرئيسي في السلسلة الطويلة وكون ذكر النصارى هو من باب الاستطراد. ولقد روى المفسرون أربعة أقوال في من عنتهم الآية الثانية، منها قولان عن ابن عباس واحد يذكر أنهم جماعة من الأحباش آمنوا وقدموا المدينة مع جعفر بن

أبي طالب حين رجع من الهجرة الأولى، وواحد يذكر أنهم جماعة من الروم فيهم بحيرا الراهب، وقول عن الضحاك أنهم الذين آمنوا من اليهود مثل عبد الله بن سلام. وقول عن عكرمة أنهم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم. وليس شيء من الروايات واردا في الصحاح. ورواية الحبشة بعيدة لأن جعفر رجع بعد صلح الحديبية وإجلاء اليهود عن المدينة والآيات تفيد أنهم كانوا ما يزالون فيها. وجماعة النصارى ورد فيها آيات في سورة المائدة، ونعت الجماعة بالذين آتيناهم الكتاب يجعل صرفها إلى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غير سائغ. والسياق في اليهود بحيث يسوغ الترجيح بكونهم من اليهود الذين آمنوا. وفي سورة النساء آية صريحة بأن بعض الراسخين في العلم من اليهود آمنوا برسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم وكانوا يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهي الآية [162] . ولقد اختلف المفسرون في عائدية ضمير الغائب في بِهِ في الآية الثانية. فمنهم من قال إنه عائد إلى القرآن ومنهم من قال إنه عائد إلى كتب أهل الكتاب. والمقام يتحمل هذا وذاك ونحن نرجح القول الأول الذي عبر عنه بكلمة الْعِلْمِ في الآية الأولى. فتكون الآية الثانية بذلك مع ظرفية نزولها قد انطوت على تقرير عام مستمر المدى بأن كل من يتلو كتب الله حق تلاوتها وتفهمها حق الفهم من أهل الكتاب لا بد من أن يؤمن برسالة محمد وبما أنزله الله عليه. وهذا تقرير صادق دامغ، ولقد أخبرنا الله في آيات عديدة مثل الأنعام [19 و 100] والأعراف [157] والصف [6] أن اليهود والنصارى يجدون صفات محمّد في التوراة والإنجيل وأن عيسى بشّر به، وأن أهل الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وأن القرآن منزل من الله. ولقد كانت هذه الآيات تتلى علنا ويسمعها أهل الكتاب وقد علموا ما فيها من حق وصدق فآمن منهم من استطاع أن يتغلب على أنانيته ومنافعه وإذا كان أهل الكتاب اليوم يقولون إن ذلك ليس في التوراة والإنجيل فإن التوراة والإنجيل ليسا في أيديهم وقد فقدا، وإن ما في أيديهم مكتوب بأقلام متأخرة وقد طرأ عليها تحريف وتبديل وشيبت بالتناقض على ما شرحناه في سياق شرحنا للتوراة والإنجيل في تفسير سورة الأعراف.

هذا وننبه على أنه ليس من محل للتوهم من سبك جملة: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مال إلى اتباع ملة اليهود أو النصارى فالجملة أسلوبية ورد مثلها في مقامات عديدة بهدف تثبيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وبثّ الثقة والحذر في نفسه وحسب. ولعل من مقاصد التحذير من اتباع أهواء اليهود والنصارى التنبه على ما كانوا عليه حين نزول الآيات من خلاف ونزاع وانقسام إلى شيع وأحزاب في الدين وانحرافات وشذوذ عن الأصل الذي تتطابق معه الدعوة الإسلامية. ثم الاستدراك لما عسى أن يوجه إلى القرآن والنبي من نقد بسبب الحملة عليهم وتقرير ضلالهم بعد تقريرهما هذا التطابق، وتقرير كون التطابق هو مع الأصل الصافي الذي حرفوه وانحرفوا عنه. وإلى هذا ففي هذا التحذير تلقين جليل مستمر المدى في وجوب الثبات على الأصل الصافي للرسالة المحمدية التي يمثلها القرآن والسنة وعدم الانحراف عنهما واتباع الهوى وتأويلهما كما فعل الكتابيون ذلك. ومع أن جملة يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ هي في صدد أهل الكتاب وكتبهم فإن أهل التأويل والمفسرين وقفوا عندها لاستنباط حكم عام منها على المسلمين بالنسبة للقرآن وقالوا إنها توجب عليهم أن يتدبروا أحكامه ويتمعنوا في محتواه ويتبعوا أوامره ونواهيه حق الاتباع. وأوردوا قولا لابن مسعود جاء فيه: «والذي نفسي بيده إن حقّ تلاوته أن يحلّ حلاله ويحرّم حرامه ويقرأه كما أنزله الله ولا يحرّف الكلام عن مواضعه ولا يتناول شيئا على غير تأويله» . وذكر القاسمي الذي نقلنا عنه هذا أن قولا مثله مروي عن ابن عباس أيضا وهذا حق في ذاته بل هو تحصيل حاصل بدون ضرورة إلى استنباطه من الجملة التي لا شك في أنها في صدد أهل الكتاب وكتبهم. وقد يناسب هذا إشارة إلى ما عليه جمهور المسلمين من تلاوة للقرآن تلاوة آلية للتعبد وحسب، ومع أن تلاوة القرآن لذاتها وسيلة قربى إلى الله فإنهم على

[سورة البقرة (2) : الآيات 124 إلى 129]

الأعم الأغلب يتلونه بدون تدبر ولا تذكر ويخالفون أحكامه وأوامره ونواهيه ومواعظه وعبره قولا وفعلا. وليس هذا من تلاوة القرآن حق تلاوته في شيء، والله أنزله ليتدبر الناس آياته وليخرجهم من الظلمات إلى النور قولا وفعلا وسلوكا وإيمانا، ولقد روى مسلم وأبو داود عن أبي ذرّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ بعدي من أمتي أو سيكون من بعدي من أمتي قوم يقرأون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه. هم شرّ الخلق والخليقة» «1» . ورواية أبي داود هي: «سيكون من أمّتي اختلاف وفرقة، قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، يدعون إلى كتاب وليسوا منه في شيء» «2» . [سورة البقرة (2) : الآيات 124 الى 129] وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) . (1) ابتلى: امتحن. (2) مثابة: مرجعا ومحجا.

_ (1) التاج ج 5 ص 285 و 286 وقد يصح الاستدراك أن هذا الوصف هو بنوع خاص للمتعمدين والله أعلم. (2) التاج ج 5 ص 285 و 286 وقد يصح الاستدراك أن هذا الوصف هو بنوع خاص للمتعمدين والله أعلم.

تعليقات على الآية وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات ... إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [129] وهي الحلقة الخامسة عشرة من سلسلة الآيات الواردة في اليهود

(3) مقام إبراهيم: مكان أو حجر كان في فناء الكعبة معروف بهذا الاسم. (4) مصلى: محل صلاة. (5) العاكفين: العكوف بمعنى الإقامة. ثم صار منها اصطلاح وهو التعكف بمعنى الإقامة في الحرم أو المسجد بقصد العبادة. (6) القواعد: الأسس. والتعبير يشمل الأسس وما عليها. (7) الحكمة: ما فيه الصواب والسداد. (8) يزكيهم: يطهر نفوسهم. تعليقات على الآية وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ ... إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [129] وهي الحلقة الخامسة عشرة من سلسلة الآيات الواردة في اليهود في هذه الآيات: 1- إشارة تذكيرية إلى أن الله تعالى كان أمر إبراهيم عليه السلام بفعل بعض الأمور على سبيل الاختبار ففعل ذلك كما ينبغي فاستحق رضاءه، وقال له إني جاعلك للناس إماما وقدوة فسأل ربّه أن يكون هذا الفضل شاملا لذريته أيضا فأجابه إن الظالمين أي المنحرفين الباغين منهم لا يصحّ أن ينالوه. 2- وتقرير بأن الله قد جعل البيت أي الكعبة مثابة ومحجا للناس جميعهم وبأنه أمر باتخاذ مقام إبراهيم مكان صلاة. 3- وإشارة إلى ما كان من أمر هذا البيت في البدء، حيث اختص الله مكانه ليكون معبدا ومنطقة أمن وسلام، وأمر إبراهيم وإسماعيل أن يطهرا هذا المكان ويهيئاه ويبنياه ليكون مكان طواف وعكوف وركوع وسجود للناس جميعا، وحيث صدعا بالأمر ورفعا قواعد البيت ودعوا الله أن يتقبل منهما خدمتهما وأن يهديهما

إلى معرفة ما يجب عليهما من المناسك ويساعدهما على أدائها وأن يجعلهما مسلمين له وحده وأن يجعل ذريتهما أيضا أمة مسلمة منقادة له وحده. وأن يبعث فيها رسولا منها يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب وكل ما فيه الصواب والسداد ويطهر نفوسهم وينقذهم من الضلال ويرشدهم إلى الحق والخير والهدى. وأن يجعل البلد الذي فيه البيت آمنا لا يقع فيه بغي ولا ظلم ولا سفك دم، وأن يرزق من يكون مؤمنا من أهله بالله واليوم الآخر من الثمرات وييسر لهم الرزق الرغد. ولم نطلع على رواية خاصة بنزول هذه الآيات التي قد تبدو الآيات فصلا مستقلا لا علاقة له باليهود والسياق الطويل السابق. غير أن الحلقة التي جاءت بعدها عادت إلى ذكر اليهود ومواقفهم وأقوالهم والتنديد بهم ثم جاءت بعدها حلقة أخرى احتوت موضوع تبديل القبلة إلى اتجاه الكعبة ونددت باليهود لموقفهم من هذا التبديل موقف النقد والتشكيك مما يجعل هذه الآيات غير منقطعة عن السياق السابق واللاحق ومما يسوغ القول إن فيها تبريرا وتدعيما للتبديل المذكور وردا على موقف اليهود منه في بيان صلة الكعبة بالله تعالى وإبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) وفضلها وكونها جعلت بأمر الله منذ القديم مثابة للناس ومحجا ومكان عبادة وطواف وسجود وركوع له. وهذا فضلا عن شمول جملة لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ لليهود من بني إسرائيل المنحرفين عن الحق والهدى بل فضلا عن احتمال كون المقصود بها هم هؤلاء وبخاصة المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم موضوع الكلام في الدرجة الأولى. وكل هذا جعلنا نسلكها في عداد الحلقات الواردة في هذه السورة فيهم. ولقد أورد المفسرون «1» أقوالا عديدة في الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم معزوة إلى بعض علماء التابعين وتابعيهم. منها أنها قصّ الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس في الجبهة وتقليم الأظفار وحلق العانة والختان

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي والخازن وابن كثير.

ونتف الإبط وغسل أثر الغائط والبول. ومنها أنها حلق العانة والختان ونتف الإبط وتقليم الأظفار وقصّ الشارب والاغتسال يوم الجمعة والطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة. ومنها أنها عبادة الكوكب ثم القمر ثم الشمس التي أداها ثم ارتدّ عنها لأفولها ثم النار التي ألقي فيها ثم الهجرة ثم الختان. وقد قال الطبري إنه لم يصح من ذلك شيء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيجوز أن تكون هذه أو غيرها وبعضها أو جميعها وهو كلام صائب. ويبدو أن ما قيل في صدد ذلك من باب التخمين وليس من وراء اكتشاف الكلمات بالتخمين من طائل. والأولى أن يكتفى بالقول إنها أوامر ونواه ربانية أمر الله بها خليله عليه السلام فأداها على النحو الذي أمره بها. وإن كان من شيء يمكن أن يقال بالإضافة إلى هذا فهو أن الروايات تذكر أن العادات الجسدية المذكورة في أول الأقوال مما كان ممارسا في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم بالإضافة إلى الطواف والسعي. وظلت تمارس في الإسلام منها ما كان بأمر قرآني وهو الطواف والسعي ومنها ما كان بتعليم نبوي قولي وفعلي. فمن الجائز أن يكون التخمين بالنسبة لهذه العادات مستمدا من ذلك وأن يكون أهل بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم كانوا وظلوا ينسبونها إلى إبراهيم (عليه السلام) والله أعلم. وكلمة ذُرِّيَّتِي الواردة في الآية [124] تشمل كما هو المتبادر جميع المنتسبين إلى إبراهيم بالنبوة وأبناء إبراهيم الذين خلفوا ذريته هم اسحق وإسماعيل وزمران ويقشان ومدان ومدين ويشاق وشوما إذا صح ما ورد في سفر التكوين بالنسبة للستة الآخرين. أما إسحق وإسماعيل فقد نسبهما القرآن لإبراهيم فيجب الإيمان بذلك، والمشهور المتداول أن بني إسرائيل من ذرية إسحق وأن العرب العدنانيين الذين منهم القرشيون من ذرية إسماعيل على ما ذكرناه في مناسبات سابقة. ولقد أول المؤولون على ما رواه الطبري جملة لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ بأنها بمعنى لا يكون من الظالمين من ذرية إبراهيم من يرضى الله أن يكون إماما للناس أو أنها بمعنى استثناء الظالمين مطلقا من ذريته من مدى عهد الله له. ويتبادر لنا أن حكمة الله في هذا الاستثناء هدفت إلى إحباط تبجح المنتسبين بالبنوة إلى إبراهيم

إذا كانوا منحرفين عن ملته وطريقته وجادة الحق التي كان يسير عليها والانقياد إلى الله وإسلام النفس له وحده. ومن المحتمل أن يكون أريد بهذا في المقام والسياق اللذين وردت فيهما الآية بنو إسرائيل الذين وقفوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم موقف البغي والظلم والجحود. والذين كانوا يتبجحون بأنهم على هدى وأنهم أئمة وقدوة للناس حيث أريد تكذيبهم في دعاويهم هذه برغم انتسابهم إلى إبراهيم (عليه السلام) ، وهو احتمال قوي في ما يتبادر لنا والله أعلم. أما كلمة ذُرِّيَّتِنا الواردة في الآية [128] فقد قال الطبري وغيره إنها عنت العرب، وروح الآية التي وردت فيها الكلمة تلهم صواب ذلك. ومما يؤيده أيضا اشتراك إسماعيل في الدعوة لأن إسماعيل هو الذي ينتسب إليه العدنانيون ثم القرشيون من العرب على ما ذكرناه قبل. ولقد أورد الطبري حديثا في سياق الجملة جاء فيه: «إنّ نفرا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك. قال: نعم أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى عليهما السلام» . والحديث لم يرد في الصحاح وإن كان القرآن يؤيد فحواه في الجملة التي نحن في صددها وفي آية سورة الصف [6] على أننا نقول مع ذلك إن النبي صلّى الله عليه وسلّم يعلم من دون ريب أن رسالته من مقتضيات حكمة الله الأزلية قبل إبراهيم ودعوته. وإنه يتبادر لنا من حكاية دعاء إبراهيم وإسماعيل في هذه الآية وفي الحديث إذا صح أن القصد من ذلك بالإضافة إلى واجب الإيمان بما أخبر به القرآن من كلام إبراهيم في صدد ذريته توكيد الصلة بين النبي صلّى الله عليه وسلّم والأرومات التي انحدر منها وبين إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) . وهناك حديث نبوي صحيح رواه مسلم والترمذي عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم» «1» . ومثل ما تقدم يقال بالنسبة لحكاية دعاء إبراهيم في الآية [126] بأن يجعل

_ (1) التاج ج 3 ص 205. [.....]

الله البلد الذي فيه البيت آمنا ميسّر الرزق حيث انطوى فيها بالإضافة إلى واجب الإيمان بخبر دعاء إبراهيم الذي أخبر به القرآن توكيد الصلة بين إبراهيم وبين أمن البلد الحرام وما يتمتع أهله به من رغد الرزق. وهذا كله يقال أيضا بالنسبة لما ذكرته الآية [127] من بناء البيت من قبل إبراهيم وإسماعيل. ومقام إبراهيم هو على أرجح الروايات وأوجهها مكان معين في فناء الكعبة ما يزال معروفا بالتواتر الذي لم ينقطع منذ عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم. وصيغة الآية وروحها يلهمان أن هذا المكان كان معروفا باسم مقام إبراهيم قبل البعثة النبوية، وقد أثر حديث عن عمر بن الخطاب رواه البخاري جاء فيه: «وافقت ربّي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلّى ... إلخ» . وقد روى المفسرون أنه كان يطلق على مكان فيه حجر عليه ما يشبه طبعة قدم كان العرب يعتقدون أنها أثر قدم إبراهيم حيث كان يقف عليه حينما كان يبني الكعبة. وفي الحديث الطويل الذي رواه البخاري عن ابن عباس وأوردناه في سياق تفسير الآيات [35- 41] من سورة إبراهيم والذي فيه خبر إسكان إبراهيم ولده إسماعيل في وادي مكة وبناء إبراهيم وإسماعيل الكعبة بأمر الله إشارة إلى هذا الحجر حيث ينطوي في هذا ما قلناه في مناسبات سابقة من أن العرب في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم وعصره كانوا يتداولون ذلك. وإذا كان ليس اليوم هناك حجر عليه طبعة قدم فهذا لا ينفي ذلك التداول الذي كان مستندا إلى مشاهدة حيث يكون قد زال الأثر بتأثير السنين الطويلة. وفي كتب التفسير في سياق هذه الآيات أحاديث وروايات مسهبة معزوة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وبعض أصحابه وتابعيهم في صدد أولية وظروف بناء الكعبة من قبل إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) . وقد أوردنا من ذلك ما رأينا فيه الكفاية والفائدة في سياق تفسير سور قريش وإبراهيم والحج فنحيل القارئ عليه ونكتفي هنا بهذا التنبيه. ولقد روى المفسرون عن بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتابعيهم في صدد جملة وَأَرِنا مَناسِكَنا في الآية [128] أن المقصود منها مناسك الحج وهي

الطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفات والإفاضة منها والإفاضة من المزدلفة ورمي الجمار في منى (وهي الحصيات التي تقذف على أنصاب حجرية في منى) ومحل ذبح القرابين إلخ إلخ ... وأن كل هذا مما أنشأه بدءا إبراهيم (عليه السلام) . وأوردوا بيانات في أسباب ذلك وكيفيته معزوة إليهم وقد أجّلنا تلخيص ذلك وشرح هذه المناسك إلى مناسبات أكثر ملاءمة في هذه السورة. وواضح أن في كل ما تقدم تدعيما لنبوة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم ولفضل الكعبة ومنطقتها. وفي الوقت نفسه تدعيما وتبريرا لحادث تبديل اتجاه القبلة عن المسجد الأقصى إلى الكعبة وهو ما تضمنته آيات سابقة على ما نبهنا عليه وما تضمنته آيات أخرى آتية بعد قليل. وفيه كذلك ردّ على اليهود الذين حاولوا التشويش والتشكيك والدسّ في ظرف ذلك الحادث الذي أثار غيظهم على ما سوف يأتي شرحه. ولعل لجملة وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى في مقامها معنى هاما في صدد تبديل القبلة حيث انطوى فيها إشارة إلى صلة إبراهيم بالكعبة وأثره عندها الذي كان قبل البعثة وما زال في إبانها مشهودا مشهورا باسم مقام إبراهيم وتبريرا بكونها هي الأولى باتخاذها قبلة، فضلا عن ما في تقرير كون إبراهيم وإسماعيل هما اللذان رفعا قواعدها من كل ذلك. ولقد خطر لنا خاطر نرجو أن يكون صوابا إن شاء الله وهو احتمال أن يكون الأمر المنطوي في الجملة تعبيرا آخر لاتخاذ الكعبة قبلة لأنها كانت من إنشاء إبراهيم وكان مقامه عندها مشهودا مشهورا والله أعلم. هذا، وفي الآيات تلقينات مستمرة المدى، منها ما احتوته جملة لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ من تقرير بأن الله تعالى لا يمكن أن يرضى عن الظلم الذي يتجسد في البغي والجور والعدوان والانحراف عن جادة الله وشرائعه، ولا عن إمامة ظالم وحكمه، وبأنه لا يصح أن يكون لظالم عهد، وبأن انتسابه إلى آباء صالحين لا يبرر شيئا من ذلك. ومنها ما احتوته جملة وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ من تقرير كون تمتع الكافر بالدنيا لا يتنافى مع الحكمة الربانية ولا يصح

[سورة البقرة (2) : الآيات 130 إلى 135]

أن يعدّ دليلا على رضاء الله عنه، وقد تكررت هذه التلقينات في مواضيع كثيرة في السور المكية على ما نبهنا وعلقنا عليه في مناسباته. حيث يبدو التساوق بين التقريرات القرآنية المكية والمدنية. [سورة البقرة (2) : الآيات 130 الى 135] وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) . (1) سفه نفسه: أضاع عقله أو نفسه وامتهنها. وأصل السفه خفة العقل وعدم القدرة على التمييز. تعليق على الحلقة السادسة عشرة من سلسلة الآيات الواردة في حق اليهود في الآيات الثلاث الأولى: 1- تنديد بمن ينصرف عن ملّة إبراهيم حيث يكون قد نمّ عن سفاهة عقل وورط نفسه وأضاعها. 2- وبيان في صدد ما كان من انقياد إبراهيم لله ووصيته ووصية يعقوب لبنيهم بأن يستمروا على طريقته: فالله قد اصطفى إبراهيم في الدنيا وسيكون في الآخرة في صف الصالحين المتمتعين برضاء الله لأنه سارع إلى الاستجابة لأمر ربه

فأعلن إسلام نفسه لله رب العالمين ووصى بنيه بأن لا يكون لهم طريق وخطة غير ذلك حتى الموت. وفعل مثله يعقوب أيضا حيث جمع بنيه عند موته وسألهم عما يعبدون بعده فأجابوه وعاهدوه على أن لا يعبدوا إلا إله آبائه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق موحدين له غير مشركين به وأن يكونوا دائما مسلمي أنفسهم إليه. وفي الآية الرابعة إشارة فيها تنويه وإنذار معا: فهؤلاء أمة مضت في سبيلها، لها ما كسبت ولمن جاء بعدها وسامعي القرآن ما كسبوه. ولا يسأل أحد عن عمل أحد وإنما يسأل كل امرئ عن نفسه. وفي الآية الخامسة حكاية لقول قائلين بأن على من يريد الهدى أن يكون يهوديا أو نصرانيا وأمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالرد عليهم بأن على من يريد الهدى أن يسير على ملة إبراهيم الذي كان مخلصا مستقيما والذي لم يكن مشركا أحدا مع الله. ولقد روى الطبرسي أن الآية الأولى نزلت في مناسبة دعوة عبد الله بن سلام ابني أخيه إلى الإسلام وقوله لهما إن صفة محمد في التوراة فأسلم الأول وأبى الثاني. وروى الطبري أن الآية الأخيرة نزلت في مناسبة قول ابن صوريا وغيره من اليهود للنبي اتبعنا فما نحن عليه هو الهدى وقول جماعة من النصارى له مثل ذلك. ولم يرد شيء من ذلك في ذلك. ونحن نرجح أن الآيات هي في صدد مواقف اليهود وأقوالهم واستمرارا للسياق وأن ذكر النصارى جاء استطرادا هنا إما لأن القول صدر عن بعضهم في موقف ما وإما لأنه حكاية حال صادقة عن الذين لم يؤمنوا بالرسالة المحمدية منهم، وأن الآيات استهدفت نفس أهداف الآيات السابقة لها. وذكر إبراهيم ويعقوب في الآيات أولا ونص الآية [133] ثانيا يدعمان ذلك ويلهمان أنها هدفت إلى إحباط تبجح اليهود والتنديد بهم، فطريقة آبائهم هي الإسلام وقد وصى الآباء بها الأبناء، ولن يقضي عنهم كونهم متصلين بهم بالنسب ما داموا منحرفين عنها. وفي الآية [134] توكيد لذلك في شكل حكاية لما كانوا يقولونه والرد عليهم بأن الطريق الحق ليست اليهودية وليست النصرانية. وإنما ملّة

[سورة البقرة (2) : الآيات 136 إلى 141]

إبراهيم الذي كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين والتي هي الإيمان بالله وحده وعدم الشرك به وتنزيهه عن كل شائبة من ولد وصاحبة وإقرار بربوبيته للعالمين وإسلام النفس إليه والاستقامة على ذلك والآيات محكمة قوية. وهي تعبر عن واقع انحراف اليهود عن ملّة آبائهم، وفيها إفحام لهم في حكاية موقف هؤلاء الآباء وإخلاصهم. وما قلناه في تأويل جملة وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى ينسحب على الآية الخامسة من حيث الترجيح بأن المقصود في الدرجة الأولى اليهود وأن جمع النصارى معهم هو تعبير عن لسان الحال الذي يشمل الطائفتين لأن كلّا من الذين لم يؤمنوا برسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم كانوا يزعمون أنهم هم وحدهم على الهدى وانصباب الكلام على اليهود في الدرجة الأولى في السلسلة الطويلة مما يؤيد ذلك كما هو المتبادر. [سورة البقرة (2) : الآيات 136 الى 141] قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141) . (1) فإنما هم في شقاق: فإنما هم مشاقون متعنتون أو فإنما هم في اختلاف ونزاع وتفرق في الرأي.

تعليق على الحلقة السابعة عشرة من السلسلة الواردة في السورة في صدد اليهود ومواقفهم وأقوالهم

(2) صبغة الله: كناية عن ملّة الله وطريقته وفطرته ودينه على ما ذكره الجمهور. تعليق على الحلقة السابعة عشرة من السلسلة الواردة في السورة في صدد اليهود ومواقفهم وأقوالهم في الآيات الخمس الأولى وجه الخطاب بصيغة الضمير المخاطب المفرد والجمع. وروح الآيات وفحواها أن الخطاب موجه فيها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين حسب اقتضاء حكمة التنزيل والخطاب. وقد تضمنت: 1- أمرا للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بأن يعلنوا عقيدتهم فيقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى وسائر النبيين دون تفريق بين أحد منهم أو إنكار أحد منهم وإننا مخلصون مسلمون لله وحده كل الإخلاص والإسلام. 2- وتعقيبا على ذلك فإذا آمن الذين يوجه إليهم ذلك القول والإعلان بمثل ما آمن به النبي والمؤمنون فيكونون قد اهتدوا وساروا على طريق الحق. وصاروا والمؤمنون سواء، وإن أعرضوا وتولوا فيكون ذلك برهانا على أنهم مشاقون متعنتون وفي شقاق وخلاف في أمر العقيدة الصحيحة والملة المستقيمة. 3- والتفاتا خطابيا للنبي صلّى الله عليه وسلّم بسبيل تطمينه في حال إعراضهم وتوليهم بأن موقفهم لن يضره شيئا وبأن الله سوف يكفيه شرهم وكيدهم. 4- وهتافا بلسان حال النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بأن هذه العقيدة التي أمروا بإعلانها والدعوة إليها هي دين الله الحق ولا يمكن أن يكون أي دين أو نحلة أو طريقة أحسن منها لأنها إعلان الإخلاص والإسلام لله وحده منزها عن كل شائبة وشك. 5- وأمرا للنبي بسؤال الذين يحاجونه ويحاجون المؤمنين أتباعه ويعرضون عن دعوتهم سؤالا تنديديا عن معنى هذه المحاججة في حين أن كل ما يفعلونه هو إعلانهم بأن الله ربه وربهم جميعا.

6- وأمرا ثانيا للنبي صلّى الله عليه وسلّم بإعلان كون كل فريق مسؤولا عن عمله أمام الله وبإعلان كون المؤمنين مخلصين في دينهم له كل الإخلاص. 7- وأمرا آخر له بسؤال المحاجين سؤالا تنديديا آخر عما إذا كانوا يريدون أن يزعموا أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى حينما يقولون إن على الذين يريدون الهدى أن يكونوا هودا أو نصارى فقط. 8- وأمرا ثالثا له بسؤالهم سؤالا فيه تسفيه لمغالطتهم- الماثلة في مثل هذا الزعم من حيث إن هؤلاء كانوا قبل أن تنشأ ملة اسمها اليهودية وأخرى اسمها النصرانية- عما إذا كانوا هم أعلم أم الله في تقرير الهدى وماهيته والذين يصح أن يوصفوا به. 9- وأمرا رابعا له بأن يبكتهم على هذه المغالطات بإعلان أنه ليس من أحد أشدّ ظلما ممن يكتمون الشهادة بما عندهم من علم الله وهو ما يفعلونه في مغالطاتهم وبأن ينذرهم بأن الله غير غافل عما يفعلون. أما الآية السادسة الأخيرة فهي مماثلة للآية التي جاءت في الآيات السابقة حيث قررت ثانية أن أولئك الأنبياء قد مضوا إلى سبيلهم ولهم ما كسبوا وعلى القائلين السامعين ما كسبوا ولا يسأل أحد عن أحد ولا يغني أحد عن أحد. ولقد روى المفسرون «1» أن بعض هذه الآيات نزل في مناسبة إنكار اليهود لرسالة عيسى (عليه السلام) ، وأن بعضها نزل في مناصرة قول النصارى إن عيسى ليس نبيا وإنما هو الله وابن الله. والروايات لم ترد في الصحاح والآيات كما يبدو وحدة ومتصلة بالسياق السابق اتصالا وثيقا. وقد احتوت تعليما ربانيا للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين بما يجب أن يجيبوا به على ما حكته الآية السابقة مباشرة عن لسان اليهود والنصارى. ويجوز أن تكون نزلت مع الآيات السابقة ويجوز أن تكون نزلت عقبها، والله تعالى أعلم.

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي وابن كثير مثلا.

وأسلوب الآيات قوي رائع سواء في بيان عقيدة الإسلام في كتب الله وأنبيائه والتي هي من أسس الرسالة المحمدية أم في أمر النبي والمسلمين بإعلان ذلك من شأنه أن ينفذ إلى الأعماق ويثير الإعظام والإجلال والخشوع إذا ما تجرد السامع من الملل الأخرى من الأنانية والهوى والعناد وقصد الشقاق وأراد الحق والهدى ورغب فيهما رغبة صادقة. وتدعيم هذه العقيدة بالإيمان بجميع الأنبياء وما جاءهم من الله قوي رائع أيضا من شأنه أن يجعل الدعوة الإسلامية ملتقى جميع الأديان السماوية التي يحسن بأهلها الانضواء إليها ونبذ ما هم عليه من شقاق وأهواء وخلاف ومشاكل وتعقيد. لأنهم يجدون فيها جوهر دينهم مع الاعتراف والاحترام لكتبهم وأنبيائهم كما يجدون فيها تصحيحا لما تورطوا فيه من أخطاء وأهواء وغلوّ وإفراط وتفريط وانحراف وتحريف في الأصول والفروع معا. والمتبادر أن الآيات قد استهدفت كل هذه الأهداف السامية. ولقد تكرر تقرير عقيدة المسلمين بما أنزل إليهم وما أنزل من قبلهم وبكون إلههم وربهم هو إله الكتابيين وربهم أيضا وأمر النبي والمسلمين بإعلان ذلك في السور المكية وفي أوائل هذه السورة. حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت تكرار ذلك في معرض محاججة اليهود والنصارى ودعوتهم إلى الانضواء للدعوة المحمدية. ولا سيما أن ذلك قد تكرر في العهد المدني كما كان شأن ذلك في العهد المكي وخطورة ذلك واضحة في معرض الدعوة. ولقد شرحنا ما ينبغي أن تكون عليه عقيدة المسلمين بالنسبة للكتب السماوية المتداولة اليوم في سياق تفسير سورة الشورى فلا حاجة للإعادة. والآيات وإن كانت كما يبدو تحكي أقوال كل من اليهود والنصارى بكونهم وحدهم على الهدى وتحاججهم فيها فإننا نقول ما قلناه قبل: إن المقصود في الآيات في الدرجة الأولى هم اليهود وإن جمع النصارى معهم هو للتعبير عن لسان حالهم. ولعل في السؤال الوارد في الآية [139] قرينة بل دليلا حيث ذكرت آباء اليهود الأولين فقط وهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وهذا

بالإضافة إلى قرينة انصباب الكلام في السلسلة الطويلة على اليهود في الدرجة الأولى. ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون في صدد جملة: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ في الآية [140] حيث روي أنها في التنديد باليهود والنصارى لأنهم كانوا يقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط كانوا هودا ونصارى مع علمهم أن موسى وعيسى اللذين نسبت إليهما اليهودية والنصرانية جاءا بعدهم. وحيث روي أيضا أنها في التنديد بهم لأنهم كتموا ما يجدون في التوراة والإنجيل من صفات محمد وكلا القولين وارد. وإن كنا نرجح الثاني لأنه موضوع السلسلة الذي هو الدعوة إلى الإيمان بمحمد والتنديد بمن لم يؤمن به، ووقف من رسالته موقف الجحود والمناوأة. ولقد روى الطبري وغيره عن أهل التأويل أن وَالْأَسْباطِ هم أسباط بني إسرائيل. وهذا التعبير يطلق على ذرية أبناء يعقوب الاثني عشر الذين ذكرنا أسماءهم في سياق التعريف بالكلمة في سورة الأعراف. والمتبادر أن المقصود بالكلمة هنا هو أبناء يعقوب الاثني عشر بذواتهم وليس ذرياتهم بصورة عامة خلافا لما تفيده رواية الطبري. والنص القرآني يفيد أنهم من الأنبياء ومن واجب المسلم أن يؤمن بذلك. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأولى حديثا أخرجه ابن أبي حاتم عن معقل بن يسار قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آمنوا بالتوراة والزبور والإنجيل وليسعكم القرآن» وهذا متسق مع تقريرات القرآن التي أوجبت الإيمان بالكتب المنزلة من الله على أنبيائه السابقين والعمل بالقرآن. والنقطة الأولى من مقتضيات الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها وهناك آيات مماثلة أخرى ومنها آيات في سور مكية سبق تفسيرها. والنقطة الثانية مستفادة من آيات سورة المائدة [15 و 16 و 48 و 49] على ما سوف يأتي شرحه في مناسباتها. ولقد روى البخاري في سياق الآية الأولى حديثا عن أبي هريرة جاء فيه: «كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال

[سورة البقرة (2) : الآيات 142 إلى 152]

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ... إلى آخر الآية» «1» . والمتبادر الذي نرجو أن يكون فيه الصواب إن شاء الله أن المقصود من مدى الحديث هو ما يخبر برأي أهل الكتاب مما ليس فيه مناقضة صريحة للقرآن والثابت من الحديث ولا يعلم المسلم حقيقته. أما ما كان فيه مناقضة صريحة للقرآن والثابت من الحديث وكذلك ما فيه توافق تام معهما فلا يدخل في النهي، فواجب المسلم بالنسبة للأول تكذيبه وبالنسبة للثاني تصديقه. والحديث وإن ذكر اليهود والتوراة فهو شامل لما يخبر به النصارى وينسحب ما قلناه على ذلك أيضا والله تعالى أعلم. [سورة البقرة (2) : الآيات 142 الى 152] سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152) .

_ (1) التاج ج 4 ص 43.

تعليقات على آيات تحويل القبلة من [141 - 152] وهي الحلقة الثامنة عشرة والأخيرة من السلسلة

(1) السفهاء: هي في مقام التبكيت ونسبة خفة العقل والمكابرة والسخف إلى القائلين. (2) ما ولّاهم: ما صرفهم. (3) وسطا: عدولا وبعيدين عن مساوئ الإفراط والتفريط. (4) شطره: ناحيته ووجهته. (5) وجهة: طريقة أو اتجاه يتجهون إليه. (6) هو موليها: هو متوليها أي متجه إليها. تعليقات على آيات تحويل القبلة من [141- 152] وهي الحلقة الثامنة عشرة والأخيرة من السلسلة هذه السلسلة بشأن تبديل سمت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، وقد تضمنت ما يلي: 1- أخبرت الآية الأولى أن السفهاء من الناس سيتساءلون مستغربين عن الأسباب التي حملت المسلمين على الانصراف عن قبلتهم التي كانوا عليها أي سمت بيت المقدس. وأمرت النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن يعلن جوابا على ذلك إن المشرق لله والمغرب لله وإنه هو الذي يهدي من يريد إلى الصراط المستقيم. 2- وطمأنت الآية الثانية المسلمين ونوهت بهم: فالله تعالى قد جعلهم بهداه

عدولا وجنبهم مساوئ الإفراط والتفريط ليكونوا من الأمم في مركز الحكم العدل والشاهد وجعل الرسول شهيدا عليهم. والله قد أراد في أمر القبلة امتحانهم لإظهار الثابت في إيمانه وتصديقه واتباعه للرسول صلّى الله عليه وسلّم في اتجاهه للقبلة التي كان يصلي إليها من المتشكك المتردد. وإنه لامتحان عظيم حقا لا يثبت له إلا الذين هداهم الله وتشبعوا بالإيمان واطمأنت نفوسهم به وكانوا موضع عناية الله وتوفيقه. والله لم يكن ليضيع ثواب إيمان المسلمين وعبادتهم فهو الرؤوف الرحيم بالناس والمؤمنون به أولى الناس برأفته ورحمته بطبيعة الحال. 3- ووجهت الآية الثالثة الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم: فالله يرى تقلّب وجهه في السماء كأنه يرجو أن يهديه إلى قبلة يرضى بها وتطمئن نفسه. وقد استجاب رجاءه فولّاه هذه القبلة حيث يأمره بأن يولّي وجهه شطر المسجد الحرام بعد الآن في أي وقت وفي أي مكان وأن المسجد الحرام لأحقّ بالاستقبال وأن أهل الكتاب ليعلمون ذلك حقّ العلم، والله غير غافل عما يعملون. 4- ووجهت الآية الرابعة الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم كذلك مبينة حقيقة الأمر من موقف أهل الكتاب وانتقادهم: فهم صادرون عن هوى وغرض ومكابرة وعناد. ومثل هؤلاء لن يتبعوا الحق ولن يتبعوا بالتالي قبلته مهما أتاهم به من حجج وآيات مقنعة. وإنهم لفي خلاف فيما بينهم أيضا، فليس بعضهم بتابع قبلة بعض وليس يصح والحالة هذه أن يتبع هو قبلتهم بعد أن جاءه العلم والحق من الله لأنه يكون حينئذ قد اندمج في أهوائهم ويكون من الظالمين المنحرفين عن الحق. 5- واحتوت الآيتان الخامسة والسادسة تقريرا من ناحية أخرى لمكابرة أهل الكتاب: فهم يعرفون في قرارة أنفسهم صحة نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم وكون ما فعله حقا كما يعرفون أبناءهم، وإن منهم لفريقا يكتمون الحق وهم يعلمونه حق العلم وإن الحق هو ما أوحى الله به فلا محل للارتياب والتردد في اتباعه. 6- واحتوت الآية السابعة تقريرا لطبيعة ما يرى من اختلاف الناس في اتجاهاتهم، فلكل وجهته التي يتجه إليها، وعلى المسلمين أن لا يبالوا كثيرا بهذه

المشاهد المختلفة وليس عليهم إلّا أن يتسابقوا في عمل الخير ويسبقوا إليها معتقدين أنهم راجعون إلى الله وهو القادر على الإتيان بهم من أي مكان كانوا فيه ليوفيهم جزاء أعمالهم. 7- واحتوت الآيتان الثامنة والتاسعة توكيدا مكررا ووجه الخطاب فيهما إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم أولا وإلى المؤمنين ثانيا: فعليهم أن يولوا وجوههم شطر المسجد الحرام في أي وقت وفي أي مكان. فهو الحق من الله الذي ليس هو غافلا عما يعملون وإن في اتباع هذا الأمر منعا لكل حجة ونقد يمكن أن يوجها إليهم من أناس معتدلين. أما الظالمون الذين يصدرون في نقدهم واعتراضهم عن الغرض والبغي فعلى المسلمين أن لا يهتموا بهم وأن لا يخشوا نقدهم واعتراضهم وأن لا يخشوا إلا الله فبذلك يتم الله نعمته عليهم وفي هذا هداهم. 8- واحتوت الآيتان العاشرة والحادية عشرة خطابا موجها إلى المسلمين جاء بمثابة تعقيب على الآيات السابقة، فمن نعمة الله عليهم ورغبته في هدايتهم أن أرسل فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويطهر نفوسهم وقلوبهم من كل شائبة وسوء ويعلمهم الكتاب والحكمة ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمونه. وعليهم والحالة هذه أن يذكروا نعمة الله عليهم وأن يقابلوه عليها بالشكر وأن يتجنبوا الكفران والجحود لها. والحلقة قد تبدو فصلا مستقلا، غير أن ما احتوته الآيات السابقة من تمهيدات متصلة بالكعبة وملة إبراهيم وذكر أهل الكتاب ولجاجهم الذين كان اليهود هم المقصودون في الدرجة الأولى وما في الآيات من تكرار ذلك والتنديد بهم من أجله تجعل الصلة قائمة بين هذا الفصل والفصول السابقة. وتبرر اعتباره حلقة من حلقات السلسلة الطويلة الواردة في هذه السورة في صدد مواقف اليهود. وكلمة السفهاء مطلقة قد تعني المشركين والمنافقين والكتابيين. وهذا ما رواه المفسرون عن أهل التأويل غير أن معظم الأقوال المروية تفيد أن المقصود بها هم اليهود «1» .

_ (1) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي والخازن والنسفي والطبرسي وابن كثير إلخ ...

وهذا ما يدعم ما قلناه أيضا ويجعل الصلة وثيقة بين هذا الفصل والفصول السابقة. ولقد روى المفسرون أن نفرا كبيرا من أحبار اليهود وزعمائهم جاؤوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقالوا له ما ولّاك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنك على ملّة إبراهيم ودينه، فارجع إليها نتبعك ونصدقك. يريدون بذلك فتنته فلما لم يصغ إليهم أخذوا يدسون بين المسلمين ويقولون: إن كانت القبلة الحق بيت المقدس فسوف تضيع صلاتهم بعد الآن وإن كانت الكعبة فقد ضاع عليهم ما صلّوه إلى بيت المقدس. والآية الخامسة أي [147] تحتمل أن تكون قصدت تقرير كون أهل الكتاب يعرفون أن رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم حق وكون ما يأمر به حقا ووحيا ربانيا. كما ذكرناه في الشرح كما تحتمل أن تكون قصدت تقرير كونهم يعرفون أن اتخاذ الكعبة قبلة هو حق. وقد قال المفسرون هذا كما قالوا ذاك وقد اخترنا ما أوردناه في الشرح لأن الآية مطلقة من جهة ولأن الشرح المذكور عام يدخل في متناوله الاحتمالان. وليس في الآية تصريح بجنسية أهل الكتاب الذين تكرر ذكرهم في آيات أخرى من الحلقة. ومع أن المفسرين قالوا باحتمال أن يكون المقصودون هم اليهود والنصارى معا فإن بعضهم «1» رجح أن يكونوا اليهود. وروح الآيات والسياق السابق واتفاق الجمهور على أن المعترضين السفهاء هم اليهود وكون اليهود موضوع السلسلة في الدرجة الأولى مما يبرر هذا الترجيح. ولقد روى بعض المفسرين «2» أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لجبريل: وددت أنّ الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها، فقال له: إنما أنا عبد مثلك وأنت كريم على ربّك فادع ربّك وسله. وارتفع جبريل وجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي سأله ربّه فما لبث أن نزل جبريل بالآيات. وقد روى بعضهم «3» عن الحسن وأبي العالية وعكرمة من التابعين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يكثر الدعاء

_ (1) انظر تفسير ابن كثير والطبرسي. (2) انظر تفسير الطبرسي. (3) انظر تفسير ابن كثير.

والابتهال بأن يوجّهه الله إلى الكعبة فاستجاب الله دعاءه وأنزل الآيات. وقد روى البخاري والترمذي عن البراء أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قدم المدينة صلّى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا «1» وكان يحب أن يوجّه إلى الكعبة فأنزل الله: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فوجه نحو الكعبة فصلى رجل معه العصر ثم مرّ على قوم من الأنصار وهم ركوع في صلاة العصر نحو بيت المقدس. فقال هو يشهد أنه صلّى مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنه قد وجّه إلى الكعبة فانحرفوا وهم ركوع. وروح الآيات تتسق مع هذه الأحاديث الثلاثة وإن كان الأولان لم يردا في الصحاح. وبدء الحلقة بحرف الاستقبال يلهم أن نشاط اليهود في الدس والتشكيك كان متوقعا. وهذا ما يفسر احتواء الآيات حججا وتبريرا وإقرارا وتطمينا كما هو المتبادر. ولا نريد أن ننفي بهذا احتمال كون اليهود قد انتقدوا ودسوا وشككوا بعد التحويل. وليس في بدء الآيات بحرف السين وتقدم الآية سَيَقُولُ السُّفَهاءُ ... إلخ [142] على آية: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ... إلخ [144] ما يمنع هذا لأن الآيات وحدة كاملة محبوكة. ولقد روى الطبرسي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان في مكة يتجه إلى الكعبة فلما هاجر إلى المدينة تحول عن هذا الاتجاه إلى سمت المسجد الأقصى ليتميز المسلمون عن المشركين الذين كانوا يقومون بطقوسهم الوثنية حول الكعبة ففرح اليهود وصاروا يزهون على النبي والمسلمين باتباعهم قبلتهم واعتبارهم ذلك اعترافا منهم بأنهم

_ (1) التاج ج 4 ص 44 ونص الحديث برواية البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن البراء: «صلّينا مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ثم صرفنا نحو الكعبة» (التاج ج 1 ص 135) ومع ذلك ففي الطبري والخازن وابن كثير روايات تذكر أن التحول كان لثلاثة عشر أو لثمانية عشر شهرا. وأنه كان يوم الاثنين أو الثلاثاء في نصف رجب وأنه كان في صلاة الظهر في مسجد بني سلمه حيث صلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بالناس ركعتين نحو المسجد الأقصى وتحوّل مصلى الركعتين الثانيتين نحو الكعبة وهذا يفيد أن الوحي بالتحويل كان أثناء الصلاة.

على الهدى وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين يقتبسون هداهم منهم. ولقد روى الطبري أن تحول النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الكعبة إلى المسجد الأقصى حينما جاء إلى المدينة كان تألفا لليهود. كما روي أن الأنصار كانوا يصلون قبل وصول النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة وطيلة عامين إلى بيت المقدس حيث يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم باتجاهه نحو هذا البيت حينما وصل قد أقرّهم على عملهم. والروايات لم ترد في الصحاح ولا مانع من صحتها وليس بينها تناقض. وفقد يكون اتجاه النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى سمت بيت المقدس حين وصوله للأسباب المذكورة جميعها فلما وقف اليهود منه موقف الجحود والتعطيل والدس ثم صاروا يزهون عليه وعلى المسلمين حزّ ذلك في نفسه وفي نفس المسلمين وانبثقت في نفسه أمنية التحول عن سمت بيت المقدس ولا سيما إنه قد ظهر من اليهود ما أيأسه منهم وصار ينتظر وحيا ربانيا بالتحول. والآية الثالثة والأحاديث والروايات التي أوردناها تدعم ذلك بوجه الإجمال. وقد يمكن أن يزاد على هذا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم في حين صار يائسا أو كاليائس من اليهود تراءى له أن اتجاهه إلى قبلتهم مما يضعف قوة دعوته للعرب وأن عودته إلى قبلته الأولى مما يؤلف قلوبهم كما أنه كان يعرف مكانة الكعبة بيت الله القديم الذي يرتبط به العرب والذي كان من منظمات الوحدة الروحية فيما بينهم بسبب اشتراكهم جميعا في حجه وأداء المناسك عنده. والذي هو في الوقت نفسه متصل بإبراهيم وما يزال أثره متداولا باسم مقام إبراهيم وقد كانت ملّة إبراهيم من عناوين رسالته. وهو أولى الناس بها كما جاء في آية سورة آل عمران [68] فكان ذلك مما جعله يتمنى أن يوجهه الله إلى الكعبة. ولعل فقرة لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ في الآية التاسعة أي [150] مما يتصل بهذا المعنى أيضا. ولقد روى البخاري والترمذي عن ابن عباس «1» في صدد آية: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أن بعض المسلمين قالوا: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلّون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله الآية. ومما رواه المفسرون «2» في صدد

_ (1) انظر التاج ج 4 ص 45. (2) انظر تفسيرها في الخازن.

ذلك أيضا أن اليهود قالوا للمسلمين: أخبرونا عن صلاتكم إلى بيت المقدس إن كانت على هدى فقد تحولتم عنه وإن كانت على ضلالة فقد دنتم لله بها مدة ومن مات عليها فقد مات على ضلالة. ولا تناقض بين الرواية والحديث حيث يمكن أن يكون الذين سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم قد فعلوا تأثرا بكلام اليهود وتشكيكهم. وهكذا حاول اليهود أن ينفثوا سمومهم بالانتقاد والتشكيك والدّس نتيجة لما شعروا به من شدة الضربة الأدبية التي وجهت إليهم بتحويل سمت القبلة. ولقد روى الطبري في صدد جملة: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ... إن بعض المسلمين ارتدوا بسبب تحويل القبلة وأظهر كثير من المنافقين نفاقهم وقالوا ما بال محمد يحولنا مرة إلى هاهنا ومرة إلى هاهنا، وقال المشركون تحيّر محمد، وقال المسلمون بطلت صلواتنا السابقة فكان تحويل القبلة فتنة وتمحيصا لإخلاص المؤمنين. ولا مانع من صحة الروايات وإن لم ترد في الصحاح وحديث البخاري والترمذي مما يؤيد ذلك. ويلاحظ أن الآية هي في صدد اختبار المؤمنين في القبلة السابقة وليست في صدد القبلة الجديدة. والذي يتبادر لنا من روح الآية وفحواها أن المسلمين كانوا يشعرون بشيء من الغضاضة أو عدم الارتياح بسبب اتجاههم إلى بيت المقدس. فلما أمر الله بالتحول اقتضت حكمة التنزيل أن يرد في الآية ما ورد على سبيل التنبيه. ومن المحتمل أن يكون شعور المسلمين هذا كان بسبب زهو اليهود كما أن من المحتمل أن يكون بسبب شدة تعلقهم بالكعبة وهي التي درجوا أن تكون معبدهم ومحجّهم منذ الأزمنة القديمة. ولقد تعددت الأقوال في مدى جملة: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ منها أن الاتجاه يكون نحو سمت باب الكعبة أو نحو الميزاب وأورد ابن كثير حديثين في ذلك منهما واحد أخرجه الحاكم في مستدركه عن ابن عمر وواحد أخرجه ابن

مدى تبديل القبلة في الرسالة الإسلامية

مردويه عن ابن عباس. ومنها أن الاتجاه يكون نحو سمت الكعبة أو المسجد الحرام على اختلاف جهاته. وهذا هو ما عليه الأكثرون على ما ذكره هذا المفسر الذي أورد حديثا رواه أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» وحديثا آخر عن ابن عباس أن رسول الله قال: «البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من منى» . وفي الحديثين تأييد للقول الثاني والحديث الأول رواه الترمذي والحاكم وصححه «1» . والقول الثاني الذي عليه الأكثرون هو الأكثر اتساقا مع مدى الجملة القرآنية كما هو المتبادر والله أعلم. وفي الآيات تلقينات جليلة مستمرة المدى. من ذلك التنديد بالذين يشوشون على دعوة الإصلاح ودعاته بقصد التعطيل والكيد والمكر وبما قرّ من الأهواء والمآرب. وبخاصة إذا ما كانوا يفعلون ذلك عن عمد وعلم. وتقبيح لذلك، ومنه حثّ المسلمين على الثبات على ما أمرهم الله ورسوله به دون أبوه لغيرهم من الملل الذين يحاولون زلزلتهم عنه، وبيان لما في الاستجابة لهم أو التأثر بهم من إثم وضرر في دينهم ودنياهم. ومنه حثّ المسلمين على أن تكون الخيرات هي ما يجب أن يستبقوا ويسابقوا الغير عليه. ومنه بثّ القوة في قلوبهم والإهابة بهم بأن لا يخشوا معارضيهم وأعداءهم وأن لا تكون خشيتهم إلّا لله وحسب، وبذلك فقط ينصرهم على أعدائهم ويتمّ نعمته عليهم ويهديهم إلى ما فيه العزة والقوة والسداد. ومثل هذه التلقينات متكررة متوالية في مختلف المناسبات مما مرّ منه أمثلة عديدة. مدى تبديل القبلة في الرسالة الإسلامية هذا ومن الحق أن ننبه في هذا المقام على ما يبدو في تبديل القبلة من خطورة وبعد مدى في الرسالة الإسلامية والتاريخ الإسلامي. فقد أكسب الرسالة الإسلامية شخصية مستقلة إن صح التعبير بعد أن كان استقبال المسجد الأقصى

_ (1) انظر التاج ج 1 ص 136.

احتمال أن يكون التبديل في بدئه إلهاما ربانيا

يجعل شيئا من التموج أو التمازج في أفق ومدار شخصية أهل الكتاب. وقد خلد قدسية الكعبة ومركزيتها فغدت متجه العرب في حياتهم الدينية الجديدة في جميع أنحاء الجزيرة أشد وأقوى وألزم مما كانت لهم قبل هذه الحياة أولا. ومتجه المسلمين في جميع أنحاء العالم على اختلاف ألوانهم وأجناسهم وبلادهم وناظما لوحدتهم الروحية ثانيا. وكان كذلك عنوانا على إبقاء مناسك الحج والكعبة إذ صارت ركنا مفروضا من أركان الإسلام بعد تصفيتها من شوائب الوثنية ومشاهدها. وننبه على أمر هام، وهو أن ما قلناه من اكتساب الرسالة الإسلامية شخصية مستقلة هو بالنسبة للموضوع وحسب، وإلا ففي القرآن آيات كثيرة جدا مؤيدة لاستقلال هذه الشخصية. بل القرآن جميعه بسبيل ذلك. وكل ما بينها وبين الملل الكتابية السابقة من قاسم مشترك كونها مثلها مستندة إلى كتاب رباني منزل على رسول الله هدف فيما هدف إلى تصحيح الانحرافات التي ارتكست فيها هذه الملل. احتمال أن يكون التبديل في بدئه إلهاما ربانيا وهناك مسألة مهمة أخرى في صدد تبديل القبلة، فالروايات تذكر أن جملة وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ في الآية [143] هي بسبيل تطمين المؤمنين الذين خافوا على الميتين منهم من أن تكون عبادتهم السابقة قد ضاعت حيث قال لهم اليهود إذا كنتم في استقبال المسجد الأقصى على خطأ فقد ضاعت عبادتكم السابقة وإذا كنتم على صواب فسوف تضيع عبادتكم الآتية. وفحوى الآية يؤيد ذلك وينبه المؤمنين في الوقت نفسه إلى أن القبلة التي كانوا عليها كانت اختبارا لهم. وهذا يعني أنها نزلت بعد التبديل. وهذا يقال بالنسبة للآية [142] والتي روت الروايات أنها نزلت حينما أخذ اليهود يتساءلون عن أسباب التحويل ويشككون المسلمين فيه. فإما أن تكون هاتان الآيتان قد نزلتا لحدتهما بعد التحويل وأن يكون في نظم آيات الفصل تقديم وتأخير، وإما أن تكون هذه الآيات قد نزلت جميعها معا بعد التحويل للرد على انتقاد اليهود ودسائسهم وطمأنة النبي والمسلمين وتثبيتهم

وتبرير التحويل وهذا ما نرجحه استئناسا بالآيات السابقة منذ آية النسخ [106] التي استلهمنا منها أنها في صدد هذا التحويل وتبريره والرد على اليهود وتسفيههم. وإذا صحّ هذا فيسوغ أن يقال إن التبديل كان في بدئه إلهاما ربانيا غير قرآني. ولعل رواية التبديل التي تذكر أنه وقع أثناء ما كان النبي يصلي الظهر أو العصر مما قد يؤيد ذلك. وليس بين هذا القول وبين الحديث الذي رواه البخاري عن البراء والذي أوردناه سابقا تناقض فيما نرى. إذ يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم قد ألهم التبديل أثناء الصلاة ثم نزل عليه القرآن بعدها. ورواية كون جملة وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ لتطمين المسلمين هي حديث رواه البخاري أيضا عن ابن عباس وخوف المسلمين إنما كان بعد التبديل كما هو المتبادر. وفي القرآن شواهد عديدة على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يلهم العمل ثم ينزل القرآن بتثبيته وتبريره. ومن الأمثلة على ذلك غزوة بدر وفي الآيات التي نزلت في هذه الغزوة جملة: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ الأنفال: [7] وليس ذلك في القرآن مما سوف نزيده شرحا في سياق تفسير سورة الأنفال التي نزلت في صدد هذه الغزوة. ومن الأمثلة كذلك عزيمة النبي صلّى الله عليه وسلّم على زيارة الكعبة التي انتهت بصلح الحديبية، فإن سورة الفتح التي احتوت إشارة إلى هذه العزيمة وتبريرا لها نزلت بعد صلح الحديبية «1» . ولقد رويت أحاديث أخرى في صدد استقبال القبلة بعضها وارد في الصحاح وبعضها لم يرد. وقد رأينا من المفيد إيراد بعضها في المناسبة، من ذلك حديث رواه البخاري والنسائي عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من صلّى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمّة الله وذمّة رسوله فلا تخفروا الله في ذمته» «2» . وروى الخمسة عن جابر قال: «كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يصلّي على راحلته حيث

_ (1) هناك شواهد عديدة أخرى سوف ننبه عليها في مناسباتها فاكتفينا بالشاهدين. (2) التاج ج 1 ص 81 و 135- 137.

تعليق على الآية وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ... إلخ

توجّهت به فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القبلة» «1» . وفي رواية: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّي على الراحلة قبل أيّ وجه توجّه غير أنه لا يصلّي عليها المكتوبة» «2» . وروى أصحاب السنن عن جابر قال: «بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حاجة فجئت وهو يصلّي على راحلته نحو المشرق والسجود أخفض من الركوع» «3» . وروى الخمسة: «السجود أخفض من الركوع» «4» . وفي هذه الأحاديث رخص نبوية يسار عليها ويوقف عندها. وروى الخمسة عن أبي أيوب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولّها ظهره شرّقوا أو غرّبوا» «5» وروى الخمسة أيضا عن ابن عمر قال: «ارتقيت فوق بيت حفصة لبعض حاجتي فرأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقضي حاجته مستدبر القبلة مستقبل الشام» وفي رواية قاعدا على لبنتين «6» . وقد تكون الصورة في هذا الحديث للضرورة ويكون الأمر في الحديث الذي قبله هو الأصل في التعليم والتنزيه. وروى الترمذي عن عامر بن ربيعة حديثا جاء فيه: «كنّا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة فصلّى كلّ رجل منّا على حياله فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ البقرة: [115] » «7» . ومن المحتمل أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم تلا الآية من قبل إقرارهم على ما فعلوا فيكون في ذلك سنة يسار عليها أيضا والله تعالى أعلم. تعليق على الآية وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ... إلخ ولقد قال المفسرون «8» بناء على بعض الروايات إن هذه الآية هي في صدد يوم القيامة حيث يشهد النبي صلّى الله عليه وسلّم على المسلمين بأنه بلغهم الرسالة ويشهد المسلمون بأنهم بلّغوها وبلّغوها للناس. والآية تحتمل هذا غير أنه يتبادر لنا مع

_ (1) التاج ج 1 ص 81 و 135- 137. (2) التاج ج 1 ص 81 و 135- 137. [.....] (3) التاج ج 1 ص 81 و 135- 137. (4) التاج ج 1 ص 81 و 135- 137. (5) المصدر نفسه ص 81. (6) المصدر نفسه ص 81. (7) المصدر نفسه ص 137. (8) انظر تفسيرها في الطبري والخازن وابن كثير.

ذلك من روح الآية وفحواها أنها بسبيل التنويه بما كان من عناية الله في الدعوة الإسلامية وبما حملته هذه الدعوة لمتبعيها من عظيم التبعات وجعلتهم فيه من خطير المركز. وبالتالي أنها بسبيل مركز وواجب المسلمين في الحياة الدنيا أيضا. وتعبير وَسَطاً يعني فيما يعنيه الخيرية في كل شيء والاعتدال في كل شيء وعدم التفريط والإفراط، وعدم الغلو والتقصير وعدم الاقتصار على ناحية والتقصير في ناحية، مما فيه خير دين ودنيا، وكل هذا متمثل في الرسالة الإسلامية حيث قامت على أسس وقواعد ومبادئ وأحكام وتقريرات وخطوط عامة حلت بها ما في مختلف النحل من مشاكل وتعقيدات وخلافات وتناقضات متصلة بعقيدة الله وحيث حكت من الطقوس المعقدة والتكاليف والأغلال الشديدة وحيث واءمت بين الدنيا والآخرة والمادية والروحية والعقل والقلب والعلم والدين، وحيث فتحت الآفاق للإنسان في مختلف المجالات لا يمنعه مانع من أي جهد وتصرف في حدود الإيمان والاعتدال والحق. وحيث تطابقت مع طبائع الأشياء ونواميس الكون ومقتضيات المنطق والعقل. وحيث جمعت بين حظ الدنيا وحظ الآخرة وأباحت كل طيب وحرمت كل رجس وخبث ومنعت الاستغلال والاحتكار والحرمان والاستعلاء والتمييز والبغي والتجبر. ودعت إلى كل فضيلة ونهت عن كل رذيلة فجعلها كل ذلك خير رسالة أخرجت للناس ومتطابقة مع كل زمن وظرف ومطلب. ومرشحة للعمومية والخلود مما انطوى تقريره في آيات عديدة منها آية سورة الفتح هذه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) وآية سورة الأنبياء هذه: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) . ولقد قلنا في صدد الآية الأخيرة من سورة الحج التي فيها جملة: لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [78] أنها عنت العرب واستدللنا على ذلك بما احتوته الآية من تذكير العرب بأبوة إبراهيم لهم. وفي جملة: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ

تعليق على الآية كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ...

وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ البقرة: [151] من الحلقة التي نحن في صددها دليل على أن العرب هم المقصودون أيضا في الخطاب في جملة: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً الواردة في الآية [143] من آيات الحلقة. ولقد علقنا على ما في ذلك من خطورة ونبهنا على حدود ذلك وما للمسلمين عامة من شأن وتبعات أيضا في سياق تفسير آية الحج المذكورة فلم نر حاجة إلى التكرار. تعليق على الآية كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ... وفي الآية [151] توضيح للمهمة التي حملها الله تعالى لرسوله بالنسبة لأتباعه، وتنويه بها بأسلوب قوي نافذ. فالله قد أمره أن يتلو عليهم آياته ويفهمهم ما في كتابه ويطهر نفوسهم وقلوبهم بتعليمه وإرشاده وسنته. ويعلمهم ما فيه الحكمة أي الصواب والسداد والخير والحق في سلوكهم وتصرفهم وسائر شؤونهم. وقد انطوى في هذا إيجاب إيماني بتلقي كل هذا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم والسير وفاقه. ويكون ما يلقيه النبي صلّى الله عليه وسلّم من كل ذلك جزءا لا يتجزأ من رسالته التي يجب على كل مؤمن أن لا ينحرف عنها. ولقد أوردنا في التعليق الذي علقنا به على الآية [44] من سورة النحل الآيات القرآنية التي توجب اتباع الرسول وطاعته وتقرر أن سننه الفعلية والقولية هي مرجع المسلمين الثاني بعد القرآن في جميع شؤونهم الدينية والدنيوية كما شرحنا فيه جهود رجال الحديث الأولين رحمهم الله في تتبع هذه السنن وتمحيصها وتدوينها وضوابط الصحيح منها وما فيها من رائع التعليم والبيان والتلقين والهدى

[سورة البقرة (2) : الآيات 153 إلى 157]

والحكمة والسداد المتساوقة مع مبادئ القرآن وتلقيناته والمتممة لها. والموقف الذي يجب على المسلم أن يقفه تجاه ما لا يدركه عقله منها إذا لم يتناقض مع تلك الضوابط وهذه المبادئ والتلقينات فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار. هذا وبمناسبة ورود جملة رَسُولًا مِنْكُمْ في الآيات نذكر أن مثل هذه الجملة ورد في الآية [112] من سورة النحل أيضا وعلقنا عليها وأوردنا ما روي وقيل في مداها فنكتفي كذلك بهذا التنبيه دون التكرار. [سورة البقرة (2) : الآيات 153 الى 157] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) . وجّه الخطاب في الآيات إلى المسلمين: 1- لتحثهم على الاستعانة بالصبر والصلاة على ما يمكن أن يصيبهم من المصائب. 2- ولتطمئنهم بأن الله مع الصابرين ينصرهم ويؤيدهم. 3- ولتنهاهم عن اعتبار الذين يقتلون في سبيل الله أمواتا وتقرر لهم أنهم أحياء وإن لم يدركوا كنه حياتهم ويشعروا بها. 4- ولتنبههم إلى أن الله تعالى سوف يظل يبتليهم على سبيل الاختبار ببعض المصائب من جوع وخوف وضياع أموال وأنفس. ولتبشر الصابرين الذين يثبتون على الاختيار ويقابلون ما يصيبهم من ذلك بالصبر ويعلنون إسلام الأمور لله ويقررون أن الله ربهم وإليه مرجعهم وهو مالكهم في جميع الأحوال كلما أصابتهم مصيبة ولتقرر أن هؤلاء هم أهل لمغفرة الله ورحمته وبركاته وأنهم المهتدون بهدى الله.

تعليق على الآية يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة ... وما بعدها [153 - 157] وما فيها من تلقين

والآيات تبدو فيما احتوته فصلا جديدا لا صلة له بالسياق السابق موضوعيا. وقد تكرر هذا في سورة البقرة والسور المدنية الطويلة الأخرى على ما شرحناه في مقدمة تفسير السورة. ومع ذلك فقد تكون حكمة وضع هذا الفصل في مكانه في ترتيب آيات السورة في الآيات التي قبلها مباشرة التي خوطب بها المسلمون وطلب منهم الشكر وعدم الكفر ووعدوا بإتمام نعمة الله عليهم. وإذا صح هذا الفرض ونرجو أن يكون صحيحا فيكون فيه صورة من صور تأليف السور المدنية ووضع آياتها فصلا بعد فصل في مناسبات ملائمة، وهذا لا يمنع من احتمال أن تكون هذه الآيات نزلت بعد سابقاتها مباشرة فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بوضعها بعدها. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ... وما بعدها [153- 157] وما فيها من تلقين وقد روى بعض المفسرين «1» أن الآيات نزلت لتسكين روع المؤمنين وتثبيتهم في فاجعتهم في شهداء بدر وأحد والروايات لم ترد في الصحاح. وروح الآيات وصيغتها تلهم أنها نزلت حقا في صدد تطمين المؤمنين وتسكينهم في حادث استشهاد بعضهم. غير أننا إذا لحظنا أن المؤمنين في غزوة بدر كانوا منتصرين فرحين بنصر الله وأن أخبارها نزلت في سورة الأنفال وأن أخبار غزوة أحد وأحزان المسلمين بما كان في فاجعتهم فيها نزلت في سورة آل عمران، ساغ لنا أن نتردد في احتمال صلة هذه الآيات بإحدى الغزوتين. والذي نرجحه أنها في صدد استشهاد بعض المؤمنين في الحركات الحربية التي أخذت تنشب بين المؤمنين وقريش بعد قليل من الهجرة وقبل واقعة بدر «2» . وفي سورة البقرة بعض آيات متصلة بذلك سوف تأتي بعد قليل.

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والخازن. (2) انظر الطبقات لابن سعد ج 3 ص 44- 49 حيث ذكر فيها أخبار وقائع حربية بين المهاجرين وأهل مكة قبل واقعة بدر.

ولقد تضمنت الآيات تلقينات جليلة مستمرة المدى بالإضافة إلى ما تضمنته من تطمين المؤمنين الأولين وهم في أول عهد هجرتهم. فعلى المسلمين أن يوطدوا النفس دائما على أنهم سيتعرضون لمصاعب ومشاق وخسائر في المال والنفس وحرمان وخوف وجوع في سبيل الله التي هي الدعوة الإسلامية التي حملهم الله مهمتها وأعطاهم رايتها الشاملة للدعوة إلى الله وحده ومكارم الأخلاق وتأييد الحق ومحاربة الباطل ودفع البغي والظلم والعدوان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن والبر والرأفة والتضامن والمساواة والحرية والإخاء، وأن يتحملوا ما يصيبهم من ذلك راضين مطمئنين متجملين بالصبر لأن الله مع الصابرين وناصرهم، وأن يستعينوا على ذلك أيضا بعبادة الله وذكره ومراقبته وإسلامهم النفس إليه في كل أحوالهم لأن هذا يمدهم بقوة روحية تساعدهم على التحمل وطمأنينة النفس وتجعلهم موضع رضاء الله ورحمته وبركاته وصلواته وهداه. ولا يصح لهم أن يظنوا أن من يقتل في ذلك السبيل ميت بل هو حي وإن لم يدركوا مدى هذه الحياة. أما هذه الحياة فالأولى فيما نعتقد أن يوقف منها عند ما وقف عند القرآن دون تزيد وتوسع. ولا سيما أن الآية تقرر أن الناس لا يمكنهم إدراكها. ومع ذلك ففي التعبير القرآني تلقين جليل أيضا، فلا يصح أن يسمى الشهيد في سبيل الله ميتا، لأن الميت هو الذي تنقطع صلته بالحياة حينما يموت ميتة عادية بعكس الذي يموت شهيدا في سبيل الله حيث يكون دائم الاستمتاع برضاء الله وتكريمه في العالم المغيب بالإضافة إلى ما يكون له من حسن الذكر الدائم عند الأحياء وفي هذا ما فيه من بواعث القوة والجرأة على النضال في سبيل الله وإعلاء كلمة الحق ومحاربة الظلم والبغي. وننبه على أن هناك أحاديث نبوية عديدة في ما أعده الله لمن يقتل في سبيله من تكريم ورزق وعناية. منها ما ورد في الصحاح ومنها ما لم يرد. وأورد بعض المفسرين بعضها في سياق هذه الآيات وأورد بعضهم بعضها في سياق الآيات [168- 171] من سورة آل عمران، وقد رأينا تأجيل إيرادها والتعليق عليها إلى

[سورة البقرة (2) : آية 158]

تفسير هذه الآيات لأنها أكثر تناسبا بسبب ما فيها من صراحة بذلك. وعبارة الآيات في الصبر والصابرين قوية نافذة. وفيها توكيد لما نبهنا عليه في المناسبات السابقة من السور المكية من عناية القرآن ببث فضيلة الصبر في نفوس المؤمنين وحثهم عليها وما يؤدي ذلك إليه من طمأنينة نفس وسكينة قلب وتحمل للمشاق والمصاعب في سبيل الله والحق، وهكذا يتسق القرآن المكي والمدني معا في هذا الأمر كما يتسق في سائر الأمور. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات بعض الأحاديث، منها حديث رواه مسلم عن أم سلمة قالت: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول إنّا لله وإنّا إليه راجعون اللهمّ أجرني في مصيبتي واخلفني خيرا منها إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها» . وروى الإمام أحمد حديثا عن الحسين بن علي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها فيحدث لذلك استرجاعا إلا جدّد الله عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب» وحديث رواه الشيخان عن أبي سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا همّ ولا حزن ولا أذى ولا غمّ حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه» . وحديث رواه الشيخان أيضا عن عبد الله قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلّا حطّ الله به عنه من سيئاته كما تحطّ الشجرة من ورقها» حيث ينطوي في الأحاديث تهدئة لروع المؤمن المبتلي وإعداده على تحمل ما يصاب به بدون جزع ولا هلع. وفي ذلك ما فيه من معالجة روحية متساوقة مع ما احتوته الآيات من ذلك. [سورة البقرة (2) : آية 158] إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158) . (1) الصفا والمروة: قيل إن الصفا جمع الصفاة وقيل العكس أيضا. وقيل إن

تعليق على الآية إن الصفا والمروة من شعائر الله ... إلخ

معناها الصخرة الملساء وقيل بل الصخرة اليابسة. وصفوان تثنية لها. والمروة هي الصخرة الرخوة أو الصخرة الصغيرة. وتجمع على مرو ومروان تثنية لها. والصفا والمروة صخرتان قريبتان من الكعبة بينهما نحو أربعمائة متر. (2) فمن حج البيت: شرحنا معنى الحج في تفسير سور الحج والبيت هنا كناية عن الكعبة وقد مرّ ذكره في سورة قريش وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار. (3) اعتمر: من الاعتمار وهي في اللغة قصد الشيء أو المكان والتردد عليه وإعماره وزيارته. ومنه (العمرة) وهي النسك الإسلامي المعروف أي زيارة الكعبة. وتعبير (اعتمر) زار الكعبة زيارة عمرة. (4) لا جناح عليه: الجناح من الجنوح وهو الانحراف أو الإثم، والجملة بمعنى لا إثم عليه. تقرر الآية أن الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله ومظاهر عبادته. وأنه لا إثم على من طاف بينهما إذا حجّ البيت أو اعتمره. وأن الله تعالى شاكر لكل من تطوع وزاد على المطلوب في العبادة وعمل الخير وهو العليم بنيات الناس ومقاصدهم. وجملة فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ [158] تفيد أن زيارة الكعبة نوعان نوع يسمى الحج ويكون في أشهر الحج المحددة وهو فرض أو ركن لا بدّ منه لتمام فريضة الحج وقد أيدت فرضيته هذه الجملة في آية سورة آل عمران: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) والنوع الثاني هو (الاعتمار أو العمرة) ويكون في غير أشهر الحج وهو سنة نبوية وسوف نزيد كل هذا شرحا في سياق آيات آتية في هذه السورة. تعليق على الآية إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ ... إلخ هناك أولا حديث رواه الخمسة في نزول هذه الآية عن عروة قال: «قلت لعائشة: ما أرى على أحد لم يطف بين الصفا والمروة شيئا. وما أبالي ألّا أطوف

بينهما. فقالت: بئسما قلت يا ابن أختي، طاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وطاف المسلمون وإنما كان من أهلّ لمناة الطاغية التي بالمشلّل لا يطوفون بين الصفا والمروة فأنزل الله فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [158] . فلو كان كما تقول لكانت فلا جناح عليه ألّا يطوف بهما. قال الزهري: فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن فأعجبه وقال: إنّ هذا العلم. وقد سمعت رجالا من أهل العلم يقولون إنما كان من لا يطوف بين الصفا والمروة من العرب يقول إن هذا من أمر الجاهلية. وقال آخرون من الأنصار: إنما أمرنا بالطواف بالبيت ولم نؤمر بين الصفا والمروة. فأنزل الله تعالى الآية. قال أبو بكر: فأراها نزلت في هؤلاء وهؤلاء» «1» . وهناك صيغ أخرى لهذا الحديث برواية الخمسة «2» وبرواية الطبري أيضا وليس بينها تعارض. وهناك إلى هذا روايات تذكر أن الصفا والمروة كانتا مكان طواف وسعي في الجاهلية وأنه كان على إحداهما صنم اسمه (أساف) وعلى ثانيتهما صنم اسمه (نائلة) وأن العرب كانوا يقربون عندهما القرابين أو يتمسحون بهما في طوافهم. وأن بعض المسلمين تحرجوا من الطواف بينهما بسبب ذلك ومن الروايات ما يذكر أن أهل تهامة كانوا لا يطوفون بينهما «3» . والآية تلهم على كل حال أنها نزلت في صدد الحثّ على الطواف بينهما ورفع الحرج عن الطائفين. ومن المحتمل أن تكون نزلت بناء على سؤال أو بسبب التحرج من الطواف بينهما بعد الإسلام. وصيغة الآية تدل على أن هذا الطواف كان من تقاليد الحج الرئيسية الراسخة عند غالبية العرب. وروى المفسرون روايات تفيد أن ذلك متصل بأولية سكنى إسماعيل وأمّه في وادي مكة حيث عطش فأخذت تركض بحثا عن الماء بين الصفا والمروة، وقد ذكرنا ذلك بتفصيل أوفى في سياق تفسير سورة إبراهيم. والراجح أن هذا مما كان متداولا بين العرب. وأن مما كان

_ (1) التاج ج 4 ص 45 و 46. (2) التاج ج 2 ص 121 و 122. (3) انظر كتب تفسير الطبري والخازن وابن كثير والطبرسي.

متداولا أيضا كون الطواف بين الصفا والمروة من مناسك الحج المتصلة بإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. ومما روي «1» أن الآية نزلت في ظروف زيارة النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين لمكة قبل الفتح بناء على صلح الحديبية الذي تمّ في السنة السادسة بعد الهجرة. غير أن وضع الآية في موضعها قد لا يؤيد الرواية التي لم ترد في الصحاح. وقد يدل على أنها نزلت في أوائل العهد المدني بناء على سؤال أو تحرج على ما جاء في الأحاديث والروايات. ومن المحتمل أن تكون الآية وضعت في مكانها لأنها تخاطب المسلمين مثل ما سبقها من آيات، كما أن من المحتمل أن يكون ذلك لنزولها بعد الآيات السابقة لها مباشرة والله تعالى أعلم. وما تقدم قد يسوّغ القول إن من المسلمين من كان يذهب إلى الحج في موسمه أو يذهب إلى مكة فيزور الكعبة معتمرا في غير موسم الحج قبل فتح مكة. وهذا قد يستفاد أيضا من آيات سورة الحج التي فيها ذكر بعض مناسك الحج والتي سبق تفسيرها، ومن آيات في سورة البقرة تأتي بعد فيها ذكر بعض المناسك. ومن آية في سورة آل عمران فيها فرض الحج على المستطيع ومن آيات في سورة المائدة فيها ذكر بعض المناسك. فإن جميع هذه السور نزلت قبل ذلك الفتح. والله تعالى أعلم. وهناك اختلاف بين علماء التابعين وأئمة المذاهب الفقهية في حكم الطواف بين الصفا والمروة على ما شرحه المفسرون وبخاصة الطبري وابن كثير حيث يذهب فريق إلى أنه واجب ولا تجوز عنه فدية، وحيث يذهب فريق إلى أنه عمل تطوعي يجوز تركه، وحيث يذهب فريق إلى أنه سنة وتصحّ الفدية عنه. وقد رجح الطبري القول الأول وقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد علم مناسك

_ (1) انظر تفسير الطبرسي.

الحج وعلم الطواف بين الصفا والمروة فيما علمه وأداهما فوجب على المسلمين اتباعه. ولقد روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن ابن عمر قال: «قدم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فطاف بالبيت سبعا وصلّى خلف المقام ركعتين وطاف بين الصفا والمروة سبعا، وقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة» . وروى النسائي والترمذي عن جابر قال: «قدم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مكة فطاف بالبيت سبعا وقال اتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى فصلّى خلف المقام ثم أتى الحجر فاستلمه ثمّ قال: نبدأ بما بدأ به الله فبدأ بالصفا وقرأ إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ» «1» . وعلى ضوء هذا يكون القول الأول الذي رجّحه الطبري هو الأوجه. ووصف الصفا والمروة بشعائر الله في الآية قد يدعم ذلك والله تعالى أعلم. وفي الحديث الطويل الذي يرويه مسلم عن جابر عن حجة الوداع النبوية «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم طاف بين الصفا والمروة راكبا على راحلته» «2» . واستند بعض الفقهاء إلى هذا فأجازوا الطواف بينهما للمسلم وهو راكب. وقيده بعضهم بالعذر، وقد يكون هذا هو الأوجه لأن المسافة قصيرة لا تتحمل الركوب إلا بالنسبة للمعذور. وهناك حديث يرويه مسلم عن جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما طاف على راحلته ليراه الناس وليشرف عليهم وليسألوه» «3» . وهذا قد يدعم ذلك. ويطلق على الطواف بين الصفا والمروة تعبير (السعي) أيضا. وهذا مما ورد في حديث ابن عمر الذي أوردناه آنفا. والمؤولون متفقون على أن معناه المشي بسرعة أو هرولة وهناك حديث يرويه الشيخان عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما سعى إلى مشي بسرعة أو هرولة ليري المشركين قوته «4» . والممارس منذ عهد الخلفاء الراشدين أن يمشي الطائف مسافة ويسعى أو يهرول مسافة.

_ (1) التاج ج 4 ص 45- 46. (2) التاج ج 2 ص 141- 145. [.....] (3) أورد الحديثين القاسمي وعزا أولهما إلى مسلم وثانيهما إلى الشيخين. (4) المصدر نفسه.

[سورة البقرة (2) : الآيات 159 إلى 162]

ولقد شرحنا في سياق سورة الحج حكمة الله في إبقاء تقاليد الحج السابقة للإسلام بعد تجريدها من شوائب الشرك والقبح فنكتفي بهذا التنبيه في هذا المقام. [سورة البقرة (2) : الآيات 159 الى 162] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) . في الآيات حملة عنيفة على الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والدلائل التي بينها الله تعالى في كتبه التي أوحى بها إلى أنبيائه باستثناء الذين يتوبون عن ذلك ويتلافون خطأهم فإن الله يتوب عليهم وعبارة الآيات واضحة. تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى ... إلخ والآيات الثلاث التالية لها روى الطبري وغيره أن بعض المسلمين سألوا نفرا من اليهود عمّا في التوراة من صفات النبي صلّى الله عليه وسلّم فكتموا أو أبوا أن يجيبوهم فأنزل الله الآيات. والرواية لم ترد في الصحاح. وفحوى الآيات يلهم أنها أوسع شمولا لأن التنديد يتناول ما بيّن الله من بينات وهدى. وبعد قليل تأتي آيات فيها بحث عن الأطعمة الحيوانية المحرمة وحملة على الذين يكتمون ما في كتاب الله حيث يلوح أن بين الحملة في هذه الآيات والحملة الآتية صلة موضوعية ما. وهذا بالإضافة إلى ما احتوته حلقة آيات تحويل القبلة والحلقات التي قبلها من تنديد قارع باليهود لكتمهم الحق الذي يعرفونه كما يعرفون أبناءهم حيث يسوّغ القول أيضا إنها قد تكون بسبيل التنديد بهم من أجل ذلك. وعلى كل حال فإنه يصح أن يقال إن هذا الفصل ينطوي على

مواقف مناوأة يهودية للدعوة النبوية بقصد التشكيك والدس. ومن المحتمل أن تكون الآيات نزلت بعد فصل الطواف بين الصفا والمروة مباشرة فوضعت في مقامها ومن المحتمل أن يكون وصفها بسبب توافق ما فيها من موضوع مع ما كان قبل فصل الطواف من مواضيع متصلة بمواقف اليهود والله أعلم. والحملة شديدة قارعة مما قد يلهم أن المواقف التي نزلت في صددها كانت شديدة الوقع والأثر. ومع ما هو مرجح من أن موضوع الآيات هو اليهود ومواقفهم فقد جاءت مطلقة حيث يبدو أن حكمة الله اقتضت ذلك لتشمل كل من يكتم ما أنزل الله من الهدى والبينات الواردة في كتبه سواء أكانوا من أهل الكتب السابقين أم من المسلمين. ولقد أورد الطبري في سياقها حديثا نبويا رواه أيضا أبو داود والترمذي عن أبي هريرة بهذا النصّ: «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة» «1» . ونرى أن ننبه على أمر مهم في صدد الحديث النبوي. ففيه الحق من دون ريب غير أن الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها لا تشترط السؤال لاستحقاق لعنة الله واللاعنين على الكاتم بل توجب على كل من يعلم ما في كتاب الله من هدى وبينات أن يبينها سواء أسئل أم لم يسأل، وفي آية سورة آل عمران هذه: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ [187] توكيد لذلك فيما يتبادر لنا والله تعالى أعلم. ولقد روى المفسرون عن أهل التأويل أن جملة وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ تعني الملائكة أو غير الإنس والجن من خلق الله. ولم يرو هذا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. ويتبادر لنا أن الجملة أسلوبية لبيان كون الكاتمين يستحقون لعنة كل من خلقه الله إطلاقا من باب التسديد والتشميل وهي من باب الجملة الثانية في الآية التالية وبأسلوب آخر، والله أعلم.

_ (1) انظر التاج ج 1 ص 58.

استطراد إلى موضوع لعن الكفار وغيرهم

وفحوى الآية الثالثة في مقامها قد يفيد أن صفة الكفر تلصق بالذين يكتمون ما أنزل الله في كتابه والله أعلم. والاستثناء الوارد في الآية الثانية جليل التلقين ومن حكمته الملموحة أن يكون وسيلة إلى حمل الكاتم على الارعواء، فإذا ما كتم عالم ما عنده من علم الله وكتابه وأسباب الهدى إليه استحقّ اللعنة الشاملة، فإذا ما ارعوى وندم وتاب تاب الله عليه. وفي الآيات توكيد أو تأييد لما نبهنا عليه أكثر من مرة في مناسبات سابقة من أن ما احتوته آيات القرآن من حملات شديدة على الكفار وما وصفتهم بها من قوة القلب وعمى البصيرة وعدم الاهتداء واستحقاقهم لعنة الله إنما هو تسجيل لواقع أمرهم حين نزولها وأنه إنما يظل واردا ولازما بالنسبة للذين ماتوا وهم كفار. استطراد إلى موضوع لعن الكفار وغيرهم ولقد وقف المفسرون عند هذه الآيات، فمنهم من أجاز لعن الكفار عامة في الحياة بعد الممات بدون تعيين، ومنع لعن كافر بعينه لأنه لا يعلم إلا الله ما إذا كان تاب قبل الموت فصار في نطاق الاستثناء الذي جاء في الآية الثانية. وقاس على ذلك الظالمين والكاذبين والمنافقين والفاسقين. ومنهم من أجاز لعن كافر بعينه إذا ما كان متيقنا من كفره عند لعنه لأنه يكون مستحقا للعن وقاس على ذلك الظالمين والكاذبين والمنافقين والفاسقين بأعيانهم. ويتبادر لنا أن الرأي الأول هو الأوجه. لأن المرء لا يعلم حالة الناس وسرائرهم علما يقينيا يجعله على يقين بأن الذي يلعنه منهم بعينه مستحق للعنة حقا. وهناك أحاديث نبوية نراها تدعم هذا الرأي من ذلك حديث رواه الخمسة عن ثابت بن الضحاك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قذف مؤمنا بكفر فهو كمن قتله» «1» . وحديث رواه البخاري عن أنس جاء فيه: «لم يكن

_ (1) التاج ج 5 ص 33 و 34.

استطراد إلى تفسير الشيعة للآيات

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاحشا ولا لعّانا ولا سبّابا. كان يقول عند المعتبة ما له ترب جبينه» «1» . وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة جاء فيه: «قيل يا رسول الله ادع على المشركين، قال: إني لم أبعث لعّانا وإنما بعثت رحمة» «2» . وحديث رواه أبو داود عن سمرة جاء فيه: «من لعن شيئا ليس بأهل رجعت اللعنة عليه» «3» . وحديث رواه الترمذي عن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء» «4» . ولقد جعلت هذه الأحاديث كثيرا من العلماء يذهبون إلى أنه لا ينبغي للمسلم أن يلعن قطّ، وأنه ليس في الآيات التي نحن في صددها إيعاز بلعن أحد وإنما هي من قبيل الوعيد الرباني ويتحاشون عن لعن أحد معيّنا كان أم غير معيّن. وتطرق بعضهم إلى ما درج عليه بعض المسلمين من لعن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان والحجاج بن يوسف وما درج عليه الشيعة من لعن كثير من أصحاب رسول الله وجميع ملوك ورجال وقواد بني أمية وما في ذلك من بغي وعدوان ومخالفة للسنة النبوية. بل وخروج عن ربقة الإسلام من حيث إن من يلعن من لم يكن مستحقا يقينا اللعنة عادت اللعنة إليه ومن نعت بالكفر من لم يكن كافرا يقينا باء بالنعت. وفي كل هذا وجاهة ظاهرة. وللإمام ابن تيمية في كتابه منهج السنة ومختصره المنتقى كلام قوي وسديد في هذا الباب. استطراد إلى تفسير الشيعة للآيات ويصرف الشيعة هذه الآيات إلى علي (رضي الله عنه) وأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويقولون إن الله قد بيّن صفاته وخلقه في الكتاب وإن فيها إنذارا لمن يكتم ذلك ويكفر به بعد أن بينه الله للناس في الكتاب. برغم ما هو ظاهر من مدى الآيات واتفاق المفسرين على أنها في صدد اليهود وعدم وجود أية مناسبة بين السياق وبين زعمهم الذي مؤداه أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبخاصة كبارهم قد أسقطوا من

_ (1) التاج ج 5 ص 33 و 34. (2) التاج ج 5 ص 33 و 34. (3) التاج ج 5 ص 33 و 34. (4) انظر المصدر نفسه.

[سورة البقرة (2) : الآيات 163 إلى 164]

كتاب الله صفات عليّ وخلقه، فاستحقوا ما احتوته الآيات من وصف وإنذار رهيبين. والتعسف والزور بارزان على هذا الكلام كما هو المتبادر «1» . [سورة البقرة (2) : الآيات 163 الى 164] وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) . عبارة الآيتين واضحة وقد تضمنتا تقرير وحدة الله المتصف بشمول الرحمة، ودلائل وحدانيته وعظمته، فيما في السموات والأرض من نواميس وآيات باهرة مما يقع عليها نظر السامعين ومما يستمتعون به منها من منافع عظيمة متنوعة يدركها العاقل المتدبر من الناس وتجعله موقنا باستحقاق الله وحده للخضوع والعبادة. والآيتان مما تكرر كثيرا في السور المكية فحوى ومقصدا، ولقد علقنا على مثلهما في تلك السور تعليقات كافية فلا نرى ضرورة للتكرار. ولقد روى المفسرون «2» أن الآية الأولى نزلت بناء على طلب المشركين وصف الله وأن الآية الثانية نزلت بناء على طلبهم البرهان على ما قررته الآية الأولى والروايات لم ترد في الصحاح. ولقد حكت آيات مكية كثيرة اعتقاد المشركين بوجود الله وكونه هو الخالق للأكوان المدبر لها الرازق النافع الضار. فليس مما يحتمل أن يطلبوا ما ذكرته الروايات فضلا عن أن أسلوبهما لا يتسق كثيرا مع هذه الروايات. والذي يتبادر لنا أنهما جاءتا معقبتين على ما سبقهما فالآيات السابقة أنذرت الذين يكتمون بينات الله ويصرون على الكفر بالنار وسجلت عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. فجاءت هاتان الآيتان لتبينا ما في الكون من آيات دالة على وجود الله وعظمته وما في الكفر به من سخف وضلال.

_ (1) انظر التفسير والمفسرون للذهبي ج 2 ص 86. (2) انظر تفسيرهما في الطبري والطبرسي.

[سورة البقرة (2) : الآيات 165 إلى 167]

على أن هذا لا يمنع احتمال أن تكون الآيتان مقدمة للآيات التالية لها التي احتوت اتخاذ بعض الناس شركاء لله. ومن المحتمل أن تكون الآيتان وما بعدهما قد نزل بعد الفصل السابق فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بوضعهما بعدها في ترتيب آيات السورة. [سورة البقرة (2) : الآيات 165 الى 167] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) . (1) الأسباب: هنا بمعنى الروابط التي تربط بينهم، ومن معاني السبب الحبل أو ما يربط الشيء بآخر. في الآيات: 1- إشارة تنديدية إلى الناس الذين يتخذون مع الله شركاء وأندادا يعبدونهم ويحبونهم مثل عبادة الله وحبه. 2- وتنويه استدراكي بالمؤمنين به وحده الذين كل حبهم موجه إليه. 3- وتنبيه إنذاري بما سوف يكون من أمر أولئك الظالمين المشركين يوم القيامة حينما يرون العذاب فيتيقنون أن القوة جميعها لله. ولسوف يتنصل ويتبرأ المتبوعون من التابعين وتتقطع الروابط التي كانت تربطهم ببعض. ولسوف يندم التابعون ويتمنون أن يعودوا إلى الدنيا ليتبرأوا من تابعيهم كما تبرأوا منهم. وهكذا يشعر الجميع بالحسرة على انحرافهم وسوء أفعالهم ولن يكون لهم خروج من النار.

[سورة البقرة (2) : الآيات 168 إلى 173]

ولم نطلع على رواية خاصة بنزول الآيات وفحواها وروحها يقوّيان احتمال أن تكون الآيتان السابقتان مقدمة أو تمهيدا لها على سبيل تسفيه وتسخيف الذين يشركون بالله غيره مع ما هو ماثل في الكون من دلائل عظمته ووحدانيته. والصورة التي ترسمها الآيتان الثانية والثالثة قوية. وقد تكرر ورودها في سور مكية عديدة والمتبادر أنها استهدفت هنا ما استهدفته مثيلاتها وهو حمل التابعين بنوع خاص وهم الأكثرية الكبرى على الارعواء قبل فوات الوقت والندم الذي لا يجدي. [سورة البقرة (2) : الآيات 168 الى 173] يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) . (1) طيبا: الطيب ضدّ الخبيث، والخبيث من الطعام كل نجس وفاسد وضار. (2) الفحشاء: كل ما قبح من الأفعال. (3) ألفينا: وجدنا. (4) ينعق: من النعق. وهو التصويت بقوة ونعق الراعي إذا صاح بغنمه زاجرا. والجملة التي وردت فيها الكلمة هي لتشبيه حالة الكافرين بحالة الحيوان

الذي يسمع الصوت ولا يفهمه. (5) باغ: من البغي. (6) عاد: من العدوان. في هذه الآيات وجّه الخطاب إلى ثلاث فئات في موضوع واحد: فأولا: وجّه للناس عامة هاتفا بهم بأن الله قد أحلّ لهم كل طيب في الأرض فليأكلوه، ولا يستمعوا إلى وساوس الشيطان فيخرجوا عن هذا الحد والوصف فإن الشيطان عدوّ لهم ولا يوسوس إلا بما فيه السوء والشر والقبح والافتراء على الله بما لا يعلمون حقيقته وبرهانه. وثانيا: وجّه الخطاب للكفار بأسلوب تنديدي: فحينما يقال لهم اتبعوا ما أنزل الله ولا تنحرفوا عن الحدود التي رسمها يجيبون بأنهم إنما يفضلون السير على ما وجدوا عليه آباءهم. وقد وجه لهم سؤال إنكاري ينطوي على التقريع عما إذا كان يصحّ أن يصروا على السير على ما كان عليه الآباء ولو كانوا ليسوا على علم وعقل وهدى ثم شبهت حالتهم بحالة البهائم التي يصرخ فيها راعيها فتسمع صوته ولا تفهم معنى كلامه، فهم صمّ لا يسمعون وبكم لا ينطقون وعمي لا يبصرون. وثالثا: وجّه الخطاب إلى المؤمنين هاتفا بهم بأن يأكلوا مما رزقهم الله من الطيب الطاهر الحلال وبأن يشكروا نعمته ويلتزموا حدوده إذا كانوا حقا مخلصين له في الإيمان والخضوع. ومبينا لهم ما حرّم أكله عليهم وهو الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذكر اسم غير الله عليه حين ذبحه مستثنيا من الحظر المضطر إلى تناول شيء من هذه المحرمات. فليس عليه إثم على شرط أن لا يتجاوز حدود الضرورة ولا يكون سيء النية باغيا فالله غفور رحيم في مثل هذه الحال. وتبدو الآيات فصلا جديدا، غير أن احتواء الآيات السابقة تقريعا ولعنة للذين لا يبينون ما عندهم من علم الله واحتواء الآيات التالية لها تقريعا للذين يكتمون ما أنزل الله ولأهل الكتاب الذين هم متنازعون مختلفون فيما بين أيديهم من كتب الله يسوغ القول إن بين هذه الآيات وما قبلها وما بعدها صلة ما.

وقد روى المفسرون «1» أن الآية الأولى نزلت في العرب الذين حرّموا على أنفسهم بعض الأنعام المنذورة وأن الآية الثانية نزلت في اليهود حين دعاهم إلى اتباعه. والروايات لم ترد في الصحاح، ويقتضي أن تكون الآيات نزلت متفرقة مع أن الملموح أنها وحدة، حيث يرجح استلهاما من انسجام الآيات جميعها أنها نزلت في موقف واحد وهو الذي حكته الآية [170] وأن الأمر متصل بصورة عامة ببعض تقاليد الكفار من العرب المتصلة بالأطعمة الحيوانية. وأن الموقف كان حجاجيا ووجاهيا بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وبعض هؤلاء الكفار وأن الآية الأولى جاءت بمثابة تمهيد لحكاية هذا الموقف وأن الآيات [172- 173] التي خوطب بها المؤمنون جاءت كتعقيب على هذا الموقف لتنبيه المؤمنين إلى الحدود التي يجب عليهم التزامها دون أبوه بموقف الكفار وتقاليد الآباء المخالفة لإرادة الله تعالى في القرآن إن كانوا يؤمنون به ويعبدونه حقا. ولقد احتوت سورتا الأنعام والنحل آيات مشابهة لهذا الفصل، وآيات الأنعام [134- 145] نزلت في صدد موقف حجاج ولجاج كان بين النبي صلّى الله عليه وسلّم والكفار المشركين. وآيات النحل [112- 117] وجهت إلى المؤمنين واحتوت نهيا عن التحريم والتحليل بدون علم وإنذارا لمن يكذب على الله. فالظاهر أن مثل هذا الموقف قد حدث بين النبي وبعض الكفار في العهد المدني فأوحى الله بهذه الآيات في مناسبة ذلك. ولا يبعد أن يكون اليهود قد لعبوا دورا إيحائيا في الموقف. وقد يكون في الآيات التالية وفي الآيات السابقة قرينة على ذلك حيث يحتمل أن يكون الكفار طلبوا إشهاد اليهود على صدق تحريم الأنواع الأربعة فاستشهدهم النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنها محرمة عندهم أيضا فراوغوا أو لم يشهدوا. ومن الجدير بالتنبيه أن فصل سورتي الأنعام والنحل اتبعا بذكر ما حرم على اليهود على ما مرّ شرحه في سياق تفسير السورتين. ولقد علقنا على ما تلهمه الآيات وما تنطوي عليه من تلقينات جليلة مستمرة المدى وأوردنا طائفة من الأحاديث في صددها في سياق تفسير سورتي الأنعام

_ (1) انظر ابن كثير والطبرسي والخازن.

والنحل فلا نرى ضرورة للتكرار. غير أننا نلفت النظر إلى الصورة التي ترسمها الآية [171] للكفار والتشبيه الذي شبهوا به وإلى التنديد الذي ندد بهم بسبب تمسكهم بما ورثوه من آبائهم الذي لا يكون له سند من حق وعقل وصالح. ففي كل ذلك تلقين بليغ مستمر المدى في تقبيح التمسك بالتقليد الباطل لأنه قديم وعدم التدبر فيما فيه الحق والهدى من جديد. وهذا مما تكرر في سور مكية عديدة وتكرر كذلك في سور مدنية أخرى. ومردّ حكمة تكراره فيما هو المتبادر أولا تجدد المواقف والمناسبات وثانيا ما ينطوي عليه من خطورة بالغة، ودلالة عظيمة على سعة أفق الدعوة الإسلامية وحيويتها المتجددة وكون الهدف الذي تستهدفه وتلزم به أتباعها هو الحق والصالح والهدى وما يتسق مع العقل والمنطق بقطع النظر عن قدمه وجدته. ولقد أورد المفسرون في صدد خطوات الشيطان التي نهت الآية الأولى عن اتباعها بعض أقوال للمؤولين منها أنها تعني كل معصية إطلاقا لأن الشيطان يأمر بجميع المعاصي ومنها في مقامها عنت ما كان عليه أهل الجاهلية من تقاليد في تحليل بعض الأطعمة وتحريمها. والمتبادر أن هذا هو الأكثر ورودا في هذا المقام وإن كان القول الأول يظل وجيها بصورة عامة. ولقد أورد ابن كثير بعض الأحاديث النبوية في سياق الآية من ذلك حديث رواه مسلم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقول الله تعالى إنّ كلّ مال منحته عبادي فهو لهم حلال وإني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرّمت عليهم ما أحللت لهم» ومنها حديث أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس قال: «تليت هذه الآية عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فقام سعد بن أبي وقاص فقال: يا رسول الله ادع لي الله أن يجعلني مستجاب الدعوة. فقال: يا سعد أطبّ مطعمك تكن مستجاب الدعوة. والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما وأيّما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به» . وحديث أخرجه ابن أبي حاتم عن مسروق قال: «أتى عبد الله بن مسعود بضرع وملح فجعل يأكل فاعتزل رجل من القوم فقال ابن مسعود: ناولوا صاحبكم. فقال: لا أريده. فقال: أصائم أنت؟

[سورة البقرة (2) : الآيات 174 إلى 176]

قال: لا. قال: فما شأنك؟ قال: حرّمت أن آكل ضرعا أبدا. فقال ابن مسعود: هذا من خطوات الشيطان فاطعم وكفّر عن يمينك» . وفي الأحاديث توضيح لمدى العبارة القرآنية وتحذير وتنبيه على هامشها. [سورة البقرة (2) : الآيات 174 الى 176] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176) . (1) فما أصبرهم على النار: من باب التعجب. (2) لفي شقاق بعيد: لفي خلاف عظيم بعيد عن الحقّ قائم على قصد المشاقة والمنازعة. عبارة الآيات واضحة، وقد تضمنت تقريعا وإنذارا شديدين للذين يكتمون ما أنزل الله في كتبه وتقرير كونهم في شذوذهم وخلافاتهم فيها منحرفين بعيدين عن الحق على اعتبار أن سبيل الله والحق لا تتحملان خلافا ولا نزاعا ولا شقاقا. ولقد روى الطبري عن أهل التأويل أن المقصود بالآيات اليهود أو أحبارهم لأنهم كانوا يكتمون ما في كتب الله عندهم من صفات النبي صلّى الله عليه وسلّم وغيرهم. والرواية ليست من الصحاح ومع أنها تنطوي على حقيقة الواقع من أحبار اليهود وقد أشير إلى مثل ما ذكرته عن اليهود في آيات سابقة. فإن الذي يتبادر لنا أن الآيات غير منقطعة الصلة عن الفصل السابق. ويخطر للبال على ضوء السياق أن اليهود استشهدوا على صحة ما ورد تحريمه في القرآن من الأطعمة الحيوانية المحرمة وهو ما ورد في آيات سورة الأنعام [93] وسورة النحل [115] لتكون الحجة أقوى

[سورة البقرة (2) : آية 177]

وألزم على الكفار المشركين. ولعل هؤلاء طلبوا استشهادهم فلم يشهدوا بالحق الذي في كتبهم والذي بينه وبين ما حرمه القرآن تطابق ما وكتموا ذلك بقصد التعطيل والتشكيك فاستحقوا التنديد والإنذار الرهيبين هنا وفي الفصل الذي جاء بعد فصل الطواف بين الصفا والمروة لأن السياق متصل والله تعالى أعلم. ولقد جاءت الآيات هنا مطلقة كسابقاتها أيضا لتكون شاملة لكل من يكتم كتاب الله. وما أوردناه في سياق الآيات السابقة من تنبيهات وأقوال وأحاديث يورد هنا بتمامه بطبيعة الحال مع التنبه إلى ما في جملة وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا في الآيات التي نحن في صددها من تشديد أقوى في التنديد في حالة توخّي المنافع الدنيوية الخبيثة من الكتمان حيث يزيد هذا من إثم الكاتم وجريمته ويجعل عقوبته عند الله تعالى مضاعفة. [سورة البقرة (2) : آية 177] لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) . (1) البرّ: قرئت بفتح الباء وقرئت (البار) أيضا، وقدّروا وراء البرّ الثانية محذوفا بحيث تكون الجملة «ولكن البرّ برّ من آمن بالله واليوم الآخر» . (2) على حبه: على شدة الرغبة فيه والحرص عليه. (3) وفي الرقاب: وفي سبيل شراء العبيد وعتقهم أي تحرير الرقاب. (4) البأساء والضراء: أوقات الشدة والمصائب والمحن. (5) البأس: هنا بمعنى الحرب. عبارة الآية واضحة، وهي موجهة إلى السامعين والمرجح الذي تلهمه روحها

تعليق على الآية ليس البر أن تولوا وجوهكم ... وما فيها من تلقين

أن المقصود هم المؤمنون، لتنبههم إلى أن البرّ ليس في توجيه الوجوه إلى المشرق والمغرب ولكنه هو ما ذكرته الآية من الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة وكتب الله وأنبيائه وإعطاء المال المحبب للنفس للمحتاجين وبنوع خاص لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، ولأجل تحرير الرقيق وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهد والصبر في المحن والشدائد وفي ميدان الحرب، فالذين يفعلون ذلك هم الصادقون المتقون. تعليق على الآية لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ... وما فيها من تلقين ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل في سبب نزول هذه الآية. من ذلك ما رواه الطبري عن قتادة أن رجلا سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن البرّ فأنزل الله الآية. وروى الطبري عن قتادة رواية أخرى تفيد أن اليهود كانوا يصلّون قبل المغرب وأن النصارى كانوا يصلّون قبل المشرق فنزلت الآية لبيان حقيقة البرّ. وروى الطبرسي أنه لما حوّلت القبلة أكثر اليهود والنصارى الخوض في ذلك وقيل فيما قيل إن البرّ وطاعة الله هما التوجه في الصلاة فأنزل الله الآية. وروى عن قتادة أيضا أنها نزلت في اليهود خاصة لأنهم هم الذين أكثروا الخوض في تحويل القبلة. وليس شيء من الروايات من الصحاح والرواية الأخيرة مع ذلك هي الأكثر ورودا استئناسا بالسياق والله أعلم. ولما كانت المواضيع التي احتوتها الآيات التالية لهذه الآية مواضيع جديدة غير متصلة بالسياق السابق وكان اليهود هم موضوع الكلام في الدرجة الأولى في الفصول السابقة لها باستثناء الآيات [153- 158] التي فيها تثبيت للمؤمنين وموضوع الطواف بين الصفا والمروة فتكون هذه الآية خاتمة قوية للسياق الطويل الذي بدأ من الآية الأربعين واحتوى حلقات عديدة في صدد مواقف اليهود ضد الدعوة الإسلامية وجحودهم ودسائسهم وربط حاضرهم بغابرهم. وقد استغرق

أكثر من ثلث السورة، وتضمن صور المرحلة الأولى من مراحل الاحتكاك بين النبي صلّى الله عليه وسلّم واليهود في العهد المدني التي كانت قاصرة على الجدل والنقاش والمناظرة والتنديد والإنذار والتي يبدو من خلالها مع ذلك ما بذله اليهود من قوة النشاط المعادي للدعوة الإسلامية في مختلف المجالات وما قصده القرآن من فضح هذا النشاط وإحباطه وهدم المركز القوي الثقافي والديني والسياسي والمالي الذي كان يتمتع به اليهود في الأوساط العربية. ولقد احتوت السور النازلة بعد هذه السورة صورا مماثلة لصور هذه المرحلة ثم صورا للعداء الخطير الذي انتهى إلى الاشتباكات الحربية حتى أظهر الله نبيه والمؤمنين عليهم وساعدهم على تطهير المدينة منهم. وخضد شوكتهم في القرى الأخرى في نهاية السنة السادسة من العهد المدني على ما سوف نشرحه في المناسبات الآتية. والآية فصل جامع رائع من جوامع القرآن وروائعه. وقد احتوت تقرير أهداف الدعوة الإسلامية الإيمانية والاجتماعية والأخلاقية بأسلوب قوي نافذ. ولقد ذكرت هذه الأهداف بأساليب متنوعة في القرآن المكي مما يؤكد الاتساق التام بين القرآن المكي والقرآن المدني. ولقد علقنا عليها في المناسبات العديدة التي ذكرت فيها بما يغني عن التكرار. غير أن في الآية خصوصية جليلة جديرة بالتنويه والتنبيه وهي تقريرها كون أهداف الدعوة الحقيقية والجوهرية ليست الأعراض والأشكال والمظاهر وإنما هي الصدق في الإيمان والعمل والقيام بالواجب نحو الله ومساعدة المحتاجين على اختلافهم من أقارب وأباعد والوفاء بالعهد والصبر عند المحن والثبات في الجهاد والتضحية بالمال والنفس. وفي هذا ما فيه من قوة حيوية الدعوة وعظمتها ومرشحاتها للعمومية والخلود. وينوه بنوع خاص بخاتمة الآية التي تقرر أن المتصفين بما فيها من صفات هم الصادقون المتقون، ولقد شرحنا سابقا مدى التقوى والصدق وما في الآية من صفات مما يماثل ذلك حقا وصدقا. ولقد أورد ابن كثير بعض الأحاديث في سياق هذه الآية فيها توضيح لبعض عباراتها وتساوق مع تلقيناتها. منها حديث رواه الحاكم في مستدركه عن ابن

[سورة البقرة (2) : الآيات 178 إلى 179]

مسعود قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وآتى المال على حبّه أن تعطيه وأنت صحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر» «1» . وحديث رواه ابن مردويه عن فاطمة بنت قيس قالت: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: في المال حقّ سوى الزكاة ثم قرأ الآية» «2» . وحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: «ليس المسكين هذا الطوّاف الذي تردّه التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدّق عليه» «3» . [سورة البقرة (2) : الآيات 178 الى 179] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) . (1) كتب: هنا وفي غير مكان بمعنى فرض على الأغلب. (2) القصاص: مقابلة العمل بمثله. (3) وأداء إليه: الجمهور على أن الجملة تعني أداء الدية في حالة العفو. الآيتان موجهتان إلى المسلمين. وقد احتوت أولاهما: إيجاب القصاص في

_ (1) روى الشيخان والنسائي هذا الحديث بهذه الصيغة: «جاء رجل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله أيّ الصدقة أعظم أجرا؟ قال: أن تصدّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى. ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان» التاج ج 2 ص 36. (2) روى الترمذي هذا الحديث بهذه الصيغة: «سألت أو سئل النبيّ عن الزكاة فقال: إن في المال لحقا سوى الزكاة ثم تلا الآية» . التاج ج 2 ص 39. (3) روى مؤلف التاج هذا الحديث برواية الخمسة إلا الترمذي بهذه الصيغة: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس تردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس» التاج ج 2 ص 38. [.....]

تعليق على آية يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ... إلخ والتالية لها

حوادث القتل التي تقع بينهم كفرض مكتوب عليهم فأوجبت قتل الحرّ القاتل بالحرّ المقتول والعبد القاتل بالعبد المقتول والأنثى القاتلة بالأنثى المقتولة. وأوردت احتمال العفو عن القاتل من قبل ولي المقتول وإباحته. وذكرت ما يجب في مثل هذه الحال وهو التزام الحق والإحسان من جانب القاتل المعفو عن دمه فيسير في التعويض ودفع الدية لأهل القتيل وفق المعروف وبدون عطل وبخس. وبينت أن هذه الإباحة تخفيف من الله ورحمة منه بالمسلمين. وأنذرت من يستغل ذلك فيعتدي ويبغي على غيره. وقد تضمنت ثانيتهما: بيان حكمة إيجاب القصاص فذكرت أن في القصاص حياة للمجتمع حيث يكون وسيلة من وسائل تقوى الله والارتداع عن الظلم والعدوان وإراقة دماء الناس. ووجهت الكلام في آخرها إلى أولي العقول فيهم الذين يستطيعون إدراك هذه الحكمة والعمل بمقتضاها. الجملة التي احتوت هذه الحكمة من روائع الوجائز والحكم القرآنية التي يمكن أن تكون سندا لكل تشريع وتنفيذ جزائي في الدنيا. والآيتان فصل جديد لا صلة له بالسياق السابق. ومن المحتمل أن يكون هذا الفصل نزل بعد الآية السابقة لهما فوضع بعدها بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم. تعليق على آية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى ... إلخ والتالية لها ولقد تعددت الروايات في سبب نزول الآيتين، منها أنه كان بين حيين من العرب دماء في الجاهلية وكان الحي الأقوى قد نذر بأن يقتل من عدوه الحرّ بالعبد والرجل بالأنثى والحرّ بالحرّ. وبأن يجعل دية جراحاته مضاعفة. فلما أسلم الحيان حكما النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلتا ومنها أن العرب في جاهليتهم كانوا طبقات، وكان أشرافهم يغالون في القصاص والدية ويضاعفونهما بالنسبة لمن هم أقل شرفا وقوة، وأن بعض العرب رفع الأمر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلتا ومنها أن اليهود كانوا يقاصون بدون عفو وأن النصارى كانوا لا يقاصون فنزلتا لبيان حكم الإسلام الوسط بينهما. ومنها

أنه كان قوم من العرب إذا قتل عبد قوم آخرين رجلا منهم لم يرضوا بقتل العبد حتى يقتلوا سيده. وإذا قتلت المرأة من غيرهم رجلا منهم لم يرضوا بقتل القاتلة حتى يقتلوا رجلا من عشيرتها «1» . والروايات ليست من الصحاح غير أن مضمون الآية الأولى يلهم احتمال نزول الآيتين في إحدى الحالات المروية عن العرب وبخاصة في الحالة الأخيرة لحل المشكل الدموي الواقع الذي رفع أمره إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم. ومع ترجيحنا خصوصية المناسبة فالذي يتبادر من صيغة الآيتين أنهما نزلتا لتكونا تشريعا عاما للتطبيق في الظروف المماثلة. وهذا شأن معظم الآيات التشريعية والتعليمية. والآيتان هما أولى الآيات التي تحمل طابع التشريع والتقنين في شأن من شؤون الحياة وهو طابع خاص بالعهد المدني، وما ورد في الآيات المكية من أوامر ونواه في هذه الشؤون يحمل طابع الحثّ والعظة والزجر والإنذار والتنديد. وسبب ذلك واضح فالمسلمون في مكة كانوا قلة فلم يكن إمكان ولا مجال للتقنين والتشريع. وقد تغير هذا في العهد المدني حيث كثر المسلمون وصار النزاع والخلاف على شؤون الحياة مما يكثر بينهم. وقد صار النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى هذا في مركز الرئيس والقائد والقاضي معا فانفسح المجال واقتضى الحال التشريع تمشيا مع الظروف واستجابة للمناسبات وحلا للمشاكل والوقائع وجوابا على الاستفتاءات والاستعلامات والمراجعات. وننبه بهذه المناسبة على أمر هام وهو أن معظم ما نزل به تشريع وتقنين من شؤون الحياة في العهد المدني قد نزل به بأمر ونهي وزجر وحثّ وإنذار وتبشير في القرآن المكي. ومن جملة ذلك حظر القتل بغير حق وتقرير حق ولي المقتول بالقصاص مما ورد في سور الإسراء والأنعام والفرقان. وفي هذا ردّ على الأغيار الذين يحلو لهم غمز النبي صلّى الله عليه وسلّم والقرآن بغيا وتعصبا وحقدا فيقولون: إن هناك

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي إلخ.

تناقضا في الدعوة وأهدافها وسيرها بين العهدين. فالأسلوب المدني هو إيجاب تطبيقي للمبادىء والأحكام التي قررتها الآيات المكية مما ينطوي فيه كل الحكمة والحق والصواب ومقتضيات الحياة ثم الانسجام التام بين قرآني العهدين. ولقد أورد المفسرون في سياق الآيتين بعض الأحاديث والاجتهادات الفقهية نوجزها ونعلق عليها بما يلي: 1- المؤولون والمفسرون متفقون على أن حكم الآية الأولى هو في صدد القتل العمد. وهذا متبادر من فحواها أما القتل الخطأ فقد ذكر حكمه في إحدى آيات سورة النساء وسيأتي شرح ذلك في مناسبة. 2- إن من المؤولين والمفسرين من قال إن حكم الآية قد نسخ بحكم النفس بالنفس مطلقا، الذي ورد في آية سورة المائدة هذه: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ... إلخ [45] وهذه الآية حكاية لما كتبه الله على بني إسرائيل في التوراة وليست تشريعا للمسلمين على ما تلهم الآيات التي جاءت بعدها. ونظرية (شرع ما قبلنا شرع لنا) ليس مما يمكن التسليم به استنادا إلى الآيات المذكورة على ما سوف نشرحه في مناسبتها. ويتبادر لنا أن جملة وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ الواردة في الآية الثانية قد تضمنت تعديلا لحكم الأولى فصار القصاص أي قتل القاتل العمد مطلقا هو الحكم المبدئي العام. وهناك أحاديث نبوية تؤيد هذا التعديل. منها حديث رواه الخمسة عن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلّا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيّب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة» «1» . وحديث رواه أبو داود عن قيس بن عباد في صدد كتاب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر» «2» .

_ (1) التاج ج 3 ص 17. (2) ورد هذا الحديث في تفسير القاسمي عزوا إلى أبي داود وفي التاج ج 3 ص 31 حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي فيه: «لا يقتل مسلم بكافر» .

ولقد استند أبو حنيفة وآخرون إلى بعض هذه الأحاديث مع مبدأ القصاص فقرروا أن المسلم يقتل بالمسلم إطلاقا سواء أكان القاتل أو القتيل رجلا أو امرأة أو عبدا أو أمة، وخالف بعضهم هذا الرأي وقالوا لا يقتل الرجل بالمرأة ولا الحرّ بالعبد استنادا إلى نص الآية الأولى. ويتبادر لنا أن الآية الأولى إنما نزلت لحل مشكلة دموية قائمة بأوصاف معينة وأن الرأي الأول المستنبط من أحاديث نبوية ومن مبدأ القصاص مطلقا هو الأوجه. ولم نطلع على أثر نبوي يدعم الرأي الثاني وهناك أحاديث فيها صراحة أكثر تدعم الرأي الأول منها حديث رواه أصحاب السنن جاء فيه: «كتب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل اليمن في جملة ما كتب أن الرجل يقتل بالمرأة» «1» . وحديث رواه أصحاب السنن أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه» «2» . ومن رأي أبي حنيفة استنادا إلى مبدأ القصاص المطلق أن المسلم يقتل بالكافر الذمي أو المعاهد والأكثرون على أن المسلم لا يقتل بالكافر. وهذا مما يدعمه حديث سبق إيراده. 3- مما رواه المفسرون عن المؤولين أن جملة: فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ هي في صدد من يقتل قاتلا بعد العفو عنه وأخذ الدية منه. وقد استند إليها بعضهم فأوجبوا قتل من قتل قاتلا بعد العفو وأخذ الدية. وهناك أحاديث نبوية تساق في تأييد ذلك منها حديث رواه الإمام أحمد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا أعافي رجلا قتل بعد أخذ الدية» «3» . وحديث رواه أبو شريح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أصيب بقتل يختار إحدى ثلاث: إما أن يقتصّ وإما أن يعفو وإما أن يأخذ الدية. فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه ومن اعتدى بعد ذلك فله نار

_ (1) التاج ج 3 ص 14. (2) المصدر نفسه ص 31. (3) أورد هذا الحديث ابن كثير ومعنى لا أعافي لا أعفي من القصاص رجلا قتل قاتلا بعد أخذ الدية عن القتل الذي قتله.

جهنّم خالدا فيها» «1» . والمتبادر أن الرابعة هي قتل القاتل بعد العفو وأخذ الدية. والراجح أن هذا يكون في حالة تعدد أولياء القتيل وعفو بعضهم وقبولهم بالدية دون الآخرين. والجمهور على أن عفو بعض الأولياء وقبولهم بالدية يمنع القصاص وهذا وجيه ومؤيد لما رجحناه من وجه المسألة. 4- ومما رواه المفسرون في جملة: فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ أنها في معنى أن لولي القتيل الذي يعفو ويقبل بالدية أن يطالب بها بالمعروف أي بدون عنف وأن على القاتل وأهله أن يؤدوا الدية بالحسنى بدون إبطاء ونقص، وهذا سديد وجيه. والجمهور متفقون على أن لأولياء القتيل أن يعفوا عن دم قتيلهم بدون دية أيضا، وهذا حقّ متبادر من روح الآية. وهكذا تكون الآية قد انطوت على تلقين جليل في حالة العفو. فالله تعالى إذا أباح العفو فإن ذلك منه تخفيف ورحمة فلا يجوز للمسلمين أن يسيئوا استعمال هذه الرخصة. وعليهم أن يسيروا في أداء ما يترتب عليهم وفي مقاضاته بالحسنى والمعروف والحق. وهذا عدا ما في مبدأ إباحة العفو والصيغة المحببة التي ورد بها من تمشّ مع طبيعة الأمور وملاحظة مصلحة الناس وحالاتهم في مختلف الظروف أيضا من تلقين جليل آخر. 5- وأكثر أئمة الفقه على أنه إذا اشترك أكثر من واحد في قتل قتيل فإنهم يقتلون به. وقد أورد ابن كثير خبرا يفيد أن عمر قتل سبعة في غلام وقال لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم. وقال ابن كثير إنه لا يعرف لهذا مخالف من الصحابة. وينسب إلى الإمام أحمد عدم تجويز قتل الجماعة بالواحد. ويتبادر لنا أن الرأي الأول أوجه إذا ما ثبت أن الجماعة اشتركوا فعلا في القتل وليس هناك بينة أو دليل على واحد بعينه أكثر من غيره والله أعلم.

_ (1) التاج ج 3 ص 15.

6- والجمهور على أن الوالد لا يقتل بابنه. وهناك حديث مؤيد لذلك رواه الترمذي عن سراقة قال: «حضرت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقيد الأب من ابنه ولا يقيد الابن من أبيه. وفي رواية لا يقتل الوالد بالولد» «1» . 7- والجمهور على أن القتل العمد المستوجب للقصاص هو الضرب بدون كفّ حتى الموت. وأن القاتل إذا ضرب ثم كفّ قبل الموت ثم مات المضروب بعد فترة ما نتيجة للضرب فيكون قتله (شبه عمد) ولا يستوجب قصاصا وإنما يستوجب دية مثل دية العمد في حالة عفو أولياء القتيل عن دم قتيلهم المقتول عمدا. وهناك من قال: إن الضرب حتى الموت بأية آلة هو قتل عمد. وهناك من قال إن القتل لا يحسب قتل عمد إلا إذا كانت آلة الضرب حديدية. أما إذا كان الضرب بالعصا أو الحجر أو السوط فهو شبه عمد وإن لم يكفّ الضارب حتى الموت. والاختلاف في المذاهب هو لسبب اختلاف في الأحاديث النبوية المروية. وقد صوب الطبري قول من قال: إن الضرب حتى الموت بأية آلة هو عمد ويتبادر لنا أن هذا هو الأوجه والله أعلم. 8- والأحاديث مختلفة أيضا في تقدير الدية للعمد في حال العفو ولشبه العمد، فمنها ما يفيد أنها مئة من الإبل ومنها ما يفيد أنها اثنا عشر ألف درهم ومنها ما يفيد أنها ألف دينار أو ثمانمائة دينار. ومما روي أنها استقرت في زمن عمر على أن تكون على أهل الإبل مئة وعلى أهل البقر 200 وعلى أهل الشاة 2000 وعلى أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الفضة 12000 درهم وعلى أهل الحلل 100 حلة «2» . والمتبادر أن التقدير والتنويع متأثران بالظروف القائمة وأن من السائغ أن يكونا متبدلين حسب كل ظرف والله أعلم.

_ (1) التاج ج 3 ص 31. (2) انظر المصدر نفسه ص 9- 11 وفي هذا المصدر أحاديث أخرى في الدية ليس فيها فروق جوهرية.

[سورة البقرة (2) : الآيات 180 إلى 182]

وهناك أحاديث نبوية تفيد أن دية المرأة المسلمة نصف دية الرجل «1» . وأبو حنيفة أخذ بحديث «المؤمنون تتكافأ دماؤهم» دون هذه الأحاديث فذهب إلى أن دية المرأة المسلمة نفس دية الرجل ونرى هذا هو الأوجه والله أعلم. وهناك أحاديث تفيد أن دية الكافر الذمي والمعاهد هي نصف دية المسلم وأحاديث تفيد أنها مثل دية المسلم «2» ، فمن الفقهاء من أخذ بهذا ومنهم من أخذ بذاك. 9- وهناك تشريع نبوي يعرف بالقس امة. ويطبق في حالة وقوع جريمة قتل لا يعرف قاتله معرفة يقينية حيث يحلف خمسون من أهل القتيل على رجل بعينه فيقتص منه وإلا فيحلف خمسون من أهل المتهم على براءته «3» . وقد أخذ بعض الفقهاء بهذا التشريع في حين قال بعضهم إن القصاص لا يكون بالقس امة وإنما يجب فيها الدية إذا أقسم أهل القتيل ومع أن الجمهور في جانب الرأي الأول فإن الرأي الثاني لا يخلو من وجاهة من حيث إن اليمين لا يصح أن يكون في مقام اليقين العياني، والله تعالى أعلم. [سورة البقرة (2) : الآيات 180 الى 182] كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) . (1) إذا حضر: بمعنى إذا دنا. (2) خيرا: هنا بمعنى المال، أو المال الكثير.

_ (1) المصدر السابق نفسه. (2) المصدر السابق نفسه. (3) المصدر نفسه ص 15.

تعليق على آيات الوصية

(3) جنفا: ميلا وانحرافا عن الحق. في الآيات: إيجاب الوصية على كل مسلم- حينما يدنو أجله وكان عنده فضل من مال- لوالديه ولأقاربه. وتنبيه على وجوب تنفيذ ذلك على وجه عادل من دون جنف على أحد وعلى الوجه المعروف بأنه الأفضل والأولى. وإنذار لمن يحرف أقوال الموصي أو يبدلها أو يكتمها أو يعطلها. وحثّ على الإصلاح بين ذوي العلاقة بالوصية إذا ما رئي من الموصي نية جنف أو إثم أو ظلم مخالفة للحق. والآيات فصل جديد بأسلوب تشريعي كسابقة، ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه مناسبة لنزولها وتلهم أنه لم يكن للآباء ولبعض طبقات الأقارب أنصبة معينة ومقررة في التركات وكان هؤلاء وأولئك عرضة للعوز والحرمان فاقتضت الحكمة تنزيل الآيات في مناسبة من المناسبات المتصلة بذلك والمتبادر أنها نزلت قبل نزول آيات المواريث الواردة في سورة النساء لأن هذه الآيات عينت للآباء والأخوة والبنات أنصبة معينة في التركات وفي هذا كما هو المتبادر صورة تطورية للتنزيل القرآني. ومن المحتمل أن يكون هذا الفصل قد نزل بعد فصل القصاص فوضع بعده، كما أن من المحتمل أن يكون وضعه بعده بسبب المماثلة التشريعية. تعليق على آيات الوصية ولقد اختلفت أقوال المفسرين «1» ومن رووا أقواله من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتابعيهم في مسألة نسخ هذه الآيات. فهناك من قال إن آيات المواريث الواردة في سورة النساء والحديث النبوي المشهور الذي جاء فيه: «إن الله أعطى

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن والبغوي وابن كثير، وأكثرهم استيعابا للأقوال هو الطبري.

كلّ ذي حقّ حقّه وإنّه لا وصيّة لوارث» «1» قد نسختها. ومنهم من قال إنها لم تنسخ وإن حكمها قائم. ومنهم من قال إن آيات المواريث والحديث النبوي قد نسخ الوصية للوارثين فقط دون غيرهم من الأقارب. والقول الأخير هو الأوجه كما هو المتبادر. ومن القرائن على استمرار حكم الوصية بعد نزول آيات المواريث في سورة النساء أن هذه الآيات كررت التنبيه على وجوب تنفيذ وصية الميت وأداء ما عليه من دين قبل توزيع التركة. وهناك كثير من طبقات الأقارب قد لا ينالهم من الإرث نصيب مثل الأخوة في حال وجود الأبناء الذكور والآباء ومثل الأحفاد حينما يكون لهم أعمام ومثل الأعمام والعمات والأخوال والخالات في حال وجود ورثة أقرب كالآباء والأبناء الذكور إلخ إلخ ... حيث تكون الوصية لهؤلاء حلّا لمشكلتهم وسدا لعوزهم لأنهم محجوبون عن الإرث وفي هذا ما فيه من حقّ وروعة وجلال. والآية الأولى قوية التعبير حتى جعلت الوصية فرضا وحقا على من يتقي الله تعالى ولعل هذا من مفردات التشريع الإسلامي وخصوصياته. ولقد روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود حديثا عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «ما حقّ امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلّا ووصيته مكتوبة عنده» «2» . وقد أورد الطبرسي في سياق تفسير الآيات حديثا نبويا جاء فيه: «من مات بغير وصيّة مات ميتة جاهلية» وحديثا آخر جاء فيه: «من لم يحسن وصيّته عند موته كان نقصا في مروءته وعقله» وحديثا عن علي بن أبي طالب جاء فيه: «من لم يوص عند موته لذوي قرابته فقد ختم عمله بمعصية» . وقد أورد الطبري قولا عن الضحاك أحد علماء التابعين جاء فيه: «من مات

_ (1) انظر التاج ج 2 ص 243. وروى هذا الحديث الترمذي عن أبي أمامة. [.....] (2) انظر المصدر نفسه ص 241، وقد أورد ابن كثير قولا لابن عمر بعد أن أورد الحديث المذكور جاء فيه: «ما مرّت عليّ ليلة منذ سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول ذلك إلّا وعندي وصيتي» .

ولم يوص لذوي قرابته فقد ختم عمله بمعصية» . وقولا آخر جاء فيه: «فإن لم يكن له قرابة فيوصي لفقراء المسلمين» . وفي كل ما تقدم من الروعة والجلال ما هو ظاهر حيث ينطوي في ذلك قصد إلى توزيع الثروة وعدم احتكارها في أيدي الورثة. وحضّ على عمل البرّ والخير وصلة الرحم، حتى لقد ذهب بعضهم استنادا إلى قوة الآيات والأحاديث إلى أن الذي يهمل الوصية يكون مضيعا لفرض من فروض الله تعالى على ما ذكره الطبري. ولقد أثرت أحاديث وأقوال عن الحد الذي يجب فيه هذا الواجب، فهناك حديث نبوي مشهور رواه الخمسة عن سعد بن أبي وقاص قال: «مرضت عام الفتح مرضا أشفيت منه على الموت فأتاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعودني فقلت: يا رسول الله إن لي مالا كثيرا ولا يرثني إلّا ابنتي، أفأوصي بمالي كلّه؟ قال: لا. قلت: فبثلثيه؟ قال: لا. قلت: فالشطر؟ قال: لا. قلت: فالثلث؟ قال: الثلث. والثلث كثير، إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكفّفون الناس» «1» . وهناك حديث يرويه مسلم وأبو داود والنسائي عن عمران بن الحصين جاء فيه: «إنّ رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم فدعا بهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فجزّأهم أثلاثا ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرقّ أربعة وقال له قولا شديدا» حيث يفيد هذا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أجاز الثلث فقط «2» . وهناك حديث يرويه القاسمي عن الإمام أحمد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم غضب لوصية رجل بمال كثير ليتيم له وحدد له الثلث على الأكثر أو أقل مما أراد أن يوصي به. وهناك أقوال يرويها ابن كثير والطبري وغيره من المفسرين عن بعض

_ (1) التاج ج 2 ص 242. (2) المصدر نفسه، وننبه على هامش هذا الحديث أن الرقيق كان يعتبر مالا، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يرد بعمله تعطيل عتق الرقيق لذاته، والنبي صلّى الله عليه وسلّم من هذه الناحية أجلّ وأسمى والقرآن الذي أنزل عليه يحثّ على ذلك في مناسبات عديدة وإنما قصد إلى الرفق بورثة الرجل.

أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتابعيهم. منها أن عليّ بن أبي طالب دخل على ابن عمّ له يعوده فقال له: إني أريد أن أوصي، فقال له: لا توص فإنك لم تترك خيرا فتوصي. وكان ما عنده ما بين السبعمائة والتسعمائة درهم. ومنها أن رجلا استفتى عائشة وكان عنده أربعمائة دينار فقالت له: ما أرى فيها فضلا. ومنها أن قتادة حدد جملة: (إن ترك خيرا) بألف درهم فما فوق. وأن ابن عباس حددها بستين دينارا وطاووسا حددها بثمانين دينارا. ومن المحتمل أن تكون تحديدات ابن عباس وطاووس بل وقتادة وعلي بعد ترتيب الأعطيات للمسلمين في زمن عمر وبعده بحيث يكون المبلغ المحدد خارجا عن حاجة المسلم الضرورية. ومع هذا فيصح أن يقال إن هذه المقادير عرضة للتبدل تبعا لتبدل الظروف. وأن ما يعدّ كثيرا نوعا ما في ظرف قد يكون قليلا لا غناء فيه ولا يتحمل توصية في ظرف آخر والله تعالى أعلم. ومهما يكن من أمر فالفهم العام الذي يستفاد من الأقوال ومن روح الآية أن جملة: (إن ترك خيرا) تعني إن ترك مالا كثيرا نوعا ما يتحمل فرز قسم منه لغير الورثة من الأقارب والمحتاجين. وفي هذا ما فيه من الحكمة والسداد بحيث يكون الحكم هو على أن الذين يتركون مثل هذا المال واجب الوصية على أن لا يكون أكثر من ثلث ما تركوه. وحديث المماليك الستة يفيد أن لولي أمر المسلمين وقاضيهم أن يمنع إجازة وصية تزيد عن الثلث. وفي الآية الثانية إنذار لمن يبدلون الوصية أو يعطلون تنفيذها لأن في ذلك إجحافا لذي حقّ مكتسب ومنعا للخير والبرّ المنطويين في الوصية أو تغييرا للوجهة التي أحب صاحب الحق وهو صاحب المال أن يضع ماله فيها. وروح الآية الثالثة وفحواها هما بسبيل منع الضرر من قبل الموصي ببعض ورثته أو تفضيل بعض على بعض بسائق من الحقد أو الهوى. وفي هذا ما فيه من حكمة وحق. ومن الأمثلة التي أوردها الطبري أن يوصي الأب لابن أحد أولاده دون غيره في حياة أبيه أو توصي المرأة لزوج إحدى بناتها، لأن الحال في الحالتين

سيعود إلى والد أو والدة الحفيد، وهما ورثة لا تجوز لهما الوصية ومن الممكن أن تورد أمثلة أخرى مماثلة. ولقد روى أبو داود والترمذي بسند حسن عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الرجل ليعمل أو المرأة لتعمل بطاعة الله تعالى ستين سنة ثم يحضرها الموت فيضارّان في الوصية فتجب لهما النار» «1» . وقد أورد ابن كثير حديثا رواه ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الجنف في الوصية من الكبائر» وهذا الحديث ليس من الصحاح ولكنه متطابق مع روح الآية والله أعلم. ولقد أورد الطبري قولا لابن عباس بعدم جواز وإجازة الوصية التي فيها ضرر. وقولا لقتادة أن للحاكم أن يردّ الوصية التي فيها الضرر ومجانبة للحق والعدل. وأورد ابن كثير حديثا أخرجه ابن مردويه عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: يردّ من صدقة الحائف في حياته ما يردّ من وصية المجنف عند موته. والحديث ليس من الصحاح ولكنه متطابق مع روح الآية أيضا والله أعلم. وفي تفسير الطبري أقوال لبعض أهل العلم من التابعين في صدد نوع الموصى لهم. منها أن نصّ الآية يحصر الوصية للأقارب سواء أكانوا أغنياء أم فقراء وأن من الواجب الالتزام بذلك. ومنها ما يجيز الوصية لغير الأقارب في حالة وجود أقارب مع شرط أن يكون الأقارب من جملة الموصى لهم. وأن الموصي إذا وصّى لغير أقاربه وكان له أقارب فيكون للحاكم أن ينتزع ثلثي ما وصّى به لغير أقاربه ويردّهما إلى الأقارب. وقد يكون القول الأول مطابقا لحرفية الآية. غير أنه يجب أن يلاحظ أولا أن الوصية للأقارب في الآية كانت قبل نزول آيات المواريث وأنها بقيت محكمة للأقارب غير الورثة. وثانيا أن الأصل في الوصية لغير الورثة هو سدّ حاجة المحتاج منهم كما يلهمه سلك أولي القربى في سلك اليتامى والمساكين في آية سورة النساء هذه: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً (8) وإن هذه الآية تلهم جواز

_ (1) التاج ج 2 ص 241.

[سورة البقرة (2) : الآيات 183 إلى 187]

بل وجوب الوصية للمحتاجين من غير الأقارب أيضا والله تعالى أعلم. وقد شجعت الفقرة الأخيرة من الآية الثالثة الوسطاء على التدخل بين الموصي الذي يريد بوصيته الضرر أو يخشى منه ذلك والإصلاح بينهم. وفي هذا ما فيه من حكمة سامية بسبيل منع الضرر وإقرار ما فيه الخير والمصلحة لمختلف الفرق. وقد قال المفسرون إن هذا التشجيع مستمر المدى بعد موت الموصي أيضا بحيث يتدخل وسطاء الخير للإصلاح بين الورثة والموصى لهم حتى يزال الجنف والضرر اللذين يكونان في الوصية. وفي هذا وجاهة وصواب تؤيدهما جملة: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ بالنسبة للمتدخل للإصلاح حيث تنطوي على تبرئة الوسيط من إثم تبديل الوصية الذي أنذر به المبدلون لها في الآية الثانية، لأن فعله بسبيل الخير والإصلاح الذي هو من أهداف الدعوة الإسلامية والمبادئ القرآنية والنبوية. وعبارة الآية الثالثة يمكن أن تتناول أي مسلم قادر على الإصلاح كما يمكن أن تشمل ولي أمر المسلمين. وفي هذا ما فيه من توسيع فسحة الإصلاح ودفع الأذى والضرر والجنف. [سورة البقرة (2) : الآيات 183 الى 187] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) .

تعليقات على آيات الصيام مع شروح متنوعة في صدد الصيام ورمضان

(1) فمن تطوع خيرا: من زاد في مقدار الفدية المعين. (2) فمن شهد منكم الشهر: أقام فيه ولم يكن مسافرا. (3) الرفث: كناية عن الجماع. (4) تختانون أنفسكم: تخونون أنفسكم وتظلمونها. (5) باشروهن: كناية عن الجماع أيضا. (6) حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر: كناية عن بزوغ الفجر الصادق الذي يفرق بين ظلمة الليل وضوء النهار، ويساعد على التمييز بين الأبيض والأسود. تعليقات على آيات الصيام مع شروح متنوعة في صدد الصيام ورمضان الآيات تحتوي فرض الصيام وحدوده وفوائده ورخصه، وعبارتها واضحة وهي فصل تشريعي جديد. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد فصل الوصية التشريعي فوضعت بعده، أو أن تكون وضعت بعده للمماثلة التشريعية كما كان الأمر بالنسبة للآيات السابقة. والصيام من العبادات الرياضية الروحية القائمة على حرمان الجسم في سبيل تصفية النفس، وهو ممارس على أشكال متنوعة منذ الأزمنة القديمة ومفروض على

اليهود والنصارى، وهذا ما أشارت إليه الآية الأولى «1» . وكثير من الأمم غير الكتابية تمارسه أيضا، ومما لا ريب فيه أن لهذه العبادة الرياضية الروحية إلهامات ومزايا وفضائل سواء في تعويدها الصائمين تحمّل الحرمان تحمّلا تطوعيا لا رقيب عليه ولا محاسب إلا إيمان الصائم وضميره وما في هذا من وسيلة لتصفية النفس وتقوية الروح والإرادة ومغالبة الأهواء وكبح الشهوات. أم في تذكيرها بالمحرومين وما يقاسونه من آلام العوز والحرمان وما يؤدي هذا إليه من رقة النفس وإثارة الرغبة في البرّ والخير والمعونة والإحسان. فلا غرو أن يكون من فرائض الإسلام الذي انطوت فيه الدعوة إلى كل فضيلة ومكرمة وإلى قيام الإنسان بواجباته نحو الله والناس بكل وسيلة ومناسبة، ثم إلى كبح جماح الشهوات وتصفية النفس وإعدادها لتلقي فيض الله ومدده وروحانيته. ولقد أثرت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أحاديث عديدة في فضل الصيام وآدابه فيها الترغيب والبشرى والحضّ والتشجيع. منها حديث جاء فيه: «إنّ الله تبارك وتعالى فرض صيام رمضان عليكم وسننت لكم قيامه، فمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه» «2» . وحديث ثان جاء فيه: «كلّ عمل ابن آدم له إلّا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح وإذا لقي ربّه فرح بصومه» «3» وفي رواية: «كلّ عمل ابن آدم مضاعف الحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله عزّ وجلّ: إلا الصوم فإنّه لي وأنا أجزي به من يدع شهواته وطعامه لأجلي» . وحديث ثالث جاء فيه: «قال أبو

_ (1) في أسفار العهد القديم والجديد المتداولة اليوم نصوص عديدة في ذلك. انظر الإصحاح 2 من سفر عزرا و 58 من أشعيا و 1 و 3 من يوئيل و 8 من زكريا و 17 من إنجيل متى و 4 من لوقا و 6 و 11 من رسالة بولس الثانية لأهل كورنتوس. (2) رواه النسائي وأحمد. انظر التاج ج 2 ص 42 وكثير من أهل الملل الأخرى كانت قبل الإسلام وما زالت تمارس نوعا من الصوم كما يستفاد من مدوناتها. (3) رواه الخمسة التاج ج 2 ص 43.

أمامة، قلت: يا رسول الله مرني بأمر ينفعني الله به؟ قال: عليك بالصيام فإنّه لا مثل له» «1» . وحديث رابع جاء فيه: «ألا أدلّك على أبواب الخير: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفىء الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل شعار الصالحين» «2» . وحديث خامس جاء فيه: «ثلاثة لا تردّ دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول الربّ: وعزّتي لأنصرنّك ولو بعد حين» «3» . وحديث رواه الخمسة وأحمد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر الله ما تقدّم من ذنبه، وفي رواية أحمد: وما تأخّر» «4» . وهناك حديثان مهمّان في صدد آداب الصائم وأخلاقه أحدهما رواه الخمسة إلا مسلما جاء فيه: «قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» «5» . وثانيهما رواه ابن ماجه وأحمد والحاكم جاء فيه: «قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ربّ صائم ليس له من صيامه إلّا الجوع، وربّ قائم ليس له من قيامه إلّا السهر» «6» . ولقد اقتضت حكمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تشريع زكاة الفطر لتكون مطهرة للصائمين مما قد يكونون ألموا به أثناء صومهم من هفوات حيث روى أبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: «فرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللّغو والرفث وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أدّاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات» «7» . وحديث رواه الخمسة عن ابن

_ (1) رواه النسائي والحاكم والتاج ج 2 ص 46. (2) رواه الترمذي التاج ج 2 ص 46. (3) التاج ج 5 ص 106 و 107. (4) التاج ج 2 ص 44. (5) المصدر نفسه ص 56 و 57. (6) انظر المصدر نفسه. (7) انظر المصدر نفسه ص 22 و 24. والمراد بالصلاة صلاة العيد وفي التاج حديثان في صدد مقدار الزكاة أحدهما عن ابن عباس يذكر أن الزكاة صاع من تمر أو شعير أو نصف صاع من قمح حيث يبدو أن القمح كان أغلى من الشعير والتمر. وثانيهما يذكر أن عليا رضي الله عنه قال: أوسع الله عليكم فلو جعلتموه صاعا من كلّ شيء. وطبيعي أن هذا المقدار هو الحدّ الأدنى. [.....]

عمر قال: «فرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحرّ والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدّى قبل خروج الناس إلى الصلاة» «1» . وهناك أحاديث في فضل إطعام الطعام في رمضان والحثّ عليه، منها حديث رواه الترمذي وأحمد عن زيد بن خالد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من فطّر صائما كان له مثل أجره لا ينقص من أجر الصائم شيئا» «2» . وحديث رواه الترمذي بسند حسن عن أم عمارة قالت: «إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل عليها فقدمت له طعاما فقال: كلي، فقالت: إنّي صائمة. فقال: إنّ الصائم تصلّي عليه الملائكة إذا أكل عنده حتى يفرغوا، وربّما قال: حتى يشبعوا. وفي رواية: الصائم إذا أكل عنده المفاطير صلّت عليه الملائكة» «3» . وهناك حديث عن جود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخاصة في رمضان ومدارسته القرآن مع جبريل فيه رواه الشيخان عن ابن عباس قال: «كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل. وكان جبريل يلقاه كلّ ليلة في رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه النبيّ القرآن وفي رواية فيدارسه القرآن، فإذا لقيه كان أجود بالخير من الريح المرسلة» «4» . وهناك حديث في صدد الإفطار عمدا رواه الخمسة عن أبي هريرة جاء فيه، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أفطر يوما من رمضان في غير رخصة رخّصها الله له لم يقض عنه صيام الدهر وإن صامه» «5» .

_ (1) التاج ج 2 ص 57. (2) التاج ج 2 ص 57. (3) المصدر نفسه ص 57 و 58. (4) المصدر نفسه ص 63. (5) المصدر نفسه ص 63.

ومع أن جملة: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ هي في صدد الصوم وسياقه فإن إطلاقها ينطوي على تلقين عام يشمل مختلف شؤون المسلمين الدينية. ولقد علقنا على هذا المعنى في سياق الآية [78] من سورة الحج فنكتفي بهذا التنبيه. هذا، وفي كتب التفسير روايات وأقوال عن أهل التأويل وأئمة الفقه في صدد آيات الصيام وأحكامه نوجزها ونعلق عليها بما يلي: 1- قال المفسّرون ورووا «1» في صدد جملة: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ إن صيام رمضان كان هو المفروض على أهل الكتاب وإن ذلك متصل بسنة إبراهيم وإن الصيام كان يبدأ من النوم بعد الإفطار إلى عتمة اليوم التالي. وإن ذلك شقّ عليهم فغيروا وبدّلوا كما قالوا إن الصيام كتب على المسلمين كما كتب على كل الناس وإن الصيام الأول كان ثلاثة أيام من كل شهر. وليس لما قالوه سند وثيق، والذي يتبادر لنا أن القصد من العبارة هو المماثلة، فقد كان لليهود والنصارى ولغيرهم أوقات صيام معينة فأشير إلى ذلك في سياق فرض الصيام على المسلمين. 2- وقالوا ورووا في صدد جملة: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ إن الصيام فرض لأول مرة ثلاثة أيام من كل شهر وكان هذا مما فرض على أهل الكتاب وأن هذا مما كان يفعله النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون تطوعا ثم فرضا ثم نسخ بفرض شهر رمضان. ومما قالوه ورووه أيضا أن جملة: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ هي أيام رمضان وإن جملة شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هي بدل بياني لتلك الأيام وليست ناسخة. ويتبادر لنا أن هذا هو الأوجه وأن جملة فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى

_ (1) انظر الطبري والبغوي والخازن والطبرسي وابن كثير في تفسير الآيات، وأكثرهم استيعابا الطبري وابن كثير. وجميع ما أوردناه في النبذ مقتبس من هذه الكتاب وبخاصة من الطبري وابن كثير.

سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ الأولى في الآية [184] قرينة على ذلك لأنها تفيد أن الأيام المعدودة معينة العين. 3- وقالوا ورووا في صدد جملة: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ عدة أقوال منها إن هناك محذوفا مقدرا وهو (لا) قبل يطيقونه لأن في هذا بيانا لحكمة الرخصة والفدية. ومنها إن معنى يُطِيقُونَهُ هو (يتحملونه بجهد ومشقة) وهم الشيوخ والمرضى الذين لا يرجى برؤهم. ومنهم من أدخل معهم الحبالى والمرضعات إذا خفن على أنفسهن. ومنها إن الصيام فرض في البدء على التخيير فمن شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا مع التنبيه الرباني على أن الصيام هو خير من الإفطار وأن ذلك نسخ بالآية [185] التي خلت من رخصة الإفطار وأوجبت الصوم على من شهد الشهر وقصرت الرخصة على المريض والمسافر بشرط القضاء. ولقد جاء في هذا الصدد حديث عن سلمة بن الأكوع جاء فيه أنه لما نزلت وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ كان من أراد منا أن يفطر ويفتدي فعل حتى نزلت الآية التي بعدها: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فنسختها «1» . ومع ذلك فإن بعض المفسرين لا يسلمون بأن هذه الآية نسخت ما قبلها ويقولون إن حكم الآية: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ باق. وأوردوا حديثا عن ابن عباس رواه البخاري وأبو داود والنسائي بنصوص ثانية. ونصّ البخاري: «ليست منسوخة هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان» ونصّ أبي داود: «هي رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة. وهما يطيقان الصوم أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكينا، والحبلى والمرضع إذا خافتا أفطرتا وأطعمتا» ونصّ النسائي: «لا يرخّص إلا للذي لا يطيق الصيام أو مريض لا يشفى» «2» . والمتبادر أن الفدية الدائمة لا تصح إلّا ممن لا يطيق الصيام في أي وقت بسبب مرض لا يشفى أو سنّ متقدمة. أما الحبلى والمرضعة فيكون حكمهما إذا

_ (1) التاج ج 2 ص 48 رواه الخمسة. (2) انظر المصدر نفسه ص 70.

خافتا على نفسيهما الضرر والخطر حكم المريض الموقت الذي رخصت له الآية بالإفطار على أن يقضي الأيام في وقت عافيته بعد والله تعالى أعلم. وهناك حديث رواه أصحاب السنن عن رجل قال: «أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لحاجة فإذا هو يتغذى قال: هلمّ إلى الغذاء، فقال: إني صائم. قال: هل أخبرك عن الصوم؟ إن الله وضع عن المسافر نصف الصلاة والصوم ورخص للحبلى والمرضع» «1» والمتبادر أن وضع الصوم هو وضع موقت بقرينة أنه جمع المسافر أيضا، والمسافر يقضي الصوم بنص الآية. 4- ومما قالوه ورووه أن جملة: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ بمعنى جمع الفدية إلى الصيام كما قالوا إنها بمعنى الزيادة في الفدية لأن طعام مسكين واحد هو حدّ أدنى، ويتبادر لنا أن القول الأخير هو الأوجه. 5- ومع كل ذلك فإنه يتبادر لنا والله أعلم أن الذين لا يطيقونه بسبب الشيخوخة والمرض الدائم الذي لا يبرأ منه صاحبه أو الذي يزيده الصوم شدة سيدخلون في عداد عدم التكليف: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ولا يقتضي هذا فدية. وأن الفدية كانت لمن يطيق الصوم على التخيير بينها وبين الصوم بدليل جملة وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ لأن هنا لا يصح أن يقال إلّا لمن يطيق الصوم وأنها نسخت بالآية التالية على الوجه المشروح الذي تؤيده بعض الأحاديث الصحيحة التي أوردناها والله أعلم. 6- والجمهور على أن طعام المسكين هو طعام يوم كامل من أوسط ما يطعم الصائم أهله. وأنه يصح أن يعطى بدل عن الطعام نصف صاع من برّ أو تمر، وقد يقاس على هذا فيقال إنه يصح أن يعطى بدل نقدي حسب الظرف والمكان. 7- ومن المعاني التي ذكرها الخازن لجملة: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ أنها بمعنى من رأى منكم الهلال غير أن الجمهور على أن معناها من

_ (1) انظر التاج ج 2 ص 70.

كان مقيما غير مسافر. وهذا هو الأوجه الذي قد تؤيده جملة: وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ التي جاءت بعد الجملة. 8- وهناك أحاديث عديدة في صدد الصوم والإفطار في رمضان غير الحديث الذي أوردناه آنفا، منها حديث رواه الشيخان وأبو داود عن ابن عباس جاء فيه: «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر فأفطر الناس، وكان صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره، وفي رواية: خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم من المدينة إلى مكة فصام حتى بلغ عسفان ثم دعا بماء فرفعه إلى فيه ليراه الناس فأفطر حتى قدم مكة. وذلك في رمضان فكان ابن عباس يقول: قد صام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأفطر. فمن شاء صام ومن شاء أفطر» «1» . وحديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أنس قال: «سافرنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم. وفي رواية كانوا يرون أن من وجد قوة فصام فحسن ومن وجد ضعفا فأفطر فحسن» «2» . وحديث رواه الخمسة عن جابر قال: «وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم في سفر فرأى زحاما ورجلا قد ظلّل عليه فقال: ما هذا؟ قالوا: صائم. فقال: ليس من البرّ الصوم في السفر» «3» . وحديث رواه مسلم والنسائي عن أنس قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم في سفر فصام بعض وأفطر بعض فتحزم المفطرون وعملوا وضعف الصوّام عن بعض العمل فقال رسول الله: ذهب المفطرون اليوم بالأجر» «4» . وهناك حديثان يرويهما الطبري لم يردا في الصحاح واحد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الصائم في السفر كالمفطر في الحضر» . وثان عن حمزة الأسلمي جاء فيه: «أنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فقال: إنما هي رخصة من الله لعباده فمن فعلها فحسن جميل ومن تركها فلا جناح عليه» .

_ (1) التاج ج 2 ص 68 و 69. (2) انظر المصدر نفسه. (3) انظر المصدر نفسه. (4) انظر المصدر نفسه.

ولقد تعددت المذاهب بناء على ذلك ففريق من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتابعيهم وأئمة الفقهاء ذهبوا إلى كراهية الصوم في السفر وقالوا: إن الله تصدّق على عباده برخصة الإفطار فلا يجوز ردّ صدقته. وفريق جعل ذلك في الخيار فمن شاء صام ومن شاء أفطر. وهناك فريق حبّذ عدم السفر في رمضان لئلا يضطرّ إلى الإفطار وقال: إنه إذا حلّ رمضان على مقيم وصام ثم سافر فعليه أن يستمرّ في الصوم. 9- ولم نطلع على أثر نبويّ في صدد حدّ المرض والسفر اللذين يباح فيهما الإفطار. فهناك حديث رواه البخاري جاء فيه: «كان ابن عمر وابن عباس يقصران ويفطران في أربعة برد» «1» . وحديث رواه أبو داود جاء فيه: «كان ابن عمر يخرج إلى الغابة فلا يقصر ولا يفطر» «2» . ومما قاله المؤولون والفقهاء إن حدّ المرض هو تمكن الظن بضرر النفس وازدياد العلّة أما حدّ السفر فمنهم من قدره بسير ثمانية فراسخ ومنهم من قدره بستة عشر فرسخا. والذي يتبادر لنا من روح الجملة القرآنية ومن الأحاديث النبوية أن الرخصة بالإفطار للمسافر والمريض الموقت ويدخل في ذلك الحبالى والمرضعات والنفساء إنما هي بسبب الجهد والمشقة تمشيا مع المبدأ القرآني الذي يقرّر أن الله لا يكلّف نفسا إلا وسعها وأن الله يريد بالناس اليسر لا العسر. وأن الأمر موكول لتقدير المسلم المفروض أنه مخلص لدينه وواجباته الدينية، وأن الصيام في الأصل عمل ذاتي لا رقيب عليه إلا الله وإيمان المؤمن. ولقد جاء النص القرآني مطلقا مما ينطوي فيه حكمة بالغة متمشية مع الحكمة القرآنية العامة التي جرت على ترك تعيين الأشكال في الأعمّ الأغلب لظروف الأشخاص من الأزمنة والأمكنة. والعبرة قائمة اليوم بالنسبة للسفر في تبدل وسائط النقل ووسائل الأسفار، بل وهذا يشاهد في المرض نتيجة لتقدم الطب، فالمقاييس والأحوال تتغير بتغير الوسائل والظروف،

_ (1) التاج ج 2 ص 69 والبريد أربعة فراسخ، والفرسخ مشي ساعة ونصف. [.....] (2) انظر المصدر نفسه.

ولكن المبدأ القرآني يظل قائما ويكون هو الحكم في هذه المسائل كما هو في أمثالها وفي هذا ما فيه من القوة والروعة ومرشحات الخلود. وعلى ضوء هذا يمكن القول إن حدّ السفر والمرض المبيحين للإفطار هو المشقة المحققة التي قد تؤدي إلى الضرر. وإن الأولى أن يأخذ المسلم بالرخصة وأن لا يتكلف مشقة ولا يعرض نفسه للخطر والله تعالى أعلم. 10- ومما قاله المؤولون في جملة وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ أنها في صدد الأيام التي يفطرها المريض والمسافر حيث يكون صومها عند الإقامة والشفاء، إتماما لعدة شهر رمضان وهذا وجه سديد. 11- وفي صدد كيفية قضاء الأيام التي يفطرها المريض والمسافر روى الدارقطني وابن الجوزي وصححه حديثا عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «قضاء رمضان إن شاء فرّقه وإن شاء تابع» «1» . 12- ونستطرد إلى مسألة تشغل المسلمين في جميع أقطارهم كل سنة، وهي مسألة رؤية القمر لبدء الصيام والانتهاء منه. ولقد روى الخمسة عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غمّ عليكم فاقدروا له» «2» . ولفظ الترمذي: «لا تصوموا قبل رمضان، صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن حالت دون رؤيته غيابة فاكملوا ثلاثين يوما» وفي رواية البخاري: «فإن غمّ عليكم فاكملوا عدة شعبان ثلاثين» وفي رواية: «فإن غمّ عليكم فصوموا ثلاثين يوما» «3» . وهناك أحاديث أخرى منها حديث رواه الشيخان وأبو داود والنسائي عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «إنّا أمّة أمّية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا يعني مرّة تسعة وعشرين ومرّة ثلاثين» «4» . وحديث رواه أبو داود والدارقطني وصححه عن حسين بن الحارث قال: «خطب أمير مكة ثم قال عهد إلينا رسول

_ (1) التاج ج 2 ص 71. (2) انظر المصدر نفسه ص 50 و 51. (3) انظر المصدر نفسه. (4) انظر المصدر نفسه.

الله صلّى الله عليه وسلّم أن ننسك للرؤية فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما» «1» . وحديث آخر رواه أبو داود وأحمد عن رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اختلف الناس في آخر يوم رمضان فقدم أعرابيان فشهدا عند النبي صلّى الله عليه وسلّم بالله أنهما رأيا الهلال أمس عشية فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس أن يفطروا وأن يغدوا إلى مصلّاهم» «2» . وحديث رواه أبو داود وابن حبان والحاكم وصححه عن ابن عمر قال: «تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله أني رأيته فقام وأمر الناس بصيامه» «3» . وحديث رواه أصحاب السنن وابن حبان والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: «جاء أعرابيّ إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: إني رأيت الهلال فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أن محمّدا رسول الله؟ قال: نعم. قال: يا بلال أذّن في الناس فليصوموا» «4» . وروح الأحاديث تلهم أن القصد هو التيقن من دخول الشهر ونهايته. وأن رؤية واحد من المسلمين في مكان تكفي لصيام المسلمين وإفطارهم في مكان آخر وبخاصة إذا كان المكانان متساويين أو متقاربين في المطالع. وأنه ليس من الضروري أن تثبت الرؤية في كل بلد لحدته. ولقد روى الخمسة إلّا البخاري عن كريب حديثا جاء فيه: «إنّ أمّ الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام قال فقدمت الشام وقضيت حاجتها واستهلّ عليّ رمضان وأنا في الشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت إلى المدينة آخر الشهر فسألني ابن عباس متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة. قال: أنت رأيته؟ قلت: نعم، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. فقال: ولكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه. فقلت: أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» . «5» .

_ (1) المصدر السابق ص 51 و 52 ومعنى ننسك بالرؤية: نصوم بالرؤية. (2) انظر المصدر نفسه. (3) انظر المصدر نفسه. (4) انظر المصدر نفسه. (5) انظر المصدر نفسه.

ويتبادر لنا أن هذا اجتهاد من ابن عباس قائم على احتمال الظن أن يكون مطلع القمر في الشام غير مطلعه في المدينة، وليس في الأحاديث النبوية المروية ما يدعمه بصراحة، وليس من شأنه أن ينقض الحكم المستلهم من الأحاديث التي أوردناها. وقد يكون عدم رؤيتهم الهلال في المدينة لسبب سحاب أو عجز عن الرؤية، وما دام أن من الثابت اليقيني اليوم أنه ليس فرق كبير في المطالع بين البلاد العربية في آسيا وأفريقيا بل وبين البلاد الإسلامية الآسيوية الإفريقية والأوروبية القريبة منها وأن الفرق لا يعدو أن يكون ساعة أو ساعتين بحيث يكون الشهر في اليوم التالي مؤكد الدخول في جميع هذه البلاد فإن ثبوت رؤية القمر في بلد منها كاف لبدء الصيام وانتهائه في البلاد الأخرى. وهذا صار يمكن العلم به في دقائق معدودة بحيث يكون خبر أول بلد يرى فيها القمر يؤخذ به في البلاد الأخرى صوما وانتهاء، بل وإنه لمن السائغ ما دام القصد الشرعي هو التثبت من دخول الشهر ونهايته أن يكون ذلك بناء على الحساب الفلكي الرياضي المستند إلى علم وثيق أو على رؤية الهلال بواسطة منظار المراصد الفلكية إذا تعذرت الرؤية العيانية المعتادة والله تعالى أعلم. وفي هذا خلاص من البلبلة التي يقع المسلمون فيها في كل سنة من جراء تمسكهم بالحرف وإهمالهم الجوهر فيه فيكون صيامهم وإفطارهم واحدا في كل بلادهم. وقد وصل علم الفلك إلى درجة بعيدة جدا من الدقة والضبط، وساعد اللاسلكي على اتصال البلاد ببعضها في لمحة البصر ولم يكن من هذا شيء من قبل. وفي التقريرات والمبادئ القرآنية ما يبيح للمسلمين بأخذ كل ما فيه مصلحة وتيسير ولم يكن فيه معصية وتعطيل. وفي الآية التي نحن في صددها تلقين عظيم في هذه المسألة بالذات حيث قررت أن الله إنما يريد بالمسلمين اليسر ولا يريد بهم العسر وكل ما يريده منهم هو إتمام عدة الشهر الذي أمروا بصيامه وذكر الله وعبادته لأن في ذلك رشدهم وصلاحهم وخيرهم. 13- وقالوا ورووا في صدد الآية [187] : أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ

إِلى نِسائِكُمْ إلخ ... عدة أقوال وروايات منها: إن الصيام كان يبدأ عند النوم في عتمة المساء فلا يجوز للمسلم أن يرفث ويأكل ويشرب إذا ما استيقظ ولو كان ذلك قبل الفجر، بل وكان من غلبه النوم قبل الإفطار يظل طاويا ولو استيقظ قبل الفجر وإن ذلك كان تطوعا من المسلمين واجتهادا فأنزل الله الآية رفقا بهم وتحليلا لما حرموه على أنفسهم. ومنها إن ذلك كان بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم وإن بعض المسلمين ومنهم عمر بن الخطاب نكحوا وأكلوا وشربوا بعد الاستيقاظ من النوم قبل الفجر فراجعوا النبي صلّى الله عليه وسلّم تائبين خائفين فأنبهم، ثم نزلت الآية بالعفو والتوبة والتخفيف. ومنها إن الآية لم تنزل منفصلة وإن الله قد أعلم المسلمين فيها في سياق فرض الصيام عليهم أنه قد أحل لهم الأكل والشرب والرفث ليلة الصيام إلى الفجر لأنه علم أنهم قد يظلمون أنفسهم ويخونونها لو لم يحلّ لهم ذلك. ولقد روى البخاري عن البراء قال: «لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كلّه. وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله الآية» «1» . وروى البخاري وأبو داود والنسائي عن البراء أيضا قال: «كان أصحاب محمد إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي وإن قيس بن صرمة كان صائما فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك وكان يومه يعمل فغلبته عيناه فجاءت امرأته فلما رأته قالت خيبة لك. فلما انتصف النهار أغمي عليه فذكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت الآية ففرحوا بها فرحا شديدا. وفي رواية كان الناس على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا صلوا العتمة حرم عليهم الطعام والشراب والنساء، وصاموا إلى القابلة فاختان رجل نفسه فجامع امرأته وقد صلّى العشاء ولم يفطر فأراد الله أن يجعل ذلك يسرا لمن بقي ورخصة ومنفعة، فأنزل الآية «2» . ويتبادر لنا أن جملة فَالْآنَ ثم جملة فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ في الآية قد تؤيدان ما جاء في الحديث الثاني وما روي عن عمر، ولا يمنع هذا أن يكون ما

_ (1) التاج ج 4 ص 48 و 49. (2) التاج ج 2 ص 47 و 48.

روي في الحديث الأول قد وقع أيضا فاقتضت حكمة التنزيل الإيحاء بالآية ليكون فيه تيسير للمسلمين في الصيام. وفي هذه الحالة تكون الآية قد نزلت منفصلة عن أخواتها بعد مدة ما ثم ألحقت بها للمناسبة. 14- وقالوا ورووا في صدد: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ إن بعض المسلمين الذين كانوا ينذرون الاعتكاف في المساجد ليلا ونهارا في شهر رمضان أو بعض أيامه كانوا يخرجون ليلا من المسجد فينكحون ثم يغتسلون ويعودون فنهوا عن ذلك. ولم نر قولا آخر في هذا الصدد. ويظهر أن بعض المسلمين خالفوا حدود سنة الاعتكاف التي سنها النبي لأصحابه كما خالفوا أمره بعدم الأكل والشرب والجماع بعد النوم فاحتوت الآية النهي عن ذلك. ونقول استطرادا: إن من المفسرين من جعل المباشرة الجلدية دون الجماع في حكم الجماع المنهي عنه، والذي هو مفسد للصوم إطلاقا في حالة الاعتكاف وغيرها. ومنهم من ألحق التقبيل والمعانقة، ومنهم من أباح كل ذلك. استنادا إلى حديث رواه الخمسة عن عائشة (رضي الله عنها) جاء فيه: «كان النّبي صلّى الله عليه وسلّم يقبّل ويباشر وهو صائم وكان أملككم لإربه» «1» . وهناك حديث آخر رواه أبو داود والبيهقي وصححه عن أبي هريرة جاء فيه «2» : أن رجلا سأل النّبي عن المباشرة فرخص له وأن شخصا آخر سأله عنها فنهاه وكان الأول شيخا والثاني شابا. والذي يتبادر لنا أن الجوهري في المسألة هو ملك الإرب مع التيسير للهو والتحبب. وأن من لا يظن في نفسه القدرة على ذلك فالمنع هو الحكم. بل يتبادر لنا أن المنع هو الأولى في كل حال من باب الاحتياط، لأن الإنزال في حالة المباشرة في اليقظة مفسد للصيام بالإجماع. وننبه على أن هناك أحاديث نبوية عديدة في الاعتكاف في رمضان فيها توضيح لما جاء في هذه النبذة. منها حديث رواه الخمسة عن عائشة قالت: «كان النّبي صلّى الله عليه وسلّم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفّاه الله ثم اعتكف أزواجه

_ (1) التاج ج 2 ص 65. (2) التاج ج 2 ص 65. [.....]

من بعده» «1» . وحديث رواه أبو داود عن أبي هريرة قال: «كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يعتكف في كلّ رمضان عشرة أيام فلمّا كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوما» «2» . وحديث رواه ابن ماجه عن ابن عمر قال: «كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا اعتكف طرح له فراش أو وضع له سرير وراء اسطوانة التوبة» «3» . وحديث رواه الخمسة عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا اعتكف يدني إليّ رأسه فأرجّله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان» «4» . وحديث رواه أبو داود والنسائي عن عائشة قالت: «السّنة على المعتكف ألّا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمسّ امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلّا لما لا بدّ منه. ولا اعتكاف إلّا بصوم ولا اعتكاف إلّا في مسجد وجامع» «5» . وحديث رواه ابن ماجه عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في المعتكف: «هو يعكف الذنوب ويجري له من الحسنات كعامل الحسنات كلّها» «6» . وحديث رواه الطبراني والبيهقي والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: «سمعت صاحب هذا القبر يقول: «من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها كان خيرا له من اعتكاف عشر سنين. ومن اعتكف يوما ابتغاء وجه الله تعالى جعل الله بينه وبين النار ثلاثة خنادق أبعد مما بين الخافقين» «7» . وحديث رواه البيهقي عن الحسين بن علي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من اعتكف عشرا في رمضان كان كحجتين وعمرتين» «8» . وهناك حديث يساق في صدد قضاء سنّة الاعتكاف في غير رمضان وفيه صورة لكيفية الاعتكاف رواه الخمسة إلا الترمذي عن عائشة قالت: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد أن يعتكف صلّى الفجر ثم دخل معتكفه. وإنه أمر بخبائه فضرب فأراد الاعتكاف في العشر الأخير من رمضان فأمرت زينب بخبائها فضرب، وأمر غيرها من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم بخبائه فضرب فلما صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الفجر نظر فإذا الأخبية فقال: آلبرّ تردن؟ فأمر بخبائه فقوّض وترك الاعتكاف في رمضان حتى اعتكفه في

_ (1) التاج ج 2 ص 94 و 95 والمسجد الجامع أي الذي تقام فيه الجمعة. ويقصد الإمام مالك أن إطلاق العبارة القرآنية يجعل هذا الشرط غير ضروري إلا في حالة وجود مسجد جامع. الموطأ ص 174. (2) التاج ج 2 ص 94 و 95 والمسجد الجامع أي الذي تقام فيه الجمعة. ويقصد الإمام مالك أن إطلاق العبارة القرآنية يجعل هذا الشرط غير ضروري إلا في حالة وجود مسجد جامع. الموطأ ص 174. (3) التاج ج 2 ص 94 و 95 والمسجد الجامع أي الذي تقام فيه الجمعة. ويقصد الإمام مالك أن إطلاق العبارة القرآنية يجعل هذا الشرط غير ضروري إلا في حالة وجود مسجد جامع. الموطأ ص 174. (4) التاج ج 2 ص 94 و 95 والمسجد الجامع أي الذي تقام فيه الجمعة. ويقصد الإمام مالك أن إطلاق العبارة القرآنية يجعل هذا الشرط غير ضروري إلا في حالة وجود مسجد جامع. الموطأ ص 174. (5) التاج ج 2 ص 94 و 95 والمسجد الجامع أي الذي تقام فيه الجمعة. ويقصد الإمام مالك أن إطلاق العبارة القرآنية يجعل هذا الشرط غير ضروري إلا في حالة وجود مسجد جامع. الموطأ ص 174. (6) التاج ج 2 ص 97. (7) التاج ج 2 ص 97. (8) التاج ج 2 ص 97.

العشر الأول من شوال» «1» . 15- وقد قالوا ورووا في صدد جملة: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أنها عنت أن القرآن أنزل دفعة واحدة في رمضان إلى سماء الدنيا ثم صار ينزل منجّما، وهذا القول قيل في سياق الآية: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) في سورة القدر والآية: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ [3] في سورة الدخان وعلقنا على ذلك بما يغني عن التكرار. ولقد أورد ابن كثير في سياق الجملة أحاديث نبوية تذكر نزول القرآن وصحف إبراهيم والتوراة والزبور والإنجيل في رمضان أيضا وكأنها تساق لتأييد هذا القول. منها حديث برواية الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ صحف إبراهيم نزلت في أول ليلة من رمضان والتوراة لست مضين منه والإنجيل لثلاث عشرة خلت والقرآن لأربع وعشرين» وحديث مروي عن جابر جاء فيه: «إن الزبور نزل لثنتي عشرة مضت من رمضان والإنجيل لثماني عشرة» وهذه الأحاديث لا تعدّ من الصحاح، والثاني بخاصة لا يستند إلى سند معروف. ويجوز التوقف فيها. وصحف إبراهيم وتوراة موسى وزبور داود وإنجيل عيسى الأصلية (عليهم السلام) ليست في أيدينا. وبالنسبة للقرآن الذي في أيدينا كما نزل نقول إن هذا القول بالإضافة إلى كونه غير مفهوم الحكمة هو غير منسجم مع حقيقة كون فصول القرآن كانت تنزل في مناسبات أحداث السيرة المتجددة والمتبدلة. ولقد روى المفسرون عن الشعبي في تأويل: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ سورة القدر [1] أنها بمعنى إنا بدأنا بإنزاله، وهذا هو ما تطمئنّ إليه النفس كما ذكرنا ذلك في تعليقنا على هذه المسألة في سورتي الدخان والقدر، والمتفق عليه المؤيد بحديث عائشة في أولية الوحي الذي أوردناه في تفسير سورة العلق أن الآيات الخمس الأولى من هذه السورة هي أول ما نزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم في ليلة القدر إحدى ليالي أواخر رمضان على ما شرحناه في تفسير سورة القدر. والذي يتبادر لنا أن الآية التي نحن في صددها قد قصدت ذلك للتنويه ببركة شهر

_ (1) المصدر السابق ص 94.

رمضان وفضله لأنه كان فيه أعظم الأحداث الإسلامية وأكثرها بركة وخيرا وهو إعلان النبي صلّى الله عليه وسلّم نبوته واتصال الوحي الرباني به وتلقيه عنه أولى آيات القرآن الذي فيه الهدى والبينات والفرقان الذي يفرق بين الحق والباطل. والمتبادر أن فرض صيام هذا الشهر المبارك على المسلمين متصل من ناحية ما بذلك الحادث العظيم حيث اقتضت حكمة التنزيل فرض صيامه عليهم ليكون لهم شهر عبادة خالصة لله تعالى يؤدونها في مشارق الأرض ومغاربها سنويا إلى ما شاء الله لهذه الدنيا أن يدوم فيها معنى الشكر وواجبه على رحمة الله ونعمته وفيها معنى التذكير المتجدد بهذه الرحمة والنعمة، بالإضافة إلى ما فيها من حكم اجتماعية ونفسية وبدنية وتعبدية على ما ذكرناه قبل. ونستطرد إلى القول في صدد شهر رمضان فنقول: إننا ذكرنا في سياق تفسير سورة القدر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يعتكف اعتكافاته الروحية في غار حراء في شهر رمضان قبل نزول الوحي عليه وأن التحنّث- أي التعبد والاعتكاف في شهر رمضان- كان ممارسا من قبل بعض الورعين المتقين في مكة «1» . فيسوغ القول والحالة هذه أنه كان لشهر رمضان خصوصية دينية ما وإن لم يعرف كنهها بجزم فاقتضت الحكمة الربانية اختصاصه بنزول القرآن والوحي على النبي صلّى الله عليه وسلّم لأول مرة ثم بفرض صيامه على المسلمين. 16- ورووا في صدد الآية: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي ... إلخ عدة روايات. منها أنها نزلت جوابا على سؤال من أحد أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أين الله؟ أو على سؤال سائل: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ أو على سؤال سائل عن أي الساعات التي يحسن أن يدعى الله فيها. وليس للروايات سند وثيق. ويتبادر لنا أن الآية غير منفصلة عن الآيات السابقة وأنها بمثابة استطراد وتنبيه: فالله قد أمر عباده بالصيام فعليهم أن يستجيبوا له ويؤمنوا به ففي ذلك خيرهم ورشدهم وعليهم أن يتيقنوا أنه قريب منهم إذا دعوه فإنه يستجيب لدعوتهم وعلى كل حال

_ (1) انظر أيضا تاريخ الطبري ج 2 ص 48.

ففي الآية معالجة نفسية للمسلمين تبثّ فيهم الأمل في فضل الله ونصره وتيسيره وتوفيقه واليقين في الاستجابة لهم إذا دعوه في الملمات والحاجات. ولقد أورد المفسرون وعلماء الحديث في سياق هذه الآية أحاديث عديدة فيها توكيد لهذا المعنى. وقد ورد بعضها في الكتب الخمسة «1» . منها حديث رواه أبو داود والترمذي عن سلمان عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ ربّكم حييّ كريم، يستحيي من عبده إذا دعاه أن يردّ يديه إليه صفرا» «2» . وحديث رواه الترمذي عن عبادة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلّا أتاه الله إيّاها أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم. فقال رجل من القوم: إذا نكثر؟ قال: الله أكثر» «3» . وحديث رواه الترمذي عن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «سلوا الله من فضله فإنّ الله عزّ وجلّ يحبّ أن يسأل. وأفضل العبادة انتظار الفرج» «4» . وحديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول: دعوت فلم يستجب لي» «5» . وحديث رواه الترمذي والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أنّ الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه» «6» . 17- وقالوا في صدد جملة: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ إنها تشير إلى شدة المخالطة بين الأزواج وصعوبة الصبر وإن فيها تعليلا للإباحة. وعلى كل حال فإن فيها أيضا على ما يتبادر لنا تنويها بعلاقة الزوجين ببعضهما وما يجب أن تقوم هذه العلاقة عليه من الصفاء والتعاطف والتوادّ والتمازج حتى يغدوان كشخص واحد وروح واحدة وقلب واحد. وهذه المعاني انطوت في آيات عديدة سابقة نبهنا عليها وخاصة آية سورة الروم [21] والأعراف [189] . 18- وقالوا ورووا في صدد جملة: وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أنها تتمة

_ (1) أكثر المفسرين استيعابا لهذا ابن كثير وقد نقلنا ما أوردنا من الأحاديث من التاج لأن بين ما أورده ابن كثير وبين ما جاء في التاج بعض التباين واكتفينا بما نقلناه عن التاج لأنه جامع للكتب الخمسة وفيه الكفاية. (2) التاج ج 5 ص 100- 104. (3) التاج ج 5 ص 100- 104. (4) التاج ج 5 ص 100- 104. [.....] (5) التاج ج 5 ص 100- 104. (6) التاج ج 5 ص 100- 104.

للترخيص الرباني في الرفث والأكل والشرب إلى الفجر، كما قالوا ورووا أنها في معنى ابتغوا الخير الذي أراده الله لكم في الصيام. والمتبادر أن القول الأول هو الأكثر ورودا والله أعلم. 19- وقالوا ورووا في صدد جملة: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ إن معنى الشطر الأول (حتى يظهر بياض النهار بعد الفجر) . وأوردوا في تأييد ذلك حديثا رواه البخاري والترمذي عن عدي بن حاتم قال: «قلت يا رسول الله ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر أهما الخيطان؟ قال: إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين، ثم قال بل هو سواد الليل وبياض النهار» «1» . أما معنى الشطر الثاني فالمتفق عليه أنه دخول الليل الذي يباح به الإفطار هو غروب الشمس. ولقد استنبط الفقهاء من الآية عدم جواز مواصلة الصوم إلى اليوم التالي بدون إفطار. وهناك أحاديث عديدة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها نهي عن الوصال تؤيد ذلك. من ذلك حديث يرويه الطبري عن أبي سعيد قال: «سمعت رسول الله يقول لا تواصلوا، فأيّكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السّحر» . وحديث رواه الشيخان وأبو داود عن أبي هريرة في صيغ عديدة منها: «إيّاكم والوصال مرتين، قيل إنك تواصل يا رسول الله؟ قال: إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني فاكلفوا من العمل ما تطيقون» «2» . والحكمة الملموحة في الأحاديث هي الإهابة بالمسلمين لئلا يحملوا أنفسهم ما لا يطيقون. وأن يسيروا في عباداتهم بما هو اليسر دون العسر، وما دام الله تعالى قد جعل حد الصيام اليومي دخول الليل فالأولى التقيد بذلك. هذا، وهناك تشريعات نبوية في صدد صيام رمضان حكى عنها القرآن وصارت تتمة لأحكام هذا الصيام نشير إليها بإيجاز في ما يلي: 1- تشريع للحائض بالإفطار على أن تقضي الأيام التي تفطر بها في أيام أخر

_ (1) التاج ج 4 ص 48. (2) رواه الأربعة، التاج ج 2 ص 64.

غير رمضان «1» . وليس هناك أثر نبوي عن حالة النفاس في رمضان والمتبادر أنها تقاس على حالة الحيض والله أعلم. 2- استحباب نبوي للسحور وحثّ عليه ووصفه بالغذاء المبارك «2» . 3- صلاة التراويح، إن الأحاديث النبوية المروية تفيد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يجعلها سنّة ملزمة متواصلة، وكان يصلّيها بعض الليالي ويتركها بعض الليالي حتى لا تكون كذلك ولم يحدد عددها، ولم تصبح معتادة وبإمامة إمام إلّا في شطر من خلافة عمر (رضي الله عنه) لإقبال الناس عليها مع صلاتهم منفردين. ومما يروى أنها كانت ثلاثا وعشرين ركعة» . 9- وليس في الحجامة أي فصد الدم أثناء الصوم بأس على ما جاء في بعض الأحاديث النبوية «4» . 10- استطرد السيد رشيد رضا إلى قطرة العين وحقنة الشرج، وأورد كلاما للإمام ابن تيمية جاء فيه أن هناك من يقول بإفسادهما للصوم ومن يقول بعدم ذلك وأن الأظهر أنهما لا تفطران. لأنه لم يرو أحد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم حديثا ما من أي رتبة في منع ذلك، وأنهما ليس فيهما تغذية قياسا على الأصل المنهي عنه. ولا يخلو الكلام من سداد. وقد نبّه السيد رشيد رضا على أن حقنة التغذية مفسدة للصوم خلافا لذلك وهذا سديد. ولم يذكر حقنة العلاج في العضل والوريد ويرى أن عدم إفسادها للصوم من باب أولى والله أعلم. 11- والمستفاد من الأحاديث أن مجامعة الرجل امرأته في يوم رمضان توجب كفارة ومغلظة أي عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين إن لم يقدر على عتق

_ (1) جاء ذلك في حديث رواه الخمسة عن معاذ عن عائشة. التاج ج 2 ص 71. (2) جاء ذلك في أحاديث عديدة رواها الخمسة مجتمعين ومنفردين، التاج ج 2 ص 54. (3) انظر التاج ج 2 ص 58 و 59 و 60. (4) المصدر نفسه ص 54.

رقبة أو إطعام ستين مسكينا «1» إن لم يستطع فصيام شهرين متتابعين. فضلا عن أنه مفسد للصيام ويجب قضاء اليوم «2» . 12- هناك أحاديث تجبر قضاء أيام الفطر في رمضان عن الميت أو تحثّ عليه أو تحثّ على إطعام مسكين عن كل يوم أفطره الميت «3» . 13- يكره الصيام أو يحرم في يوم الشك، وهو اليوم الذي يشك أنه من شعبان «4» . 14- هناك أحاديث تنهى عن الصيام يومي عيدي الفطر والأضحى، وأيام التشريق أي ثاني وثالث ورابع أيام عيد الأضحى «5» . 15- وهناك أحاديث تحثّ على الصيام التطوعي في غير رمضان ولكنها تنهى عن المواصلة فيه. وتحثّ بخاصة على صيام التاسع والعاشر من المحرم ويوم النصف من شهر شعبان. وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصوم كثيرا في شهر شعبان ورجب ويصوم التسع الأوائل من شهر ذي الحجة أحيانا والتاسع على الأغلب. والأيام الستة الأولى من شوال بعد يوم العيد ويحث على ذلك «6» . ولا قضاء على من يفطر في صوم تطوعي إلّا إذا كان نذرا «7» . 16- وصلاة العيدين سنّة نبوية بعد شروق الشمس وهي ركعتان وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصليها في مصلّى عام غير مسجده ويأمر جميع الناس بشهودها بما فيهم النساء من مختلف الأسنان والحيض وإن كن في الحيض لا يصلين «8» .

_ (1) ص 66. (2) ص 79. (3) ص 71 و 72. (4) ص 78. (5) ص 78. (6) ص 80، 81، 82، 83، 84، 85، 86، 87، 88، 89، 90، 91. [.....] (7) ص 92. (8) ص 92.

[سورة البقرة (2) : آية 188]

[سورة البقرة (2) : آية 188] وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) . (1) فريقا: هنا بمعنى قسما أو بعضا. في الآية نهي موجه للسامعين المخاطبين عن أكل أموال بعضهم بالباطل أو التوسل بها مع الحكام بقصد أكل شيء من أموال بعضهم بغير حقّ وعن عمد وعلم وبيان ما في ذلك من إثم. تعليق على الآية وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ... إلخ والآية فصل تشريعي جديد كما هو ظاهر، وقد تلهم روحها أن الخطاب فيها موجه إلى المؤمنين وإن كان إطلاقه يفيد تلقينا مستمر المدى وشاملا لجميع الناس، وقد يكون هذا الفصل نزل بعد فصل الصيام فوضع بعده أو يكون ذلك للمماثلة التشريعية. وقد روى المفسرون «1» أن الآية نزلت في مناسبة شكاية أحد المسلمين للنبي صلّى الله عليه وسلّم على آخر غصب له أرضا. فكلفه بإقامة البينة فعجز فكلّف المدعى عليه باليمين فهمّ بأن يحلف فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أمّا إنه إن حلف على ما ليس له ليأكله ظلما ليلقينّ الله وهو عنه معرض. ثم قال: إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إليّ ولعلّ بعضكم ألحن «2» بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حقّ أخيه فلا يأخذنّ منه شيئا فإنما أقضي له قطعة من نار فليتحمّلها أو يذرها» . فارتدع المدعى عليه عن اليمين وسلّم الأرض إلى صاحبها المدعي فلم تلبث أن نزلت الآية.

_ (1) انظر تفسير الآية في الخازن. (2) أحذق وأبلغ في الكلام وتنميقه.

وفي الكتب الخمسة ثلاثة أحاديث فيها ما جاء في رواية الخازن مع زيادات موضحة مفيدة دون أن يذكر فيها أن الآية نزلت في المناسبة المذكورة في رواية الخازن. أولها حديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي جاء فيه: «جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال الحضرميّ: يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي فقال الكندي: هي أرضي في يدي أزرعها وليس له فيها حقّ. فقال النبي للحضرميّ: ألك بيّنة؟ قال: لا. قال: فلك يمين؟ قال: يا رسول الله إنه فاجر لا يبالي بما حلف ليس يتورّع عن شيء. فقال: ليس لك منه إلّا ذلك. فانطلق الرجل ليحلف فقال رسول الله: لئن حلف على مالك ليأكله ظلما ليلقينّ الله وهو عنه معرض» «1» . وثانيهما رواه أبو داود عن أم سلمة قالت: «أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رجلان يختصمان في مواريث لهما ليست لهما بيّنة إلّا دعواهما فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم من قضيت له من حقّ أخيه بشيء فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار. فبكى الرجلان وقال كلّ منهما حقّي لك. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أما إذا فعلتما ما فعلتما فاقتسما وتوخّيا الحقّ ثم استهما ثم تحالا. وفي رواية: إنما أقضي بينكما برأيي فيما لم ينزل عليّ فيه» «2» . وثالثهما حديث عن أم سلمة يرويه الخمسة جاء فيه: «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحقّ أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار» «3» . ومهما يكن من أمر فإن الآية قد تلهم أنها نزلت بسبب حادث مشابه لما جاء في رواية الخازن أو الحديثين الأولين. وقد جاءت بصيغة عامة فيكون التوجيه أو التلقين الذي احتوته هدى للمسلمين في كل زمن وزاجرا لهم عن الارتكاس فيما نهت عنه إيمانا ويقينا وتقوى.

_ (1) التاج ج 3 ص 54. (2) المصدر نفسه ص 53 و 61. (3) المصدر نفسه ص 53 و 61.

[سورة البقرة (2) : آية 189]

وينطوي في الآية النهي عن شهادة الزور والتزوير والحجة الباطلة المزوقة والدعوى المنمقة الخادعة التي تصور الحق باطلا والباطل حقا عن عمد وعلم بل وينطوي فيها نهي عن استحلال المسلم مال أخيه بأية وسيلة من وسائل الباطل من غشّ وتغرير وكذب وغبن وافتعال وأيمان وقمار وسرقة ورشوة وخيانة إلخ. وقوة الزجر والتوجيه في الآية ملموحة ومتسقة مع شدة اهتمام القرآن لإقرار الحق وتوطيده وقيام العدل والإنصاف بين الناس والزجر عن الباطل والبغي والاحتيال والتزوير وتقبيح كل ذلك. وهذه القوة منطوية في الأحاديث النبوية حيث يتساوق التلقين القرآني والنبوي في هذا الأمر كما يتساوق في جميع الأمور. ولقد رأى بعض المفسرين في تعبير وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ معنى الرشوة والقصد إليها. وهذا المعنى أو القصد منطو في الآية سواء أدلّ هذا التعبير بالذات عليه أو لم يدلّ. وفي هذا أيضا يتساوق التلقين القرآني مع التلقين النبوي حيث روى أبو داود وأحمد والترمذي حديثا عن أبي هريرة جاء فيه: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الراشي والمرتشي في الحكم» «1» . [سورة البقرة (2) : آية 189] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) . (1) الأهلّة: جمع هلال. ومع ذلك فإن المتبادر أنها تعني حركات القمر وصوره خلال الشهر وتوالي ذلك شهرا بعد شهر. في الآية: 1- حكاية لسؤال وجّه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الأهلّة.

_ (1) التاج ج 3 ص 50.

2- وأمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالإجابة بأنها لأجل تنظيم مواقيت الناس وحساب أيامهم ولأجل معرفة مواقيت الحج أيضا. 3- وتنبيه للسائلين أو السامعين إلى أنه ليس في دخول البيوت من ظهورها برّ حقيقي مقرّب إلى الله وإنما البرّ الحقيقي هو تقوى الله والتزام حدوده وأمر لهم بدخول البيوت من أبوابها وبتقوى الله ليتمّ لهم الفلاح والسعادة. والآية فصل جديد آخر، وعليه سمة تشريعية، ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد سابقتها فوضعت بعدها أو أنها وضعت بعدها للمماثلة التشريعية. وقد روى المفسرون «1» أن شطر الآية الأول نزل بمناسبة سؤال عن الحكمة في تبدل حالات القمر وأسرار ذلك، وأن شطرها الثاني نزل جوابا على سؤال آخر عن الحكم في تقليد من تقاليد الحج القديمة. وذلك أن العرب أو أهل يثرب كانوا حينما ينوون الحج ويحرمون له يحرمون على أنفسهم الاستظلال بسقف ما فإذا ما احتاجوا إلى شيء في بيوتهم أو أرادوا أن يدخلوا لبيوتهم فلا يدخلونها من الأبواب لئلا يظللهم السقف وإنما يصعدون إلى السطوح وينزلون منها إلى فناء البيت أو يخرقون خرقا في الجدار. وهناك حديث رواه البخاري ومسلم عن البراء جاء فيه: «كانوا في الجاهلية إذا أحرموا أتوا البيت من ظهره فأنزل الله تعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها» . ولفظ مسلم: «كانت الأنصار إذا حجّوا ورجعوا لم يدخلوا البيوت إلّا من ظهورها فجاء رجل من الأنصار فدخل من بابه فلاموه فنزلت الآية. ومهما يكن من أمر فالمتبادر أن الآية نزلت في مناسبة سؤالات في صدد ما ذكر فيها. ويتبادر لنا أن المسألتين عرضتا على النبي صلّى الله عليه وسلّم أو سئل عنهما في ظرف واحد قبل نزول الآية فنزلت الآية للإجابة عليهما معا، والتناسب ملموح بين المسألتين كما هو ظاهر مما قد يدعم ذلك.

_ (1) انظر تفسير الآية في الطبري والخازن والبغوي وابن كثير.

[سورة البقرة (2) : الآيات 190 إلى 195]

ويلوح لنا خاطر في صدد (السؤال عن الأهلّة) إذا كان أراد السائل حقا كما روي معرفة أسرار تقلّب حالات القمر ونواميسه. وهو أن الجواب القرآني جاء على طريقة أسلوب الحكيم. فالسائل سأل عن السرّ فأجيب بما هو مفيد له وللناس من حكمة ذلك وينطوي في هذا إذا صح الخاطر اهتمام القرآن ببيان المفيد الحكيم والتجاوز عما لا حاجة إلى بيانه أو لا طائل من بيانه من النواميس الكونية «1» . والشطر الثاني من الآية ينطوي على إلغاء ذلك التقليد لما فيه من مشقة وعبث لا فائدة له. مقررا أنه ليس فيه شيء من البرّ، ومنبها إلى أن تقوى الله هي الجوهرية ووسيلة البرّ والفلاح الحقيقة. وهذا متسق مع ما شرحناه في سورة الحج من حكمة الإبقاء على تقاليد الحج القديمة حيث ألغي منها ما فيه قبح أو عبث وجرّد ما أبقي عليه من شوائب الوثنية والشرك. وهكذا يكون قد انطوى في هذا الشطر وهو يلغي هذا التقليد حكمة تشريعية من جهة وتلقين جليل مستمرّ المدى بأن الجوهري والبرّ الحقيقي عند الله هو تقواه والتزام حدوده دون الأشكال والأعراض والمظاهر، وهو ما انطوى في آيات عديدة سبق تفسيرها وبخاصة آية سورة البقرة [177] . [سورة البقرة (2) : الآيات 190 الى 195] وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) .

_ (1) رأينا القاسمي يورد هذا الخاطر أيضا ولم نكن اطلعنا عليه قبل.

(1) حيث ثقفتموهم: الثقف في اللغة: الحذق والإصابة. والكلمة هنا بمعنى حيث وجدتموهم أو أصبتموهم وقدرتم عليهم. (2) الحرمات: هنا بمعنى الأماكن والظروف المحرّمة دينيا. في الآيات: 1- أمر للمسلمين بمقاتلة الذين يقاتلونهم في سبيل الله. 2- ونهي عن العدوان بدءا وتجاوز الحد في القتال فإن الله لا يحب المعتدين. 3- وتحريض لهم على قتال الذين يقاتلونهم في أي زمن ومكان أصابوهم ووجدوهم وإخراجهم من ديارهم كما أخرجوهم. 4- وتنبيه إلى أن الفتنة هي أشد من القتل. وينطوي في هذه الجملة تقرير كونها مما يبيح قتال الذين يقترفون الفتنة. 5- ونهي عن قتالهم في منطقة المسجد الحرام إلا إذا قاتلوهم فيها فيكون قتالهم فيها جزاء استحقه الكافرون حيث يكونون هم البادئون في خرق حرمة المنطقة المحرمة. 6- وأمر للمسلمين بالتوقف عن قتال الكفار إذا هم انتهوا فإن الله غفور لمن تاب وارتدع ورحيم شامل الرحمة. 7- وأمر آخر لهم بقتال الكفار حتى لا تبقى فتنة ويكون الدين لله. 8- وإيجاب الانتهاء من القتال إذا ما انتهى الكفار عن موقفهم. 9- ونهي عن استئناف القتال من جانبهم إلا ضدّ المعتدي الظالم. 10- وإذن لهم بمقابلة العدوان بمثله، فإذا اعتدي عليهم في الشهر الحرام

تعليقات على الآية وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم وما بعدها إلى آخر الآية [195]

أو في المنطقة الحرام فلهم أن يقابلوا العدوان بمثله وفي مكانه وزمانه وهذا معنى جملة وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ وعليهم في هذه الحال أيضا أن يتقوا الله فلا يتجاوزوا الحدود فإن الله مع الذين يتقونه ويراقبونه في أعمالهم. 11- وأمر لهم بالإنفاق في سبيل الله والاستعداد للعدو والإحسان والإتقان في كلا الأمرين لأن في التقصير فيهما تعريضا لأنفسهم للهلاك، وتقرير بأن الله يحب المحسنين ويؤيدهم. تعليقات على الآية وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وما بعدها إلى آخر الآية [195] والآيات فصل جديد، وسمة التشريع بارزة عليها. ووضعها في ترتيبها إما بسبب نزولها بعد سابقتها أو للمماثلة التشريعية. ولقد روى المفسرون روايات عديدة في صدد هذه الآيات ونزولها. منها أن الآية الأولى هي أولى آية نزلت في القتال وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين أمروا بها بقتال من يقاتلهم والكفّ عمن يكفّ عنهم فالتزموا بذلك في بدء عهدهم حتى نسخ الله ذلك في آيات سورة براءة. ومنها أنها نزلت حين اعتزم النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون زيارة الكعبة في السنة الهجرية السادسة ومنعهم المشركون فأمرهم الله فيها بقتال من يقاتلهم. وأن الآية الثالثة نزلت في مناسبة قتل مسلم لرجل كافر في الشهر الحرام وعيب الكفار ذلك، فتضمنت تبريرا حيث قالت إن الكفار يفتنون المؤمنين في الشهر الحرام وفي المسجد الحرام وهذا أشد خرقا للحرمة من القتل والقتال فيهما. ومنها أن الآية الرابعة نزلت حينما اعتزم النبي صلّى الله عليه وسلّم زيارة الكعبة مع المؤمنين في السنة السابعة من الهجرة بناء على شروط صلح الحديبية الذي انعقد بينهم وبين مشركي قريش في السنة السادسة. وقد كان منعهم في هذه السنة في شهر ذي القعدة وهو من الأشهر الحرم فأتاح الله لهم أن يزوروا الكعبة في السنة التالية في

شهر ذي القعدة فكان ذلك قصاصا لهم. وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح. والروايات تقتضي أن تكون الآيات نزلت متفرقة مع أنها وحدة منسجمة وسياقها وأسلوبها وانسجامها لا يساعد على الأخذ بأية رواية من هذه الروايات. وحادث صلح الحديبية وزيارة الكعبة في السنة التالية له كانا في السنتين السادسة والسابعة للهجرة. ونرجح بناء على فحوى وأسلوب الآيات أنها نزلت في وقت مبكر من العهد المدني ليكون للمسلمين فيها خطة جهادية حربية. والذي يتبادر لنا أن بين هذه الآيات والآية السابقة لها والآيات اللاحقة بها المتصلة بتقاليد الحج مناسبة ما حيث احتوت بيانات متصلة بهذه التقاليد التي منها حرمة الأشهر الحرم وحرمة منطقة المسجد الحرام فمن المحتمل أن يكون بعض المسلمين سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم عن القتال في الأشهر الحرم وفي المسجد الحرام كما سألوه عن الأهلة ودخول البيوت من ظهورها فاحتوت الآيات جوابا على ذلك. وقد يكون من القرائن الداعمة لهذا مجيء هذه الآيات بين آيات متصلة بتقاليد الحج. ومهما يكن من أمر فإن فحوى الآيات وروحها يلهمان أنها أولى الآيات في أمر المسلمين بالقتال في سبيل الله ودينه. وقد احتوت قواعد تشريعية خطيرة في هذا الباب غدت روح المبادئ الجهادية الإسلامية وضابطها وهي: 1- واجب المسلمين في قتال الذين يقاتلونهم وحسب. 2- عدم جواز بدئهم أحدا غير عدو وغير معتد بقتال. 3- واجب كفّهم عن القتال حال ما ينتهي العدو عن موقفه العدائي العدواني. 4- حقهم في مقابلة العدو بالمثل دون قيد وشرط ودون أي مانع من أي تقليد واعتبار مع عدم التجاوز عن المثل. 5- واجب الإنفاق والاستعداد للعدو بكل قوة وانتباه حيث يمكن أن يكون ذلك مانعا للاشتباك الفعلي وحيث يكون التقصير في ذلك معرضا للتهلكة والخطر.

6- اعتبار فتنة الكفار للمسلمين عن دينهم وأذيتهم وتعطيل الدعوة الإسلامية وحريتها سببا مبررا لقتال كل من يقف مثل هذه المواقف حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله. وإنها لمبادىء في غاية الحق والعدل والاتساق مع طبائع الأمور تظل بها الشريعة الإسلامية متلألئة الغرة أبد الدهر ومترشحة للخلود. وفيها ردّ على كل من حاول أو يحاول أن يلصق بها ما هي براء منه في صدد الجهاد من مثل الإكراه في الدين والقتال بدءا أو عدوانا لحمل الناس على الإسلام. ولعل من المناسب التذكير بآيات سورة الشورى [39- 43] التي احتوت تقريرات عامة في تبرير انتصار المظلوم من ظالمه ومقابلة العدوان بمثله والردّ على البغاة المعتدين لنقول إن المبادئ التي احتوتها هذه الآيات متسقة مع التقريرات المذكورة. وإن الاتساق قائم بين المبادئ القرآنية المكية والمدنية من حيث الجوهر والأساس شأن كل الأهداف والمبادئ القرآنية. وإن في هذا لردّا آخر على من حاول أو يحاول أن يوهم أن فيما شرعه القرآن المدني من شرائع الجهاد تناقضا مع المبادئ المقررة في القرآن المكي. ومما هو جدير بلفت النظر ما تخلل الآيات مرّة بعد مرّة من التحذير من الاعتداء ومن الأمر بتقوى الله وعدم تجاوز الحدّ الذي تقضي به المصلحة ويتحمل معنى المقابلة بالمثل، ومن تقرير كون العدوان إنما يجب على الظالمين البادئين أو العادين أي المعتدين ثانية. ففي هذا كلّه تدعيم لهذه المبادئ وسياج لفكرة الحق والعدل وعدم البغي والعدوان التي ما فتىء القرآن يقررها في كل مناسبة في المكي منه والمدني وبخاصة في ظروف القتال التي يكون فيها أشد ضرورة وإيجابا، وفي هذا ما فيه من روعة التلقين وجلاله. كذلك فإن أسلوب الآيتين الأخيرتين ومضمونهما جديران بالتنبيه إلى ما فيهما من قوة ومدى وتلقين للمسلمين في كل ظرف ومكان بوجوب الإنفاق والاستعداد الدائم والحذر المستمر ليظلوا أقوياء قادرين في كل وقت على مقابلة

أي عدوان وعلى التنكيل بأي معتد. وكافلين لأنفسهم المنعة والعزة والكرامة والطمأنينة والأمن والحرية والربط بين الإنفاق والتهلكة وبخاصة الحث على المغالاة في الإنفاق- وهذا ما تعنيه جملة: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ على ما ذكره المؤولون- عظيم المغزى من أجل ذلك. ولقد روى الطبري رواية تذكر أن بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو تابعيهم ظنوا أن الإقدام على مبادرة العدو في قلة قد يكون إلقاء للنفس في التهلكة الذي نهت عنه الآية فانبرى أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهم وفنّد رأيهم وقال لهم إن الله أمر رسوله بالقتال ولو وحيدا حيث قال له: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا النساء: [84] وإن جملة: «وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ البقرة: [195] هي في صدد الإنفاق في سبيل الله والمغالاة فيه لأن الإمساك عن ذلك هو الذي يؤدي إلى التهلكة» «1» . وفي سورة التوبة هذه الآية: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92) وتنطوي على صورة مألوفة دائما وهي إن وجود المقاتلين من المؤمنين ميسور دائما وإنما المشكل هو النفقة التي يمكن بها حشد المقاتلين وإعداد وسائل القتال مما يزيد في خطورة

_ (1) هذه الرواية يرويها أصحاب السنن أيضا بهذه الصيغة الجليلة المغزى عن أسلم النجيبي قال: «كنا بمدينة الروم فبرز لنا صف عظيم منهم وخرج من المسلمين لهم مثلهم أو أكثر فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس وقالوا سبحان الله يلقي بيديه إلى التهلكة. فقام أبو أيوب فقال: يا أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت فينا معشر الأنصار، لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه فقال بعضنا لبعض سرّا إن أموالنا قد ضاعت وإن الله أعز الإسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها فأنزل الله على نبيه الآية يرد علينا قولنا حيث عنت أن الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو هو التهلكة. وما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى استشهد ودفن في أرض الروم» . التاج ج 4 ص 51.

مدى العبارة القرآنية ومغزاها. ويفسر هذا ويدعمه موالاة القرآن في الحثّ على الإنفاق في سبيل الله وجعل الجهاد بالمال مقدما على الجهاد في النفس في آيات كثيرة منها آية سورة البقرة [261] وآية سورة الحجرات [15] وآية سورة محمد [38] وآية سورة التوبة [88] وغيرها وغيرها. ولقد روى المفسرون عن بعض التابعين أن جملة: الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ [190] تعني الذين هم أهل للقتال وأنها تستثني النساء والشيوخ والذراري والرهبان ومنهم من روى عن ابن عباس زيادة وهي: (ومن ألقى إليكم السلم وكف يده) ومما رووه عن ابن عباس أيضا أن جملة: وَلا تَعْتَدُوا تعني كذلك عدم قتال وقتل النساء والشيوخ والذراري- الأطفال- والرهبان. ومع أن هناك أحاديث نبوية تنهى حقا عن قتل هؤلاء سوف نوردها بعد فالذي يتبادر لنا أن العبارات القرآنية عامة مطلقة المدى تتناول كل من سالم المسلمين وكف يده عنهم وكل من لم يكن أهلا لحرب وقتال وغير مشترك في حرب وقتال. وفي القرآن آيات عديدة تدعم هذا الإطلاق وفيها قواعد وضوابط له منها آيات سورة النساء [90- 91] وسورة الممتحنة [8- 9] على ما سوف يأتي شرحه في مناسباته. ولقد قال بعض المفسرين «1» عزوا إلى بعض التابعين أن كلمة وَالْفِتْنَةُ في الآيات تعني الشرك. وأن تعبير فَإِنِ انْتَهَوْا يعني الانتهاء عن الشرك، وأن الآيات تأمر بقتال الذين يقاتلون المسلمين إلى أن يسلموا ويزول الشرك إطلاقا. وروح الآيات ومضمونها لا يساعدان على هذا لأنها تأمر المسلمين بقتال من يقاتلهم مع عدم الاعتداء من جهة، وعدم القتال عند المسجد الحرام أو في الشهر الحرام إلا إذا قوتلوا فيهما من جهة، وبمقابلة العدوان بمثله وظروفه والوقوف عند هذا الحد من جهة. وبعبارة أخرى إن المسلمين غير مأمورين فيها بالاستمرار في القتال إلى أن يسلم الأعداء أي أن يصبحوا مسلمين. وهذا مؤيد بآيات عديدة وبروايات عديدة معا تتضمن تقرير كون النبي صلّى الله عليه وسلّم

_ (1) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.

هادن وعاهد بعض المشركين ومنهم العدو المعتدي بدءا الذي أمر بقتالهم. فمن الآيات آية سورة النساء التي أوردناها آنفا. وآية التوبة هذه: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) وهذه: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) ومن حوادث السيرة اليقينية صلح الحديبية بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وقريش الذين كانوا في حالة عداء وحرب. أما التأويل الأوجه المستلهم من روح الآيات القرآنية لجملة: حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فيما يتبادر لنا هو قتالهم حتى نضمن حرية الدعوة إلى دين الله وحرية المستجيبين إليها، ولجملة فَإِنِ انْتَهَوْا التي تأتي بعد هذه الجملة بخاصة هو انتهاء المشركين من موقف العداء والبغي وإخلائهم بين الناس وحرية الدعوة إلى دين الله وحرية المسلمين. وقد قيدنا الجملة بالتي وردت في الآية [193] لأن جملة فَإِنِ انْتَهَوْا في الآية [192] قد تكون حقا بمعنى (فإن أسلموا) بقرينة جملة فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ التي جاءت بعدها. ولسنا نرى في هذا نقضا لقولنا الأول إذا اعتبرنا الآيات جميعها (وحدة) حيث يصح القول إن الآيات أمرت المسلمين بالاستمرار في قتال الذين يقاتلونهم حتى يسلموا أو ينتهوا من موقف البغي والعدوان. ويقوم بينهم وبين المسلمين عهد سلم وسلام. وفي سورة الأنفال آيات فيها نفس الحالتين على ما يتبادر لنا وهي: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) ، وهذه الآيات نزلت بعد وقعة بدر. واستمرت حالة الحرب قائمة بين المسلمين وكفار قريش الذين عنتهم إلى السنة

السادسة فعقد النبي صلّى الله عليه وسلّم بينه وبينهم صلحا زالت به هذه الحالة، ولو كانت الآيات بسبيل الأمر بالاستمرار إلى أن يسلموا لما وقع ذلك كما هو المتبادر. ومن الجدير بالذكر أن كلمة (الفتنة) واشتقاقاتها قد تكررت في القرآن بمعان عديدة غير أنها لم تأت بمعنى الشرك بصراحة أو دلالة واضحة. وقد جاءت بخاصة بمعنى إجبار المسلمين على الارتداد عن دينهم مثل آية سورة البروج هذه: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) وآية سورة النحل هذه: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) وهذا المعنى هو المقصود فيما نعتقد في الآيات وبه يتضح معنى الجملة وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ في الآية [191] أي أن إجبار المسلمين على الارتداد عن دينهم بخاصة في الشهر الحرام والمسجد الحرام هو أشد نكاية من القتل والقتال وأشد خرقا لحرمة الشهر الحرام والمسجد الحرام وأكثر تبريرا للقتال فيهما. حتى لو سلمنا جدلا أن الآية تأمر بقتال الأعداء حتى ينتهوا عن شركهم ويسلموا فإن ذلك يكون بالنسبة للأعداء الذين يقاتلون المسلمين والذين يحق للمسلمين أن يحددوا الشروط التي يكفون بها عنهم ولا يمكن أن يعني قتال كل مشرك بدءا حتى يسلم إذا لم يقاتل المسلمين مما أيدته وقائع السيرة النبوية تأييدا قاطعا، وقد قلنا (ولو سلمنا جدلا) للمساجلة وحسب. وفي صلح النبي صلّى الله عليه وسلّم للمشركين المسمى بصلح الحديبية دليل قاطع على أن الجملة لم تكن تعني إيجاب قتال المشركين والكفار حتى يسلموا. ولقد قال المفسرون «1» : إن التحديدات والشروط الواردة في الآيات قد نسخت بآيات أخرى جاءت في سورة التوبة وأمرت بقتال المشركين إلى أن يتوبوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة مثل هذه الآية: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا

_ (1) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.

وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) ومثل هذه الآية: فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) . والذي يتمعن في سياق الآيتين يجد أنهما في موضوع الذين عاهدوا النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم نقضوا وغدروا وحسب وإن الله قد حدد الشرط الذي يجب أن يتحقق للكفّ عنهم نتيجة لنقضهم وغدرهم. ويورد المفسرون جملة وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً الواردة في آية سورة التوبة [36] في معرض تأييد قولهم. مع أن لهذه الجملة تتمة تمنع ذلك وهي: كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ومما يؤيد قولنا آية سورة الممتحنة هذه: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) وهذه الآية لا تحتوي تأييد ما نقوله فقط، بل وتحثّ على البرّ والإقساط لمن يقف من المسلمين موقف المسالمة والحياد من الكفار والمشركين إطلاقا. ومن الجدير بالذكر أنه لم يرو أي خبر بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قاتل أو أمر بقتال مشركين مسالمين أو حياديين أو معتزلين أو رفض في أي وقت طلب صلح أو عهد أمان من أعداء محاربين. والذي يدرس وقائع الجهاد في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم «1» يرى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يبعث سرية ولم يباشر غزوة ولم يشتبك بقتال مع جماعة إلّا ردا على عدوان أو انتقاما من عدوان أو دفعا لأذى أو تنكيلا بغادر أو تأديبا لباغ أو ثأرا لدم إسلامي أهدر أو ضمانة لحرية الدعوة والاستجابة إليها أو بناء على نكث عهد أو مظاهرة للعدو وتآمر معه ضد المسلمين. ولو كان قتال كل كافر أو كل مشرك مبدأ إسلاميا قرآنيا أو نبويا لاقتضى أن يقاتل النبي كل كافر وكل مشرك مهما كانت حالته وسنّه وموقفه وهذا لم يحصل إطلاقا لا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا في خلفائه الراشدين (رضي الله عنهم) . ولقد روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن بريدة حديثا جاء فيه: «إن

_ (1) انظر وقائع الجهاد وغزوات النبي صلّى الله عليه وسلّم وسراياه في الجزء الثالث من طبقات ابن سعد وفي الأجزاء 2 و 3 و 4 من سيرة ابن هشام والجزء الثاني من تاريخ الطبري. [.....]

النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا أمّر أميرا على جيش أو سريّة أوصاه في خاصّته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال له: اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثّلوا ولا تقتلوا وليدا. وإذا لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال: فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم. ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم، ثم ادعهم إلى التحوّل من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما عليهم، فإن أبوا أن يتحوّلوا فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمّة الله وذمّة نبيه فلا تجعل لهم ذلك ولكن اجعل لهم ذمّتك وذمّة أصحابك. فإنّكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله ورسوله. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تقبل منهم ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا» «1» ويلفت النظر في هذا الحديث جملة: (إذا لقيت عدوك من المشركين) حيث يتسق هذا مع تلقين الآيات التي نحن في صددها من أن القتال هو للعدو المقاتل وحسب «2» . ولقد شرحنا هذا الموضوع في سياق تفسير سورة (الكافرون) وبسبيل تقرير ما احتوته السورة من حرية التدين في الإسلام شرحا وافيا أيضا فنكتفي هنا بما تقدم.

_ (1) انظر التاج ج 4 ص 327- 328. (2) هناك أحاديث نبوية في صدد عدم قتال وقتل النساء والأطفال والشيوخ، منها حديث رواه أبو داود عن أنس قال: «إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: انطلقوا باسم الله وعلى ملّة رسول الله ولا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة» . ومنها حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر قال: «وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله فنهى عن قتل النساء والصبيان» التاج ج 4 ص 328. ومثل هذا مأثور في وصية أبي بكر رضي الله عنه حينما وجه الجيوش إلى الشام. انظر الموطأ ج 1 ص 247.

تعليق على الشهر الحرام

تعليق على الشهر الحرام وحرمة المسجد الحرام وأمنه قد أشير إليهما في آيات مكية عديدة ثم في بعض آيات من هذه السورة وسورة المائدة وقد علقنا عليها في تفسير سورة قريش بما فيه الكفاية. غير أن الشَّهْرُ الْحَرامُ يذكر هنا لأول مرة، فنقول بمناسبة ذلك إن كلمة الْحَرامُ هي في نفس معناها بالإضافة إلى المسجد أي إنها تعني حرمة الشهر وتقديسه وأمنه وتحريم القتال فيه. وهذا المعنى منطو في الآيات التي ورد فيها التعبير في غير هذه الآيات في هذه السورة وغيرها من السور المدنية. وهذا التعبير يطلق على أربعة أشهر من الأشهر القمرية العربية. وقد ذكر عددها في آية التوبة هذه: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) . وقد ذكرت أسماء هذه الأشهر في حديث رواه البخاري عن أبي بكرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» «1» . والثلاثة المتواليات المذكورة هي أشهر الحج عند العرب قبل الإسلام. وحرمتها وقدسيتها وتحريم القتال فيها متصلة بذلك. وكانت بمثابة هدنة دينية عامة ليتمكن العرب الذين كانوا يأتون إلى الحج من كل ناحية من أنحاء جزيرة العرب وخارجها ممن في بلاد الشام وجزيرة الفرات والعراق من القدوم إلى مكة والعودة إلى منازلهم أثناءها دون خوف ولا حرج. أما شهر رجب فقد كان يقوم فيه موسم ديني خاص بأهل الحجاز وتسميته برجب مضر على ما جاء في الحديث دليل على

_ (1) التاج ج 2 ص 136.

ذلك فمدته كافية لقبائل مضر النازلة في الحجاز وما جاوره. وليس في الروايات بيان بماهية هذا الموسم ولكن هناك تقليدا إسلاميا بما يسمى الزيارة الرجبية وهي أداء العمرة في شهر رجب. ومن المسلمين من يرحل إلى مكة ليؤدي منسك العمرة في رجب. والآية [158] من هذه السورة التي سبق تفسيرها تذكر بصراحة أن زيارة الكعبة نوعان نوع يسمى الحج ونوع يسمى العمرة. والنوع الأول يكون في موسم الحج والثاني في غير موسم الحج. ولعل الموسم الديني المضري الحجازي قبل الإسلام الذي كان يقوم في رجب هو موسم لزيارة الكعبة في غير موسم الحج. ولعل التقليد الإسلامي بما يسمى الزيارة الرجبية متصل بذلك والله تعالى أعلم. وظاهر من هذا أنه كان للعرب مصلحة عظمى دينية واجتماعية واقتصادية في الأشهر الحرم ولذلك كانوا على ما تلهمه الآيات وترويه الروايات «1» يتشددون في حرمتها وعدم إخلال هدنتها المقدسة حتى بلغ بهم الأمر إلى تحريم الصيد لأن فيه سفكا للدماء. فإذا حلت صار الناس في أمن شامل فلا نزاع ولا قتال ولا خوف. وما كان هذا ليكون لولا صبغتها الدينية. وقد أكد القرآن حرمتها وقداستها وأشار إلى ما فيها من مصلحة كبرى كما جاء في آية سورة التوبة [36] التي أوردناها قبل، وآية سورة المائدة هذه: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) وهذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2) . وذلك جريا على مبدأ الإبقاء على الصالح المفيد من التقاليد ولم يأذن بالقتال فيها إلّا لردّ عدوان ودفع ظلم وكفالة حرية الدعوة الإسلامية.

_ (1) اقرأ الجزء الخامس من كتابنا تاريخ الجنس العربي ص 281 وما بعدها.

[سورة البقرة (2) : آية 196]

وليس في آية التوبة المذكورة آنفا ولا في الحديث النبوي ما يفيد قدم هذه الأشهر حيث اقتصرت على القول إن من الأشهر أربعة حرما. ولكن فيها ما يفيد صفتها الدينية وإقرارها. وأسماء الأشهر عربية فصحى، وهذا يدل على أنها أو على أن هذه الأسماء ليست قديمة لأن اللغة العربية الفصحى لا يمتد تحققها إلى أكثر من مائتي سنة قبل البعثة النبوية على ما تفيده الدراسات الأثرية «1» . وسنزيد هذا الموضوع شرحا في سياق تفسير آية سورة التوبة المذكورة وآية النسيء التي تأتي بعدها. [سورة البقرة (2) : آية 196] وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196) . (1) الحج والعمرة: معنى الكلمتين اللغوي متقارب وهو الزيارة والتوجه والقصد. ثم صار لهما صيغة دينية قبل البعثة واستمرت بعدها. وفريضة الحج ركنان في أشهر الحج واحد زيارة الكعبة وتسمى عمرة وواحد الوقوف في عرفة ولا يتم الحج إلا بالركنين. ويتبادر لنا والله أعلم أن جمع الأمر وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ قد قصد به الركنان. وقد تكون جملة: تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ دليلا أو قرينة على ذلك وسوف نزيد هذا شرحا فيما بعد. (2) فإن أحصرتم: الإحصار هو منع مانع ما. ومعنى الجملة فإن منعتم وحالت أسباب قاهرة دون أدائكم الحج والعمرة.

_ (1) انظر كتابنا الجزء الخامس من تاريخ الجنس العربي المذكور آنفا، ص 281 وما بعدها.

(3) ما استيسر: ما تيسر. (4) الهدي: ما ينذر للذبح قربانا لله في الحج والعمرة من الأنعام. وسمّي هديا على اعتبار أنه هدية لله وبيته. (5) محله: المكان الذي يحل الذبح فيه ويجوز أن يكون معنى الكلمة المكان والزمان معا اللذان يحل الذبح فيهما. وفي سورة الحج آية تفيد المكان وهو الكعبة: ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) أما الزمان فقد عينته السنة وهو بعد الحج أو بعد العمرة. (6) نسك: الأصل في معناه التعبد. ولكنه هنا ما يقرّب إلى الله من الأنعام كفّارة عن عدم أداء بعض مناسك الحج وطقوسه أو الإخلال بها. (7) فمن تمتّع بالعمرة إلى الحج: الذي يتحلل من الإحرام بعد الطواف والسعي للمدة الباقية إلى وقت الوقوف بعرفة حيث يحل له ما يحظر على المحرم الذي يظل محرما بعد العمرة إلى انتهاء الحج. (8) لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام: لمن لم يكن مقيما مع أهله في منطقة المسجد الحرام إقامة دائمة. فهذا له أن يتمتع بالعمرة إلى الحج بدون كفارة. في هذه الآيات تشريعات في مناسك العمرة والحج: 1- فعلى المسلمين أن يقوموا بواجب الحج والعمرة بنية عبادة الله والتقرب إليه، وأن يتموا مناسكهما. 2- فإذا خرج مسلم من منزله قاصدا القيام بهذا الواجب الديني ثم أحصر في الطريق ومنع عن الوصول لأسباب قاهرة فيكتفي بتقريب ما تيسر له من ذبائح يقربها لله. وليس له أن يحلق رأسه إلّا بعد أن تصل القرابين إلى المكان الذي ينبغي ذبحها فيه لأن حلق الرأس هو من محللات الإحرام ولا يكون إلّا بعد ذبح القربان. ويرخص لمن كان مريضا أو به أذى من رأسه أن يتحلل من الإحرام ويفعل ما فيه وقاية له من ازدياد المرض أو شفائه منه ودفع الأذى عن رأسه من لبس ثياب وحلق

تعليقات على آية وأتموا الحج والعمرة لله ... إلخ

شعر وتغطية رأس وتطيب وغير ذلك على أن يقدم فدية عن هذه الرخصة فيصوم أو يتصدق أو يذبح قربانا. وإذا تيسرت أسباب الأمن وبلغ المسلمون المسجد الحرام فعلى الذين يتمتعون بحريتهم في الفترة الواقعة بين العمرة والحج- أي الذين يدخلون منطقة الحرم محرمين فيؤدون العمرة أي يطوفون حول الكعبة ويسعون بين الصفا والمروة ثم يتحللون من إحرامهم ويتمتعون بما هو محظور على المحرمين: كالنساء والطيب والتزين والثياب العادية إلخ إلى وقت الحج الأكبر والوقوف في عرفة والإحرام له- أن يقرّبوا قربانا لله مقابل ما تمتعوا به من رخصة إذا لم يكونوا من سكان منطقة المسجد الحرام. فإذا لم يقدروا على تقريب القربان فعليهم مقابل ذلك صوم عشرة أيام ثلاثة منها في موسم الحج وسبعة بعد الرجوع إلى منازلهم. وانتهت الآية بالحثّ على تقوى الله والتحذير من عقابه الشديد في حالة تجاوز حدوده والتقصير في طاعته وتقواه. تعليقات على آية وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ... إلخ وسمة التشريع بارزة على الآية كمثيلاتها السابقة، ونرجح أن بينها وبين الآيات السابقة لها صلة موضوعية بشكل ما. وقد روى المفسرون أن الآية نزلت في عام الحديبية حينما خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم بقصد زيارة الكعبة ومنعهم أهل مكة وانتهى الأمر بعقد الصلح وتأجيل الزيارة للسنة القابلة، وهذه الرواية لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. ويلحظ أن في الآية أحكاما عديدة ومطلقة في صدد مناسك الحج. وقد جاء بعدها آيات أخرى في أحكام الحج وسبقها آيات فيها إشارة إلى بعض تقاليد الحج السابقة وإلغاء لها. فهذا يسوغ التوقف في صحة الرواية كمناسبة لنزول الآية وترجيح نزولها قبل عام الحديبية بزمن طويل ولأجل بيان أحكام مناسك الحج والعمرة المتنوعة وصلتها بالآيات السابقة والآيات اللاحقة بحيث يمكن القول إن

الآيات [189- 203] سلسلة واحدة نزلت دفعة واحدة أو متتابعة. وإذا صح هذا- والقرائن تؤيد صحته إن شاء الله- فتكون مناسك الحج والعمرة قد فرضت على المسلمين وبينت لهم قبل عام الحديبية ويكون بعض المسلمين كانوا يتمكنون من الوصول إلى مكة وأداء مناسك الحج والعمرة منفردين قبل فتح مكة. وفي آية الطواف بين الصفا والمروة التي مرّ تفسيرها ما يمكن أن يكون قرينة من قرائن صحة هذا الاحتمال. وفي الآية الثانية من سورة المائدة التي نزلت على الأرجح قبل فتح مكة قرينة أقوى أو دليل على ذلك وهي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ المائدة: [2] ولقد أراد بعض المسلمين أن يحج بعد منع المشركين النبي والمسلمين من زيارة الكعبة عام الحديبية فحاول بعض آخر منعهم من ذلك انتقاما لمنع المشركين لهم. وهذا ما انطوى في جملة وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ ... المائدة: [2] إلخ. أما جملة فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فإنها في هذه الحال تشير إلى احتمال منع من أراد الحج والعمرة من المسلمين بسبب مرض شديد أو بسبب ما كان قائما من حالة العداء والحرب بين المسلمين من جانب وأهل مكة من جانب آخر. ولقد روي «1» أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حينما منعه أهل مكة مع المسلمين من أداء العمرة عام الحديبية على ما ذكرناه آنفا نحر هديه في الحديبية وتحلل من الإحرام أي حلق رأسه ولبس ثيابه العادية وأمر المسلمين بذلك. وعلى ضوء هذه الرواية التي يؤيدها حديث رواه البخاري عن ابن عمر «2» يتبادر لنا أن الكلام من جملة وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ إلى آخر الآية مستأنف وليس تتمة لأول الآية. فالمنع إذا كان

_ (1) انظر طبقات ابن سعد ج 3 ص 147- 149. (2) انظر التاج ج 2 ص 151 وابن هشام ج 3 ص 355- 369.

بخاصة خوفا من عدو أو خطر قتل وقتال وأسر يحول دون بلوغ الهدي محله في حين أن جملة وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ تنهى عن التحلل من الإحرام بحلق الرأس قبل بلوغ الهدي إلى المكان الذي ينبغي أن يذبح فيه وهو منطقة الكعبة. وإذا صح هذا فيكون أول الآية قد احتوى حكما في حالة المنع وهو تقريب القرابين في المحل الذي وقف فيه المسلم ثم احتوت بقيتها أحكاما متنوعة في حالة الأمن وعدم المنع القهري. وعدم حلق الرأس أثناء الإحرام وما يدخل في مداه مما نهت عنه السنّة من لبس الثياب المخيطة والتطيب والجماع إلخ ... وكذلك تقريب القرابين إلى الله في موسم الحج وزيارة العمرة كل ذلك من المناسك التي كانت متبعة قبل الإسلام على ما تلهمه روح الآيات والروايات المروية فثبتت في الإسلام مع بعض الرخص والتيسير اتساقا مع المبدأ القرآني الذي يقرر أن الله إنما يريد بالمسلمين اليسر لا العسر ولا يكلّفهم إلا وسعهم. وروح الآية التي نحن في صددها تسوغ القول إن الأصل في مناسك الحج هو القران بين العمرة والحج أي بقاء الحاج محرما بدون تحلل بعد زيارة الكعبة (العمرة) إلى يوم الوقوف في عرفة، وإن الرخصة بالتمتع بين وقتيهما هي تعديل أو تيسير إسلامي. وقد يكون إيجاب الكفارة على المتمتعين قرينة أو دليلا، وإيجاب الكفارة على الذين يتمتعون بهذه الرخصة من غير سكان منطقة المسجد الحرام ناشىء على ما علله المفسرون من أن الذي يجب عليه الدخول إلى منطقة الحرم محرما هو غير هؤلاء السكان. وهم الذين تجب عليهم الكفارة إذا تمتعوا في الفترة بين العمرة والحج. أما سكان هذه المنطقة فلا إحرام عليهم إلا حينما يحل وقت الوقوف في عرفة حيث يحرمون ويؤدون ركن العمرة ثم يقفون في عرفة ثم يعودون منها فيطوفون ويسعون ويتحللون. أما قبل ذلك فإن لهم أن يظلوا غير محرمين ولا كفارة عليهم. وجملة وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ تتضمن إتمام عملين هما الحج والعمرة.

والعمرة هي زيارة الكعبة على ما هو مشهور يقيني. أما كلمة الْحَجَّ فقد جاءت هنا مطلقة. وجاءت كذلك في سورة الحج وفي آيات أخرى في هذه السورة. وجاءت مع الْبَيْتَ في الآية [158] من هذه السورة وسبق تفسيرها وفي آية سورة آل عمران هذه: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ [97] وهذه الجملة تتضمن فرضية العمرة في موسم الحج. وما دامت العمرة هي زيارة الكعبة فتكون كلمة الْحَجَّ المطلقة التي جاءت مع كلمة العمرة قد عنت شيئا آخر وهو ما فسّر في الأحاديث بأنه الوقوف في عرفة. الذي عرف يقينا أنه يجب أن يكون في التاسع من شهر ذي الحجة. والراجح أن كلمة يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ في آية سورة التوبة الثالثة: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) قد عنته. وقد روى أصحاب السنن حديثا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «الحجّ الحجّ يوم عرفة» وعلى ضوء هذا يمكن القول إن جملة: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ تعني أن فريضة الحج الإسلامية ركنان هما العمرة أي الطواف والسعي في أشهر الحج والوقوف في عرفة في اليوم التاسع من ذي الحجة. وقد ذكرت فرضية حج البيت في القرآن ولم تذكر فرضية الوقوف في عرفة بصراحة قطعية فيه فاقتضت حكمة الله ورسوله إتمام ذلك بالحديث والله أعلم. وليس من تعارض بين زيارة الكعبة في موسم الحج التي هي ركن من أركان الحج الإسلامي في موسم الحج وبين الزيارة التي تكون للكعبة في غير موسم الحج التي انطوى ذكرها في الآية [158] من سورة البقرة وشرحنا مداها. وفي كتب التفسير والحديث أحاديث نبوية وصحابية وتابعية فيها توضيح لمدى الآيات وأحكام وسنن متصلة بها نوجزها ونعلق عليها بما يلي: 1- هناك إجماع على أن فرض الحج والعمرة على المستطيع هو مرة واحدة في العمر. وهذا مستند إلى الآية الأولى من هذه الآيات وآية سورة آل عمران [97]

وأحاديث نبوية عديدة «1» . ويستفاد من الأحاديث أن من المستحب أن يحج المسلم أكثر من مرة تطوعا وتقرّبا إلى الله «2» . 2- هناك من يقول إن العمرة سنّة ومن يقول إنها فرض استنادا إلى أحاديث مختلفة الصيغ، ويلوح أن القول بسنيتها ملتبس من كونها تصح أن تكون في غير موسم الحج على ما انطوى في الآية [158] من سورة البقرة وشرحنا إياها السابق. وقد أداها النبي صلّى الله عليه وسلّم في غير موسم الحج. وأن فرضيتها كركن ثان من أركان فريضة الحج في موسم الحج هي الأوجه المستفادة من آية آل عمران [97] ومن أحاديث نبوية أخرى «3» ومن الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها. 3- هناك أحاديث نبوية عديدة في خطورة فرض الحج والعمرة وعظم ثوابهما حتى لقد وصف الحج في بعضها بالجهاد» . 4- هناك أحاديث توجب التعجيل بأداء هذا الفرض حذرا من المرض أو العجز أو الموت قبل ذلك «5» » . 5- ليس في الأحاديث وقت معين لأداء فريضة العمرة في موسم الحج إلا وجوب إتمامها قبل الوقوف في عرفة وهو الركن الثاني لفريضة الحج. وهناك أحاديث توجب قضاءها بعد الوقوف في عرفة لمن فاتته قبل هذا الوقوف لعذر ما والحيض من الأعذار التي لا تجيز الطواف في حالته «6» . 6- هناك اختلاف في مدى الاستطاعة التي يكون الحج بها فرضا واجب الأداء. وهناك قول إنها الاستطاعة البدنية فقط. وهناك من يزيد عليها توفر الزاد

_ (1) انظر الأحاديث التي رواها أصحاب الكتب الخمسة في التاج ج 2 ص 100 و 146. (2) انظر المصدر نفسه. (3) انظر المصدر نفسه ص 146 و 147. (4) انظر المصدر نفسه ص 98- 101. (5) انظر المصدر نفسه. (6) انظر المصدر نفسه ص 116 و 125.

والراحلة وهذا مما جاء في بعض الأحاديث النبوية «1» . وهناك من يزيد على هذا وذاك أمن الطريق. وهناك من يزيد على كل هذا أن يكون المسلم مالكا لنفقة تكفيه للسفر فاضلة عن نفقة عياله وعن سداد دين عليه. وأكثر المذاهب على أنها استطاعة بدنية ومالية وأن المالية يجب أن تكون كافية لنفقة السفر وفاضلة عن نفقة العائلة في الغياب وعن سداد الدين. وليس هناك أحاديث تعارض هذا الذي عليه الأكثر. وهو الأوجه مع زيادة ضرورية تخطر لبالنا وهي أن يكون من أراد الحج ذا مهنة أو مرتب يضمن له ولأسرته المعيشة أما إذا لم يكن له ذلك فيجب أن يكون متوفرا له رأس مال يضمن ربحه معاش أسرته بصورة مستمرة والله تعالى أعلم. 7- المستفاد من الأحاديث أن يصح أداء فريضة الحج والعمرة عن المريض والميت بشرط أن يكون البديل قد حج عن نفسه سابقا. 8- لقد ذكر (الهدي) في الآية مرتين، والهدي في المرة الأولى هو الهدي الواجب على كل حاج تقربه بين يدي حجه تقربا وطاعة. ويكون من الضأن والماعز والبقر والإبل وهدي البقر والإبل يسمى بدنة والواحدة منهما يجزي عن سبعة حجاج في قول وعشرة في قول آخر حسب اختلاف نصوص الأحاديث، والذبح يكون في موسم الحج بعد النزول من عرفة، وهناك ما يفيد وجوب الهدي على من يزور الكعبة في غير موسم الحج أيضا ويكون ذبحه بعد إتمام الطواف والسعي اللذين هما المعني بهما بالعمرة أو حج البيت. والذبح يكون في منطقة الحرم مطلقا في الحالات العادية. أما في حالة قيام حالة منع وإحصار تحول دون إتمام المسلم واجب العمرة أو الحج فيذبح هديه في المكان الذي أحصر فيه على ما تفيده الآية والأحاديث معا. والمستفاد من أقوال المجتهدين والمؤولين أن الإحصار هو السبب القاهر الذي يمنع الحاج من الوصول إلى مكة لأداء العمرة في غير موسم الحج أو أداء

_ (1) انظر الأحاديث في التاج ج 2 ص 101. [.....]

العمرة والحج في موسم الحج. وإن ترجيح خطر الطريق يعد إحصارا ومانعا شرعيا وقد أدخل بعضهم استنادا إلى بعض الأحاديث النبوية «1» المرض الشديد والكسر والجرح وموت الراحلة وفقد الزاد والنفقة أو نفادهما والتوهان في الطريق أو الخطأ في حساب الأيام من الأعذار التي يصح فيها حكم الإحصار. ولقد قضى النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون زيارة الكعبة التي كانوا أزمعوا أن يقوموا بها في السنة الهجرية السادسة ومنعهم كفار قريش حينئذ تمّ عقد بينهم صلح الحديبية الذي كان من شروط السماح لهم بالزيارة في السنة القابلة فقام النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون بهذه الزيارة وسميت عمرة القضاء، أي كانت قضاء حيث يفيد هذا أن الإحصار لم يسقط واجب الزيارة والحج عن المسلم وإنما كان عذرا للتأجيل وظل من واجب المسلم الذي يحول المنع والإحصار بينه وبين الزيارة والحج في موسم الحج أن يقوم بهما حال ما يزول الإحصار. 9- وقد قلنا إن (الهدي) ذكر مرتين في الآية وما سبق هو في صدد المرة الأولى أما المرة الثانية فهي في معنى الفدية التي تجب على الحاج إذا تمتع بالعمرة إلى الحج. أي أن هذا الهدي غير الهدي الأول الواجب على كل حاج تقربا وطاعة. وقد نصت الآية على جواز عشرة أيام بدلا من هذا الهدي في مقام الفدية إذا لم يستطع الحاج تقديم الهدي فدية. ونصت على استثناء أهل الحرم من ذلك وقد مرّ شرح ذلك وأسبابه في سياق شرح الآية سابقا فلا موجب للتكرار. 10- لقد كان الحجاج قبل الإسلام يحرمون أكل هديهم، وظل ذلك مستمرا ردحا ما بعد الإسلام فأباح الله للمسلمين الأكل من الهدي بالإضافة إلى إطعام المساكين والفقراء منه رحمة وتيسرا على ما جاء في آيات سورة الحج التي سبق تفسيرها. 11- والمذاهب متفقة استنادا إلى الأحاديث النبوية على أن الوقوف في عرفة في موسم الحج والطواف حول الكعبة وبين الصفا والمروة وهو ما عرف بالعمرة

_ (1) انظر الأحاديث في التاج ج 2 ص 105.

لأول مرة في موسم الحج وغيره يجب أن يكون في لباس الإحرام. ولباس الإحرام للرجال ثياب غير مخيطة وغير مطيبة بالطيب، وبنعلين لا يستران الكعب. أما النساء فقد نهت الأحاديث عن النقاب والقفازين وأباحت لها أن تلبس ما تشاء من الثياب غير المطيبة وغير المعصفرة. ومعنى هذا أن المرأة تحرم سافرة الوجه واليدين. ومن السنّة أن يغتسل المسلم ويتطيب قبل الإحرام «1» . 12- والمستفاد من الأحاديث أن الحاج في موسم الحج والمعتمر في غير موسم الحج من غير أهل الحرم والمسجد المكي يجب أن يدخل إلى منطقة الحرم المكي محرما. وهناك أحاديث تعين حدود الإحرام لكل جهة من جهات الجزيرة العربية ومن يأتي منها من ورائها فلأهل المدينة ذو الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرى المنازل ولأهل اليمن يلملم. ومن كان من دون هذه المواقع فيكون إحرامه من موقعه ومنهم أهل مكة الذين هم ملتزمون بالإحرام حين أداء العمرة والحج والوقوف في عرفة في موسم الحج «2» . ولقد ذكر المفسرون استنادا إلى الروايات وفي سياق آية سورة الأعراف هذه: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) أن العرب قبل الإسلام كانوا يتحرجون من الطواف والسعي بثيابهم العادية تحرجا من أن يكونوا قد اقترفوا ذنوبا وهي عليهم أو تحرجا من أن يقترفوا ذنوبا وهي عليهم بعد الطواف. فيستأجرون مآزر من سدنة الكعبة تسمى المآزر الأحمسية نسبة إلى كلمة الحمس التي كان سدنة الكعبة يتسمون بها. ومن لم يجد أو من لم يستطع طاف في حالة العري لأنه كان على الذين يطوفون بثيابهم أن يرموها فكانوا يضيقون بها. ومن المحتمل كثيرا أن يكون تقليد الإحرام الإسلامي معدلا عن ذلك ومتصلا به والله أعلم.

_ (1) في هذا الصدد أحاديث عديدة رواها أصحاب الكتب الخمسة، انظر التاج ج 2 ص 103 إلى 110. (2) هناك أحاديث رواها أصحاب الكتب الخمسة في ذلك انظر التاج ج 2 ص 103 و 104.

13- ومن السنّة أن يهتف الحاج والزائر بعد الإحرام بالتلبية وصيغتها المأثورة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لبّيك اللهم لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك» «1» . 14- والآية التي نحن في صددها صريحة في حظر حلاقة الشعر إبان الإحرام. وفي سورة المائدة آيات تحظر صيد البرّ إبانه أيضا وهذا ما سوف نشرحه شرحا أوفى في مناسبة آيات المائدة وهناك أحاديث تحظر الجماع والزواج والخطبة والتطيب أيضا إبانه «2» . وكل هذا يصبح حلالا مباحا بعد حلّ الإحرام الذي يستفاد من الأحاديث والأقوال أنه نوعان: الأول بعد الطواف والسعي والثاني بعد النزول من عرفة. ولم نطلع على قول في صدد الاغتسال، ويتبادر لنا أنه محظور أسوة بالطيب وعدم الحلاقة. والمتبادر أنه يكون واجبا في حالة الجنابة من الاحتلام إبّان الإحرام والله أعلم. 15- والمستفاد من الأحاديث أن لمن أراد الحج في موسمه أن يهلّ بالعمرة فقط أو يهلّ بالعمرة والحج معا. والنوع الأول يسمى إفرادا، والثاني يسمى قرانا «3» . والأول هو الذي يصح أن يحل فيه الحاج من إحرامه بعد إتمام العمرة أي الطواف والسعي. ثم يحرم ثانية في اليوم الثامن من ذي الحجة ويذهب للوقوف في عرفة في التاسع محرما. ومع ذلك فالآية قد احتوت تيسيرا لمن أهلّ بالعمرة والحج معا ثم مرض أو آذته هوام رأسه من طول الشعر والوسخ حيث أجازت أن يحلّ ويفدي عن حلّه بصدقة أو صيام أو نسك. وهناك حديث يفيد أن الصدقة طعام ستة مساكين والنسك هو ذبح شاة والصيام هو ثلاثة أيام «4» . والجمهور على أن الحاج في الخيار في نوع الفدية.

_ (1) انظر الأحاديث التي رواها أصحاب الكتب الخمسة في ذلك في التاج ج 2 ص 111. (2) انظر المصدر نفسه ص 108. (3) انظر المصدر نفسه ص 112 و 113- 114 وانظر ص 153. (4) المصدر نفسه.

ولقد خطر لبالنا أن يكون هذا محل قياس بحيث يباح للمريض والمتيقن من الخطر والضرر على صحته من الإحرام ومحرماته أن يطوف ويسعى ويقف في عرفات بدون إحرام ومحرمات الإحرام ويفدي عن ذلك استئناسا بالمبادىء القرآنية التي تقرر أن الله لا يكلّف نفسا إلا وسعها وتبيح المحرمات للمضطر وتهتف بأن الله لا يريد أن يجعل على المسلمين في الدين من حرج وأنه يريد بهم اليسر دون العسر والله تعالى أعلم. 16- والسنن المأثورة أن العمرة طواف سبعة أشواط حول الكعبة ثم صلاة ركعتين ثم طواف سبعة أشواط بين الصفا والمروة. وتكون الأشواط الثلاثة الأولى مشيا والأربعة هرولة. مع تقبيل الحجر الأسود أو لمسه أو الإيماء إليه في كل شوط. وليس من مانع من الطواف والسعي راكبا أو محمولا. 17- والمتفق عليه أن الطواف الواجب بالإحرام هو للمرة الأولى حين الزيارة في غير الموسم أو في الموسم، ويستحب الطواف والسعي أكثر من مرة في حالة الإحرام وبدونها أيضا «1» . 18- والمتفق عليه استنادا إلى الأحاديث أن المرأة تقوم بكل مناسك الحج في حالة حيضها ونفاسها إلا الطواف والسعي إلى أن تطهر. وإذا فاتها وقت العمرة إلى قبل الوقوف في عرفة وهي في هذه الحالة قضتها بعد الطهر «2» . ونكتفي بما تقدم مما هو متصل بمدى الآية وتوضيح لأحكامها دون استفتاء يخرج عن المنهاج الذي ترسمناه هذا. وهناك أحاديث نبوية عديدة في فضل يثرب التي سميت بالمدينة المنورة وحرمتها ومسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها وشد الرحال والصلاة فيه وزيارة قبره الشريف «3» . فصارت زيارة هذه المدينة والصلاة في مسجد

_ (1) انظر الأحاديث التي رواها أصحاب الكتب الخمسة في صدد ذلك في التاج ج 2 ص 117 وما بعدها. (2) انظر المصدر نفسه ص 116 و 125. (3) انظر المصدر نفسه ص 166- 168 والتاج ج 1 ص 209.

[سورة البقرة (2) : الآيات 197 إلى 203]

النبي صلّى الله عليه وسلّم وزيارة قبره الشريف مما درج عليه المسلمون في كل وقت وبخاصة حجاجهم حينما يأتون إلى مكة لأداء فريضة العمرة والحج. [سورة البقرة (2) : الآيات 197 الى 203] الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) . (1) فمن فرض فيهن الحج: من اعتزم الحج وأوجبه على نفسه. (2) رفث: قيل إنها كناية عن الجماع ودواعيه وذيوله. وقيل إنها بمعنى كل فحش من قول أو عمل وهذا هو الأوجه فيما يتبادر لنا. ومن القرائن على وجاهته أن الجماع لا يحرم على الحاج في حالة الحل والتمتع بين العمرة إلى الحج على ما شرحناه في سياق الآية السابقة. (3) فسوق: عصيان وإثم. (4) جدال: هنا بمعنى النزاع والمهاترة.

(5) أفضتم: من الإفاضة وهي السير السريع. وهذا اصطلاح يطلق على حركة العودة من عرفات إلى المشعر الحرام ثم من المشعر الحرام إلى منى. (6) المشعر الحرام: المشعر هو المكان المعين الذي يؤدى عنده نسك من المناسك الدينية إطلاقا. وهنا تعني مكانا معينا بين عرفات ومنى يعرف بالمزدلفة. في الآيات تقريرات تشريعية في مناسك الحج وموسمه: فأولا: قررت أن للحج أشهرا معينة، وأوجبت على من اعتزم القيام بفريضة الحج أن لا يرفث ولا يفسق ولا يجادل فيه. ونبهت على أن الله يعلم كل خير يفعله الناس وأمرتهم أن يتقوه لأن تقواه هي خير زاد يتزودون به. وقد وجهت الخطاب في آخر الآية الأولى لذوي الألباب والعقول الراجحة كأنما تريد أن تقرر أن هؤلاء هم الذين يدركون مدى وصايا الله وتقواه. وثانيا: نبهت المسلمين إلى أنه ليس من حرج عليهم في ابتغاء فضل الله بالتكسب أثناء موسم الحج وأشهره. وأمرتهم أن يذكروا الله ويشكروه عند المشعر الحرام بعد الإفاضة من عرفات على هداه بعد أن كانوا قبل ذلك في ضلال شديد. وأن يفيضوا من المشعر الحرام مع سائر الناس وأن يستغفروا الله الغفور الرحيم. وأن يذكروه كذلك بعد إتمام مناسك الحج كما يذكرون آباءهم وأكثر. ونبهت إلى أن من الناس في هذا الموقف من يدعو الله بأن يحقق له رغائبه في الدنيا وحسب. ومثل هؤلاء لن يكون لهم نصيب من رحمة الله في الآخرة. ومنهم من يدعوه بأن ييسر لهم ما فيه الحسنى والخير في الدنيا والآخرة ويقيهم عذاب النار، وهؤلاء هم الذين ينتفعون بما يفعلون من الأعمال الصالحة في الدنيا ويستوفون أجرهم من الله الذي هو سريع الحساب، يعطي كل امرئ حقه وجزاءه وبدون تأخير. وثالثا: أمرت المسلمين بأن يذكروا الله في أيام معدودة معينة أيضا. ورفعت الحرج عن من يستعجل في إنهاء هذه الأيام فيجعلها يومين وعن من يتأنى فيجعلها

تعليقات على الآية الحج أشهر معلومات ... والآيات الست التالية لها

أكثر إذا لم يكن له مأرب خاص مغاير لتقوى الله ورضائه. وأمرتهم بتقوى الله على كل حال، ونبهتهم إلى أنهم سيحشرون إليه في النهاية حتى يظلوا من ذلك على علم واستعداد. تعليقات على الآية الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ ... والآيات الست التالية لها الآيات تتمة لفصل مناسك الحج كما هو المتبادر. وفي كتب التفسير والحديث أحاديث وروايات وأقوال عديدة في صددها فيها توضيح وتركيز نوجزها ونعلق عليها كما يلي: 1- في صدد الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ روى البخاري عن ابن عمر أنه قال: «أشهر الحجّ شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة» «1» . وروى الطبراني عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: الحجّ أشهر معلومات شوال وذو القعدة وذو الحجة» «2» . ومن رواة هذا الحديث ابن مخارق وقد ضعفه الدارقطني. والمعلوم اليقيني أنه كان قبل الإسلام ثلاثة أشهر حرم متوالية هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وقد حرمت لتكون هدنة مقدسة يستطيع الناس في ظلها أن يذهبوا للحج ويعودوا منه بأمان على ما شرحناه في سياق تعليقاتنا على الآيات [190- 195] من هذه السورة. وقد أوردنا حديثا صحيحا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بحرمة هذه الأشهر الثلاثة المتوالية، والذي يتبادر لنا أن تكون الجملة قد قصدت هذه الأشهر والتنبيه فيها يتناسب مع مدى الهدنة المقدسة وهو منع سفك الدم والقتال. وفي آية في سورة المائدة ذكر عدد الأشهر الحرم ونبه على وجوب عدم ظلم المسلمين أنفسهم فيها مما فيه تدعيم لذلك. وحديث ابن عمر الذي يرويه البخاري لم يرفع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم

_ (1) التاج ج 2 ص 104. (2) مجمع الزوائد ج 3 ص 218.

في حين أن أسماء الأشهر الثلاثة وردت في حديث للبخاري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم على ما ذكرناه في سياق الآية [197] وهذا ما يجعلنا نرى الأرجح أن تكون أشهر الحج المعلومات هي الأشهر الحرم الثلاثة المتوالية المذكورة. ويلحظ أن حديث ابن عمر يخرج بقية ذي الحجة وكل شهر المحرم، وحديث أبي أمامة يخرج كل شهر المحرم في حين يكون الحجاج ما يزالون في منطقة الحرم وفي طريق عودتهم منها إلى منازلهم. وهذا لا يستقيم في ما نعتقد مع هدف حرمة الأشهر الحرم والمسألة مسألة تحديد الأشهر وليس ما يمنع أن تبدأ رحلة الحج في شوال وقبل شوال أيضا ولكن يظل شوال غير محرم، والله تعالى أعلم. ولقد شرحنا مدى الأشهر الحرم وحكمتها وخطورتها أيضا في تعليقاتنا على الآية [190- 195] وشرحنا مدى الحج وخطورته وأوردنا ما ورد فيه من أحاديث في سياق الآية السابقة للآيات التي نحن في صددها وفي سياق الآيات [25- 32] من سورة الحج فنكتفي بهذا التنبيه. وإن كان من شيء يصحّ أن يضاف إلى ذلك فهو التنويه بما نبهت عليه الآية الأولى من وجوب اجتناب الرفث والفسوق والجدال في الحج الذي يقوم به المسلم لله تعالى وفي الأشهر الحرم وفي الأمكنة المحرمة حيث يتناسب هذا التنبيه مع كل ذلك. 2- ولقد ذكرنا قبل أن العرب كانوا يحرمون سفك الدماء والقتال والصيد في الأشهر الحرم التي رجحنا أنها أشهر الحج. ونرجح أن النهي القرآني عن الرفث والفسق والجدل فيها هو تشريع إسلامي جديد. متساوق مع ما جاءت به الرسالة الإسلامية من الدعوة إلى مكارم الأخلاق والنهي عن رذائلها، وقد تبادر لنا حكمة أخرى في هذا التشريع الرائع، فقد علم الله تعالى أنه قد يقوم سلطان يستطيع منع سفك الدم ومعاقبة مقترفه في حين أن الرفث والفسوق والجدال قد تكون أعمالا شخصية لا تطالها يد السلطان وعينه. فشاءت حكمة الله التنبيه على وجوب الامتناع عن ذلك دينا وإيمانا. ونعيد إثبات الحد الذي رواه الشيخان والنسائي والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حجّ لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمّه» .

ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن النهي عن الرفث والفسق والجدال في أشهر الحج بالإضافة عن النهي عن القتال العدواني وسفك الدم بغير فسق لا يعني إباحة ذلك في غيرها. وإنما هو من قبيل تعظيم فظاعة ذلك وأولوية الامتناع عنه في هذه الأشهر بالإضافة إلى وجوب الامتناع عنه في كل ظرف. 3- لقد صرف معظم المفسرين كلمة الرَّفَثُ إلى الجماع ودواعيه والتعريض به ومن جملة ذلك خطبة النكاح واستدلوا على ذلك بآية وردت في هذه السورة وهي: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ وهناك من قال إن النهي مقيد بحالة الإحرام وإن الحاج الذي يتمتع بالعمرة يرتفع الحظر أثناء حالة حلّه بين العمرة وعرفات. ويتبادر لنا أن التحذير من الرفث مع الفسوق والجدل جملة وإطلاقا وطيلة أشهر الحج بجعل صرف الرفث عن كل فاحشة منكرة وهو الأكثر وجاهة والله تعالى أعلم. 4- لقد روى البخاري في صدد جملة وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى حديثا عن ابن عباس قال: «كان أهل اليمن يحجّون ولا يتزوّدون ويقولون نحن المتوكّلون فإذا قدموا مكة سألوا الناس فأنزل الله الآية» «1» . ويلحظ أن الجملة جزء من آية فيها تنبيه على ما يجب أن يكون عليه الحاج من حسن أخلاق وبعد عن كل فحش وفسق. ومع احتمال صحة ما روي عن أهل اليمن فإننا نتوقف في كون الجملة نزلت في شأن عدم اعتيادهم على حمل الزاد. ويتبادر من روح الآية أن كلمة وَتَزَوَّدُوا في مقامها هي بسبيل الحض على الإكثار من عمل الخير والتشديد على تقوى الله واجتناب المعاصي في الأشهر الحرم. وكلمة (الخير) التي سبقت كلمة (وتزودوا) وتكررت بعدها من القرائن على ذلك فيما نرى ونرجو أن يكون الصواب. 5- روى البخاري ومسلم عن ابن عباس في صدد جملة: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ قال: «إن الناس في أول الحجّ كانوا

_ (1) انظر التاج ج 2 ص 101.

يتبايعون بمنى وعرفة وسوق ذي المجاز ومواسم الحجّ فخافوا البيع وهم حرم فأنزل الله الآية» «1» . وروى أبو داود حديثا جاء فيه: «سأل رجل رسول الله عن ذلك فسكت عنه حتى نزلت الآية، فأرسل إليه وقرأها عليه وقال لك حجّ» «2» . ومثل هذا مروي عن ابن عمر حيث سأله رجل كان يكري فقال له لك حجّ «3» . ويلحظ أن الجملة هنا أيضا جزء من آية وفيها وفيما جاء بعدها تعاليم ربانية عديدة للحجاج. ومع احتمال صحة المروي فإننا نتوقف هنا أيضا في كون الجملة نزلت في شأن ذلك خاصة ولحدتها. والآية [196] أمرت المسلمين بإتمام الحج والعمرة لله، فيسوغ القول إن حكمة التنزيل اقتضت أن تكون الجملة قد جاءت من قبيل الاستدراك والتبشير، ولقد جاءت بعد التنبيه على وجوب تجنّب الرفث والفسوق والجدال في الحجّ حيث يمكن أن يقال أيضا إنما جاءت لاستثناء ابتغاء فضل الله فيه بالاتجار والتكسب. ولا سيما إن ذلك مظنته الجدل والله تعالى أعلم. وظاهر ما في هذه الرخصة من مراعاة مصلحة المسلمين واتساع أفق الشريعة الإسلامية لمثل هذا الأمر في مواسم العبادة على اعتبار أن البشر لا ينبغي أن يعطلوا مصالحهم وحاجاتهم المتصلة بحياتهم ومعايشهم فيها. ولا سيما إن موسم الحج كان فرصة عظيمة لقضاء الناس فيها مصالحهم وحاجاتهم بأمن وطمأنينة وفي هذا ما فيه من تلقين مستمر المدى. 6- والإفاضة من عرفات التي ذكرت في الآية الثانية تكون بعد انتهاء نهار التاسع من ذي الحجة الذي يكون وجود الحاج فيه في عرفات ركنا لا يتم الحج إلا به على ما شرحناه في سياق الآية السابقة.

_ (1) التاج ج 2 ص 103. وفي فصل التفسير في التاج حديث عن ابن عباس برواية البخاري في هذه الصيغة: «كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في المواسم فنزلت الآية» التاج ج 4 ص 52. [.....] (2) التاج ج 2 ص 103. (3) التاج ج 2 ص 103.

و (عرفات) تطلق على مكان منبسط فسيح محاط ببعض التلال والصخور، ومما قيل في التسمية إنها جمع (عرفة) وهذا المفرد ورد في حديث نبوي أوردناه قبل وفيه «عرفة كلّها موقف» حيث قد يفيد هذا أن جمعها بسبب اتساعها وكون الناس يتخذون فيها منازل متعددة. كذلك مما قيل إن التسمية متصلة بعهد إبراهيم (عليه السلام) وإن الله لما أمره بذبح ابنه وصف له جبريل مكان عرفات ليذبحه فيه، فلما وصل المكان قال: عرفته من الوصف وليس شيء من هذا واردا في حديث صحيح. والكلمة عربية وإبراهيم لم يكن عربي اللسان. وقد قال رشيد رضا: إن أحسن ما يمكن تعليل التسمية به هو أنها أطلقت على المكان الذي يجتمع فيه الناس من كل صوب ليتعارفوا. والتعليل وجيه وقد كان اجتماع الناس فيه يوم التاسع من ذي الحجة تقليدا سابقا للبعثة، وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديثه الذي أوردناه قبل: «الحجّ الحجّ يوم عرفة» «1» . وجملة: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ في الآية الثالثة من سورة التوبة التي عنت على ما عليه الجمهور يوم عرفة قد يدلان على أن الوقوف في عرفات يوم التاسع من ذي الحجة كان المنسك الرئيسي في تقاليد الحج قبل الإسلام فأبقي على ذلك في الإسلام لما فيه من المعاني الرائعة حيث يكون الناس جميعا في صعيد واحد وفي ثياب الإحرام الطاهرة التي لم تشهد دنسا ولا فاحشة، ولا جهدا من جهود الدنيا ومشاكلها متساوين لا يتميز رئيس عن مرؤوس ولا سيد عن مسود ولا غني عن فقير ولا أبيض عن أسود. قد قطع الجميع صلاتهم بالدنيا وشهواتها وفوارقها ومشاكلها ومشاغلها مستشعرين عظمة الله وربوبيته هاتفين بكونه الأكبر من كل شيء مهللين له معلنين له إخلاصهم وشكرهم له وحده وفقرهم إليه وحده من الصباح إلى المساء. وهو موقف من أروع المواقف الروحانية التي يملك على الإنسان مشاعره وترتفع به إلى أفق الملأ الأعلى. وجملة: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ تتضمن أن الوقوف في عرفات

_ (1) انظر التاج ج 2 ص 127- 128.

أمر حتمي معروف مسلم به ومعمول به، وكل ما هنالك أنه ليس في القرآن أمر صريح قطعي في ذلك مثل فرضية حج الكعبة فكان الحديث النبوي متمما لذلك. والوقوف في عرفات تعبير اصطلاحي، والفقه الإسلامي لا يشترط أن يكون الحاج في هذا اليوم واقفا أو قاعدا في عرفات والشرط الوحيد هو أن يكون فيه بلباس الإحرام. ولقد كانت إفاضة الحجاج من عرفات إلى النزول أو العودة منه تتم بإشارة زعيم من أسرة معينة، ثم أصبحت في الإسلام بإشارة الأمير الذي يكون الحج بإمرته. وكان أول أمير للحج في الإسلام أبا بكر (رضي الله عنه) نائبا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في السنة الهجرية التاسعة. ثم كان النبي صلّى الله عليه وسلّم نفسه في السنة العاشرة التي سميت حجته فيها حجة الوداع لأن الله تعالى توفاه بعدها بقليل ثم صارت للخلفاء من بعده ثم لمن ينيبه صاحب السلطان في الحجاز عنه. ولقد أثر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم خطبة مسهبة في حجة وداعه وعظ ونبّه وعلّم وذكر فيها فصار ذلك تقليدا لأمراء الحجّ أو من ينيبونهم عنهم «1» . 7- والمشعر الحرام الذي ذكر في الآية [198] وأمر المسلمون فيها بذكر الله عنده هو مكان بين عرفات ومنى. فالحجاج حين يفيضون من عرفات يتوقفون في هذا المكان الذي سمي أيضا (المزدلفة) ويبيتون فيه ليلة العيد مهللين مكبرين ثم يفيضون منه إلى منى. وواضح من التسمية أن للمكان حرمة دينية والراجح أن هذا متصل بتقاليد الحج قبل الإسلام. والمزدلفة في سفح جبل (ثبير) ومن المحتمل أن يكون للعرب قبل الإسلام بعض الأصنام في هذا الجبل كانوا يذهبون إلى زيارتها والتبرك بها بعد عودتهم من عرفات فأبقى الإسلام على تقليد التوقف فيها مع تسميتها بالمشعر الحرام وأمر المسلمين بذكر الله فيه لقلبه من مكان وثني إلى مكان يرتفع فيه ذكر الله وحده. ولقد روى البخاري وأبو داود عن عمرو بن ميمون قال:

_ (1) انظر سيرة ابن هشام ج 2 ص 200 وما بعدها و 272 وما بعدها و 319 وما بعدها وانظر التاج ج 2 ص 140 وما بعدها.

«شهدت عمر صلّى الصبح بجمع ثم قال: إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس ويقولون أشرق ثبير وإنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خالفهم فأفاض قبل أن تطلع الشمس» «1» . 8- وفي صدد جملة: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ روى الخمسة عن عائشة قالت: «كانت قريش ومن دان بدينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمّون الحمس وكان سائر العرب يقفون بعرفات فلما جاء الإسلام أمر الله عزّ وجلّ نبيّه أن يأتي عرفات فيقف فيها ثم يفيض منها» «2» . ويلحظ أن الحديث غير متسق شيئا ما مع مدى الآية. لأن الآية تفيد أن الأمر في الجملة القرآنية هلّ بالإفاضة من المشعر الحرام. ويتبادر لنا من روح الآية أن فريقا من الناس ويجوز أن يكونوا القرشيين أو سدنة الكعبة وأقاربهم منهم كانوا يترفعون عن الناس في وقوفهم وطريق إفاضتهم من المزدلفة أو يسلكون طريقا خاصا بهم فأمرت الآية المسلمين جميعا بالإفاضة من الطريق الذي يسلكه سائر الناس بدون تمايز أحد على أحد لأي سبب كان، وفي هذا ما فيه من تلقين جليل والله تعالى أعلم. والروايات تذكر أن الإفاضة من المزدلفة أيضا كانت تتم بإشارة من زعيم عربي من أسرة معينة، فحلّ محلّه في الإسلام أمير الحج كما صار ذلك شأن الإفاضة من عرفات. 9- والجمهور على أن جملة: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ تعني إذا ذبحتم قرابينكم حيث يبادر الحجاج بعد نزولهم صباح العيد من المزدلفة إلى منى إلى ذبح هديهم ويتحللون من الإحرام بالحلاقة أو تقصير الشعر وبلبس الثياب العادية ويصبح حلالا ما كان محظورا عليهم في مقام الإحرام. ومنهم من ينزل إلى مكة قبل التحلل فيطوف طواف الإفاضة الذي أوردنا ما فيه من حديث في سياق

_ (1) التاج ج 2 ص 139 و (جمع) كان يطلق على الموقف في المزدلفة على ما يفيده حديث رواه أبو داود والترمذي عن علي، انظر أيضا التاج ج 2 ص 139. (2) التاج ج 4 ص 39.

الآية السابقة ثم ينحر هديه وقد سمّي اليوم الأول من العيد وهو اليوم العاشر من ذي الحجة بيوم النحر وعيد النحر وعيد الأضحى بناء على ذلك. 10- أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ المذكورة في الآية الأخيرة هي على ما عليه الجمهور والتواتر أيام العيد. ويقضيها الحجاج في منى في حالة الحل. وتسمى الأيام التالية لليوم الأول من العيد بأيام التشريق ويرمي الحجاج فيها الجمرات. وهي حصوات صغيرة تقذف على أماكن ثلاثة معينة في منطقة منى، وتسمى هذه الأماكن بالعقبات أيضا. وعدد الحصوات تسع وأربعون يرمي الحاج في اليوم الأول كلا من العقبات الثلاث بسبع حصوات وفي اليوم الثاني بسبع حصوات، وفي اليوم الثالث يرمي العقبة الثالثة فقط بسبع حصوات. ويكبر الله عند رمي كل حصوة، وهناك حديث يذكر أن النحر والحل من الإحرام يكون بعد رمي العقبة الأولى للمرة الأولى في صباح يوم العيد بعد الوصول إلى منى من المزدلفة رواه الخمسة عن أنس قال: «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتى منى فأتى الجمرة فرماها ثم أتى منزله بمنى ونحر ثم قال للحلّاق خذ، وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يعطيه الناس» «1» . وبعض الحجاج يتعجلون العودة فلا يحبون أن يبقوا لليوم الثالث فسمحت لهم الآية بذلك. وقد روى أصحاب السنن حديثا عن أبي البدّاح عن أبيه قال: «رخّص رسول الله لرعاء الإبل في البيتوتة أن يرموا يوم النحر ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر فيرمون في أحدهما وفي رواية رخّص النبي صلّى الله عليه وسلّم للرعاء أن يرموا يوما ويدعوا يوما» «2» . وفي ترخيص الله ورسوله تلقين جليل مستمر المدى ومتساوق مع تلقينات القرآن المتكررة وهو الاهتمام بالجوهري من أهداف الإسلام وهو تقوى الله وحسن النية دون الأعراض والأشكال. والمفسرون يروون عن أهل التأويل والأخبار أن رمي الجمرات هو تقليد إبراهيمي حيث إن إبليس تراءى لإبراهيم (عليه السلام) حينما أخذ ابنه ليذبحه

_ (1) التاج ج 2 ص 132 وحلاقة الشعر أو تقصيره صورة من صور التحلّل من الإحرام وهناك أحاديث أخرى في هذا الموضوع انظر ص 130- 137. (2) المصدر نفسه ص 138.

تنفيذا لأمر الله في منامه «1» ليزين له الامتناع عن ذلك فكان يرجمه في كل موقف من المواقف الثلاثة، وهذا لم يرد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى كل حال فهذا تقليد كان من تقاليد الحج قبل الإسلام لم يعرف سببه معرفة يقينية فأقره الإسلام ليكون وسيلة إلى ذكر الله وتكبيره. وقد ورد ذكر أيام التشريق في حديثين صحيحين روى أحدهما مسلم وأحمد عن نبيشة الهذلي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى» «2» وروى ثانيهما أصحاب السنن عن عقبة بن عامر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب» «3» . وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن صوم أيام التشريق على ما ذكرناه في فصل الصيام في هذه السورة. والتشريق في اللغة هو عرض اللحم للشمس، والمتبادر أن التسمية بسبب ما كان ينحر في أيام التشريق من الأضاحي التي كان يلقى بلحومها على الأرض معرضة للشمس وليأخذها من يشاء. وقد كان من تقاليد العرب قبل الإسلام أن لا يأكل صاحبها منها ويدعها للفقراء والوحوش والنسور والصقور فأباح الله لهم الأكل منها على ما شرحناه في تفسير سورة الحج. 11- وقد روى المفسرون في سياق جملة: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً أن العرب قبل الإسلام كانوا في أيام التشريق يعقدون مجالس للمفاخرة بآبائهم فأمر الله المسلمين أن يذكروا الله فيها كما يذكرون آباءهم أو أكثر، وقد يكون هذا واقعا وفي الجملة مغزى لطيف كما يتبادر لنا وهو عدم النهي عن ذكر الآباء حيث تكون الحكمة اقتضت ذلك من باب التكريم للآباء الذي تكرر الأمر به في آيات عديدة مرّت أمثلة منها في السور المكية. 12- وما جاء في الآيات [200- 202] محتمل أن يكون بسبب اشتراك غير

_ (1) ذكر هذا المنام في سورة الصافات، وانظر تفسيرها في ابن كثير والخازن. (2) التاج ج 2 ص 78. (3) التاج ج 2 ص 78.

المسلمين مع المسلمين في الحج حين نزول الآيات التي يرجح أنها نزلت قبل فتح مكة، ومحتمل أن يكون بسبيل بيان طبائع الناس عموما من حيث أن بعضهم لا يهمه إلّا تحقيق مطالبه وتأمين منافعه في الدنيا. وقد انطوى في الآيات تنديد بهؤلاء وإنذار لهم وتطمين للآخرين الذين يرجون من الله الفضل والحسنى في الدنيا والآخرة معا، حيث يعدهم الله بالاستجابة. ولقد روى الشيخان عن أنس قال: «كان أكثر دعاء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: اللهمّ ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار» «1» . وروى مسلم والترمذي حديثا آخر عن أنس قال: «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عاد رجلا من المسلمين قد خفت فصار مثل الفرخ فقال له: هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إيّاه؟ قال: نعم، كنت أقول اللهمّ ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجّله لي في الدنيا. فقال رسول الله: سبحانه لا تطيقه أو لا تستطيعه، أفلا قلت اللهمّ آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. قال: فدعا الله له فشفاه» «2» . حيث ينطوي في الحديثين تعليم نبوي متساوق مع التعليم القرآني. والجملة الدعائية القرآنية من جوامع الدعاء لأن كلمة (حسنة) مطلقة المدى تشمل كل نوع من أنواع الخير في مختلف المجالات ويتبين من هذا حكمة كونها أكثر دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم. وفي الآية التالية لها إيذان بأن الله تعالى يحب لعباده أن يكون لهم حظّ ونصيب في الدنيا في مختلف مجالات الخير والصلاح والنجاح والقوة والنفع والمال في الدنيا بالإضافة إلى حظهم المضمون لهم وحدهم في الآخرة. وهذا انطوى تقريره في آيات كثيرة في سور سبق تفسيرها. ويلفت النظر إلى ما في التعليم القرآني والنبوي معا من مغزى رائع، ودلالة على ما انطوت عليه الدعوة الإسلامية من سعة الصدر والمرونة والتطابق مع مصالح البشر وطبائع الأشياء. فليس في الإسلام دعوة إلى الزهد في الدنيا والانصراف عنها مطلقا وطيباتها وخيراتها وزينتها مباحة للمسلمين ضمن حدود الاعتدال والنية

_ (1) التاج ج 5 ص 109. (2) التاج ج 5 ص 109.

[سورة البقرة (2) : الآيات 204 إلى 207]

الحسنة والبعد عن المنكر. ومن ثم فإن المسلمين أمروا بأن يدعوا لأجل جمع خير الدنيا والآخرة لهم. [سورة البقرة (2) : الآيات 204 الى 207] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207) . (1) ألدّ الخصام: أشد الناس في العداوة والخصومة. (2) يهلك الحرث والنسل: كناية عن الإيغال في الفساد والعدوان وأثرهما في الناس والبلاد. (3) أخذته العزة بالإثم: كبر عليه قول الناس له اتق الله وأخذته حمية النفس والاعتداد بها وحملته على الإصرار على الإثم. (4) يشري نفسه: يبيع نفسه، والمعنى يقدم على تضحية نفسه. في هذه الآيات: وصف لفريقين من الناس أحدهما يظهر غير ما يبطن ويتظاهر بالإخلاص ويقسم على ذلك الأيمان حتى يجعل سامعه يعجب به ويكاد يصدقه في حين أنه شديد العداء والخصومة، وحين تمكنه الفرصة يشتد في الظلم والفساد خلافا لما يحب الله من الصلاح ويكرهه من الفساد. وحينما يوعظ وينبه إلى ما في عمله من شرّ وإثم ويطلب منه الكفّ عنه وتقوى الله يسخط ويزداد في الإثم والبغي شفاء لنفسه واستكبارا من أن يوعظ ويدعى إلى التقوى. فهذا الفريق مصيره جهنم وبئست هي من مأوى ومضجع. وثانيهما هو الذي يتحمل الأذى في سبيل الله ولو أدى إلى التضحية بنفسه تحصيلا لرضاء الله. وانتهت الآيات بالتنبيه إلى أن الله رؤوف بعباده، وقد صرف بعض

تعليق على الآية ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا والآيات الأربع التالية لها

المفسرين «1» هذا التنبيه إلى الفريق الثاني بقصد بيان ما استحقه عند الله من رأفة ورحمة وحسن جزاء ولا يخلو هذا من وجاهة. ولقد قال بعضهم إن جملة: فِي الْحَياةِ الدُّنْيا تعني في شؤون الحياة الدنيا ولا يخلو هذا من وجاهة. تعليق على الآية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا والآيات الأربع التالية لها والآيات كما يبدو فصل جديد، ولعلّها متصلة بالآيات التالية لها على ما سوف نشرحه بعد. وقد روى المفسرون» أن القسم الأول من الآيات نزل في الأخنس بن شريق أحد زعماء المشركين الذي قدم إلى المدينة فجلس إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وصار يقسم له أنه محبّ له وأنه يريد أن يسلم ثم حنث في يمينه وبيت أحد خصومه فأحرق زرعه وأهلك مواشيه وعقر دوابه. وهناك رواية «3» أخرى تفيد أنها نزلت في جماعة من المنافقين شمتوا لمصاب المسلمين في سرية أحاط بها المشركون تقاتلوا حتى استشهد معظمهم «4» . ورووا أن القسم الثاني أي الآية الأخيرة نزلت في صهيب الرومي الذي فدى نفسه بماله ونجا بدينه من مكة. وقد روى القاسمي حديثا أخرجه ابن أبي حاتم جاء فيه: «أقبل صهيب مهاجرا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فاتبعه نفر من قريش فنزل عن راحلته وانتثل ما في كنانته ثم قال: يا معشر قريش، لقد علمتم أني من أرماكم جلا، وأيم الله لا تصلون إليّ حتى أرمي كلّ سهم في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء ثم افعلوا ما شئتم. وإن شئتم دللتكم على مالي

_ (1) انظر تفسيرها في الطبري. [.....] (2) انظر تفسير المنار. (3) انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن وابن كثير والبغوي. (4) انظر كتب التفسير السابقة وتفسير القاسمي معها.

بمكة وخلّيتم سبيلي؟ قالوا: نعم. فلما قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له: ربح البيع ربح البيع. ونزلت الآية» «1» . وهنا من يروي أنها نزلت في المهاجرين الذين تخلوا عن موطنهم وأموالهم في سبيل الله مطلقا «2» . والروايات لم ترد في الصحاح وعلى كل حال فالآيات بسبيل المقارنة بين منافق ومخلص وموقف كل منهما. ومن المحتمل أن يكون حدث حادثان متناقضان من منافق ومخلص من نوع ما ورد في الروايات قبل نزول الآيات فنزلت لتشير إليهما منددة بالأول منوهة بالثاني. وأسلوب الآيات مطلق حيث ينطوي فيها تلقين مستمر المدى بشأن كل من النموذجين اللذين لا ينعدمان في كل ظرف ومكان. ووصف المنافق قوي نافذ، وفيه جملة لاذعة، فأمثال هذا الشخص يكون عادة أشدّ الناس ضررا أو فسادا في المجتمع الذي يكون فيه سواء أمن ناحية السلوك العام أم السلوك الخاص. ولقد ذكر رشيد رضا أن بعضهم أوّل جملة وَإِذا تَوَلَّى بمعنى الولاية والحكم. وحتى لو لم يكن هذا التأويل هو المقصود فإن الآيات بإطلاقها تتحمل أن تكون الصورة التي وصفتها في فئات مختلفة من الناس من حكام وزعماء وعلماء وأفراد على اختلافهم ومشاغلهم. ويكون التنديد والإنذار الشديدين فيها والتلقين باجتناب الصفات التي وصف بها متفاوتا في الشدة حسب تفاوت المتصفين بالصفات والقدرة على الكيد والضرر والفساد. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا عن عائشة ورد في التاج برواية الشيخين والترمذي جاء فيه: «قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إنّ أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم» «3» . وفي الحديث تنديد سيق بصفة اللدد والخصومة وإن كان مدى الجملة

_ (1) المصدر السابق نفسه. (2) المصدر السابق نفسه. (3) التاج ج 5 ص 41.

[سورة البقرة (2) : الآيات 208 إلى 209]

في الآية أوسع وأشد نكاية من حيث إن الموصوف بها يتظاهر بحسن النية والصلاح والرغبة في الخير والإصلاح ويجتهد في توكيد ذلك بتزويقه الكلام وزلاقة اللسان والحلف بالله في حين يكون فاسد الطوية شرير القصد لا يألو جهدا في الكيد والفساد والمكر إذا ما واتته الفرصة. والصورة في الآيات أشد نكاية وضررا من صورة المنافق العادي الذي وصف في أحاديث نبوية عديدة منها حديث رواه الأربعة عن ابن عمر جاء فيه: «إذا حدّث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر» «1» فيما هو المتبادر، والله أعلم. [سورة البقرة (2) : الآيات 208 الى 209] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) . (1) السلم: يصح في سينها الفتح والكسر والكسر أشهر. ويصح في معناها الصلح والسلام أو الإسلام لله وهي هنا بالمعنى الثاني على رأي جمهور المفسرين. في الآيتين: 1- دعوة للمؤمنين للاستمرار على الإسلام الذي دخلوا فيه وإسلام النفس لله إسلاما تاما والطاعة لجميع أوامره. 2- وتحذير لهم من اتباع الشيطان والسير في ما يزينه وتنبيه إلى أنه عدو شديد العداء لهم لا يمكن أن يوسوس إلا بما فيه إثمهم وضررهم. 3- وإنذار لهم في حالة انحرافهم عن طريق الحق بعد ما جاءتهم آيات الله وبيناته واضحة جليّة. فإن الله عزيز قادر على التنكيل بالمنحرفين حكيم لا يأمر ولا يفعل إلا ما فيه الحكمة والصواب.

_ (1) المصدر السابق نفسه.

تعليق على الآية يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة والآية التالية لها

تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً والآية التالية لها وقد تعددت الروايات في نزولهما «1» . منها أنهما نزلتا في مؤمني اليهود الذين آمنوا بالنبي من جهة وظلوا متمسكين بأحكام التوراة وتلاوته من جهة. ومنها أنهما أنزلتا في المنافقين الذين كانوا يتظاهرون بالإسلام وقلوبهم غير مؤمنة ومنها أنهما نزلتا في بعض المسلمين المتهاونين في أحكام الإسلام وواجباته. وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الأحاديث المعتبرة، وروح الآيتين وفحواهما يلهمان أنهما في صدد شيء من قبيل ما جاء في الرواية الثالثة. ولعل هذا متصل بما احتوته الآيات السابقة من وصف موقف المنافق والمخلص. وقد أريد بهما توكيد وجوب الإخلاص لله وحده. وعدم اتباع وساوس الشيطان التي لا يتبعها إلا المنافقون المفسدون. وإذا صحّ هذا كما نرجو فتكون الآيتان معقبتين على الآيات السابقة ليكون فيهما هتاف للمسلمين المتهاونين، ونرجح أنهما لم تنزلا لحدتهما وأنهما استمرار للسياق وجزء منه والله أعلم. ومهما يكن من ظرف نزول الآيتين فإنهما انطوتا على تلقين جليل مستمر المدى ودعوة قوية دائمة للمسلمين بوجوب إسلام النفس لله في جميع أمورهم والإخلاص له وعدم الانحراف عن هذه الجادة المستقيمة وعدم الاندماج في المكائد والدسائس الباعثة على القلق والاضطراب والتفكك بين المسلمين جماعة وأفرادا وفي كل ظرف ومكان، وكون ذلك وحده هو الطريق القويم المؤدي إلى النجاة.

_ (1) انظر تفسيرهما في تفسير الخازن والبغوي وابن كثير.

[سورة البقرة (2) : الآيات 210 إلى 211]

[سورة البقرة (2) : الآيات 210 الى 211] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211) . (1) ظلل: جمع ظلة وظلال والمعنى في قطع من الغمام. (2) الغمام: السحاب الأبيض الخفيف. (3) نعمة الله: كناية عن هدى الله وآياته. في الآيتين: 1- تساؤل استنكاري وتقريعي عما إذا كان الذين هم موضوع الكلام ينتظرون نزول الله والملائكة في قطع من الغمام ليخاطبوهم مباشرة. 2- وإنذار لهم بأن وقوع ذلك إيذان بقضاء الله وعذابه عليهم على ما جرت عادة الله الذي ترجع إليه الأمور أولا وآخرا. 3- وأمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بسؤال بني إسرائيل في معرض الاستشهاد عما أتاهم الله من آيات ودلائل واضحة كثيرة. 4- وإنذار لمن يبدل نعمة الله المتمثلة في آياته وبياناته ومقاصدها بعد ما جاءته واضحة فإن الله شديد العقاب ينتقم بمن يقدم على هذا الإثم العظيم. ولم نطلع على رواية في نزول هاتين الآيتين، والذي يتبادر لنا أن الضمير في يَنْظُرُونَ راجع إلى الذين يترددون وينحرفون ويزلون عن الإسلام لله والطاعة التامة له والذين وجهت الآيتان السابقتان إليهم الإنذار. وعلى هذا فيمكن أن يقال إن الآيتين جاءتا معقتبين أيضا على الآيتين السابقتين واستمرارا لهما. ولما كنا خمنا صلة الآيتين السابقتين بما قبلهما أيضا فتكون هاتان الآيتان جزءا من السلسلة أو الفصل الجديد الذي بدأ بالآية [204] .

ومع أن أسلوب السؤال هو تقريعي أكثر منه تقريريا لطلب واقع نزول الله والملائكة فإن طلبا مثل هذا قد وقع على سبيل التعجيز من كفار قريش على ما حكته آية سورة الفرقان هذه: وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) كما أن طلب استنزال الملائكة ليؤيدوا النبي قد تكرر من أولئك الكفار على ما حكته آيات كثيرة مرت في سور عديدة «1» . ولعل استشهاد بني إسرائيل في هذا الموقف متصل بقصد التذكير بحادث جرى لآبائهم وحكته آية البقرة [55] حيث قال لموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة. ولعل هذا الاستشهاد ينطوي كذلك على التذكير بما كان من بني إسرائيل من تحريف وتبديل لآيات الله وتنكيل الله بهم على ذلك مما حكته آيات عديدة في سورة البقرة وغيرها. وليس من المستبعد أن يكون لليهود يد في موقف التردد وعدم التصديق بجميع ما بلغه النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي بدا من بعض المؤمنين أو المتظاهرين بالإيمان أو عدم الإخلاص التام لله. ويد كذلك في وسوسة طلب المعجزات من النبي صلّى الله عليه وسلّم من مثل نزول الله والملائكة في الغمام بقصد التشكيك والتعطيل فاقتضت حكمة التنزيل طلب الاستشهاد بهم بأسلوب ينطوي فيه التذكير بما وقع لآبائهم من قبل وربما الإنذار لهم أيضا. ومع ما يمكن أن يكون للآيتين من خصوصية زمنية وموضوعية فإن فيهما تلقينا مستمر المدى بتقبيح مواقف المكابرة والتمحل والتعجيز والانحراف عن جادة الحق الواضحة التي بينتها وهدت إليها آيات الله. ولقد روى الطبري عن بعض أهل التأويل أن الآيات في صدد يوم القيامة ومشاهدها وليست الروايات وثيقة. وفحوى الآيات وصلتها بأسبقها أسلوبا وموضوعا يحمل على التوقف فيها ويجعل ما شرحناه هو الأكثر وجاهة وورودا والله أعلم.

_ (1) انظر مثلا آيات سور الأنعام [8] والحجر [7] وهود [17] والفرقان [7] والإسراء [92] .

[سورة البقرة (2) : آية 212]

[سورة البقرة (2) : آية 212] زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212) . تشير الآية إلى استغراق الكفار في الحياة الدنيا واغترارهم بما تيسر لهم من أسباب اليسر والنعيم فيها وما ساقهم هذا إليه من السخرية بالمؤمنين وتنقصهم لهم. ثم تقرر أن المتقين من المؤمنين سوف يكونون فوقهم يوم القيامة مكرمين عند الله الذي يرزق من يشاء بغير حساب. وقد روى المفسرون «1» أن الآية نزلت في بعض رؤساء قريش الذين بسطت لهم الدنيا وكانوا يسخرون من فقراء المؤمنين ويقولون لو كان هؤلاء من رجال الله لبسط لهم الرزق. كما رووا أنها نزلت في بعض رؤساء المنافقين أو رؤساء اليهود في المقصد نفسه، وليس شيء من ذلك واردا في كتب الأحاديث المعتبرة. والذي يتبادر لنا أن الآية هي أيضا استمرار للآيات السابقة ولم تنزل كآية مستقلة. فالكفار والمنافقون والمنحرفون عن أوامر الله والمبدلون لآياته ونعمته إنما يفعلون ما ذكرته الآية بوساوس الشيطان وتزيينه من جهة واغترارا بما تيسر لهم من وسائل القوة والاستمتاع بالدنيا من جهة أخرى. وليس من مانع أن تكون قصدت زعماء كفار قريش أو زعماء كفار اليهود أو زعماء المنافقين الكافرين بقلوبهم لأن صدور ذلك من كل منهم محتمل. وتعبير وَالَّذِينَ اتَّقَوْا قوي الدلالة في مقامه، ولا سيما أن الآيات السابقة تنعى على بعض الذين آمنوا أو تظاهروا بالإسلام ترددهم وعدم إسلامهم النفس لله إسلاما صادقا فليس كل من يقول آمنّا يستحقون الحظوة عند الله وإنما الذين اتقوا منهم أي الذين أخلصوا كل الإخلاص وسلّموا أمرهم وأنفسهم لله كل التسليم ولم يترددوا ولم يكابروا في اتباع جميع ما أمر الله ونهى، وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى.

_ (1) انظر تفسيرها في تفسير الخازن والطبرسي وابن كثير.

تعليق على جملة والله يرزق من يشاء بغير حساب

ولقد قلنا في الشرح إن الكفار يفعلون ما ذكرته الآية بوساوس الشيطان وهذا مستلهم من النهي الوارد في الآيات السابقة عن اتباع خطوات الشيطان. وقد يصح أن يكون في العبارة القرآنية بسبب بنائها على المجهول تقرير بكون الكفر مما يزين لصاحبه الحياة الدنيا أيضا والله أعلم. تعليق على جملة وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ وهذه الجملة تأتي لأول مرة، وقد تكررت في سور أخرى بعد هذه السورة والمتبادر من مقامها وروحها أنها بسبيل الردّ على تبجح الكفار بما تيسر لهم من سعة الرزق. وتقرير كون ذلك ليس هو مظهر حظوة لهم عند الله وإنما هو مظهر من مظاهر النواميس التي أقام الله المجتمع الإنساني عليها. ولقد تكرر تبجح الكفار بذلك في صور ومناسبات متنوعة فحكته عنهم آيات عديدة في سور سابقة وردته عليهم بأساليب متنوعة على ما مرّ شرحه «1» . [سورة البقرة (2) : آية 213] كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) . (1) أمة واحدة: نوعا واحدا في الدين أو سائرون على طريق واحد فيه أو مفطورون على فطرة واحدة.

_ (1) انظر آيات سورة الفجر [15- 30] وطه [131] وسبأ [35- 37] والمؤمنون [55- 61] وتفسيرها في أجزاء سابقة.

تعليق على آية كان الناس أمة واحدة ...

تعليق على آية كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ... روى المفسرون «1» عن أهل التأويل أن في الفقرة الأولى من الآية محذوفا مقدرا وأن تقدير الجملة هكذا: «كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين ... » وهذا وجيه وفي الجملة جملة لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ حيث تكون الجملة قرينة على صواب التقدير. وفي سورة يونس آية فيها تدعيم لذلك أيضا وهي: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) . وقد رووا عن بعض أهل التأويل أن جملة كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً أنها بمعنى كان الناس كفارا أو على ضلال. فبعث الله النبيين مبشّرين ومنذرين. كما رووا عن بعض آخر أنها بمعنى كان الناس أمة واحدة على فطرة التوحيد التي فطرهم الله عليها فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشّرين ومنذرين. وروح الآية مع ملاحظة مقام جملة: لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فيها تجعل القول الثاني أكثر وجاهة. وقد يدعم ذلك آية سورة الروم هذه: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) . وعلى ضوء هذه الأقوال الوجيهة فإن الآية في صدد تقرير أن الناس كانوا قبل بعثة النبيين أمة واحدة على الفطرة التي فطر الله الناس عليها من الإيمان به وحده ثم اختلفوا وتناقضوا فبعث الله النبيين إليهم داعين إلى الحقّ والهدى وأنزل عليهم الكتب التي احتوت بيان الطريق الحقّ الواضح الذي فيه حل لما طرأ بينهم من خلاف ونزاع على ذلك، وأنه كان من الذين جاءتهم كتب الله وبيناته من اختلفوا في تأويل ما جاءهم بغيا وعدوانا وانحرافا عن طريق الحقّ والصواب وانسياقا وراء المآرب والشهوات. وأن الله قد هدى الذين حسنت نياتهم وصفت قلوبهم وأسلموا

_ (1) انظر الطبري والبغوي والخازن والطبرسي.

إليه وآمنوا بما جاءهم منه من دون عناد ولا بغي إلى الحق الذي اختلف فيه أولئك المنحرفون الباغون. وذلك نعمة ورحمة من الله الذي يهدي من يشاء إلى الصراط المستقيم. ولم نطلع على رواية في سبب نزول الآية ويتبادر لنا أنها متصلة بالآيات السابقة واستمرار لها وتعقيب عليها. وأنها في صدد التذكير بما كان من أمر اختلاف الأمم غير الأمة الإسلامية فيما جاءها من كتب الله والتنويه بما كان من هداية الله للذين آمنوا بالرسالة المحمدية إلى الحق الذي اختلفوا فيه، وتحذير لهؤلاء في الوقت نفسه من الوقوع فيما وقعت فيه الأمم السابقة المختلفة في مناسبة ذكر ما كان من تردي بعضهم وانحرافه وعدم إسلامه وإخلاصه التامين مما انطوت حكايته أو الإشارة إليه في الآيات السابقة بأسلوب التنديد والإنذار. ومع أن أسلوب الآية تقريري عام لبيان طبيعة البشر وما كان من اختلافهم على الحق ونزاعهم فيه منذ الأزمنة القديمة اندفاعا وراء المآرب والأهواء فالمتبادر أنها في صدد ما وقع فيه اليهود والنصارى بخاصة من نزاع وشقاق وتأويلات خرجوا بها عن دائرة الحقّ والهدى وكتب الله وما احتوته الرسالة المحمدية والقرآن من البيان الواضح للحقّ والهدى الذي يمكن به تمييز الحقّ من الباطل والهدى من الضلال وإرجاع كل شيء إلى نصابه الحقّ، والتنويه بالمؤمنين الذين آمنوا بهما واتبعوا الحقّ والهدى اللذين انطويا فيهما فصاروا بذلك أمة وسطا عدولا. والآية قوية رصينة، فيها تقرير قوي لوحدة الحقّ وعدم تحمله للخلاف والنزاع حينما تحسن النيات وتتحقق الرغبات الصالحة. وحملة على الذين يختلفون فيه- وبخاصة ممن يكونون قد أوتوا علما ومعرفة- اندفاعا وراء الأهواء والمآرب واستكبارا عن الاستجابة إلى الحق واتباعه. وفيها كذلك تنويه بحسني النية صالحي السريرة الذين يرون الحق فيتبعونه ويتمسكون به، وفي هذا ما فيه من التلقين الجليل المستمر المدى. وفيها كذلك إيذان رباني ذو مغزى خطير في صدد

الرسالة المحمدية يتضمن كون الله تعالى قد هدى الذين آمنوا بهذه الرسالة والقرآن إلى الحق الذي اختلف فيه الذين أوتوا الكتاب من قبلهم تتجه للمآرب الباغية التي كانت تغريهم. وبعبارة أخرى فيها تقرير بأن الرسالة المحمدية والقرآن قد جاءا ليقررا الحق والصواب فيما اختلفوا فيه وضابطين لهما. وفيهما حل للمشكلات والتعقيدات والخلافات التي ارتكسوا فيها والتي لم تكن في أصل دين الله وهداه. وأسلوب الآية يوحي بكل طمأنينة ووثوق بما تضمنته من هذه التقريرات. ويوحي للنبي صلّى الله عليه وسلّم الذي أنزلت عليه وللمؤمنين الذين آمنوا به بأنهم على هدى الله وصراطه المستقيم. ولقد جاء مصداق ذلك في آيات عديدة منها آية سورة الفتح هذه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) وما شرحناه في سياق تفسير آيتي يونس [19] والروم [30] المشار إليهما آنفا من ناحية ما له صلة بهذه الآية. ولم نر حاجة إلى إعادته هنا، ويحسن بالقارىء أن يرجع إليه لتتم إحاطته بالموضوع. ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآية حديثا برواية البخاري عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يدعو الله إذا قام في الليل يصلي فيقول: «اللهمّ ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما أختلف فيه من الحقّ بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» . وفي الحديث صورة لشدة حرص النبي صلّى الله عليه وسلّم على اتباع الحق والتماسه من الله تعالى بأن يهديه إليه ويثبته عليه. وللمؤمنين أسوة حسنة في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وهناك حديث آخر يورده ابن كثير وقد ورد في التاج برواية الشيخين والنسائي عن أبي هريرة في صدد يوم الجمعة جاء فيه: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب قبلنا، وهذا- أي الجمعة- يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد

[سورة البقرة (2) : آية 214]

غد» «1» . والحديث وإن كان كما قلنا في صدد يوم الجمعة فالمتبادر أنه ليس مما يصح أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم اعتبر أن الحق الذي اختلفوا فيه وهدى الله المؤمنين إليه هو يوم الجمعة فقط كما يوهم الحديث. وكل ما في الأمر أن هذا من جملة ذلك والله أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 214] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) . جمهور المفسرين على أن حرف (أم) هو في مقام السؤال وروح الآية يلهم صحة ذلك، ليكون والحالة هذه في الآية سؤال استنكاري موجّه للمؤمنين عما إذا كانوا يظنون أنهم قد استحقوا الجنة بمجرد إسلامهم دون أن يثبتوا على ما سوف يصابون بمثل ما أصاب المؤمنين من قبلهم من المكاره والشدائد والأخطار التي هزتهم هزا قويا وآذتهم أذى كبيرا وجعلتهم يلجأون إلى الله هم ورسلهم متسائلين متى يأتيهم نصره. وتنبيه تطميني بأن نصر الله قريب. ومن المفسرين من جعل التنبيه جوابا ربانيا للذين تساءلوا عن نصر الله من الأمم السابقة. ومن المفسرين من جعله تطمينا للمؤمنين الذين وجه إليهم السؤال. ومن المفسرين من جعله جوابا وتطمينا ربانيا مطلقا في صدد الحالة التي احتوت الآية وصفها، وكل ذلك محتمل ووجيه. تعليق على الآية أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ... وقد روى المفسرون في نزول الآية روايات «2» ، منها أنها نزلت في مناسبة

_ (1) التاج ج 1 ص 245. (2) انظر تفسيرها في تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير. [.....]

ظروف زحف قريش وأحزابهم على المدينة مما عرف في تاريخ السيرة بوقعة الخندق حيث اشتد كرب المسلمين وزلزلوا زلزالا شديدا على ما ذكرته آيات سورة الأحزاب هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً (11) . ومنها أنها نزلت في مناسبة المصاب الذي أصيب به المسلمون في وقعة أحد مما احتوى تفصيله سورة آل عمران. ومنها أنها نزلت بمناسبة ما نال المهاجرين من شدة وحرمان. والروايتان الأوليان بعيدتان عن ظروف نزول هذه الآية وترتيبها في سورة البقرة ولا سيما أن قصة وقعتي أحد والخندق قد وردت في سورتي آل عمران والأحزاب، والرواية الثالثة مناسبة لظروف نزول الآية أكثر وننبه على أنه ليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الأحاديث المعتبرة. ولقد ورد لبالنا احتمالات أخرى في ظرف وسبب نزول الآية مستلهمة من السياق. منها احتمال أن تكون متصلة بسلسلة الآيات السابقة فتكون بمثابة تعقيب وتنبيه وحثّ للمؤمنين على الثبات والتمسك بما جاءهم والدفاع عنه مهما أوذوا في سبيله وإعلامهم بأن رضاء الله لن ينال إلّا بالجهد والجد والصبر والإسلام التام له. ومنها احتمال صلتها بما صار يقع من المهاجرين من شهداء في السرايا التي كان يسيرها النبي صلّى الله عليه وسلّم والغزوات التي كان يقودها في السنة الأولى والثانية من الهجرة وقبل وقعة بدر. وقد أشرنا إلى ذلك في سياق تفسير الآيات [152- 156] من هذه السورة التي نبّه فيها المسلمون إلى أنهم سيبتلون بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، وحثّوا فيها على الصبر. وبعد قليل تأتي آيات فيها إشارة إلى قتال وقع بين المهاجرين والمشركين مما قد يدعم ذلك. وفي حال صحة الاحتمالين أو صحة الرواية الثالثة تكون الآية فصلا جديدا فيه تمهيد لما يأتي بعده. ويكون وضعها في مقامها لمناسبة ما احتوته

الآيات السابقة من خطاب للمسلمين، أو لأنها نزلت بعدها. ومهما يكن من أمر ففي الآية إعلان للمؤمنين بما سوف يقع عليهم من الشدة. ودعوة لهم إلى توطين النفس على الصبر والتحمل. وتنبيه على أن هذا كان من شأن من قبلهم من المؤمنين وأنبيائهم. وبشرى بنصر الله في النهاية. وتقرير بأن هذا النصر لن ينال إلّا بالصبر والتضحية. وفي كل هذا تلقينات وعظات نفسية جليلة مستمرة المدى، ومنبع لا ينضب يمد النفس المؤمنة بالقوة المعنوية. وقد تكرر هذا في مقامات عديدة، ومنه ما مرّ في سور سابقة منها آيات سورة العنكبوت [1- 3] . ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا ورد في التاج برواية البخاري وأبي داود عن خبّاب قال: «أتينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو متوسّد بردة في ظلّ الكعبة فشكونا إليه وقلنا ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فجلس محمرّا وجهه فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه. ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه. والله ليتمّنّ الله هذا الأمر حتّى يسير الراكب ما بين صنعاء وحضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنّكم تعجلون» «1» . والحديث مكي كما يستفاد من مطلعه. وفيه مظهر رائع من قوة إيمان الرسول بما هو عليه من الحق وبنصر الله إياه في عهد مكة برغم ما كان يحدق به وبأصحابه من أخطار ويقاسونه من شدة. وينطوي فيه ما ينطوي في الآية من تنبيه وتطمين ومعالجة روحية، وفيه بشرى قد تحققت بنصر الله وتمام أمر الله فكان ذلك معجزة نبوية أو مصداقا لنبؤة النبي صلّى الله عليه وسلّم الصادقة. والآية التي نحن في صددها مدنية، والمتبادر أنها نزلت في ظرف مماثل للشعور بالشدة الذي كان المؤمنون يشعرون به في مكة حيث اقتضت ذلك حكمة التنزيل للتطمين والبشرى.

_ (1) التاج ج 4 ص 54.

[سورة البقرة (2) : آية 215]

[سورة البقرة (2) : آية 215] يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) . في الآية حكاية لسؤال أورد على النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الوجوه التي يحسن الإنفاق فيها وأمر له بالإجابة بأن ما يمكنهم أن ينفقوه فلينفقوه على الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وتنبيه إلى أن الله يعلم كل خير يفعلونه. وقد روى بعض المفسرين «1» أن الآية نزلت في رجل طاعن في السن اسمه عمر بن الجموح كان ذا مال كثير سأل رسول الله بماذا يتصدق وعلى من؟ والرواية لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة. والآية على كل حال فصل جديد يحتوي سؤالا وجوابا تعليميين مما هو كثير في سورة البقرة بخاصة والسور المدنية بعامة. وسمة التشريع بارزة عليها ومن المحتمل أن تكون وضعت في ترتيبها لأنها نزلت بعد سابقتها أو للمماثلة الخطابية والتشريعية بينها وبين سلسلة الآيات السابقة. ولقد روى المفسرون «2» عن بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم في مدى الآيات بعض الروايات منها أن الآية في صدد النفقات التطوعية، ومنها أنها نزلت قبل فرض الزكاة ثم نسخت بالزكاة. وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الأحاديث المعتبرة ولقد كانت الزكاة ممارسة كفرض ملازم للصلاة في العهد المكي على ما استلهمناه وذكرناه في تعليقنا على الزكاة في تفسير سورة المزمل حيث يجعل هذا القول الثاني محل توقف ويجعل القول الأول هو الأوجه. وفي السور المكية آيات كثيرة حثّت على التصدق على المساكين وأبناء السبيل واليتامى إلى جانب الآيات التي تنوّه بإيتاء الزكاة وتحثّ عليها وهذا يدعم القول الأول أيضا. ولقد مرّ في هذه السورة آيات فيها أمر رباني بالوصية للوالدين والأقربين وفي هذه الآية حثّ على الإنفاق عليهم في حياتهم أيضا. حيث يسوغ القول إن بعض

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبرسي والخازن. (2) انظر تفسير الآيات في الطبرسي والخازن.

[سورة البقرة (2) : آية 216]

المسلمين كانوا يقصرون في واجبهم نحو آبائهم والمحتاجين من أقاربهم وغيرهم فاقتضت الحكمة إيجاب الإنفاق عليهم في معرض الجواب على السؤال. توكيدا للحثّ الرباني المتكرر. وإيجاب الإنفاق على الوالدين والأقربين يأتي لأول مرة، والأسلوب التعليمي يجعل ذلك مستمر المدى شاملا لكل وقت بطبيعة الحال. والمتبادر أن كلمة وَالْأَقْرَبِينَ أوسع من الزوجات والأولاد. بحيث يقال إن الآية حثت على الإنفاق على كل قريب يكون في حاجة من غير الذين تجب على المرء نفقته. ومع أن المتبادر أن الوالدين مما يجب على المرء النفقة عليهم فإن ذكرهما متصل على ما نرجح بمواقف عقوقية كان يقفها بعضهم من والديهم. وهناك أحاديث عديدة منها ما هو صحيح يحسن أن تساق في هذا المقام، منها حديث رواه أبو داود جاء فيه: «قيل يا رسول الله من أبرّ؟ قال: أمّك وأباك وأختك وأخاك ومولاك الذي يلي ذلك، حقّ واجب ورحم موصولة» «1» . وحديث رواه الترمذي وأحمد والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «تعلّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإنّ صلة الرحم محبّة في الأهل مثراة في المال منسأة في الأثر» «2» . [سورة البقرة (2) : آية 216] كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) . تعليق على آية كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ... إلخ عبارة الآية واضحة، ولم نطلع على رواية في سبب نزولها وهي كما يبدو

_ (1) التاج ج 5 ص 8 و 10 ومثراة في المال بمعنى مكثرة له أو مباركة فيه منسأة في الأثر بمعنى مطولة في العمر أو مباركة فيه. (2) التاج ج 5 ص 8 و 10 ومثراة في المال بمعنى مكثرة له أو مباركة فيه منسأة في الأثر بمعنى مطولة في العمر أو مباركة فيه.

فصل تشريعي جديد. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآية السابقة فوضعت في ترتيبها أو أنها وضعت في هذا الترتيب للمماثلة الخطابية والتشريعية والآيتان التاليتان لهذه الآية نزلتا على ما يفيده فحواهما وتدعمه الروايات في مناسبة قتال بين بعض المسلمين والمشركين اشتبه أن يكون في الشهر الحرام، وقد رجح الشيخ محمد عبده على ما رواه صاحب تفسير المنار رشيد رضا أن تكون هذه الآية والآيات التالية لها نزلت معا، وهو ترجيح وجيه. ونص الآية صريح في فرض الجهاد على المسلمين، وإذا كانت جاءت بدون حدود وشروط فإن هذا لا يعني أن على المسلمين القتال بدون حدود وشروط. فإن هناك آيات عديدة احتوت ذلك، منها ما مرّ ومنها ما سوف يأتي. وجمهور العلماء على أن الجهاد فرض كفاية إذا قام به البعض كفى، وهذا وجيه ومنسجم مع آيات عديدة أخرى منها آية سورة النساء هذه: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) وآية سورة التوبة هذه: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) . ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن قيام البعض الذي يكفي يجب أن يكون كافيا لحصول المراد من الجهاد وهو دفع العدوان وإرغام العدو وقهره. فإن لم يكن كذلك فلا يجوز لأحد من المسلمين القادرين على القتال أن يتخلّف بحجة أن هناك من يقاتل، ويقع على المتخلّفين في هذه الحالة إثم التقصير في فرض من فروض الإسلام الرئيسية. وأسلوب الآية ينطوي على علاج نفساني قوي وتلقينات جليلة في صدد فرض القتال: فالقتال مما تستثقله النفوس عادة ولكنه ضرورة لا مناص منها في

مثل حدوده وشروطه الإسلامية. وفيه الخير العميم من مختلف النواحي. وورود الآية في عهد مبكر من الهجرة- ونرجح أنها نزلت في السنة الهجرية الأولى استلهاما من الآيات التالية لها- تبرز حكمة هذا العلاج حيث كان المسلمون ما يزالون قلّة كما يظهر لنا على ما اقتضته حكمة التنزيل من إيجاب قتال أعدائهم حتى يوقعوا هيبتهم في قلوبهم ويشعروهم بعزمهم على مقابلة عدوانهم عليهم بالمثل. ولقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الذي يتولى تنظيم القتال وانتداب الناس إليه. وكان هذا شأن خلفائه الراشدين (رضي الله عنهم) حيث يصح القول إن أمر تنظيم القتال وتوقيته واستنفار الناس إليه منوط بولي أمر المسلمين وسلطانهم. ولقد روى الطبري عن عطاء أن الآية نزلت في أصحاب رسول الله فقط، وهو قول عجيب، والجمهور على أنها للمسلمين عامة. وروى عن ابن عباس أنها نسخت حينما قال المسلمون سَمِعْنا وَأَطَعْنا وهو ما حكي عن لسانهم في آخر هذه السورة. وقد فنّد الطبري هذا القول ونرجح أنه منحول لابن عباس فهو أفقه من أن يقول ذلك. ويروي رشيد رضا عن بعض المفسرين دون ذكر اسم ومصدر أن جملة: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ تعني جميع التكاليف التي أمر الله بها، وجملة: وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ تعني جميع ما نهى المسلمون عنه. وقد فنّد هذا القول قائلا إنه ليس من مسلم صادق يكره تنفيذ ما أمر الله ويحب عمل ما نهى عنه والتفنيد في محلّه. والجملتان بسبيل معالجة نفسية على ما شرحناه آنفا والله أعلم. ولقد ورد بعد هذه الآية آيات ثم ورد في سور مدنية أخرى آيات أخرى قوية في الحثّ على القتال في سبيل الله وبيان ما للمجاهدين من ثواب ومنزلة وبشارات ربانية لهم في الدنيا بالإضافة إلى الآخرة ثم في التنديد بمن يتباطأ ويتقاعس ويبطىء عن القتال أو يفرّ منه. وفي تقرير كون الجهاد في سبيل الله مقياسا لإيمان المؤمن المخلص مما سوف تأتي نصوصه وشرحه ومداه في مناسباته في هذه

السورة وغيرها ومما ينطوي فيه ما أسبغته حكمة التنزيل على هذا الركن الإسلامي العظيم من عناية وخطورة. ولقد رويت أحاديث نبوية منها الصحيحة فيها مثل ذلك أيضا منها حديث رواه الشيخان عن أبي هريرة جاء فيه: «تضمّن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهادا في سبيله وإيمانا به أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر وغنيمة. والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم لونه لون دم وريحه ريح مسك. والذي نفس محمد بيده لولا أن يشقّ على المسلمين ما قعدت خلاف سريّة تغزو في سبيل الله أبدا. ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة ويشقّ عليهم أن يتخلّفوا عنّي. والذي نفس محمد بيده لوددت أنّي أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل» ولفظ البخاري لوددت أنّي أقتل في سبيل الله فأحيا ثم أقتل فأحيا ثم أقتل فأحيا ثم أقتل» «1» . وحديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي جاء فيه: «من مات ولم يغز ولم تحدّثه به نفسه مات على شعبة من نفاق» «2» . وهناك حديث رائع متصل بمدى الآية رواه أبو داود عن ثوبان: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قال قائل: ومن قلّة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنّ الله من صدور عدوّكم المهابة منكم، وليقذفنّ الله في قلوبكم الوهن. قال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حبّ الدنيا وكراهية الموت» «3» . وفي كل هذا تساوق بين التلقين القرآني والتلقين النبوي كما هو ظاهر. هذا، وهناك أمر آخر يحسن أن نذكره في صدد فرض القتال على المؤمنين

_ (1) التاج ج 4 ص 292 و 293. (2) المصدر نفسه ص 295. (3) التاج ج 5 ص 295، وفي كتب الحديث أحاديث عديدة أخرى فاكتفينا بما أوردنا.

[سورة البقرة (2) : الآيات 217 إلى 218]

حيث روى الطبراني عن أنس بن مالك قال: «قالت أمّ سليم يا رسول الله اخرج معك إلى الغزو؟ قال: يا أمّ سليم، إنّه لم يكتب على النساء الجهاد. قالت: أداوي الجرحى وأعالج العين وأسقي الماء، قال: نعم إذا» . والحديث ليس من الصحاح ولقد ورد في كتب الأحاديث الصحيحة أحاديث عديدة كما روت روايات السيرة والتاريخ روايات عديدة تذكر أن النساء المسلمات في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم وبعده كن يذهبن مع الرجال فيحملن للمقاتلين الماء والزاد ويداوين الجرحى والمرضى ويحملن أحيانا السلاح ويقاتلن فإذا صح حديث الطبراني فيكون في صدد فرضية القتال واختصاص ذلك بالرجال دون النساء فرضا وتكليفا وليس فيه ما يمنع تطوع المرأة المسلمة في مختلف الأساليب الجهادية وقد كان ذلك فعلا في مختلف أدوار التاريخ الإسلامي في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم وبعده والله أعلم. [سورة البقرة (2) : الآيات 217 الى 218] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) . (1) المسجد الحرام: معطوفة على جملة- وصدّ عن سبيل الله- أي وصدّ عن المسجد الحرام. في الآية الأولى: 1- حكاية لسؤال أورد على النبي صلّى الله عليه وسلّم عما إذا كان يجوز القتال في الشهر الحرام، وأمر بالإجابة بأن القتال فيه خطير وكبير عند الله غير أن الصدّ عن سبيل الله ودعوته والكفر به والصدّ عن المسجد الحرام وإلجاء أهله إلى الخروج منه بالأذى

تعليق على الآية يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه ... إلخ والآية التالية لها

والإعنات هما أكبر عند الله من القتال فيه. كما أن الفتنة أي إجبار المسلمين على ترك دينهم بالقوة والأذى هي أكبر عند الله من القتال فيه وكل هذا كان يقع من الكفار في الشهر الحرام. 2- وتنبيه وجه الخطاب فيه إلى المؤمنين بأن الكفار لن يتوانوا عن قتالهم وإيقاع الأذى عليهم بكل وسيلة وفي كل وقت حتى يردوهم عن دينهم إن استطاعوا. 3- وإنذار لمن يتأثر بهم فيرتدّ عن دينه ويموت كافرا، فأولئك يبطل الله جميع ما عملوه من خير، ويكون مصيرهم الخلود في النار. وفي الآية الثانية إشارة تنويهية إلى الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله، فهؤلاء إنما كانوا يرجون بما فعلوا رحمة الله، وإن الله لمحقق رجاءهم وغافر لما يمكن أن يكون بدر منهم من خطأ لأنه غفور رحيم. تعليق على الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ ... إلخ والآية التالية لها وقد روى المفسرون «1» أن الآية الأولى نزلت جوابا على دعاية تشويشية قام بها كفار مكة بمناسبة قتال وقع بين سرية أرسلها النبي صلّى الله عليه وسلّم بقيادة عبد الله بن جحش لرصد قافلة قرشية فقتلت بعض رجالها وأسرت بعضهم واستولت على العير. وادعى كفار قريش أن الحادث وقع في أول رجب حيث كان القتال محرما في الأشهر الحرم التي كان رجب منها وعظيم الخطورة عند العرب فاستغل أولئك الكفار ذلك وصاروا يتساءلون تساءل المستنكر العائب عن الأمر ويقولون إن محمدا وأصحابه يستحلون الشهر الحرام حتى لقد عاتب النبي صلّى الله عليه وسلّم رجال سريته

_ (1) انظر تفسيرها في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.

وقال لهم ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام فاضطربوا وخافوا فأنزل الله الآية التي فيها الحكم والفرج. والرواية ذكرت في أقدم كتب السيرة «1» وفي جميع كتب التفسير والتاريخ القديمة وهي متسقة مع فحوى الآية وروحها. ولقد روى الطبري وغيره أنه لما نزلت الآية الأولى طمع المهاجرون في الأجر فقالوا يا رسول الله أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين؟ فأنزل الله الآية الثانية. وهذه الرواية لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة. ولسنا نراها متسقة مع فحوى الآية ومقامها ويتبادر لنا أنها نزلت مع الأولى كتعقيب عليها من جهة ودفاع عن رجال السرية من جهة أخرى. فهم إنما أقدموا على ما أقدموا عليه جهادا في سبيل الله ورجاء رحمته ورضوانه. فهم بالثناء والتنويه أحقّ من الملامة والتثريب. ويظهر أن بعض المسلمين قد تأثروا بدعاية الكفار فاقتضت حكمة التنزيل أن تتضمن الآية الأولى ما تضمنته من تنبيه وإنذار بالإضافة إلى ما تضمنته الآية الثانية من ثناء على رجال السرية وتنويه بهم، واتصال الآيتين موضوعيا بالآية السابقة ظاهر. وهو ما جعل الشيخ محمد عبده يرجح نزول الآيات الثلاث معا على ما ذكرناه قبل قليل. ولقد انطوى في الجواب الذي احتوته الآية الثانية حملة شديدة على كفار قريش ورد لاذع محكم على ما أثاروه من دعاية. فهم أقل الناس حقا في اللوم والانتقاد. وتصرفاتهم الأثيمة مع المسلمين حينما كانوا في منطقة المسجد الحرام وفي أثناء الأشهر الحرم من أذى وكفر وصدّ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، وفتنة المسلمين أشدّ وأكبر من القتال في الشهر الحرام الذي يثيرون بسببه الدعاية ويوجهون العيب والانتقاد إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه.

_ (1) انظر طبقات ابن سعد ج 3 ص 48 وابن هشام ج 2 ص 238- 240.

والآية الثانية تلهم أن هذه السرية مؤلفة من المهاجرين فقط، وهو متسق مع ما ورد من روايات عديدة عن جميع السرايا التي سيرها النبي صلّى الله عليه وسلّم والغزوات التي قادها قبل وقعة بدر. وهذه السرية كانت آخرها قبل هذه الوقعة «1» . فالأنصار اشتركوا لأول مرة في القتال في وقعة بدر وبعد فرض القتال على المسلمين كافة بأسلوب مطلق صريح. أما قبل ذلك فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكلفهم على اعتبار أن الاتفاق بينه وبينهم هو على الدفاع عنه في بلدهم، وأن العداء المبرر للقتال إنما كان بين المهاجرين وقومهم القرشيين. هذا، وفي الآيتين عظات وتلقينات أخلاقية واجتماعية مستمرة المدى مع ما لهما من خصوصية زمنية: 1- فالدفاع عن حرية الدعوة وردّ البغي والعدوان وقتال البغاة المعتدين في كل ظرف وزمن واجب ومبرر، وبخاصة إذا كان هؤلاء شديدي الأذى والخصومة. 2- ومن الناس من يتناسى تصرفاته الآثمة الشديدة الأذى والضرر ويندفع في التهويش على الآخرين لأخطاء أخف من جرائمهم فلا ينبغي أن يؤخذ الناس بذلك ويتغافلوا عن سيئات المجرمين وآثامهم. 3- ومن الناس من يتمسك بالأشكال ويحاول تغليبها على اللباب والجوهر مع أن الواجب الاهتمام بهذه دون تلك. 4- والمعول هو على مقاصد الناس ونياتهم، فإذا بدا من أناس عمل خالفوا فيه العرف والعادات عن حسن نية ورغبة في الخير وأداء الواجب فينبغي أن لا يلاموا على تلك المخالفة بل لهم حق الثناء والتسامح. ويضاف إلى هذه العظات والتلقينات ما في الآية الثانية من تنويه مطلق بالذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله رجاء رحمته، حيث ينطوي في ذلك أيضا تلقين مستمر المدى لجميع المسلمين في كل مكان وزمان بالتأسي برسول الله صلّى الله عليه وسلّم

_ (1) انظر طبقات ابن سعد ج 3 ص 43- 48.

حكم المرتد عن دينه من المسلمين

وأصحابه (رضي الله عنهم) الذين آمنوا وهجروا وطنهم وتخلّوا عن أموالهم ومساكنهم وعشائرهم وذوي أرحامهم في سبيل الله ودينه رجاء رحمته دون أن يكون لهم من وراء ذلك مأرب خاص إلا نصرة الله وإعلاء كلمته. حكم المرتد عن دينه من المسلمين وبمناسبة ما جاء في الآية الأولى من الآيتين من إنذار للذين يرتدون عن دينهم من المؤمنين ويموتون كفارا نقول إن عقوبة هؤلاء لم تبق في الشرع الإسلامي أخروية وحسب فقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم تشريع دنيوي واجب الاتباع لأنه مما سكت عنه القرآن من ذلك حديث رواه الخمسة عن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيّب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة» «1» . وحديث رواه البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من بدّل دينه فاقتلوه» «2» . والجمهور على وجوب استتابة المرتدّ وأنه لا يقتل إلّا إذا أبى التوبة وأصرّ على الارتداد وهذا هو الحق والصواب والمتسق مع تلقينات القرآن في صدد التوبة على ما شرحناه في تعليقنا عليها في سورة البروج. ولقد ذهب الإمام مالك إلى أن الزنادقة لا يستتابون لأنهم إذا تابوا كانوا كاذبين في توبتهم «3» . ونحن نرى الاستتابة واجبة بالنسبة للجميع فالله تعالى هو وحده عالم ما في القلوب ولا يجوز إزهاق النفس بالتخمين مهما كان محتملا. وليس من سبيل على من يقول إني مسلم وإني تائب بقطع النظر عمّا في قلبه على ما جاء في آية سورة النساء [94] التي سوف يأتي شرحها بعد. ولقد روى الإمام مالك عن عبد القاري أنه قال: «قدم على عمر بن الخطاب

_ (1) التاج ج 1 ص 17. (2) التاج ج 3 ص 17. (3) الموطأ ج 2 ص 165. [.....]

[سورة البقرة (2) : الآيات 219 إلى 220]

رجل من قبل أبي موسى الأشعري فسأله عن الناس فأخبره ثم قال له عمر: هل كان فيكم من مغربة خبر؟ قال: نعم، رجل كفر بعد إسلامه. قال: فما فعلتم به؟ قال: قربناه فضربنا عنقه. قال عمر: هلا حبستموه ثلاثا وأطعمتموه كلّ يوم رغيفا ثم استتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله؟ ثم قال: اللهمّ إني لم أحضر، ولم آمر ولم أرض إذ بلغني» «1» . [سورة البقرة (2) : الآيات 219 الى 220] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) . (1) الخمر: الجمهور على أن الخمر ليس اسم شراب معين، وإنما هو اسم عام للمسكر على اعتبار أنه يخمر العقل أي يغطي عليه. ومن التعاريف أن كل ما غلا واشتد وقذف الزبد من عصير الفواكه والثمار هو خمر. (2) الميسر: هو القمار، وقيل إنه من (اليسر) لأنه أخذ مال الآخر بيسر وسهولة كما قيل إنه من (اليسار) أي صار موسرا. وقيل إنه فعل خاص أي يسر بمعنى قمر. والياسر هو الذي كان يجزىء لحم الجزر التي كانت تذبح للقمار والمراهنة. والجمهور على أن الميسر كناية عن كل أنواع القمار وأنه يدخل فيه المراهنات. (3) العفو: أوجه الأقوال أن الكلمة هنا بمعنى الفضل الزائد عن الحاجة، وهو ما عليه الجمهور. (4) أعنتكم: أرهقكم أو شقّ عليكم.

_ (1) الموطأ ج 2 ص 165 وأبو موسى كان قاضيا من قبل عمر على البصرة.

تعليقات على الآية يسئلونك عن الخمر والميسر ... والآية التالية لها وتلقيناتها في صدد اليتامى والصدقات

في الآيتين: حكاية لأسئلة ثلاثة أوردت على النبي صلّى الله عليه وسلّم وأجوبة عليها: 1- فقد سئل عن حكم الخمر والميسر فأمر بالإجابة بأن فيهما إثما كبيرا وفيهما كذلك منافع للناس ولكن إثمهما أكبر من نفعهما. 2- وسئل عما يتصدق به المتصدقون فأمر بالإجابة بأن عليهم التصدق مما يكون فاضلا وزائدا عن حاجتهم. 3- وسئل عما ينبغي أن يسلك مع اليتامى فأمر بالإجابة بأن الواجب هو عمل ما هو صالح ومصلح لهم، وأن ليس من بأس في مخالطتهم فهم إخوان للسائلين. ولقد انتهت الآية الأولى بالتنبيه إلى أن الله إنما يبين آياته للمسلمين على أمل أن يتفكروا فيما ينجيهم ويسعدهم ويهديهم في الدنيا والآخرة. وانتهت الآية الثانية بالتنبيه إلى أن الله يعلم نيات الناس وسرائرهم ويعلم المفسد من المصلح منهم. وأنه توخّى التيسير عليهم ولو شاء لأوجب عليهم ما فيه إعنات وإرهاق لهم، فهو العزيز القادر والحكيم الذي يأمر بما فيه الصواب والحكمة. ومن المحتمل أن يكون التنبيه الذي احتوته الآية الأولى في صدد ما جاء فيها والذي احتوته الآية الثانية في صدد ما جاء فيها كما أن من المحتمل أن يكون التنبيهان في صدد ما جاء في الآيتين من أجوبة. تعليقات على الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ... والآية التالية لها وتلقيناتها في صدد اليتامى والصدقات والآيتان فصل تشريعي جديد، وقد وضعتا بعد الآيات السابقة إما لأنهما نزلتا بعدها أو للمماثلة التشريعية على ما هو المتبادر. وقد روى المفسرون «1» أن السؤال الأول كان من عمر بن الخطاب حيث

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.

سأل الله أن ينزل في الخمر بيانا شافيا كما روي أن بعض المسلمين جاءوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا له: أفتنا في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل سالبة للمال. وأن السؤال الثاني كان من معاذ بن جبل ورفيق له أتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالا: إن لنا أرقاء وأهلين فعلى من ننفق؟ وأن السؤال الثالث كان من جماعة كانوا أوصياء على بعض اليتامى فلما نزل وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ الأنعام: [152] في سورتي الإسراء والأنعام انطلق كل من عنده يتيم فعزل ماله عن ماله، ثم شق عليهم الأمر فسألوا رسول الله فأنزل الله الآيات. وفي رواية أن هذا كان حينما نزلت آيات سورة النساء [2- 11] التي تنهى عن أكل أموال اليتامى وتبديل طيبها بالخبيث وتنذر من يفعل ذلك وتأمر بحفظها ودفعها لهم. والرواية التي تذكر سؤال عمر فقط هي الواردة في كتب الأحاديث المعتبرة دون غيرها ويلحظ أنها في صدد الخمر مع أن في الآيات مسائل أخرى. وآيات النساء نزلت بعد هذه الآيات، والموضوع ليس محصورا في أموال اليتامى. وعلى كل حال فالمتبادر أن المسائل المذكورة في الآيات مما كان يسأل عنها المسلمون في العهد النبوي فأنزل الله الآيات لتوضيح الأمور وحدة متكاملة. هذا، ولقد قال المفسرون في صدد ما ذكرته الآية الأولى من نفع الخمر والميسر أن نفع الخمر هو ما كان يحدثه من نشوة وما كان يعود على صانعيه وأصحاب الثمار التي يصنع منها. وأن نفع الميسر هو ما كان يعود على الرابح من ربح ... وعلى كل حال فإن أسلوب جواب السؤال الأول يدل على ما كان للخمر والميسر من رسوخ وانتشار في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم وعصره، وما كان لذلك من تأثير في حياة هذه البيئة اقتصاديا واجتماعيا وأن المتبادر أن الإشارة إلى ما لهما من منافع إنما أتت من ذلك أي أنها تقرير للواقع وليست بقصد الإقرار والتبرير. والسؤال والجواب عن الخمر والميسر هما خطوة أولى تبعتها خطوات أخرى في التشديد ثم في التحريم في آيات في سورتي النساء والمائدة على ما سوف نشرحه في مناسبتهما.

ولقد انطوى الجواب هنا على استكراه تعاطيهما حيث ذكر إثمهما أولا ووصف بأنه أكبر ثانيا. وشدد في وصفه فذكر أنه أكبر من نفعهما. وهذا مؤيد لما قلناه آنفا من أن ذكر منافعهما هو إقرار للواقع وليس للتبرير. والمتبادر أن اقتصار الجواب على ذلك في الخطوة الأولى إنما كان بسبب ذلك الواقع حيث اقتضت حكمة التنزيل التدرج في التشديد والتحريم حينما صارت حالة الإسلام والمسلمين تتحمل ذلك. وهناك أحاديث عديدة في صدد الخمر والميسر فيها توضيح وأحكام أجّلنا إيرادها والتعليق عليها إلى تفسير آيات سورة المائدة [91- 92] لأنها أكثر ملاءمة معها. وننتقل الآن إلى السؤال الثاني وجوابه فنقول إن هناك أقوالا عديدة يرويها المفسرون عن أهل التأويل في صدده. منها أن السؤال هو في صدد ما يحسن أن يعطيه المسلمون للنبي صلّى الله عليه وسلّم من صدقاتهم وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر فيها كجواب على سؤالهم بأن يأخذ منهم الفضل الزائد أو ما يستطيعون أن يعطوه قليلا كان أو كثيرا. وفي آية في سورة الأعراف التي سبق تفسيرها جملة تأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن يأخذ العفو. ومن الأقوال المروية مع ذلك أن السؤال هو في صدد ما يحسن أن يتصدق به المسلمون بصورة عامة فأمروا بأن يعطوا ما فضل عن حاجتهم في قول، وما لا يكون فيه إجهاد لأموالهم وأنفسهم في قول. واليسير في قول وأطيب ما عندهم وأفضله في قول. وجميع هذه الأقوال واردة والجملة القرآنية تتحملها. وقد صوب الطبري أنها في صدد الأمر الثاني وأن العفو ما كان زائدا عن الحاجة. والتصويب في محله ومتساوق مع السؤال فيما يتبادر لنا. ويكون في الجواب والحالة هذه توجيه ومغزى عظيمان بعيدا المدى إذ يؤمر المسلم بأن يتصدق بما يكون زائدا عن حاجته لمن هم في حاجة من المسلمين أقارب كانوا أم أباعد. وليس بعد هذا شيء أسمى ولا أقوى في إيجاب التكافل بين المسلمين. وهناك أحاديث عديدة في صدد ذلك منها حديث رواه مسلم عن عبد الله بن جرير في موقف جاء النبي جماعة في حالة سيئة من العوز فدعا المسلمين إلى التصدق قائلا: «ليتصدق امرؤ من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع برّه، من صاع تمره، حتى ولو بشقّ تمرة» . وحديث

[سورة البقرة (2) : آية 221]

رواه الخمسة جاء فيه: «ابدأ بنفسك فتصدّق عليها فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء فلذي قرابتك، فإن فضل شيء فهكذا وهكذا يقول فبين يديك وعن يمينك وعن شمالك» ، وحديث آخر رواه الشيخان عن أبي أمامة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك وإن تمسكه شرّ لك ولا تلام على كفاف وابدأ بمن تعول واليد العليا خير من اليد السفلى» «1» . هذا، ومن المؤولين من أول الجملة بالزكاة المفروضة ومنهم من أولها بالصدقة التطوعية، وقد صوب الطبري القول الثاني إلى جانب الزكاة المفروضة وهو تصويب سديد. وجواب السؤال الثالث جدير بالتنويه من حيث إنه ينطوي على رفع الحرج عن المسلمين في أمر شاق عليهم مع التشديد والإنذار. ففي عدم المخالطة بين اليتامى وأوصيائهم بمعناها الدقيق حرج ومشقة، والله لا يريد ذلك للناس والمطلوب الجوهري هو عمل ما فيه الصلاح والمصلحة لليتامى، وعليهم أن يعلموا أن الله تعالى عليم بنيّاتهم وبمن يريد الإصلاح والفساد منهم، وفي كل هذا تلقينات جليلة مستمرة المدى في شأن اليتامى بخاصة وفي كل شأن آخر بعامة مما تكرر تقريره في آيات كثيرة بأساليب متنوعة. [سورة البقرة (2) : آية 221] وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) . (1) لا تنكحوا: لا تتزوجوا.

_ (1) انظر التاج ج 2 ص 35.

تعليق على الآية ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ...

(2) لا تنكحوا: لا تزوجوا وكلمة النكاح ومشتقاتها في القرآن بمعنى الزواج وليست بمعنى الجماع. في الآية: 1- نهي موجّه للمسلمين عن التزوج بالمشركات وعن تزويج المشركين بناتهم. 2- وتنبيه بأسلوب المقارنة إلى أن الأمة المؤمنة خير وأصلح للمسلم من حرة مشركة مهما كان لها من المزايا والصفات مما يعجبه، وأن العبد المؤمن خير وأصلح من حرّ مشرك مهما كان له من المزايا والصفات مما يعجبها. 3- وتعليل لهذا التفضيل بأن المشركين بأفعالهم وتصرفاتهم إنما هم دعاة للنار فلا يصح الاتصال بهم والتناكح معهم، والله فيما يأمر به وينهى عنه إنما يدعو إلى الجنة والمغفرة ويبين آياته للناس لعلّهم يذكرون ما يجب عليهم اتباعه واجتنابه. تعليق على الآية وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ... الآية فصل تشريعي جديد، وضع بعد الفصول السابقة للمماثلة التشريعية أو لتوالي النزول على ما هو المتبادر. وقد روى المفسرون في نزولها رواية تذكر أنّ واحدا من المسلمين أعجبته مشركة فاستأذن النبي صلّى الله عليه وسلّم بالتزوج منها، وأخرى تذكر أن عبد الله بن رواحة لطم عبدة سوداء له ثم فزع إلى النبي فأخبره فسأله عنها فقال له إنها تصلي وتصوم وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال له هذه مؤمنة فأقسم ليعتقنّها وليتزوجها ففعل فعابه بعضهم فأنزل الله الآية تحبيذا لما فعل. والروايات لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة، وقد يكون ما ورد فيها قد وقع فكان مناسبة لنزول الآية بأسلوبها المطلق لتكون تشريعا عاما. ولقد كان بين مسلمي العرب ومشركيهم أرحام واشجة ومصاهرات قائمة قبل الإسلام وامتد ذلك

إلى ما بعده. حتى لقد بقي إلى ما بعد صلح الحديبية مما انطوى في بعض الآيات إشارات إليه مثل آية سورة الممتحنة [10] وسورة التوبة [23] «1» . وآية الممتحنة صريحة بأنه كان للمهاجرين زوجات كافرات إلى حين نزولها فأمروا بعدم الإمساك بعواصمهن. ولقد روي أن زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقيت في مكة ردحا من الزمن بعد الهجرة في عصمة زوجها أبي العاص الذي لم يكن آمن. وكان من أسرى المشركين في وقعة بدر فأرسلت قلادتها لافتدائه» . حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت وضع حد لذلك بهذه الآية. وإذا كانت هذه الآية نزلت قبل آية الممتحنة وهو ما نرجحه والله أعلم فتكون قد هدفت إلى منع إنشاء زواجات جديدة بين المسلمين والمشركين إلى أن نزلت سورة الممتحنة بعد صلح الحديبية فقررت الآية التي نحن في صددها عدم حلّ المسلمات للمشركين والمشركات للمسلمين وأمرت بفصم عصمة الزواجات القائمة بينهم. ويروي بعض المفسرين «3» عن بعض أهل التأويل أن الآية كانت عند نزولها شاملة لجميع غير المسلمين بما فيهم الكتابيون لأن اعتقاد اليهود ببنوة العزير لله والنصارى ببنوة المسيح وألوهيته يجعلهم داخلين في عداد المشركين. كما يروي بعضهم عن بعض أهل التأويل أن الآية هي في حق مشركي العرب. وأصحاب القول الأول قالوا إن الآية نسخت في حق أهل الكتاب جزئيا بآية سورة المائدة الخامسة التي أحلت للمؤمنين التزوج بالحرائر من الكتابيات والآية تتحمل كلا القولين. ويلحظ أن الآية احتوت تعليلا وحكمة تشريعية، وهذا من أساليب القرآن الهادفة إلى الإقناع والبيان. ومن مدى التعليل أن المشركين يدعون إلى ما يؤدي

_ (1) آية سورة التوبة في صدد عدم تولي الكافرين ولو كانوا أزواجهم وزوجاتهم. وآية سورة الممتحنة صريحة في النهي عن عدم التمسك بعصم الكوافر وعدم حلّ المسلمات للمشركين. (2) انظر سيرة ابن هشام ج 2 ص 296- 304. (3) انظر تفسير الآية في الطبري وابن كثير والطبرسي.

إلى النار من الكفر والفسوق ويسلكون سبيلهما والتزاوج مظنة الإلفة والمودة. وهذا يوجد التوافق في المطالب والمسيرة فصار من الواجب أن لا يتزاوج المسلمون والمشركون حتى لا ينحرف المسلمون وذراريهم إلى سبل غير الله من وثنية وتقاليد وثنية خلقية واجتماعية، والله تعالى أعلم. وهذه المحاذير منتفية في ما اقتضته حكمة التنزيل من نسخ حكم هذه الآية بإحلال تزوج المسلمين من الكتابيات على ما سوف نزيده شرحا في تفسير المائدة. وروح الآية بل وفحواها يفيد أن النهي هو عن التزوج بالمشركات الحرائر وتزويج المشركين بالمسلمات. والمتبادر أن هذا لا يشمل استفراش ملك اليمين من الإماء المشركات ويدعم هذا حديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي سعيد قال: «بعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعثا يوم حنين إلى أوطاس فظهروا عليهم وأصابوا فيهم سبايا فتحرّج بعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم عن غشيانهن من أجل أزواجهم المشركين فأنزل الله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ النساء: [24] أي فهن حلال لكم إذا انقضت عدتهنّ» «1» . وحديث رواه أبو داود والترمذي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يحلّ لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره. ولا يحلّ لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها بحيضة» «2» . وفي تفضيل الأمة المؤمنة على الحرّة المشركة والعبد المؤمن على الحر المشرك تلقين قرآني جليل بما ضمنه الإسلام للأرقاء المؤمنين من رفعة المركز والوجاهة. وهذا يضاف إلى عناية القرآن بتحرير العبيد بمختلف الأساليب والحثّ على الرفق بهم وما ورد من أحاديث نبوية في صدد ذلك مما شرحناه في تعليقنا على موضوع الرقيق في تفسير سورة البلد. ومن الجدير بالتنبيه في هذه المناسبة أن القصد من العبد المؤمن والأمة

_ (1) التاج ج 2 ص 284 و 285. (2) انظر المصدر نفسه.

[سورة البقرة (2) : الآيات 222 إلى 223]

المؤمنة اللذين دخلا الإسلام وهما في حالة الرقّ، والمؤمن والمؤمنة الحران لا يسترقان إنشاء في أي حال. والأسير الكافر إذا أسلم قبل أن يقرر ولي أمر المؤمنين مصيره يصبح حرا. هذا وهناك أحاديث في صدد الزوجين اللذين يسلم أحدهما أو يرتدّ أحدهما أجلنا إيرادها وشرحها إلى تفسير سورة الممتحنة لأنها أكثر ملاءمة. [سورة البقرة (2) : الآيات 222 الى 223] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) . (1) أذى: يمكن أن تكون الكلمة بمعنى عارض مرضي مؤذ، ويمكن أن تكون بمعنى القذارة والنجاسة. (2) حرث لكم: التعبير على وجه المجاز، والقصد منه أن المرأة مزرعة لنسل الرجل. تعليقات على آية وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً ... والآية التالية لها في الآية الأولى: حكاية لسؤال ورد على النبي صلّى الله عليه وسلّم عن حكم حيض النساء، وأمر بالإجابة بأنه أذى وبوجوب اعتزال النساء في أثنائه وعدم قربهن حتى يطهرن. وحينئذ يحل لهم إتيانهن من حيث أمرهم الله وتنويه بالتوابين الذين يتقيدون بأوامر الله والمطهرين الذين يبتعدون عن النجاسات والأقذار ويحبهم. وفي الآية الثانية تقرير موجه للمسلمين بأن نساءهم حرث لهم ولهم أن يأتوا

حرثهم أنى شاءوا. ثم احتوت مواعظ لهم، فعليهم أن يراقبوا الله ويتقوه في جميع أعمالهم وأن يذكروا دائما أنهم ملاقوه وواقفون بين يديه، ثم أمرا للنبي صلّى الله عليه وسلّم بتبشير المؤمنين الصادقين المستجيبين لهذه المواعظ بحسب العواقب. ولقد روى المفسرون أحاديث وأقوالا في نزول الآيتين ومداهما. من ذلك حديث يرويه الترمذي عن أنس قال: «كانت اليهود إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها ولم يجلسوا معها في بيت. فسئل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله الآيات فأمرهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يؤاكلوهنّ ويشاربوهنّ وأن يكونوا معهنّ في البيت وأن يفعلوا كلّ شيء إلّا النكاح. فقالت اليهود: ما يريد محمّد أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه، فجاء عبّاد بن بشر وأسيد بن حضير إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبراه بذلك وقالا: يا رسول الله أفننكحهن في المحيض؟ فتمعّر وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى ظننّا أنه غضب عليهما فاستقبلتهما هدية من لبن فأرسل لهما رسول الله فسقاهما فعلما أنه لم يغضب» «1» . وحديث ثان يرويه الترمذي والبخاري عن جابر قال: «كانت اليهود تقول: من أتى امرأته في قبلها من دبرها كان الولد أحول، فنزلت: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ» «2» . وحديث ثالث يرويه الترمذي عن ابن عباس قال: «جاء عمر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: يا رسول الله هلكت! قال: وما أهلكك؟ قال: حوّلت رحلي الليلة. فلم يردّ عليه رسول الله، فنزلت: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ أقبل وأدبر واتّق الدبر والحيضة» «3» . وهناك روايات لم ترد في كتب الأحاديث منها أن العرب كانوا لا يساكنون الحائض في بيت ولا يأكلون معها في إناء، فسألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله الآية. ومنها أن بعضهم كان يأتي النساء في الحيض من أدبارهن فسألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله الآيات.

_ (1) التاج ج 4 ص 55 وج 1 ص 103 و 104. ويفعل اليهود ذلك لأنهم مأمورون به في شريعتهم فخففه الله ورسوله عن المسلمين. اقرأ سفر الأحبار في أسفار العهد القديم وبخاصة الإصحاح 15. (2) انظر المصدر نفسه. (3) انظر المصدر نفسه.

ومهما يكن من أمر فالنصّ ظاهر بأن أناسا سألوا رسول الله عن المحيض فنزلت الآيات بالإجابة مع بعض التفصيل. ويجوز أن تكون الآيات نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت في ترتيبها للتماثل الظرفي والتشريعي، ويجوز أن تكون وضعت في ترتيبها للتماثل التشريعي ويجوز أن تكون بعض الآيات تليت في سؤال من أحد عن شيء ما مما يتعلق بإتيان النساء في المحيض أو في أدبارهن أو اعتزالهن فظنّ الرواة أنها نزلت على أثر السؤال والله تعالى أعلم. هذا في صدد نزولها، أما في مداها: فأولا: إن المفسرين يروون عن أهل التأويل أن المنهي عنه هو الجماع، والآية قد تفيد ذلك، والحديث المروي عن أنس يفيد ذلك صراحة. وهناك حديث يرويه الطبري عن عائشة جوابا على سؤال عما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضة: «كلّ شيء إلّا الجماع وفي رواية إلّا الفرج» وهناك حديث يرويه الشيخان عن ميمونة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يباشر نساءه فوق الإزار وهنّ حيض» «1» . وثانيا: في جملة حَتَّى يَطْهُرْنَ فقد قرئت الطاء والهاء بالتشديد والفتح. وقرئت الطاء بالتسكين والهاء بالضم، واختلف الفقهاء بحسب ذلك. فمن رجح القراءة الأولى أوجب عدم الجماع حتى ينقطع الحيض وتغتسل الحائض. ومن رجح القراءة الثانية أجاز الجماع عند انقطاع الحيض بعد غسل الفرج فقط. وثالثا: في جملة فَإِذا تَطَهَّرْنَ فاختلف الفقهاء تبعا لاختلافهم في قراءة الجملة السابقة. فمن رجح القراءة الأولى أوجب الاغتسال الشرعي قبل الجماع وبعد انقطاع الدم. ومن رجح القراءة الثانية أجاز الجماع دون اغتسال شرعي. والجملتان تتحملان المذهبين غير أن الذي يتبادر لنا أن المذهب الثاني أكثر اتساقا مع فحوى الآية، فهي تقرر أن المحيض أذى وتأمر بعدم قرب النساء أثناءه فإذا

_ (1) التاج ج 1 ص 104. وهناك أحاديث أخرى في مثل ذلك عن عائشة، والمباشرة هي تماس البشرة بالبشرة والمداعبة البدنية ولو بالذكر دون الجماع.

انقطع الدم انقطع الأذى وزال المانع. ولا يتوقف هذا على الاغتسال الشرعي ويكفي غسل الفرج والله تعالى أعلم. وننبه على أن هناك أحاديث توجب كفارة مالية على من يواقع زوجته وهي حائض منها حديث رواه أصحاب السنن عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في الذي يأتي امرأته وهي حائض فقال: يتصدق بدينار أو نصف دينار. وفي رواية أبي داود: «إذا أصابها في أوّل الدّم فدينار وإذا أصابها في آخره فنصف دينار» «1» . وهناك من أخذ بهذه الأحاديث وهناك من أوجب الالتزام بالنهي القرآني وهو الاعتزال إلى أن يطهرن. والظاهر أن هؤلاء لم يثبت عندهم الأحاديث. وفي الأحاديث إذا صحت معالجة الحالة قد تكون اضطرارية وقد تفيد أن النهي ليس من قبيل التحريم وإنما من قبيل استهداف بيان ما في ذلك من أذى وقذارة، والله تعالى أعلم. ورابعا: في صدد جملة فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ وقد روى الطبري وغيره عن أهل التأويل أقوالا منها أنها بمعنى آتوهن من فروجهن. أو أنها بمعنى آتوهن بعد أن أمركم الله باعتزالهن. وقد يكون التأويل الأول هو الأوجه والله أعلم. وخامسا: في صدد جملة نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ تداولها بعض المؤولين على ما يرويه الطبري وغيره أنها تبيح للرجل إتيان زوجته على أي كيفية وفي أي وقت في الليل والنهار، ومقبلة ومدبرة ومستلقية أو محبية أو على شق أو قاعدة أو قائمة على شرط أن يكون الإيلاج في الفرج وتجنب الدبر. وأولها بعض المؤولين بأنها تبيح للرجل إتيان امرأته من دبرها أو قبلها. وقد روى القول الثاني عن ابن عمر وروى عنه نقيضه أيضا. والجمهور على القول الأول، وحديث ابن عباس عن مراجعة عمر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم صريح بإيجاب اتقاء الدبر. وهناك أحاديث أخرى منها حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أتى حائضا أو امرأة من دبرها أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد» . وحديث

_ (1) التاج ج 1 ص 105.

رواه أصحاب السنن عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ملعون من أتى المرأة في دبرها» . وهناك أحاديث أخرى وهذا ما يجعلنا نشك فيما روي عن ابن عمر بأنه أجاز إتيان المرأة في دبرها ونصدق ما روي عن إنكاره ذلك. وبالإضافة إلى هذه الأحاديث فإنه يتبادر لنا أن الآية لا تفيد غير ذلك فالحيض من القبل والنهي هو عن قرب النساء في الحيض، وقد شبهت النساء بالحرث أي الأرض التي تزرع لتخرج ثمرا، وهذا إنما يكون من القبل. وليس في الأحاديث النبوية حدّ وعقوبة على من يأتي النساء من أدبارهن. وقد يصح أن يقاس هذا على اللواط وعقوبته على ما شرحناه وأوردنا ما ورد فيه من أحاديث في سياق قصة لوط في سورة الأعراف شرحا يغني عن التكرار. وقد يرد قول إن هذا قد لا يشمل الأزواج استنادا إلى مبدأ درء الحدود بالشبهات من حيث أن يكونوا أخذوا بتأويل من تأويلات جملة: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ومع أننا لا نرى ذلك فإن ما عليه من الأزواج يكونون على كل حال موضوع الإنذار النبوي الرهيب الذي وصمهم بالكفر ولعنهم. أما الأحاديث التي يستمد منها الفقهاء مبدأ درء الحدود بالشبهات فمنها حديث رواه الترمذي والحاكم والبيهقي عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلّوا سبيله فإنّ الإمام لئن يخطىء بالعفو خير من أن يخطىء بالعقوبة» «1» . وحديث رواه ابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعا» «2» . وحديث رواه ابن مسعود مرفوعا جاء فيه: «ادرأوا الحدود بالشبهات، ادفعوا القتل عن المسلمين ما استطعتم» «3» . هذا، والسنّة المتواترة المجمع عليها أن الحائض تسقط عنها الصلاة وتفطر في رمضان على أن تقضي في غيره عدة الأيام التي أفطرتها. وهناك حديث رواه الخمسة عن معاذة قالت: «سألت عائشة ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي

_ (1) التاج ج 3 ص 21. [.....] (2) نيل الأوطار للشوكاني. (3) نيل الأوطار للشوكاني.

الصلاة؟ فقالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة» «1» . ويستتبع هذه السنّة سنّة أخرى مجمع عليها وهي أن على الحائض عند ما ينقطع الحيض عنها أن تغتسل قبل أن تصلي، أي لا يكفي الوضوء لصلاتها، وهناك حديث رواه الترمذي في صدد قراءة الحائض للقرآن عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن» «2» . وقد رأينا من المفيد أن نستطرد إلى عارضين ينزل فيهما الدم من قبل المرأة، الأول يسمى الاستحاضة وينزل في غير وقت الحيض وأحيانا يستمر نزوله. وفي حديث رواه الخمسة عن عائشة حكم لهذا العارض حيث رووا أن عائشة قالت: «إنّ فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقالت: إني أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال: لا إن ذلك عرق وليس بالحيضة. ولكن دعي الصلاة بقدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلّي وفي رواية إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي الدم وصلّي وفي رواية الترمذي وتوضّئي لكلّ صلاة. وفي رواية أبي داود لتنظر عدّة الأيام والليالي التي كانت تحيض بهنّ من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر فإذا خلّفت ذلك فلتغتسل ثم لتستثفر بثوب ثم لتصلّي» «3» . وهناك حديثان آخران في ذلك منهما حديث رواه أبو داود والنسائي عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها قالت: «يا رسول الله إني أستحاض، فقال لها: إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة فإذا كان الآخر فتوضئي وصلّي فإنما هو عرق» . وروي الثاني عن أصحاب السنن أن حمنة بنت جحش قالت: «أتيت رسول الله فقلت: يا رسول الله إني امرأة أستحاض حيضة كثيرة شديدة فما ترى فيها، قد منعتني من الصلاة والصوم؟ قال: أنعت لك الكرسف فإنه يذهب الدم. قالت: هو أكثر من ذلك؟

_ (1) التاج ج 2 ص 106 و 107. (2) انظر المصدر نفسه. (3) التاج ج 1 ص 108 وجملة (لتستثفر) أي تتحفظ بثوب بعد وضع شيء في الفرج يمنع سيلان الدم إلى الأرض.

قال: فاتخذي ثوبا. قالت: هو أكثر من ذلك، إنما أثجّ ثجا. قال: سآمرك بأمرين أيّهما فعلت أجزى عنك من الآخر فإن قويت عليهما فأنت أعلم. إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان فتحيّضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله تعالى ذكره، ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت فصلي ثلاثا وعشرين ليلة أو أربعا وعشرين ليلة وأيامها وصومي فإن ذلك يجزئك. وكذلك فافعلي كلّ شهر كما يحضن النساء وكما يطهرن ميقات حيضهن وطهرهنّ فإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجّلي العصر فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين وتؤخّرين المغرب وتعجّلين العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي. وتغتسلين مع الفجر فافعلي وصومي إن قدرت على ذلك قال رسول الله وهذا أعجب الأمرين إليّ» «1» . ويلحظ أن الشطر الثاني من هذا الحديث فيه إيجاب اغتسال لكل صلاة والأول ليس فيه ذلك، وصيغة الحديث تجعل للمرأة الخيار في ذلك. والحديث الأول الذي رواه الخمسة لا يوجب إلّا الغسل من الحيض وميقاته واكتفى بالأمر بالتوضّؤ للصلاة للمستحاضة وهذا هو الأقل حرجا. وقد يتبادر لنا أن يكون الأمر بالاغتسال في الشطر الثاني من الحديث الأخير قد قصد الوضوء وفي هذا يكون التوفيق بين الأحاديث وبين الشطر الأول والشطر الثاني من الحديث، والله تعالى أعلم. ولقد روى أبو داود حديثين عن عكرمة يفيد أن الاستحاضة لا تمنع الزوج من إتيان زوجته وجاء في أحدهما: «كانت أمّ حبيبة تستحاض فكان زوجها يغشاها» «2» . وجاء في ثانيهما: «أن حمنة بنت جحش كانت مستحاضة وكان زوجها يجامعها» «3» . وقد قال الإمام مالك: إن هذا مما هو متفق عليه «4» .

_ (1) التاج ج 1 ص 109 و 110. (2) المصدر نفسه ص 111. (3) انظر المصدر نفسه. (4) الموطأ ج 1 ص 31.

[سورة البقرة (2) : الآيات 224 إلى 225]

والأمر الثاني في الاستطراد هو حالة النفاس التي يسيل الدم فيها للمرأة عقب الولادة ويستمر مدة طويلة. وهناك حديثان روى أحدهما الترمذي وأبو داود عن أم سلمة قالت: «كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أربعين يوما تطلي وجهها بالورس من الكلف» «1» . وثانيهما رواه أبو داود عنها أيضا قالت: «كانت المرأة من نساء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تقعد في النفاس أربعين ليلة لا يأمرها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بقضاء صلاة النفاس» «2» . والمشاهد أن الدم لا يستمر مع كل النساء أربعين يوما، فمنتهى ما يشاع عنهن في أقل من ذلك فيكون الأربعون يوما في الحديث هو الحد الأعلى ويكون الحكم وفاق ذلك على ما هو المتبادر. ولم نطلع على أحاديث في صدد وجوب اغتسال النفساء وصومها، وقد يصح والحالة هذه قياس حالتها على الحائض بحيث يجب عليها الاغتسال إذا انقطع الدم عنها وطهرت وقضاء ما تفطره من رمضان أثناء ذلك والله أعلم. [سورة البقرة (2) : الآيات 224 الى 225] وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) . (1) عرضة: مانعا معترضا لمنع الخير. (2) أن تبرّوا: قيل إنها بمعنى أن تفعلوا الخير والبرّ إطلاقا وقيل إنها بمعنى أن تبرّوا أرحامكم. والإطلاق يجعل المعنى الأول أكثر وجاهة. (3) اللغو: هو ما لا طائل ولا فائدة منه من القول. واللغو بالأيمان هو ما يرد في عرض الكلام من صيغ لا يقصد بها يمين مثل بلى والله ولا والله، على ما

_ (1) التاج ج 1 ص 107. (2) انظر المصدر نفسه.

تعليق على الآية ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ... والآية التالية لها

رواه البخاري عن عائشة (رضي الله عنها) «1» . في الآية الأولى: نهي موجّه للمسلمين عن عدم جعل أيمانهم بالله وسيلة لعدم البرّ والإصلاح بين الناس والانصراف عن عمل ما فيه تقوى الله. فالله سميع لأقوالهم عليم بنواياهم. وفي الثانية: تقرير موجه إليهم أيضا بأن الله تعالى لا يؤاخذهم بما يصدر منهم من الأيمان التي لا يتعمدون فيها شيئا ولا يقترفون بها ذنبا ولا تعقدها قلوبهم بمنع وإيجاب ونفي وإثبات. وإنما يؤاخذهم بما قصدت قلوبهم كسبه وفعله. وهو على كل حال غفور لمن تاب وأصلح، حليم لا يتسرع بالغضب والعقوبة ليكون في ذلك فرصة لمن حسنت نيته. تعليق على الآية وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ ... والآية التالية لها والآيتان فصل تشريعي جديد، وقد وضع بعد ما سبقه للمماثلة التشريعية أو لنزوله بعده. وقد روى بعض المفسرين «2» أن الآية الأولى نزلت في عبد الله بن رواحة حين حلف أن لا يدخل على ختنه- زوج أخته- ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين زوجته. كما روى بعضهم «3» أنها نزلت في أبي بكر حين حلف أن لا يساعد قريبا له اندمج في حديث الإفك في حقّ عائشة (رضي الله عنها) . والروايات لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة، والمتبادر أن الآية الثانية نزلت مع الأولى كتبرير للنهي الذي احتوته الآية الأولى أو فتوى لليمين التي

_ (1) انظر التاج ج 3 ص 70. وقد روى أبو داود وابن حبّان والبيهقي ذلك عن عائشة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيضا انظر الصفحة نفسها. (2) انظر تفسيرها في مجمع البيان للطبرسي. (3) انظر تفسير الطبري والخازن. [.....]

يحلفها المسلم فيعتذر بها عن فعل الخير والإصلاح وما تقتضيه تقوى الله. وفحوى الآيتين قد يتسق مع إحدى الروايتين المرويتين، غير أن يمين أبي بكر المروية قد وقعت في أواسط العهد المدني وأشير إليها في آية سورة النور هذه: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) وهي من سلسلة الآيات الواردة في هذه السورة عن حديث الإفك على ما سوف نشرحه في مناسبتها. وفي الآية التالية لهاتين الآيتين إشارة إلى الذين يؤلون من نسائهم أي يحلفون بعدم القرب من نسائهم حيث يتبادر أن هناك صلة موضوعية بين هاتين الآيتين والآيات التالية لهما والله تعالى أعلم. ولقد احتوت الآيتان على كل حال تعليمات قرآنية بشأن الأيمان إطلاقا، وفيهما تلقينات رائعة جليلة في عدم جواز حلف الأيمان للامتناع عن فعل الخير والإصلاح وما تقتضيه تقوى الله من أعمال سلبية وإيجابية وفي عدم جواز احتجاج المرء بيمين صدر منه للامتناع عن ذلك أو لفعل ما فيه إثم وضرر للغير ثم في تقرير كون الله عز وجل إنما يحاسب الناس على ما يصدر منهم أو يتعمدون فعله من إثم في سياق الأيمان وكون ما ليس فيه ذلك يعده الله لغوا لا يؤاخذهم عليه. وينطوي في التلقين الأول تقرير عدم جواز التقيد بالأيمان للامتناع عن الخير أو فعل الإثم. وفي سورة المائدة آية احتوت بيان الكفارة على اليمين التي يحلفها المسلم ثم توجب عليه الظروف أو واجب فعل الخير والامتناع عن الأذى للنفس أو الغير الرجوع عنها وهي هذه: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) وهي متممة للتعليم القرآني الوارد في هاتين الآيتين كما هو المتبادر. وقد نزلت في صدد جماعة من المؤمنين

حلفوا أن يتخلوا عن طيبات الحياة تورعا وتقربا إلى الله فنهتهم الآية السابقة لها عن تحريم ما أحلّه الله لهم وأمرتهم بالرجوع عن يمينهم والتكفير عنها. ولقد رويت أحاديث عديدة في صدد اليمين والرجوع عنه وكفارته واليمين الكاذبة رأينا من المفيد إثباتها في هذه المناسبة. من ذلك حديث رواه الثلاثة عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الحلف منفّقة للسلعة ممحقة للبركة» «1» . وفي رواية مسلم: «إياكم والحلف في البيع فإنه ينفّق ثم يمحق» «2» . وحديث رواه الخمسة عن أبي موسى قال: «أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نفر من الأشعريين فوافقته وهو غضبان فاستحملناه فحلف ألا يحملنا ثم قال: والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحلّلتها» «3» . وحديث رواه مسلم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأتها وليكفّر عن يمينه» «4» . وحديث رواه أصحاب السنن عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حلف على يمين فاستثنى فإن شاء مضى وإن شاء ترك غير حنث» «5» . وحديث رواه الخمسة عن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال رجل مسلم أو مال أخيه لقي الله وهو عليه غضبان» «6» وحديث رواه أبو داود عن عمران عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حلف على يمين مصبورة كاذبا فليتبوأ مقعده من النار» «7» . وحديث رواه أبو داود والنسائي عن سعيد بن المسيب قال: «إنّ أخوين كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال إن عدت سألتني عن القسمة فكلّ مالي في رتاج الكعبة. فقال له عمر: إن الكعبة غنية عن مالك.

_ (1) التاج ج 2 ص 179. (2) التاج ج 2 ص 179. (3) التاج ج 3 ص 68- 71. ومعنى استثنى: قال إن شاء الله. (4) التاج ج 3 ص 68- 71. ومعنى استثنى: قال إن شاء الله. (5) التاج ج 3 ص 68- 71. ومعنى استثنى: قال إن شاء الله. (6) التاج ج 3 ص 68- 71. ومعنى استثنى: قال إن شاء الله. (7) المصدر نفسه ص 69، واليمين المصبورة تعني أن يحلف المرء على أمر أنه وقع وهو كاذب. وعرف هذا باليمين الغموس الذي يعد من الكبائر على ما ورد في حديث رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس» . التاج ج 3 ص 68.

[سورة البقرة (2) : الآيات 226 إلى 227]

كفّر عن يمينك وكلّم أخاك، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: لا يمين عليك ولا نذر في معصية الربّ ولا في قطيعة الرحم إلا فيما لا تملك» «1» . وللنسائي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «النذر نذران فما كان من نذر في طاعة الله فذلك لله وفيه الوفاء وما كان في معصية الله فذلك للشيطان ولا وفاء فيه ويكفّره ما يكفّر اليمين» » . ويصح أن يقاس اليمين على هذا كما هو المتبادر. وهناك أحاديث أخرى في حظر اليمين بغير الله يحسن أن تساق في هذا المقام أيضا، منها حديث رواه الخمسة عن ابن عمر قال: «إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أدرك عمر في ركب وهو يحلف بأبيه فناداهم رسول الله ألا إنّ الله عزّ وجلّ ينهاكم أن تحلفوا بأبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» «3» . وحديث رواه أبو داود والترمذي عن ابن عمر: سمع رجلا يحلف بالكعبة فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من حلف بغير الله فقد أشرك» «4» . هذا، ولقد كتبنا تعليقا على ما أعاره القرآن من اهتمام للإصلاح بين الناس في تفسير سورة الشورى فنكتفي بهذا التنبيه في مناسبة ما ورد من ذلك في هذه الآية. ولقد قيل «5» في تأويل كلمة (عرضة) قول آخر وهو أن الجملة بسبيل النهي عن التعريض باسم الله في مواقف الحنث واللغو والإكثار من اليمين باسمه لتغرير الناس والكذب عليهم والإكثار من اليمين ولو كانت بارّة صادقة. ومع ما في هذا القول من وجاهة وتلقين بليغ فإن النفس تطمئن بالمعنى الأول كما أن روح الآية تلهمه أكثر وهو ما عليه الجمهور. [سورة البقرة (2) : الآيات 226 الى 227] لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)

_ (1) التاج ج 3 ص 76. (2) المصدر نفسه ص 77. (3) المصدر نفسه ص 67- 68 وهناك أحاديث أخرى في هذا الباب. (4) انظر المصدر نفسه. (5) انظر تفسير الخازن.

تعليق على الآية للذين يؤلون من نسائهم ... إلخ والآية التالية لها

(1) يؤلون: من الإيلاء بمعنى القسم (آلى على نفسه وآليت على نفسي) وقد صار له معنى اصطلاحي وهو القسم على عدم مجامعة الزوجة. (2) تربص: انتظار. (3) فاءوا: رجعوا عن القسم. (4) الطلاق: معناه اللغوي المفارقة، وقد صار له معنى اصطلاحي وهو فراق الزوجين عن بعضهما. في الآيتين تعليمات أو تقريرات تشريعية في شأن الإيلاء: فالذين يحلفون بأن لا يجامعوا زوجاتهم لا يصح أن يستمروا على ما أقسموا عليه إلّا أربعة أشهر، فإما أن يرجعوا عن يمينهم ويعودوا إلى نسائهم والله غفور رحيم يقبل التوبة ويعامل بالرحمة، وإما أن يعزموا الطلاق والله سميع لأقوالهم عليم بنواياهم. تعليق على الآية لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ... إلخ والآية التالية لها والآيتان فصل تشريعي جديد، وهو بدء فصل طويل في الطلاق. وقد يكون وضعه في ترتيبه للمماثلة أو لنزوله بعد ما سبقه. ولم نطلع على رواية في نزوله، والمتبادر أنه حدث حادث إيلاء فرفع أمره إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الحكم فيه. وقد قلنا إن الآيتين السابقتين متصلتان بما بعدهما لأن في اليمين على عدم قرب الزوج لزوجته شيئا مما يخالف الإصلاح وتقوى الله فإذا صح هذا فيكون بدء الفصل التشريعي الآيتين السابقتين وهو فصل طويل على ما سوف يأتي. وإيلاء الزوج على زوجته عادة من عادات العرب قبل الإسلام، فقد كان

الأزواج إما بسائق الغضب وإما بسائق الكراهية وإما لمآرب أخرى مثل ابتزاز أموالها ومنعها من التزوج من غيره والتصرف بنفسها أو لكثرة ولادتها البنات أو إبقائها في بيته لتكون خادمة ومربية لأولادها إلخ ... يحلفون بعدم الاتصال الجنسي بأزواجهم فتصبح محرّمة عليه لا هي زوجة ولا هي مطلقة. وقد وضعت الآيتان الأمر في نصابه الحق فليس للزوج أن يتحكم بزوجته تحكما كيفيا ليشفي به غلّ نفسه أو يضمن النفع على حساب ضررها. ولا يصح للمؤلي أن يحتج باليمين الصادرة منه للإضرار والحيف: فإما أن تكون يمينا صدرت عن فورة آنية وبغير قصد وتعمد وحينئذ لا يجوز أن يمتد أثرها لأكثر من أربعة أشهر في حال كحد أقصى، وإما أن تكون صدرت عن نية إضرار وأذى وحينئذ يجب أن ترد إلى الزوجة حريتها وأن تحمى من الأذى والضرر بالطلاق إذا لم يرعو الزوج ويعود إلى الحق والواجب وهذا الشرح المستلهم من روح الآيتين والآيتين السابقتين لهما معا يؤيد ما قلناه من الصلة والانسجام بينهما ويبرز المبدأ الجليل الذي تكرر تقريره في القرآن بأساليب متنوعة بحماية الزوجة ومنع الإضرار بها وظلمها واستغلالها. ولقد روى المفسرون أحاديث عديدة منها ما ورد في الكتب الخمسة في تأويل الآيات ومدى تطبيق حكم الإيلاء. منها حديث رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أنس قال: «آلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من نسائه فأقام في مشربة له تسعا وعشرين ليلة ثم نزل، قالوا: يا رسول الله آليت شهرا فقال الشهر تسع وعشرون» «1» . وحديث رواه البخاري جاء فيه: «كان ابن عمر يقول في الإيلاء لا يحلّ لأحد بعد الأجل إلا أن يمسك بالمعروف أو يعزم الطلاق» «2» . وحديث رواه الشيخان عن ابن عباس قال: «إذا حرّم الرجل عليه امرأته فهي يمين يكفّرها، لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة» «3» . وحديث رواه الترمذي عن عائشة قالت: «آلى رسول الله من نسائه وحرّم فجعل الحرام حلالا وجعل في اليمين كفّارة» «4» .

_ (1) التاج ج 2 ص 316 و 317 والمقصود بالحديث الأخير أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حرّم على نفسه ما هو حلال له من نسائه ثم رجع عن هذا التحريم فاستمتع بما أحله الله له وكفّر عن يمينه. وقد أشير إلى ذلك في الآيات الأولى من سورة التحريم على ما سوف نشرحه في مناسبتها. (2) التاج ج 2 ص 316 و 317 والمقصود بالحديث الأخير أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حرّم على نفسه ما هو حلال له من نسائه ثم رجع عن هذا التحريم فاستمتع بما أحله الله له وكفّر عن يمينه. وقد أشير إلى ذلك في الآيات الأولى من سورة التحريم على ما سوف نشرحه في مناسبتها. [.....] (3) التاج ج 2 ص 316 و 317 والمقصود بالحديث الأخير أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حرّم على نفسه ما هو حلال له من نسائه ثم رجع عن هذا التحريم فاستمتع بما أحله الله له وكفّر عن يمينه. وقد أشير إلى ذلك في الآيات الأولى من سورة التحريم على ما سوف نشرحه في مناسبتها. (4) التاج ج 2 ص 316 و 317 والمقصود بالحديث الأخير أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حرّم على نفسه ما هو حلال له من نسائه ثم رجع عن هذا التحريم فاستمتع بما أحله الله له وكفّر عن يمينه. وقد أشير إلى ذلك في الآيات الأولى من سورة التحريم على ما سوف نشرحه في مناسبتها.

وبالإضافة إلى الأحاديث التي اكتفينا منها بما تقدم ففي كتب التفسير روايات عن أهل التأويل في صدد تطبيق الآيات وحكمها نوجزها ونعلق عليها كما يلي: 1- هناك من قال إنه إذا مرت الأشهر الأربعة دون مراجعة صارت الزوجة مطلقة سواء نطق الزوج بالطلاق أم لم ينطق. وهناك من قال إنه لا بد من أن ينطق بالطلاق لأن فحوى الآية يجعله بين أمرين إما الرجوع قبل انتهاء المدة وإما الطلاق. وهناك من قال إن الزوج إذا لم يطلق أو يرجع خلال المدة طلق عليه الحاكم عند انتهائها وإن للزوجة مراجعة الحاكم لتخييره بين الرجوع والطلاق قبل انتهاء المدة فإن لم يرجع وانتهت المدة طلق الحاكم عليه. والمتبادر أن القول الأخير هو الأوجه لأن هدف الآية منع وقوف الحيف على الزوجة وعدم بقائها معلقة تحت رحمة الزوج. 2- هناك من قال إن الرجوع عن الإيلاء في المدة لا يكون صحيحا إلا بالوقاع. وهناك من قال إنه يصح بالإشهاد على الرجوع فقط. وهناك من توسط وفصل. فقال إذا كان هناك مانع للوقاع من مرض أو حيض أو سفر أو سجن فيكون الإشهاد مجزيا. وقد يكون هذا هو الأوجه على شرط أن يواقع إذا زال العذر. ويكفّر عن يمينه كدلالة عملية على الرجوع عنها. أما إذا لم يكفر ولم يواقع إذا زال العذر فيظل الإشهاد كلاما بدون دليل ويكون ضرر الإيلاء قد تحقق. 3- هناك من قال إن مرور الأشهر الأربعة بدون رجوع يكون بمثابة تطليقة بائنة. تملك بها الزوجة نفسها فإذا أراد زوجها أن يعود إليها كان ذلك رهنا برضائها وبعقد ومهر جديدين دون ما حاجة إلى أن تنكح زوجا غيره قبل ذلك إذا كانت هي المرة الأولى أو الثانية ولها الحق أن لا تقبل عودته إليها وأن تتزوج غيره بعد أن تنتهي عدتها وتكون هذه العدة حيضة واحدة «1» . وهناك من قال إنها تطليقة عادية رجعية يحق للزوج المراجعة بدون عقد ومهر جديدين استنادا إلى حكم

_ (1) لأنها لأجل استبراء الرحم فقط، ولأن تحديد حيضات ثلاث للمطلقات هو بقصد إفساح المجال للمراجعة.

الطلاق المبين في الآيات التالية على ما سوف يأتي شرحه. وهذه الآيات تذكر حكم المطلقات إذا طلقهن أزواجهن مرة أو مرتين حيث يكون لهم مراجعتهن قبل انقضاء العدة مع شرط أن يكون قصدهم الإصلاح وليس الضرر. وورود الآيات بعد آية الإيلاء وبعد جملة وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ قد يجعل القول الثاني هو الأوجه والله أعلم. 4- هناك من قال إن الزوج لو حلف أن لا يضرب امرأته أربعة أشهر ولم يواقعها بعد انتهاء المدة لا يكون موليا، لأن حكم الآية هو في الذين يولون بدون تحديد للمدة حيث حددت لهم أربعة أشهر يفيئون خلالها أو يطلقون أو يطلق عليهم. وهناك من قال إنه يكون موليا إذا تجاوز الأشهر الأربعة بدون وقاع، ونرى القول الثاني هو الأكثر وجاهة واتساقا مع روح الآية وهدفها. 5- هناك من قال: إن مدة الإيلاء وأحكامه واحدة في حقّ الحرّ والعبد. لأن الأمر متصل بالطبيعة الجنسية. وهناك من قاس الأمر على حدّ الزنا على الإماء وهو نصف حد الحرائر كما جاء في آية سورة النساء: فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) ولم نطلع على حديث نبوي خاص. وهناك حديث في صدد عدد تطليقات الأمة المتزوجة وعدتها حيث روى أبو داود والترمذي عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان» . في حين أن طلاق الحرة هو ثلاث وعدتها ثلاث حيضات كما جاء في آيات سورة البقرة التالية لهذه الآيات. وقد يكون ذلك القياس استئناسا بذلك في محله فيكون مدة تربص الأمة التي يولي زوجها منها شهرين وليس أربعة والله أعلم. 6- والجمهور على أن الإيلاء يمين، وإنه إذا حلف الزوج لمدة غير محدودة وفاء قبل أربعة أشهر يكفّر عن يمينه حيث يكون قد حلف على شيء ورأى خيرا منه فرجع عن يمينه كما جاء في الأحاديث النبوية. أما إذا حلف لمدة أربعة أشهر أو أقل وفاء قبل انقضائها فلا يدخل الأمر في شمول الآية لأنه لا يكون قد رجع عن

حالات متصلة بموضوع علاقة الزوج الجنسية بزوجته

اليمين وحقت عليه الكفارة. وهناك من أوجب الكفارة عليه لأن الزوج يعتبر راجعا عن يمينه وقد يكون القول الأول أوجه والله أعلم. وجملة فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قد تلهم أن الله تعالى لا يستحسن الإيلاء على كل حال مهما كانت المدة، ويعده هفوة قد يغفرها إذا تاب الزوج عنها وراجع زوجته في المدة أو قبلها. ويدعم هذا عتاب الله لرسوله حينما آلى من زوجاته على ما حكته آيات سورة التحريم: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) والأحاديث التي أوردناها في مطلع النبذة عند إيلاء النبي صلّى الله عليه وسلّم قد تفيد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كفر عن يمينه، وقد يفيد هذا آيات التحريم هذه أيضا. ولعل النبي صلّى الله عليه وسلّم آلى بدون مدة ثم رجع فكفّر عن يمينه، والله تعالى أعلم. حالات متصلة بموضوع علاقة الزوج الجنسية بزوجته هناك حالات عديدة من ذلك رأينا أن نستطرد إليها في مناسبة موضوع آيات الإيلاء. فقد روى الإمام مالك عن سعيد بن المسيب أحد علماء التابعين قوله: «أيما رجل تزوّج بامرأة وبه جنون أو ضرر فإنها تخيّر فإن شاءت أقرّت وإن شاءت فارقت» وقوله: «من تزوّج امرأة فلم يستطع أن يمسّها فإنه يضرب له أجل سنة فإن مسّها وإلا فرّق بينهما» وروى الإمام مالك: «أن ابن شهاب سئل متى يضرب الأجل فقال من يوم الترافع إلى السلطان» وعقب الإمام مالك على هذه الأقوال فقال: أما الذي قد مسّ امرأته ثم اعترض عنها فلا يضرب له ولا يفرّق بينهما» «1» . ولم نطلع على أثر نبوي في ذلك والاجتهادات تفيد أن للزوجة أن ترفع أمرها للسلطان إذا لم ترض بما واجهته من حالات وإن للسلطان أن يضرب أمدا للزوج ثم يفرق بينهما إذا لم يتغير الموقف إيجابيا. وهي اجتهادات سديدة مع توقفنا في

_ (1) التاج ج 2 ص 300.

[سورة البقرة (2) : آية 228]

اجتهاد مالك الأخير وترجيحنا أن للزوجة إذا شاءت أن ترفع أمرها للسلطان في الحالة المذكورة أيضا إذا لم يكن سبب الامتناع مرضا يمكن الشفاء منه. أي إذا كان الامتناع تعففا أو من مرض لا يمكن الشفاء منه والله أعلم. ونقطة أخرى نتوقف فيها، وهي القول إن السلطان يضرب للزوج سنة فحكمة الله قدرت لمن يحلف أن لا يقرب زوجته مدة أربعة أشهر وخيرته بين الرجوع وبين الطلاق. ولذلك نرى الأوجه أن يكون الأجل الذي يضربه السلطان أربعة أشهر من يوم رفع الأمر إليه والله تعالى أعلم. وحالة أخرى رواها مالك والشافعي عن عمر قال: «أيما رجل تزوج امرأة وبها جنون أو جذام أو برص فمسّها فلها صداقها كاملا وله الرجوع به على وليّها الذي أنكحه إيّاها» . وعقب الإمام مالك على ذلك بما مفاده أن الولي إذا كان يعلم ذلك فالغرم عليه وإن لم يكن يعلم فليس عليه غرم وترد المرأة ما أخذت من صداقها ويترك لها قدر ما تستحل به «1» . وهذا يعني أن الزواج يفسخ بين الزوجين. ولم نطلع على أثر نبوي في ذلك، واجتهاد مالك سديد في ما نرى والله أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 228] وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) . (1) قروء: جمع قرء. وقيل إنه الحيضة كما قيل إنه الطهر من الحيضة. تعليق على الآية وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ لم نطلع على رواية نزول الآية، ويتبادر لنا أنها استطراد لبيان حكم من

_ (1) التاج ج 2 ص 299- 300.

يطلقها زوجها تعقيبا على ما سبقها من تخيير المولي من زوجته بين الإفاءة والطلاق على ما شرحناه قبل قليل. والآية في ذات الوقت مطلع فصل تشريعي في الطلاق ولقد احتوت هي وبقية آيات الفصل كثيرا من المواعظ والتنبيهات في صدد حقوق الزوجة ورعايتها وعدم الجنف عليها وضررها مما فيه دلالة على ما أعارته حكمة التنزيل للحياة الزوجية ولحقوق الزوجة من عناية عظيمة. وما هدفت إليه من تركيز العلاقة الزوجية على أساس الحق والتراضي والوفاق والإصلاح. ولقد روى أبو داود والحاكم وصححه عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أبغض الحلال عند الله الطلاق» . وهذا يفسر ما احتوته آيات الفصل من آيات وإلهام بكون إباحة الطلاق على كراهيته هي من قبيل اختيار أهون الشرّين. والشرّ الأكبر هو ما يصيب الحياة الزوجية من شقاء وعناء وبلاء وشقاق وكيد وتفكك في حالة تعذر حسن المعاشرة والوفاق والتقصير في الواجبات والحقوق بين الزوجين سواء أكان ذلك من الطرفين أم من طرف واحد. ولقد أمرت الآية المطلقات بأن يتربصن بأنفسهن حتى تمضي عليهن ثلاثة قروء. وأن لا يكتمن خبر حملهن إن كن حاملات فهذا مقتضى صدق إيمانهن بالله ورسوله، وقررت أن أزواجهن أحقّ بردهن أثناء ذلك إن كان قصدهم الإصلاح وأن لزوجاتهم عليهم من الحقوق مثل ما لهم عليهن فيما هو مشروع وغير منكر مع تقرير أن لأزواجهن عليهن درجة. وفيما يلي شرح وتوضيح آخران لمدى الآية وأحكامها: 1- لقد عرّف المؤولون (التربّص) المذكور بالآية باسم (العدة) أيضا وقد سماه القرآن كذلك في إحدى آيات سورة الطلاق. فتكون عدة المطلقة التي يجب عليها أن تتربص بنفسها طيلتها هي ثلاثة قروء. وفي سورة الطلاق تتمة لذلك حيث جعلت العدة في إحدى آياتها لمن لا تحيض بسبب من الأسباب ثلاثة أشهر وهي تقدير لمدة القروء الثلاثة. وحيث جعلت العدة للحامل وضعها لحملها. وفي

النقطة الأخيرة توضيح لمدى جملة: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ الواردة في الآية التي نحن في صددها. فقد يكون الحمل جديدا وحينئذ تمتد عدة المطلقة الحامل أكثر من ثلاثة أشهر. وإذا لم يكن جديدا فالإخبار به أيضا يكون ضروريا حتى لا يتأخر الزوج في ردّ مطلقته وتفوته الفرصة لأنها تكون قد انتهت عدتها بالوضع. 2- ويطلق الفقهاء على الطلاق الذي يمكن أن يرد المطلق زوجته في عدته المذكورة طلاقا رجعيا. وهم متفقون على أن الرّد يتم بدون عقد ومهر جديدين. فإذا انقضت العدة ولم يرد المطلق مطلقته يسمى الطلاق بائنا ويتوقف ردّ المطلقة على مهر وعقد جديدين. وهذا وذاك في التطليقة الأولى والتطليقة الثانية. فإذا طلقها مرة ثالثة فلا تحل له حتى تنكح زوجا آخر على ما جاء في آيات تالية. 3- وهناك حديث رواه الترمذي وأبو داود عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان» . فيكون في الحديث توضيح لحالة الأمة التي سكت عنها القرآن وصار هذا تشريعا نافذا. ونعني بالأمة هي التي تكون متزوجة زواجا شرعيا بغير مالكها وقد أجاز القرآن ذلك في إحدى آيات سورة النساء. والمتبادر أن حالة الأمة الاجتماعية هي التي لو حظت في هذا التشريع. وقد جعل القرآن حدها على الزنا نصف حدّ الحرة على ما جاء في آية سورة النساء نفسها. وقد يكون هذا التشريع القرآني سند التشريع النبوي في تنزيل مدة الحيضات وعدد التطليقات بالنسبة للأمة. وإذا لوحظ أن التشريع القرآني والنبوي هدفا إلى إنهاء حالة الرقّ على ما شرحناه في سياق سورة البلد بدا أن التشريع القرآني والنبوي في حالتي الأمة المذكورتين آنفا هو معالجة لأمر اجتماعي قائم لم تر حكمة التشريع بدّا من اعتباره. وينتهي حينما يتحقق ذلك الهدف. 4- من أهل التأويل من قال إن القرء هو الطهر ومنهم من قال إنه الحيض.

والفرق بين القولين كما هو المستفاد من شروح المفسرين هو أن الزوج يستطيع أن يراجع زوجته قبل تطهرها من الحيضة الثالثة في حالة الأخذ بالقول الأول. أما في حال الأخذ بالقول الثاني فإن طروء حيضتها الثالثة قبل المراجعة يجعل مراجعتها ممتنعة بدون عقد ومهر جديدين لأن الفرصة تكون قد ذهبت والطلاق صار بائنا. ويروي الطبري أن عمر بن الخطاب طلق امرأته فلما تهيأت للاغتسال من حيضتها الثالثة هتف بأنه راجعها فصحّت مراجعته. حيث يكون قد أخذ بالقول الثاني. ويروي الطبري أن رجلا استفتى زيد بن ثابت فأفتاه بأن امرأته إذا دخلت في حيضتها الثالثة بانت منه حيث يكون قد أخذ بالقول الأول. وليس هناك حديث نبوي وثيق صريح في ذلك. ولذلك ظل المذهبان ممارسين. 5- لقد جعلت الآية الزوج أحقّ بردّ زوجته أثناء العدة. ولكن شاءت رحمة الله أن يكون حقّه مشروطا بقصد الإصلاح إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً بحيث يلهم النص القرآني حقّ الزوجة المطلقة بالاطمئنان لحسن نية مطلقها ورغبته في الإصلاح وحقها بالامتناع عن الموافقة على الرجوع إذا لم يحصل عندها ذلك الاطمئنان. ولقد نهت آية أخرى تأتي بعد قليل عن إمساك الزوج مطلقته في أثناء عدتها أي عن ردها إليه بقصد الضرر والعدوان. وعدت ذلك ظلما وهزؤا بآيات الله. وهذا مما يدعم الاستلهام السابق. ولقد ذكر القاسمي في تفسيره أن المراجعة تكون محرمة إذا لم تكن بنية الإصلاح استدلالا من النص القرآني. ولعل في جملة وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ما يؤيد ذلك أيضا. فكما أن للرجل الحق والحرية في عدم المراجعة حتى يصل الأمر إلى البينونة بعد انقضاء العدة فإن للزوجة مثل هذا الحق إذا تيقنت أن زوجها لا يريد بمراجعتها وفاقا ولا إصلاحا. وهذا الحق للزوجة لا ينتقض فيما نراه بجملة: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ الواردة في الآية بعد الجملة السابقة. حيث يتبادر لنا من روح الجملة أنها في صدد تقرير عام في الحياة الزوجية وأن هذه الدرجة هي قوامة الزوج على زوجته وحقه في طاعتها له في هذه الحياة وأن المهر الذي دفعه أولا والنفقة التي يضطلع بها ثانيا

من مبررات هذه الدرجة على ما تلهم آية سورة النساء هذه: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34) ويعزى هذا القول إلى ابن عباس أيضا. ولعل كون الرجل هو الذي يملك حق الطلاق ويملك حق التزوج بأكثر من زوجة من مظاهر هذه الدرجة. ومما قاله رشيد رضا في سياق تفسيره للآية: «إن الحياة الزوجية حياة اجتماعية ولا بدّ لكل اجتماع من رئيس لأن المجتمعين لا بد من أن تختلف آراؤهم ورغباتهم في بعض الأمور ولا تقوم مصلحتهم إلا إذا كان لهم رئيس يرجع إليه في الخلاف لئلا يعمل كل فرد ضد الأمر فتنفصم عروة الوحدة الجامعة ويختل نظامهم، والرجل أحق بالرئاسة لأنه أعلم بالمصلحة وأقدر على التنفيذ بقوته وماله فجعل الله له هذه الدرجة» . وفي هذا السداد وفيه توضيح لمعنى جملة: بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ في آية النساء [34] . ولقد كان النساء وما زلن ولسوف يظللن يشعرن في قرارة أنفسهن على الأقل في صلاحية الرجل لهذه الدرجة في هذا المعنى مهما بلغن من درجات في العقل والعلم والمال والقوة حيث يبدو في ذلك إعجاز التقرير القرآني. هذا مع التنبيه على أنه ليس في أسلوب الآية فضلا عن فحواها ما يمكن أن يفيد أن هذه الدرجة التي جعلت للرجل على المرأة يصح أن تكون استعلاء وتحكما وقهرا. 6- ونستطرد فنقول: إن المتبادر أن جملة وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ أوسع شمولا من حق الزوجة في عدم الموافقة على المراجعة إذا اعتقدت أن مطلقها لا يريد بذلك إصلاحا. وأنه مما ينطوي فيها تقرير حقها في أن يكون لها على الرجل كل ما عليها له من طاعة وأمانة وعفة وإخلاص وحسن معاملة ومودة واحترام وثقة وتكريم وبرّ وترفيه ومراعاة مزاج ورعاية مصلحة وقضاء ما لا يستطيع قضاءه من مصالح وحاجات. واعتباره إياها شريكة حياته في مختلف نواحيها

[سورة البقرة (2) : الآيات 229 إلى 230]

ومعاملتها على هذا الاعتبار. وكل هذا حقّ الرجل على زوجته. وكلمة بِالْمَعْرُوفِ في مقامها بليغة المدى لأن هذه الكلمة تعني كل حقّ متعارف عليه وليس فيه منكر، وبالمقدار المتعارف عليه وهذا لا يقاس بزمن بعينه بل يظل يتبدل ويتطور حسب تبدل ظروف الحياة الاجتماعية وتطورها والضابط العام فيه هو أن لا يحرّم حلالا ولا يحلّ حراما. ولقد قال المفسر الخازن في هذا الصدد: «وذلك أن حقّ الزوجية لا يتم إلا إذا كان كل من الزوجين يراعي حق الآخر فيما له وما عليه. وأن على الزوج أن يقوم بجميع حق زوجته ومصالحها» . وقال الطبري: «وهذه الجملة من الكلمات العجيبة الجامعة للفوائد الجمة» . وقال رشيد رضا بالإضافة إلى ما نقلناه عنه: «إن هذه الجملة تعطي الرجل ميزانا يزن معاملته به لزوجته في جميع الشؤون والأحوال وتقرر أن الحقوق بينهما متبادلة وأنهما أكفاء وأن ما من عمل تعمله المرأة للرجل إلّا وعلى الرجل عمل يقابلها به إن لم يكن مثله في شخصه فهو مثله في جنسه. فهما متماثلان في الحقوق والأعمال كما أنهما متماثلان في الذات والإحساس والشعور والعقل أي إن كلا منهما بشر تام له عقل يفكر في مصالحه وقلب يحب ما يلائمه ويسرّ به ويكره ما لا يلائمه وينفر منه. وليس من العدل أن يتحكم أحد الزوجين في الآخر ولا تكون الحياة الزوجية سعيدة إلا باحترام كل من الزوجين للآخر والقيام بحقوقه» . [سورة البقرة (2) : الآيات 229 الى 230] الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) .

تعليق على الآية الطلاق مرتان ... إلخ والآية التالية لها

تعليق على الآية الطَّلاقُ مَرَّتانِ ... إلخ والآية التالية لها في الآيتين تنبيه على أن الطلاق الذي يصح الرجعة فيه يجب أن لا يكون أكثر من مرتين. وإن من واجب الزوج إذا طلق أن يمسك زوجته بإحسان أو يسرّحها بإحسان. وإنها لا تحلّ له إذا طلقها مرة ثالثة إلا بعد أن تنكح زوجا غيره ويطلقها الزوج الجديد ويظن الزوجان القديمان أنهما سيقيمان حدود الله. وأنه لا يجوز لزوج أن يأخذ شيئا مما أعطاه لزوجته إلّا إذا هي أرادت أن تفدي منه نفسها. ولقد روى المفسرون بعض الأحاديث في صدد نزولهما، ففي صدد: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ روى الطبري عن ابن عباس أن رجلا قال لامرأته لا آويك ولا أدعك تحلّين. فقالت له: كيف تصنع؟ فقال: أطلقك فإذا دنا مضي عدتك راجعتك فمتى تحلين. فأتت النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله الآية» «1» . وحيث روى الطبري عن قتادة: «أن الرجل كان يطلق الثلاث والعشر وأكثر من ذلك فيراجع في العدة فجعل الله حدّ الطلاق ثلاث تطليقات» . وفي صدد: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إلى آخر الآية. روى المفسرون أنها نزلت في شأن جميلة بنت أبيّ كانت عند ثابت بن قيس فنشزت عليه فأرسل إليها رسول الله: يا جميلة ماذا كرهت من ثابت؟ قالت: والله ما كرهت منه دينا ولا خلقا إلا أني كرهت دمامته. فقال لها: أتردين الحديقة؟ قالت: نعم، فردت الحديقة وفرق النبي صلّى الله عليه وسلّم بينهما» «2» .

_ (1) هناك حديث رواه أصحاب السنن عن ابن عباس جاء فيه: «كان الرجل إذا طلّق امرأته فهو أحق بمراجعتها وإن طلقها ثلاثا فنسخ بقوله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ التاج ج 2 ص 310 ويلحظ أنه ليس في هذا الحديث أن الآية نزلت في مناسبة معينة. (2) روى البخاري والنسائي هذا الحديث بدون ذكر أن الآية نزلت في هذا الشأن. انظر التاج ج 2 ص 315.

ومهما يكن من أمر فالذي يتبادر لنا أن الآيات وما قبلها وما بعدها نزلت معا جملة واحدة أو متتابعة لتوضيح الأحكام المتصلة بالزواج والطلاق. ولم ينزل كل منها لحدتها بناء على حوادث وقعت وإن كان يصح القول إن حكمة الله اقتضت تنزيلها في هذا الفصل بسبب مثل الحوادث المذكورة في الروايات. ويلحظ أن الحديثين الصحيحين اللذين أوردناهما في الذيل لا يذكران أن الآيات نزلت لحدتها بناء على الحوادث والله أعلم. ولقد روى الطبري حديثا عن ابن زيد جاء فيه: «إن رجلا جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله أرأيت قوله تعالى الطلاق مرتان فأين الثالثة؟ فقال له: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان» . وفي الجواب حكمة بالغة. وفيما يلي شرح وتعليق على مدى الآيات: 1- إن جملة الطَّلاقُ مَرَّتانِ ذات مغزى هام في صدد التطليق. ومما أثر من السنة النبوية والصحابة أن الزوج الذي يريد أن يطلق زوجته كان يطلقها للمرة الأولى طلقة رجعية ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها. ثم إذا لم تزل أسباب الطلاق عنه أو عادت ثانية يطلقها للمرة الثانية طلقة رجعية ثم يراجعها قبل انتهاء العدة، فإذا لم تزل أسباب الطلاق أو عادت طلقها للمرة الثالثة ويكون الطلاق بائنا لا تحل المطلقة لمطلقها إلا بعد أن تنكح زوجا آخر. وينطوي في هذا كما هو واضح حكمة التنزيل الجليلة في إعطاء الفرصة للزوجين للتروي فإذا وقعت التطليقة الثالثة فيكون معنى ذلك تعذر التراضي والوفاق ويصبح الفراق أمرا ضروريا لصالح الزوجين وتكون شريعة الطلاق بهذه الصورة في غاية الحكمة والصواب. وهناك حديث رواه الشيخان والنسائي وأبو داود عن ابن عمر أنه طلّق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله فسأل عمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك فقال: مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلّق قبل أن يمسّ فتلك العدّة التي أمر الله أن تطلّق لها النساء» . وهذا الحديث مع نصّ الآيات قد يلهم عدم نفاذ الطلاق البات أو الطلاق الثلاث مرة واحدة كما

أن نص الآية قد يلهم أن هذا النوع من الطلاق ليس هو طلاقا قرآنيا. ويدعم هذا القول بقوة آية سورة الطلاق الأولى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) والفقرة الأخيرة قوية المغزى في صدد احتمال تراجع الزوجين أثناء العدة وحكمة الأمر بتطليق النساء لعدتهن وإحصاء العدة وعدم خروج النساء من بيوت مطلقيهم وعدم إخراجهم لتسهيل وقوع ذلك الاحتمال. ولقد روى النسائي بسند جيد عن محمود بن لبيد قال: أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم برجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جمعا فقام غضبان ثم قال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم حتى قام رجل فقال: يا رسول الله ألا أقتله ... » ولقد روى مسلم وأبو داود وأحمد حديثا عن ابن عباس جاء فيه: «كان الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلقة واحدة فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم» «1» . وفي الحديثين تدعيم لما قلنا. على أن هناك حديثا رواه أبو داود والترمذي والشافعي عن ركانة بن عبد يزيد أنه: «أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال له: إني طلقت امرأتي البتة. فقال: ما أردت بها؟ قال: واحدة. قال: والله قال: والله. قال: فهو ما أردت» «2» . واعتبر النبي تطليقه البات تطليقة رجعية. وهناك حديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي عن فاطمة بنت قيس قالت: «إن زوجها طلّقها ثلاثا ولم يجعل لها نفقة فشكت أمرها إلى رسول الله فقال لها: ليس لك عليه نفقة» «3» . وهناك حديث يرويه الخمسة عن عائشة قالت: «إنّ امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله إن رفاعة طلّقني فبتّ طلاقي وإني

_ (1) التاج ج 2 ص 332. (2) المصدر نفسه ص 312. (3) المصدر نفسه ص 331.

نكحت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي، وإنما معه مثل الهدبة قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لعلّك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته» «1» . والشاهد في الحديث أن زوجا طلق زوجته باتا فاعتبرت نفسها أنها صارت حرة فتزوجت غيره ولم يرو اعتراض لرسول الله على ذلك. فقد يكون في هذه الأحاديث ما يلهم توضيحا وتعديلا نبويين لما لم يأت بصراحة قطعية في القرآن. حيث يمكن أن يقال إن النبي صلّى الله عليه وسلّم غضب من الرجل لأن طلاقه كان اعتباطيا وإنه لم يعترض على طلاق بنت قيس لأنه عرف أنه كان تصميما، وأنه كان يمكن أن يجيز طلاق ركانة الباتّ لو قال إنه أراد طلاقا باتا. ففي كل هذا ما يمكن أن يكون سندا لنفاذ التطليق الثلاث أو البات مرة واحدة إذا كان هناك تصميم من الزوج على ذلك. ولعل عمر بن الخطاب حين أجاز ذلك أجازه بالاستناد إلى الآثار النبوية من جهة وبالنسبة لمن يكون مصمما على الفراق البات من جهة ثانية. لأن الحكمة من المراجعة هي إفساح المجال للوفاق والتراضي، وتصميم الزوج على الفراق البات تفسير بأن ذلك متعسر. وهنا يكون حكم الجملة القرآنية: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ بحيث يقال إن نفاذ الطلاق الثلاث أو البات مرة واحدة منوط بنية الزوج فإن قال: إني أريد الفراق البات أجيز عليه وإن قال إنه ليس في نيته الفراق البات اعتبر تطليقة رجعية واحدة والله أعلم. ومع ذلك فإن الآيات وصراحتها ومداها هنا وفي سورة الطلاق مع بعض الأحاديث التي أوردناها أقوى من هذه الآثار التي تذكر أو تسند إجازة الطلاق الثلاث والطلاق البات. والتي ليس فيها صراحة قطعية شاملة والله تعالى أعلم. 2- وجملة فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ التي وردت في الآية [229] ثم تكررت في الآية [231] وفي آية سورة الطلاق الثانية قد جاءت حقا في صدد موقف الزوج الذي طلق زوجته طلاقا رجعيا كما هو النص والسياق. غير أنها فيما نعتقد مطلقة المدى بطلاق وبدون طلاق. وأنها احتوت مبدأين عظيمي الروعة في

_ (1) التاج ج 2 ص 313.

الأساس الذي يجب أن تكون عليه العلاقة الزوجية وهي الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان. فالله تعالى قد خلق الإنسان من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن كل من الزوجين للآخر على أساس المودة والرحمة وكل معاملة وسلوك تعورف على أنهما حق وواجب ومتسقان مع المودة والرحمة، فإذا تعذر تحقيق هذا المبدأ الإيجابي فهناك المبدأ السلبي وهو التسريح بإحسان أي الفراق بالحسنى من غير مضارة ولا أذى ولا تهجير ولا إرهاق ولا تشاتم ولا شقاق. ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن مخالفة الزوج لهذين المبدأين اللذين انطويا في الجملة إثم ديني عظيم عند الله، وقد عبرت الآية [231] التي تأتي بعد قليل عن ذلك تعبيرا قويا جدا. فعدم الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان سواء أفي حالة الزواج من حيث الأصل أم في حالة المراجعة في الطلاق الرجعي يعني أن الزوج يتلاعب بآيات الله ويحتال عليها ويتخذها هزوا والعياذ بالله. وقد يبرر هذا أن يقال إن من حق المرأة التي تتعرض لذلك أن ترفع أمرها للقضاء ليضع الأمر مع الزوج في نصابه الحق بتحقيق أحد المبدأين وحماية الزوجة من الأذى والإعنات والضرر والعدوان. وتدعم هذا فيما يتبادر لنا آية سورة النساء هذه: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) «1» ، ثم آيات سورة النساء هذه: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقا

_ (1) الآية الأولى نزلت في صدد قوامة الرجل على المرأة وحقه في تأديبها إذا نشزت والآيات الأخرى نزلت في صدد الرجل الذي يريد أن يتزوج على امرأته ناشزا عنها. ولكن الآيات يصح أن تساق في المقام الذي سقناه فيها لتدعيم ما أردنا قوله ونؤجل شرح مدى الآيات إلى مناسباتها.

يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130) «1» . وهناك اصطلاح فقهي يعرف ببيت الطاعة، وتسير بعض الحكومات الإسلامية في تطبيقه. ومبدأه أن للزوج حقّ مراجعة القضاء إذا امتنعت زوجته عن مساكنته لسبب من الأسباب وأن للقاضي أن يجبر الزوجة على مساكنة زوجها إذا ما استعدّ للإنفاق عليها وهيأ لها بيتا تتوفر فيه الحياة والأمن والطمأنينة. ويتم ذلك بواسطة الشرطة حين اقتضاء الأمر. حيث تقبض الشرطة على الزوجة فتأخذها عنوة إلى هذا البيت. ونعتقد أن هذا متناقض مع المبدأ القرآني الجليل: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وأن الزوجين إذا تشاقا وتنازعا فإما أن يصطلحا ويتوافقا بالرضاء والمعروف والحب أو يتفارقا بالرضاء والمعروف والحب. وكل ما يكون للزوج إذا ما لم يرد أن يطلقها أن يمتنع عن الإنفاق عليها والله تعالى أعلم. وسنزيد هذا الأمر شرحا في مناسبات آتية. 3- ولقد نبهت الآية [230] على عدم جواز محاولة الزوج استرداد شيء من المال الذي أعطاه لزوجته في سياق طلاقها أو إرجاعها. أو بكلمة أخرى نهت عن اتخاذ الطلاق وسيلة إلى ابتزاز مالها وهذا مناف للمبدأين اللذين احتوتهما جملة: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وفي ذلك حماية ربانية للزوجات يجب على الأزواج أن يلتزموا بها. ومع ذلك فقد احتوت الآية فرصة للزوجة لاسترداد حريتها إذا شذّ زوجها عن المبدأين ولم ترد أن ترفع أمرها إلى القضاء لإجباره على ذلك. وفي فداء نفسها بشيء من المال. وقد أجازت الآية ذلك بالمعنى القوي الذي انطوى في جملة: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ. 4- وتسمى هذه الفرصة في الفقه خلعا، وقد روي حديثان فيهما خبر حادثين للخلع. أحدهما رواه الترمذي وصححه جاء فيه: «اختلعت الربيع بنت

_ (1) المصدر السابق نفسه.

معوّذ على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمرها أن تعتدّ بحيضة» «1» . وثانيهما حديث جميلة زوجة ثابت بن قيس الذي أوردناه في الفقرة الأولى من هذا البحث حيث أمرها برد حديقته إليه وهي مهرها على ما يستفاد من نصّ الحديث مقابل تطليقه إياها تطليقة. ولقد روى أصحاب السنن حديث جميلة بشيء من الفرق حيث جاء فيه: «اختلعت امرأة ثابت بن قيس فجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم عدّتها حيضة» «2» . ويتبادر لنا أن حديث أصحاب السنن هو الأكثر اتساقا مع أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم لجميلة بأن ترد عليه حديقته. وبالتالي أن مسألة جميلة كانت هي أيضا خلعا وافتداء لنفسها توافقا مع الآية التي نحن في صددها. ونرى أنه يصح أن تسمى هذه الفرصة (بالحق المقابل) لحق الزوج في فراق زوجته بالطلاق. فحكمة الله اقتضت أن يكون الطلاق في يد الزوج فيطلق زوجته إذا كرهها أو ساءت معاشرتها أو لسبب ما. فجاءت هذه الآية لتعطي رخصة للمرأة بأن تخلص هي أيضا من زوجها إذا كرهته أو ساءت معاشرته أو لسبب ما. وفي الأحاديث أن الزوجات راجعن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر الأزواج بالتطليق وأخذ الفداء. وهذا يلهم أن للزوجة إذا لم يقبل الزوج أخذ فداء وخلاص زوجته منه بالتي هي أحسن أن تراجع الحاكم وأن للحاكم أن يأمر الزوج بقبول الفداء والتطليق. وفي كل ذلك ما فيه من تسوية وعدل وإنصاف. والجملة صريحة بأن هذه الرخصة أو الفرصة إنما تكون عند غلبة الخوف والظن من عدم قيام الزوجين بما يجب عليهما من حقوق الزوجية تجاه بعضهما. وقد أول المفسرون ذلك بالشقاق والنشوز، والمعنى يتسع لأكثر من ذلك من مضارة وإعنات وضرب وإهمال ومرض وعاهة دائمة ودمامة وكراهية إلخ وفي حديث جميلة تدعيم لذلك. ولقد أورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن ثوبان عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «أيّما امرأة سألت زوجها طلاقها في غير بأس فحرام عليها رائحة الجنّة» ، وأورد

_ (1) التاج ج 2 ص 316. [.....] (2) انظر المصدر نفسه.

الطبري حديثا رواه الإمام أحمد عن عقبة بن عامر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن المختلعات المنتزعات هنّ المنافقات» . والأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة ولا مانع من صحتها لأنها تتسق مع روح التلقينات القرآنية. وفيها تلقين زجري بليغ يوزن به شكوى الزوجات وظروف رغبتهن في الاستفادة من فرصة افتداء النفس التي أتاحتها الآية [230] وسميناها (الحق المقابل) وتكون واردة بالنسبة لمن لا يكون لديها سبب معقول من سوء سيرة وخلق ومعاملة واضطهاد وعجز عن الإنفاق وغيره من الواجبات الزوجية. 5- وهناك خلاف بين الفقهاء والمؤولين فيما إذا كان الخلع فسخا أو طلاقا فالذين يذهبون إلى أنه فسخ يعتبرون الزوجة قد بانت عن زوجها ولم يعد له حق المراجعة لها وأصبحت مالكة لنفسها تتزوج بمن تشاء بعد عدتها مع جواز تراجع الزوجين إذا تراضيا بعقد ومهر جديدين ودون أن تنكح زوجا آخر. ولا يعد ذلك في عداد مرات التطليقات الثلاث التي لا يجوز أن تعود الزوجة إلى زوجها بعدها دون أن تنكح زوجا آخر. والذين يذهبون إلى أنه طلاق اعتبروه طلاقا عاديا رجعيا يصح للزوج أن يعود إلى زوجته أثناء عدتها ويعد في عدد مرات التطليقات الثلاث. والجمهور على المذهب الأول والأحاديث المروية باعتداد المخلوعة بحيضة واحدة تدعم هذا المذهب حيث تفيد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم اعتبر الخلع فسخا وبينونة فلم يفرض على الزوجة التربص بنفسها ثلاثة قروء التي هي عدة للمراجعة وإنما فرض عليها عدة لاستبراء رحمها فقط وهي حيضة واحدة. وهذا المذهب هو الأوجه فيما نراه. فالفدية باب فتحه الله للزوجة للتخلص من زوجها الذي يشذ عن مبدأ الإمساك بإحسان أو التسريح بإحسان أو الذي تكرهه ولا تطيق الحياة معه لسبب ما أخلاقي أو جسماني أو سلوكي. فكيف يكون له بعد أخذ الفدية حق للمراجعة؟ وقد يكون أصحاب المذهب الثاني استندوا إلى حديث جميلة الأول الذي أمر النبي فيه الزوج بتطليقها تطليقة. وقد علقنا على ذلك ورأينا في أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم برد المهر على الزوج وهو الحديقة عملية خلع وفسخ وليست عملية طلاق عادي والله تعالى أعلم.

6- وهناك من قال إن جملة وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً ... إلخ قد نسخت بآية سورة النساء وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21) . وقد فنّد الطبري القول وتفنيده في محلّه، فذلك مقام وهذا مقام آخر. 7- لقد قال الزمخشري إن الخطاب في جملة فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ هو للأئمة والحكام. وهذا القول ظاهر الوجاهة، فحلّ الأمر عن طريق القضاء هو أدعى إلى حسن التقدير. ويدعم هذا حديث جميلة زوجة ثابت الذي ذكر أنها راجعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أمرها فتوسط وحلّ المشكلة وكان هو قاضي المسلمين. 8- وهناك فرصة أخرى للزوجة لاسترداد حريتها من زوجها على ما يقرره بعض الأئمة وهي أن تشترط أن يكون أمر طلاقها بيدها ويقبل الزوج ذلك وتسمى الزوجة في هذه الحالة (المتوفية) «1» ، أي التي يفوض الزوج لها تطليق نفسها، وهناك حديث رواه الترمذي والنسائي وأبو داود يفيد أن ذلك كان مما جرى في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم بصيغة (أمرك بيدك) حيث جاء في الحديث عن حماد بن زيد: «قلت لأيوب هل علمت أن أحدا قال في (أمرك بيدك) إنها ثلاث إلا الحسن. فقال: لا. اللهم غفرا إلا ما حدثني عن قتادة عن كثير مولى بني مرة عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ثلاث) . والحديث يفيد أولا أن جعل الطلاق بيد الزوجة مما جرى وسوغ في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم. وثانيا أن المرأة إذا استعملت حقها فطلقت نفسها فيكون طلاقها باتا. 9- والضمير في جملة فَإِنْ طَلَّقَها الأولى في الآية [230] عائد إلى الزوج الأول الذي طلق مرتين. وتعني أنه إن طلقها ثالث مرة فلا تحل له حتى تنكح زوجا آخر كما جاء في الآية. أما الضمير في الجملة الثانية فهو عائد إلى

_ (1) انظر تفسير ابن كثير مثلا.

الزوج الجديد. وهكذا تكون هذه الآية قد فتحت بابا للمراجعة بين الزوجين المطلقين بعد التطليقة الثالثة أيضا إذا تأكدا من أنهما قد استفادا من تجربة الفراق وأنهما سوف يكونان على تراض ووفاق ويقيمان حدود الله. وهذا متسق مع التلقينات التي انطوت في الآيات نصا وروحا. ولم نطلع على أثر نبوي في صدد الزواج الثاني الذي يقع بين مطلقين قديمين بعد أن تنكح الزوجة المطلقة زوجا آخر ثم يطلقها لسبب من الأسباب. ويتبادر لنا أنه يكون محلا لجميع الحدود والشروط التي تنطوي في أصل التشريع على اعتبار أنه نكاح جديد والله أعلم. 10- والمتفق عليه أن عدة الزوجة التي يطلقها زوجها للمرة الثالثة أو التي يطلقها زوجها تطليقة ثم لا يراجعها أثناء عدتها ويكون طلاقها بائنا هي حيضة واحدة للاستبراء لأن القروء الثلاثة أو الأشهر الثلاثة هي عدة للمراجعة. فإذا لم يكن محل لها فيكفي حيضة واحدة لاستبراء الرحم. 11- والمتبادر أن ما جاء في الفقرتين السابقتين مباشرة ينسحب على الأوجه التي تطلّق طلاقا باتا أو طلاقا ثلاثا لمرة واحدة ويكون نافذا في نطاق ما شرحناه في الفقرة (1) من هذا البحث. 12- والجمهور على أن الزواج الجديد يجب أن يكون تاما ويقع فيه جماع. ولا يكفي أن يكون صوريا، وهذا مستلهم من روح الآية التي هدفت على ما هو المتبادر إلى إعطاء فرصة للزوجين لتجربة جديدة لكل منهما أو لأحدهما حتى إذا صارت مراجعة كان ذلك نتيجة للتجربة. وهناك حديث يرويه الشيخان وأصحاب السنن عن عائشة قالت: «إن امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله إن رفاعة طلّقني فبتّ طلاقي وإني نكحت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي وإنما معه مثل الهدبة. قال رسول الله لعلّك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة. لا. حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته» «1» . وحديث آخر رواه النسائي من بابه

_ (1) التاج ج 2 ص 313.

جاء فيه: «جاءت العميصاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم تشتكي زوجها أنه لا يصل إليها فلم يلبث أن جاء زوجها فقال هي يا رسول الله كذابة وهو يصل إليها ولكنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول فقال رسول الله ليس ذلك لك حتى تذوقي عسيلته» «1» . ولنا تعليق على هذين الحديثين فشرط الجماع يكون لازما في حالة إمكانه فعلا، وهذا ما يفيده نصّ الحديثين. وهناك حالة ترد وهي عدم تمكن الزوج الجديد من مجامعة زوجته لعاهة أو قصور، ولم نطلع على أثر نبوي في ذلك. ويتبادر لنا من نصّ الحديثين أن حكم النبي صلّى الله عليه وسلّم كان سيختلف لو ثبت قول الزوجتين وأنه كان يسمح لهما الرجوع إلى زوجيهما الأولين إذا ما طلقهما الزوجان الجديدان. أو اختلعتا منهما. لأن نصّ القرآن هو نكاح زوج آخر أي تزوج زوج آخر. وهدف ذلك هو التجربة ويكون هذا النص قد تحقق ولو بغير جماع ما دام هذا غير مستطاع من قبل الزوج الجديد. وللزوجة مراجعة القاضي في حالة عدم استطاعة الزوج الجديد المجامعة وللقاضي أن يأمره بطلاقها أو خلعها أو يطلق عليه استئناسا بنص الحديثين والله تعالى أعلم. ويتبادر لنا أن هذا ينسحب على الزواج الجديد إذا مات الزوج الجديد قبل أن يتاح له جماع، والله تعالى أعلم. 13- ونستطرد في هذه المناسبة إلى الزواج المعروف بالتحليل والتواطؤ فيه وروح الآية يلهم أنها انطوت على هدف إفساح الفرصة للتروي والتجربة كما قلنا قبل. وزواج التحليل والتواطؤ لا يضمن تحقيق هذا الغرض. وفيه على ما يبدو تحايل على التشريع القرآني وحكمته. وقد حرّمه بعض الأئمة وكرهه بعضهم. وقال بعضهم إن المحلل والزوجة التي دخل عليها يرجمان. وأجازه بعضهم استنادا إلى ظاهر النص «2» من حيث إن زواج التحليل برغم أنه تواطؤ فهو زواج شرعي بعقد ومهر وتنفيذ وطلاق شرعي في النتيجة. ولعل هؤلاء لا يستلهمون روح الآيات التي تحث على الإبقاء على رابطة الزوجية واحترامها وتأمر بالتروي والمراجعة وتستهدفهما. ويفرضون أن يكون التطليق البات أو الثلاث النافذ كان

_ (1) انظر المصدر نفسه. (2) انظر ابن كثير والخازن وغيرهم.

[سورة البقرة (2) : آية 231]

نزوة وانفعالا. ومع ما يمكن أن في هذا من وجاهة فإن النفس تطمئن بكراهية هذا الزواج بل وحرمته لأنه تحايل بشع على كل حال. وهناك حديث رواه أصحاب السنن عن عبد الله قال: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المحلّ والمحلّل له» . وفي تفسير ابن كثير أحاديث كثيرة في صدد ذلك رواها أئمة غير أصحاب الكتب الخمسة. منها حديث أخرجه الحافظ الجوزجاني عن ابن عباس قال: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن نكاح المحلّل فقال: لا. إلّا نكاح رغبة لا نكاح دسة. ولا استهزاء بكتاب الله ثم يذوق عسيلتها» . وحديث أخرجه الحاكم عن ابن عمر أنه قال: «كنّا نعدّ هذا النكاح سفاحا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» . وحديث آخر أخرجه الحافظ الجوزجاني عن عمر أنه قال: «لا أوتى بمحلّل ولا محلّل له إلّا رجمتهما» . وحديث رواه البيهقي: «أن عثمان رفع إليه رجل تزوج امرأة ليحلّها لزوجها ففرّق بينهما» وحديث أخرجه ابن ماجه عن عقبة بن عامر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: هو المحلّل، لعن الله المحلّل والمحلّل له» . [سورة البقرة (2) : آية 231] وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) . (1) ضرارا: بقصد الإضرار. تعليق على الآية وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ... في الآية تنبيه وتحذير وإنذار لمن يحاول إرجاع مطلقته أثناء عدتها استفادة

التلقين العام المنطوي في جملة ولا تتخذوا آيات الله هزوا ...

من الحق الذي أعطته له الآية [229] . ولقد جاء في هذه الآية شرط بصيغة (إن أرادوا إصلاحا) وقد شرحنا ذلك شرحا وافيا فالظاهر أن رحمة الله وحكمته اقتضتا الإيحاء بالآية بأسلوبها القوي الصاعق لتوكيد هذا الشرط ولتفرض على الأزواج حسن النية والالتزام بمبدأ الإمساك بالمعروف أو التسريح بمعروف إذا ما طلقوا زوجاتهم وتنذر الذين يشذون عن ذلك بقصد الإضرار ونية العدوان. وننبه إلى ما في ذلك من استهزاء بكتاب الله وتحايل على أحكامه. التلقين العام المنطوي في جملة وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً ... وجملة وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ. في الآية وإن كانت جاءت في صدد تحذير الأزواج من التحايل على زوجاتهن وإنذارهم فإن إطلاقها ينطوي على تلقين شامل لكل أمر بحيث تنطوي على نهي المؤمنين على التحايل على أوامر الله وآيات كتابه وتحميلها ما لا تحتمل والتلاعب فيها وصرفها عن أهدافها السامية بقصد جلب النفع للنفس وإيقاع الضرر للغير بغيا وعدوانا والآية وتلقينها تسوغ أن يقال إن الزوجة المطلقة تستطيع أن تمتنع من قبول مراجعة زوجها لها إذا أيقنت أنه لا يريد بذلك إصلاحا، أو كانت له نية سوء في المراجعة، والله تعالى أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 232] وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232) . (1) لا تعضلوهن: معنى العضل لغويا الحبس والمنع والتضييق. ومعنى الجملة لا تمنعوهن بالإكراه وتمسكوهن بالرغم عن رغبتهن عن الرجوع إلى أزواجهن.

تعليق على الآية وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن

تعليق على الآية وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَ لقد روى المفسرون في صدد نزول هذه الآية حديثا رواه البخاري والترمذي عن معقل بن يسار جاء فيه: «إنه زوّج أخته رجلا من المسلمين على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم فكانت عنده ما كانت ثم طلّقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدّة، فهويها وهويته ثم خطبها مع الخطّاب فقال له يا لكع أكرمتك بها وزوجتك فطلقتها والله لا ترجع إليك أبدا. فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إليه فأنزل الله تعالى: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ الآية، فلما سمعها معقل قال سمعا وطاعة لربّي. ثم دعاه فقال: أزوجك وأكرمك» «1» . والآية معطوفة على السياق واستمرار له. ويتبادر لنا والله أعلم أنها نزلت معا. ولا يمنع هذا أن يكون قد حدث ما ورد في الحديث فالتزم الأخ أمر الله وزوّج أخته بعد أن عضلها. وقد احتوت الآية تعليما عاما للمسلمين بعدم ممانعة زوجة مطلقة من الرجوع إلى زوجها إذا ما تراضى الزوجان في صدد ما رسم الله. وتنبيها على أن هذا هو الأزكى والأطهر في علم الله وحكمته. وجملة إِذا تَراضَوْا تؤكد حق الزوجة المطلقة في الرضاء والموافقة على مراجعة زوجها إذا ما أراد أن يراجعها، ويكون ذلك منوطا برضائها أيضا، والله أعلم. وقد احتوت الآية تنبيها للمسلمين عن منع زوجة مطلقة من الرجوع إلى زوجها، وجملة: إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ جديرة بالتنويه في صدد الأمر حيث ينطوي فيها ضرورة التأكد من رضاء كل من الزوجين بالرجوع إلى الآخر وتوافقهما على ذلك على ما فيه الخير والمصلحة مما فيه قيد احترازي لضمان صلاحية الرجعة وخيرها. وفي هذا التعليم القرآني تبدو الحكمة البالغة التي تبدو في جميع حالات التشريع الأخرى.

_ (1) التاج ج 4 ص 56.

تعقيب عام في صدد الطلاق وإناطته بالقضاء

تعقيب عام في صدد الطلاق وإناطته بالقضاء وظاهر مما تقدم أنه ليس من الطلاق القرآني ما يجري على ألسنة الناس من يمين بالطلاق بسائق الغضب أو الإكراه والتهديد أو التعامل مع الناس أو الأيمان التي يحلفها الزوج بالطلاق للناس حتى بدون إكراه ولا تهديد ولا غضب على أنه يفعل كذا ولا يفعل كذا أو لم يفعل كذا أو الأيمان التي تصدر في حالة اللاوعي من سكر أو غيبوبة وإغماء وعته وجنون ومرض شديد يجعله في تلك الحالة ما دام ليس هناك نية للفراق وسبب مبرر له بين الزوجين من نزاع وخصام ونشوز واستحالة توفيق وإصلاح وامتزاج وتعايش. لأن الآيات صريحة العبارة والتوجيه بأن الطلاق إنما أبيح على كونه أبغض الحلال إليه عند نية وقصد الفراق ولأسباب مبررة له. وعند استحالة التوفيق والإصلاح بين الزوجين. ولقد روى أبو داود والترمذي والحاكم وصححه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ثلاث جدّهنّ جدّ وهزلهنّ جدّ النكاح والطلاق والرجعة» «1» . وإزاء النصوص القرآنية وتلقيناتها نميل إلى التوقف في هذا الحديث وما من بابه إلا أن يكون صدر عن رسول الله في ظرف خاص به من قبيل الزجر. وهو على كل حال غير ما ذكرناه مما يجري على الألسنة في الحالات التي ذكرناها. وكثير من العلماء ومنهم الإمام ابن تيمية والإمام ابن القيم يعتبرون مثل هذه الأيمان أيمانا عادية إذا حنث فيها الحالف يكفرها بكفارة اليمين العادية ولا يرتبون عليها فراقا وطلاقا، ولابن القيم في أعلام الموقعين فصول قيمة في هذا الباب.

_ (1) التاج ج 2 ص 309، وروى الطبري هذا الحديث بهذه الصيغة: «من طلّق أو أعتق أو نكح جادا ولاعبا جاز عليه» . وهناك حديث يرويه عن الحسن قال: «كان الناس على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يطلّق الرجل أو يعتق فيقال ما صنعت؟ فيقول: إنما كنت لاعبا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من طلّق لاعبا أو أعتق لاعبا جاز عليه. وفي ذلك نزلت: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وفي تفسير ابن كثير صيغ عديدة من هذا الباب. والصيغة الواردة في الكتب المعتبرة هي التي أوردناها في المتن.

وينتقد بعض الأغيار إباحة الإسلام للطلاق وحينما يمعن المنصف من غير المسلمين بالأسلوب الرائع الحكيم الذي أبيح به إذا ما كان هو الحل الوحيد الذي لا مندوحة عنه بعد أن تكون قد بذلت كل الجهود للتوفيق ومنحت الفرص الكافية المتكررة للتروي والتوفيق لا يمكن إلا أن يسلم بما فيه من روعة وحكمة وصلاح. ولا يكابر في ذلك إلا مكابر مغرض حتى ليصح أن يقال إن الطلاق نعمة من نعم الله في بعض الحالات التي تنقلب الحياة الزوجية فيها إلى جحيم وشقاء مقيم، وقد انطوى هذا المعنى السامي في آية النساء هذه التي جاءت بعد آيتين وصّتا ببذل الجهد في الإصلاح والتوفيق: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130) حيث يكون الفراق عند استحالة التوفيق والإصلاح والصلح خيرا للطرفين من دون ريب. والتقاليد النصرانية الدينية تحرّم الطلاق إلا في حالة جرم الزنا المشهود. وما تزال كنائسها تشدد في ذلك في حين نرى الدول النصرانية قد أباحته وأساغ ذلك الجمهور الأعظم من النصارى ومارسوه بمقياس واسع حتى صار مجونا وميوعة أكثر منه بحثا عن الراحة والخلاص من شقاء أكيد. حيث ينطوي في ذلك حاجة المجتمع الإنساني إلى ذلك العلاج الذي جاء في التشريع الإسلامي الذي رشحه الله ليكون دين البشرية جمعاء في كل زمان ومكان على أحسن وأقوى وأحكم الصور. ولقد ذكرنا قبل قولا للزمخشري أن آية: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ ... هي خطاب للحكام والأئمة أي إنهم هم الذين يجب أن يرفع إليهم هذا الأمر لتقديره. ولقد احتوى القرآن آيات فيها نفس المدى مثل آية سورة النساء هذه: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) وفي سورة الطلاق هذه الآية: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ والاستشهاد وإقامة الشهادة إنما يكونان لأجل النظر في الأمر من جانب القاضي. فكل هذا وما ورد من أحاديث كثيرة مرّت طائفة منها تذكر مراجعات

[سورة البقرة (2) : آية 233]

الأزواج والزوجات للنبي صلّى الله عليه وسلّم وخلفائه في شؤون الطلاق والإيلاء والظهار والنفقة والرضاع إلخ إلخ ... وتدخلهم في حل المشاكل بينهم يسوغ القول إنه ليس من مانع شرعي من إناطة أمر الطلاق بالقضاء الشرعي، وإذا ما أخذ بهذا يكون في ذلك تمام الصورة الحكيمة حيث يتاح درس الأسباب والموقف من جانب القاضي الشرعي فيصدر حكمه أو توجيهاته نتيجة لها. وما يقال إن أسرار الناس لا يصح أن تفشى ولو للقضاء في غير محله. فالقضاء مؤتمن على أسرار الناس. وهناك حالات كثيرة فيها أسرار وتناط شرعا وقانونا بالقضاء. ويمكن أن يجاب على ما يقال من أن الله قد أباح للزوج أن يطلق زوجته ولا يصح حرمانه من هذا الحق مستقلا، وإذا ما استعمل حقه هذا ولم ينفذ عاشر زوجته حراما. إن الناس في عهد النبي وخلفائه كانوا يراجعونهم في ذلك ويسيرون وفق فتاواهم. وفي القرآن عبارات تجعل للقضاء موقفا وكلمة في هذا الشأن. وإذا ما أقر ولي أمر المسلمين هذا استنادا إلى تلك التوجيهات القرآنية والآثار النبوية صار ذلك ملزما. وصار تطليق الأزواج بدون واسطة القضاء لغوا شأن طلاقهم الذي لا ينفذ على ما ذكرناه في مطلع هذا التعقيب، والله أعلم. ولقد أقرّ هذا وطبق بقانون في الجمهورية التونسية التي تدين غالبيتها بالإسلام. والمتبادر أن أولي الحل والعقد والشورى وافقوا على ذلك استنادا إلى دراسات واستنباطات شرعية لعلها ما ذكرناه أو لعل منها ما ذكرناه. [سورة البقرة (2) : آية 233] وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) . (1) حولين: عامين وأصل الكلمة من (حال) بمعنى التنقل من شيء إلى شيء.

تعليق على الآية والوالدات يرضعن أولادهن ... إلخ

(2) فصالا: فطاما. وأصل الكلمة بمعنى المفارقة بعد الوصال والاتصال. (3) أن تسترضعوا أولادكم: أن تعطوهم لمرضعات غير أمهم لإرضاعهم. (4) إذا سلمتم ما آتيتم: المقصود بالتعبير إذا أديتم ما ضمنتم أو ما اتفقتم عليه أو ما استحق عليكم من الأجر على ما ذهب إليه الجمهور. وبعض المفسرين قال إن ذلك بالنسبة للمرضعة، وبعضهم قال: إنه بالنسبة لأم الولد، وهذا هو الأوجه الذي يتسق مع روح الآية، وهو قول الطبري. لم نطلع على رواية في نزول الآية وهي معطوفة على ما سبقها والمتبادر أنها استمرار لها في تشريع مسائل أخرى في حالات الطلاق والسياق يقتضي أن يكون المقصود من (الوالدات) الوالدات المطلقات وهو ما يؤيده فحوى الآية أيضا. تعليق على الآية وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ ... إلخ والآية تضمنت تعليمات وتشريعات في صدد الأمهات المطلقات وأولادهن: فهي: 1- تقرر أن على الأم المطلقة أن ترضع ولدها حولين كاملين إذا أراد الوالدان أن يكون الرضاع تاما لأن ذلك هو مدة الرضاع التام. 2- تحمل الوالد نفقة الأم طيلة مدة الرضاع بما فيه الكفاية حسب العرف والأمثال مع تنبيهها إلى عدم جواز تكليف أحد بأكثر من وسعه وطاقته. 3- تنهى عن تعمد المضارة والمكايدة بسبب الولد من قبل الأب للأم أو من قبل الأم للأب. 4- توجب نفقة الرضاع وعدم المضارة على ورثة الأب في حالة وفاته أثناء مدة الرضاع. 5- تسوغ الفطام قبل تمام الحولين بشرط أن يكون ذلك بالتشاور والتراضي بين الأب والأم.

6- تسوغ كذلك استرضاع الولد من مرضعة غير الأم إذا أراد الوالد والأم على أن يؤدي الوالد أجرة إرضاع الأم لابنها عن المدة التي أرضعته وأجرة المرضعة الجديدة حسب العرف والأمثال. وقد انتهت الآية معقبة على ذلك بأمر وجهته للمخاطبين ويشمل الأزواج والزوجات معا بتقوى الله والتزام حدوده وبالتنبيه إلى أنه مطلع على كل ما يعملونه عليم ببواعثه ومقاصده، وفي التعليمات أو التشريعات من الحق والعدل والحكمة ما هو ظاهر. وفي كتب التفسير أقوال معزوة إلى أهل التأويل من أصحاب رسول الله وتابعيهم واستنباطات فقهية في أحكام ومدى الآية نوجزها ونعلق عليها بما يلي مع التنبيه على أنها تلهم أن المقصود بكلمة (الوالدات) هو الوالدات المطلقات، وهذا ما يقتضيه السياق: 1- هناك من قال إن من واجب الوالدين بصورة عامة أن يستمرا في إرضاع طفلهما حولين كاملين وإن إنقاص ذلك بدون عذر شرعي حرام. وفحوى الآية لا يتحمل ذلك وإنما هو من قبيل الحث، وتقرير كونه الأفضل. 2- وهناك من قال إن الفصال في مدة أقل من سنتين منوط باتفاق الوالدين بحيث لا يجوز الفصال برغبة أحدهما دون موافقة الآخر. وهذا ما تفيده العبارة القرآنية. وهناك من قال إن جملة وَتَشاوُرٍ تعني مشاورة أهل الخبرة في أمر الفطام قبل تمام الحولين. ولا يخلو هذا من وجاهة، ولا يعني هذا نفي إيجاب التشاور والتوافق بين الوالدين بطبيعة الحال. 3- هناك من استنبط من الآية أن الوالدة غير مجبورة على إرضاع ولدها إلا في حالة الضرورة. وجملة وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ تنطوي على إيجاب ذلك على الوالدة فيما يتبادر لنا. ورفع الحرج عن الاسترضاع من غير الأم إذا أراده الوالدان كما ذكرت الآية قد تؤيد ذلك أيضا. غير أنه ورد آية في سورة الطلاق في صدد الوالدات المطلقات قد تفيد صواب ذلك القول وهي: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ

فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) فلعل حادثا أو سؤالا وقع فاقتضت حكمة التنزيل توضيح الأمر، مع التنبيه على أن الحالة هي في صدد الوالدات المطلقات. 5- هناك من قال إن جملة وَعَلَى الْوارِثِ تعني وارث الولد ومن قال إنها تعني وارث الوالد في حال موته أثناء رضاع ابنه. والقول الثاني هو الأكثر ورودا لأن الولد لم يكن قد صار موروثا. 6- وهناك من قال إن هذه الجملة تشمل جميع الوارثين بما فيهم الولد. وهذا في محله وتكون نفقة الرضاع والحالة هذه على التركة. 7- هناك من قال إنه إذا لم يكن للوالد المتوفى مال وجبت نفقة الرضاع على عصبته. فإن لم يكن لهم مال صارت الأم مجبرة على إرضاع ولدها بدون أجر، ويلوح لنا أن نفقة إرضاع اليتيم الفقير ثم نفقة معيشته إذا لم يترك أبوه مالا تقع على عاتق بيت المال الذي جعل الله فيما يدخله من صدقات وغنائم وفيء نصيبا للفقراء واليتامى على ما ذكر في آيات سور الأنفال والتوبة والحشر. 8- ومما ذكره المؤولون على سبيل المثال من مضارة الوالد بولده أن ترفض الأم إرضاع ولدها وتقذفه لوالده ولو كان فقيرا. وأن تطالبه بما لا يستطيع من نفقة وتهدده بالولد للحصول على ما تريد منه ومن مضارة الوالدة بولدها أن ينزع الوالد ولدها منها لإثارة حزنها وأن يقدم لها الزهيد من النفقة مع قدرته على الأفضل. 9- وهناك من قال إن ما في الآية من أحكام بشأن الرضاع ومدة الاسترضاع والتشاور في الفصال وواجبات الأم والأب في ظروف ذلك ثم واجبات ورثة الأب بعد موته تشمل الوالدات إطلاقا سواء أكن مطلقات أم غير مطلقات. والآية هي كما قلنا في صدد المطلقات ومع ذلك فلا يخلو القول من وجاهة بصورة عامة والله تعالى أعلم. وفي سورة الطلاق آيات فيها إيجاب بقاء المطلقة في بيت زوجها طيلة عدتها ونهي عن إخراجها وخروجها وتقرير نفقة سكنها على الزوج واستمرار ذلك بالنسبة

[سورة البقرة (2) : الآيات 234 إلى 235]

للمطلقة الحامل مع تقرير نفقة معيشتها إلى أن تضع حملها وأدائها أجرة رضاع طفلها على ما سوف نشرحه ونورد ما فيه من أحاديث في مناسبتها فجاء ذلك متمما للتشريع الذي انطوى في الآية التي نحن في صددها. [سورة البقرة (2) : الآيات 234 الى 235] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) . (1) يذرون: يتركون. (2) أزواجا: بمعنى زوجات. (3) يتربصن بأنفسهن: ينتظرن. (4) عرضتم: لمحتم دون تصريح. (5) أكننتم في أنفسكم: نويتم في قلوبكم. (6) لا تواعدوهن سرا: معنى الجملة اللغوي النهي عن ضرب موعد سرّي لاجتماع الخاطب بالأرملة. وقيل إن الجملة بمعنى لا تغروهن بالجماع ولا تهيجوهن بذلك حتى يرضين بالزواج منكم. وقيل لا تصارحوهن بالزواج ولا تشددوا عليهن حتى يعدنكم بأن لا يتزوجن غيركم. والجملة التي بعدها تسوغ القول أنها تنهى عن التحدث لهن بما يخدش الحياء، وكل هذا منهي عنه في المواعدة السرية. (7) ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله: أي لا تعقدوا النكاح رسميا إلّا بعد انقضاء المدة المذكورة.

تعليق على الآية والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن ... والآية التالية لها

تعليق على الآية وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ... والآية التالية لها في الآيتين أحكام بشأن الزوجة المتوفى عنها زوجها: 1- فعليها أن تنتظر على نفسها أربعة أشهر وعشر ليال. 2- وليس على أولياء الزوجة ولا على الزوجة نفسها من بأس فيما تفعله في نفسها بعد انقضاء هذه المدة مما هو متفق على العرف والأخلاق الكريمة فالله خبير بنوايا الناس وأعمالهم. 3- وليس على من يريد أن يتزوج بالأرملة حرج في التلميح لها في أثناء هذه المدة برغبته في التزوج منها ولا في نيته على ذلك في سريرته. فالله يعلم أن هذا شيء طبيعي ومعقول على شرط أن يلتزم الرجل الحشمة والمعروف في الكلام بصدده وأن لا يستعمل أساليب الإغراء المستهجنة المغايرة للوقار والحياء ولو مساررة بينه وبينها وأن لا يعقد النكاح فعلا إلا بعد انتهاء العدة. فالله يعلم ما يفعله الناس وما يبيتونه في أنفسهم وعليهم أن يحذروه ويراقبوه. وهو إلى هذا غفور حليم يغفر لمن حسنت نيته ولم يتعمد الخروج على حدوده ولا يأمر بما فيه الحرج والإعنات. ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيتين وهما وإن كانتا ليستا من أحكام الطلاق كالآيات السابقة فإنهما احتوتا أحكاما تدخل في نطاق الموضوع بصورة عامة. فإما أن تكونا نزلتا بعد ما سبقهما وإما أن تكونا وضعتا في مكانهما للمماثلة التشريعية والموضوعية. وفي كتب الحديث والتفسير أحاديث وتأويلات في صدد هاتين الآيتين نوجزها ونعلق عليها بما يلي: 1- هناك من قال إن الآية الأولى قد نسخت الآية [240] من هذه السورة

التي جاء فيها: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ ولو أنها جاءت في موضع متقدم. ويساق في صدد ذلك حديث رواه الخمسة عن زينب بنت أم سلمة قالت: «سمعت أمي تقول: جاءت امرأة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله إن ابنتي توفّي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ قال: لا. ثم قال: إنما هي أربعة أشهر وعشر. وكانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول. قال حميد راوي الحديث عن زينب لزينب: وما ترمي بالبعرة على رأس الحول؟ قالت: كانت المرأة إذا توفّي عنها زوجها دخلت حفشا ولبست شرّ ثيابها ولم تمسّ طيبا ولا شيئا حتى تمرّ بها سنة ثم تؤتى بجلد دابة حمار أو شاة أو طير فتفتضّ به ثم تخرج. فتعطى بعرة فترمي بها ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب وغيره» «1» . وقد عدّ بعضهم الآية على ضوء هذا الحديث ناسخة للآية [240] لأنها جعلت المدة أربعة أشهر وعشرا بدلا من حول كامل. وهناك حديث رواه أبو داود عن ابن عباس يذكر أن الآية [240] نسخت بهذه الآية «2» . غير أن هناك من قال إن حكم الآية [240] ظل محكما لأنها في حق الأرملة التي تريد أن تبقى في بيتها سنة كما كان الأمر قبل الإسلام. وهناك حديث يرويه البخاري عن عبد الله بن الزبير قال: «قلت لعثمان: والذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج قد نسختها الآية التي سبقتها فلم تكتبها أو تدعها؟ قال يا ابن أخي: لا أغيّر شيئا منه عن مكانه» «3» . وليس في جواب عثمان تأييد للنسخ وكل ما يفيده وهذا مهم أن ترتيب الآيتين كان منذ زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم وبأمره. ومهما يكن من أمر فإن حديث زينب يفيد صحة ما ذهب إليه أصحاب القول الأول بشرط أن يعدل فيقال إن في الآية تعديلا للمدة من سنة إلى أربعة أشهر

_ (1) التاج ج 2 ص 329 و 330 والحفش المخدع الحقير. ومعنى تفتضّ به تمسح به قبلها وجسمها من أثر الدم والقذر. (2) التاج ج 4 ص 56. (3) المصدر نفسه.

وعشر ليال. وهذا هو المستفاد من حديث ابن عباس أيضا. وهذا لا يمنع أن يكون في القول الثاني وجاهة على ما سوف نشرحه في تفسير الآية [240] . ونرى من واجبنا أن نقول كلمة في صدد نهي النبي صلّى الله عليه وسلّم للأرملة أن تكتحل إذا شكت عينها. فالنبي صلّى الله عليه وسلّم أوسع صدرا وأفقا من منع ذلك إذا كان بسبب مرض. وكل ما يمكن أن يقال إنه ظن أن الكحل للزينة أو أراد أن لا يفتح بابا للتأويل في صدد إحداد الزوجة على زوجها والله تعالى أعلم. 2- هناك من قال إن مدة الأشهر الأربعة والعشر هي مدة انتظار ولا يسميها مدة إحداد. لأن الآية لا تسميها كذلك وتستعمل كلمة يَتَرَبَّصْنَ وهناك من سماها مدة إحداد استنادا إلى بعض أحاديث نبوية منها حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أم عطية قالت: «كنا ننهى أن نحدّ على ميت فوق ثلاث إلّا على زوج أربعة أشهر وعشرا. ولا نكتحل ولا نتطيب ولا نلبس ثوبا معصفرا، وقد رخص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من حيضها في نبذة من كست أظفار» «1» . والقول الثاني هو الأوجه على ضوء الأحاديث ولا سيما إن المدة لا يمكن أن تكون لاستبراء الرحم الذي يكفي له حيضة واحدة قياسا على عدة المختلعة والمطلقة بتاتا أو ثلاث مرات أو المطلقة طلاقا بائنا على ما شرحناه في سياق الآيات السابقة. 3- وهناك من قال إنه ليس في الآية ما يمنع الأرملة من أن تفعل ما تشاء أثناء عدة الإحداد إلّا عدم التزوج، غير أن الأحاديث المروية عن أم عطية وغيرها صريحة بأن الأربعة منهية عن التطيب والتزين والتكحل ولبس الثياب المفرحة والمعصفرة. وهناك حديث يرويه الإمام أحمد يرويه القاسمي يذكر أن امرأة قتل زوجها فاستأذنت النبي صلّى الله عليه وسلّم في التحول إلى أهلها لأنها بعيدة عنهم ولأنه لم يترك لها نفقة ولا مالا. فأذن لها أولا ثم دعاها فقال: امكثي في بيتك الذي أتاك نعيّ زوجك فيه حتى يبلغ الكتاب أجله» . وهناك من أوجب استنادا إلى الحديث عدم

_ (1) التاج ج 2 ص 329 والكست نبات ذو رائحة ينبت في أظفار يذهب الرائحة الكريهة. وهناك أحاديث أخرى عن غير أم عطية، انظر ص 330.

خروجها وهناك من لم ير في الحديث إيجابا عليها، ونحن نرى هذا هو الأوجه ونفسر الحديث بأنه قصد بذلك أن تظل في بيت زوجها مدة الإحداد وحسب ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعلم أن للمرأة حاجات ومصلحة لا بدّ من خروجها إليها، والله أعلم. 4- قال المؤولون: إن الأرملة الحامل تتبع في مدة تربصها أو حدادها حكم آية سورة الطلاق هذه: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فإذا تأخر وضعها عن المدة المعينة في الآية استمر تربصها وإن تقدم انتهى أجلها. ومع أن آية سورة الطلاق قد جاءت في صدد عدة المطلقات فإن هناك حديثا رواه الخمسة عن أبي هريرة قال: «اجتمع أبو سلمة وابن عباس وهما يذكران أن المرأة تنفس (أي تلد) بعد وفاة زوجها بليال فقال ابن عباس: عدتها آخر الأجلين وقال أبو سلمة: قد حلت بالوضع فأرسلوا فسألوا أم سلمة فقالت: نفست سبيعة الأسلمية بعد وفاة زوجها بليال فذكرت ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم فأمرها أن تتزوج» «1» . وقد أخذ بهذا معظم المذاهب ولا سيما إن الجملة في آية سورة الطلاق مطلقة. وقصد التيسير والتخفيف من الحكمة الملموحة في الحديث النبوي الذي كان لبيان حالة سكتت عنها الآية التي نحن في صددها، وقد يتأخر وضع الحامل إلى أكثر من أربعة أشهر وعشر فتكون مجبرة على التربص بنفسها إلى أن تلد. وقد يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم في تشريعه لاحظ ذلك فشاءت حكمته أن يخفف عنها إذا ولدت قبل انتهاء المدة مقابل ما هو شاق حينما تطول مدة وضعها، والله تعالى أعلم. 5- وفي صدد التعريض بخطبة الأرامل أثناء العدة روي عن أهل التأويل صيغ عديدة بما يحسن أن يقوله الخاطب للأرملة مثل إنك لأهل للزواج وإنك إلى خير. وإني عليك لحريص، وإني لفي حاجة إلى النساء وأجازوا إرسال هدية للأرملة تكون بمثابة تعريض بالخطبة وكل هذا وجيه.

_ (1) التاج ج 2 ص 328. وأبو سلمة إما أن يكون غير أبي سلمة زوج أم سلمة الأول زوجة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإما أن يكون الصحيح ابن أبي سلمة لأن أبا سلمة مات في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم والحادث وقع بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم.

ويلفت النظر إلى جملة: وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً ففيها نهي عن مواعدة الأرملة سرا أو مساررتها إلا في نطاق الوقار والحشمة والمشروع من القول، وهذا تأديب قرآني واجب الالتزام به، والله تعالى أعلم. 6- هناك من قال إن الضمير في جملة وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ عائد إلى الحكام وأولياء الأرملة. وإنها تتضمن تقرير حقهم في منعها من الإخلال بأحكام الحداد المذكورة في الآية والأحاديث قبل انتهاء المدة. وهناك من قال إنه عائد إلى الأولياء والأرامل معا بسبيل التنبيه على أنه لا حرج على الجميع بأن تفعل الأرملة بنفسها ما تشاء من أمور مشروعة. ويلحظ أن رفع الجناح هو عما يفعلن من أمور مشروعة حين بلوغ الأجل، ولا علاقة له بما قبل ذلك. وهذا يجعل القول الثاني هو الأكثر وجاهة وورودا، ومع ذلك فإن القول الثاني لا يخلو من وجاهة وبخاصة في حق الحاكم في منع زواج في وقت نهى عنه القرآن، والله تعالى أعلم. 7- والأكثر على أن جملة فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ تعني الزواج بعد انتهاء المدة. وهناك من قال إن فيها دليلا على حرية الأرملة في تزويج نفسها بدون ولي وإذن منه. وهناك من استند إلى جملة فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ السابقة لهذه الجملة فأوجب الولي وإذنه على كل حال ويتبادر لنا أن القول الأول هو الأوجه لأن النص القرآني أكثر صراحة وحسما. وهناك حديث رواه الخمسة عن أبي هريرة جاء فيه: «الثيّب أحقّ بنفسها من وليّها» «1» . 8- هناك من قال إن مدة حداد الأمة المتوفّى عنها زوجها أو سيدها إذا كانت مستفرشة له هي نصف مدة الحرة، وهناك من قال إنها نفس المدة، وقد يكون القول الثاني هو الأوجه لأن الآية مطلقة ومع ذلك فالقول الأول لا يخلو من وجاهة قياسا على عدد تطليقاتها وعدة طلاقها على ما ذكرناه قبل. 9- هناك من أوجب للمرأة المتوفى عنها زوجها نفقة طيلة مدة حدادها. وقال إن ذلك دين على التركة قياسا على المطلقة التي جعل لها ذلك في آية سورة

_ (1) التاج ج 2 ص 266.

[سورة البقرة (2) : الآيات 236 إلى 237]

الطلاق هذه: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) . وهناك من لم يوجب لها لأنها صارت صاحبة حقّ إرثي في تركة زوجها. وهو الربع إن لم يكن ولد والثمن إن كان ولد على ما جاء في آية سورة النساء السابعة. وقد تطمئن النفس بالقول الثاني أكثر لأن هناك فرقا واضحا بين حالة المطلقة التي لا ترث وحالة الأرملة الوارثة والله أعلم. 10- في حالة الزوجة التي يموت زوجها قبل أن يدخل بها أورد ابن كثير حديثا رواه أصحاب السنن والإمام أحمد وصححه الترمذي يفيد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قضى في مثل هذه الحالة بحق الزوجة في مهر كامل وفي إيجاب مدة الإحداد عليها وفي حقها في إرث زوجها «1» فيكون العمل به والله تعالى أعلم. 11- وهناك حالة أخرى هي حالة المرأة التي فقدت زوجها ولا تدري أين هو حيث روى الإمام مالك عن عمر أنها تنتظر أربع سنين ثم تعتدّ أربعة أشهر وعشرا ثم تحلّ أي تتزوج. وعقب الإمام مالك قائلا: «إن تزوجت بعد انقضاء مدتها فدخل بها زوجها الجديد أو لم يدخل بها فلا سبيل لزوجها الأول إليها إذا ظهر بعد ذلك» «2» . ولقد روى البخاري عن ابن المسيّب قوله: «إذا فقد الزوج في الصف في القتال فتتربّص امرأته سنة» «3» وروى البخاري عن الزهري قوله: «إذا كان الزوج أسيرا يعلم مكانه فلا تتزوج امرأته ولا يقسم ماله. فإذا انقطع خبره فسنته سنّة المفقود» «4» ولم نطلع على أثر نبوي في هذه الحالة والاجتهادات سديدة والله تعالى أعلم. [سورة البقرة (2) : الآيات 236 الى 237] لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) .

_ (1) انظر التاج ج 2 ص 273. [.....] (2) المصدر نفسه ص 327. (3) المصدر نفسه ص 327. (4) المصدر نفسه ص 327.

تعليقات على الآية لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن ... والآية التالية لها

(1) متّعوهن: أعطوهن شيئا نافعا من مال أو ثياب بمثابة تعويض. في هاتين الآيتين أحكام في الطلاق قبل الدخول: فليس من بأس على الأزواج إذا طلقوا زوجاتهم قبل الدخول بهن. فإذا كان وقع ذلك قبل أن يسمي لهن مهرا يستحققن تعويضا يكون متناسبا مع قدرة الرجل المالية ومع ما هو معروف معتاد بالنسبة للأمثال. وهذا حق على المحسنين أي الذين يتوخون في أعمالهم المقاصد الحسنة. وإذا كان وقع بعد تسمية المهر يستحققن نصف المهر ما لم يعفون عنه أي لم يتنازلن عنه أو يتنازل الذي بيده عقدة النكاح. والتنازل أقرب لتقوى الله ورضائه. ويجب على الناس أن لا ينسيهم الموقف ما بينهم من علاقات الفضل والمودة وما يجب عليهم تجاه بعضهم من حسن تعامل وتسامح ورغبة في كسب الفضل. والله بصير بما يعملونه فعليهم أن لا يعملوا إلّا ما فيه رضاؤه وتقواه. تعليقات على الآية لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ... والآية التالية لها الآيتان متصلتان بالسياق، وقد روى الخازن أن الآية الأولى نزلت في رجل من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة ولم يسمّ لها صداقا ثم طلقها قبل أن يمسها. والرواية لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة ولا مانع مع ذلك من صحتها. وحينئذ تكون الآية الثانية نزلت معها لبيان حكم من يسمي مهرها أيضا، وقد وضعت الآيتان في ترتيبهما للتناسب الموضوعي أو لنزولهما بعد الآيات السابقة. ويلفت النظر إلى ما احتوته الآيتان من حثّ على التقوى والإحسان والتسامح

والعفو وعدم نسيان الفضل بين الذين يكون لهم صلة بالموقف مما هو متساوق مع ما احتوته الآيات السابقة وهادف مثلها إلى تنبيه المسلم إلى واجباته في ذلك في هذا الموقف الذي يكون عادة من المواقف النفسانية الحرجة. ويتبادر لنا أن عدم اشتراط سبب للتطليق قبل الدخول لا يعني أنه لا بأس على الرجل أن يطلق بغير باعث صحيح وعادل واستجابة للنزوة والفورة والهوى الشخصي على ما تلهمه روح الآيات عامة التي يجب على المسلم أن يجعلها هي الضابط له في مثل هذه الحالة أيضا أي أن يكون غير متعمد للأذى والمضارة والمكايدة وغير شاذ عن مقتضى الحق والعدل. وأن يكون ذاكرا قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» . وفي كتب التفسير أحاديث وأقوال وتأويلات في صدد الآيتين ومداهما وأحكامهما نوجزها ونعلق عليها بما يلي: 1- إن بعضهم قرأ تَمَسُّوهُنَّ بضم التاء مع ألف بعدها (تماسوهن) وقالوا: إن هذه الكلمة بمعنى تشارك بدني الزوجين في التماس. وعلى كل حال فالجمهور على أن الجملة القرآنية بمعنى الجماع. 2- لقد عزي إلى أبي حنيفة أن الزوج إذا خلا بزوجته ولم يكن هناك مانع من الجماع من حيض أو عاهة رحم فإن خلوته معها تعد دخولا وتستحق كامل مهرها إذا طلقها. ويتبادر لنا أن هذا غير متسق مع النص القرآني الذي يجعل المسيس شرطا لاستحقاق المهر الكامل بعد الطلاق والله أعلم. 3- الجمهور على أن ال فَرِيضَةً بمعنى المهر. 4- الجمهور على أن المطلقة المسمى مهرها لا تستحق متعة. غير أن هناك آية أخرى تأتي بعد قليل مطلقة في إيجاب المتعة للمطلقات. وقد جعل هذا بعض المجتهدين يقولون بحقها بالمتعة والله أعلم. 5- تعددت صفات المتعة، فهناك من قال أعلاها خادم ثم بعض الفضة ثم

الكسوة. وأوسطها ثياب المرأة في بيتها. وهناك من عين خمارا ودرعا وجلبابا وملحفة وإزارا. وروى بعضهم عن الحسن أنه متع مطلقة له بعشرة آلاف درهم. وهناك حديث لم يرد في الكتب المعتبرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم تزوج أميمة بنت شرحبيل فلما دخلت عليه وبسط إليها يده كأنما كرهت فأمر بتجهيزها وكسوتها بثوبين. وحديث لم يرد كذلك في الكتب المعتبرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر أحد أصحابه الذي طلق زوجته قبل الدخول أن يمتعها ولو بقلنسوة. ومهما يكن من أمر فإن جملة وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ تسوغ القول إن المقدار متموج حسب حالة الزوج الاجتماعية والمالية، وأن القادر على الأحسن لا يصح أن يعطي الزهيد البخس. 6- هناك من قال مع ذلك إن متعة من لم يسم مهرها يجب أن تعدل نصف مهر مثلها استنباطا من إيجاب نصف المهر إذا كان مسمى، وهذا وجيه مع ملاحظة تلقين العبارة القرآنية السابقة ومداها بالنسبة لحالة الزوج والزوجة الاجتماعية والمالية. 7- هناك من قال إن جملة: الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ تعني ولي الزوجة ومن قال إنه الزوج، والجمهور على الثاني وهو الأوجه. بل مؤيد بروح الآية وفحواها. فولي الزوجة لا يملك عقدة النكاح ملكا تاما في جميع الحالات وموافقة البكر البالغة شرط والثيّب أحق بنفسها من وليها «1» على ما جاء في الأحاديث. والزوجة هي التي تقبض مهرها وتتصرف به على ما قررته آيات عديدة في سورة النساء. وفي جملة يَعْفُونَ دليل. فالجملة تعني الزوجة المطلقة وهذا يعني أن القرآن قرر حقها المستقل في ذلك وليس من حكمة لشرط عقد وليّها وهي موجودة والمهر حق واجب للزوجة ولا يملك الولي التنازل عنه في أي حال. 8- وجملة إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ على ضوء ما

_ (1) من ذلك: لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن والثيب أحق بنفسها من وليها وإذن البكر سكوتها (انظر التاج ج 2 ص 266) .

تقدم تعني التنازل من جانب الزوج عن النصف الثاني من المهر المسمى ومنحه للزوجة كاملا. والتنازل من جانب الزوجة عن النصف المستحق لها لأنها لا تستحق جميع المهر حتى تتنازل عنه. 9- هناك من صرف جملة وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إلى الزوج بسبيل حثه على منح كامل المهر لمطلقته. فهو المنفق والدافع للمهر وقد فضله الله درجة فصار عليه أن يؤدي حق هذا التفضيل. ولا يخلو هذا من وجاهة وإن كان هذا لا يتنافى مع احتمال كون الجملة موجهة للزوجين معا بسبيل حثّ كل منهما على التسامح والمفارقة بالحسنى. 10- لقد استنبط بعضهم من الآية الأولى جواز عقد النكاح قبل تعيين المهر. فإذا تم الدخول ولم يسم مهر وجب للزوجة مهر أمثالها ولها نصف مهر أمثالها إذا لم يتم الدخول وهذا وجيه سديد. 11- هناك من قال إن المفوضة بطلاق نفسها إذا طلقت نفسها قبل الدخول لا تستحق الذمة، ولم نطلع على أثر نبوي وراشدي في ذلك. ومع أن المتبادر أن مصدر الطلاق لم يتغير وهو الزوج بتفويضه زوجته بطلاق نفسها وأن حقه في التطليق قائم وأن صفة المطلقة لا ترتفع عن التي تطلق نفسها بموجب التفويض فإن ذلك القول وجيه من حيث إنه ليس من محل للتعزية والترضية في هذه الحال وهما من أهداف المتعة. ومع ذلك نقول إن إطلاق النص القرآني في الآية [242] التي تأتي بعد قليل بخاصة يسوغ القول إنها تستحق المتعة والله أعلم. 12- في صدد صفة الطلاق قبل الدخول عزا الإمام مالك إلى أبي هريرة وابن عباس رأيا مفاده أنه إذا كان طلاقا مطلقا بدون عدد يعد الطلاق بائنا، عدته حيضة ويجوز للزوج أن يرجع إلى زوجته بعقد ومهر جديدين إذا شاءا أو تراضيا. وإذا كان طلاقا باتا ثلاثا أو لثالث مرة فتكون بينونة كبرى ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره «1» . ولم نطلع على أثر نبوي والرأي سديد وجيه فيما هو المتبادر.

_ (1) انظر الموطأ ج 2 ص 47- 48.

[سورة البقرة (2) : الآيات 238 إلى 239]

13- هناك من قال إن متعة المطلقة التي لم يسم مهرها هي على سبيل الندب لا الإيجاب، وهناك من قال إنها واجبة، واستلهم أصحاب القول الأول صيغة الآية، واستلهم أصحاب القول الثاني الآية [242] التي فيها كلمة (حقا) والتي تأتي بعد قليل. ونحن نرى هذا هو الأوجه والله أعلم. وفي سورة الأحزاب هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا (49) والنص مطلق مثل إطلاقه في الآية [242] وفي هذا تدعيم لوجاهة القول والله تعالى أعلم. ولقد قال أصحاب هذا القول إن من حق المطلقة التي لم يسم مهرها أن ترفع أمرها إلى الحاكم وأن على هذا أن يحكم لها بالمتعة وأن الزوج يحبس بها حتى يؤديها. وأنه إذا مات قبل أدائها تكون دينا على تركته وهذا وجيه تبعا لوجاهة القول لأنه نتيجة له، والله تعالى أعلم. وفي آية الأحزاب التي أوردناها تتمة للتشريع الذي احتوته الآيتان حيث يظهر أن بعضهم سألوا فنزلت الآية لترفع العدة عن المطلقة قبل المسّ. لأن العدة في الأصل لاستبراء الرحم وفسح المجال للمراجعة ولا محل لهذا وذاك في هذه الحالة ويكون للمطلقة أن تتزوج حالا. [سورة البقرة (2) : الآيات 238 الى 239] حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) . في الآيتين: أمر موجه إلى المسلمين بالمحافظة على الصلوات وبخاصة الصلاة الوسطى وأدائها في أوقاتها. وقيامهم فيها خاشعين خاضعين لله وحده وتنبيه على أنه لا ينبغي أن يمنعهم من ذلك مانع حتى في حالة الخوف والخطر. فعليهم في هذه الحالة أن يؤدوا الصلاة أثناء ركوبهم إذا كانوا راكبين أو مشيهم إذا كانوا مترجلين. فواجب ذكر الله وأداء حقه في العبادة مترتب عليهم يجب أن يؤدوه في

تعليق على الآية حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ... إلخ والآية التي بعدها

حالتي الأمن والخوف فهو الذي علمهم ما لم يكونوا يعلمونه وعليهم شكره وذكره. تعليق على الآية حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ... إلخ والآية التي بعدها والآيتان فصل مستقل لا صلة به بالسياق السابق ولا باللاحق، وقد أورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن زيد بن ثابت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي الظهر بالهجير وكانت أثقل الصلوات على أصحابه فلا يكون وراءه إلّا الصف أو الصفان فقال لقد هممت أن أحرق على قوم لا يشهدون الصلاة فنزلتا لتحثا على وجوب إقامة الصلاة في أوقاتها في أي حال، ومن المحتمل أن تكون الآيتان قد نزلتا بعد الآيات السابقة لها فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بوضعها في مقامها ولو لم يكن بينها وبين السياق مناسبة وفي هذا صورة من صور التأليف القرآني. ولقد تعددت الأقوال في الصلاة الوسطى، فمنها أنها صلاة الظهر لأن وقتها وسط النهار، وقد يتفق هذا مع الحديث المروي عن زيد، ومنها أنها صلاة الفجر لأنها متوسطة بين صلاتي النهار الظهر والعصر وصلاتي الليل المغرب والعشاء. وهي أشق من غيرها، ومنها أنها صلاة العصر. وقد روى المفسرون مع كل قول أقوالا وأحاديث معزوة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، فقد عزي القول بأنها صلاة الفجر إلى ابن عباس في روايات عديدة، وعزي القول بأنها صلاة الظهر إلى زيد بن ثابت. غير أن القول بأنها صلاة العصر مؤيد بأحاديث أقوى، فقد روى أصحاب الخمسة حديثا عن علي (رضي الله عنه) جاء فيه: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يوم الأحزاب شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا ثم صلّاها بين العشاءين» «1» . وقد روى الترمذي حديثا عن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «صلاة الوسطى صلاة العصر» «2» وقد روى الترمذي

_ (1) انظر التاج ج 1 ص 123. (2) انظر التاج ج 1 ص 123.

حديثا عن أبي يونس مولى عائشة (رضي الله عنها) جاء فيه: «أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا فقالت: إذا بلغت هذه الآية: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى فآذنّي فلما بلغتها أعلمتها، فأملت عليّ (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر) وقالت سمعتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «1» . وهكذا يكون تأويل الصلاة الوسطى بصلاة العصر هو الأوجه المؤيد بأحاديث صحيحة وهو ما عليه الجمهور ولقد أثر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أحاديث عديدة منها ما هو صحيح فيها تنويه بصلاة العصر وإنذار لمن تفوته مما فيه تساوق مع التلقين القرآني، من ذلك حديث رواه البخاري والنسائي عن بريدة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله» «2» . وحديث رواه الشيخان عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله» «3» . ولقد روى الزمخشري في سياق الآية رواية تفيد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يجلس إلى أصحابه بعد صلاة العصر فيتحلقون حوله ويستمعون إلى عظاته وأحاديثه ويتذاكرون فيما بينهم من أمور وما يكون من شؤون. وهذه الرواية لم ترد في كتب الصحاح ولا يمنع هذا من صحتها حيث ينطوي فيها توضيح ما لاهتمام كتاب الله ورسوله بهذه الصلاة والله أعلم. وما تقدم هو في صدد الفقرة الأولى من الآية الأولى وفي صدد الفقرة الثانية منها أي: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) روى البخاري والترمذي حديثا عن زيد بن أرقم قال: «كنّا نتكلّم في الصلاة يكلّم أحدنا أخاه في حاجته حتى نزلت فأمرنا بالسكوت» . حيث ينطوي في الحديث ما فهمه أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعملوا به من تلقين الآية. وهناك أحاديث أخرى أوردها ابن كثير تفيد أن الأمر بذلك كان من النبي صلّى الله عليه وسلّم أيضا. منها حديث أخرجه مسلم جاء فيه: «إن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لمعاوية بن الحكم السلمي حين تكلّم في الصلاة: إن هذه الصلاة لا يصحّ فيها شيء من كلام

_ (1) التاج ج 4 ص 57. (2) التاج ج 1 ص 123. (3) التاج ج 1 ص 123.

[سورة البقرة (2) : آية 240]

الناس إنما هي التسبيح والتكبير وذكر الله» . وحديث آخر وصف بالصحيح عن ابن مسعود قال: «كنا نسلّم على النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل أن نهاجر إلى الحبشة وهو في الصلاة فيردّ علينا فلما قدمنا سلمنا عليه فلم يردّ عليّ فأخذني ما قرب وما بعد فلما سلّم قال إني لم أردّ عليك لأني كنت في الصلاة وإن الله يحدث ما شاء وإن مما أحدث أن لا تتكلموا في الصلاة» . وحديث آخر يرويه الحافظ أبو يعلى: «إذا كنتم في الصلاة فاقنتوا ولا تتكلّموا» . والتلقين المنطوي في الجملة القرآنية على ضوء الأحاديث هو تنبيه المؤمنين إلى وجوب استحضار الله عز وجل وحده في أذهانهم حينما يكونون في الصلاة وعدم إشغالها بأي شيء آخر عن ذلك لأنه من المقاصد المهمة في الصلاة. وفي صدد فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً نقول إنها في صدد إيجاب الصلاة في كل حال في أوقاتها. وإساغة لإقامتها في الخوف في حالة السير مشيا وفي حالة الركوب. وفي سورة النساء آيات أخرى في صدد ذلك سوف نزيد هذا الموضوع شرحا ونورد ما ورد فيه من أحاديث في مناسبتها. [سورة البقرة (2) : آية 240] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) . (1) وصية: قرئت بالفتح على تقدير (فليوصوا وصية) وقرئت بالرفع على اعتبار الإيجاب والحكم. وتبعا لاختلاف قراءة (وصية) يكون في الآية أمر للأزواج بأن يوصوا حين

تعليق على الآية والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج ...

تحضرهم الوفاة بأن ينفق على زوجاتهم من بعدهم حولا كاملا وبأن لا يخرجن من مسكنهن طيلة هذه المدة أو يكون فيها أمر رباني بإيجاب تنفيذ ذلك. وبالإضافة إلى هذا فإن فيها تسويغا لخروجهن قبل نهاية المدة إذا شئن، ورفعا للحرج عن ذي العلاقة والولاية فيما يفعلنه في أنفسهن من التصرفات المشروعة وتنبيها على أن الله تعالى عزيز تجب طاعته حكيم لا يأمر إلا بما فيه الخير والمصلحة. وروح الآية وفحواها يلهمان أن ما تقرره للزوجة هو واجب على ورثة زوجها وتركتها سواء أوصى هو بذلك أم لم يوص. وأن معنى مَتاعاً هنا هو نفقة معيشتها. تعليق على الآية وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ ... والآية فصل تشريعي من باب الفصول التي سبقت ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد السياق السابق فوضعت في ترتيبها أو وضعت في ترتيبها للمماثلة التشريعية. ولقد روى الخازن أنها نزلت في امرأة رجل من الطائف هاجر إلى المدينة مع أبويه وزوجته فمات فلم تعط زوجته شيئا من ميراثه وكان ذلك قبل نزول آيات المواريث في سورة النساء، فرفعت أمرها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى الآية فأمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يبقوها في بيتها سنة وينفقوا عليها. والرواية لم ترد في كتب الصحاح ويلحظ أنها لا تتسق تماما مع فحوى الآية ويتبادر لنا أنها في شأن أرملة أراد أهل زوجها إخراجها وامتنعوا عن النفقة عليها. ولا يمنع هذا أن تكون طبقت على الجملة التي رواها الخازن. ويروي الطبري عن ابن عباس وآخرين أن حكم هذه الآية كان جاريا قبل نزول الآية [234] من هذه السورة وقبل نزول آيات المواقيت في سورة النساء. وأنها نسخت فأنقصت المدة إلى أربعة أشهر وعشر في الآية [234] وحملت الأرملة نفقة نفسها لأنها صارت ترث من زوجها. ويروي الطبري عن مجاهد

[سورة البقرة (2) : الآيات 241 إلى 242]

وآخرين أيضا أن حكم الآية ظل محكما لمن تشاء من الزوجات البقاء في بيت زوجها المتوفى سنة مع إيجاب نفقتها، ويبقى حكم الآية [234] وما ورد في صددها من أحاديث أوردناها قبل محكما بالنسبة لهذه الزوجة. وقد صوب الطبري القول الأول غير أن الذي يتبادر لنا استلهاما من مجيء هذه الآية بعد الآية [234] أن القول الثاني هو الأوجه وليس هناك حديث وثيق بالنسخ. أما مسألة نفقتها طول السنة فالذي يتبادر لنا أن نسخها بآية المواريث هو وجيه وآية المواريث نزلت بعدها والله أعلم. وعلى صحة استنتاج بقاء الآية محكمة في حق الزوجة في البقاء في بيت زوجها المتوفى عنها سنة كاملة وعدم الحرج مع ذلك من خروجها أثناء هذه المدة فالذي يتبادر لنا مع الآية ومقاصدها أنها لو خرجت لحاجتها ثم أرادت أن تعود إلى بيت زوجها لإتمام مدة السنة فلها ذلك، والله تعالى أعلم. [سورة البقرة (2) : الآيات 241 الى 242] وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) . في الآيتين توكيد لحق المتعة والتعويض للمطلقات في نطاق العرف والعادة والأمثال. وتقرير كون هذا واجب الأداء على المتقين لغضب الله والراغبين في رضائه. وبيان بأن الله ينزل آياته ليعرف المؤمنون منها ما يجب عليهم فيعقلوه ويسيروا وفقه. وقد روى المفسرون «1» أن الآيتين نزلتا بسبب فهم بعض المسلمين من جملة حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ الواردة في الآية [236] أنهم غير ملزمين بالمتعة فإن أحبوا متعوا وإلّا فلا واجب عليهم، والرواية لم ترد في كتب الصحاح ولكنها محتملة الصحة. وقد وضعت الآيتان في ترتيبهما للتناسب والتقارب الموضوعي وربما

_ (1) انظر الطبري والخازن وابن كثير والطبرسي.

[سورة البقرة (2) : الآيات 243 إلى 245]

نزلتا بعد سابقتهما. وقد صارتا خاتمة للفصول التشريعية المتعلقة بالطلاق والترمل وأسلوبهما متسق مع أسلوب الآيات السابقة المتعلقة بالموضوعين مستهدف ما استهدفته من حماية المرأة وتوكيد حقها. ولقد اختلفت الأقوال التي يرويها المفسرون في المطلقات اللاتي عنتهن الآيتان. فهناك قول بأنهن المطلقات قبل المسيس اللاتي لم يسم لهن مهر تثبيتا لحقهن الذي ذكر في الآية [236] والذي اختلف في استحبابه ووجوبه. وهناك قول بأنهن المطلقات عامة بما فيهن المدخول بهن. وقد أورد أصحاب القول الثاني آية سورة الأحزاب هذه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا (28) كدليل على قولهم. وإطلاق العبارة في الآية وعلى ضوء آية سورة الأحزاب قد يجعل القول الثاني هو الأوجه. ويمكن أن يقال على ضوء هذا إن حكمة التنزيل قد شاءت أن يكون في إمتاع المطلقة المدخول بها والتي يمضها الطلاق ويحزن نفسها على كل حال تعزية وترضية وفي هذا تمام البرّ والرحمة وهو ما يلحظ في التشريعات السابقة بصورة عامة. [سورة البقرة (2) : الآيات 243 الى 245] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) . في الآيات تذكير بقصة جماعة من ألوف فروا من ديارهم خوفا من الموت فلم يفدهم فرارهم شيئا حيث أماتهم الله دفعة واحدة ثم أحياهم ليعرفوا قدرته وفضله. فالله هو صاحب الأفضال على الناس ولو كان أكثرهم لا يشكرونه.

تعليق على الآية ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ... إلخ وعلى الآيتين التاليتين لها

وأعقب القصة أمر موجه إلى المسلمين بالقتال في سبيل الله، وتنبيه لهم على أن الله سميع لكل ما يقولون عليم به. وحثّ لهم على إقراض الله قرضا حسنا مما ينطوي فيه حثّ لهم على إنفاق المال في سبيل الله وتنويه بمن يفعل ذلك وبشرى بأن الله يرده إليه أضعافا مضاعفة وتنبيه على أن بسط الرزق وقبضه بيد الله وأن مرجع الناس جميعا إليه مما ينطوي فيه توكيد في الحثّ على الإنفاق في سبيل الله أيضا. تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ ... إلخ وعلى الآيتين التاليتين لها الآيات فصل جديد ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآيات السابقة لها فوضعت في ترتيبها، الصلة ملموحة بين الآية الأولى والآيتين التاليتين لها على ما سوف نشرحه بعد، وهذا ما جعلنا نعرضها معا. وقد روى المفسرون «1» أن الآية الأخيرة نزلت في مناسبة قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في مجلس من مجالسه: من تصدّق فله مثلاه في الجنّة. فقال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله لي حديقتان إن تصدقت بإحداهما فإن لي مثليها في الجنة؟ قال: نعم. قال: وأم الدحداح والصبية معي؟ قال: نعم. فتصدق بأفضل حديقتيه فنزلت الآية. ولم نطلع على سبب نزول الآيتين اللتين قبلها، والذي يتبادر لنا أن الآيات الثلاث فصل واحد منسجم ومتساق المدى، وقد احتوت الآية الأولى منها قصة بسبيل بيان أن الفرار من الموت لا يقي منه، والثانية احتوت أمرا للمسلمين بالقتال مما ينطوي فيه تنبيه على عدم التهيب من ذلك خوفا من الموت. والثالثة احتوت حثا على الإنفاق في سبيل الله الذي هو من لوازم الجهاد وضروراته. ولا يمنع هذا أن تكون قصة أبي الدحداح صحيحة ولكن الأكثر احتمالا واتساقا مع نص الآية أن تكون

_ (1) انظر تفسير ابن كثير والطبري والخازن.

وقعت بعد نزول الآيات حيث استجاب إلى ما فيها من حثّ وتشويق. ولقد روى الطبري وغيره روايات متنوعة عن القصة المذكورة في الآية الأولى مختلفة الصيغ متفقة المدى. منها رواية عن ابن عباس أنها في صدد أربعة آلاف أو ثلاثين ألفا فروا من قريتهم من الوباء أو من الجهاد خوفا من الموت فأماتهم الله، فمر عليهم نبيّ فدعا الله أن يحييهم فأحياهم ليثبت لهم أن موتهم وحياتهم في يد الله وأمره. ومنها رواية عن أشعث بن أسلم البصري في سياق طويل لا يخلو من إغراب مفادها أن يهوديين أخبرا عمر بن الخطاب أن هذه قصة جماعة من بني إسرائيل خرجوا من مدينتهم ألوفا حذر الموت من الوباء فأماتهم الله حتى إذا بليت عظامهم بعث الله حزقيل النبي لينادي عليهم ففعل فأحياهم الله تعالى. ولقد ورد في الإصحاح 37 من سفر نبوءة حزقيل أحد أسفار العهد القديم المتداولة اليوم خبر فيه بعض المشابهة لهذه القصة. حيث يبدو أن مما كان يتداوله اليهود في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم من قصصهم القديمة. والراجح أن سامعي القرآن من المسلمين أو بعضهم كان يعرفها من اليهود فاقتضت حكمة التنزيل تذكيرهم بها على سبيل تخفيف استشعارهم بالخوف من الموت وحضهم على القتال والإنفاق في سبيل الله مما ورد في الآيات في ظرف كان بعضهم يتهيب من ذلك أو يتلكأ فيه. ولقد احتوت الآيات [218، 262، 272] من سورة البقرة التي سبق تفسيرها إشارة ما إلى ذلك. والمتبادر أن بعضهم ظل مع ذلك يتهيب ويتكرر فاقتضت الحكمة معالجة الأمر مجددا في الآيات، ولقد جاء بعد هذه الآيات فصل فيه قصة طلب بني إسرائيل تعيين ملك عليهم ليقاتلوا تحت لوائه أعداءهم ونكث أكثرهم عن ما قطعوه على أنفسهم من عهد القتال مما نرجح أنه سيق استطرادا لتدعيم أمر القتال والإنفاق الذي احتوته الآيات الثانية والثالثة كما هو شأن الآية الأولى. وبعبارة أخرى إنه جاء تدعيما للمعالجة التي اقتضتها حكمة الله.

استطراد إلى الفرار من الوباء

استطراد إلى الفرار من الوباء لقد استطرد ابن كثير في سياق تفسير الآية الأولى إلى موضوع الفرار من الوباء وأورد حادثا في زمن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وحديثا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم رواه الشيخان عن ابن عباس جاء فيه: أن عمر خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أهل الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام، فقال عمر لابن عباس: ادع لي المهاجرين الأولين فدعوتهم فاستشارهم فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجت لأمر ولا نرى أن نرجع عنه. وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء فقال: ارتفعوا عني. ثم قال: ادع لي الأنصار. فدعوتهم فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين في الاختلاف فقال: ارتفعوا عني. ثم قال: ادع لي من كان هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فدعوتهم فلم يختلف عليه رجلان فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء. فنادى عمر في الناس: إني مصبّح على ظهر فقال أبو عبيدة: أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، وكان عمر يكره خلافه. نعم نفرّ من قدر الله إلى قدر الله أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا لها عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله. وجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيّبا في بعض حاجته فقال: إن عندي من هذا علما سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارا منه، فحمد الله عمر بن الخطاب ثم انصرف» «1» . وفي الحديث تعليم صحيح نبوي بليغ يجب الالتزام به. [سورة البقرة (2) : الآيات 246 الى 252] أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) .

_ (1) التاج ج 3 ص 172- 173.

(1) طالوت: تعريب شاؤول المذكور في سفر صموئيل. (2) بسطة في العلم والجسم: إشارة إلى ما كان عليه طالوت من جسامة حيث روى سفر صموئيل أنه كان أطول الناس قامة. (3) التابوت: هنا هو صندوق كان بنو إسرائيل يحفظون فيه الذخائر

تعليق على الآية ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى ... إلخ والآيات التالية لها من [246 - 252]

الدينية المقدسة منذ عهد موسى وهرون. (4) سكينة من ربكم: طمأنينة تطمئن بها نفوسكم يبعثها إليكم ربكم. (5) فصل: بمعنى سار. (6) من لم يطعمه: من لم يذقه ويشرب منه. (7) الذين يظنون أنهم ملاقو الله: الذين يتيقنون من لقاء ربهم. تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى ... إلخ والآيات التالية لها من [246- 252] الآيات فصل جديد، وفيها قصة من تاريخ بني إسرائيل القديم من بعد موسى (عليه السلام) ، وعبارتها واضحة، والآيتان الأخيرتان منها جاءتا بمثابة تعقيب على القصة احتوت أولاهما تسويغا للحروب الدفاعية وتقريرا لضرورتها، فلو لم يلهم الله المعتدى عليهم بالوقوف موقف الدفاع فيدفع بذلك بعض الناس ببعض لعمّ الفساد وساد الأشرار البغاة. وهذا من فضل الله على خلقه ومن آثار حكمته في توجيه الناس والفطرة التي فطرهم عليها، واحتوت الثانية توكيدا وجه الخطاب فيه للنبي صلّى الله عليه وسلّم بأنه من رسل الله وبأن الله قد أنزل آياته عليه بالحق حسب ما رآه من مقتضيات الحكمة والمصلحة. ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزول الآيات، والمتبادر منها أنها جاءت كما قلنا قبل للتدعيم استطرادا للأمر الموجه إلى المسلمين بالقتال والإنفاق في سبيل الله الذي احتوته الآيات السابقة لها ومن المحتمل أن تكون نزلت مع الآيات الثلاث. وإلا فتكون نزلت بعدها فورا وبدء المجموعتين بجملة أَلَمْ تَرَ مما يؤيد ذلك. ويؤيد في الوقت نفسه أن المسلمين أو بعضهم كانوا يعرفون ما فيهما من قصص والله أعلم. وقد انطوت على تلقينات جليلة ومعالجة روحية قوية في صدد الجهاد في سبيل الله والثبات فيه. وفي النعي على المترددين والمتمردين

والجبناء، وفي التنويه بالمخلصين الصابرين وتأييد الله لهم، وفي صدد بيان كون المهم في مثل هذه المواقف هو الإخلاص والصبر واليقين بالله ونصره ولقائه لا الكثرة، فالصابرون المخلصون الموقنون منتصرون بإذن الله مهما كان عددهم قليلا. وفي الآيات نقاط بارزة نعتقد أنها من الجوهري في التذكير والعظة والتدعيم والتلقين الذي انطوى فيها، مثل إبداء الإسرائيليين الرغبة في القتال بسبب ما حل فيهم من عدوان الغير عليهم ومثل ما كان من شك نبيهم في صدق رغبتهم. ومثل ما وقع من تمردهم على اختيار الله وعلى أوامر الملك ومطالبتهم بالآيات للتدليل على صدق الاختيار. ومثل تهيبهم العدو وارتدادهم عن لقائه وما ظهر منهم من الانحراف والمخالفة في الامتحان الذي امتحنهم الله به حيث منعهم من الشرب من ماء النهر عبّا، ومثل ثياب المخلصين المؤمنين وصبرهم وانتصارهم أخيرا. وهذه النقاط تقوي التوجيه الذي وجهناه في سياق الآيات السابقة من تهيب بعض المسلمين وترددهم في الاستجابة إلى دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم في موقف جهادي، وما قلناه من أن هذا الفصل قد سيق بسبيل التذكير والتمثيل والعظة والتنويه والتنديد معا. ومما يزيد في قوة العظة والتدعيم ما بين محتويات الفصل وبين ظروف المسلمين وبخاصة المهاجرين الذين كان الانتداب إلى القتال قبل وقعة بدر قاصرا عليهم على ما ذكرناه في مناسبة سابقة حين نزوله من تماثل أو تقارب. فاليهود نالهم الأذى والعدوان بعد موسى فدفعهم هذا إلى طلب القتال ثم نكص أكثرهم، والمهاجرون نالهم مثل ذلك فحري بهم أن يعتبروا ويتعظوا ولا يكونوا مثل أكثر اليهود. والآيتان الأخيرتان التعقيبيتان متصلتان بهذا المعنى اتصالا وثيقا، فالجهاد الذي دعى إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم وفرضه القرآن ضرورة لا بد منها لأن البغي والعدوان إذا لم يدفعا استشرى الشر والفساد. وهذا مما لا يرضاه الله تعالى لعباده المؤمنين

ولذلك سوغ الجهاد في سبيل دفع البغي والظلم. وفي هذا ما فيه من حكمة اجتماعية بليغة وتلقين جليل مستمر المدى. وفي المحاورة بين بني إسرائيل ونبيهم التي شاءت حكمة التنزيل أن تحكيها عظة بالغة حيث تضمنت تقرير كون بسطة العلم والجسم تؤهل صاحبها للملك والقيادة أكثر من بسطة المال. وظاهر مما تقدم أن القصة لم تكن مرادة لذاتها ولذلك اقتصرت حكمة التنزيل على الخلاصة التي احتوتها الآيات والتي استهدف بها العبرة والعظة والتمثيل. ولقد فصلت القصة في أسفار القضاة وصموئيل الأول وصموئيل الثاني من أسفار العهد القديم المتداولة اليوم. والخلاصة القرآنية متفقة بعض الاتفاق مع ما جاء في هذه الأسفار ومتغايرة بعض التغاير أيضا. والذي نرجحه أن ما كان يتداوله اليهود ويعرفه العرب عن طريقهم هو المتسق مع الخلاصة القرآنية. وفي الأسفار التاريخية العائدة لما بعد موسى، والمتداولة اليوم أخبار متناقضة كما يظهر من مقارنة أسفار أخبار الأيام وأسفار الملوك. فليس من مانع من أن يكون هناك أسفار ضاعت فيها ما هو المتفق مع الخلاصة القرآنية وهو ما نعتقده ونبهنا عليه في مناسبات سابقة. وخلاصة ما ورد في الأسفار المتداولة اليوم المذكورة آنفا عن القصة أن بني إسرائيل تعرضوا بعد موسى ويوشع لعدوان من الفلسطينيين في جنوب فلسطين، ومن الكنعانيين في شمالها، ومن الآشوريين في العراق، والآراميين في الشام، والمصريين ومن دول شرق الأردن وتناحروا معهم ردحا، وتداولت الأيام بينهم. ثم كان للفلسطينيين عليهم غلبة شديدة حتى لقد احتلوا كثيرا من بلادهم ومدنهم وأخذوا تابوتهم الذي فيه الألواح والمدونات التشريعية الربانية التي كتبها موسى على ما شرحناه في سورة الأعراف. وكانوا من قبل يقاتلون بقيادة قواد يظهرون من آن لآخر باسم قضاة فطلبوا من نبيهم صموئيل أن يقيم عليهم ملكا فأقام عليهم

[سورة البقرة (2) : آية 253]

طالوت الذي كان أطولهم قامة ومسحه بالزيت فصار ذلك سنّة متبعة وصار ملكهم يسمى مسيح الربّ. وأخذوا يتقاتلون مع الفلسطينيين وتداولت الأيام بينهم، وأصاب الفلسطينيين بعض البلاء الرباني الذي أجبرهم على إعادة التابوت إليهم تجرّه الثيران بدون سواقين، ثم كان تصاف بينهم وبرز قائدهم جالوت وطلب المبارزة فهابوه ولكن داود وكان فتى تقدم إليه ورشقه بحجر من مقلاعه فقتله وكسب الإسرائيليون المعركة نتيجة لذلك، وقد خشي طالوت على نفسه وملكه من داود فصار يطارده إلى أن مات وبايع بنو إسرائيل داود بالملك من بعده. وفي كتب التفسير روايات معزوة إلى علماء الأخبار بأسماء وبدون أسماء فيها تفصيلات كثيرة «1» . وفيها مفارقات تدل على أن الرواة والمفسرين لم يطلعوا على الأسفار ودونوا ما سمعوه من غثّ وسمين وصحيح وخيال وإن كانت الروايات والتفصيلات تدل في الوقت نفسه على أن قصص بني إسرائيل المشار إليها اقتضابا في الخلاصة القرآنية كانت متداولة في البيئة العربية والإسلامية في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم وبذلك تستحكم العظة والعبرة القرآنية. [سورة البقرة (2) : آية 253] تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253) . تعليق على الآية تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ... إلخ عبارة الآية واضحة ولم نطلع على رواية في نزولها، والمتبادر أنها جاءت استطرادية وتعقيبية وتعليلية معا لما احتوته الآيات السابقة. ومتصلة بموضوعها

_ (1) انظر تفسير الخازن وابن كثير والطبري مثلا. [.....]

ويتبادر لنا أنها تضمنت تقرير ما يلي: إن الله قد أرسل رسله بآياته وبيناته، فكان يقتضي أن يؤمن الناس جميعا ولا يختلفوا، ولا يكون بينهم نزاع وقتال وفساد في الأرض وأحقاد. ولكن مشيئة الله في خلقه اقتضت أن يكون الناس ذوي قابليات اختيارية ومتفاوتة فكان منهم نتيجة لذلك الكافر والمؤمن، والخبيث والطيب، ومن الطبيعي أن يكون بينهم خلاف وقتال ومن الطبيعي أن يدعى المعتدى عليه إلى القتال لدفع شر المعتدي وأذاه وليكون التوازن بدفع الناس بعضهم ببعض. والله قادر على أن لا يكون الناس أنواعا متفاوتين مختلفين ولكن حكمته اقتضت أن يكونوا مختارين غير مجبرين فكان هذا التنوع والتفاوت والخلاف والقتال. والآية بهذا البيان المستلهم من روحها ومن روح التقريرات القرآنية عامة تنطوي على جليل التلقين وحكيم التعليل. ولعل اختصاص موسى بالذكر تلميحا- في جملة مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وعيسى تصريحا هو بسبب ما احتوته الخلاصة القرآنية عن بني إسرائيل في معرض العبرة والتذكير أولا وبسبب ما كان يقع في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم وقبله من اختلافات ومنازعات وفتن وقتال بين اليهود فيما بينهم وبين النصارى فيما بينهم ثم بين اليهود والنصارى أيضا مما ذكرته روايات التاريخ القديم «1» وقد أشير إلى ما

_ (1) كان اليهود منقسمين إلى طوائف عديدة، وقد وقع في زمن المكابيين قبل ولادة المسيح فتن وقتال بين ما يعرف بالصدوقيين وما يعرف بالفريسيين ثم كان مثل ذلك بين اليهود الإسرائيليين والسامريين غير الإسرائيليين الذين كانوا في فلسطين والذين يمتون إلى أصل عراقي وكانوا يدينون بالديانة الموسوية. وكان النصارى منقسمين كذلك إلى طوائف عديدة، وكان يقع شقاق وقتال بينها وبخاصة بين ما يعرف باليعقوبيين والملكانيين أو أصحاب العقيدة الواحدة والعقيدة الثنائية في المسيح وإلى هذا وذاك كان يقع بين اليهود والنصارى وبين السامريين والنصارى قتال أيضا وظل كل هذا مستمرا إلى زمن البعثة النبوية. انظر الجزء الثاني والرابع والخامس من كتابنا «تاريخ الجنس العربي» وانظر كتابنا «تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم» والمجلد الثاني والثالث والرابع من «تاريخ سورية» للمطران الدبس.

بينهم من خلاف ونزاع وبغضاء وعداء في آيات كثيرة مكية ومدنية منها ما مرّ ومنها ما سوف يأتي. وقد قال المفسرون «1» في صدد تعبير وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ إن المقصود به التنويه بفضل النبي صلّى الله عليه وسلّم ورفعة درجته على سائر الأنبياء. ولقد قال الخازن في صدد ذلك إنه لم يؤت نبي من الأنبياء آية أو معجزة إلا وأوتي نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم مثل ذلك ثم أخذ يشير إلى ما روي من معجزاته التي أعظمها وأظهرها القرآن والكلام للمفسر نفسه. ثم أورد حديثا عن أبي هريرة رواه الشيخان أيضا جاء فيه: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما من نبيّ من الأنبياء إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» وحديثا ثانيا عن جابر رواه الشيخان كذلك جاء فيه: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلّ وأحلّت لي الغنائم ولم تحلّ لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» . وحديثا آخر عن أبي هريرة رواه أصحاب السنن جاء فيه: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فضلت على الأنبياء بستّ: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلّت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الخلائق كافة، وختم بي النبيّون» . ولقد تساءل ابن كثير عما يمكن أن يورد من نقض بين ما ورد من أحاديث في تفضيل النبي صلّى الله عليه وسلّم وبين ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة من حديث جاء فيه: «استبّ رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال اليهودي في قسم يقسمه: لا والذي اصطفى موسى على العالمين. فرفع المسلم يده فلطم وجه اليهودي وقال: أيّ خبيث، وعلى محمد صلّى الله عليه وسلّم. فجاء اليهودي إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فاشتكى على المسلم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا تفضلوني على الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والخازن والبغوي.

[سورة البقرة (2) : آية 254]

يفيق فأجد موسى باطشا بقائمة العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور فلا تفضلوني على الأنبياء، وفي رواية: لا تفضلوا بين الأنبياء» . ثم قال ابن كثير: والجواب على ذلك من وجوه: أحدها أن يكون ذلك قبل أن يعلم بالتفضيل وفي هذا نظر، والثاني أنه قال ذلك من باب التواضع، والثالث أنه نهى عن التفضيل في مثل الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم والتشاجر، والرابع أنه أراد بذلك النهي عن التفضيل بسائق العصبية. ومع إيماننا التام العميق بعظم فضائل سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم ورفعة شأنه ودرجاته عند الله وما ميزه الله عن غيره من الأنبياء من الميزات العظيمة التي ذكرت في القرآن بأساليب متنوعة في السور المكية والمدنية معا وذكرت في هذه الأحاديث وأحاديث أخرى سنوردها في مناسبات آتية أكثر ملاءمة، فإننا نلحظ أن التعبير هنا مطلق عام ومن قبيل ما جاء في آية سورة الإسراء هذه: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55) وليس هناك آثار وثيقة متصلة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه تفيد أن هذا التعبير هنا هو عائد إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم. هذا، ولقد ورد في سورة البقرة وفي سلسلة بني إسرائيل آية فيها نفس الجملة التنويهية التي وردت في هذه الآيات في حقّ عيسى (عليه السلام) وعلقنا عليها تعليقا يغني عن التكرار. [سورة البقرة (2) : آية 254] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) . (1) خلّة: مودة وصداقة. عبارة الآية مفهومة ولم نطلع على رواية خاصة بنزولها، والمتبادر أنها ليست منقطعة عن السياق بل فيها عود على بدء وربط بين الدعوة إلى القتال والإنفاق في سبيل الله التي تضمنتها الآيتان اللتان سبقت فصل بني إسرائيل. والحث فيها قوي،

[سورة البقرة (2) : آية 255]

وبعض المفسرين «1» قالوا إنها في صدد الزكاة ونرجح أنها عامة الحثّ حيث يدخل فيها الزكاة الواجبة والصدقات التطوعية في مختلف الوجوه وجملة مِمَّا رَزَقْناكُمْ هي في صدد التنبيه إلى أن في أيدي القادرين على الإنفاق من مال هو من رزق الله وفضله فمن واجبهم أن يأتمروا بأمر الله وينفقوا مما رزقهم وفي هذا مغزى جليل. وقد تكرر بأساليب أخرى في سور عديدة مكية ومدنية. وتعبير وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ يحتمل أن يكون في صدد المصير الأخروي وبيان كون الكفار بكفرهم هم الذين يظلمون أنفسهم ويعرضونها لنكال الله في الآخرة. وهذا تكرر بأساليب أخرى في سور عديدة مكية ومدنية. ويحتمل أن يكون تعبير وَالْكافِرُونَ في معنى الجاحدين بنعمة الله الذين يبخلون في الإنفاق من المال الذي رزقهم الله إياه، فهم في ذلك ظالمون لأنفسهم منحرفون عن جادة الحق والإيمان. ويحتمل أن يكون بسبيل تقرير كون الكافرين هم الذين لا ينفقون مما رزقهم الله فيظلمون أنفسهم بالمصير الرهيب الذي سوف يصيرون إليه في الآخرة حيث لا ينفع المرء إلّا عمله دون ما شفاعة أحد أو خلّة مع أحد والله أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 255] اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) . (1) القيوم: القائم الدائم بالأمر والمراقبة. (2) سنة: الحالة بين اليقظة والنوم، وهي أول النوم. (3) يؤوده: يعجزه أو يشق عليه أو يثقل عليه.

_ (1) انظر تفسيرها في الخازن.

تعليق على آية الكرسي

تعليق على آية الكرسي الآية من جوامع الآيات القرآنية وروائعها في صدد تقرير وحدة الله وكمال صفاته وإحاطته وقدرته. فهو الإله الذي لا إله غيره. الحي الدائم الحياة، والقيم الدائم القيام بأمر خلقه، الذي تنزه عن أي نوع من أنواع الغفلة عن ذلك بما يحدثه النوم أو النعاس، الذي له ما في السموات والأرض، والذي لا يشفع أحد عنده إلّا بإذنه ورضائه، والذي يعلم ما بين أيدي كل خلقه وما خلفهم دون أن يكون لأحد إحاطة ما بشيء من علم إلّا ما شاء هو، والذي وسع كرسيه السموات والأرض ولا يشق عليه حفظهما، والعلي العظيم الذي لا يداني علوّه وعظمته شيء. ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآية، ويحتمل أن تكون متصلة بما سبقها. فالله الذي يفعل ما يريد وهو ما قررته الآية السابقة لها هو المنفرد في الألوهية المتصف بجميع صفات الكمال ويحتمل أن تكون متصلة بما بعدها فالله الذي يجب الإيمان به والكفر بسواه وهذا ما جاء في الآيات التي بعدها هو ذلك المتصف بهذه الصفات وليس ما يمنع أن تكون متصلة بما قبلها وبما بعدها معا. فالسياق متصل ببعض سواء أكانت الآيات نزلت دفعة واحدة أم متتابعة. أم كان ترتيبها ترتيبا موضوعيا، وهذه الاحتمالات مما تلهم صيغة الآية وموضوعها والآيات السابقة واللاحقة معا. ولقد عرفت هذه الآية بآية الكرسي، وأثرت أحاديث عديدة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها، منها حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة جاء فيه: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لكلّ شيء سنام، وإن سنام القرآن سورة البقرة وفيها آية هي سيّدة آي القرآن هي آية الكرسي» «1» . وحديث رواه مسلم وأبو داود عن أبي بن كعب قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا أبا المنذر أيّ آية معك من كتاب الله أعظم؟ قلت: الله لا إله إلا هو الحي القيوم، فضرب على صدري وقال: ليهنك

_ (1) التاج ج 4 ص 16.

العلم يا أبا المنذر» «1» . وحديث رواه الإمام أحمد عن أبي ذرّ جاء فيه: «قلت: يا رسول الله أيّ ما أنزل عليك أعظم؟ قال: آية الكرسي الله لا إله إلا هو الحي القيوم» «2» . وهذه هي المرة الأولى والوحيدة التي وردت فيها كلمة (الكرسي) منسوبة إلى الله تعالى. وقد وردت في سورة (ص) منسوبة إلى سليمان (عليه السلام) ، وأصل الكلمة المقعد أو السرير الذي يجلس عليه المرء. ولقد تعددت الأحاديث والأقوال التي يرويها المفسرون في صفة كرسي الله عز وجل هو كما هو شأنه في صدد العرش والقلم واللوح على ما شرحناه في تفسير سور القلم والتكوير والبروج. وليس فيما يوردونه عن كرسي الله حديث صحيح، وفيما يوردونه ما لا يخلو من غرابة ولا ينسجم مع صفات الله وتنزهه. فمن ذلك مثلا ما يرويه الطبري عن السدي قال: «السموات والأرض في جوف الكرسي والكرسي بين يديّ العرش، ويجلس الله على العرش والكرسي موضع قدميه» . وحديث يروى عن ابن زيد لم يرد في كتب الصحاح عن النبي قال: «والذي نفسي بيده ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلّا حلقة ملقاة بأرض فلاة» . وحديث يرويه الطبري عن عبد الله بن خليفة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن كرسيّه وسع السموات والأرض وإنه ليقعد عليه فما يفضل منه مقدار أربع أصابع، وإن له أطيطا كأطيط الرحل الحديد إذا ركب» . وإلى جانب هذه الأحاديث وأمثالها يورد المفسرون عن أهل التأويل ما يفيد أن الكلمة مستعملة على سبيل المجاز وأن المقصود منها بيان عظمة ملك الله وسلطانه. وهذا هو الأظهر المنسجم مع صفات الله وتنزهه كما هو المتبادر. وفي اللغة (كرس الرجل) بمعنى كثر علمه. وقد رأى بعضهم بين هذا وبين مقام حكمة

_ (1) التاج ج 4 ص 15. (2) انظر تفسير ابن كثير وفي هذا التفسير وغيره أحاديث أخرى في آية الكرسي فاكتفينا بما أوردناه.

[سورة البقرة (2) : الآيات 256 إلى 257]

كرسيه صلة ما فقال إن الجملة قد تعني إحاطة علم الله بما في السموات وما في الأرض. ومهما بدا في هذا من تكلف فإنه لا يخلو من وجاهة والله تعالى أعلم. [سورة البقرة (2) : الآيات 256 الى 257] لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257) . (1) الطاغوت: جاء في القرآن مرادفا للشيطان. وجاء بمعنى الأوثان وجاء بمعنى الشركاء وأصل معنى الكلمة شديد الطغيان، والطغيان هو الظلم والبغي والعدوان، وجاء كناية عن كاهن أو ساحر أو قاض يهودي «1» . تعليق على الآية لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ... إلخ والآية التالية لها في الآيتين: هتاف بالناس أن لا إكراه في الدين ولا قسر عليه، وأن قد تبين الرشد من الغي والهدى من الضلال بما أنزل الله من آيات بينات فالذي يختار الإيمان ويسلك طريق الرشد ويكفر بالطاغوت فيكون قد نجى نفسه واستمسك بعروة متينة لا تنفصم والله سميع لكل ما يقوله الناس عليم بنواياهم وأعمالهم. وتقرير تعقيبي: فالله هو ولي الذين يؤمنون به ينصرهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور، والطاغوت هو ولي الذين كفروا بالله يقودهم إلى الظلمات ويبعدهم عن النور وهؤلاء هم أصحاب النار الذين استحقوا الخلود فيها. وقد روي أن الآية الأولى نزلت في رجل من الأنصار كان له غلام أسود

_ (1) انظر آيات النساء [51 و 60] والمائدة [60] والأعراف [27] ففيها كل هذه المعاني.

وكان يريد إكراهه على الإسلام فرفع الأمر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت. وهناك روايات وأقوال أخرى، منها أن نساء الأنصار كن ينذرن إن ولدن ذكرا أن يجعلنه في اليهود أو النصارى ابتغاء طول عمره فنشأت منهم ناشئة على ذلك فأراد آباؤهم إكراههم على الإسلام فرفع الأمر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت. ومنها أنه كان لأنصاري ابنان تنصّرا على يد تجار من الشام وهاجرا إليها فأراد أبوهما اللحاق بهما لردهما إلى الإسلام فنزلت «1» . وليس شيء من ذلك واردا في كتب الأحاديث المعتبرة. والانسجام تام بين الآيتين وفحواهما تقريري عام، ويتبادر لنا أنهما غير منقطعتين عن السياق وبخاصة عن آية الكرسي بحيث يرد أن تكون حكمة التنزيل شاءت تنزيلهما مع تلك الآية أو بعدها لبيان ما في الآية من الدلائل الباهرة على عظمة الله وكمال صفاته ووحدانيته ووجوب عبادته وحده واتباع رسوله الذي أرسله مبشرا بدينه، وأن هذا لا يحتاج إلّا إلى رغبة صادقة بدون إكراه بعد أن ظهر الرشد من الغي والهدى من الضلال بهذه القوة والنصاعة. وهذا لا ينفي أن تكون بعض الأحداث التي روتها الروايات قد كانت ترفع الأمر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فتلا الآية الأولى كحكم فصل في الموقف فالتبس الأمر على الرواة، والله أعلم. ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون ويقولونها في مدى الآية الأولى. من ذلك أن حكم الآية خاص بأهل الكتاب وبغير العرب فلا يجوز إكراههم على الإسلام إذا قبلوا الجزية، وأنها منسوخة بالنسبة لمشركي العرب فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتل. ومن ذلك أن الآية نزلت قبل الإذن بالقتال وإن الإذن نسخها بالنسبة للجميع فصار لا يقبل من أحد إلّا الإسلام ويكرهون عليه. ثم أذن القرآن بأخذ الجزية من أهل الكتاب وحسب. وليس شيء من هذه الأقوال واردا في كتب الصحاح، ولقد عالجنا هذا الموضوع في تعليق مسهب عقدناه في تفسير سورة (الكافرون) في صدد حرية التدين في الإسلام لكل ذي نحلة، وانتهينا إلى أن هذا المبدأ المنطوي في سورة

_ (1) انظر الروايات في الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي.

[سورة البقرة (2) : آية 258]

(الكافرون) ثم في الآية التي نحن الآن في صددها أمر محكم غير منسوخ. وأن قتال المسلمين لغيرهم هو بالنسبة للأعداء المعتدين وأن على المسلمين أن يكفوا عن قتال عدوهم إذا انتهوا عن موقفهم العدائي العدواني بالإسلام أو بالصلح كجزية أو بدون جزية حسب ما تقتضيه مصلحة المسلمين دون تفريق بين كتابي وعربي وغير عربي ومشرك وأيدنا ذلك بالآيات والأحاديث فنكتفي بهذا التنبيه. والآيتان في حد ذاتهما جملة تامة، وورود المبدأ القرآني الجليل فيهما وبعد سياق أمر المؤمنين فيه بالقتال والإنفاق في سبيل الله ذو معنى خاص حتى تؤكد محكمية هذا المبدأ كما هو المتبادر. وفي عبارة فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ بعد عبارة قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ينطوي تقرير كون الناس لهم عقول وإرادة اختيارية يستطيعون أن يميزوا بها بين الرشد والغي والهدى والضلال وكون اختيار الإيمان أو الكفر بعد ذلك هو من مكتسبات أصحابهما وهم الذين يتحملون تبعاتهما. وهذا متسق مع التقريرات القرآنية الكثيرة التي مرت أمثلة عديدة منها كما أنه يدعم المبدأ القرآني الذي ينطوي في الآيات. [سورة البقرة (2) : آية 258] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) . (1) حاجّ: حاجج وجادل. تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ ... إلخ في الآية إشارة تنبيهية أو تذكيرية إلى قصة الملك الذي جادل إبراهيم في الله

اغترارا بما كان له من ملك وسلطان، وقد قال له إبراهيم: إن ربي يحيي ويميت، فرد الملك قائلا مغالطا: أنا أيضا أفعل مثله فأقتل من أشاء فيموت وأعفو عمن أشاء فيحيا. فعمد إبراهيم إلى حجة لا تتسع للمغالطة فقال له: إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب. فبهت الملك الكافر أمام التحدي وعجز. وانتهت الآية بتقرير أن الله لا يهدي القوم الظالمين أي الذين غلبت عليهم صفة الظلم والانحراف. وجمهور المفسرين «1» على أن هذه المحاججة وقعت بين إبراهيم وبين نمرود ملك بابل في سياق تمرد إبراهيم على الوثنية وإعلانه إيمانه بالله وحده وإسلامه النفس إليه وقد عزوا ذلك إلى علماء الأخبار من التابعين وتابعيهم، وهذه القصة ككثير غيرها مما يتصل بإبراهيم غير واردة في سفر التكوين مثل جميع القصص التي وردت في القرآن في صدد مواقف إبراهيم مع أبيه وقومه ومواقفهم معه على ما نبهنا عليه في سور سبق تفسيرها. ولا يمنع هذا أن تكون وردت في أسفار كانت متداولة بين اليهود بل هذا ما نعتقده على ما شرحناه في المناسبات المماثلة السابقة وتكون القصة والحالة هذه مما يعرفه العرب السامعون. وورود القصة بعد تقرير صفات الله وعظمته ووضوح الرشد من الغي يلهم أنها قد استهدفت التذكير والعظة وهذا هو شأن القصص القرآنية. كأنما أريد أن يقال إنه إذا كان أناس يقفون من دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الله وحده موقف المكابرة والعناد ويعمون عن الرشد مهما أفحمتهم البينات فقد كان ممن سبقهم من يقف مثل هذا الموقف. والفقرة الأخيرة من الآية توثق هذا التوجيه بما فيها من نعي على الظالمين وتنديد بهم نعيا وتنديدا ينطويان على تقرير كون عدم إسعاد الظالمين المنحرفين عن جادة الحق وهدايتهم هو بسبب ما غلب عليهم من خبث وارتكسوا فيه من ظلم وانحراف حيث يمنعهم ذلك من الاهتداء بهدي الله ونوره. وقد تكون الفقرة منطوية في ذات الوقت على قصد التسرية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أيضا تجاه مواقف

_ (1) انظر الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي والكشاف.

[سورة البقرة (2) : آية 259]

العناد والمكابرة التي كان يقفها الظالمون البغاة، وهم أكثر العرب وزعماؤهم في الظرف الذي نزلت فيه الآية والذي يرجح أنه أوائل العهد المدني. وفي كتب التفسير بيانات على هامش هذه القصة مروية عن علماء الأخبار من التابعين وتابعيهم مشوبة بالإغراب والخيال. وجاء فيها ما جاء أن اسم هذا الملك هو نمرود بن كنعان وأنه أول من تجبر وادعى الربوبية. وأنه أحضر سجينين محكومين بالإعدام فعفى عن أحدهما وأعدم الآخر وكان هذا تصديقا لما قاله إنه هو أيضا يحيي ويميت وأن هذا الملك هو الذي أمر بإلقاء إبراهيم في النار وأن الله سلط على جيشه بعوضا ستر السماء فأكل لحومهم وشرب دماءهم ثم سلط عليه بعوضة دخلت في منخره فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق ثم هلك. وأنه بنى صرحا إلى السماء فدمره الله وأن هذا هو ما أشير إليه في آية النحل: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ [26] . وعلى كل حال فإن هذه البيانات قد تؤيد ما قلناه من أن هذه القصص كقصص إبراهيم (عليه السلام) الأخرى التي لم ترد في سفر التكوين ووردت في القرآن مما كان متداولا في البيئة العربية عن طريق اليهود على الأرجح فاقتضت حكمة التنزيل التذكير بها بالأسلوب الذي جاءت به تعقيبا على الآيات السابقة وللمقاصد التي نبهنا عليها والله تعالى أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 259] أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) . (1) لم يتسنه: لم يتغير من مرّ السنين.

تعليق على الآية أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها ... إلخ

(2) ننشزها: نرفعها. وقرئت بالراء بمعنى نحييها أو نطهرها. تعليق على الآية أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ... إلخ وفي هذه الآية إشارة تنبيهية أو تذكيرية بقصة ثانية وهي قصة شخص مرّ على مدينة مدمرة خاوية فتساءل تساؤل المستبعد اليائس كيف يمكن أن يحيي الله هذه المدينة؟ فأماته الله مئة عام ثم أحياه وسأله كم لبثت؟ فقال: يوما أو بعض يوم ظنا منه أنه كان نائما فقال الله تعالى له: بل مئة عام كاملة. وإنك لترى طعامك وشرابك لم يتغيرا طيلة هذه المدة في حين أن حمارك قد مات ولم يبق منه إلا عظام نخرة. وها أنا آمر فتجتمع عظامه ثم تكتسي لحما ثم تدب فيها الروح فيكون ذلك آية لك وللناس على قدرة الله على ما تستبعده وتتساءل عنه، وحينئذ اقتنع الرجل بقدرة الله على كل شيء وأعلن اعترافه بها. وروح الآية وفحواها يلهمان أن الرجل كان مؤمنا وأهلا لوحي الله وخطابه، وأنه قال ما قال في حالة نفسية بائسة. ويروي المفسرون عن علماء الأخبار أن القصة من قصص بني إسرائيل وقد رووا عنهم تفصيلات مسهبة لها فيها شيء مما ورد في بعض أسفار العهد القديم المتداولة اليوم مع شيء غير وارد فيها. وفي هذا وذاك إغراب وخيال وخلاصة ذلك أن الذي مرّ بالقرية هو أحد أنبياء بني إسرائيل مع اختلاف في اسمه بين العزير وأرميا بن حلقيا الذي قال بعضهم إنه الخضر. مع التركيز على رجحان كونه أرميا وكون القرية هي بيت المقدس. وأن قوله كان بعد تدمير بختنصر ملك بابل لهذه المدينة وسبيه أهلها حيث وقف على أطلالها باكيا نادبا يائسا من عمرانها ثانية. فأماته الله مائة عام مع حفظ جسده من البلى وكان حماره هلك بعده وكان معه زوادة من تين وعنب وماء ثم بعثه الله من موته وأنشر عظام حماره وبعث فيه الروح وهو يعاين ذلك ليثبت له أنه مات مائة عام حيث ظن أنه نام طول النهار فقط وأيد ظنه عدم تغير زوادته وليثبت له كذلك أن الله قادر على إحياء المدينة كما أحيا

الحمار بعد هلاكه وتفتت أعضائه وعظامه. وأن الله لم يلبث أن أمر ملكا عظيما من ملوك الفرس ليرسل قومه ويعمروا بيت المقدس ففعل، وأن ذلك قد تم أثناء موت أرميا فلما أحياه الله ورأى معجزة الحمار والزوادة ثم شاهد ما كان من تجدد عمران المدينة. وننبه على أن هذه القصة لم ترد في الأسفار وإنما الذي ورد في الأسفار بكاء أرميا ومراثيه على خراب القدس ثم سماح ملك الفرس الذي قوض مملكة بابل لمن شاء من المسبيين من الإسرائيليين بالعودة إلى القدس وتجديدها ففعلوا «1» . وعلى كل حال فرواية علماء الأخبار من الصدر الأول لهذه القصة بإسهاب استغرق في تفسير الطبري ثلاث عشرة صفحة تدل على أنها مما كان متداولا في أوساط اليهود ثم في البيئة العربية عن طريقهم في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم. ونعتقد أن ذلك مما كان واردا في بعض القراطيس اليهودية التي لم تصل إلينا. وفي صدد القصة نرى من واجب المسلم أن يقف عند ما اقتضت حكمة التنزيل إيراده وأن يؤمن أنه لا بد لإيرادها بالأسلوب الذي جاءت به حكمة يمكن أن يكون منها قصد التمثيل على تنوع مواقف الناس من الله تعالى. فالملك الكافر أنكر الله وقدرته واغتر حتى ظن نفسه ندّا لله وهذا الرجل سارع إلى الاعتراف بقدرة الله حينما رأى الدليل لأنه حسن النية راغب في الحق. وهكذا تتصل الآية بسابقتها وتتصل الآيتان بالسياق جميعه اتصال تذكير وتمثيل وموعظة وتسرية، وتستحكم الحجة القرآنية على السامعين لأن ما فيها متسق مع حوادث يعرفونها. ولقد أريد صرف هذه القصة إلى مفهوم معنوي ورمزي، ونحن لا نطمئن إلى مثل هذا الأسلوب ولا نرى فيه طائلا. فالقصة لم تكن مجهولة كما تلهم روح الآية والروايات التي وردت في سياقها معزوة إلى تابعين وتابعي تابعين فأوردت على سبيل التذكير والتمثيل والعظة، والله أعلم.

_ (1) انظر سفر الملوك الثاني في الطبعة البروتستانتية الإصحاح 24 و 25 وسفري نبوءة أرميا ومراثي أرميا وسفري عزرا ونحميا.

[سورة البقرة (2) : آية 260]

[سورة البقرة (2) : آية 260] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) . (1) فصرهن إليك: اضممهن إليك. ومما قيل في معنى (صرهن) قطعهن. من التصرية بمعنى القطع. أو إنها بمعنى إمالة وجوههن إليه لذبحهن لأن الذبح يكون كذلك. تعليق على الآية وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ... إلخ وفي هذه الآية إشارة تنبيهية أو تذكيرية إلى قصة ثالثة، حيث سأل إبراهيم ربّه أن يريه كيف يحيي الموتى بعد ما يموتون فسأله عما إذا كان غير مؤمن بقدرته حتى يسأل ذلك فأكد إيمانه ولكنه أبدى رغبته في الاطمئنان العياني فأمره حينئذ أن يمسك أربعة من الطيور ويذبحها ويقطع أجزاءها ويوزعها على جبال مختلفة ثم يدعوها إليه فتأتي إليه حية مسرعة. وانتهت الآية بخطاب موجه إليه ليعلم أن الله عزيز لا يعجزه شيء، حكيم لا يفعل إلا ما فيه الصواب والسداد. ومع أن الآية لم تذكر نتيجة التجربة فإنها منطوية في أسلوبها كما هو المتبادر والمقدر على أن إبراهيم فعل ما أمره الله وأن الأجزاء تجمعت وعادت إليها الحياة بقدرة الله وسعت إلى إبراهيم (عليه السلام) . ولقد روى الطبري وغيره عن علماء الأخبار روايات وبيانات في صدد محتوى الآية. منها رواية في صيغ عديدة متقاربة تفيد أن إبراهيم (عليه السلام) رأى جيفة قد بليت وتقسمتها الرياح والسباع والجوارح فقال سبحان الله كيف يحيي

الله هذه. أو قال: ربّ قد علمت أنك قادر على ذلك فأرني كيف يكون. ومنها أنه لما انتهى من محاججة الملك الكافر وقع في نفسه أن يسأل الله كيف يحيي الموتى. ومما روي في صدد تنفيذ الأمر أن الله أمره أن يأخذ ديكا وطاووسا وغرابا وحمامة ويقطعها ويخلط لحومها بريشها ودمائها ويجعل على كل جبل جزءا من هذا الخليط ثم يناديها ففعل فأخذت أجزاء كل طير تتجمع حتى تم التجمع ثم دبت فيها الحياة وجاءت إليه ساعية. وليس شيء مما رواه المفسرون واردا في كتب الصحاح ولكن هذه البينات المروية من صدر الإسلام تفيد أن القصة مما كان متداولا في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم وعصره. وفي الإصحاح الخامس عشر من سفر التكوين المتداول اليوم قصة فيها شيء من التشابه مع هذه القصة خلاصتها أن الله لما بشر إبراهيم بأن نسله سيكون كثيرا لا يحصى، قال له: وكيف أعرف ذلك وأنا عقيم، وليس لي وريث من صلبي؟ فقال له: خذ عجلة ثنية وعنزة ثنية وكبشا ثنيا ويمامة وشطرها أنصافا ثم اجعل كل شطر قبالة صاحبه وتقف القصة في السفر عند هذا الحد. ومهما يكن من أمر فيمكن أن يقال إن القصة انطوت على موقف نبي من أنبياء الله المعروفين أبدى رغبة في الاطمئنان العياني لقدرة الله فحقق الله رغبته. ومن الجائز ونحن نرجح ذلك أن تكون القصة التي وردت في سفر التكوين شيئا مشابها لها كانت مما يتداوله اليهود في أسفار أخرى وأن سامعي القرآن كانوا يعرفونها عن طريقهم. وفي صدد القصة ذاتها نقول هنا كما قلنا قبل: إن من واجب المسلم أن يقف عند ما اقتضت حكمة التنزيل إيراده بالأسلوب الذي وردت به وأن يؤمن بأن في ذلك حكمة قد تكون أو قد يكون منها التذكير بموقف آخر من مواقف المؤمنين بالله وقدرته السامعين يعرفونه لأحد عظام أنبياء الله الذين كان ملء سمعهم وكانوا ينتسبون إليه ليكون فيه العظة والعبرة لهم ثم لسامعي القرآن وقارئيه عامة، والله تعالى أعلم.

[سورة البقرة (2) : الآيات 261 إلى 274]

ونرجح أن القصص الثلاث نزلت متتابعة ووضعت في ترتيبها بسبب ذلك، بل لا نستبعد أن تكون نزلت دفعة واحدة لتكون بمثابة تعقيب على الآيتين [256 و 257] وبينهما لبيان مواقف متنوعة لكافر ومؤمنين، والله تعالى أعلم. وهذه القصة والتي قبلها تنطويان على تبرير الرغبة في الطمأنينة والاستزادة من معرفة آلاء الله ومشاهد عظمته وبراهين قدرته إذا لم تكن منبعثة عن خبث ومكر وجحود ومكابرة. فليس ما يمنع المؤمن من ذلك وليس في هذا ما يمكن أن يكون دليلا أو مظهرا على شك المؤمن في إيمانه بالله وقدرته. فالشك والإيمان لا يمكن أن يجتمعا وكل ما هناك أنه يصح أن يود المؤمن رؤية ما يجعل يقينه الغيبي يقينا عيانيا. ولقد روى البخاري ومسلم حديثا نبويا جاء فيه: «نحن أحقّ بالشكّ من إبراهيم إذ قال ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي» . وروى المفسرون أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال ذلك حينما رأى ناسا يظنون أن إبراهيم شكّ في قدرة ربّه وإيمانه به، وأوّلوا الحديث على ضوء هذه الرواية بقصد نفي الشك عن إبراهيم وكأنما أراد أن يقول نحن لا نشك فأولى بإبراهيم أن لا يشك «1» . [سورة البقرة (2) : الآيات 261 الى 274] مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269) وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) .

_ (1) انظر التاج ج 4 ص 59 وذيلها وانظر تفسير الآية في الطبري والخازن والبغوي.

(1) منا: الكلمة هنا بمعنى تعداد النعمة على المنعم عليه على سبيل التفضل وتحميل الجميل.

(2) الأذى: هنا بمعنى أي عمل أو قول أو إشارة فيها جرح نفس المتصدق عليه وأذيتها. (3) صفوان: الصخرة الملساء. (4) وابل: المطر الكثير المنهمر. (5) صلدا: أجرد أو أملس. (6) لا يقدرون على شيء مما كسبوا: لا يحصلون على شيء مما زرعوه ولا ينتفعون به. (7) ربوة: الأرض السمينة العميقة التراب أو الأرض المرتفعة عن الماء الجارف. (8) طل: الرذاذ أو المطر الخفيف أو الندى. (9) إعصار فيه نار: كناية عن الريح الشديدة الحارة أو ريح السموم. (10) الطيبات: هنا بمعنى الثمر الجيد لا الرديء ولا الفاسد. (11) ولا تيمموا: ولا تقصدوا. (12) الخبيث: هنا بمعنى الشيء الرديء من الثمر. (13) إلا أن تغمضوا فيه: إلا أن تأخذوه على كره وغضاضه إذا أهدي أو أعطي لكم أو تبخسون ثمنه عن ثمن الجيد حينما تتقاضون مالكم على أصحابها من دين وحقوق. (14) الحكمة: هنا بمعنى الإصابة والسداد في القول والعمل. (15) الذين أحصروا في سبيل الله: قيل إنّها تعني الذين حبسوا أنفسهم أو حبسوا على الجهاد. وقيل إنها بمعنى الذين حصروا أو حوصروا من العدو في أرضه. (16) ضربا في الأرض: بمعنى سعيا في سبيل الرزق. (17) التعفف: عدم الطلب والسؤال. (18) إلحافا: تشديدا بالسؤال والطلب.

تعليقات على الآية مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ... إلخ وما بعدها من [261 - 274]

تعليقات على الآية مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... إلخ وما بعدها من [261- 274] في هذه الآيات: 1- تمثيل لأجر الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، فهم كمن زرع زرعا الحبة منه تنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. وتعقيب على ذلك بسبيل الحثّ، فالله يضاعف أجر الأعمال الصالحة ما يشاء من فضله وهو واسع الفضل عليم بأعمال الناس ونواياهم. 2- تنويه بالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله من دون منّ ولا أذى. سواء أكان بالإشارة أم بالكلام أم بالعمل، فهؤلاء لهم أجرهم العظيم عند الله ولن يلقوا لديه ما يخيفهم أو يحزنهم. 3- ونهي عن المنّ والأذى وتنبيه على أن الكلمة الطيبة وإظهار الرأفة والعاطفة للمحتاج إلى الصدقة خير من الصدقة إذا أعطيت مع المنّ والأذى، وأن الله غني عن مثل هذه الصدقات حليم لا يتعجل بالغضب على مستحقه الذي يمنّ ويؤذي في سياق ما يعطيه من صدقات. 4- وتشديد ثان في النهي عن ذلك فهو مبطل لأجر الصدقة، وحري بالمؤمنين أن لا يصدر ذلك منهم. ومثل الذي يحدث منه كمثل من ينفق ماله رياء، ولا يكون مؤمنا بالله واليوم الآخر، وتمثيل صدقات هؤلاء وأولئك بالتراب القليل الذي تحته صخر فمهما نزل عليه من وابل المطر لا يصلح للنبات والنماء ولا يلبث الوابل أن يجرفه وتظهر من تحته الصخرة صلداء ملساء، ولا يمكن أن ينتفعوا بأي شيء مما أنفقوه لأنه ليس صادرا منهم عن حبّ التقرب إلى الله وابتغاء الخير لذاته وهؤلاء هم جاحدون ساءت نياتهم وخبثت سرائرهم فليس لهم إلى هدى الله ورضائه من سبيل.

5- وتمثيل للذين ينفقون أموالهم ابتغاء وجه الله ورضائه وإيقانا ورغبة صادقة في فعل الخير فهم كأرض بستان سمينة جيدة تنبت نباتها حسنا وتؤتي أكلها مضاعفا سواء أكان المطر الذي ينزل عليها وابلا أو طلا. 6- وتساؤل على سبيل التمثيل عما إذا كان أحد يودّ لنفسه أن تكون له جنة من نخيل وأعناب جيدة النماء والثمر وفيها المياه الكافية فتهب عليها ريح سموم فتحرقها في وقت يكون فيه في آخر عمره غير مستطيع إصلاح ما فسد منها وله ذرية ضعفاء ليس لهم طاقة على هذا الإصلاح كأنما أريد بذلك تشبيه الإنفاق رياء ومع المنّ والأذى كالنار المحرقة التي تعصف بأجره حين يكون في موقفه الحرج أمام الله في ظرف لا يكون إمكان لتلافي الأمر فيه. 7- وأمر موجه إلى المسلمين بوجوب التصدق من أحسن ما يكون عندهم من مال وغلّة. ونهي عن قصد اختيار الرديء الفاسد الذي لا يقبلون هم أنفسهم أن يأخذوه إلّا بثمن بخس ومع الغضاضة والاستكراه. وتنبيه على أن الله غني عن مثل هذه الصدقات في حين أنه يحمد لمستحق الحمد عمله الطيب. وإشارة تذكيرية إلى أن ما في أيديهم هو مما رزقهم إياه الله فيجب عليهم الإنفاق مما يسر لهم من الكسب ومن ثمرات الأرض الطيبة. 8- وتنبيه على أن الإمساك أو الإنفاق من الخبيث الرديء دون الطيب إنما يكون استجابة لوسوسة الشيطان الذي يخوف المرء من الفقر حتى يمنعه عن الإنفاق والذي لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء والمعاصي. في حين أن الله إذ يأمر بالإنفاق من طيب المال وبدون أذى ولا رياء ويحثّ عليه إنما يدعوهم إلى ما فيه خيرهم واعدا إياهم بالرحمة والغفران وزيادة الفضل وأنه واسع الفضل عليم بنوايا الناس وأعمالهم. 9- وتنويه بالذين يفهمون الأمور حق الفهم فذلك هو الحكمة التي يهبها الله لمن يشاء، ومن رزقها فقد رزق الخير الكثير ولا يرزقها وينتفع بها إلا ذوو العقول النيرة والقلوب السليمة.

10- وتقرير بأن الله يعلم بكل نفقة ينفقها الناس وبكل نذر يقيدون به أنفسهم في سبيل الخير والبرّ والقربى. ولن يكون للظالمين المجرمين والأشرار نصير عند الله كأنما تحث الجملة القرآنية على حسن النية في الإنفاق والنذور ووفاء الصدقات والنذور التي يقطع المرء على نفسه عهدا بإعطائها دون بخس ولا تقصير. 11- وإشارة إلى أن الصدقات هي فضيلة وخير وقربى في كل حال، سواء أظهرها أصحابها أم أخفوها وهم يعطونها للمحتاجين. واستدراك بأن إعطاءها خفية أفضل وتنبيه على أن الله خبير بأعمال الناس ونواياهم ويكفر عن الصادقين المخلصين ذنوبهم وهفواتهم. 12- وخطاب موجه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم أو إلى السامع إطلاقا بأنه ليس عليه أن يهدي الناس جميعا فالهدى هدى الله. والتفات في الخطاب إلى المسلمين: فمما ينفقونه إنما هو لخيرهم إذا ما كان ابتغاء وجه الله وأن أجرهم عليه يوفّى دون بخس أو نقص. 13- وتنبيه على وجوب الاهتمام لأمر فقراء المسلمين الذين حبسوا على سبيل الله ولم يعد في إمكانهم التكسب والارتزاق من جهة وهم متعففون لا يتشددون في السؤال من جهة أخرى. فواجب إعطاء هؤلاء أعظم وألزم والله عليم بما ينفقه الناس على أمثالهم وموفيهم عليه أجورهم. 14- وتنويه أخير بالذين ينفقون أموالهم في كل حال بالليل وبالنهار وبالسر وبالعلن فلهم أجرهم العظيم عند الله ولن يكون لهم ما يخيفهم أو يحزنهم. وننبه على أن الآيات وإن كانت بدأت بآية فيها تنويه بالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله وحثّ على ذلك فإن فيها ما يفيد أن التنويه والحثّ شاملان للذين يتصدقون على الفقراء مطلقا بحيث يصح أن يقال إن القرآن اعتبر هذا أيضا إنفاقا في سبيل الله. وبذلك تكون الآيات فصلا رائعا في الإنفاق في سبيل الله والتصدق على

الفقراء وفضائل ذلك ومستحباته ومكروهاته وآدابه وشروطه. مع التنبيه على أن المتبادر من روح الآيات وفحواها أنها ليست في صدد الزكاة الواجب أداؤها بل هي في صدد الإنفاق بصورة مطلقة بحيث تشمل الواجب والتطوع معا. ولقد روى المفسرون روايات في مناسبة نزول بعض هذه الآيات فروى الخازن أن الآية [261] نزلت في مناسبة ما بذله عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف (رضي الله عنهما) من مال طائل في تجهيز غزوة تبوك. وروى الطبري وغيره أن قوما من الأنصار كانوا يأتون بالخشف من التمر فيجعلونه فيما يعطونه من زكاة أو يعلقون أقناء فيها خشف في حبل بين اسطوانتي مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليأكل منها الفقراء فنزلت الآية [267] لتنهى عن ذلك. وروى الطبرسي أن هذه الآية نزلت في جماعة كانوا يتصدقون من ربا دخل عليهم في الجاهلية. وروى الطبري وغيره أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يمنع الصدقات عن المحتاجين من المشركين ليحملهم على الإسلام أو بعض المسلمين كانوا يفعلون ذلك بالنسبة لأقاربهم وأنسبائهم فأنزل الله الآية [272] في صدد إجازة إعطاء الصدقات للمحتاجين ولو كانوا غير مسلمين. وروى ابن كثير أن الآية [271] نزلت في التنويه بأبي بكر وعمر لتسابقهما إلى إعطاء الصدقات وفعل الخير. وروى الطبري وغيره أن الآية [273] نزلت في أهل الصفة، وهم جماعة من فقراء المسلمين الغرباء كانوا يبقون في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويعيشون مما يعطيهم إياه المسلمون ويتقدمون للخروج في كل سرية أو غزوة جهادية ويتعففون عن السؤال ولا يستطيعون السعي في سبيل الرزق. وهناك رواية أخرى تذكر أنها نزلت في جماعة من المسلمين حال عداء الكفار الذين هم خارج المسلمين دون سعيهم وخروجهم للكسب. وروى الطبري أن الآية [276] عنت أصحاب الخيل المربوطة في سبيل الله لأنهم ينفقون على دوابهم. وروى الطبرسي أن هذه الآية نزلت تنويها بعلي بن أبي طالب لأنه كان ينفق ماله في الليل والنهار والسر والعلن وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح باستثناء حديث رواه الترمذي في صدد الآية [267] حيث روى عن البراء قال: «كنّا معشر الأنصار أصحاب نخل فكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته وكان

الرجل يأتي بالقنو والقنوين فيعلقه بالمسجد. وكان أهل الصفة يأكلون منه وكان أناس ممن لا يرغب في الخير يأتي أحدهم بالقنو فيه الشيص والخشف فأنزل الله الآية» «1» . ويمكن أن يورد ملاحظات على بعض هذه الروايات مثل كون الآية [261] في صدد ما أنفقه عثمان وعبد الرحمن في غزوة تبوك التي كانت في أواخر حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم بينما الآيات كما يبدو مبكرة. والروايات المروية في صدد الآيات [267 و 272 و 274] منطبقة على الآيات وقد تكون صحيحة، وحديث البراء يدعم صحة الرواية المروية في نزول الآية [267] . على أننا نلحظ من جهة أخرى أن آيات الفصل منسجمة مع بعضها وتؤلف مجموعة أو وحدة مترابطة بحيث يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة. ونرجح أن فيها عودا على بدء وأنها متصلة بأول الفصل السابق الذي فيه دعوة إلى القتال والإنفاق في سبيل الله وأن الآيات التي جاءت بين هذه وتلك جاءت على سبيل الاستطراد والتمثيل والموعظة. وهو أسلوب مألوف في القرآن ولا يقتضي هذا أن تكون جميع هذه الفصول نزلت دفعة واحدة إذ من المحتمل أن تكون نزلت متتابعة أو شيئا بعد شيء ثم وضعت في ترتيب وسياق واحد للتناسب أو التقارب. ولا يمنع هذا أن يكون شيء مما ذكرته الرواية المروية في صدد الآيات [267 و 272 و 274] كان يقع في ظروف نزول الآيات فاحتوت الآيات تنبيهات ومواعظ في صددها. ولقد احتوت الآيات من بليغ التلقينات وجليل المواعظ والتوجيهات ما بلغ الذروة العليا التي لا يطاولها شيء في بابها والتي تظل عنوانا خالدا من عناوين التلقينات القرآنية الخالدة سواء أفي التنبيه والتشديد على تقبيح المن والأذى وتفضيل الكلمة الطيبة على الصدقة التي يرافقها منّ وأذى، أم في إيجاب الإنفاق من الطيب الحلال دون الخبيث. والتنبيه على أن الله هو الذي ييسر للناس ما ينالونه من رزق، فهو ماله وعليهم أن ينفقوا الطيب الحلال منه، أم في الحث

_ (1) التاج ج 4 ص 60- 61.

الشديد على الإنفاق في سبيل الله أولا وعلى الفقراء إطلاقا في أي وقت وحال ثانيا، وبقطع النظر عن الجنس والدين لأن المتصدق إنما يتصدق قربة عن نفسه وابتغاء وجه الله وأن الهدى الله فلا ينبغي أن يضيع الفقير ويحرم لمجرد أن دينه غير دين الغني، أم في التنبيه على فضل إخفاء الصدقات لتكون خالصة لوجه الله غير مؤذية وجارحة للمتصدق عليه، أم في التنبيه على أن الامتناع عن التصدق هو من وساوس الشيطان وتخويفه صاحب المال من الفقر مع أن الله يعد المتصدقين المغفرة وزيادة الفضل، أم في وجوب الاهتمام للفقراء الذين يتعففون عن السؤال أو الذين يمنعهم حبسهم أنفسهم على سبيل الله ومصلحة المسلمين أو حبس الظروف القاهرة لهم عن التكسب وضمان رزقهم، أم في التنبيه على أن التزام وصايا الله هو من الحكمة البليغة التي يجب أن يتذكرها ويعمل بها ذوو العقول النيرة والقلوب السليمة، أم في التنبيه على أن المنحرفين منها هم الظالمون لأنفسهم الذين لا يمكن أن ينصرهم الله أم في التشويق العظيم المنطوي في وعد الله عز وجل بمضاعفة أجر ما ينفقه المسلم أضعافا مضاعفة. وإذا لوحظ أن في القرآن المكي والمدني آيات كثيرة أخرى في الحضّ على الإنفاق في سبيل الله والتصدق على الفقراء والمساكين والتنويه بمن يفعل ذلك والتنديد بمن يقصر في ذلك مما مرّت أمثلة كثيرة في السور التي سبق تفسيرها وما يأتي في سور آتية يظهر عظم عناية حكمة التنزيل بهذين الأمرين الخطيرين من حيث إن الأول هو سبيل قوة الإسلام والمسلمين ودفع العدوان عنهما وضمان عزتهما وحريتهما والدعوة إلى الدين الإسلامي ومبادئه وما يؤدي ذلك إليه من انتشار هذا الدين الذي رسخه الله ليظهر على الدين كله وكل هذا منطو في تعبير سَبِيلِ اللَّهِ ومن حيث أن الثاني هو سبيل سد حاجة المعوزين من المسلمين الذين يؤلفون طوائف كبيرة جدا في كل مجتمع وإيجاب ذلك على الميسورين الذين هم الأقلية حتى لا تتعطل الدعوة إلى الإسلام ولا يتعرض المسلمون للأخطار والعدوان وحتى تخف المرارة في نفوس تلك الطوائف ضد الأقلية الموسرة ويتفادى بذلك اضطراب المجتمع الإسلامي.

وإذا لوحظ أن القرآن قرر في هذه الآيات وأمثالها مما سبق تفسيره وما يأتي في سور أخرى أن ما في أيدي أصحاب الأموال من أموال هي أموال الله وأنه إنما جعلهم مستخلفين فيها وأنه هو الذي رزقهم بها ويسرها لهم بدا جانب آخر من روعة التلقين القرآني فيه تخفيف لوقع الإنفاق والأمر به على النفوس وإيذان للأغنياء بأنهم ليسوا إلا وكلاء على مال الله فيجب عليهم أن يطيعوا أمر صاحبه وينفقوه فيما يأمرهم به، وبأنهم ليس لهم حقّ في المنّ على من يعطونه إياه من عباد الله وأذيتهم بسبب ذلك. ولقد روى المفسرون في سياق آيات هذه السلسلة أحاديث نبوية عديدة فيها هي الأخرى توجيهات وتلقينات بليغة المدى متسقة مع توجيهات الآيات وتلقيناتها وتوضيح لما سكت عنه القرآن. ومن هذه الأحاديث ما ورد في الكتب الخمسة المعتبرة ومنها ما ورد في كتب ومساند أئمة آخرين. من ذلك حديث رواه الطبري في صيغ عديدة ومن طرق مختلفة في سياق الآية [268] عن عبد الله قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ للشيطان لمّة من ابن آدم وللملك لمّة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشرّ وتكذيب بالحقّ. وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله وليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان ثم قرأ الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) «1» . ومن ذلك حديث أورده ابن كثير في صدد الآية [263] برواية مسلم عن أبي ذرّ قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة لا يكلّمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم: المنّان بما أعطى، والمسبل إزاره، والمنفّق سلعته بالحلف الكاذب» «2» . وحديث آخر في صدد الآية أورده ابن كثير بإخراج ابن مردويه جاء فيه: «لا يدخل الجنّة منّان» وأورد ابن كثير في صدد الآية [270]

_ (1) هذا الحديث رواه الترمذي أيضا في سياق الآية [268] ، انظر التاج ج 4 ص 61. (2) انظر هذا الحديث في التاج 2 ص 39 و 40 وانظر هذا الحديث في التاج ج 3 ص 40. [.....]

حديثا رواه الشيخان أيضا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه منهم رجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفقه يمينه» «1» . وأورد ابن كثير في سياق الآية [273] حديثا عن سعد بن أبي وقاص قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا ازددت درجة أو رفعة» . وأورد ابن كثير في سياق الآية [268] حديثا رواه البزار عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الرجل ليتصدق بالصدقة من الكسب الطيّب ولا يقبل الله إلا الطيب فيتلقاها الرحمن تبارك وتعالى بيده فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو وصيفه أو فصيله» «2» . وحديثا آخر رواه البزار جاء فيه: «إن الخبيث لا يكفّر الخبيث ولكن الطيب يكفّر الخبيث» «3» . وهناك أحاديث يرويها المفسرون في صدد التنديد بالإلحاح والإلحاف في السؤال وفي سياق ما جاء في الآية [273] من التنويه بالذين لا يسألون الناس إلحافا منها حديثان أوردهما الطبري عن قتادة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقول إن الله يحبّ المتعفّف ويبغض السائل الملحف» و «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: يقول الله تعالى كره لكم ثلاثا: قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال» . وفي كتب التفسير أحاديث أخرى من باب بما أوردناه فاكتفينا بما أوردناه. وهناك أحاديث أخرى في تعريف المسكين ومن تحلّ عليه الصدقة ومن يحلّ له السؤال أجلنا إيرادها إلى تفسير آية مصارف الصدقات في سورة التوبة لأنها أكثر ملاءمة. وهناك أحاديث كثيرة في الإنفاق ووعد الله بالإخلاف على المنفقين أوردنا طائفة منها في سياق تفسير الآية [39] من سورة سبأ فلم نر ضرورة لإيرادها ثانية في مناسبة ما في الآيات من حثّ على الإنفاق وتنويه بالمنفقين واكتفينا بهذا التذكير. وبمناسبة التنديد بالذين ينفقون أموالهم رئاء الناس الوارد في الآية [264] نذكر أننا أوردنا طائفة من الأحاديث في ذلك في سياق تفسير سورة الماعون ونكتفي بهذا التذكير دون إيرادها ثانية.

_ (1) المصدر السابق نفسه. (2) انظر هذين الحديثين في مجمع الزوائد ج 3 ص 112. (3) انظر هذين الحديثين في مجمع الزوائد ج 3 ص 112.

[سورة البقرة (2) : الآيات 275 إلى 281]

ولقد استطرد رشيد رضا في مناسبة الآية [273] إلى ذكر بعض طوائف المسلمين يعيشون في الزوايا والتكايا عيشة تبطل وكسل على ما يوقف عليها من طعام ومال بزعم أنهم متفرغون لعبادة الله ومشبهين أنفسهم بأهل الصفة في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذين روي أن الآية نزلت في شأنهم على ما ذكرناه قبل برغم ما في الآية من صراحة بأنهم أحصروا في سبيل الله. وأدخل في استطراده مشايخ الطرق ومريديهم الذين لا يعملون ولا يتكسبون ويعيشون على الناس وذكرنا ما يفعله هؤلاء من فرض أنفسهم على الناس وما يقدمون عليه من أذى وانتقام من الذين لا يضيفونهم ولا يهدون إليهم الهدايا وندد بهم ونبه على ما في ذلك كله من شذوذ عن نصوص وتلقينات كتاب الله وأحاديث رسوله، وفي هذا حق وسداد مع القول إن هذه الصورة آخذة بالتضاؤل. [سورة البقرة (2) : الآيات 275 الى 281] الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) . (1) الربا: أصل معنى الكلمة الزيادة والنمو وفي الآيات جملة فيها هذا

تعليق على آيات الربا

المعنى وهي يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وهذا المعنى ملموح في آية سورة الروم [39] . ثم صارت علما على أخذ زيادة على مال متجانس بدون عوض ولو كان المال دينا. (2) الذي يتخبطه الشيطان من المس: تشبيه بحالة المصروع حيث كان الناس من القديم يعتقدون أن الصرع هو مسّ جني فخوطبوا بالتعبير المألوف عندهم. (3) يمحق الله الربا: يذهب ببركة مال الربا ويتلفه. (4) فأذنوا بحرب من الله ورسوله: إنذار لهم وتنبيه بأنهم إن لم يتركوا الربا يكونوا في حالة حرب مع الله ورسوله. (5) وإن تبتم: فإن كففتم عن تعاطي الربا. (6) نظرة: انتظار وإمهال. (7) ميسرة: حالة اليسر. تعليق على آيات الربا في هذه الآيات: 1- تمثيل فيه تشنيع وإنذار للذين يأخذون ويأكلون الربا. فهؤلاء حينما يقومون من قبورهم ليوم القيامة يقومون يتخبطون كما يتخبط المصروع من مسّ الشيطان. وتعليل لهذا بأنهم استحلوا الربا وقالوا إنه كالبيع في حين أن الله أحلّ البيع وحرّم الربا. 2- وإنذار للذين كانوا يتعاطون الربا قبل نزول الآيات: فالذين يتعظون بأمر الله وينتهون عن الربا بعد سماع النهي، فما أخذوه سابقا يبقى لهم وأمرهم موكول إلى الله، ومن لم ينتهوا ويتوبوا فإنهم يستحقون الخلود في النار. 3- وتقرير رباني في صدد الربا والصدقات: فالله تعالى يمحق الربا ولا يبارك فيه في حين أنه ينمي المال الذي يتصدق منه ويضاعف أجر المتصدقين. والله لا يحب الكافرين الآثمين الذين يستحلون الحرام ويرتكبون الآثام.

4- وتنويه بالمؤمنين الصالحين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ولا يستحلون الحرام ولا يرتكبون الآثام، ومعنى الجملتين مندمج في جملة: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فهؤلاء لهم أجرهم عند ربهم ولن يكون لهم ما يخيفهم ويحزنهم. 5- وخطاب موجه إلى المؤمنين يؤمرون فيه بتقوى الله والوقوف عند أوامره ونواهيه والتنازل عما لهم في ذمم الناس من ربا إذا كانوا مؤمنين حقا. والاكتفاء باستيفاء رؤوس أموالهم فقط وإنذار لهم إذا لم يتوبوا ويكفوا عن تعاطي الربا بأنهم يكونون كمن أعلن الحرب على الله ورسوله أو كمن أعلن عليه الله ورسوله حربا. 6- وأمر آخر موجه إليهم أيضا: فعليهم أن يمهلوا المدين المعسر إلى أن يوسر وأن لا يرهقوه. وإذا تصدقوا وتنازلوا عن دينهم في حالة العسر فهو خير لهم. 7- وأمر آخر لهم باتقاء ويلات وبلاء اليوم الذي يقفون فيه بين يدي الله وتوفّى فيه كل نفس ما كسبت دون نقص ولا بخس. ويندمج في الآية معنى أن هذا الاتقاء إنما يكون باتباع أوامر الله واجتناب نواهيه. 8- وجملة وَإِنْ تُبْتُمْ تفتح باب التوبة لمن يستيقظ ضميره فيتقي الله وينتهي عن أكل الربا وتعاطيه. وقد يقال على ضوء ذلك إن الخلود في النار الذي ذكر في الآية [275] هو للمصرّ على فعل ما حرّم الله حيث يكون بذلك قد استحلّ الحرام فاستحقّ الخلود في النار. والآيات فصل تام في الربا وتحريمه، ويلمح مع ذلك شيء من الصلة بينها وبين الآيات السابقة من ناحية الحثّ على التصدق على المعسرين ومن ناحية تقرير كون الله يمحق الربا ويتلفه بينما يزيد مال المتصدقين وينميه. وقد تكون نزلت لحدتها ووضعت في ترتيبها إما بسبب نزولها بعد الفصل السابق أو للتناسب الملموح بينها وبين ما قبلها.

ومن الجدير بالتنبيه أن في سورة الروم آية ذكر فيها الربا والزكاة على سبيل المقارنة واحتوت الكراهية للأول والتنويه بالثانية وهي: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ الروم: [39] حيث يظهر تساوق الأسلوب القرآني بين ما جاء هنا وما جاء هناك وتبدو من خلال ذلك الصلة بين هذا الفصل وما قبله. وقد روى المفسرون «1» أن الآية [278] نزلت في مناسبة مطالبة العباس بن عبد المطلب وخالد بن الوليد أو رجل من بني المغيرة لدين لهما بالربا عند بعض الثقفيين قبل إسلامهما فرفع الأمر إلى النبي فنزلت. وأن الآية [281] آخر آية نزلت من القرآن. وقالوا كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل دين من بيع إلى أجل فإذا حلّ الأجل ولم يكن عنده قضاء طلب المدين من الدائن تأخير الأجل مقابل زيادة في الدين وهذا هو الربا. والذي نلحظه أن الآيات فصل تام منسجم سبكا وموضوعا، ونرجح أنه نزل دفعة واحدة ولا ينفي هذا أن يكون تشدد أصحاب الأموال المرابين من المسلمين في طلب أموالهم من مدينين معسرين من الأسباب المباشرة لنزول الآيات. ويتبادر لنا أن الآية الأخيرة منسجمة مع سابقاتها انسجاما وثيقا، ولذلك نتوقف في رواية كونها لحدتها آخر القرآن نزولا، ونرجح أنها نزلت مع هذه الآيات. فإذا كان لرواية نزولها كآخر آيات القرآن أصل فالمتبادر أن ذلك يشمل الفصل جميعه. وقد روى البخاري «2» حديثا في هذا الباب عن ابن عباس جاء فيه: «آخر آيه نزلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم آية الرّبا» حيث يمكن أن يكون قصد بذلك آيات الفصل كلها لأنها تدور على الربا وحيث يمكن أن يقال إن الفصل إلى آخر الآية [281] نزل دفعة واحدة في أواخر عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم. ولقد روي أن النبي قال في

_ (1) انظر تفسير الخازن وابن كثير والطبري. (2) انظر التاج ج 4 ص 62.

حجة وداعه فيما قال «1» : «إن كل ربا موضوع ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كلّه» وهذا مما يستأنس به كذلك لأن العباس آمن قبل الفتح المكي ثم هاجر عقبه إلى المدينة فلو كانت الآيات نزلت قبل حجة الوداع لما كان للعباس ربا يطالب به، لأنه لا يمكن إلا أن يتقيد بأمر الله المشدد. ومع هذا فإننا ننبه على أن هناك روايات تذكر غير هذه الآية كآخر ما نزل من القرآن على ما سوف ننبه إليه في مناسبته. والآيات شديدة وحاسمة في تحريم الربا كما هو ظاهر في صيغتها، ومع ما قاله المفسرون في تعريف ربا الجاهلية فقد أوردوا «2» أحاديث وروايات وأقوالا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وتابعيهم بعضها ورد في كتب الأحاديث الصحيحة تتضمن تعريفا بالربا في الإسلام وهو أخذ زيادة في مال متجانس كيلا أو وزنا أو نوعا بدون مقابل. وسواء أكانت المعاملة فورية أو مؤجلة فإذا أعطى امرؤ امرأ آخر ذهبا أو فضة أو برّا أو تمرا وأخذ بدل الذهب ذهبا وبدل الفضة فضة وبدل البرّ برّا وبدل التمر تمرا بزيادة ما في نوع أو وزن فالزيادة هي الربا الذي تحرمه الآيات ولو كان الأداء دينا مؤجلا. ولا مانع من أخذ الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبرّ بالبرّ إذا روعي في ذلك المساواة التامة جنسا ووزنا وكيلا. أما إذا أعطى امرؤ ذهبا فتقاضى بدله فضة أو شعيرا أو تمرا أو أعطى شعيرا فتقاضى بدله برّا أو نقدا من ذهب أو فضة بزيادة ما فالزيادة في الوزن والكيل والنوع هي ربح حلال لأن العملية تكون عملية بيع سواء أكانت فورية أو مؤجلة. ويطلق الفقهاء على الربا الذي يكون في العملية الفورية (ربا التفاضل) وفي العملية المؤجلة (ربا النسيئة) . ومن هذه الأحاديث حديث رواه الخمسة عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبرّ بالبرّ والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم

_ (1) انظر ابن هشام ج 4 ص 275 والتاج ج 2 ص 143، وحديث حجة الوداع طويل مروي عن جابر بن عبد الله. (2) انظر تفسير الآيات في تفسير الخازن والبغوي وابن كثير والطبري.

إذا كان يدا بيد. وزاد في رواية فمن زاد أو استزاد فقد أربى. الآخذ والمعطي فيه سواء» «1» . وحديث آخر رواه الخمسة كذلك عن مالك بن أوس قال: التمست صرفا بمائة دينار فدعاني طلحة بن عبد الله فتراوضنا حتى اصطرف مني فأخذ الذهب يقلبها في يده ثم قال: حتى يأتي خازني من الغابة. وعمر يسمع فقال: لا والله لا تفارقه حتى تأخذ منه. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء والبرّ بالبرّ ربا إلا هاء وهاء والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء» «2» . ويفهم من روح الآيات أن الناس كانوا في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم يرون الزيادة ربحا سواء أكان هناك مماثلة في الجنس والوزن أم لا ويعتبرون العملية بيعا وشراء فنبهت الآيات على الفرق بين العملين لأن الزيادة في البيع والشراء في السلع المختلفة هي مقابل جهد ووقت ومال وتفرغ، في حين أن الزيادة في السلع والأجناس والمقادير المتماثلة هي بدون عوض ما. كذلك يفهم من روح الآيات أنه كان للحاجة والإعسار أثر في تعاطي الربا ولم يكن تقاضيه معاملة بيع وشراء وتجارة، أي أن المرء كان يحتاج إلى مال ينفقه في شؤونه الخاصة أو سلعة يحتاج إليها في معيشته فيستدينها على أن يردها من جنسها بعد مدة بزيادة في المقدار وقد روت الروايات أن الربا كان يتضاعف بسبب الإعسار إلى أن يبلغ أضعافا مضاعفة ويستغرق جميع مال المدين وما في حيازته. وإلى هذا أشارت آية سورة آل عمران هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) . وإذا صح أن هذه الآيات كان من آخر ما نزل من القرآن والحديث الذي أوردناه يؤيد ذلك فتكون آية آل عمران هذه قد نزلت قبلها فنهت عن أكل الربا أضعافا مضاعفة كخطوة أولى ثم جاءت هذه الآيات لتحرّمه تحريما حاسما. وهذا من أساليب التشريع القرآني حيث اقتضت حكمة التنزيل التدرج في إلغاء العادات التي كانت راسخة وذات تأثير شديد في المجتمع. وقد سار القرآن على هذا

_ (1) التاج ج 2 ص 194. (2) التاج ج 2 ص 194.

الأسلوب في تحريم الخمر والميسر على ما ذكرناه في مناسبة سابقة في هذه السورة لأنهما كان لهما تأثير شديد ورسوخ في المجتمع. على أن من الحق أن يقال إن آية آل عمران المذكورة هي الخطوة التشريعية الأولى. أما نواة كراهية الربا والتنفير منه فقد جاءت في القرآن المكي في آية سورة الروم هذه: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) . وهكذا يتساوق التلقين القرآني المكي مع التلقين القرآني المدني في هذه المسألة كما يتساوق في سائر المسائل بالأسلوب الذي كان يتلاءم مع كل من العهدين المكي والمدني. ولقد استهدفت الآيات التي نحن في صددها- بالإضافة إلى تشنيعها بالربا وتحريمه- بثّ روح البرّ والتسامح والتكافل بين المسلمين. فإذا ما ضاق الأمر على امرئ فاحتاج إلى ما يفرج به ضيقه وجب أن ينال حاجته من أخيه القادر برّا ورحمة وأريحية بدون عوض أو زيادة. وإذا استحق دين على امرئ وكان معسرا وجب أن ينال التسامح والإمهال برا ورحمة وأريحية بدون عوض أو زيادة كذلك، وإذا كان إعساره شديدا وجب على الدائن أن يتنازل عن دينه صدقة لوجه الله. وفي هذا ما فيه من الروعة والجلال والتلقين المستمر المدى. ومشهد المحتاجين والمعسرين وما يتعرضون له من إرهاق المرابين واستغلالهم وما يجرّه الربا في مثل هذه الظروف من خراب ودمار ويثيره من أحقاد وضغائن ويسببه من ذلة وهوان واضطراب وقلق من المشاهد المعروفة التي تثير دائما الآلام والاشمئزاز وتجعل وجه المجتمع الذي تقع فيه كالحا قاسيا، وتبرر الحكمة الربانية في منع أسبابها هذا الأسلوب القوي الحاسم وتبرز قصد البرّ والرأفة والمعونة والتسامح والتصدق، وبكلمة ثانية التكافل الاجتماعي بين المسلمين يجعل ذلك التلقين الجليل قويا جليلا بليغا. ومما ذكره المفسرون أن الاشتغال بالربا من شأنه أن يضعف الرغبة في العمل والنشاط الاقتصادي والتجاري لأنه ربح يأتي بيسر وسهولة كالميسر. وهذا أيضا

تعليل وجيه يضاف إلى التعليلات السابقة. وفي سورة النساء آية تذكر أن الله قد نهى بني إسرائيل عن الربا وهي: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) . ونصوص أسفار العهد القديم المتداولة متباينة ففي بعضها نهي عن أخذه من بني إسرائيل فقط كما جاء في الإصحاح (22) من سفر الخروج و (23) من سفر التثنية. وفي بعضها نهي مطلق وتنديد بأخذه كما جاء في الإصحاح (14) من المزامير و (28) من الأمثال و (18) من نبوءة حزقيل. ونرجح أن نصّ السفرين الأولين محرف ما دام القرآن يذكر أن الله قد نهاهم عنه مطلقا والأسفار الأخرى تؤيد ذلك. وآية النساء على كل حال تقرر أنهم خالفوا شريعة تحريم الربا وتعاطوه في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم ممتدا إلى ما قبله. ولقد كان العرب المتمولون يتعاطونه كذلك على ما تفيده الآيات ويأخذونه أضعافا مضاعفة. ولقد كان مما فشا في مختلف البيئات في غير جزيرة العرب أيضا. وقد ارتكس فيه النصارى كما ارتكس اليهود وكان مترافقا في كل بيئة بتلك المشاهد المريرة المدمرة. فلا غرو أن حرمته الشريعة الإسلامية التي هدفت فيما هدفت إليه إلى إقامة مجتمع إنساني يضمّ مختلف الأجناس والألوان والطبقات ويسوده التعاطف والبرّ والتراحم والتعاون، ويمتنع فيه الناس عن أكل بعضهم أموال بعض بالباطل وبدون جهد تحريما حاسما وشاملا مع الإنذار الرهيب القاصم. ولقد أثرت أحاديث نبوية عديدة في التحذير من الربا وإنذار متعاطيه، منها حديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن جابر قال: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده قال هم سواء» «1» . وحديث أخرجه الطبراني عن ابن عباس جاء فيه: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من أعان ظالما ليدحض به حقا فقد برىء من ذمّة الله ورسوله، ومن أكل درهما من ربا فهو مثل ثلاث وثلاثين زنية ومن نبت لحمه

_ (1) التاج ج 2 ص 194.

من سحت فالنار أولى به» «1» . وحديث رواه الشيخان والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة ذكر فيه أن «أكل الربا من جملة الموبقات السبع التي أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم باجتنابها» «2» . هذا، وروح الآيات والأحاديث وما روي من مشاهد الربا ومآسيه ومضاعفاته كل ذلك يلهم أن الربا قد حرّم بهذا الأسلوب القاصم بسبب تلك المشاهد والمآسي والمضاعفات. ولقد ارتكس العالم عامة والمسلمون منهم في ذلك حتى صار الربا بلاء عاما لا يكاد يتفلّت منه أحد بصورة من الصور ولا سيما في ظل نظام المصارف الذي عمّ كل الأقطار. مما كشف الله عن عيبه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال في حديث رواه الإمام أحمد عن الحسن عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا، فقيل له: الناس كلّهم؟ قال: من لم يأكله ناله غباره» «3» . ولقد شهدنا في حياتنا ممولين يستغلون عوز الفلاحين وغيرهم فيداينونهم المائة بمائة وثلاثين بل وأربعين وخمسين لسنة واحدة بل لموسم زراعي واحد، ويستغرق الربا جميع ما لهم من أرض وعقار وماشية ويشتد عليهم خناق العوز والمذلة وسمعنا من مثل ذلك كثيرا من آبائنا في بلادنا ومن غيرهم في البلاد العربية الأخرى. ولقد وجد المرابون بعض المشايخ الجهال الذين كانوا يفتونهم في عملهم بزعم إخراج عملياتهم من نطاق الربا المحرم حيث يجرون عملية بيع صورية عن المبلغ الزائد الذي يكتبونه في سند الدين. ولقد شهدنا أغنياء كثيرين فأصبحوا فقراء أذلاء بعد أن كانوا واسعي الثراء محاطين بالتكريم والتبجيل بسبب استغراقهم في الدين ورباه. ولقد شهدنا في الوقت نفسه مصير كثيرين ممن كانوا يأكلون الربا إلى مثل ذلك المصير. ولقد عرفنا أن الله كان يلحظ بعنايته الذين يؤتون الزكاة ويتصدقون

_ (1) مجمع الزوائد ج 4 ص 117. (2) التاج ج 4 ص 81. (3) أورد هذا الحديث ابن كثير في سياق تفسير الآية وقال: «كذا روى أبو داود والنسائي وابن ماجه» .

عن إخلاص وإيمان ولا يتعاطون الربا فينمي أموالهم ويقيهم شرّ النكبات والخسائر أو يعوض عليهم ما أصابهم من ذلك. فتحققت لنا المعجزة القرآنية المنطوية في جملة يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ صدق الله العظيم. وإنه لمن واجب علماء المسلمين ودعاة الإصلاح وأولياء الأمر الصالحين أن يتداعوا لإيجاد مخرج للمسلمين من هذا البلاء العام الذي يرتكسون فيه ويعيشون خلاله في حالة حرب على الله ورسوله وفي لعنة الله ورسوله والعياذ بالله. والحكومات الإسلامية اليوم تسمح للمصارف بالعمل بفوائد معتدلة أو زهيدة ولأجل تنمية الأعمال التجارية والزراعية والصناعية وتفريج أزمات الناس وتحريرهم من استغلال المرابين الجشع. ويتحقق بذلك فوائد ومنافع للناس ولا ندري إن كانت هذه الحكومات قد وجدت مسوغا شرعيا لذلك ولا سيما إن هذا كان في زمن دولة الخلافة العثمانية التي كانت تغلب عليها الصيغة الدينية ولو بالمظاهر والتي كانت تجتهد في أخذ فتاوى من العلماء لمثل هذه الأمور. وقد أنشأت في أواخر عهدها مصرفا زراعيا حكوميا بهدف تخليص الفلاحين من استغلال المرابين الفاحش. وكانت تقرضهم المال بفائدة كانت تعد زهيدة ومقدارها تسعة في المائة ونعتقد أنها استندت في ذلك إلى فتاو شرعية. ولقد كان من نتيجة جهود أساطين فقهائها تلك الموسوعة الفقهية الهامة الشهيرة التي عرفت باسم «مجلة الأحكام الشرعية» والتي احتوت قواعد فقهية لمختلف المعاملات ومن المستحسن هذا الأمر على ضوء ذلك دراسة عميقة لعل الدارسين يجدون ذلك المخرج المنشود. هذا، وبعض المؤولين قالوا إن جملة وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ هي في صدد الربا موضوع الكلام وإنها بسبيل الأمر بالتأجيل بدون زيادة. وليست في صدد الدين بصورة عامة الذي ينشأ عن العقود المشروعة من بيع وشراء وإجارة إلخ ... في حين قال بعضهم إنها تشمل الدين مطلقا. والجملة

تعليق على جملة الذي يتخبطه الشيطان من المس ...

مطلقة بحيث يكون الرجحان للقول الثاني فيما يتبادر لنا. وقد أورد هؤلاء أحاديث في صدد التيسير على المعسر مطلقا مما فيه تأييد للقول الثاني. من ذلك حديث رواه الإمام أحمد عن أسعد بن زرارة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من سرّه أن يظلّه الله يوم لا ظلّ إلا ظلّه فلييسر على معسر أو ليضع عنه» «1» . وحديث رواه الإمام نفسه عن بريدة قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: من أنظر معسرا فله بكلّ يوم مثله صدقة، وفي رواية مثلاه صدقة» «2» . وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كان تاجر يداين الناس فإذا رأى معسرا قال لفتيانه: تجاوزوا عنه لعلّ الله أن يتجاوز عنا فتجاوز الله عنه» «3» . وفي الأحاديث بالإضافة إلى تأييدها الإطلاق حثّ على التسامح والبرّ وتنويه بفضيلة إنظار المعسرين والتساهل معهم مما يتساوق مع التلقين القرآني. تعليق على جملة الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ... لقد كانت هذه الجملة موضوع جدل كلامي بين أهل السنة والمعتزلة حيث أثبت الأولون حقيقتها وأنكرها الآخرون. ومما قاله الزمخشري إن الآية تعبير عما كان يزعم العرب في الجاهلية وتابعه في ذلك الطبري والبيضاوي. ولقد أورد المثبتون أحاديث نبوية منها ما ورد في الصحاح ولكنا لم نلمح منها ما في الجملة من مدى ومعنى. مثل حديث رواه الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسّه حين يولد فيستهلّ صارخا من مسّ الشيطان إيّاه إلا مريم وابنها واقرأوا إن شئتم وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ «4» آل عمران: [36] . وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلّ بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بأصبعه حين يولد غير عيسى

_ (1) أورد هذه الأحاديث ابن كثير وهناك أحاديث أخرى من باب هذه الأحاديث فاكتفينا بما أوردناه. [.....] (2) أورد هذه الأحاديث ابن كثير وهناك أحاديث أخرى من باب هذه الأحاديث فاكتفينا بما أوردناه. (3) أورد هذه الأحاديث ابن كثير وهناك أحاديث أخرى من باب هذه الأحاديث فاكتفينا بما أوردناه. (4) التاج ج 4 ص 65.

ابن مريم ذهب يطعنه فطعن في الحجاب» «1» . ولقد قلنا إننا لم نلمح في الأحاديث أنها متساوقة مع مدى الجملة حيث نرى أن الجملة عنت الصرعة التي يرتمي بها المصاب على الأرض وتجعله يتخبط، والمتداول بين الناس أن هذا من مسّ الشيطان. ولقد عقد القاسمي في تفسيره فصلا طويلا بذلك استشهد بأقوال الإمامين ابن تيمية وابن الجوزي وبفصل للبقاعي بسبيل إثبات مسّ الشيطان للجسم الإنساني وحدوث الصرع والجنون نتيجة لذلك وإخراج الشيطان منه بالرقى والآيات القرآنية وأورد حديثا طويلا أورده البقاعي في ذلك من إخراج الدارمي لم يرد في كتب الصحاح ونرى التوقف فيه أولى لأن فيه إغرابا شديدا. ومما ساقه البقاعي بسبل إثبات حقيقة ذلك ما ورد في الأناجيل المتداولة اليوم من حوادث عديدة نذكر ما كان من إخراج عيسى (عليه السلام) الجنّ والشياطين من المرضى المصابين بالصرع والجنون، والأناجيل المتداولة تورد روايات فيها غثّ وسمين وحقيقة وخيال وذكريات ولا يصح سوقها بسبيل إثبات ذلك. ولقد تصدى رشيد رضا لهذه المسألة وأشار إلى الخلاف فيها بين أهل السنة والمعتزلة فقال إن الآية لا تثبت ذلك ولا تنفيه وإنه ثبت عند أطباء العصر أن الصرع من الأمراض العصبية التي تعالج كأمثالها بالعقاقير وغيرها من طرق العلاج الجديدة. وقد تعالج بالإيهام. وإننا نحن المسلمين لسنا في حاجة إلى النزاع فيما أثبته العلم وقرره الأطباء أو إضافة شيء إليه مما لا دليل عليه في العلم لأجل تصحيح الروايات الآحادية وإن القرآن أرفع من أن يعارض العلم. وهذا كلام سديد من دون ريب، وقد يصح أن يضاف إليه أولا: إن الآية في مقامها لا تتحمل هذا الجدل. وإن كلام الزمخشري ومن تابعه في الأصل متسق مع ما تكرر كثيرا في القرآن من كون حكمة التنزيل جرت على مخاطبة سامعيه للمرة الأولى بما هو معروف ومسموع ومعتقد به عندهم وعند الأمم الأخرى التي يتصلون بها أو يعرفون أخبارها.

_ (1) المصدر السابق.

وثانيا: إنا نقول هنا ما قلناه في مناسبات سابقة مماثلة من أن الإيمان بما أخبره القرآن والأحاديث الصحيحة من أمور الجن والشياطين واجب على المسلم شأن سائر الأخبار الغيبية التي تذكر في القرآن والأحاديث مع إيكال ما لا يدركه العقل الإنساني من ذلك إلى الله سبحانه والقول آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا آل عمران: [7] ومع الإيمان بأنه لا بد لذكر ما ذكر بالأسلوب الذي ذكر به في القرآن والأحاديث الصحيحة من حكمة، ولعلّ من ذلك هنا قصد التنديد والإنذار وليس هذا الأمر يعد من الأمور المحكمة التي لا يسع المسلم جهلها وليس له ولا عليه أن يتكلف فيها على ما نبهنا عليه في مناسبات كثيرة سابقة والله تعالى أعلم. وإنه لمن واجب علماء المسلمين ودعاة الإصلاح وأولياء الأمر الصالحين أن يتداعوا لإيجاد مخرج للمسلمين من هذا البلاء العام الذي يرتكسون فيه ويعيشون خلاله في حالة حرب مع الله ورسوله وفي لعنة الله ورسوله والعياذ بالله. وبعض المؤولين قالوا إن جملة وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ [280] هي في صدد الربا موضوع الكلام وأنها بسبيل الأمر بالتأجيل بدون زيادة وليست في صدد الدين بصورة عامة الذي ينشأ عن العقود المشروعة من بيع وشراء وإجارة إلخ. وبعضهم قالوا إنها تشمل الدين مطلقا والجملة مطلقة بحيث يجعل ذلك الرجحان للقول الثاني فيما يتبادر لنا. ولا سيما إن المفسرين يوردون أحاديث نبوية في ذلك حديث رواه الإمام أحمد عن أسعد بن زرارة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من سرّه أن يظلّله الله يوم لا ظلّ إلا ظلّه فلييسّر على معسر أو ليضع عنه» . وحديث رواه الإمام أحمد أيضا عن بريدة قال: «سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: من أنظر معسرا فله بكلّ يوم مثله صدقة وفي رواية في كلّ يوم مثلاه صدقة» وحديث أخرجه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كان تاجر يداين الناس فإذا رأى معسرا قال لفتيانه تجاوزوا عنه لعلّ الله أن يتجاوز عنا فتجاوز الله عنه» . وحديث رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من أراد أن تستجاب

دعوته وأن تكشف كربته فليفرّج عن معسر» . وحديث أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي عن حذيفة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أتي الله بعبد من عبيده يوم القيامة قال: ماذا عملت لي في الدنيا؟ قال: ما عملت لك يا ربّ مثقال ذرة في الدنيا أرجوك بها. قالها ثلاث مرات ثم قال عند آخرها: يا رب إنك كنت أعطيتني فضل مال وكنت رجلا أبايع الناس وكان من خلقي الجواز فكنت أيسّر على الموسر وأنظر المعسر فيقول الله عز وجل أنا أحقّ من ييسّر ادخل الجنة» . وحديث رواه الإمام أحمد عن عثمان بن عفان قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: أظلّ الله عبدا في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه من أنظر معسرا أو ترك لغارم» «1» وحديث رواه الإمام أحمد عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أنظر معسرا أو وضع عنه وقاه الله من قيح جهنم» «2» . وبعض هذه الأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة ولكن هذا لا يمنع صحتها. وهي متسقة مع النص القرآني وفيها من الحثّ على التسامح والبرّ والتنويه بفضيلة إنظار المعسرين والتساهل معهم ما يتساوق مع التلقين القرآني. ولقد أورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن سعيد بن المسيب وحديثا رواه ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري في صيغتين متقاربتين عن عمر بن الخطاب أنه خطب المسلمين يوما فقال: «إني لعلّي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم وإن من آخر القرآن نزولا آية الربا وإنه قد مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يبينه لنا فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم» ، وجاء في الصيغة الثانية: «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبض قبل أن يفسّرها لنا فدعوا الربا والريبة» . والحديث بصيغتيه لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة ونحن نتوقف في هذا الحديث. فالله سبحانه قال لرسوله صلّى الله عليه وسلّم: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ النحل: [44] ومن واجب المسلم أن يعتقد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد قام بهذه المهمة. والأحاديث الصحيحة العديدة في الربا ومداه

_ (1) النصوص السابقة من تفسير ابن كثير. (2) من تفسير القاسمي.

تصح أن تورد كدليل على ذلك. ولا يبدو في الآيات غموض ولا إشكال والله تعالى أعلم. ولقد كانت جملة الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ موضوع جدل مذهبي كلامي حيث أنكر الزمخشري وفقا لمذهب المعتزلة حقيقة الأمر وقال: إن الآية تعبير عما كان يزعم العرب في الجاهلية، وغمز الذين يعتقدون حقيقة ذلك وقال إن إنكار ذلك عندهم كإنكار المشاهدات. وقد تابعه البيضاوي والطبرسي في قوله وحيث ردّ أهل السنة على هذا القول وأوردوا بعض الأحاديث التي منها ما ورد في الكتب الصحيحة من ذلك حديث رواه الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من مولود يولد إلّا والشيطان يمسّه حين يولد فيستهلّ صارخا من مسّ الشيطان إيّاه إلا مريم وابنها. واقرأوا إن شئتم وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ «1» آل عمران: [3] . وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلّ بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بأصبعه حين يولد غير عيسى بن مريم ذهب يطعنه فطعن في الحجاب» «2» . ومما لم يرد في تلك الكتب حديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «التقطوا صبيانكم أول العشاء فإنه وقت انتشار الشّياطين» «3» . وقد قابل القاضي ابن المنير غمز الزمخشري بالشتيمة فقال هذا خبطهم فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون. وقد عقد القاسمي فصلا طويلا في تفسيره للآية على هذه المسألة واقتبس من كتاب زاد المعاد لابن القيم نبذة طويلة فيها استشهاد ببعض أقوال وأفعال الإمام ابن تيمية بسبيل إثبات صحة وقائع مسّ الشيطان للجسم الإنساني وحدوث الصرع والجنون نتيجة لذلك وإخراج الشيطان منه بالرقى والآيات القرآنية. واقتبس القاسمي كذلك نبذة من مؤلف للعلامة البقاعي بسبيل تأييد ذلك فيها أولا بعض أحاديث نبوية أخرجها الدارمي ولم ترد في الكتب الصحيحة منها حديث مروي عن ابن عباس جاء فيه: «إن امرأة جاءت بابن لها إلى

_ (1) التاج ج 4 ص 65. (2) التاج ج 4 ص 65. (3) حاشية ابن المنير على تفسير الزمخشري الجزء 1، الطبعة الأولى، المكتبة التجارية.

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله إن ابني به جنون وإنه يأخذه عند غدائنا وعشائنا فيخبث علينا. فمسح رسول الله صدره ودعا فثعّ ثعّة وخرج من صدره مثل الجرو الأسود فسعى» . وحديث عن جابر قال: «خرجنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في سفر فركبنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورسول الله بيننا كأنما على رؤوسنا الطير تظلّنا فعرضت له امرأة معها صبي لها فقالت: يا رسول الله، إن ابني هذا يأخذه الشيطان كلّ يوم ثلاث مرات فتناول الصبي فجعله بينه وبين مقدم الرحل ثم قال: اخسأ يا عدوّ الله أنا رسول الله ثلاثا ثم دفعه إليها» . وذكر البقاعي في نبذته أن هذا الحديث أخرجه الطبراني من وجه آخر وبين أن السفر غزوة ذات الرقاع وأن ذلك كان في حرة واقم ومما جاء في صيغة الطبراني عن جابر: «فلما قضينا سفرنا مررنا بذلك المكان فعرضت لنا المرأة ومعها صبيّها ومعها كبشان تسوقهما فقالت: يا رسول الله اقبل مني هديتي فو الذي بعثك بالحقّ ما عاد إليه بعد. فقال: خذوا منها واحدا وردّوا عليها الآخر» . وقال البقاعي في نبذته: إن هذا الحديث رواه أيضا البغوي في شرح السنة عن يعلي بن مرة (رضي الله عنه) . وذكر القاسمي أن البقاعي ساق بعد ذلك ما جاء في الإنجيل قال وذلك كثير جدا. يعني ما وقع للمسيح (عليه السلام) من إخراج الشياطين والأرواح الخبيثة من المبتلين بذلك «1» . وقال إنما كتبت هذا مع كون ما نقل عن نبينا كافيا لأنه لا يدفع أن يكون فيه إيناس له ومصادقة تزيد في الإيمان. وقد تصدى رشيد رضا لهذه المسألة وأشار إلى الخلاف المذهبي فيها بين أهل السنة والمعتزلة وقال إن الآية لا تثبت ذلك ولا تنفيه. وأنه ثبت عند أطباء العصر أن الصرع من الأمراض العصبية التي تعالج كأمثالها بالعقاقير وغيرها من طرق العلاج الجديدة. وقد تعالج بالإيهام. وإننا نحن المسلمين لسنا في حاجة إلى النزاع فيما

_ (1) في الأناجيل قصص كثيرة عن حالات الصرع والجنون بسبب مسّ الشياطين والجن ودخولهم في أجسام أصحابها وإخراج المسيح لها وشفائهم من مرضهم. انظر مثلا: الإصحاحات 4 و 9 و 12 و 17 من متى. و 3 و 5 من مرقس. و 4 و 6 و 8 و 9 و 11 من لوقا. وفي الإصحاح 22 من سفر الخروج و 20 من سفر الأحبار من أسفار العهد القديم شجب للسحر والعرافات وأصحاب التوابع من الجن.

[سورة البقرة (2) : الآيات 282 إلى 283]

أثبته العلم وقرره الأطباء أو إضافة شيء إليه مما لا دليل عليه في العلم لأجل تصحيح الروايات الآحادية. وإن القرآن أرفع من أن يعارضه العلم. وهذا كلام سديد من دون ريب. وقد يصح أن يضاف إليه: أولا: إن الآية في مقامها لا تتحمل هذا الجدل وإن كلام الزمخشري ومن تابعه في الأصل متسق مع ما تكرر كثيرا في القرآن من كون حكمة التنزيل جرت على مخاطبة سامعيه للمرة الأولى بما هو معروف ومسموع ومعتقد به عندهم وعند الأمم الأخرى التي يتصلون بها أو يعرفون أخبارها. وثانيا: إننا نقول هنا ما قلناه في مناسبات سابقة مماثلة إن الإيمان بما أخبره القرآن والأحاديث الثابتة من أمور الجن والشياطين واجب على المسلم شأن سائر الأخبار الغيبية مع إيكال ما لا يدركه العقل الإنساني من ذلك إلى الله سبحانه والقول آمنا به كلّ من عند ربنا ومع الإيمان بأنه لا بدّ لذكر ما ذكر بالأسلوب الذي ذكر به في القرآن والثابت من الحديث من حكمة. ولعل من ذلك هنا قصد التنديد والإنذار. وليس هذا الأمر بعد من أمور الشريعة الإسلامية المحكمة والأساسية التي لا يسع المسلم جهلها وليس له ولا عليه أن يتكلف فيها على ما نبهنا عليه في مناسبات كثيرة سابقة والله تعالى أعلم. [سورة البقرة (2) : الآيات 282 الى 283] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) .

تعليقات على الآية يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى ... والآية التالية لها

(1) بالعدل: هنا بمعنى الحق والصدق والتمام. (2) الإملال: مرادف للإملاء وهنا بمعنى الإقرار والاعتراف أو التقرير. (3) يبخس: ينقص أو يكتم. (4) سفيها: ناقص العقل والتمييز إما بسبب مرض أو بسبب شيخوخة أو بسبب الطفولة. (5) ضعيفا: مريضا أو عاجزا جسمانيا أو لعي في لسانه إلخ. (6) أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى: بمعنى أن تنسى إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى. (7) لا يأب الشهداء: لا يمتنعوا عن الاستجابة والشهادة. (8) أدنى ألّا ترتابوا: أكثر ضمانا لعدم الارتياب والشك. تعليقات على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ... والآية التالية لها في الآيتين تعليمات للمسلمين بما يفعلونه في ظروف الدين والبيع: 1- فعليهم إذا تداينوا بدين إلى أجل معين أن يكتبوا بالدين وثيقة. 2- وعلى الكاتب أن يكتب الوثيقة بالحقّ ولا يجوز له أن يمتنع عن كتابتها على هذا الوجه لأن الله الذي يأمره بذلك هو الذي علمه.

3- وعلى الذي عليه الدين أن يقرر للكاتب ما عليه ليكتبه وأن يتقي الله فيما يقرره ولا ينقص منه شيئا. وإذا كان ناقص التمييز أو عاجزا عن التقرير أو مريضا فعلى وليّه أن يقرر الحق الذي عليه ليكتبه الكاتب. 4- وعلى المسلمين أن يستشهدوا على وثيقة الدين رجلين منهم أو رجلا وامرأتين ممن يرضون وتطمئن إليهم نفوسهم. وجعل امرأتين مع الرجل في حالة عدم وجود رجلين هو لتذكر إحداهما الأخرى إذا نسيت. 5- ولا يجوز للشهود أن يمتنعوا عن الشهادة إذا دعوا إليها. 6- وعلى المسلمين أن لا يتهاونوا في كتابة وثائق الدين سواء أكان قليلا أو كثيرا فإن ذلك هو الأفضل والأعدل عند الله والأضمن لعدم الارتياب والشك فيما بينهم. 7- ولا مانع من عدم تدوين المعاملة التجارية إذا كانت فورية لا دين فيها، أحدهم يسلم السلعة والآخر يدفع الثمن. 8- وعلى أن يستشهدوا شهودا على ما يقع بينهم من بيوع. 9- ولا يجوز في أي حال مضارة كاتب أو شهيد أو أذيتهما بالقول والفعل فذلك إثم وعصيان لأوامر الله. 10- وإذا كان الطرفان أو كلاهما على أهبة سفر ولم يجدا كاتبا يكتب وثيقة الدين فيحسن أن يقوم مقام الوثيقة رهن يسلمه المدين إلى الدائن. 11- وإذا ائتمن الواحد آخر في حالة عدم إمكان كتابة سند الدين فيكون بدل ذلك رهن من المستدين إلى حين الأداء. وعلى المؤتمن أن يحقق ظن صاحبه في أمانته فيؤدي إليه ما ائتمنه عليه بحق وعدل. 12- ولا يجوز لأحد كتمان شهادته في أي أمر، ومن يكتمها فإنه آثم القلب. 13- وعلى المؤمنين على كل حال أن يتقوا الله ويراقبوه فيما يقوم بينهم من معاملات. فهو الذي يعلمهم ما يحسن لهم ويساعد على توثيق مصالحهم، وهو العليم بكل شيء الخبير بما يعملونه. والآية الأولى أطول آية في القرآن. وقد روى ابن كثير رواية معزوة إلى

شعيب بن المسيب أنه بلغه أن هذه الآية أحدث القرآن عهدا بالعرش أي آخر ما نزل من القرآن. ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزول الآيتين. والمتبادر أنهما متصلتان بسابقاتهما اتصالا استطراديا. فقد ذكر في الآيات السابقة الدين والبيع فأوحى بالآيتين للتشريع والتسليم في صدد ذلك. والراجح أنهما نزلتا بعد تلك الآيات مباشرة فوضعت بعدها للتناسب الموضوعي والزمني. ولقد روى ابن كثير عن ابن عباس: أن الآية الأولى نزلت في السلم إلى أجل معلوم (وهو شراء غلة معينة في موسم آت بثمن معجل) وأنه قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله أحله، وأنه روى حديثا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم وأجل معلوم» غير أن الإطلاق في جملة إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يلهم أنه جاء كذلك ليكون شاملا لكل نوع من الدين. وروعة التعليم والتشريع في الآيتين ظاهرة قوية لا تحتاج إلى إطناب. وقد روعي فيها تعليم المسلمين توثيق أمورهم التجارية، وتوطيد الحق والعدل فيما بينهم فيها، وعدم تركها فوضى بسبب ما ينتج عنها من مشاكل وخلافات وشحناء. وبالتالي تلقينهم تنظيم أمورهم الدنيوية على الوجه الذي يكفل لهم الحق والعدل والطمأنينة والثقة وعدم النزاع. وجملة أَلَّا تَرْتابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها تلهم أن كتابة المعاملات التجارية الفورية أفضل وأن الاستثناء هو للتيسير والتخفيف. وفي كتب التفسير أقوال وروايات عن أهل التأويل في مدى أحكام هذه الآيات نوجزها ونعلق عليها كما يلي. وهناك نقاط لم نطلع على قول فيها رأينا كذلك أن نوردها ونذكر ما يتبادر لنا فيها-: 1- لقد روى المفسرون قولين في مدى الأمر بكتابة الدين والاستشهاد عليه. أحدهما أنه من باب الاستحباب والتشويق، وثانيهما أنه على سبيل الإيجاب. ويتبادر لنا من روح الآية وفحواها وتوكيدها المتكرر ورفع الحرج عن عدم كتابة

التجارة الحاضرة والمعاملة الفورية مع تفضيل الكتابة أن القول الثاني هو الأوجه. 2- ورووا كذلك قولين في مدى واجب الكتابة على الكاتب والشهادة على الشاهد. أحدهما أنه على سبيل التخيير والندب وثانيهما على سبيل الإيجاب. وقد يكون القول الأول هو الأوجه لأن الكاتب والشاهد شخصان حران لا يصح إرغامهما على ما لا يريدانه من كتابة أو شهادة. أما حين يقبل الكاتب أن يكتب والشاهد أن يشهد على الواقعة بناء على طلب صاحب المصلحة فالجمهور متفقون على أن يكون حينئذ من الواجب على الكاتب أن يكتب بالعدل وعلى الشاهد أن يلبي الدعوة ويشهد بالحق. ولا يكون هذا على سبيل الاستحباب والتخيير وهذا سديد وواضح من العبارة القرآنية أيضا. 3- والمتبادر من العبارة القرآنية أن الشهود المعنيين هم الذين طلب منهم أن يحضروا ويشهدوا على الواقعة وقد تقع معاملات بين طرفين ويكون أناس حاضرين الواقعة صدفة ولم يحضر الطرفان شهودا خصيصين. ولم نطلع على قول في مثل هذه الحالة. والمتبادر أن من واجب هؤلاء أداء الشهادة إذا ما دعوا إليها ولا يصح لهم أن يمتنعوا ويكتموا لأن في ذلك إضاعة لحقّ قد لا يثبت بدون شهادتهم. 4- والمفسرون يروون أقوالا عديدة في مدى جملة وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ منها أن المعني بهذا الأمر الكاتب والشاهد. وأن الجملة توجب عليهما عدم مضارة صاحب المصلحة والحق. وعلى الكاتب أن يكتب بالعدل والشاهد أن يشهد بالحق. ومنها أن المعني بهذا الأمر أصحاب المصلحة. فلا يجوز لهم إرغام الكاتب على الكتابة ولا شخصا ما على المجيء والشهادة على العملية ويسبب لهما بذلك ضررا في إضاعة وقت وخسران عمل. ومنها أن المعني بهذا الأمر أصحاب المصلحة من جانب آخر وهو أنه لا يجوز لهم أن يضاروا ويؤذوا الكاتب على كتابته بالعدل والشاهد على شهادته بالحق. وروح الآية تلهم أن القول الأخير هو الأكثر ورودا ووجاهة. 5- والمتبادر أن الإشارة إلى واجب الإملاء والتقرير على ولي السفيه

والعاجز والمريض تنطوي على كون أقوال هؤلاء واعترافاتهم في حق أنفسهم غير نافذة. وقد تفيد العبارة القرآنية أن المقصود من (الولي) الذي يجب أن ينوب عن هذه الفئات في الإملاء والتقرير هو الذي له حق الولاية على هذه الفئات بسبب درجة قرابته لهم. غير أن الجمهور على أن القضاء الشرعي مخول في إقامة الأولياء أيضا على أمثال هذه الفئات ليكونوا مسؤولين عن رعاية حقوق هذه الفئات ومصالحها. وهذا حقّ وصواب. وحتى بالنسبة للذين تخولهم قرابتهم الولاية حيث يكون الأولى أن تكون ممارستهم للولاية بعلم وإقرار القضاء حتى يكونوا مسؤولين أمامه، والله أعلم. 6- وقد روى المفسرون في صدد جملة فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ أنها في صدد حفظ الأمانات وردها إلى أصحابها وعدم المماراة فيها وتبديدها إطلاقا. ومنها أنها في صدد الرهن الذي يعطيه المدين للدائن عوضا عن سند الدين حينما تتعسر كتابته على ما جاء في الآية: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ حيث توجب الجملة على الدائن فقط الرهن سليما بدون تبديد على اعتبار أنه أمانة في يده ورده إلى المدين كما هو حينما يرد هذا ما عليه من دين. ومنها أن ذلك في حالة تعسر الكتابة وتعسر الرهن واعتماد الدائن على أمانة المدين وحسب. حيث توجب الجملة على المدين قيامه بحق من ائتمنه على ماله ورده إليه. وفحوى العبارة ومقامها متسقان أكثر مع المعنى الثاني وقد يتسقان مع المعنى الثالث أيضا. والمعنى الأول وارد الوجوب دائما وفي كل حال. وليس بينه وبين المعنيين تعارض وقد أوجبت آية سورة النساء [58] ردّ الأمانات إلى أهلها. ونوهت آيات مكية عديدة بمن يرعى أمانته وعهده كما جاء في آيات المؤمنون [8] والمعارج [29] . 7- وجمهور المفسرين على أنه ينطوي في جملة مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ شرط تحقق العدالة في الشهود. أو أن ذلك هو المقصود من الجملة أي يجب أن يكونوا من المعروفين بالاستقامة غير المتهمين في ذممهم. ومع ما في هذا من

وجاهة فإنه يتبادر لنا أن الجملة أوسع مدى بحيث تنيط استشهاد الشهود بثقة المستشهدين ورضائهم النفسي والقلبي. 8- وكلمة مِنْ رِجالِكُمْ في صفة الشهود تفيد وجوب اختيارهم من المسلمين مع توفر العدالة وطمأنينة صاحب المصلحة. ولقد روى المفسرون أقوالا في شمول العبارة للأرقاء المسلمين. حيث قال بعضهم بالشمول وبعضهم حصر الشهادة في أحرار المسلمين. ويتبادر لنا أن القول الأول هو الأوجه فقد خاطب القرآن المؤمنين بكل ما يتصل بشؤون الدين والدنيا بدون تمييز بين الأرقاء والأحرار. واعتبرهم جميعا بعضهم من بعضهم وبعضهم أولياء بعض في آيات عديدة مثل آية سورة آل عمران [195] والتوبة [71] وكان المؤمنون الذين عنتهم هذه الآيات خليطا من أحرار وأرقاء. وفي إعلام الموقعين لابن قيم الجوزية فصل في ذلك قرر فيه أنه ليس هناك أي أثر وثيق برفض شهادة العبد المسلم. وأنه يدخل في شمول كلمة رِجالِكُمْ. وفي جملة وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ في سورة الطلاق وقال إن الميزان العادل وكتاب الله وسنّة رسوله وإجماع الصحابة على قبول شهادته. وروي عن أنس بن مالك قوله: «ما علمت أحدا ردّ شهادة العبد» «1» . 9- ولقد تطرق بعض المفسرين إلى جواز وعدم جواز شهادة واستشهاد غير المسلمين في سياق هذه العبارة أيضا، وأوردوا أقوالا مختلفة منها منع ذلك بناء على صراحة العبارة هنا وقالوا إن المسلم لا يشهد عليه إلا مسلم ولا ينبغي له أن يستشهد إلا مسلما. ومنها إجازة ذلك استنادا إلى آية سورة المائدة هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) غير أن الذين قالوا بالمنع قالوا إن آية المائدة منسوخة بآية البقرة التي نزلت بعدها. وهناك من قال إن الحالة التي نزلت فيها آية المائدة تتسع

_ (1) انظر أعلام الموقعين ج 2 ص 49.

لذلك لأنها حالة سفر وغربة قد لا يكون فيها شهود مسلمون. ولابن القيم فصول في هذا الباب أنكر فيها نسخ آية المائدة لأنها في صدد حالة تتحمل استشهاد وشهادة غير المسلمين «1» . وهذا حق. ولقد تصدى رشيد رضا لهذه المسألة وعقد فصلا طويلا لها انتهى به إلى ترجيح شهادة غير المسلمين على المسلمين إذا كان حق المسلم لا يثبت إلا بها. وقال فيما قال: إن البينة في الشرع أعمّ من الشهادة وإن كل ما يتبين به الحق بينة كالقرائن المنطقية، وإن شهادة غير المسلم يمكن أن تدخل في معنى البينة المستدل عليه بالكتاب والسنة واللغة إذا كان يتبين بها الحق للحاكم. وفي هذا حق وسداد فيما هو المتبادر. وليس هناك فيما اطلعنا عليه أثر نبوي صحيح يمنع شهادة غير المسلم على المسلم إذا لم يكن مطعونا في أمانته وعدله. وكل ما اطلعنا عليه حديث رواه أبو داود والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ردّ شهادة الخائن والخائنة وذي الغمر على أخيه وردّ شهادة القانع لأهل البيت وأجازها لغيرهم» وفي رواية أنه قال: «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية» «2» . وقد يضاف إلى هؤلاء المشهور بالفسق وقاذف المحصنات على ما جاء في آية سورة الحجرات هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وفي آيات النور هذه: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) . ومع ذلك فإن من الممكن استدراك أمر على ضوء آية سورة المائدة، وهو إنه إذا كان الشهود مختارين اختيارا ومدعووين دعوة للشهادة فالأولى أن يكونوا

_ (1) انظر إعلام الموقعين ج 1 ص 74. (2) التاج ج 3 ص 56. ومعنى (ذو الغمر) ذو الحقد والعداوة. والقانع هو التابع أو الخادم فلا تجوز شهادته على مستخدميه أو لهم وتجوز لغيرهم أو عليهم.

مسلمين ما دام هذا ممكنا. فإن لم يكن هذا ممكنا أو إذا كانت الواقعة التي يراد الاستشهاد عليها فورية ولم يشهدها غير مسلمين فتكون شهادتهم سائغة إذا كانوا عدولا غير متهمين لأن الحق يضيع على صاحبه بدون ذلك، والله تعالى أعلم. 10- وعبارة فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ تفيد اعتبار شهادة المرأتين بشهادة رجل واحد وقد عللت الآية هذا مما ينطوي فيه الإشارة إلى مشاغل المرأة وما تؤدي إليه من غلبة النسيان عليها. ولقد زاد المفسرون على التعليل القرآني تعليلا آخر وهو نقص عقل المرأة واستندوا في ذلك إلى الحديث النبوي الذي يصف المرأة فيه بنقص العقل ويدلل على ذلك بأن الله جعل شهادتها نصف شهادة الرجل والذي أوردناه في سياق تفسير الآية [21] من سورة الروم وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار. وذلك التعليق يجعلنا نعتقد أن التعليل المنطوي في الآية هو الوارد الحق. ثم يجعلنا نقول إن جعل شهادة المرأة نصف شهادة الرجل في الآية ليس من شأنه أن يخلّ بما منحه الله للمرأة المسلمة في القرآن من حقوق وقرره لها من أهلية يجعلانها مثل الرجل في أمور الدين والدنيا سواء بسواء باستثناء الحياة الزوجية، ومركز الرجل المتفوق درجة فيها عليها مما شرحناه في سياق آية الروم المذكورة وفي مناسبات سابقة أخرى وفي سياق تفسير آيات فصل الطلاق في هذه السورة، ومما سوف نزيده شرحا في مناسبات أخرى في سور آتية. 11- ولقد قلنا في الفقرة (3) إن العبارة القرآنية تفيد أن الشهود المعنيين فيها هم شهود يختارهم صاحب المصلحة ممن يرضى ويدعوهم لشهود الحادثة والشهادة عليها. وفي ضوء ذلك يرد سؤال عن حكم الحالة التي تكون فورية ويكون شاهدها امرأة واحدة أو امرأتان أو رجل وامرأة ولم يكن الظرف يتيح إحضار شهود أو يفيد فيه ذلك. وهذه حالات تقع كثيرا في مختلف الأحداث والظروف. والمتبادر أنه يجب الأخذ بشهادة المرأة أو المرأتين أو المرأة والرجل ويكون ذلك في مقام البينة التي يثبت بها الحق ويكون عدم الأخذ بها مما يضيع الحق. والله ورسوله لا يرضيان عن ذلك وليس في الآية ولا في القرآن ولا في الأحاديث ما يمنع ذلك. ولقد تطرق ابن القيم إلى هذه الحالة أيضا ونقل عن

الإمام ابن تيمية تسويغه الأخذ بشهادة المرأة فيها. وأورد حديثا وصفه بالصحيح عن عقبة بن الحرث: «أنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائلا: تزوجت امرأة فجاءت أمة سوداء فقالت إنها أرضعتنا فأمره بفراق امرأته. فقال إنها كاذبة فقال دعها عنك» «1» . وعقب على هذا بقوله إن في هذا قبولا بشهادة المرأة الواحدة وإن كانت أمة. 12- لقد استطرد المفسرون بمناسبة الآية إلى شهادة النساء في غير شؤون الدين. وأوردوا أقوالا لبعض علماء التابعين وبعض أئمة الفقه ولأنفسهم تفيد أن شهادة النساء غير جائزة ولا مقبولة في العقوبات والحدود ولو في نطاق النصاب المذكور في الآية فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ ولا تقبل إلّا في الأموال وما من العادة أن تعرفه وتشهده كالولادة والرضاع والبكارة والثيوبة ونحو ذلك. وليس في القرآن ما يؤيد هذا القول ولم نطلع على حديث صحيح يؤيده كذلك، والحديث الذي أوردناه قبل عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ورواه أبو داود والترمذي (الفقرة 9) ينص على كون المردود شهادتهم هم الخائن والخائنة والزاني والزانية وذو الغمر والقانع (التابع) لمستخدميه. وآيات سورة الحجرات والنور التي أوردناها في الفقرة المذكورة ترد شهادة الفاسق وقاذف المحصنات وحسب. وكل هذا يجعلنا نتوقف في منع قبول شهادة المرأة في الحدود والعقوبات. ولقد ناقش ابن القيم «2» هذه المسألة أيضا وانتهى إلى القول إن النصوص القرآنية والآثار النبوية لا تقيد شهادة المرأة في أمور دون أمور وإن شهادتها تصح في جميع الشؤون. واستشهد في ذلك إلى جملة وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ في الآية [2] من سورة الطلاق وإلى جملة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ

_ (1) ورد هذا الحديث في التاج بروآية البخاري والترمذي بهذا النص: «قال عاقبة بن الحرث: تزوجت امرأت فجاءتنا امرأت سوداء فقالت أرضعتكما فأتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وأخبرته وقلت له إنها كاذبة. فأعرض، فأتيته من قبل وجهه وقلت: إنها كاذبة، قال: كيف بها وقد زعمت أنها أرضعتكما، دعها عنك» التاج ج 2 ص 366. [.....] (2) التاج ج 1 ص 76 وبعدها.

[سورة البقرة (2) : آية 284]

بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ في آية سورة المائدة [106] قائلا: إن المتفق عليه أن كل خطاب بصيغة الجمع المخاطب المذكور للمؤمنين في القرآن يشمل المؤمنين والمؤمنات حقا إذا لم يكن فيه قرينة مخصصة وهذا حق وصواب. وقد يكون من الدلائل عليه جملة: شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ [282] في الآية التي نحن في صددها دون آيات الطلاق والمائدة. ويصح أن يقال إن جملة: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ في آية سورة النساء وجملة: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ في آية سورة النور [4] من هذا الباب. وهذا كله يسيغ القول أيضا إن شهادة المرأة في غير مسألة الدين معادلة لشهادة الرجل مع التذكير بما أوردناه في الفقرتين 10 و 11 في صدد هذه المسألة. وإذا لحظنا أن من الحدود حدّ الزنا الذي أمرت آية النساء [15] استشهاد أربعة عليه وأن احتمال مشاهدة المرأة لهذه الجريمة أقوى بدا لنا ذلك المنع أكثر غرابة. ولا ندري ماذا يقول المانعون إذا لم يكن مشاهدو جرائم القتل والزنا والسرقة وهي التي قرر القرآن لها العقوبات والحدود غير نساء. فهل تذهب هذه الجرائم هدرا بغير عقاب، وإن الله ورسوله ليأبيان ذلك والله تعالى أعلم. [سورة البقرة (2) : آية 284] لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) . في الآية: تقرير بمطلق ملكية الله تعالى وتصرفه بما في السموات والأرض. وتنبيه موجه للسامعين بأنه محيط بكل ما يبدونه ويخفونه ومحصيه عليهم ومحاسبهم به ثم معاملهم بما تشاء حكمته فيغفر ويتجاوز عمن يشاء ويؤاخذ ويعذب من يشاء وهو القادر على كل شيء في جميع الأحوال.

تعليق على الآية لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ...

تعليق على الآية لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ... وقد روى الطبري أقوالا عديدة معزوة إلى ابن عباس وبعض التابعين وتابعيهم تفيد أن هذه الآية متصلة بالشهادة وأدائها وكتمها. وهو الموضوع الذي احتوته الآيات السابقة وقال الطبرسي: إن الآية استمرار للآيات السابقة فيما احتوته من تنبيه وتذكير وإنذار. وهذا لا يخرج عما رواه الطبري. وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح. ومع ذلك فقد تكون وجيهة ويكون فيها بالتبعية توكيد الصلة بين الآيات السابقة وهذه الآية. وإن كان إطلاق العبارة فيها يثير شيئا من التردد. فإذا صحت الأقوال فتكون حكمة التنزيل قد اقتضت أن تأتي العبارة مطلقة الشمول لتكون عامة. والله تعالى أعلم. تعليقات وأحاديث في صدد هذه الآية 1- في صدد ما جاء في الآية من أن الله يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء نقول: إن الذي ينسجم مع حكمة الله وتقريرات القرآن الكثيرة وأهدافه أن الغفران الإلهي إنما يكون للمؤمنين المتقين ذوي النوايا الحسنة. وإن العذاب الإلهي إنما يكون لمنحرفين عن الحق والهدى من كفار ومنافقين وطغاة وظالمين. ولقد أورد الطبري في سياق الآية حديثا ورد أيضا في التاج برواية الشيخين وهذا نص التاج الذي ليس فيه فرق جوهري مع نص الطبري: «قيل لابن عمر: كيف سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول في النجوى؟ قال: سمعته يقول يدنو أحدكم من ربّه حتى يضع كنفه عليه فيقول أعملت كذا وكذا فيقول نعم ويقول أعملت كذا وكذا فيقول نعم فيقرّره ثم يقول: إني سترت عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ثم يعطى صحيفة حسناته. وأما الكفار فينادى على رؤوس الأشهاد هؤلاء الذين

كذبوا على ربّهم ألا لعنة الله على الظالمين» «1» . ومع استغرابنا لسوق هذا الحديث في سياق الآية التي يروي الطبري عن أهل التأويل أنها في صدد الشهادة المذكورة في الآيات السابقة لأنه لا يبدو صلة ما بينه وبين الشهادة إلّا من بعيد جدا، فإن فيه شيئا من التوضيح لما ورد في الآية من كون محاسبة الله لعباده هي على ما يبدونه مما في أنفسهم أو يخفونه من عزمات الشر وسيء النيات كما أن فيه دعما لما قلناه من أن الله تعالى إنما يغفر للمؤمنين المخلصين ويعذب الكافرين الظالمين. ومع واجب الإيمان بما يثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مشاهد أخروية فإن من الحكمة الملموحة في الحديث تبشير المؤمنين المخلصين وإنذار الكفار الظالمين. 2- ولقد روى المفسرون عن بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتابعيهم أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما نزلت الآية هلعوا من احتمال مؤاخذة الله لهم وتعذيبهم على خطرات النفس ووساوسها. وهرعوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم قائلين: هلكنا إذا كان الله مؤاخذنا على ما نحدث به نفوسنا. وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمرهم بالإذعان لله وتفويض الأمر إليه، ففعلوا فلم تلبث أن نزلت الآيتان اللتان بعدها فنسختاها. ولقد روى المفسرون ذلك بصيغ عديدة، ومنها صيغة رواها البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: «لما نزلت لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ... إلخ اشتد ذلك على أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فأتوه ثم بركوا على الركب فقالوا: أي رسول الله كلّفنا من الأعمال ما نطيق، الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزل الله عليك هذه الآية ولا نطيقها. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم سمعنا وعصينا. بل قولوا سمعا وطاعة غفرانك ربّنا وإليك المصير قالها مرتين. فلما قالها القوم وذلّت بها ألسنتهم أنزل الله الآية التالية لها فكرروها فلما فعلوا ذلك نسخ الله تلك الآية وأنزل الآية الثانية: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ... إلخ وقرأوها فلما قالوا رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا،

_ (1) التاج ج 5 (كتاب القيامة والجنة والنار- محاسبة الله لعباده) . كنفه عليه: ستره ولطفه.

قال: نعم، ولما قالوا: وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا قال نعم، ولما قالوا: رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ. قال: نعم. ولما قالوا: وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286) . قال: نعم» «1» . وقد يلحظ أن قول أبي هريرة إن الآيتين الثانيتين نسختا الآية التي نحن في صددها يتحمّل التوقف لأن الآية الثانية من الآيتين ثبتت كون الإنسان يحاسب على ما كسب من قول وفعل وهذا يدخل في معنى وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ في الآية التي نحن في صددها. ولقد روى الطبري حديثا عن ابن عباس جاء فيه: إن الآية الثانية من الآيتين نسخت الوسوسة وثبتت القول والفعل مما فيه دعم لما قلناه. ولقد روى الطبري في الوقت نفسه عن ابن عباس حديثا جاء فيه: «إن الآية لم تنسخ وإن الله عز وجل إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول إني أخبركم بما أخفيتم في نفوسكم مما لم يطلع عليه ملائكتي فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم وأما أهل الشكّ والريبة والنفاق والكفار فيخبرهم ويعذّبهم» . وهناك روايات أخرى يرويها الطبري أيضا عن مجاهد والربيع وغيرهما تفيد أن الآية لم تنسخ. وتعليقا على هذه الروايات دون الأولى نقول: أولا: إن الآية موجهة للمؤمنين دون الكفار الذين ماتوا وهم كفار لأنهم خارجون عن نطاق الغفران ومخلدون في النار بنصوص قرآنية قطعية ومتكررة. وثانيا: إن جملة لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ تؤيد بقوة قول النسخ الجزئي الذي جاء في قول ابن عباس الأول بحيث يصحّ التوقف في ما جاء في الأقوال الأخرى. وهناك حديث صحيح يرويه الخمسة بهذه الصيغة «تجاوز الله لأمتي عما حدّثت به نفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به» . وحديث آخر صحيح أيضا يرويه

_ (1) التاج ج 4 ص 62- 64.

[سورة البقرة (2) : الآيات 285 إلى 286]

الخمسة عن ابن عباس جاء فيه: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما يروي عن ربّه: «قال الله: إن من همّ بحسنة فلم يعملها كتبتها له حسنة فإن عملها كتبتها له عشر حسنات إلى سبعمائة، ومن همّ بسيئة فلم يعملها كتبتها له حسنة وإن همّ بسيئة فعملها كتبتها له سيئة واحدة» . وهذا يدعم قول النسخ الجزئي، ومن الحكمة الملموحة فيه تبشير المؤمنين وتطمينهم وتحذير من السيئات على كل حال. [سورة البقرة (2) : الآيات 285 الى 286] آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286) . (1) إصرا: عهدا ثقيل الوطأة. تعليق على الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة عبارة الآيتين واضحة، لا تحتاج إلى أداء آخر. ويلحظ أن في الأولى تقريرا عن لسان النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بإيمانهم وقولهم سمعنا وأطعنا. وإن في أول الآية الثانية تقريرا عن الله عز وجل بأنه لا يكلف نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ثم دعاء بلسان المؤمنين. ومثل هذه الصورة القرآنية تكرر بأساليب متنوعة في سور سابقة وعلقنا عليها بأن الإيمان بأن جميع ما في القرآن من صور كلامية هو من وحي الله عقيدة واجبة على المؤمنين. وهذا ما يقال بالنسبة لهاتين الآيتين اللتين اقتضت حكمة التنزيل

إيحاءهما بالأسلوب الذي أوحيتا به. وبعبارة أخرى إن الآيتين قد أوحيتا صيغة قرآنية فيها تعليم رباني للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بما يقولونه ويدعون به وفيها تقرير رباني خفّف به وقع الآية السابقة للآيتين التي هلع لها المؤمنون أو عدلت أو نسخت به، والله تعالى أعلم. ولقد أوردنا آنفا حديثا رواه الأربعة عن أبي هريرة ذكرت فيه المناسبة التي نزلت فيها هاتان الآيتان، وليس هناك ما ينقض ذلك أو ما فيه مباينة لذلك فيحسن الوقوف عنده. ولقد جاءت الآيتان في ذات الوقت خاتمة قوية لسورة البقرة التي احتوت أسس الدعوة الإسلامية وأهدافها وكثيرا من التشريعات والتلقينات والمبادئ التعبدية والاجتماعية والأخلاقية وإعلانا قويا لإيمان النبي والمؤمنين بكل ما أنزل إليهم. وإذعانهم لكل ما أمروا به ونهوا عنه. وطابع الختام على الآيتين بارز كشأن كثير من خواتيم السور الأخرى، ولقد احتوى مطلع السورة تنويها بالمتقين الذين يؤمنون بما أنزل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وتبشيرا لهم بالفلاح. وهكذا يرتبط أول السورة بآخرها وتبدو صورة من صور الحكمة الربانية النبوية في تأليف السورة. ولقد أثرت في التنويه بهذه الخاتمة أحاديث نبوية منها حديث أورده ابن كثير في سياق تفسيرها معزوا إلى مسلم عن ابن عباس قال: «بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعنده جبريل إذ سمع نقيضا فوقه فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قطّ قال: فنزل منه ملك فأتى النبيّ فقال له أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبيّ قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفا منها إلّا أوتيته» «1» . ومنها حديث رواه الأربعة عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» «2» . ومنها حديث أورده ابن كثير من

_ (1) انظر الحديثين في التاج ج 4 ص 13 و 16 والحديث الأول لم يرو عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ويمكن أن يقال إنه قد يكون فيه مشهد روحاني شهده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعين بصيرته فأخبر به أصحابه وسمعه منه ابن عباس أو سمعه ممن سمعه فأخبر به والله أعلم. (2) انظر الحديثين في التاج ج 4 ص 13 و 16 والحديث الأول لم يرو عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ويمكن أن يقال إنه قد يكون فيه مشهد روحاني شهده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعين بصيرته فأخبر به أصحابه وسمعه منه ابن عباس أو سمعه ممن سمعه فأخبر به والله أعلم.

إخراج الإمام أحمد وابن مردويه عن أبي ذرّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش» . ولقد جاء في الحديث الذي أوردناه في سياق الآية السابقة عن أبي هريرة أن الله تعالى كان يقول نعم بعد كل مقطع من الدعاء الذي حكته الآية الثانية من الآيتين اللتين نحن في صددهما. ولقد أخرج الطبري وأورد أحاديث أخرى عن ابن عباس مثل هذا الحديث بفروق يسيرة. ولو لم يكن أحاديث نبوية فإنه يصح أن يقال إن الله تعالى حين شاءت حكمته أن يعلم المؤمنين الدعاء الوارد في الآية وأن يحكيه عن لسانهم في كتابه الكريم تكون حكمته قد شاءت أن يستجيب الله إلى هذا الدعاء إذا ما صدر من أعماق قلوب عباده، والله تعالى أعلم. والآيتان جملة تامة احتوتا مبادئ قرآنية محكمة تكرر تقريرها في القرآن المكي والمدني بأساليب متنوعة. منها: العقيدة الإسلامية وهي الإيمان بالله وكتبه وملائكته ورسله بدون تفريق والسمع والطاعة وإسلام النفس إطلاقا لله. ومنها: أن الله عز وجل قد جعل الإنسان أهلا وذا قابلية لاكتساب أعماله ورتب عليه نتائج ذلك. فما اكتسبه من أعمال سيئة فجريرتها عليه وما اكتسبه من أعمال سنية فله أجره عليها. ومنها: أن الله تعالى لا يؤاخذ عباده على ما يصدر منهم بسائق الخطأ والنسيان. ومنها: أن الله تعالى جعل الشريعة الإسلامية خالية من التكاليف الشديدة التي فرضت على الملل السابقة. ومنها: أن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها ولا يحملها ما لا طاقة لها به. ومنها: أن الله مولى المؤمنين ووليهم وأنهم منصورون على الكافرين ومعفوّ عنهم ومغفور لهم ومشمولون برحمته إذا ما آمنوا واتقوا وأخلصوا حقّ الإيمان والتقوى والإخلاص. وقد تكون صيغة الآية الثانية لا تنطوي على تقرير هذه المبادئ تقريرا مباشرا. غير أن الله وقد شاءت حكمته أن يعلم المؤمنين أن يدعوه بما دعوه تكون قد شاءت أن يستجيب لهم وتغدو مبادئ قرآنية. وهذا مدعوم الحديث الصحيح الذي أوردناه وفيه سبب نزول الآية، فضلا عن أن هذه المبادئ مما

تكرر تقريرها في القرآن تقريرا ربانيا مباشرا مما مرّ منه أمثلة كثيرة وعلقنا عليها وأوردنا أحاديث نبوية متساوقة معها. ومبدأ عدم تكليف الله نفسا إلا وسعها مقرر لأول مرة في آية سورة الأعراف [42] ومبدأ كون الله أرسل رسوله ليضع عن الناس الإصر والأغلال التي كانت عليهم مقرر في الآية [157] من سورة الأعراف أيضا. ومبدأ عدم مؤاخذة الله للمسلمين على ما يصدر منهم بسائق الخطأ والنسيان متسق مع مبدأ عدم تكليف الله نفسا غير وسعها وعدم تحميلها ما لا طاقة لها به. ومثل هذا يقال بالنسبة لمبدأ عدم مؤاخذة الله الناس بما نسوه أو فعلوه خطأ. فإن ذلك متسق مع هذا المبدأ أيضا. وهناك حديث رواه ابن ماجه في سننه وابن حبان وصححه عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» «1» . ونختم كلامنا عن هذه السورة بترديد الدعاء: «ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربّنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا، ربّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين» . ونسأل الله أن يكون دعاؤنا خالصا وأن يستجيب لنا والحمد لله ربّ العالمين. [تمّ بتوفيق الله تعالى الجزء السادس ويليه إن شاء الله تعالى الجزء السابع وأوله تفسير سورة الأنفال]

_ (1) أورد هذا الحديث ابن كثير في سياق الآية، وقد أورده مؤلف التاج أيضا، انظر ج 1 ص 29.

فهرس محتويات الجزء السادس

فهرس محتويات الجزء السادس تفسير سورة الحج 7 تعليق على تسميات اليهود والنصارى والمجوس والصابئة 21 تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ... مع بيان حكمة الإبقاء على تقاليد الحج 34 تعليق على موضوع النذر 40 تعليق على الأمر باجتناب قول الزور 45 استدلال على ممارسة المسلمين الحج قبل فتح مكة 46 دلالة تعبير حنفاء لله في هذا المقام 47 تعليق على جملة لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها ... 52 تعليق على خطورة أمر القوانين قبل الإسلام وحكمة الإبقاء عليها 53 تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ ... وما يليها 55 التلقينات البليغة المنطوية في هذه الآيات 58 تعليق على جملة وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ 62 تعليق على الآيات وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ ... 65 تلقين الآية وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... وما يليها 68 تعليق على الآية وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ وجرأة النبي 75 تعليقات على الآيتين الأخيرتين من السورة 78 تعليق على جملة وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ 83 تعليق على جملة وَافْعَلُوا الْخَيْرَ 87 تفسير سورة الرحمن 89 تفسير سورة الإنسان 105 تعليق على موضوع النذر 109 تفسير سورة الزلزلة 118 طائفة من الروايات والأحاديث في سياق آيات هذه السورة 119 تفسير سورة البقرة 123 مقدمة للسورة 123 تعليق على ترتيب السور في المصحف 125 تعليق على حركة النفاق وأسبابها ومداها 135 تعليق على رواية في صدد الآية [14] 138 تعليق على روايات الشيعة في صدد الآيات عامة 139 تعليق على ما جاء في بعض كتب التفسير في سياق أَنُؤْمِنُ ... 140 تعليق على التحدي بإتيان شيء من مثل القرآن 145 تعليق على زعم بعض المستشرقين بأن هذه الآيات مكية 146 تعليق على جملة كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ 147 تعليق على جملة وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ وما بعدها 151 تعليق على الآية وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ ... وما بعدها 154

تعليق على تقديم تعليم آدم على الأمر بالسجود له 158 تعليق على توبة آدم وحكمة ذكرها 159 تعليق على أولى الحلقات الواردة في يهود بني إسرائيل 161 تلقينات الآيات الواردة في حق اليهود [40- 48] 163 جنسية يهود الحجاز الذين وجه إليهم الخطاب 165 تعليق على الحلقة الثانية في يهود بني إسرائيل [47- 57] 169 تعليق على آية إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا ... 173 تعليق على الحلقة الثالثة في يهود بني إسرائيل 175 تعليق على الحلقة الرابعة في يهود بني إسرائيل 178 تعليق على الحلقة الخامسة في يهود بني إسرائيل 181 استطراد إلى بيان أسباب تنكر اليهود للدعوة الإسلامية 184 تعليق على الآية بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً ... 187 تعليق على الحلقة السادسة في يهود بني إسرائيل 189 تعليق على الحلقة السابعة في يهود بني إسرائيل 193 تعليق على جملة وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ ... 197 تعليق على الآية قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ ... وما يليها 200 تعليق على الحلقة الثامنة في يهود بني إسرائيل 204 تعليق على الحلقة التاسعة في يهود بني إسرائيل 207 تعليق على الحلقة العاشرة في يهود بني إسرائيل 215 تعليق على الحلقة الحادية عشرة في يهود بني إسرائيل 222 تعليق على الحلقة الثانية عشرة في يهود بني إسرائيل 226 تعليق على الحلقة الثالثة عشرة في يهود بني إسرائيل 230 تعليق على الحلقة الرابعة عشرة في يهود بني إسرائيل 232 تعليق على الحلقة الخامسة عشرة في يهود بني إسرائيل 237 تعليق على الحلقة السادسة عشرة في يهود بني إسرائيل 243 تعليق على الحلقة السابعة عشرة في يهود بني إسرائيل 246 تعليق على الحلقة الثامنة عشرة في يهود بني إسرائيل 251 مدى تبديل القبلة في الرسالة الإسلامية 258 احتمال أن يكون التبديل إلهاما ربانيا 259 تعليق على الآية وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ... 261 تعليق على الآية كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا ... 263 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا ... وما بعدها 265 تعليق على الآية إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ ... 268 تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا ... وما بعدها 272 استطراد إلى موضوع لعن الكفار وغيرهم 274 استطراد إلى تفسير الشيعة للآيات 275

تعليق على الآية لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ... وما فيها 284 تعليق على آية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ ... وما بعدها 287 تعليق على آيات الوصية 294 تعليق على آيات الصيام ورمضان 300 تعليق على الآية وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ ... 321 تعليق على الآية وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... وما بعدها 327 تعليق على الشهر الحرام 336 تعليق على آية وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ... 340 تعليقات على الآية الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ ... وما يليها 352 تعليق على الآية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ ... وما يليها 363 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ ... 366 تعليق على جملة وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ 370 تعليق على جملة كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ... 371 تعليق على الآية أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ... 374 تعليق على آية كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ 378 تعليق على الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ ... وما يليها 383 حكم المرتد عن دينه من المسلمين 386 تعليق على الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ... وما يليها 388 تعليق على الآية وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ ... وما يليها 392 تعليق على الآية وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ... وما يليها 395 تعليق على الآية وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ ... وما يليها 403 تعليق على الآية لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ... وما يليها 407 حالات متصلة بموضوع علاقة الزوج الجنسية بزوجته 411 تعليق على الآية وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ 412 تعليق على الآية الطَّلاقُ مَرَّتانِ ... وما يليها 418 تعليق على الآية وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ ... 429 التلقين المنطوي في جملة وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ ... 430 تعليق على الآية وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ ... 431 تعقيب عام في صدد الطلاق وإناطته بالقضاء 432 تعليق على الآية وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ ... 435 تعليق على الآية وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ ... وما يليها 439 تعليق على الآية لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ ... وما يليها 445 تعليق على الآية حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ ... وما يليها 450 تعليق على الآية وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ ... 453

تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ ... وما يليها 456 استطراد إلى الفرار من الوباء 458 تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ ... وما يليها 460 تعليق على الآية تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ ... 463 تعليق على آية الكرسي 468 تعليق على الآية لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ... وما يليها 470 تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ ... 472 تعليق على الآية أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ ... 475 تعليق على الآية وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي ... 477 تعليقات على الآية مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ ... وما يليها 482 تعليق على آيات الربا 491 تعليق على جملة الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ ... 500 تعليقات على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ ... وما يليها 507 تعليق على الآية لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ... 517 تعليقات وأحاديث في صدد هذه الآيات 517 تعليق على الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة 520

الجزء السابع السور المفسرة في هذا الجزء «1» 1- الأنفال 2- آل عمران 3- الحشر 4- سورة الجمعة 5- الأحزاب

_ (1) انظر الفهرست المفصل في آخر الجزء.

سورة الأنفال

سورة الأنفال في هذه السورة إشارات على سبيل الموعظة والعتاب والتذكير إلى وقعة بدر وظروفها ومشاهدها وما كان لها من آثار في المسلمين والكفار. وفيها تشديد وتوطيد لسلطان النبي صلى الله عليه وسلم وطاعته. وتوطيد للوحدة الإسلامية والإخلاص للمصلحة العامة وعدم التأثّر بأي اعتبار شخصي أو أسروي في سبيل ذلك. وإنذار شديد للمخالفين والكفار والغادرين والخائنين. وحثّ على الاستعداد للعدو وقتاله والثبات أمامه إلى أن يرعوي وتتوطد كلمة الله وحرية دينه مع الدعوة المكررة إلى الإسلام والارعواء ومقابلة الميول السلمية بمثلها. وفيها تشريع لخمس الغنائم الحربية وتخصيصه للمصالح الإسلامية العامة والمحتاجين. وفصول السورة منسجمة متسلسلة السياق مما يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة أو فصولا متتابعة عقب وقعة بدر. وقد روي أن الآيات [30- 36] مكية، ونحن نشك في هذه الرواية لأن الآيات منسجمة في سياقها موضوعا وسبكا. وقد شكّ في ذلك مفسرون آخرون أيضا. وبعض رواة ترتيب نزول السور المدنية يذكرون هذه السورة ثانية السور نزولا وبعضهم يذكرونها ثالثة بل بعضهم يذكرونها رابعة «1» . وعلى كل حال فإن نزولها عقب وقعة بدر يكاد يكون يقينيا وتلهمه فحوى آياتها بقوة وهو المتفق عليه. وهذه الوقعة كانت بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بسنة وشهور قليلة

_ (1) انظر ثبت ترتيبات النزول في كتابنا سيرة الرسول ج 2 ص 9.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 1 إلى 4]

مختلف على عددها. ولما كانت آيات البقرة [217- 218] نزلت في صدد سرية عبد الله بن جحش على ما ذكرناه في سياقها في الجزء السابق وهي آخر سرية سيّرها النبي قبل وقعة بدر فيكون ترتيبها كثانية السور نزولا مقاربا وإن لم يمكن أن يقال إنه صحيح كل الصحة. وهذا التحفظ بسبب آيات في سورة آل عمران وهي قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13) التي يكاد يجمع الرواة على أنها في صدد إنذار يهود بني قينقاع التي احتوت سورة الأنفال آيات يجمع الرواة كذلك على أنها في صدد حصار هؤلاء اليهود وإجلائهم ثم بسبب احتمال نزول فصول عديدة من سورة البقرة بعد سورة الأنفال حيث احتوت سورة البقرة فصولا عديدة متأخرة في النزول كثيرا على ما نبهنا عليه في مقدمتها والله أعلم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الأنفال (8) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) . (1) الأنفال: جمع نفل. وهو في أصله الزيادة على ما هو حق وواجب، ومنه نوافل العبادات. ومنه ما يعطى زيادة عن الحق من الغنائم. وكان يطلق كذلك على ما يفد من أسلاب الحرب من دواب وسلاح ومتاع. وصار جمعها (الأنفال) مرادفا لكلمة غنائم الحرب. وقد روي حديث جاء فيه أن النبي قال لأصحابه حينما

تعليق على الآيات الأربع الأولى من السورة

ندبهم إلى الخروج إلى القافلة القرشية التي كانت في طريقها إلى مكة في ناحية بدر: اخرجوا إليها لعلّ الله أن ينفلكموهما والمتبادر أن التعبير استعمل على اعتبار أن الأنفال عطاء من الله للمسلمين. (2) ذات بينكم: دخيلة نفوسكم وسرائركم. في الآيات: 1- حكاية لسؤال وجهه المسلمون إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن غنائم الحرب. 2- وأمر بالإجابة بأنها لله والرسول. 3- وتعقيب على الجواب بأمر موجّه إلى السائلين بتقوى الله ومراقبته وإصلاح سرائرهم وإطاعة الله ورسوله إن كانوا مؤمنين حقا. 4- ووصف للمؤمنين حقا: فهم الذين يستشعرون بخوف الله وهيبته حينما يذكر اسمه. ويزدادون إيمانا حينما تتلى عليهم آياته. ويتوكلون عليه. ويفوضون الأمر إليه. وهم الذين يؤدون واجب الصلاة له. وينفقون مما رزقهم في وجوه البرّ والخير. فهؤلاء هم المؤمنون حقا المستحقون للدرجات الرفيعة عند الله والذين لهم المغفرة والرزق الكريم لديه. وأسلوب الآيات قوي رائع من شأنه أن ينفذ إلى أعماق العقول والقلوب. تعليق على الآيات الأربع الأولى من السورة ولقد تعددت الروايات في سبب نزول الآيات «1» . منها المتفق في الجوهر مع اختلاف في الصيغة ومنها المختلف. ولقد أخرج الإمام أحمد حديثا عن عبادة بن الصامت جاء فيه: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدت بدرا فالتقى الناس فهزم الله العدوّ فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون. وأقبلت طائفة على العسكر

_ (1) اقرأ تفسير الآيات في الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي والقاسمي والزمخشري واقرأ سيرة ابن هشام ج 2 ص 242 وما بعدها، وخاصة 324 وما بعدها.

يحوزونه ويجمعونه. وأحدقت طائفة برسول الله لئلا يصيب العدوّ منه غرّة. حتى إذا كان الليل وفاء الناس إلى بعضهم قال الذين جمعوا الغنائم نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب. وقال الذين خرجوا في طلب العدو لستم بأحق بها منّا نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم. وقال الذين أحدقوا برسول الله لستم بأحق بها منّا نحن أحدقنا برسول الله وخفنا أن يصيب العدو منه غرة واشتغلنا به فنزلت يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ فقسمها رسول الله على فواق بين المسلمين «1» . وأخرج ابن حبان حديثا عن عبادة أيضا جاء فيه: «فينا اصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا فجعله إلى رسول الله فقسمه بين المسلمين على السواء» «2» . وأخرج الإمام أحمد حديثا عن سعد بن أبى وقاص جاء فيه أن أخاه عميرا قتل في بدر ثم قتل سعيد بن العاص وأخذ سيفه فأمره رسول الله أن يطرحه في القبض (أي في الغنائم) فرجع وبه ما لا يعلمه إلّا الله من قتل أخيه وحرمانه من سلبه، فما جاوز إلّا قليلا حتى نزلت آيات الأنفال الأولى. فقال له رسول الله اذهب فخذ سلبك «3» . رواية قصة سيف سعد رواها الترمذي في حديث صححه عن مصعب بن سعد عن سعد بصيغة أخرى جاء فيها «قال سعد لما كان يوم بدر جئت بسيف فقلت يا رسول الله إنّ الله قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف، فقال هذا ليس لي ولا لك. فقلت عسى أن يعطى هذا السيف من لا يبلى بلائي. وجاء الرسول فقال إنك سألتني وليست لي وقد صارت لي وهو لك قال ونزلت يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ» «4» . وروى الطبري روايات أخرى عن ابن عباس منها «أن النبي فضّل أقواما على بلاء أي قال من فعل كذا فله كذا. فأبلى قوم وتخلّف

_ (1) النص من تفسير القاسمي وكتب السيرة أوردتها بشيء من الاختلاف، وتعبير (على فواق) بمعنى فورا بعد نزول الآيات. (2) انظر المصدر نفسه. (3) تفسير الطبري. (4) التاج، ج 4 ص 107.

آخرون فاختلفوا على الغنائم بعد انقضاء الحرب فجعلها الله لرسوله» . ومنها «أن الشبان يوم بدر تسارعوا إلى الحرب وبقي الشيوخ تحت الروايات فلما كانت الغنائم جاء الشباب يطلبونها فقال لهم الشيوخ لا تستأثروا عليها فإنّا كنا درءا لكم. فتنازعوا فأنزل الله الآيات» «1» . وهناك رواية يرويها الطبرسي بالإضافة إلى الروايات السابقة عزوا إلى مجاهد تذكر «أن المهاجرين قالوا لماذا يرفع منّا الخمس ولماذا يخرج منّا فأنزل الله الآيات إيذانا بأن الأنفال جميعها لله ورسوله يقسمانها كيف شاءا» . ومع عدم نفي الروايات الأولى التي تنطوي على صور محتملة لما كان من أصحاب رسول الله حول قسمة غنائم بدر فإننا نميل إلى ترجيح صحة رواية الطبرسي عن مجاهد التي تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يعزز خمس الغنائم لإنفاقه على مصالح المسلمين فاعترض فريق من المهاجرين على ذلك فاقتضت حكمة التنزيل إيذانهم في أول السورة بأن الغنائم جميعها لله ورسوله. وقد يؤيد هذا نص الآية [41] من السورة التي انصبّ التشريع فيها أو انحصر بالخمس بأسلوب قوي يؤذن فيه المؤمنون بأن ذلك هو ما يجب أن يعلموه ويقفوا عنده. وقد يؤيده ذلك ما يلمح في الآيات التي بعد هذه الآيات من إيذان متكرر بأن ما أحرزه المؤمنون من انتصار على أعدائهم إنما كان بتأييد الله. كأنما يساق ذلك لتبرير هذا التشريع ولتوكيد القول إن الغنائم والحالة هذه من حقّ الله ورسوله وليس لهم أي حقّ باعتراض وخلاف. بل وكأنما كان نزول هذه السورة من أجل ذلك، والله تعالى أعلم. ولقد اختلفت الاجتهادات التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل فيما إذا كانت الآية [41] قد نسخت هذه الآيات أم لا. من حيث إن هذه الآيات جعلت الغنائم كلها لله ورسوله والآية [41] حصرت حق الله ورسوله بالخمس. وقد عزي إلى ابن زيد قول بأنها محكمة لأنها قررت مبدأ لا يصح عليه النسخ وتغيير وهو أن الغنائم لله ولرسوله يقسمانها كيف شاءا وهذا هو الأوجه فيما يتبادر لنا. وما تقدم

_ (1) هذه الرواية رواها أيضا أبو داود والحاكم بصيغة مقاربة. انظر التاج ج 4 ص 337. [.....]

تعليق على مدى أمر القرآن بإطاعة الله ورسوله في السور المدنية

من شرح يؤيد هذا الترجيح والتوجيه إن شاء الله. ولقد روى البغوي عن عطاء أن جملة لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [4] تعني درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم. وقد ساق المفسرون بعض الأحاديث عن منازل أهل الجنة ودرجاتها في سياق الجملة. والمتبادر أن الجملة هي بسبيل بيان مراتب المؤمنين العالية عند الله على سبيل الترغيب والتنويه وهو ما قرره غير واحد من المفسرين أيضا. ولقد كانت جملة زادَتْهُمْ إِيماناً موضوع بحث كلامي فيما إذا كان الإيمان يزيد وينقص. ولقد بحثنا هذا الموضوع ومحّصناه في سياق جملة مماثلة في سورة المدثر فنكتفي بهذا التنبيه. تعليق على مدى أمر القرآن بإطاعة الله ورسوله في السور المدنية وبمناسبة الأمر بإطاعة الله ورسوله في الآية الأولى نقول إن مثل هذا الأمر قد تكرر كثيرا في السور المدينة دون السور المكية التي لم يرد فيها مثل هذا الأمر وإن أكثرها موجّه إلى المؤمنين. ومنها ما تكرر في هذه السورة مثل الآيات [20 و 47] وفي بعضها جعل ذلك دليلا على الإيمان. وفي بعضها جعلت طاعة الرسول من طاعة الله. وفي بعضها جعلت رحمة الله منوطة بذلك «1» . والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت ذلك في العهد المدني. لأن المؤمنين في العهد المكي كانوا قلّة مصفّاة مستغرقة في الله ورسوله ودينه. وكلهم دخلوا

_ (1) انظر آل عمران [32 و 132] والنساء [13 و 51 و 58 و 68 و 79] والمائدة [95] والتوبة [73] والنور [51 و 52 و 54 و 56] والأحزاب [33 و 71] ومحمد [33] والفتح [16] والحجرات [14] والتغابن [12 و 16] . وفي السور المدنية آيات عديدة أخرى فيها توطيد لأوامر رسول الله وطاعتها بنصوص أخرى. وفي كل هذا ما فيه من دلائل على ما أعاره القرآن لهذا الأمر وخطورته.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 5 إلى 14]

الإسلام عن رغبة شديدة في الله ورسوله متحملين ما يمكن أن يتعرضوا له من أذى في النفس والمال فضلا عن أن ظروفهم في هذا العهد لم تكن تقتضي مخالفة لرسول الله أو ترددا في اتباع أوامره. في حين أنه استجد في العهد المدني فئات كثيرة منها من كان منافقا صريحا مع تراوح بين العنف وعدم العنف في النفاق ومنها من كان منافقا مستترا. ومنها من كان أعرابيا لما يدخل الإيمان في قلبه أو لم يكن ليعلم حدود ما أنزل الله. ومنها من دخل في الإسلام لمصلحة ذاتية ابتغاء جلب نفع أو دفع ضرر. وإن من هذه الفئات من كان يقف مواقف عصيان أو شك أو دسّ أو تربّص أو تمرّد عليهما أو صدّ عنهما. ولقد كان للمؤمنين المخلصين في هذا العهد وشائج قربى ومصالح مع المنافقين والكفار. ولقد صار لبعضهم مطالب ومطامح. وكان ذلك يجعل بعضهم يقفون مواقف تردد أو تساؤل أو انحراف ما عن جادة الحق ويخلطون عملا سيئا وآخر صالحا مما احتوت آيات كثيرة في سور مدنية عديدة صورا منه على ما سوف ننبّه عليه في مناسباته حيث اقتضت حكمة التنزيل موالاة الأمر بطاعة الله ورسوله بأساليب قوية وشديدة أحيانا. وفي هذا كما هو واضح صورة للمجتمع الإسلامي في العهد المدني. ولقد ظلت هذه الصورة هي القائمة إلى آخر العهد النبوي على ما تلهمه آيات سورة التوبة التي كانت من أواخر ما نزل من القرآن مع التنبيه على أن في هذه السورة إلى جانب الصورة المذكورة فضلا عن ما نزل قبلها من سور مدنية صور مشرقة لمؤمنين مخلصين مستغرقين في دين الله ورسوله وطاعتهما كل الإخلاص والاستغراق. [سورة الأنفال (8) : الآيات 5 الى 14] كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14) .

(1) كما أخرجك: قال المفسرون إنها عطف تمثيلي تضمن الإشارة إلى مشادتهم ومجادلتهم في أمر الخروج مع النبي مثل ما تشادوا وتجادلوا في أمر الغنائم. (2) غير ذات الشوكة: غير ذات القوة والسلاح. (3) مردفين: ردفه بمعنى قام من ورائه وتبعه ودهمه. ومعنى الكلمة في مقامها متتابعين مددا وراء مدد. (4) رجز الشيطان: بمعنى وسوسة الشيطان وتخويفه لهم. (5) شاقّوا: من المشاققة وهي المكايدة والإعنات. تتضمن الآيات إشارات تذكيرية وتنبيهية وتنويهية إلى ظروف مشاهد وقعة بدر كما يلي إيضاحه: 1- إن الله ألهم نبيه الخروج على العدو ووعده بالنصر على إحدى طائفتي العدو اللتين كانت إحداهما ذات شوكة وسلاح واستعداد للقتال. 2- ومع ما في أمر الله وإلهامه لنبيه من الحق والخير فقد أخذ بعض المسلمين يجادلون النبي في أمر الخروج والقتال كما جادلوه في أمر الغنائم، وتملكهم الخوف كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون أي متيقنون من أنه واقع عليهم!.

تعليق على الآية كما أخرجك ربك من بيتك بالحق إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [14] وشرح ظروف ومشاهد وقعة بدر

3- وقد كانوا يودون أن تكون لهم الطائفة الضعيفة مع أن الله قد أراد أن يحقق وعده بالنصر لهم على الطائفة القوية ليكون في ذلك قطع لدابر الكافرين فينتصر الحق ويعلو ويزهق الباطل ويسقط ويكون في ذلك إرغام وقهر للكافرين المجرمين. 4- ولقد أخذ المسلمون يستغيثون الله حينما واجهوا عدوهم القوي فاستجاب لهم بأنه ممدهم بألف من الملائكة لينجدوهم ويساعدوهم. وقد كان هذا من الله على سبيل تطمين قلوبهم وتسكين روعهم، فالله هو الذي نصرهم وهو العزيز القادر الحكيم. 5- ولقد ألقى الله عليهم النعاس ليكون لهم فيه راحة وهدوء، وأنزل عليهم المطر ليكون لهم فيه زيادة طمأنينة وتمكين وتثبيت قدم وإحباط لوساوس الشيطان لهم. ولقد أمر الله الملائكة ليكونوا في صفوف المسلمين ويثبتوا قلوبهم وأقدامهم مؤذنا بأنه سيلقي في قلوب الكافرين ويمكّن الملائكة أو المسلمين منهم ليضربوا أعناقهم وأياديهم. فقد شاقوا الله ورسوله وعاندوهما فاستحقوا شديد العقاب الذي يستحقه من يفعل ذلك. فليذوقوا طعم هذا العقاب الآن بما حل فيهم ولهم من بعده عذاب النار. تعليق على الآية كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [14] وشرح ظروف ومشاهد وقعة بدر والمتفق عليه أن هذه الآيات في صدد وقعة بدر. وواضح من أسلوبها وفحواها أنها نزلت بعد انتهاء المعركة وانتصار المسلمين فيها. وأنها استمرار للآيات السابقة التي نزلت هي الأخرى بعد انتهاء المعركة بسبب الخلاف على قسمة الغنائم.

والآيات لم تحتو سياقا تاما عن الوقعة لأن قصتها لم تقصد لذاتها، وإنما قصد فيها التذكير والعتاب وبيان إرادة الله في إحقاق الحق وإزهاق الباطل وإنزال العقاب الشديد في الكفار وقطع دابرهم. ومما يلمح من مقاصد الآيات تدعيم العتاب الموجه للمسلمين المعترضين وتأنيبهم على ما كان منهم من مشادة في صدد الغنائم بتقريرها أن الله هو الذي ألهم نبيه الخروج وأنه هو الذي رزقهم النصر والغنيمة معا على كره منهم. وليس في هذه السورة ولا في غيرها إشارة أو وصف بأن الله قد أمر نبيه بالخروج ووعد المؤمنين بأن تكون إحدى الطائفتين أنها لهم. وهناك رواية يرويها المفسرون ووردت في كتب السيرة القديمة «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه حين خروجه إلى بدر سيروا وأبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين» . على ما سوف نذكره بعد. فإما أن يكون الأمر بالخروج والوعد نزلا قرآنا ثم رفعا لحكمة ربانية وإما أن يكونا إلهاما ربانيا ووحيا غير قرآني عبّر عنهما بما جاء في العبارة. وفي هذا صورة من النسخ القرآني في حياة رسوله إذا كان قرآنا ورفع، أو مظهر من مظاهر حكمة الله ورسوله إذا كان إلهاما ربانيا. أو صورة من صور الوحي الرباني إذا كان وحيا غير قرآني. ومن هذا الباب تحويل القبلة عن المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام على ما خمّنّاه وشرحناه في سياق تفسير آيات تحويل القبلة في سورة البقرة. ولقد روت كتب الحديث والسيرة والتفسير والتاريخ المعتبر «1» تفصيلات لأحداث ومشاهد وقصة بدر متفقة في الجوهر مع تباين في الجزئيات والأسماء ومتّسقة في الوقت نفسه إجمالا مع مدى هذه الآيات وغيرها من آيات السيرة. ومجمل ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع أن أبا سفيان بن حرب مقبل من الشام في عير عظيمة لقريش (قافلة تجارية) وليس معه إلّا نحو ثلاثين أو أربعين رجلا، فندب المسلمين إليها، وقال لهم هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير وسيرة ابن هشام ج 2 ص 243- 420 وطبقات ابن سعد ج 3 ص 50- 66 وتاريخ الطبري ج 2 ص 131- 172.

الله ينفلكموها. فخفّ بعضهم وثقل بعضهم وكان هؤلاء يظنون أن رسول الله لن يلقى حربا، وبلغ أبا سفيان خبر استنفار النبي له فأرسل رسولا إلى مكة لإنذارهم. وأخذ حذره فسلك طرقا غير مطروقة واستطاع أن ينجو من الخطر ويتجه آمنا نحو مكة. وقد خرج رسول الله على رأس ثلاثمائة ونيف نحو ربعهم من المهاجرين والباقون من الأنصار في أوائل شهر رمضان للسنة الهجرية الثانية. وقد سارعت قريش حينما جاءها النذير إلى النفرة حتى لم يكد يتخلف من أشرافها أحد. ومن لم يستطع الخروج منهم بنفسه بعث رجلا مكانه حيث لم يكن أحد منهم إلّا وكان له شركة في القافلة. وفي الطريق علم رسول الله أن أبا سفيان نجا مع القافلة وأن قريشا مقبلة نحوه في نحو ألف فيهم عدد كبير من زعمائهم حتى قال لأصحابه هذه مكة قد ألقت إليكم بأفلاذ أكبادها. وقد انقسم المسلمون في الرأي فريقين، منهم من قال إنما خرجنا للعير فلما نجت لم يعد حاجة إلى قتال، ومنهم من قال إذا عدنا اتهمتنا قريش بالجبن والفرار فلا بدّ من لقائهم. وجمع رسول الله كبار أصحابه من مهاجرين وأنصار وهتف بهم أن أشيروا عليّ، فقام أبو بكر ثم عمر ثم المقداد فقالوا فأحسنوا. ولكن رسول الله ظلّ يهتف قائلا أشيروا عليّ قاصدا سماع الأنصار لأن الأوّلين من المهاجرين. لأن الأنصار بايعوه على الدفاع عنه وكان يظن أنهم قد لا يرون عليهم نصرته إلّا ممن دهمه في المدينة. فقام سعد بن معاذ زعيم الأوس وقال يا رسول الله لكأنك تريدنا؟ قال: أجل، فقال: لقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به الحق. وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك. فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منّا رجل واحد. وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا. إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء. لعل الله يريك منا ما تقرّ به عينك فسر بنا على بركة الله «1» . فسرّ رسول الله ونشط بذلك ثم قال سيروا وأبشروا فإن الله

_ (1) هذه رواية ابن هشام عن ابن إسحق. وروى مسلم عن أنس حديثا جاء فيه: «إن رسول الله شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان فتكلم أبو بكر ثم تكلم عمر فأعرض عنهما فقام سعد بن عبادة زعيم الخزرج فقال: إيانا تريد يا رسول الله، والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا..» انظر التاج ج 4 ص 366. واختلاف الروايتين في اسم الزعيم القائل ليس من شأنه الإخلال بجوهر الرواية.

تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين. والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم. وكما انقسم المسلمون في قتال المشركين انقسم المشركون في قتال المسلمين. حيث قال فريق إنا خرجنا لإنقاذ القافلة وقد نجت فلم يعد سبب للقتال. ورفض فريق على رأسهم أبو جهل أن يعودوا إلّا بعد ورودهم بدرا وكان مكان مياه وموسم عربي عام وإقامتهم ثلاثة أيام يأكلون ويشربون ويلهون حتى يهابهم العرب. وغلب هذا الفريق الفريق الآخر الذي أراد السلامة والعودة وخشي من مغبّة الحرب ومآسيها على الفريقين، وفيهم الأرحام الواشجة، ولم يعجب ذلك من كان بالجيش من بني زهرة وبني عدوا فرجعوا ولم يشهدوا المعركة. وهكذا صار اللقاء محتما، ولقد نزل النبي صلى الله عليه وسلم أدنى ماء بدر فأشار عليه المنذر بن الحباب إذا لم يكن منزله بأمر الله أن يتقدم حتى يكون جميع الماء وراءه فيشرب المسلمون ويعطش المشركون فاستحسن رأيه وتقدم إلى حيث أشار قائلا: إن منزله ليس بأمر الله إنما هو رأي اجتهد فيه. وبدأت المعركة بمبارزات فردية كان الغالبون فيها أصحاب رسول الله حيث قتل حمزة وعلي وغيرهما مبارزيهم من شبان وصناديد قريش. ثم تهيأ الفريقان للتزاحف، وأخذ رسول الله حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشا وسوّى صفوف أصحابه ثم قال لهم شدّوا فشدّوا فالتحم الفريقان وحميت المعركة وانجلت عن هزيمة المشركين وقتل منهم نحو سبعين وأسر مثلهم. وكان في عداد قتلاهم عدد كبير من صناديدهم. واستشهد من المسلمين أربعة عشر ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار. وكان النصر يوم السابع عشر من رمضان على أشهر الروايات. وكان عدد المسلمين ثلاثمائة ونيفا وعدد المشركين نحو ألف. وقد وصّى النبي بالأسرى خيرا ونهى عن التمثيل بالقتلى. واستثنى من الأسرى اثنين كانا من أشدّ المشركين

أذى ومناوأة له وللمسلمين وهما النضر بن الحرث وعقبة بن أبي معيط حيث أمر بقتلهما ثم قفل بالمسلمين راجعا. وفي الطريق اختلفوا على قسمة الغنائم وأنزل الله الشطر الأكبر من سورة الأنفال فأفرز النبي صلى الله عليه وسلم من الغنائم الخمس وقسم الباقي على شاهدي المعركة للراجل سهم وللفارس سهمان وقيل ثلاثة. ونفل نفلا منها لمن كان له بلاء خاص. وكان بعض المؤمنين المخلصين قد تخلفوا لأعذار منهم عثمان بن عفان فقسم لهم من الغنائم وعاد بالأسرى إلى المدينة إلى أن افتداهم أهلهم على ما سوف نشرحه في مناسبة آتية. وهناك بعض مشاهد أخرى رويت في سياق آيات أخرى تأتي بعد قليل سنلمّ بها في مناسبتها. ولقد توطدت في هذه المعركة أخوة الجهاد بين المهاجرين والأنصار كما توطدت من قبل أخوة الدين. ولقد كان نصر الله لنبيه والمؤمنين فيها من أقوى دعائم الدعوة الإسلامية وعوامل توطدها. ولذلك فإنها شغلت حيزا خطيرا في السيرة النبوية. ونال الذين شهدوها من المسلمين من التنويه والتكريم ما خلّد لهم الذكر وأحاطهم بهالة من الإجلال والإكبار في تاريخ الإسلام. ومن أروع ما كان من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم المأثور فيهم الذي رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي: «لعلّ الله اطّلع على أهل بدر فقال لهم افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم» «1» . ومما تذكره الروايات من مشاهد يوم بدر أن المسلمين بنوا للنبي عريشا والتمسوا منه أن يكون فيه ليكون من ورائهم درءا لهم فجلس مستقبلا القبلة يناشد ربّه. وفي هذا المشهد يروي البخاري عن عمر أنه قال: «لما كان يوم بدر نظر رسول الله إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا فاستقبل القبلة ومدّ يديه فجعل يهتف بربّه اللهمّ أنجز لي ما وعدتني، اللهمّ إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض. فما زال يهتف مادّا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأخذ أبو بكر الرداء فألقاه على منكبيه ثم التزمه

_ (1) انظر الحديث في التاج، ج 4 ص 232.

من ورائه وقال يا نبيّ الله كفاك مناشدتك ربّك فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) » «1» . ومما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خفق خفقة وهو في العريش ثم انتبه فقال: «أبشر يا أبا بكر أتاك نصر الله. هذا جبريل أخذ بعنان فرسه يقوده على ثنايا النقع» . وتروي الروايات عن بعض شهود المعركة أنهم كانوا يشعرون بأن الملائكة يقاتلون معهم. وأن بعضهم سمع هتافهم وبعضهم رآهم عيانا معتمّين بعمامات بيضاء وخضراء وصفراء راكبين على خيل بلق. وبعض هذه الروايات رواها مسلم عن ابن عباس قال: «بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتدّ في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقف ورأى فارسا يقول أقدم حيزوم فنظر إلى المشرك فإذا هو قد خطّم أنفه وشقّ وجهه كأنما كان ذلك بضربة سوط، فجاء الرجل وحدّث رسول الله فقال: صدقت ذلك مدد السماء» «2» . وأمر الملائكة من المسائل المغيبة الواجب الإيمان بكل ما يخبره القرآن عنهم. وقد أخبر القرآن بأن الله أيّد المسلمين في هذه الوقعة بالملائكة فوجب الإيمان بذلك والوقوف عنده وإذا كان شيء يمكن أن يقال في صدد ما جاء في الآيات أن الآيات لا تفيد أن المسلمين رأوا الملائكة وإنما تتضمن إخبارا بعد الوقعة بأن الله أيدهم بالملائكة ثم تذكرهم بما كان من استغاثتهم وما كان من استجابة الله لهم مما قد يلهم أنهم تمنوا على الله أن يؤيدهم ويمدهم بالملائكة. فلما اشتدّت المعركة وقطع المسلمون صلتهم بالدنيا واستغرقوا في الجهاد في سبيل الله ولم يكن في أذهانهم إلّا الله ورسوله ودينه شملتهم العناية الربانية وأيقنوا أن الله قد استجاب لهم وأمدهم وأيدهم بملائكته وشعروا بحقيقة ما أخبرهم الله به في الآيات بعد الوقعة.

_ (1) التاج، ج 4 ص 365- 366. (2) المصدر نفسه، ص 367.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 15 إلى 19]

ويلفت النظر بخاصة إلى الأسلوب الاستدراكي الذي تضمنته الآية [10] . فهذه الروحانية التي شملتهم وجعلتهم يشعرون ما أخبر الله به بعد المعركة بأن الملائكة يقاتلون معهم إنما كانت للتطمين والبشرى. وإلّا فالنصر هو من الله عزّ وجل. والمتبادر أن هذا الاستدراك قد استهدف نزع ما قد يمكن أن يعلق في ذهن أحد من المسلمين من عقيدة تأثير الملائكة. وهي العقيدة التي كانت سائدة عند العرب قبل الإسلام. وكان العرب بقوتها يعبدون الملائكة تقربا بهم إلى الله، وفي هذا ما فيه من التلقين التوحيدي البليغ المستمر المدى. وفي صدد ما جاء في الآيات من غشيان النعاس للمسلمين والمطر الذي أنزله الله عليهم من السماء نقول: إن المسلمين كانوا على ما يبدو على شيء من التهيّب والتعب وكانوا في حاجة إلى الماء حتى يشربوا ويغتسلوا وتثبت الأرض تحت أقدامهم وكان في كل هذا مجال لوسوسة الشيطان وتخويفه وإثارته القلق في نفوسهم فكان من عناية الله بهم وتأييده أن سلّط عليهم النعاس فجعلهم يستغرقون في نوم أزال عنهم تعبهم وأنساهم قلقهم وأنزل عليهم المطر ليشربوا ويغتسلوا ويتزودوا بالماء ولتجمد الأرض تحت أقدامهم، ثم كانت تلك الروحانية التي شملتهم وأنزلت على قلوبهم الطمأنينة والسكينة وأشعرتهم بتأييد الله لهم بملائكته أيضا. وكل هذا تأييد رباني لرسول الله والصادقين من أصحابه تدخل في نطاق المعجزات ويمكن أن تكرر في كل موقف جهادي إيماني يقفه المؤمنون الصادقون من أعداء الله وأعدائهم. [سورة الأنفال (8) : الآيات 15 الى 19] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) .

(1) فلا تولّوهم الأدبار: فلا تقلبوا ظهوركم للعدو وتفروا من أمامه. (2) متحرّفا لقتال: قاصدا أسلوبا من أساليب القتال والحركات الحربية. (3) متحيّزا إلى فئة: منضما إلى جماعة أخرى للتعاون على القتال. (4) وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا: ليكون به للمؤمنين عمل فيه النفع والخير والحسنى. (5) إن تستفتحوا: إن تطلبوا الفتح والنصر أو إن تطلبوا حكم الله لأن كلمة الفتح جاءت في بعض آيات القرآن بمعنى الحكم. ومن ذلك آية الأعراف رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ [89] . في الآيتين الأولى والثانية: خطاب موجّه للمسلمين شدّد فيه التنبيه والإنذار بعدم الفرار من أمام العدو حينما يتزاحفون على بعضهم للقتال. ومن يفعل ذلك بدون قصد حربي مشروع كاستهداف أسلوب من أساليب القتال أو الانحياز إلى فئة مقاتلة أخرى من جماعته فقد باء بغضب الله واستحقّ النار وبئس ذلك من مصير له ولأمثاله. وفي الآية الثالثة: 1- تقرير رباني موجّه فيه الخطاب أولا إلى المسلمين بأنهم ليسوا هم الذين قتلوا الكفار وإنما الذي قتلهم هو الله. وثانيا إلى النبي بأنه ليس هو الذي رمى فأصاب ولكن ذلك هو الله. 2- وتنبيه بأن الله عز وجل قد أراد بما جرى أن يكون للمؤمنين فيه البلاء الحسن الذي لهم فيه الخير والثواب وأن الله سميع لكل ما يقولونه عليم به. وفي الآية الرابعة: إيذان بأن الله قد ألهم ويسّر ما كان إيهانا لقوة الكافرين

تعليق على الآية يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار (15) وما بعدها إلى آخر الآية [19]

وإحباطا لمكرهم وكيدهم. وفي الآية الخامسة: خطاب موجّه للكفار على سبيل الإنذار والتحدي، فإذا كانوا ينتظرون حكم الله بينهم وبين المسلمين فقد جاء حكمه عليهم بما كان من نصره للمسلمين. وإذا كانوا ينتهون مما هم فيه من كفر وعناد وعداء فهو خير لهم وأفضل. وإذا عادوا إلى العدوان والبغي فإن الله لهم بالمرصاد ولن تغني عنهم جموعهم مهما كثرت. لأن الله مع المؤمنين دائما. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وما بعدها إلى آخر الآية [19] والآيات كما هو المتبادر استمرار تعقيبي للآيات السابقة وقد نزلت مثل سابقاتها بعد الوقعة وبرغم تنوع الجهات المخاطبة فيها فإنها تبدو وحدة متماسكة. وهذا ما جعلنا نعرضها وحدة تامة. ولقد روى المفسرون روايات عن بعض أمور حدثت، وأقوال قيلت كانت سببا لنزول هذه الآيات «1» . منها أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ قبضة من تراب أو من حصباء فرمى بها نحو الكفار قبل الاشتباك قائلا: شاهت الوجوه، فلم يبق أحد منهم إلّا وأصابه شيء منها وأن الآية [17] تشير إلى ذلك، ومنها أن أبا جهل وقف عند الكعبة قبل خروجه إلى بدر ودعا الله أن ينصر الأهدى والأفضل من الفريقين وأن يفتح عليه وأن يخذل أقطعهما للرحم، وأن الآية [19] تشير إلى ذلك. ومنها أنه كانت مفاخرات بين المسلمين بقتل فلان فلانا وأن الفقرة الأولى من الآية [17] في صدد ذلك.

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن، وانظر سيرة ابن هشام مبحث وقعة بدر.

ومهما يكن من أمر هذه الروايات فإن الآيات يمكن أن تلهم حدوث شيء مماثل لما ورد فيها. كما أن الآية [17] يمكن أن تلهم معنى أشمل من الردّ على ما كان من تفاخر بعض المسلمين وهو أن الله هو الذي نصرهم وهزم أعداءهم وكبتهم وأن هذا لم يكن لو لم يلهمهم الله الدخول في المعركة ويثبت أقدامهم وقلوبهم فيها في حين أن بعضهم كان يتهيب منها. والفقرة الأخيرة من الآية [19] قرينة قوية على هذا التوجيه. ولعل فيها تدعيما لما استهدفه مطلع السورة فالله هو الذي ألهم ونصر وقتل ورمى، والأنفال من أجل ذلك هي منوطة بأمره ولا يحق لأحد أن يدّعيها. ومع ما في الآية الأخيرة من التحدي والإنذار للكفار فقد احتوت أيضا دعوة من جديد إلى الحق والصواب والكفّ عن الموقف الباغي الجحودي. وقد جاءت الدعوة من جانب الغالب للمغلوب. وفي هذا ما فيه من جليل التلقين ورائعه في صدد مبادئ الجهاد الإسلامي وفي صدد هدف الرسالة المحمدية في هداية الناس على اختلافهم ومختلف مواقفهم ودعوتهم المرة بعد المرة وفي كل مناسبة وظرف إلى الحق والصواب والخير والإسلام مما تكرر في الآيات القرآنية المكيّة والمدنيّة وفي الظروف المماثلة أيضا. ولم يرو المفسرون شيئا في مناسبة الآيتين الأوليين أي [15 و 16] وكل ما قالوه أنهما نزلتا في أهل بدر. وكلامهم يفيد أنهما نزلتا قبل المعركة مع أن كل الآيات السابقة واللاحقة من السورة نزلت بعد انتهاء المعركة على ما يلهمه فحواها ونبهنا عليه قبل. وقد تلهمان أنه لوحظ على بعض المسلمين حين اشتداد المعركة شيء من الاضطراب أو أن بعضهم كاد ينكشف للعدو فاقتضت الحكمة هذا التنبيه والإنذار الشديدين اللذين احتوتهما الآيتان بالنسبة للمستقبل. والحكمة في هذا التشديد القاصم واضحة. والتلقين فيها مستمر المدى. فإن الجهاد ثبات وجلد. وفرار واحد من الصف قد يخلّ الصف كله. وقد يضيع ثمرة النصر ويقلبه إلى هزيمة

تعليق على ما قيل في مدى جملة وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى

وكسرة. ولقد كان من الممكن أن يتغير مجرى تاريخ الإسلام لو انكسر المسلمون في وقعة بدر. وهذا ما عناه النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه المروي: «اللهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» . ولقد روى الطبري وغيره عن بعض أهل التأويل أن هاتين الآيتين هما خاصتان بيوم بدر لا قبله ولا بعده، وأن بعض المؤمنين ولّوا الأدبار يوم أحد ويوم حنين فعفا الله عنهم كما جاء في آية سورة آل عمران [155] وآيات سورة التوبة [25- 27] ومعنى هذا أن الآيتين منسوختان. على أن هناك من قال إنهما محكمتان وإن توبة الله وعفوه عن المتولّين يوم أحد ويوم حنين أمر خاص لا يستوجب نسخ حكمهما. وقد رجّح الطبري هذا القول وفي هذا سداد وصواب. وإطلاق الكلام في الآيتين يؤيد ذلك حيث يلهم بقوة أنهما بالنسبة للمستقبل عامة، ولا سيما نزلتا بعد معركة بدر على ما رجّحناه قبل. ولقد روى الخمسة حديثا عن أبي هريرة يذكر فيه «من الموبقات السبع التولّي يوم الزحف» «1» . وروى الطبري عن ابن عباس قولا جاء فيه «أكبر الكبائر الشرك بالله والفرار يوم الزحف» . والحديثان هما بالنسبة لكل موقف ويدعمان قول محكمية الآيتين وشمولهما لكل موقف. تعليق على ما قيل في مدى جملة وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى لقد اتخذ بعض الكلاميين هذه الجملة حجّة على إثبات عدم تأثير أي مؤثر في شيء ما لذاته، فالنار في رأي القائلين لا تحرق وإنما الحارق الله. والسكين لا تذبح بذاتها وإنما الذابح الله ... إلخ «2» . وهذا للرد على مذهب كلامي آخر يقول بتأثير عمل الإنسان ومسؤوليته عن الأثر الذي يحدثه ومع تسليمنا بصواب استلهام نصوص القرآن وتلقيناته ومبادئه في

_ (1) انظر الحديث في التاج، ج 4 ص 81. (2) انظر تفسير الجملة في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والزمخشري والطبرسي.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 20 إلى 26]

الحجج الأصولية والفقهية والكلامية والاجتماعية والأخلاقية فإن الذي يتبادر لنا أن أسلوب الآية [17] التي فيها الجملة هو أسلوب تعبيري اقتضاه المعنى الذي أريد تقريره في الموقف الذي استدعى هذا التقرير على نحو ما ذكرناه في شرحها وما نرجو أن يكون هو الصواب. وإذا لا حظنا أن هناك آيات كثيرة جدا ورد فيها تقرير نسبة الفعل وأثره لفاعله وترتيب مسؤولية هذا الفعل وأثره على الفاعل في الدنيا والآخرة مما هو في غنى عن التمثيل هنا لوروده في معظم السور القرآنية المكية والمدنية ساغ القول إن في تحميل الآية ذلك المعنى واستنباط تلك الحجة منها تجوّزا وابتعادا عن التساوق مع النصوص القرآنية. على أن من المعروف من ناحية البحث الكلامي أن الذين يقولون بطبيعة النار الإحراقية وطبيعة السكين الذابحة يقولون أيضا إن الله قد جعل في النار طبيعة الإحراق وفي السكين طبيعة الذبح كما أودع في الإنسان قابلية العمل وحرية التمييز والاختيار. وهذا على ما هو واضح هو المتّسق مع طبيعة الأشياء ومع حكمة الله ونواميسه في خلقه والمنسجم مع العبارات القرآنية التي تنسب الفعل لفاعله وتقرر مسؤوليته من أجل ذلك عنه وتخاطب الناس على أساس هذا المفهوم. هذا، ولبعض الصوفيين شطح آخر في تأويل الجملة حيث يستنتجون منها أن فعل العبد هو عين فعل الله بقصد إثبات كون ذات العبد هو عين ذات الله أو صورته تعالى الله. وقد تصدى الإمام ابن تيمية لذلك فيمن تصدوا له ونبّه على ما فيه من مغالطة ومفارقة بل وكفر إذا أريد القياس عليه فيقال للماشي ما مشيت ولكن الله مشى. وللآكل والشارب والصائم والمصلي بل وللكافر والكاذب والزاني والزانية والقاتل والسارق مثل هذا والعياذ بالله تعالى «1» . [سورة الأنفال (8) : الآيات 20 الى 26] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) .

_ (1) انظر كتاب مصرع التصوف لعبد الرحمن الوكيل.

(1) الفتنة: هنا بمعنى الفساد والخلاف والنزاع. في هذه الآيات: 1- نداء موجّه إلى المؤمنين يؤمرون فيه بإطاعة الله ورسوله وينهون عن الانصراف عنه وعدم الأبوه لأوامره وهم يسمعونها عنه. ويحذرون من أن يكونوا كالذين يقولون سمعنا وهم لا يسمعون فلا يستجيبون إلى ما يسمعون. 2- ونعي على الذين لا يستجيبون إلى دعوة الحق ولا يقبلونها. فشرّ الناس عند الله هم الذين بعدم استماعهم للحق وانصياعهم له كالدواب والصمّ والبكم الذين لا يسمعون ولا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم. ولكنهم في حالتهم هذه قد فقدوا كل قابلية للخير والانصياع للحق، فلو سمعوا لما استجابوا ولا نصرفوا عن النداء وأعرضوا. 3- ونداء آخر موجّه إلى المؤمنين يؤمرون فيه الاستجابة إلى الله ورسوله إذا ما دعاهم الرسول وبلغهم دعوة الله إلى ما فيه حياتهم ومصلحتهم. ويحذرون من أن الله يحول بين المرء وقلبه وينذرون بأنهم محشورون إليه ليؤدوا حساب أعمالهم. 4- ودعوة للمؤمنين إلى اجتناب الفتنة. والتعاون على درئها. وتخويف من نتائجها فهي لا تصيب بشرّها الظالمين الذين يثيرونها فقط ولكنها كثيرا ما تكون

تعليق على ما روي في صدد الآية يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون (24) وما بعدها إلى الآية [26] من روايات وأقوال وما فيها من تلقينات

عامة الضرر، وتنبيه على أن الله شديد العقاب يجب الحذر منه وعدم المخالفة لأوامره. 5- وتذكير بما كانت عليه حالتهم، وبما صارت إليه بفضل الله، تذكيرا ينطوي فيه تدعيم لواجب الاستماع والطاعة عليهم. فلقد كانوا قليلين ضعفاء في خوف دائم من أذى الكفار وبغيهم فآواهم الله إلى ساحة الأمن والطمأنينة، وجعلهم أقوياء بعد ضعف وأعزّاء بعد هوان. وأيدهم بنصره. ورزقهم من الطيبات. وكل ذلك يتطلب منهم الشكر له وطاعته وطاعة رسوله والانصياع لأوامرهما ونواهيهما. تعليق على ما روي في صدد الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وما بعدها إلى الآية [26] من روايات وأقوال وما فيها من تلقينات روى بعض المفسرين أن الآيتين [22 و 23] نزلتا في بني عبد الدار الذين لم يكن أسلم منهم أحد إلّا مصعب بن عمير. أو في النضر بن الحرث الذي كان يقول للناس أنا أحدثكم بأحسن مما يحدثكم محمد. وروى بعضهم في صدد الآية [25] أن الزبير بن العوام قال: قد قرأنا هذه الآية زمنا وما نرانا من أهلها فإذا نحن المعنون بها مشيرا بذلك إلى ما تورط به هو وغيره فيه من الفتن في زمن عثمان بن عفان وبعده، ومما رواه بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حينما نزلت هذه الآية: «من ظلم عليا بعد وفاتي فكأنما جحد بنبوتي ونبوّة الأنبياء من قبلي» «1» . وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح. والذي يتبادر لنا أن

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والزمخشري والطبرسي. والرواية الأخيرة من مرويات الطبرسي الشيعي.

الآيات متصلة بالسياق نظما وموضوعا وبظروف وقعة بدر وموقف بعض المسلمين فيها ومعقبة عليه. وهذا ما تلهمه روح الآيات التي تؤكد وجوب طاعة الله ورسوله واتقاء الفتن والخلاف وعدم التردد في الاستجابة إلى ما يدعوهم إليه الله ورسوله وفيه خيرهم وحياتهم. وتحذير من عدم الانصياع ومن نتائج ذلك. وإنها لتلهم هي والآيات السابقة أن موقف بعض المسلمين من النبي وأوامره قبل المعركة ثم حول قسمة الغنائم كانا مؤلمين له صلى الله عليه وسلم وكادا يثيران فتنة بين المسلمين في الوقت نفسه فاقتضت حكمة التنزيل الإيحاء بها بالأسلوب الشديد الذي جاءت به مهددة منذرة منبهة. ونرجح أن تكون نزلت هي وما قبلها دفعة واحدة أو متتابعة. أما الروايات المروية في صدد صلة الآيات بالفتنة المريرة في زمن عثمان وعلي رضي الله عنهما فإن أثر الفتنة ظاهر فيها ويسوغ التوقف في صحتها أو القول إنها أخذت على ذلك بعد وقوع الفتن من قبيل التطبيق ورائحة الهوى والوضع الشيعيين عاقبة في الحديث الذي يرويه الطبرسي عن النبي صلى الله عليه وسلم بشأن علي رضي الله عنه. ولقد أورد الطبرسي مع الحديث المذكور حديثا آخر معزوا إلى أبي أيوب الأنصاري ويرويه رواة شيعيون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمّار: «يا عمّار إنه سيكون بعدي هنات حتى يختلف السيف فيما بينهم وحتى يقتل بعضهم بعضا وحتى يبرأ بعضهم من بعض. فإذا رأيت ذلك فعليك بهذا الأصلع عن يميني علي بن أبي طالب. فإن سلك الناس كلهم واديا وسلك علي واديا فاسلك وادي علي. وخلّ الناس. يا عمار إن عليا لا يردك عن هوى ولا يدلك على ردى. يا عمار طاعة علي طاعتي وطاعتي طاعة الله» . وأثر الصنع الحزبي بارز لذلك بقوة على هذا الحديث أيضا. ولقد قال بعض المفسرين «1» في تأويل جملة وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ إن الله قد يميتكم بغتة فتفوتكم فرصة الطاعة والاستجابة لله

_ (1) انظر تفسيرها في مجمع البيان الطبرسي.

والرسول. وذلك بسبيل الحثّ على المسارعة إلى الطاعة والاستجابة. وقال آخرون إنها من قبيل وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] وإنها بمعنى أن الله يحول بين عقله وماذا يعمل فيتركه في حيرة، أو أنه يحول بين المؤمن والكفر وبين الكافر والإيمان «1» . والقول الأول هو الأوجه كما يتبادر لنا، ومما يتبادر لنا أن يكون انطوى في الجملة تنبيه بأن الله قد يبتلي المترددين المتأخرين في الاستجابة والطاعة فتقسو قلوبهم ويفقدون قابلية الخير والانصياع للحق. وعلى كل حال فالجملة تستهدف الحثّ على الإسراع للاستجابة والطاعة كما يتضح من الإمعان في السياق. وقد قال بعض المفسرين «2» في تأويل جملة وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ إنها بمعنى لو كان الله يعلم فيهم قبولا للهدى وإقبالا على الحق لأسمعهم ما ينصرفون عن سماعه. وقال بعضهم: إنها بمعنى أن الله لو علم فيهم استعدادا للسمع لأسمعهم الجواب عن كل ما سألوا «3» . وكلا التأويلين وجيه. ومما يتبادر لنا أن الجملة هي بشأن بيان حالة الصمّ البكم الممثلة بهم حالة الفئة المقصودة التي تقول سمعنا وهم لا يسمعون وأنها بسبيل تقرير أن الله يعلم أن الصم البكم لا يمكن أن يسمعوا ولو سمعوا صوتا ما لا يمكن أن يعقلوه ويردوا عليه. وأن هذه الفئة المقصودة مما انطوى في نفوسها خبث وسوء نيّة وعناد لا يمكن أن تسمع ولو سمعت لا يمكن أن تعقل لأنها كالصمّ البكم الذين لا يسمعون ولا يعقلون. أما الفئة المقصودة فالغالب أنها المنافقون والذين في قلوبهم مرض. فهم الذين يقولون سمعنا وأطعنا. وحقيقة حالهم هي أنهم لم يؤمنوا ولم يسمعوا ولم يطيعوا. ومع خصوصية موضوع الآيات وظروفها فإنها تنطوي على حكم جليلة مستمرة التلقين.

_ (1) انظر تفسيرها في الطبري والخازن وابن كثير. (2) انظر تفسيرها في تفسير الطبرسي. [.....] (3) انظر تفسيرها في الطبري والخازن.

فمن واجب المؤمنين أن يسيروا في نطاق أوامر الله ورسوله ونواهيهما وألا يكابروا في الحق ويترددوا في تأييده والانصياع له. ومن واجبهم أن يقفوا في وجه الفتن والمنكرات والفساد ويتعاونوا على درئها وكبح جماح مثيريها لأن نتائجها لا تنحصر في المثيرين لها وإنما تشمل غيرهم ممن ليس له يد فيها ولا دخل. وجملة لِما يُحْيِيكُمْ ذات مغزى تلقيني عظيم بنوع خاص حيث يمكن أن يستنبط منها أنه ليس للسلطان في الإسلام أن يدعو المسلمين لغير ما فيه خيرهم ومصلحتهم وصلاحهم وأنه ليس عليهم واجب الإجابة والطاعة له إذا خرج عن هذا النطاق. وهناك حديث يرويه الخمسة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مؤيد لذلك جاء فيه: «السمع والطاعة على المرء المسلم في ما أحبّ أو كره. ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» «1» . ولقد أورد ابن كثير على هامش الآية [25] خاصة أحاديث نبوية عديدة بسبيل تأويلها وتوضيح مداها والتحذير من الفتن وعواقبها أخرجها الإمام أحمد منها حديث جاء فيه: «إنّ الله عزّ وجلّ لا يعذّب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه فإذا فعلوا ذلك عذّب الله الخاصة والعامة» . ومنها حديث جاء فيه «إذا ظهرت المعاصي في أمّتي عمّهم الله بعذاب من عنده» فقالت أم سلمة التي يروى عنها الحديث: «يا رسول الله أما فيهم أناس صالحون؟ قال: بلى، قالت: فكيف يصنع أولئك؟ قال: يصيبهم ما أصاب الناس ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان» . ومنها حديث جاء فيه «ما من قوم يعملون بالمعاصي وفيهم رجل أعزّ منهم وأمنع لا يغيّره إلّا عمّهم الله بعقاب أو أصابهم العقاب» . وهناك أحاديث وردت في كتب الصحاح قوية المدى في بابها منها حديث

_ (1) التاج، ج 3 ص 40.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 27 إلى 29]

رواه أصحاب السنن عن أبي بكر قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنّ الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أو شك أن يعمّهم الله بعقاب» «1» . وحديث رواه الترمذي والطبري عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم» «2» . [سورة الأنفال (8) : الآيات 27 الى 29] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) . (1) فتنة: هنا بمعنى ابتلاء واختبار أو سبب للافتتان والانحراف. (2) فرقانا: هنا بمعنى الهداية والنصر والتأييد أو القدرة على تمييز الحق من الباطل. وفي الآيات نداء موجه إلى المؤمنين: 1- يحذرهم وينهاهم من خيانة الله وخيانة رسوله وخيانة أماناتهم عن علم وعمد. 2- وينبههم إلى ما في أموالهم وأولادهم من سبب لفتنتهم ويشوقهم إلى ما عند الله من عظيم الأجر كأنما يقال لهم: إن ما عند الله أحسن وأفضل من الأموال والأولاد وإن عليهم أن لا يدعوا أموالهم وأولادهم يفتنونهم عن واجبهم ويوقعونهم في إثم خيانة الله ورسوله وأماناتهم فيستحقون غضب الله ويحرمون مما عنده من فضل وأجر.

_ (1) التاج، ج 5 ص 204 و 205. (2) المصدر نفسه.

تعليق على الآية يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون (27) والآيتين اللتين بعدها

3- ونداء ثان موجه إليهم منطو على التقرير بأنهم إذا اتقوا الله وراقبوه وأخلصوا النية في أعمالهم ومقاصدهم رزقهم الله التأييد وقوة تمييز الحق من الباطل وجنبهم المزالق وكفّر عنهم سيئاتهم وغفر لهم ذنوبهم. فهو ذو الفضل العظيم الذي يشمل من اتّقاه وراقبه وأخلص النية والصدق في عمله ومقصده. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) والآيتين اللتين بعدها وقد روى المفسرون أن الآيات نزلت في أبي لبابة الأنصاري الذي حذّر يهود بني قريظة من النزول على حكم سعد بن معاذ حينما حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم وضيّق عليهم عقب انسحاب جيوش الأحزاب التي غزت المدينة وحاصرتها مما عرف في تاريخ السيرة بوقعة الخندق أو الأحزاب حيث خيروا في النزول على حكم سعد وكان حليفهم وهو زعيم الأوس فأشار إليهم أبو لبابة إشارة معناها أنهم سيذبحون ثم شعر أنه خان الله ورسوله فربط نفسه في سارية من سواري المسجد وحلف أن لا يبرح ولا يذوق طعاما وشرابا حتى يموت أو يتوب الله عليه ثم تاب الله عليه. ورووا كذلك أنها نزلت في رجل من المنافقين كتب إلى أبي سفيان يقول له: إن محمدا يريده فخذ حذرك منه. ولا تذكر الرواية الثانية وقت هذا التحذير. ووقعة الخندق كانت بعد وقعة بدر بمدة طويلة. وأشير إليها إشارات عديدة في سورة الأحزاب. فمن المستبعد أن تكون هذه الآيات نزلت في صدد أبي لبابة ووضعت في سياق سورة الأنفال بدون مناسبة والروايات لم ترد في كتب الصحاح. ويلحظ من جهة أخرى أن الآيات منسجمة نظما وسياقا مع ما قبلها مما يجعلنا نرجّح أنها هي الأخرى متصلة بظروف ومشاهد وقعة بدر. ولقد أقبل بعض المجاهدين بعد الوقعة فاحتازوا بعض الأسلاب بدون علم النبي وإذنه. وكان ذلك من أسباب الخلاف الذي وقع ونزلت الآيات الأولى من السورة فيه فأمر النبي بأن يعيد كل

امرئ ما أخذه حتى يقسم بينهم فلا يبعد أن يكون بعضهم تلكأ في ردّ ما في يده فاقتضت حكمة التنزيل الإيحاء بالآيات في سياق ما أوحي في صدد مشاهد الوقعة محذرة مشوقة منبهة. ولقد ذكرنا في خلاصة وقعة بدر أن أبا سفيان شعر بحركة خروج النبي والمسلمين للتعرّض لقافلته. وقد يسيغ هذا فرض صحة الرواية الثانية. ولعله كان للرجل الذي حذّر أبا سفيان أوشاج من قربى وأموال في مكة ففعل ما فعل، ليكون له يد عند أبي سفيان بسبيل وقاية أمواله وأقاربه. ولا عبرة بما جاء في الرواية من وصف الرجل بالمنافق الذي قد يوهم أنه من أهل المدينة فقد يكون ذلك من الراوي على اعتبار أنه لا يفعل ذلك إلّا منافق. ولقد روى البخاري ومسلم في سياق تفسير سورة الممتحنة حادثا مماثلا وقع في ظروف عزيمة النبي صلى الله عليه وسلم على الزحف على مكة لفتحها في السنة الثامنة للهجرة. حيث كتب حاطب بن أبي بلتعة وهو من المهاجرين إلى أبي سفيان يخبره بالأمر وعلم النبي بذلك فأرسل فاستردّ الرسول وعوتب حاطب فاعترف وقال إني مؤمن مخلص ولي أموال وأقارب في مكة وليس لهم من يحميهم فأردت أن أتخذ يدا عند أبي سفيان، وصدّقه الرسول فعفا عنه وقال لعمر الذي طلب أن يضرب عنقه: «وما يدريك لعلّ الله اطّلع على أهل بدر فقال لهم اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» وكان حاطب ممن شهد بدرا. وإلى هذا الحادث أشارت الآية الأولى من سورة الممتحنة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا ... إلخ «1» . ومن تحصيل الحاصل أن نقول إن ما احتوته من أوامر ونواه وتحذير وتشويق هو عام التوجيه والشمول. وفيها تلقينات أخلاقية واجتماعية ونفسية جليلة مستمرة المدى انطوى مثلها في آيات عديدة مرّ تفسيرها. وننوّه بخاصة بما يعده الله تعالى في الآية [29] من وعود جليلة للمؤمنين إذا ما اتقوا الله توكيدا لوعود كثيرة سابقة.

_ (1) انظر التاج، ج 4 ص 232.

[سورة الأنفال (8) : آية 30]

وجملة لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) جديرة بالتنويه كذلك. فخيانة الله ورسوله تعني خيانة الإسلام والمسلمين والانحراف عن أوامر الله ورسوله. والأمانة لذلك هي رأس الأمانات والحالة هذه والخيانة لذلك هي رأس الخيانات بطبيعة الحال. ومن تلقينات الجملة أن مصلحة الإسلام والمسلمين هي مصلحة كل مسلم وأن خيانتها هي بمثابة خيانة المرء لنفسه. ولا يفعل هذا إلّا فاقد الإيمان والعقل والبصيرة. [سورة الأنفال (8) : آية 30] وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) . (1) ليثبتوك: ليقيدوك أو يحبسوك. في هذه الآية تذكير موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بما كان من موقف الكفار في مكة إزاءه حيث تآمروا على سجنه أو قتله أو إخراجه فأحبط الله مكرهم بمكر أقوى وأنفذ. تعليق على الآية وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ (1) أَوْ يَقْتُلُوكَ لقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن هذه الآية مكية. وروى بعض المفسرين ذلك عن بعض التابعين وذكر ذلك السيوطي أيضا «1» . والصورة التي احتوتها الآية مكية من دون ريب. غير أن أسلوبها تذكيري مشابه لصورة مكية أخرى في الآية [26] التي يدل مضمونها على مدنيتها دلالة قطعية تسوغ نفي مكية الآية التي نحن في صددها وترجيح مدنيتها هي الأخرى والقول إنها جاءت لتعقب على الآيات السابقة التي نوهت بما كان من نصر الله لنبيه والمؤمنين في بدر ولتذكر بما كان من

_ (1) الإتقان ج 1 ص 15 وانظر كتب تفسير الطبري والخازن وابن كثير وغيرهم.

نصر الله لنبيه في مكة حينما مكر به كفارها وتآمروا عليه وتنجيته إياه. وجمهور المفسرين يديرون الكلام عن الآية في هذا النطاق. ويروي المفسرون في صدد جملة أَوْ يُخْرِجُوكَ أن المتآمرين قالوا نخرجه من بين أظهرنا ليذهب أنّى شاء لا نبالي بما يصنع. وهذا غريب فالمتآمرون يجتمعون للتشاور في الطريقة المثلى لمنع تفاقم خطر النبي فكيف يقول بعضهم بتركه حرا يذهب أنّى شاء؟ والمعقول أنهم قصدوا بذلك أن يخرجوه بالقوة إلى منفى إجباري يقيم فيه معزولا فتفشل حركته ويؤمن خطره. وليس ثمة معنى يصح أن يتبادر في هذا المقام غير هذا إلّا أن يقال إن مقترح هذا القول من الذين كانوا يميلون إلى بني هاشم أو ينتمون إليهم بنسب أو من الذين كانوا يعترفون في قرارة نفوسهم بأن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم حقّ ويخشون الدمار والاضطهاد من متابعته على ما شرحناه في سياق الآية [57] من سورة القصص. وعلى كل حال فإن ما حكته الآية لا يمكن أن يكون موضع تنفيذ وتحقيق إلّا من قبل من هم قادرون عليه. وهذا يسوغ القول بالتبعية إن أصحاب السلطة الحكومية في مكة كانوا هم المتآمرون أو على رأسهم وقد ذكرت الروايات أن اجتماع المتآمرين كان في دار الندوة، وهذه الدار كانت مجتمع أصحاب السلطة والشأن من زعماء قريش على ما تذكره الروايات أيضا. ونرى أن نستدرك أمرا في صدد معنى الإخراج، ففي السور المدنية آيات عديدة تذكر أن كفار قريش أخرجوا النبي والمسلمين أو أن النبي والمسلمون أخرجوا من ديارهم مثل آيات البقرة [191] وآل عمران [195] والتوبة [41] والحج [40] والحشر [8] والممتحنة [1] والطلاق [8] فالمتفق عليه أن هذه العبارات عنت في مقامها الإلجاء أو الاضطرار إلى الخروج بشدّة المضايقة والمناوأة وليست في معنى الإخراج أو الطرد عنوة وبالقوة وهذا غير ما يتبادر لنا من كلمة يُخْرِجُوكَ في الآية التي نحن في صددها والله أعلم.

استطراد إلى ظروف وكيفية هجرة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين

استطراد إلى ظروف وكيفية هجرة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين والمتفق عليه أن تآمر المشركين الذي حكته الآية وذكرت به قد أدّى إلى هجرة النبي والمسلمين من مكة إلى المدينة. فصارت المناسبة واردة لشرح كيفية وظروف هذا الحدث التاريخي العظيم ولقد أسهب المفسرون في سياق هذه الآية ثم في سياق آيات آل عمران [98- 103] في ذلك وروت تفصيلاتها كتب السيرة القديمة أيضا. وملخص ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا رأى شدة مناوأة زعماء قريش له ويئس منهم ومن استجابة معظم أهل مكة نتيجة لذلك. وتوفّي عمه أبو طالب وكان ذلك في آخر السنة العاشرة من بعثته والذي كان ينصره عصبيّة ومعه جلّ بني هاشم. ثم توفيت زوجته السيدة خديجة رضي الله عنها بعد عمّه بنحو شهر ونصف، والتي كانت من أقوى مشجعيه ومهدئيه، فضاقت مكة على نفسه وكاد ييئس منها وأخذ يفكر في مخرج خارج مكة فسافر إلى الطائف لعله يجد فيها سمعا ونصرا فخاب أمله على ما شرحناه في سياق تفسير الآيات [29- 32] من سورة الأحقاف. ثم أخذ يعرض نفسه على القبائل في موسم الحج وعرض نفسه في الجملة في السنة العاشرة على جماعة من الخزرج من أهل المدينة ودعاهم إلى الإسلام وتلا عليهم القرآن. فانشرحت صدورهم وكانوا يسمعون من اليهود الذين كانوا في المدينة أنه يوشك أن يبعث الله نبيا من العرب مما أشارت إليه الآية [89] من سورة البقرة على ما شرحناه في تفسيرها. فقالوا لبعضهم: لعله النبي الذي توعدكم به اليهود فلا يسبقنكم إليه. فأجابوه بالتصديق والإسلام وقالوا له إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم فعسى الله أن يجمعهم بك وسنعرض عليهم أمرك فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعزّ منك «1» .

_ (1) قصدوا ما كان بين الأوس والخزرج من عداء وأيام حربية أشير إليها في آيات [98- 103] من سورة آل عمران على ما سوف نشرحه في مناسبتها. ونسجل أسماء هؤلاء النفر لتكريمهم وتخليدهم وهم أسعد بن زرارة وعوف بن الحارث ورافع بن مالك وقطبة بن عامر وعقبة بن عامر وجابر بن عبد الله رضوان الله عليهم.

ولما رجعوا أخبروا قومهم وأخبروا جماعة الأوس أيضا حيث كانوا آنذاك في تهاون فانشرحت صدورهم فلما كانت السنة القابلة جاء وفد خليط من الخزرج والأوس واجتمعوا برسول الله عند هضبة من هضاب مكة الخارجية فآمنوا وبايعوه على الإسلام. وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير رضي الله عنه داعيا وقارئا وإماما. فأخذت دائرة الإسلام تتسع في المدينة. فلما كانت السنة القابلة وهي الثالثة في تاريخ الاتصالات بين النبي والأوس والخزرج جاء وفد كبير مؤلف من نحو سبعين من القبيلتين فاجتمع بهم في المكان الأول «1» وأخذ بيعتهم على الإسلام ورحبوا بهجرته وهجرة أصحابه إلى المدينة وعاهدوه على الدفاع عنه ونصرته واختار منهم اثني عشر رجلا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس فسماهم النقباء «2» . ورجعوا دعاة للإسلام مع مصعب داعية النبي الأول فاتسعت دائرة الإسلام حتى لم يبق بيت إلّا دخله وقد أشارت آية سورة الحشر إلى ذلك وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ [9] ومن ثم أذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة فأخذوا يهاجرون فردا بعد فرد وفوجا بعد فوج فيلقون الترحاب والرعاية. ولقد شعر زعماء قريش بالحركة فاستشعروا بخطر عظيم لم يستشعروا به من قبل حيث كانوا يقولون إن النبي لن يلبث أن يموت فينتهي أمره وهو ما أشارت إليه آية سورة الطور أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) وحيث حسبوا أن اتفاق النبي مع أهل المدينة وإسلامهم وهجرته مع أصحابه إليهم سوف يفتح عليهم باب خطر عظيم متعدد الوجهات لأن المدينة كانت طريق تجارتهم وكان الأوس والخزرج أولي حرب وبأس. فرأوا أن يدبروا تدبيرا يدرأ هذا الخطر فاجتمعوا في

_ (1) يوصف الاجتماع الأول عند الهضبة في تاريخ السيرة بالعقبة الأولى والثاني بالعقبة الثانية، والعقبة بمعنى الهضبة. (2) هذه أسماؤهم للتكريم والتخليد: أسعد بن زرارة، عبد الله بن رواحة، رافع بن مالك، البراء بن معرور، عبد الله بن حرام، عبادة بن الصامت، سعد بن عبادة، المنذر بن عمرو، سعد بن الربيع من الخزرج، وأسيد بن خضير، سعد بن خيثمة، رفاعة بن عبد المنذر من الأوس رضوان الله عليهم.

دار الندوة فاقترح بعضهم اعتقال النبي وتقييده بالحديد وحراسته حتى يموت. واقترح بعضهم إخراجه ليذهب أنى شاء فيستريحوا منه. واقترح بعضهم قتله بواسطة شباب من مختلف بطون قريش ليفترق دمه ولا تقدر عشيرته على حربهم جميعا ثأرا له فيرضون بديته. ورأوا أن هذا هو الأهم فاتفقوا عليه وندبوا شبابا لرصده وتنفيذ القرار وهذا ما أشارت إليه الآية التي نحن في صددها ... وأخبره الله بواسطة جبريل وحذره من المبيت في بيته وفراشه فأمر عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وكان يعيش معه بالنوم مكانه والتسجّي ببرده الأخضر الذي يستجّى به عادة عند النوم. ثم تسلل إلى دار أبي بكر رضي الله عنه. وكان هذا قد اعتزم الهجرة فقال له رسول الله على رسلك عسى أن يأذن الله بالخروج. فحبس نفسه لصحبة رسول الله وأعد راحلتين واعتنى بعلفهما. فلما دخل إلى بيت أبي بكر قال له إن الله قد أذن لي بالخروج. فركبا الراحلتين بعد الغسق وخرجا إلى جبل ثور من جبال مكة حيث كمنا في غار ثلاث ليال خشية أن يبعث زعماء قريش في طلبه حينما يفتقدونه. وكان يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر ثم يدلج إلى مكة كأنه بات فيها فيتسمع الأخبار ويعود بها إليهما بعد الغلس. وكان لأبي بكر راع يروح عليهما في الغلس أو الفجر فيجلب لهما الحليب الذي يغذيهما. ولقد صدق ظنّ رسول الله حيث تروي الروايات والأحاديث أنهم أرسلوا من يلتمسونهما في شعاب مكة. ومرّ بعضهم بالغار حتى لقد تسلقه بعضهم وشعر بذلك أبو بكر فارتاع أشدّ الروع وقال للنبي: لو أن أحدهم ينظر إلى قدميه لأبصرنا تحتهما، فقال له: يا أبا بكر ما ظنّك باثنين الله ثالثهما؟ مما أشارت إليه آية سورة التوبة هذه: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) . ولما سكن عنهما الطلب خرجا من الغار واستأجرا دليلا أخذ بهم طريق

السواحل. ولقد رصد الكفار جائزة كبيرة لمن يقتله أو يأسره فتصدّى له رجل من بني مدلج اسمه سراقة بن مالك ولكن الله منعه. إذ ساخت أقدام فرسه ورأى من تأييد الله لرسوله ما جعله يوقن أنه ذو شأن عند الله فاستأمن وأعلن مسالمته وأخذ من النبي عهدا له ولقومه. وسمع المسلمون في المدينة بخروجهم فأخذوا ينتظرون من يوم إلى يوم حتى بلغ ضاحية قباء من المدينة فنزل فيها على آل عوف وأنشئوا أول مسجد في الإسلام فيها ولبث بضع ليال ثم سار نحو المدينة. وكان المسلمون مبتهجين فرحين بقدومهم وكل منهم يدعوه للنزول عندهم فطلب منهم أن يدعوا راحلته تسير حتى تبرك في مبرك يشاؤه الله. وقد بركت في مربد ليتامى فاشتراه وهيأه مع أصحابه ليكون له مسجدا وبيتا «1» . ولقد كان حادث نجاة النبي صلى الله عليه وسلم من مكر الكفار وهجرته إلى المدينة ثاني أعظم أحداث السيرة النبوية وأبركها بعد الحدث الأعظم الأول وهو نزول الوحي على رسول الله بأمر الله وقرآنه. حيث انفتح الأفق الواسع أمام الدعوة الإسلامية وانتشارها وانتصارها. وتحقق قول الله تعالى في آية سورة التوبة وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا [40] . والروايات في تاريخ بدء الهجرة النبوية ووصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مختلفة وليس هناك أثر وثيق صحيح السند وأشهر الروايات أن خروجه كان في أول شهر ربيع الأول ووصوله في نحو منتصفه، والله تعالى أعلم. ولقد كان في إقدام المهاجرين الأولين من أصحاب رسول الله على ترك وطنهم وذوي أرحامهم وأموالهم وبيوتهم في سبيل الله تضحية عظمى فكانت موضوع تنويه الله عز وجل في آية سورة الحشر هذه: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ

_ (1) هذا تلخيص ما رواه المفسرون وكتب السيرة والحديث. انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن وغيرهم وسيرة ابن هشام ج 2، ص 92- 110، وطبقات ابن سعد ج 1، ص 210- 224، والتاج ج 3 ص 235- 243 وج 4، ص 117.

[سورة الأنفال (8) : آية 31]

أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) . [سورة الأنفال (8) : آية 31] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) . في الآية تذكير بقول كان يقوله الكفار حينما كان يتلى عليهم القرآن حيث كانوا يقولون إنه أساطير وقصص الأولين ولو شئنا لقلنا مثله. تعليق على الآية وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) المصحف الذي اعتمدناه يذكر أن هذه الآية أيضا مكية. وبعض المفسرين والسيوطي يؤكدون ذلك أيضا، وما قلناه في صدد مكية الآية السابقة وترجيح مدنيتها يصحّ قوله هنا، وهو ما قاله غير واحد من المفسرين أيضا. ولقد روى المفسرون أن صاحب هذا القول النضر بن الحرث. وقد كان تاجرا يختلف إلى فارس والحيرة فيسمع أخبار رستم وإسفنديار وأحاديث العجم. ويجتمع اليهود والنصارى ويسمع ما يقولون ويقرأون من الكتب فيأتي فيحدث به الناس، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم وصار يتلو ما أنزله الله عليه من فصول وفيها قصص الأولين صار يقول ما حديث محمد بأحسن من حديثي وإنه استكتبه من أساطير الأولين ولو شئت لقلت مثله. ولقد ذكر اسم النضر في مناسبات مماثلة عديدة على ما ذكرناه في سياق تفسير السور المكية، وكثرة ترداد الاسم في هذا المقام قد يجعل العز وصحيحا مع احتمال كون الذين كانوا يقولون مثل هذا القول أكثر من واحد على ما قد يلهمه مضمون الآية والله أعلم.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 32 إلى 37]

وعلى ضوء الآيات القرآنية العديدة يصح أن يقال بجزم إن ما نسب إلى النضر أو غيره من قول هو من قبيل التبجح الناتج عن الظن بأن أسلوب القرآن ليس مما يفوق مدارك الناس ... وإن ما يخاطبون به ليس مما يجهلونه كما هو المتبادر. ومع ما فى هذا من حقيقة فقد تحداهم القرآن في مكة بالإتيان بمثله أو بعشر سور أو بسورة أو بحديث فعجزوا وسجل عليهم العجز على ما مرّ شرحه في سياق تفسير سور يونس وهود والإسراء والقصص والطور. ثم تحداهم القرآن بعد الهجرة في آيتي سورة البقرة [23- 24] فعجزوا وسجل عليهم العجز على ما شرحنا في سياق تفسيرهما. حيث ينطوي في ذلك تكذيب التبجح المذكور الذي فات قائليه إدراك كون القرآن ليس فقط كلاما ونظما وقصصا يسهل تقليده وإنما هو روحانية ومبادئ وصدق لهجة ودعوة وقوة إيمان وتلقين لا يمكن أن يكون صادرا من بشر وإنما هي وحي رباني فوق مقدرة البشر. [سورة الأنفال (8) : الآيات 32 الى 37] وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37) . (1) مكاء: صفير. (2) تصدية: تصفيق.

في الآيات: 1- حكاية بأسلوب تذكيري لما كان الكفار يقولونه على سبيل التحدي والاستهتار والسخرية حينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتلو عليهم القرآن ويقول لهم إنه وحي من الله تعالى. 2- ردّ على تحديهم وسخريتهم وجّه الخطاب فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتضمن تقرير ما يلي: 1- إن الله تعالى إذا لم يكن قد صبّ عليهم العذاب الذي تحدوه فإنما ذلك لأن النبي كان بينهم، كأنه يراد القول إن سنة الله جرت على أن ينزل الله عذابه على الكفار بعد خروج أنبيائه من بين ظهرانيهم. وهو ما قررته آيات كثيرة في السور المكية. 2- وإن الله لم يكن ليعذبهم أيضا وهم يستغفرون. 3- وإنهم مستحقون لعذاب الله بعد ما بدا منهم ما بدا من الكفر وبخاصة من الصدّ عن المسجد الحرام بدعوى أنهم أولياؤه وأصحابه في حين أنهم ليسوا كذلك في الحقيقة. لأن أولياءه هم الذين يتقون صاحبه الحقيقي أي الله ويخافونه ويقفون عند حدوده ولا يصدون عن سبيله ولو كان أكثرهم يجهل هذه الحقيقة أو يتجاهلها. ولا سيما أن صلاتهم التي يؤدونها عند البيت ويعتبرون أنفسهم أولياءه بسببها ليست إلّا صفيرا وتصفيقا وليس فيها خضوع وخشوع يدلان على أنهم مخلصون لربّ البيت فعلا. 4- وخطاب موجه إلى الكفار على سبيل التأنيب بعد ما وقع عليهم في بدر ما وقع مما اعتبر عذابا ربانيا: أن ذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون. كأنما أريد أن يقال لهم إن الله قد صدق وعده واستجاب لدعاء الكفار وتحديهم بالعذاب بعد أن أخرج النبي وأصحابه من بين أظهرهم. 5- وتقرير ينطوي على تقريع وإنذار وشماتة بما كان ويكون من الكفار.

تعليق على الآية وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم (32) وما بعدها إلى آخر الآية [37]

فهم ينفقون أموالهم ويؤلبون الناس للصدّ عن سبيل الله. وسيذهب ما ينفقون هباء. وسيكون عليهم حسرة. وسيغلبون في الدنيا. ثم يحشرون إلى جهنّم في الآخرة. ولقد اقتضت مشيئة الله أن يميز الخبيث من الطيب وأن يجتمع الخبيث بعضه إلى بعض وأن يلقى في جهنّم وأن يكون أصحابه هم الخاسرون في الدنيا والآخرة. تعليق على الآية وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) وما بعدها إلى آخر الآية [37] المصحف الذي اعتمدناه يذكر أن هذه الآيات أيضا عدا الأخيرة مكيات مثل الآيتين [30 و 31] وروى الطبري أن الآية [33] نزلت في مكة ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم فاستغفر لمن بقي فيها من المسلمين ثم خرج هؤلاء فعذب الله الكفار. وهناك حديث يرويه الشيخان عن أنس جاء فيه: «قال أبو جهل اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فنزلت وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ إلى جملة وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» «1» . هذا في حين أن أسلوب الآية الأولى من الآيات الخمس تذكيري مثل أسلوب الآيتين [31 و 32] اللتين رجحنا مدنيتهما لمشابهة أسلوبهما لأسلوب الآية [26] التي لا خلاف في مدنيتها. وفي الآية [36] أمر إنما كان منهم بعد الهجرة وهو الاستعداد للحرب والإنفاق في سبيلها. وجملة فَذُوقُوا الْعَذابَ في الآية [35] هي على الأرجح إن لم نقل الأحسم في صدد ما وقع عليهم في بدر. ولهذا كله لا يمكن التسليم بمكية الآيات

_ (1) التاج، ج 4 ص 109.

بل يمكن الجزم بمدنيتها. ونميل إلى القول إن في الحديث لبسا حيث يتبادر أنه لما نزلت الآية الأولى ذكر اسم الشخص الذي حكت قوله فصار وهم أن الآيات نزلت حين قال هذا الشخص ما قال مع أن الآية التي حكت قوله جاءت بأسلوب تذكيري كما قلنا آنفا. ولقد روى الطبري أن الآية [36] نزلت في أبي سفيان وغيره ممن وتروا في بدر حيث أخذوا يبذلون جهودهم ويجمعون الأموال وينفقونها في سبيل تحشيد الناس وتحريضهم على الحرب لأخذ الثأر من النبي والمسلمين بعد هزيمتهم في بدر. والرواية محتملة جدا وفيها دليل آخر على أن الآية وما قبلها مدنيات أيضا. والذي يتبادر لنا على ضوء ما تقدم وعلى ضوء فحوى الآيات والسياق أن هذه الآيات جاءت لتذكر بما كان من تحدي كفار قريش واستعجالهم لعذاب الله على سبيل السخرية ولتبرر عدم إيقاع الله عذابه عليهم قبل هجرة النبي والمؤمنين وإيقاعه العذاب عليهم بعد الهجرة ولتذكرهم بذلك ولتنذرهم بهزائم أخرى بسبب استمرارهم في مواقف الصدّ وتحشيدهم للحرب وبذلهم الأموال في سبيل الله وما سوف يكون من حسرتهم ثم بالعذاب الأخروي الشديد، والله تعالى أعلم. والخازن يروي أن جملة وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ نزلت في ظروف وقعة الحديبية لأن كفار قريش منعوا رسول الله وأصحابه من زيارة الكعبة أو أنها تشير إلى ذلك. وهذا غريب. ومقام ورود الآيات وبعد الزمن والمناسبة وبين وقعة بدر ووقعة الحديبية يسوغ التوقف في هذه الرواية والترجيح بأنها قصدت التذكير بما كان من كفار قريش من منع المسلمين وبخاصة ضعفاءهم من الصلاة عند الكعبة في العهد المكي مما وردت الإشارة إليه في آيات سورة الحجج [25- 28] على ما شرحناه في سياق تفسيرها ومما روته روايات أيضا، ومما أريد به كذلك تبرير ما وقع على المشركين من عذاب يوم بدر. ولقد تعددت التأويلات التي يرويها ويقولها المفسرون لجملة وَما

كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) منها أن الله كما أنه لم يشأ أن يعذبهم والنبي بين ظهرانيهم لم يشأ أن يعذبهم وبعض المسلمين ما زالوا بين ظهرانيهم وكانوا يستغفرون الله فلما خرج هؤلاء عذبهم. ومنها أن القصد من ذلك ما كان يصدر من الكفار من كلمات الاستغفار مثل غفرانك اللهمّ حيث كانوا يعتقدون أن الله هو الغفار الحقيقي لأنه هو الخالق القادر المدبر. ومنها أن الله لم يكن ليعذبهم لو استغفروه عما بدا منهم وتابوا وأنابوا. ولعل التأويل الأخير هو الأوجه المتسق مع مقاصد الآيات والوقائع. فالمشركون ظلوا يقولون بطبيعة الحال غفرانك اللهمّ، ولكن الله عذبهم بسبب استمرارهم على الصد عن المسجد الحرام وهو ما انطوى في الآية [34] وليس في الآيات قرينة تبرر صرف الضمير في جملة يَسْتَغْفِرُونَ إلى المسلمين الذين بقوا في مكة. والنظم يقتضي أن تكون الجملة حكاية عن الكفار. هذا، والآيات قوية محكمة مفحمة في تقريعها وإنذارها وتقريراتها وبخاصة بمجيئها عقب وقعة بدر التي نال الكفار فيها ما نالهم من خسارة وهوان. ومع ذلك فإن من الحق أن نقول إنها من قبيل تسجيل واقع أمر الكفار ومواقفهم حين نزولها. ولقد آمن جميع من بقي حيّا منهم تقريبا عقب الفتح المكي وحسن إسلامه وسجل الله رضاءه عنهم ورضاءهم عنه. فيكون ما فيها إنذارا وتقريرا في صدد العذاب الأخروي قائما بالنسبة للذين ماتوا وهم كفار منهم. وجملة وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً تدل على كل حال على أن المشركين كانوا يؤدون عند الكعبة طقوسا يسمونها صلاة وإن لم يرد بيان وثيق يزيد الأمر وضوحا. ولقد أورد ابن كثير وغيره في سياق الآية [33] أحاديث عديدة، منها حديث رواه الترمذي عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنزل الله عليّ أمانين لأمتي وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) إذا

[سورة الأنفال (8) : الآيات 38 إلى 40]

مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة» «1» . ويفيد الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في الآية منطلقا عاما للمسلمين أيضا بقطع النظر عن كونها في صدد المشركين. ومنها حديث عزاه ابن كثير إلى الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العبد آمن من عذاب الله ما استغفر الله عزّ وجلّ» . وفي هذا الحديث دعم لما قلناه من اعتبار النبي صلى الله عليه وسلم الآية منطلقا عاما للمسلمين والله أعلم. والتطمين والتبشير من الحكمة الملموحة في الأحاديث. وفي القرآن آيات كثيرة بالأمر بالاستغفار. وقد علقنا على ذلك وأوردنا طائفة من الأحاديث في سياق تفسير سورة المزمل فنكتفي بهذا التنبيه. [سورة الأنفال (8) : الآيات 38 الى 40] قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) . تعليق على الآية قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) والآيتين التاليتين لها عبارة الآيات واضحة ولا يروي المفسرون رواية خاصة بنزولها والمتبادر أنها متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا ومعقبة على نتائج نصر المسلمين في وقعة بدر كما هو المتبادر. وفيها إشعار بما أثاره هذا النصر في المسلمين من عزة وقوة. وفيها مع ذلك دعوة فيها تسامح وتسام، حيث يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة كفار قريش بعد أن انتصر عليهم إلى الانتهاء من موقف العناد والعداء والجحود فيغفر الله لهم كل ما سلف منهم، ويوكل أمرهم إلى الله العليم البصير في أمورهم ومقاصدهم ثم

_ (1) التاج، ج 4 ص 109.

فيها إيعاز للمؤمنين فإن الكفار إذا أبوا إلا الاستمرار على ذلك الموقف الباغي فعليهم قتالهم باستمرار إلى أن لا يكون في الأرض فتنة ويكون الدين كله لله وليعلموا أن الله مولاهم وناصرهم عليهم وهو نعم المولى ونعم النصير. وفي أسلوب الإنذار والإعلان والدعوة تلقين قرآني جليل رائع ومستمر المدى: فكل ما ينبغي أن يطلبه المسلمون من أعدائهم الذين يقاتلونهم حينما يقابلونهم بالمثل أن يرعووا عن غيّهم وبغيهم وأن يسيروا في طريق الحق الذي فيه خيرهم ومصلحتهم فإذا فعلوا هذا سقط عنهم كل إثم ارتكبوه وصاروا من المسلمين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم. وفي إحدى آيات سورة التوبة يأتي هذا المعنى أصرح حيث جاء فيها: فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) . ولقد قال المفسرون في صدد الآيات [38- 40] وفي صدد كلمة (الفتنة) بعض ما قالوه في صدد آيات البقرة [191- 193] التي تكاد تكون تكرارا لها، ولقد علقنا على آيات البقرة بما فيه الكفاية فلا نرى حاجة إلى التكرار والزيادة. ومن الجدير بالتنبيه أن الآية قد أمرت النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بما أمرتهم به بعد أن انتصروا على الكفار حيث ينطوي في هذا بالإضافة إلى ما قلناه من تسامح وتسام اتساق مع الهدف الجوهري القرآني وهو حملهم على الارعواء والاهتداء بنور الله والسير في طريق الحقّ الذي هو مصلحتهم. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثين وصفهما بالصحيح جاء في أحدهما: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر» وجاء في ثانيهما: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام يجبّ ما قبله والتوبة تجبّ ما قبلها» . والحديث الأول من مرويات مسلم «1» . وفي الحديثين تساوق مع التلقين القرآني كما هو المتبادر.

_ (1) انظر التاج، ج 4 ص 110.

[سورة الأنفال (8) : آية 41]

[سورة الأنفال (8) : آية 41] وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) . (1) يوم الفرقان: المقصود هنا يوم النصر الذي يسّره الله للمؤمنين ففرّق بذلك بين أصحاب الحقّ وأصحاب الباطل. شرح الآية وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ... وما ورد في صددها من تأويلات وأحاديث وتعليقات عليها في الآية إعلام للمسلمين على سبيل التشريع، فإن أي شيء غنموه فإن خمسه لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. وتوكيد عليهم بالوقوف عند هذا الأمر إذا كانوا قد آمنوا بما أنزل الله على نبيه من النصر يوم التحام المعركة بينهم وبين الكفار. وهو يوم الفرقان الذي فرّق الله به بين الحق والباطل ونصر الحق وأزهق الباطل. وتخصيص التشريع بالخمس يؤكد كما قلنا الرواية المروية عن مجاهد التي أوردناها في سياق شرح الآيات الأولى من السورة من كون الخلاف والاعتراض كان على إفراز الخمس من الغنائم، فنزلت هذه الآية التشريعية بأسلوبها القوي لإقرار ذلك. ومع أن الغنائم التي وقع عليها الخلاف واقتضت حكمة التنزيل إنزال هذا التشريع فيها هي غنائم بدر، فإن أسلوب التشريع جاء مطلقا ليكون خمس كل غنيمة يغتنمها المسلمون للجهات التي ذكرها التشريع حكما شرعيا مستمرا.

وهذا الحكم ذو خطورة عظمى من ناحية كونه أول تشريع قرآني مالي ورسمي محدد يستولي بموجبه السلطان الإسلامي الذي كان يتمثل حين نزوله في شخص النبي صلى الله عليه وسلم وينفقه على المصالح الإسلامية التي تتمثل حسب نص التشريع في الله ورسوله وذي القربى «1» . وعلى الطبقات المعوزة التي تتمثّل في اليتامى والمساكين وابن السبيل. وهكذا جعل التشريع القرآني مساعدة الطبقات المعوزة أساسية في نظام الدولة الإسلامية المالي كما هو واضح، فكانت الشريعة الإسلامية في ذلك أسبق الشرائع إلى تقرير هذا الأمر على الوجه والشمول والصراحة الذي جاء عليه. ولقد نبهنا على ما لهذا الأمر من خطورة في بيان المجتمع الإسلامية وصلاحه وأمنه وما انطوى فيه من حكمة ربانية في تعليقنا على الزكاة في تفسير سورة المزمل فنكتفي بهذا التنبيه. وقد وصفنا تشريع الخمس بالأولية لأن مصارف الزكاة لم تكن قد حددت بعد تحديدا قرآنيا لأن هذا التحديد إنما ورد في آية سورة التوبة هذه إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) وسورة التوبة مما نزل في أواخر عهد رسول الله. وإن كان هذا لا ينفي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يوزع الزكاة- وهي الصدقات- التي كان يأخذها من الذين عليهم الحق على المصارف المذكورة في الآية. وفي كتب التفسير أحاديث وروايات عديدة ومتنوعة في فحوى الآية التشريعي: أولا: إن المستفاد منها أن الجمهور من أهل السنة يؤولون الغنيمة بما يدخل في حوزة المسلمين من عدوهم من غنائم متنوعة نتيجة لحرب وقتال. أما ما يدخل

_ (1) سلكنا (ذي القربى) في هذا السلك لأن التخصيص انتهى بنا إلى ترجيح كون (ذي القربى) هو الذي يقدم خدمة للإسلام والمسلمين على ما سوف يأتي شرحه بعد قليل. [.....]

في حوزتهم من عدوهم بدون حرب وقتال فهو الفيء الذي ورد فيه تشريع خاص في سورة الحشر التي يأتي تفسيرها في هذا الجزء. ولقد روى الطبري عن قتادة أن هذه الآية نسخت تشريع سورة الحشر. وفنّد هذا القول. وهو حق وصواب، وقد يمكن أن يزاد إلى هذا أن سورة الحشر نزلت في صدد غنائم بني النضير التي كانت بعد وقعة بدر حيث يبدو قول النسخ غريبا. وقد قيدنا الكلام لصفة الغنيمة بأنه مذهب جمهور أهل السنّة لأن من الشيعة من يذهب إلى أن الغنيمة هي كل فائدة وعائدة للمسلمين من تجارة وكنوز فضلا عما يأخذونه من أعدائهم بالحرب ويوجب على كل ذلك الخمس استنادا على ما يبدو إلى إطلاق التعبير في جملة وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ والتعبير وإن كان مطلقا حقا وكلمة الغنيمة وإن كانت تفيد لغة ما لغنيمة المرء مطلقا فإن من اليقين أن التشريع في صدد غنائم حرب بدر ثم صار عاما لغنائم الحرب. وهناك أحاديث صحيحة تحصر الغنائم بغنائم الحرب على ما سوف نورده بعد قليل ولم ترو رواية عن رسول الله وأصحابه فيما اطلعنا عليه بل وتابعيهم غير ذلك عن غير طرق شيعية مما يجعل قول جمهور أهل السنّة هو الوجه الحق. وقد يخطر للبال أن رؤساء الشيعة وأئمتهم قد توسعوا في الأمر لتوفير أكبر جباية ممكنة من مختلف ما يكسبه أتباعهم في الظروف التي كانوا شديدي النشاط فيها في سبيل دعوتهم ودعايتهم ومنافسة خصومهم الأمويين أولا والعباسيين بعدهم والحلول محلهم في السلطان. وقد وصل الأمر في هذا إلى أن يسجلوا حديثا عن علي بن الحسين رضي الله عنهما أنه قال إن جميع خمس الغنائم لأقارب رسول الله وأنه لما قيل له إن الله يقول: وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ قال: هم أيتامنا ومساكيننا» «1» .

_ (1) انظر تفسير ابن كثير.

وثانيا: يلحظ أن الآية لا تذكر إلّا الخمس، أما الأخماس الأربعة الأخرى فالمأثورات المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم قد بينت ذلك حيث كانت توزع على الذين يشهدون ويشتركون في الحرب والقتال. ومن ذلك حديث رواه أبو العالية الرباحي جاء فيه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالغنيمة فيخمسها على خمسة، أربعة منها لمن يشهدها ثم يأخذ الخمس» «1» . وحديث آخر رواه البيهقي بإسناد صحيح جاء فيه: «إن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب رجلا سأله عن الغنيمة، فقال: لله خمسها، وأربعة أخماسها للجيش. فقال له السائل: فما أحد أولى به من أحد؟ قال: لا، ولا السهم تستخرجه من جيبك لست أحق به من أخيك المسلم» «2» وحديث رواه أبو داود والنسائي عن عمرو بن عبسة قال: «صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعير من المغنم ولما سلّم أخذ وبرة من جنب البعير ثم قال: ولا يحلّ لي من غنائمكم مثل هذا إلّا الخمس والخمس مردود فيكم» «3» . وحديث رواه الأربعة عن ابن عمر قال: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم في النفل للفرس سهمين وللرجل سهما، وفي رواية (أسهم لرجل وفرسه ثلاثة أسهم سهما له وسهمين لفرسه) » «4» . وهناك رواية يرويها الإمامان أبو عبيد وأبو يوسف في كتابيهما «الأموال والخراج» تفيد أن النبي كان يقسم للفرس سهما وللرجل سهما. ومما رواه المفسرون أن جميع النفل كان يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيخرج الخمس منه يرضخ لمن لا سهم له ممن يكونون شهدوا المعركة من النساء والعبيد والصبيان ولمن شاءت حكمته أن يرضخ له من ذوي البلاء المتميز ثم يقسم الباقي سهاما على المجاهدين حسب النسبة المذكورة التي اختلفت رواياتها بين ثلاثة أسهم للفارس وفرسه وسهم للراجل وبين سهمين للفارس وفرسه وسهم للراجل. والأحاديث

_ (1) أورد الحديثين ابن كثير. (2) انظر المصدر نفسه. (3) التاج، ج 4 ص 337. (4) المصدر نفسه.

تفيد أن الغنائم كانت تسلّم جميعها لرسول الله فيأخذ الخمس ويرضخ ما يرضخ ثم يقسم الباقي. وهذا يفيد أن هذه المهمة تكون منوطة بولي أمر المسلمين بعد النبي صلى الله عليه وسلم. ولقد روت الروايات الكثيرة أن قواد الفتح بعد النبي كانوا يفرزون الخمس فيرسلونه إلى الخليفة ويقسمون الباقي على المجاهدين، والراجح أنهم كانوا يفعلون ذلك بتفويض من الخليفة ... ومع ذلك فليس في عملهم شذوذ عن روح التشريع القرآني والنبوي. ولقد كان المسلمون في زمن النبي والخلفاء الراشدين يتجهزون ويتمونون للجهاد من أموالهم الخاصة. والمتبادر أن حكمة توزيع الأخماس الأربعة عليهم متصلة بذلك عدا ما يخولهم ذلك إقدامهم على الجهاد والتضحية. وقد يرد في المال تجاه ما أخذ يجري في القرون المتأخرة واليوم من التزام بيت المال بتجهيز المحاربين سلاحا ومؤونة وحمولة ونفقة ومرتبات ما إذا يصح أن يكون الأمر موضع نظر واجتهاد تبعا للقاعدة الشرعية بتغير الأحكام بتغير الأزمان. وقد أخذ حكام الدول الإسلامية يجرون على الاستيلاء على جميع الغنائم لبيت المال بناء على ذلك على ما هو المتبادر. وقد يكون الوارد والعمل في محله. وقد يكون التلقين المنطوي في آية الفيء في سورة الحشر التي جعلت جميع الفيء لبيت المال دون المسلمين لأنهم لم يوجفوا بخيل ولا ركاب مما يمكن أن يورد في سبيل تدعيم ذلك. والله تعالى أعلم. ثالثا: هناك من قال إن عدد مصارف خمس الغنائم خمسة. وهي رسول الله وذو القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. وإن ذكر الله للتشريف. وهناك من روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفرز سهما للكعبة ويقول هذا سهم الله وينفقه على شؤونها، وليس هناك حديث نبوي وثيق وصريح. وفي مصارف الزكاة ذكر سَبِيلِ اللَّهِ من مصارف الزكاة كما جاء في آية سورة التوبة هذه إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ [60] والمتبادر أن كلمة اللَّهُ في آية الأنفال

وكلمة سَبِيلِ اللَّهِ في آية التوبة في معنى وهدف واحد حيث أرادت حكمة التنزيل أن ينفق من خمس الغنائم على شؤون الدين وسبيل الله والدعوة والجهاد إلخ فذكرت كلمة اللَّهُ هنا في مقام كلمة سَبِيلِ اللَّهِ في آية التوبة. وهكذا تكون سهام أو عدد مصارف خمس الغنائم ستة. رابعا: هناك من روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ سهما من الخمس فينفق منه ما هو في حاجة إليه ويضع الباقي حيث شاء. وهناك من روى أن رسول الله كان يعطي أقاربه ما بقي من سهمه. وليس من تعارض بين الروايتين. وتعددت الروايات في هذا السهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم منها أنه صار لخليفته ومنها أنه من حق أقاربه ومنها أن أبا بكر ردّه إلى بيت المال ومنها أنه جعله لشراء الكراع والسلاح وأن هذا تم بعد تشاور بينه وبين كبار أصحاب رسول الله وأن هذا هو الذي جرى الأمر عليه بعد أبي بكر. والمستفاد من ما أورده جمهور المفسرين من أهل السنة من روايات وأقوال أن سهم رسول الله ينفق على سبيل الله. ولقد اتفق أصحاب رسول الله على تخصيص نفقة لخليفته الأول وصار الخلفاء يأخذون نفقة من بيت المال، ولم يكن شيء من ذلك للنبي في حياته. فلم يكن من محل لتحويل سهم رسول الله لخليفته. والشيعة يذهبون إلى أن هذا السهم إرث يستحقه ورثة النبي صلى الله عليه وسلم أو أبناء ابنته فاطمة رضي الله عنهم بخاصة. وهناك أحاديث معتبرة عند أهل السنة تتضمن دلائل قوية ضد هذا المذهب. والأحاديث تورد في صدد سهم رسول الله في الفيء الذي خصص جميعه لما خصص له خمس الغنائم ولكن دلالتها شاملة لسهم رسول الله في حياته وبعد وفاته كما هو المتبادر القوي منها. منها حديث رواه الخمسة عن عمر قال: «كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت للنبي خاصة ينفق على أهله منه وما بقي يجعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله» «1» . ومنها حديث رواه أبو داود عن

_ (1) التاج، ج 4 ص 340 و 341، الراجح أن القصد هو سهم رسول الله من الفيء لأن مصارف الفيء هي (الله ورسوله وذو القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) .

عمر قال: «كانت لرسول الله ثلاث صفايا بنو النضير وخبير وفدك. فأما بنو النضير فكانت حبسا لنوائبه، وأما فدك فكان حبسا لأبناء السبيل، وأما خيبر فجزأها رسول الله ثلاثة أجزاء جزئين بين المسلمين وجزءا لنفقة أهله فما فضل منهم جعله بين فقراء المسلمين» «1» . ومنها حديث رواه الأربعة عن عائشة قالت: «إن فاطمة بعد وفاة النبي سألت أبا بكر ميراثها ممّا ترك رسول الله ممّا أفاء الله عليه فقال لها إنّ رسول الله قال لا نورث ما تركناه صدقة، ولست تاركا شيئا كان النبيّ يعمل به إلّا عملت به إني أخشى إن تركت شيئا أن أزيغ، وكانت فاطمة تسأل ميراثها عن النبي صلى الله عليه وسلم من صدقته بالمدينة ومن خيبر ومن فدك فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى عليّ وعباس فغلبه عليها علي. وأما خيبر وفدك فأمسكهما عمر وقال هما صدقة النبي كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه. وأمرهما إلى من ولي الأمر، فهما على ذلك إلى اليوم» «2» . وهناك حديث آخر عن عائشة فيه شيء من هذا الحديث مع بعض فروق. ويظهر أنها قالته في مجلس آخر ونصّه: «إن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله يطلبان أرضهما من فدك وسهمهما من خيبر» . فقال لهما أبو بكر سمعت رسول الله يقول لا نورث ما تركنا صدقة. إنما يأكل آل محمد من هذا المال. والله لا أدع أمرا رأيت رسول الله يصنعه إلّا صنعته. قال فهجرته فاطمة فلم تكلّمه حتى ماتت. وفي رواية: «لا يقتسم ورثتي دينارا مما تركت بعد نفقة نسائي ومؤونة عاملي فهو صدقة» «3» . وهناك حديث يرويه الطبري والبغوي في سياق تفسير آيات سورة الحشر في الفيء جاء فيه: «إن عمر بن الخطاب عهد بسهم

_ (1) التاج، ج 4 ص 340- 341، والمتبادر أن المقصود في الأحاديث هو سهم رسول الله وليس كل صدقة المدينة وخيبر وفدك فإن الفيء قد جعل الله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. (2) انظر المصدر نفسه. (3) التاج، ج 2 ص 240، وهذا الحديث مروي من الأربعة عن أبي هريرة أيضا انظر التاج ج 2 ص 341.

رسول الله في الفيء إلى العباس وعليّ رضي الله عنهما بعد أن أخذ عليهما عهدا بأن يجعلاه لجعل مال الله كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ثم أبو بكر من بعده ثم هو في السنتين الأوليين من عهده وقد اختلفا واختصما وراجعاه ليقضي بينهما فقال لهما اتئدوا. أنشدكم الله هل تعلمون أن رسول الله قال لا نورث، ما تركنا صدقة. قالوا قد قال رسول الله ذلك. فأقبل عليهما وقال إني أحدثكم عن هذا الأمر، إن الله قد خصّ رسوله في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحدا غيره. وكانت خالصة لرسول الله، والله ما احتازها دونكم ولا استأثرها عليكم فقد أعطاكموها وبثّها فيكم حتى بقي منها هذا المال، فكان رسول الله ينفق على أهله نفقة سنتهم منه ثم يأخذ ما بقي فيجعله مال الله ثم توفي، فقال أبو بكر أنا ولي رسول الله فقبضها فعمل فيها بما عمل به فيما رسول الله. وأنتما حينئذ جميع. والله يعلم إنه في ما فعل صادق بارّ راشد تابع للحق. ثم توفي أبو بكر فقلت أنا وليّ رسول الله وأبي بكر فقبضتها سنتين من إمارتي أعمل فيها بما عمل رسول الله وأبو بكر. والله يعلم إني فيه صادق بارّ راشد تابع للحق. ثم جئتماني كلا كما فقلت إنكما تعلمان أن رسول الله قال لا نورث نحن الأنبياء ما تركناه صدقة. فإن شئتما دفعته إليكما على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيها بما عمل به رسول الله وأبو بكر وما عملت منذ وليت. وإلّا فلا تكلماني فيها، فقلتما ادفعها إلينا بذلك فدفعتها إليكما ... أفتلتمسان قضاء غير ذلك. فو الله الذي تقوم السماء والأرض بإذنه لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة فإن عجزتما عنها فادفعاها إليّ فإني أكفيكماها» . وفي هذا الحديث توضيح لنقطة مبهمة في حديث عائشة الأول الذي رواه الأربعة وهي تسليم عمر عليا وعباسا رضي الله عنهم جميعا صدقة النبي في المدينة فالحديث يوضح أن هذا بمثابة تولية من عمر لعلي والعباس لإنفاق الصدقة على النحو الذي كان يفعله النبي وأبو بكر من بعده وليس على سبيل كونها إرثا لهما وحقا شخصيا. والطبري والبغوي من أئمة الحديث والراجح أنهما تثبتا منه «1» .

_ (1) انظر تفسير آيات الفيء في سورة الحشر في كتابي تفسيرهما.

وواضح من كل ما تقدم أن سهم رسول الله قد ردّ بعده إلى بيت المال ولولاية خلفائه لإنفاقه على سبيل الله وصالح المسلمين وفقرائهم، وهذا هو ما عليه جمهور أهل السنّة، وهو ما نراه الأوجه الحق، والمتسق مع روح الحديث النبوي المروي من طرق عديدة بأنه لا يورث وما تركه صدقة. وكل ما يمكن أن يكون أن اجتهادا اجتهده العباس وعلي وفاطمة رضي الله عنهم في أن لهم حقا في إرث سهم رسول الله فلما بان لهم الحق وقفوا عنده، والله تعالى أعلم. وخامسا: هناك روايات في سهم وَلِذِي الْقُرْبى منها أنه لقريش لأن جميعهم أقارب لرسول الله. ومنها أنه لأقارب رسول الله الأدنين بني هاشم أو بني هاشم وبني المطلب. وعلل الذين قالوا ذلك إن الصدقات كانت محرمة على آل محمد استنادا إلى أحاديث مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم منها حديث رواه مسلم والنسائي عن عبد الله بن الحارث عن رسول الله قال: «إن هذه الصدقات من أوساخ الناس وإنها لا تحلّ لمحمد ولا لآل محمد» «1» ، ومنها حديث رواه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة قال: «أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال النبيّ: كخ كخ، ليطرحها. ثم قال: أما شعرت أنّا لا نأكل الصدقة، وفي رواية: أما عملت أنّا لا تحل لنا الصدقة» «2» ولذلك اقتضت حكمة الله أن يجعل سهما من خمس الغنائم لأقاربه الأدنين كما قالوا. وروي في صدد تأييد كون وَلِذِي الْقُرْبى هم أقارب رسول الله الأدنين حديثان رواهما البخاري وأبو داود عن جبير بن مطعم جاء في أحدهما: «مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى النبي، فقلنا: يا رسول الله أعطيت بني عبد المطلب وتركتنا ونحن وهم منك بمنزلة واحدة، فقال: إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد» «3» . وجاء في ثانيهما: «لم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل، قال ابن إسحق وعبد شمس وهاشم والمطلب أخوة لأم وأمهم عاتكة بنت مرة. وكان نوفل أخاهم لأبيهم، ومن الروايات رواية عن

_ (1) التاج، ج 2 ص 30 و 31. (2) المصدر نفسه. (3) التاج، ج 4 ص 139.

المنهال قال: «سألت عبد الله بن محمد بن علي وعلي بن الحسين عن الخمس فقالا هو لنا فقلت لعلي إن الله يقول واليتامى والمساكين وابن السبيل قال يتامانا ومساكيننا» حيث يعني هذا أن جميع خمس الغنائم وليس خمسه لأقارب رسول الله الأدنين وذريتهم من بعده. ومن الروايات أن عليا طلب من النبي أن يدفع له سهم ذي القربى ليقسمه في بني هاشم حتى لا يزعجهم عنه أحد بعده، ففعل ثم ولّاه إياه أبو بكر ثم عمر ثم عزله عنه ثم أراد أن يرجعه إليه فقال له ما بنا إليه حاجة. والمسلمون لهم حاجة إليه فقال له العباس إنك حرمتنا شيئا لا يرد علينا أبدا إلى يوم القيامة» «1» . ومن الروايات أن سهم ذي القربى كان رسول الله يضعه حسب ما يرى. وصار بعد موته هو وسهم رسول الله لولي الأمر يضعهما حسب ما يرى أو ينفقهما في معونة الإسلام وأهله وأن هذا كان نتيجة تشاور بين أصحاب رسول الله وجرى عليه عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. وقد روى الإمام أبو عبيد عن عبد الله بن المبارك عن محمد بن إسحق قال: «سألت أبا جعفر محمد بن علي فقلت كيف صنع علي في سهم ذي القربى حين ولي الناس؟ قال: سلك به سبيل أبى بكر وعمر» . وباستثناء الحديثين اللذين يرويهما البخاري وأبو داود عن جبير بن مطعم ليس شيء من الروايات واردا في كتب الصحاح وليس في الحديثين صراحة أن الذي أعطاه النبي لبني هاشم وبني عبد المطلب هو سهم ذي القربى. وكل ما يفيده أنه أعطاهم شيئا من الغنائم أو الفيء. وعلى كل حال ليس هناك رواية وثيقة السند صريحة النصّ بأن سهما من خمس الغنائم كان يوزع على أقارب رسول الله أو بني هاشم في زمن النبي وخلفائه الراشدين الأربعة. ومعظم الأقوال تذكر أن الخلفاء جعلوا هذا السهم مع سهم رسول الله في بيت المال لينفق على السلاح ومعونة الإسلام وأهله. ونحن نعرف أن الشيعة يطعنون في أبي بكر وعمر وعثمان وسائر أصحاب رسول الله الذين

_ (1) هذه الرواية رواها الإمام أبو يوسف في كتاب «الخراج» . [.....]

سكتوا على ما كان من أبي بكر وعمر وعثمان من عدم إعطاء فاطمة سهم رسول الله إرثا عن أبيها، ومن عدم إعطاء سهم ذي القربى لأقارب رسول الله الأدنين. وينكرون أن يكون عليّ سلك مسلكهم. وفي كلامهم على أي حال اعتراف بما جرى عليه الخلفاء الثلاثة على الأقل على ملأ من جمهور أصحاب رسول الله وبخاصة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وإقرارهم، والمؤمن الحق الذي يعرف الخلفاء الثلاثة هم ممن مات النبي وهو راض عنهم وممن سجل الله رضاءه عنهم في آية سورة التوبة [100] لا يمكن أن يسلم بأنهم فعلوا غير ما عرفوا أنه الحق الموافق لسنة رسول الله وإلهام كتابه. ولا يجوز لمؤمن مخلص أن يقول أو يظن أن جمهرة أصحاب رسول الله وبخاصة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين سجل رسول الله رضاءه عنهم وهم مئات يمكن أن يتواطأوا على صرف هذا الحق عنهم لو كان لهم بنص القرآني أو حديث نبوي. وجملة «إنما يأكل آل محمد من هذا المال» الواردة في الحديث الذي يرويه الخمسة يقوي ذلك. فلو كان لآل محمد سهم في خمس الغنائم أو في الفيء لما كان من حكمة لهذا القول. ولقد روى المفسرون أن الخلفاء الراشدين جعلوا أقارب رسول الله مثل سائر المسلمين فكان الذي يشهد المعركة منهم يأخذ نصيبا من الغنائم أسوة بمن شهدها، وحين رتبت المرتبات من بيت المال في زمن عمر رتبت لهم وفقا للمراتب التي رتبت عليها وجعل لهم أو لبعضهم ميزة القربى لرسول الله «1» . وكان يعطى لفقرائهم من بيت المال أسوة بفقراء المسلمين واستمر ذلك في زمن عثمان وعلي رضي الله عنهما ثمّ في زمن الدولة الأموية ثم في نحو الخمسين سنة الأولى من زمن الدولة العباسية أيضا وفي هذا دليل آخر. ولقد روي أن هذا الحق أقر ووزع لأقارب رسول الله في زمن المأمون سابع الخلفاء العباسيين. ولكن ليس هناك ما يفيد أن ذلك ظلّ معمولا به في هذه الدولة وما بعدها والله أعلم.

_ (1) انظر هذه النقطة في تاريخ عمر بن الخطاب للجوزي ص 108 وما بعدها، بالإضافة إلى كتب التفسير.

ويتبادر أنه لو صحّ قول القائلين بأن جملة لِذِي الْقُرْبى من رسول الله تعني سهما لأقارب رسول الله متيقنين من قولهم هذا لما بدا حكمة وسبب لمطالبة أقارب رسول الله من إرث سهم رسول الله في الفيء والغنائم لأن حق أقارب رسول الله يكون قد توطد بأقاربه بكلمة لِذِي الْقُرْبى والله أعلم. ويروي بعض مفسري الشيعة (الطبرسي والطوسي) مثلا أن جملة وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ في آية سورة الإسراء هذه وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) ، وفي آية سورة الروم هذه: فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) هي قصدت أقارب رسول الله في الفيء والغنائم، والآيتان في سورتين مكيتين ويروي القائلون أن الآيتين أو إحداهما مدنيتان لتبرير قولهما لأن تشريع الفيء والغنائم مدني وليس لما رأوه سند وثيق. والآيتان منسجمتان في سياق الآيات المكية قبلهما وبعدهما كل الانسجام وآية سورة الإسراء في سلسلة طويلة فيها وصايا وأوامر وتحذيرات وبعد الآية الواردة في سورة الروم آية من شاكلتها وهي: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) . وأسلوب الآيتين مثل أسلوب الآيات المكية التي قبلهما وبعدهما حثّ وتحذير وهو أسلوب مكي. ويتبادر لنا والله أعلم أنها بسبيل الحثّ على إعطاء الأقارب المستضعفين حقهم في الميراث حيث كان الأقوياء من رجال الأسر يأكلون حقوق النساء واليتامى والمستضعفين في الميراث أو يجحفون فيه. وفي سورة النساء آية تشير إلى ذلك بصراحة وهي: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127) والله أعلم.

ولقد أوّل بعضهم جملة لِذِي الْقُرْبى بذي العمل الذي فيه قربى إلى الله وفيه خدمة لمصالح الإسلام والمسلمين. وما دام أنه لم يثبت بنصّ صريح وصحيح أن النبي وخلفاءه أعطوا سهم ذي القربى لفئة ما من الأقارب وأثر عنهم أنهم كانوا يجعلونه في معونة الإسلام وأهله والكراع والسلاح مع سهم رسول الله بعده فنحن نرى هذا التأويل وجيها ومتسقا مع ذلك بحيث يصح القول إن حكمة الله شاءت التنبيه على وجوب مكافأة ذي الجهد والخدمة النافعة للإسلام والمسلمين ويصح القول بالتالي أن هذا السهم هو لمصلحة الإسلام والمسلمين العامة. وقد يكون مقابلا أو شبيها بسهم المؤلفة قلوبهم المذكورين في مصارف الزكاة في آية سورة التوبة [60] والتوجيه القرآني في تخصيص مكافأة لهذه الفئة مع احتمال كونها غنيّة تعليل مستمر المدى إذا صحّ ما صح التأويل الذي قد يؤيده ورود (ذي القربى) في صيغة المفرد. فلو كان المقصود أقارب رسول الله الذين كانوا في حياته وذرياتهم من بعده لا قتضى والله أعلم أن يأتي بصيغة الجمع حتى يكون شاملا. ولقد استعمل القرآن اشتقاق (قرب) في معان قريبة لهذا التأويل كما جاء في آية سورة التوبة هذه وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ [99] وآية سبأ هذه وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى [37] وآية الزمر هذه وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [3] ما يمكن أن يستأنس به على وجاهة هذا التأويل. وقد يؤيده أيضا أن معظم أقارب رسول الله حين نزول آية الأنفال ثم آية الحشر السادسة اللتين فيهما تشريع الغنائم والفيء واللتين ذكر فيهما جملة لِذِي الْقُرْبى كانوا غير مسلمين في مكة، ومنهم من شهد وقعة إلى جانب الكفار. وممن ذكرت الروايات أسماءهم من أسراهم (العباس بن عبد المطلب عمّ النبي وعقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحرث بن عبد المطلب وأبو عزيز بن عمير بن هاشم والسائب بن عبيد بن هاشم ونعمان بن عمرو بن عبد المطلب، وولدان من أولاد أخي العباس لم يذكر اسماهما. وقد روي أن أبا لهب عمّ

النبي أرسل بديلا عنه وأنه مات جزعا حينما علم بالكسرة التي حلّت في قريش «1» . وقد يقول الشيعة إن عليا وفاطمة رضي الله عنهما كانا مع النبي بالإضافة إلى حمزة عمه الذي شهد بدرا وجعفر ابن عمه الذي كان مهاجرا في الحبشة حين نزول آيات الأنفال وهذا صحيح. ولكنّا لا نسلم أن جملة لِذِي الْقُرْبى في سورة الأنفال نزلت لتعنيهم حين نزولها على ضوء ما تقدم من أحاديث نبوية وصحابية وفهم وتطبيق خلفاء رسول الله الأربعة على ملأ وإقرار من كبار أصحاب رسول الله من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. وإنه ليتبادر لنا أن موقف الشيعة متصل بما كان من منافسات ومنازعات في صدر الإسلام وبخاصة بين الهاشميين والأمويين. ولعلّ مما يحسن أن يقال في هذا المقام إن تخصيص سهم لأقارب رسول الله في خمس الغنائم ثم في خمس الفيء على ما سوف يأتي شرحه في سياق سورة الحشر فيه معنى الأجر المادي الذي نفاه القرآن مرة بعد مرة عن رسول الله بقوة وحسم لأنه لا يتفق مع عظمة النبوة وأخلاقها وأهدافها. ولقد حاول الشيعة أن يؤولوا آية الشورى التي جاء فيها قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [23] بمثل ما حاولوا تأويل الآية التي نحن في صددها وخالفهم جمهور المفسرين على ما شرحناه في سياق تفسيرها شرحا يغني عن التكرار. ويجب أن نؤكد بهذه المناسبة مرة أخرى أننا نكنّ أعظم التكريم والإجلال لمن ينتسب إلى الدوحة الطاهرة النبوية وأن ما ننبه عليه هنا وفي أي مكان من التفسير هو في صدد تقرير ما يتبادر لنا أنه الأكثر اتساقا مع روح الآيات وفحواها وجلال المقام النبوي ووثيق الروايات، والله تعالى أعلم. سادسا: وفي صدد شرح مدى الآية نقول: إن المسكين الذي اختصّ بالذكر في الآية ليس هو الفقير مطلقا وإنما هو كما وصفه النبي في حديث رواه الشيخان

_ (1) انظر الأسماء في ابن هشام ج 2 ص 269 و 364 وتفسير آية الأنفال [70] في كتب تفسير الطبري وابن كثير.

عن أبي هريرة عن النبيّ: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس تردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكنه الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدّق عليه ولا يقوم فيسأل الناس» «1» . حيث ينطوي في تخصيصه بالذكر في توزيع الغنائم لفتة ربانية جليلة إلى هذا النوع من المحتاجين وحيث يجب على ولي أمر المسلمين أن يلحظ ذلك في سياق مساعدة الطبقات المعوزة من بيت المال التي جعلها القرآن واجبا رسميا من واجبات الدولة الإسلامية. سابعا: أما ابْنِ السَّبِيلِ فهو على ما هو المتبادر المجتاز من أرض إلى أرض وقد نفد ما في يده وأصبح محتاجا إلى مساعدة ولو كان في بلده غنيا على ما يستفاد من معظم الأقوال التي ذكرها المفسرون. وهناك من قال إنه الضيف إطلاقا. وروح الآية تجعل الرجحان للأول على أن القول الثاني لا يبعد وبخاصة إذا كان الضيف غريبا محتاجا كما هو واضح. ثامنا: والأقوال متفقة على أن الْيَتامى الذين جعل لهم نصيب في الغنائم هم فقراء اليتامى الذين ليس لهم مال، وهو حق وصواب. وننبه على أن اليتامى لم يذكروا في مصارف الزكاة المذكورة في الآية [60] من سورة التوبة. حيث نلمح اللفتة الربانية الكريمة في جعل نصيب لهذه الفئة في مال الغنيمة التي تدخل لبيت المال، وهي من نوع المساكين الذين قد لا يفطن إليهم ولا يقومون ليسألوا الناس. تاسعا: يلحظ أن الآية ذكرت (المساكين واليتامى وابن السبيل) في حين أن آية التوبة [60] التي ذكرت مصارف الزكاة ذكرت (الفقراء والمساكين وابن السبيل والغارمين) ولا ندري هل يصح القول إن هذا الفرق أسلوبي وإن ما ذكر في الآيتين يمثل الطبقات المعوزة من المسلمين عامة. وإن كنا نظن أن هذا هو المتبادر والله أعلم. ومع ذلك فإن من واجبنا أن نقول إن روعة حكمة التنزيل ومغزاها الجليل ملموحان إذا ما لوحظ أن كلا من المسكين واليتيم لا يسألون الناس عادة حيث

_ (1) التاج، ج 2 ص 30.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 42 إلى 44]

تكون حاجتهم إلى المساعدة أشد وألزم والله تعالى أعلم. عاشرا: تعددت أقوال الفقهاء والمفسرين في كيفية توزيع سهام خمس الغنائم حيث قال بعضهم إنه يقسم إلى ستة أسهام متساوية ويصرف على كل مصرف حصته. وهناك من قال إن هذا متروك لولي أمر المؤمنين يتصرف فيه حسب المصلحة بمشاورة أهل الرأي مع واجب مراعاة جميع المصارف. وليس هناك حديث صحيح نبوي أو راشدي فيه حسم إلا ما كان في صدد سهم رسول الله حيث جاء في أحد الأحاديث الصحيحة أنه كان يفرزه فينفق منه ما ينفق على نفسه وبيته ويوجه ما بقي لوجوه البرّ ومصلحة الإسلام على ما ذكرناه قبل. ولقد أصبح هذا السهم بعد النبي لبيت المال على ما ذكرناه أيضا. والآية مطلقة لا تتحمل التقسيم والحصر، وهذا ما يجعل القول الثاني هو الأوجه والله أعلم. وما قلناه في تعليقنا على الزكاة في سورة المزمل من أنه ليس ما يمنع أن تنشئ الدولة ببعض المال المخصص للفئات المحتاجة منشآت لمصلحتهم مثل مياتم ومشاف ومدارس وعيادات ودور عجزة وملاجىء ودور ضيافة يصح أن يقال في هذا المقام أيضا والله تعالى أعلم. [سورة الأنفال (8) : الآيات 42 الى 44] إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) . (1) العدوة: المقصود هنا طرف الوادي أو معبره.

(2) الدنيا: القريبة لناحية المدينة. (3) القصوى: البعيدة أي في الطرف الثاني لناحية مكة. (4) الركب: المقصود جيش قريش. (5) فشلتم: ضعفتم وتخاذلتم وجبنتم. في الآيات: 1- تذكير استطرادي للمؤمنين بما كان يوم المعركة. فقد كانوا في طرف الوادي القريب للمدينة وكان الكفار في الطرف الثاني البعيد، وكان هؤلاء في مكان أوطأ من مكانهم. وكان كل من المؤمنين والكفار قد وصلوا إلى مكانهم على غير ميعاد وكان في هذا إصابة لم تكن على ما جاءت عليه لو كان بينهم ميعاد متفق عليه بينهم من قبل وكان هذا تدبيرا ربانيا ليتمّ أمر الله وقضاؤه فيهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة والله سميع لكل شيء عليم بكل شيء. 2- إشارة إلى بعض ما وقع في ذلك اليوم وما كان من تدبير الله فيه. فقد أرى الله نبيه الأعداء في منامه قليلا فأخبر المسلمين بذلك فكان فيه تشجيع لهم ولو رآهم كثيرين لكان من الممكن أن يطرأ على قلوبهم ما يبعث فيهم التهيب ويجعلهم يتنازعون في الأمر فيؤدي ذلك إلى فشلهم وتخاذلهم. ولكن الله سلم فاقتضت حكمته أن يراهم النبي في منامه قليلا ليدفع عنهم ذلك وهو العليم بما يختلج في صدور الناس من نزعات وخطرات. ومن هذا التدبير الرباني أن جعل الله المؤمنين يرون الكفار قليلين، وجعل الكفار يرون المؤمنين قليلين حينما وقعت عيون بعضهم على بعضهم حتى يهون اللقاء على الفريقين ويتم أمر الله وقضاؤه وهو الذي ترجع إليه الأمور وتسير وفق حكمته. والآيات متصلة بالسياق نظما وموضوعا. وهي استمرار للاستطراد كما هو واضح. ولقد قال الطبري في صدد توضيح وتأويل جملة لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ إنها بمعنى ليموت من يموت عن حجة لله قد أثبتت له وقطعت عذره قد عاينها ورآها. ويعيش من يعيش عن حجة لله أثبتت له وظهرت

[سورة الأنفال (8) : الآيات 45 إلى 49]

لعينه فعلها، وقال ابن كثير عزوا إلى إسحق إنها بمعنى ليكفر من كفر بعد الحق لما رأى من آيات الله وما فيها من عبر ويؤمن من آمن على مثل ذلك. وكلا التأويلين وجيه. ويتبادر لنا تأويل آخر وهو أن الله تعالى قدر اللقاء لتقوم لكل من الفريقين الحجة على ما انتهى إليه مصيرهما من هلاك وحياة، فنصر المسلمين هو حجة على أنهم على حق وهزيمة الكفار حجة على أنهم على باطل، وللأولين فيما كان حياة وللآخرين هلاك، والله تعالى أعلم. ولقد احتوت الآيات بعض مشاهد ووقائع الوقعة ولكن أسلوبها يدل على أن القصة لم تكن المقصودة وإنما القصد هو بيان ما كان من عناية الله وتدبيره بحيث لم يكن نصر للمسلمين لولاها، وذلك بسبيل توطيد أوامر الله ورسوله وبخاصة في أمر الغنائم المختلف على قسمتها والتي كان الاختلاف عليها هو السبب المباشر لنزول السورة. وهذا يلحظ أيضا في الفصول السابقة على ما نبهنا عليه. ولقد أوردنا خلاصة ما روي من مشاهد ووقائع المعركة. فلم يبق محل للإعادة ولا ضرورة للزيادة بمناسبة هذه الآيات. غير أن هناك رواية يرويها الطبري والبغوي في صدد الآية [44] هنا محلها حيث رويا بالتسلسل عن ابن مسعود أنه قال «لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت للرجل إلى جانبي تراهم سبعين، قال أراهم مائة» . [سورة الأنفال (8) : الآيات 45 الى 49] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) .

(1) تذهب ريحكم: بمعنى يزول إقبالكم ودولتكم تشبيها بتغير الريح المواتية ونتائجها. في هذه الآيات: 1- نداء موجّه للمسلمين يؤمرون به بالثبات في القتال حينما يلتحمون مع فئة من أعدائهم ويلقونها. وبذكر الله كثيرا آنذاك حيث يضمن لهم ذلك الروحانية والتأييد والفلاح. ويحثون به على طاعة الله ورسوله في كل موقف ويحذرون به من التنازع والاختلاف لأن فيهما فشلهم وإدبار أمرهم، ويؤمرون فيه بالصبر لأن ذلك يضمن لهم نصر الله وتأييده وينهون به عن أن يكونوا مثل الكفار الذين خرجوا من مكة يملأهم الفخر والزهو والبطر وحبّ التظاهر وهم يصدون عن سبيل الله، والله محيط بهم ومحبط لأعمالهم. 2- وتذكير أو إخبار بما كان من موقف الشيطان وموقف المنافقين ومرضى القلوب في ظروف يوم بدر. فقد زيّن الشيطان للكفار الخروج وحثّهم عليه وألقى في روعهم أنهم من القوة بحيث لا يغلبهم أحد وأعلنهم أنه جار لهم ومناصرهم. فلما تراءت الفئتان والتحمتا نكص على عقبيه تاركا الكفار وما يلقونه من ويل متبرئا من جوارهم معلنا أنه يرى ما لا يرون وأنه خائف من الله الشديد العقاب الذي هو حقيق بأن يخافه أعداؤه. أما المنافقون ومرضى القلوب في المدينة فقد أخذهم العجب وتولتهم الدهشة مما بدا من جرأة المسلمين وخروجهم لقتال قريش مع ما هو معروف من تفوق هؤلاء عليهم في العدد والعدد فأخذوا يقولون عنهم إنهم اغتروا بدينهم. وقد انتهت الآيات بتقرير ينطوي على التنويه بما كان من نصر الله للمسلمين الذين توكلوا عليه، فهو العزيز الحكيم الذي ينصر من يتوكل عليه ويتمسك بحباله.

تعليق على الآية يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون (45) وما بعدها إلى الآية [49]

تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وما بعدها إلى الآية [49] والآيات متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا كما هو المتبادر. وقد روى المفسرون روايات متنوعة الصيغ متفقة المدى في صدد الآية [48] ومن أكثر ما توافقوا عليه منها أن قريشا تحسبت من بني كنانة وكان بينهم وبينهم عداء وكانوا في طريقهم وأن إبليس تجسّم لهم في صورة أحد أشرافهم «سراقة بن مالك» فقال لهم: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه وجعل يحرضهم ويقوي من عزائمهم فكان ذلك مما جعلهم يسرعون إلى الخروج لإنقاذ القافلة. ومما جاء في الرواية أنه كان معهم في المعركة فلما رأى من المسلمين ما رأى من استبسال وعزيمة وما استولى عليهم من روحانية انتزع يده من يد رفيق له وفرّ لا يلوي على شيء قائلا ما ذكرته الآيات «1» . والذي نلاحظه على هذه الرواية أن في القرآن نصا صريحا بأن الناس لا يرون إبليس وقبيله وهو ما جاء في هذه الآية من سورة الأعراف: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [27] ، وليست الرواية المروية ذات سند قوي. ولذلك نقول إما أن تكون الآية قد عنت أحد صناديد الكفار وشياطينهم ممن كان أشدهم تثبيتا للقلوب وتسديدا للعزائم ثم كان من الناكصين المنهزمين. والقرآن أطلق كلمة الشيطان على الإنس أيضا كما جاء في آية سورة الأنعام هذه وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [112] ، وإما أن تكون احتوت تصويرا معنويا للحال لتقرر أن الكفار بخروجهم مزهوين معتدّين بأنفسهم إنما انساقوا لتزيين الشيطان ووساوسه فوردوا مورد الهلاك استهدافا لتوكيد التحذير والدعوة إلى التأسي من

_ (1) انظر ابن هشام ج 2 ص 250 وتفسير الآيات في الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والزمخشري والطبرسي.

جهة ولتشديد التنديد والتشنيع من جهة أخرى للخلاف والنزاع والبطر، ولقد روى الطبرسي عن الحسن البصري أن ما جاء عن الشيطان إنما كان على سبيل الوسوسة وأن الشيطان لم يتمثل في صورة إنسان وهو المعقول فيما نرى. ويتبادر لنا أن الآيات انطوت على قصد المقارنة أيضا، فالكفار خرجوا بتزيين الشيطان وكان معتمدهم وجارهم فأخزاهم الله على ما كانوا عليه من كثرة عدد وعدد وزهو وبطر واعتداد بالنفس، والمسلمون خرجوا بإلهام الله متوكلين عليه فنصرهم على ما كانوا عليه من قلة عدد وعدد أثارت عجب المنافقين ومرضى القلوب وحملتهم على الغمز والاستخفاف بهم وتوقع الهزيمة لهم. وروى المفسرون في صدد الآية [47] أن أبا سفيان أرسل إلى جيش مكة يقترح عليه العودة وقد نجت القافلة فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرا فنقيم عليه ثلاثا ننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقى الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا بعدها أبدا، وهو ما عبرت الآية عنه بتعبير بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ فكان ذلك من أسباب الاشتباك الفعلي «1» . وروى المفسرون في صدد الآية [49] روايات عديدة منها أنها عنت جماعة من أهل مكة تكلموا بالإسلام وخرجوا مع المشركين يوم بدر. فلما رأوا قلة المسلمين قالوا غرّ هؤلاء دينهم، ومنها أن بعض رجال من قريش خرجوا مع الجيش على ارتياب فلما رأوا قلة المؤمنين قالوا ذلك. ومنها أن جماعة من أهل مكة كانوا مسلمين حبسهم أهلهم عن الهجرة وأخرجوهم معهم قهرا إلى بدر فلما رأوا قلة المسلمين ارتدوا وقالوا ذلك القول. ولسنا نرى هذه الروايات مستقيمة مع الظروف، لأنه لم يكن يوجد في مكة بعد الهجرة من يصح أن يوصف بالنفاق ومرض القلب اللذين كان يوصف بهما الذين كانوا يتظاهرون بالإسلام من أهل المدينة. والأوجه أن يكون هذا القول صدر عن هؤلاء حينما رأوا عدد المسلمين الذين خرجوا إلى بدر قليلا وهم يعرفون كثرة قريش وقوتهم. وقد احتوت الآية

_ (1) ابن هشام ج 2 ص 257- 258، وتفسير الآية في ابن كثير والبغوي والطبري والخازن.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 50 إلى 54]

ردا قويا مستمدا من النصر الذي أحرزه المسلمون على قتلهم. فالمخلص المتوكل على الله لا يبالي بكثرة عدد عدوه وقلة عدده لأنه موقن بتأييد الله العزيز الحكيم له. هذا، ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها احتوت تلقينات عامة جليلة مستمرة المدى بما فيها من علاج نفسي قوي في ذكر الله حين اشتداد الملحمة وما يثيره هذا من قوة وروحانية وثقة وأمل، وبما فيها من حثّ على الثبات والصبر كما في ذلك من ضمان النصر وكسب لرضاء الله وتأييده. وبما فيها من حكمة اجتماعية فيما في التنازع من فشل وإدبار. وفيما في التضامن والاتحاد من قوة وفلاح، وبما فيها من حثّ على طاعة الله ورسوله. وتتمثل طاعة الله في التزام ما في القرآن من مبادئ وأحكام وخطوط، وطاعة رسوله في التزام ما ثبت عنه من سنن قولية وفعلية تمثلا دائما. ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا رواه أيضا البخاري ومسلم والترمذي عن عبد الله بن أبي أو فى جاء فيه: «إنّ رسول الله في بعض أيامه التي لقيّ فيها العدوّ انتظر حتى مالت الشمس ثم قام في الناس فقال: أيّها الناس، لا تتمنّوا لقاء العدوّ وسلوا الله العافية. فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف. ثم قال: اللهمّ منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم» «1» . ومع تساوق الحديث مع التلقين القرآني فإن فيه نقطة هامة، وهي نهي المسلمين عن الاستعجال بلقاء العدو أو استعجال التحرش به. والمتبادر أن الحكمة في ذلك هي أن لا يكون الاستعجال بدون ضرورة محتمة، أو أن لا يؤدي إلى خطر وضرر وفي هذا تلقين جليل آخر والله أعلم. [سورة الأنفال (8) : الآيات 50 الى 54] وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54) .

_ (1) التاج ج 4 ص 330 و 331.

وفي هذه الآيات: 1- إشارة تنويهية وإنذارية خوطب بها النبي أو السامع إلى ما سوف يكون من أمر الكفار في الآخرة. فحينما يتوفى الملائكة الكفار سيضربون وجوههم وأدبارهم ثم يسوقونهم إلى النار ويقولون لهم ذوقوا عذاب الحريق الذي استحققتموه بما اقترفتم من آثام جزاء وفاقا دون ما ظلم. لأن الله لا يظلم عبيده وإنما يوفي كلا منهم جزاء ما عمل وقدّم. 2- وتمثيل لحالة الكفار ومصيرهم بحالة أمثالهم الذين سبقوهم ومصيرهم: فإن شأنهم كشأن قوم فرعون ومن كان قبلهم كفروا بآيات الله فعاقبهم الله على ذنوبهم حيث أهلكهم وكان مما كان أن أغرق آل فرعون. فهؤلاء وأولئك كانوا جميعهم ظالمين، فكانوا موضع تنكيل الله في الدنيا بالإضافة إلى عذابه في الآخرة، وإنه لقوي قاهر وإن عذابه لشديد قاصم. 3- وتقرير لسنّة ربانية جارية في الأمم بسبيل التعقيب على ما ذكرته الآيات من مصير الكفار. فالله لا يغير نعمة أنعمها على قوم فيبدل أمنهم بخوف وغناهم بفقر وعزتهم بذلّ وسلامتهم بهلاك إلّا إذا غيروا ما بأنفسهم فانحرفوا عن الطريق القويم وضلّوا عن الهدى واقترفوا الآثام والمنكرات وإنه لسميع عليم يسمع كل شيء ويعلم بكل شيء فيعامل الناس بما يستحقونه. والآيات استمرار على التعقيب على نتائج وقعة بدر ومتصلة بالسياق السابق كما هو المتبادر وقد انطوت على تقرير كون ما حلّ في الكفار هو مثل ما حلّ في قوم فرعون وغيرهم من عذاب الله الدنيوي، وبيان ما سوف يصيرون إليه في الآخرة

تلقين جملة ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ...

من المصير المشترك إضافة إليه كمن سبقهم أيضا. وأسلوبها قوي، ومع واجب الإيمان بما احتوته من مشهد أخروي فإنه قد يتبادر أن من حكمة ذكر ذلك إثارة الاغتباط في قلوب المؤمنين بالإضافة إلى ما تمّ لهم من النصر، وإثارة الفزع في من بقي من زعماء الكفار وعامتهم وقد انطوت الآية [53] على تعليل بليغ لما حلّ في الكفار من نكال وعلى تقرير استحقاقهم له بسبب كفرهم ومواقفهم المناوئة. تلقين جملة ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ... هذه الجملة جاءت في الآية [53] المذكورة آنفا، ومع أنها متصلة المدى بالموقف الذي انتهت إليه معركة بدر مما جعلنا نقول إنها انطوت على التعليل البليغ الذي نبهنا عليه آنفا فإن أسلوبها المطلق التقريري يسوغ القول إنها انطوت على تلقين مستمر المدى وحكمة اجتماعية خالدة في تقريرها إناطة فقد الناس لما يكونون مستمتعين به من حالة حسنة ونعمة ربانية بتصرفاتهم المنحرفة الباغية المؤدية إلى ذلك. وهذه الحكمة جاءت مطلقة في آية سورة الرعد [38] لتشمل تغير حالة الناس من سوء إلى حسن ومن حسن إلى سوء وتجعله منوطا بتصرفاتهم. وما قلناه في سياق هذه الآية من دلالتها على كون الله تعالى قد أودع في الناس القابلية لذلك وحملهم مسؤولية ما قد يكونون فيه أو يصيرون إليه من حالات حسنة وسيئة يصح أن يورد هنا بطبيعة الحال. ولقد روى الطبري والبغوي عن السدي أن المقصودين بالآية قريش وبالنعمة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم فلما كذبوها نقلها عنهم إلى الأنصار ... ولا يخلو التأويل من وجاهة بالنسبة للظرف الذي نزلت فيه الآية غير أن إطلاق العبارة يجعلها عامة مستمرة المدى والتلقين على النحو الذي شرحناه. وإذا صح أن يكون المعنيون بها قريشا فيكون من باب تسجيل الواقع عند نزولها لأن قريشا لم تحرم من هذه النعمة بالمرة وإنما كان ذلك لأمد محدود

[سورة الأنفال (8) : الآيات 55 إلى 64]

وبالنسبة للذين ماتوا وهم كفار منهم حيث تمتع معظمهم تمتعا كاملا بها حينما تمّ الفتح ودخل أهلها في دين الله. [سورة الأنفال (8) : الآيات 55 الى 64] إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) . (1) تثقّفنّهم: تلقاهم وتتمكن منهم أو تظفر بهم. (2) فشرّد بهم من خلفهم: خوّف وشتّت بالتنكيل بهم من وراءهم من الأعداء. (3) فانبذ إليهم على سواء: أصل النبذ الطرح، وقد فسّر جمهور المفسرين هذه الجملة بإعلان المعاهدين الذين يبدو منهم أمارات النقض والغدر والخيانة بأن النبي يريد أن يقف منهم نفس الموقف حتى لا يكون النقض غدرا. (4) رباط الخيل: إعداد الخيل وجعلها جاهزة للحرب. (5) جنحوا: هنا بمعنى مالوا أو رغبوا.

في هذه الآيات: 1- نعي على الكفار الذين يصرون على الكفر ولا يؤمنون مع ما ظهر من الحق والهدى. فهؤلاء هم شرّ الدواب عند الله. 2- وتفسير بياني للمقصودين، فهم أولئك الذين عاهدهم النبي ثم ينقضون عهدهم في كل مرة دون تورّع ولا خوف من العواقب. 3- وأمر للنبي بالتنكيل بهم إذا ما لقيهم وتمكن منهم في الحرب بحيث يكون ذلك عبرة وإنذارا لمن خلفهم من الأعداء لعلهم يتذكرون ويتورعون ولا يقدمون على البغي والغدر والخيانة. 4- وأمر آخر للنبي: فإذا ما شعر من قوم بينه وبينهم عهد بخيانة وغدر فله أن ينقض عهده معهم بعد معالنتهم بزوال العهد بينه وبينهم فالله لا يحبّ الخائنين. 5- وإنذار للكفار الذين ينجون من التنكيل في موقف أو ظرف ما، فلا يحسبون أنفسهم أنهم نجوا من نكال الله بالمرة، فإنهم ملحوقون ولن يسبقوا الله أو يعجزوه. 6- وأمر موجه للمسلمين بإعداد كل ما يقدرون عليه من قوة ووسيلة حربية وبالاستعداد للحرب ليبعثوا الخوف في قلوب أعدائهم الذين هم أعداء الله وفي قلوب غيرهم ممن يضمر العداء للمسلمين ويتربص بهم الدوائر، ولا يعرفونهم ولكن الله يعلمهم. 7- وحثّ للمسلمين على الإنفاق في سبيل الله من أجل هذا الاستعداد. فما ينفقونه من شيء يوفيه الله لهم من دون نقص وبخس. 8- أمر موجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحثه فيه على الميل إلى المسالمة مع الأعداء الذين هم موضوع الكلام إذا مالوا إليها والتوكل على الله فهو السميع العليم الذي لا يغيب عن علمه وسمعه أي شيء. 9- وتطمين له ودعوة للاعتماد على الله فيما إذا كان الأعداء يبيتون الخداع

تعليق على الآية إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون (55) والآيات التالية لها إلى آخر الآية [63] وشرح وقعة بني قينقاع وما في الآيات من مبادئ وتلقينات

في تظاهرهم بالميول السلمية فالله هو حسبه. وهو الذي أيده بنصره وبالمؤمنين وألّف بين قلوبهم هذا التأليف الشديد الذي لو أنفق في سبيل تحقيقه ما في الأرض ما كان يتحقق لولا عناية الله العزيز الحكيم القادر على نصره والذي يأمر بما فيه الحكمة والمصلحة والصواب. 10- وتطمين آخر له وللمؤمنين في الصدد نفسه، فإن الله هو حسبه وحسب الذين اتبعوه وكافيهم ومانعهم فلا ينبغي أن يكونوا في قلق من جراء ما يمكن أن يقفه الأعداء من مواقف ويبيتونه من نيات. تعليق على الآية إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) والآيات التالية لها إلى آخر الآية [63] وشرح وقعة بني قينقاع وما في الآيات من مبادئ وتلقينات 1- الآيات تبدو فصلا مستقلا عن السياق السابق إلّا التناسب وبين ذكر مصير الكفار الذي ذكر في الآيات السابقة لها وبين ذكر حالة الكفار فيها. وهي فصل متكامل جميعه في موضوع واحد. ولذلك جمعناها في هذه الطبعة وشرحناها في سياق واحد. وقد تكون نزلت بعد الآيات السابقة لها مباشرة فوضعت بعدها للتناسب الظرفي الموضوعي والله أعلم. 2- وروايات المفسرين «1» متفقة على أن الآيات عنت اليهود في المدينة، وظروف نزولها التي كانت بعد قليل من وقعة بدر على ما سوف نشرحه بعد وأسلوبها يؤيد ذلك. فلم يكن بين النبي وبين أحد من الذين جحدوا رسالته عهد عدا اليهود في السنتين الأوليين من الهجرة. وروايات السيرة «2» تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن. (2) انظر سيرة ابن هشام ج 2 ص 119- 123.

حينما استقرّ في المدينة بعد هجرته إليها من مكة كتب كتاب موادعة أبقى فيه اليهود على صلاتهم ومحالفاتهم مع الأوس والخزرج الذين كان الإسلام قد نشأ فيهم. ومنحهم حرية الدين وأوجب عليهم نصرة المؤمنين والاتفاق معهم في الحرب كما أوجب على نفسه والمؤمنين نصرتهم غير مظلومين ولا تناصر عليهم إلّا من أثم وظلم فكان هذا عهد بينه وبينهم على تعدد كتلهم في المدينة وهي بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة. 3- والمفسرون إلى قولهم إنها في صدد اليهود يروون روايات تخصيصية حيث يروون أن الآيتين الأوليين نزلتا في يهود بني قريظة أو عنتهم لنقضهم العهد ومظاهرتهم لقريش في وقعة الخندق. وروى الطبرسي مع إيراده الرواية السابقة أن الآية [58] نزلت في صدد بني قينقاع وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت قال: إني أخاف بني قينقاع وسار إليها. والمناسبة بعيدة بين وقعتي بني قريظة وبني قينقاع لأن الأولى كانت في السنة الهجرية الخامسة والثانية في السنة الثانية وبعد قليل من وقعة بدر التي نزلت فيها سورة الأنفال. ووقعة الخندق ذكرت في سورة الأحزاب وليس من الوارد أن تذكر في سورة نزلت قبل وقوعها. وابن سعد يتوافق في طبقاته «1» مع رواية الطبرسي بأن النبي صلى الله عليه وسلم سار إلى بني قينقاع بالآية [58] ويروي المفسرون وكتب السيرة القديمة معا أن يهود بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا العهد ووقع الصدام بينهم وبين النبي والمسلمين. وأن آيات سورة آل عمران هذه: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13) قد نزلت بسبيل إنذارهم ودعوتهم إلى الاعتبار بما حلّ في قريش الذين كانوا ضعف المسلمين وبنصر الله للمؤمنين. وذلك حينما بدت منهم أمارات الغدر والنقض بعد قليل من وقعة بدر. فجمعهم النبي وأنذرهم فقالوا له: «لا يغرنك أنك لقيت قوما

_ (1) طبقات ابن سعد ج 3 ص 67- 68.

لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، وإنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس» «1» ، وسورة الأنفال نزلت قبل سورة آل عمران. وآيات سورة الأنفال التي نحن بصددها نزلت بعد وقعة بدر وقبل وقعة أحد التي جاء في سورة آل عمران فصل طويل فيها وهذا يسوغ عدم التسليم بالروايات التي تذكر أن آيات سورة آل عمران [12 و 13] نزلت في بني قينقاع. والقول إنها نزلت في قوم آخرين ظهرت منهم بوادر غدر وعداء. والله أعلم. ومهما يكن من أمر فالملحوظ أن آيات سورة الأنفال عامة الشمول بحيث يتبادر لنا منها أنه لما بدأ يظهر من اليهود بوادر الغدر والخيانة بعد مواقف التعجيز والتشكيك والسخرية واللجاج والدسّ والتآمر التي حكتها سلسلة سورة البقرة اقتضت حكمة التنزيل الإيحاء بهذه الآيات كخطة عامة للنبي صلى الله عليه وسلم تجاههم. ومن الجائز أن يكون بنو قينقاع ركبوا رؤوسهم ولم يرعوا فجمعهم النبي وأنذرهم فأجابوه بما حفظته الروايات، ويجوز أنهم استمروا في غيّهم ولم يرعووا فبادر إلى التنكيل بهم وطبق مبادرته على جملة وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ فقال ما حفظته الروايات إني أخاف بني قينقاع، والله أعلم. 4- أما ما كان من أمر بني قينقاع فخلاصة ما روته كتب السيرة والتفسير أنهم كانوا يسكنون وسط المدينة، وكان لهم سوق خاص وأن امرأة من العرب جاءت بجلب لها فباعته في سوقهم ثم جلست إلى صائغ، فسألها بعضهم كشف وجهها فأبت فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا عليها فصاحت فوثب مسلم حاضر على الصائغ فقتله فشدّ عليه اليهود فقتلوه فاستصرخ أهله فعظم الشرّ. وقد حصرهم النبي والمسلمون في محلتهم خمس عشرة ليلة وضيّق عليهم حتى نزلوا على حكمه. وكانوا حلفاء للخزرج فطلب عبد الله بن أبيّ أحد كبار زعمائهم وكان كبير المنافقين من النبي صلى الله عليه وسلم أن

_ (1) انظر سيرة ابن هشام ج 2 ص 426 و 429 وانظر تفسير آيات آل عمران في كتب التفسير المذكورة.

يحسن في حلفائه، وألحّ في الطلب حتى أساء أدبه مع النبي، وقال له فيما قال أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة. ورأى النبي من الحكمة المسايرة فاكتفى بإجلائهم عن المدينة وسمح لهم بحمل ما قدروا عليه من مال وسلاح واستولى على ما بقي لهم في محلتهم من عقار وسلاح ومتاع وأثقال فأخذ خمسه ووزع الباقي على من شهد الحصار معه، وقد جلوا إلى أذرعات «1» . ويتبادر لنا من فحوى الآيات وروحها وقول النبي صلى الله عليه وسلم إني أخاف بني قينقاع الذي أجمعت الروايات على ذكره ولو لم يرد حديث صحيح فيه أنه كان لبني قينقاع مواقف غدر ونقض عديدة فجاء حادث الامرأة والصائغ لتملأ الكأس وكان التنكيل مباشرة بعده، والله أعلم. 5- ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون في المعنيين بجملة وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ منها أنهم المنافقون استئناسا بآية سورة التوبة هذه وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ [101] ومنها أنهم الفرس. ومنها أنهم كل عدو للمسلمين لم يكن ظاهرا أو معروفا بعدائه، ومنها أنهم الجن. وأوردوا في المقول الأخير حديثا أخرجه ابن أبي حاتم جاء فيه: «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في قول الله وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ هم الجنّ» ، والحديث لم يرد في الصحاح ونرى التوقف فيه كما نرى الوقوف عند الآية والقول إنها هدفت إلى تنبيه المسلمين إلى ما يمكن أن يكون لهم من أعداء لا يعرفونهم ويعرفهم الله بسبيل التحذير وإيجاب الاستعداد وإعداد ما استطاعوا من قوة لإرهاب أعدائهم المعروفين وغير المعروفين، وقد يكون من جملة هؤلاء الطوائف اليهودية الأخرى التي كانت لم تظهر عداء صريحا ولكنها تبطنه والتي حكت سلسلة سورة البقرة ما كان لها من مواقف جحود ودسّ

_ (1) هذا تلخيص ما ورد في كتب التفسير والسيرة، انظر كتب التفسير المذكورة وانظر ابن هشام ج 2، ص 119- 122 وابن سعد ج 3 ص 67 و 68.

وتشكيك وتآمر ونقض، والله تعالى أعلم. 6- وجمهور المفسرين على أن المعنيين في الآية [63] الذين ألّف الله بينهم هم الأوس والخزرج الذين كانوا غالبية عرب المدينة والذين صار اسمهم في الإسلام (الأنصار) . وقد كان بينهم تنافس وحروب وثارات قبل الإسلام وكان بعض كتل اليهود يحالفون الأوس وبعضهم يحالفون الخزرج على ما شرحناه في سياق الآيات [84 و 85] من سورة البقرة. وقد ألّف الله قلوبهم على يد رسوله فدعا من اجتمع إليه منهم في مكة واستجابوا لدعوته ثم بعد أن هاجر النبي إلى المدينة فأصبحوا بنعمة الله إخوانا. وقد جاءت إشارة ثانية إلى هذا في آية سورة آل عمران هذه: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وهذه الآية في ظرف حاول اليهود فيها أن يثيروا فتنة بين الأوس والخزرج بتذكيرهم بما كان بينهم من ثارات على ما سوف نشرحه في مناسبتها. 7- ولقد روى البغوي عن سعيد بن جبير في صدد الآية الأخيرة من الآيات إلى [64] أنها نزلت بعد إسلام عمر حيث كان أسلم قبله ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة فكمل عددهم بإسلام عمر أربعين. وعلق ابن كثير على ذلك بقوله إن إسلام عمر كان في مكة وهذه الآية مدنية، وهو تعليق في محله. على أن جمهور المفسرين على أن هذه الآية جزء متمم للكلام وهو الحق المتبادر. ولقد تعددت أقوال المفسرين والمؤولين في مدى الآية، منها أنها بمعنى (إن الله حسبك وحسب من اتبعك) وذلك بسبيل تهوين شأن أعدائهم. ومنها أنها بمعنى (الله هو حسبك، وحسبك كذلك متبعوك) فهذا كاف لك للانتصار على الأعداء، وكلا القولين وجيه. وجملة هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) في الآية السابقة لها قد تؤيد وجاهة التأويل الثاني وإن كان مقام الآية قد يجعل الرجحان للتأويل الأول من

التلقينات المنطوية في الآيات [55 - 64]

حيث إن التأويل الثاني يجعل المؤمنين الذين اتبعوا النبي (حسب) النبي بالإضافة إلى الله. والأدب والإيمان يقضيان بأن الله وحده هو حسب النبي والمؤمنين معا، وكلمة (حسبك) ليست في مقام أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) كما هو المتبادر والله تعالى أعلم. التلقينات المنطوية في الآيات [55- 64] والآيات كما قلنا احتوت خطة عامة للنبي صلى الله عليه وسلم تجاه أعداء الإسلام والمسلمين، وقد انطوى فيها تلقينات جليلة عامة مستمرة المدى كذلك وهذا هو المتبادر من ذلك: 1- إن الذين لا يصدقون بالحق ويقفون منه موقف المكابرة والعناد ولا يتورعون عن نقض عهودهم مرة بعد مرة هم شرّ من الدواب. 2- إن الحروب التي باشرها النبي والتي يصح أن يباشرها المسلمون بعده هي حروب دفاع وردع وإنذار وتذكير وعبرة للغير. وهدفها حمل الأعداء والبغاة على الارعواء وضمان أمن المسلمين وحرية الدعوة الإسلامية، وليست حروب عدوان وإبادة. 3- إن الواجب يقضي بالتمسك بالعهود فلا يكون من المسلمين نقض بدءا في أي حال. وليس لهم إلّا المقابلة على العدوان بمثله. وعلى الخيانة بما يستحقه الخائن الغادر. 4- إذا بدا من معاهد بوادر غدر أو خيانة صراحة أو سرا أو دسّا أو مظاهرة للأعداء فللمسلمين الحق حينئذ بنقض عهدهم معه والوقوف منه نفس موقفه. غير أن عليهم واجب إعلان بأنهم في حلّ من عهده ليكونوا وإياه في مركز متساو. ويعلم كل منهما موقف الآخر وليس لهم أن يفاجئوه بالنقض والحرب دون إنذار وإعلان. ويمكن استدراك أمر وهو أن هذا يكون في حالة عدم اقتران غدر العدو

ونقضه بعمل عدواني مفاجىء أو في حالة عدم إحداق الخطر من العدو بالمسلمين من جراء ما تيقنوا منه من نية الخيانة. وفي الآية [58] ما يمكن أن يلمح تأييد لهذا الاستدراك والله أعلم. 5- إن من واجب المسلمين الاستعداد بالقوة بكل ما يستطيعون من أسباب وأساليب. لأن هذا قد يكون وسيلة لإرهاب العدو وكبح جماحه وتفادي القتال فيحصل بذلك المقصود. وهو قمع عدوان العدو. ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن الأمر بالاستعداد والإنفاق عليه شامل لكل أنواع الاستعداد والوسائل التي من شأنها كفالة الغاية. والتمشي في ذلك مع كل ظرف وتطور. وإن التقصير فيه أو إهماله إثم ديني عظيم لأنه مخالف لأمر الله ومعرض للمسلين وبلادهم ودينهم للأخطار والأضرار المادية والمعنوية. وقد احتوى القرآن آيات كثيرة متنوعة الأساليب في هذا الأمر. وفي سورة البقرة آية تنبه بصراحة وقوة على ذلك وهي: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) . 6- في الآية [59] معالجة روحية من شأنها بثّ القوة في نفوس المؤمنين وإثارة التحسّب في نفوس أعدائهم. فلا ينبغي الاعتقاد أن عدو المسلمين إذا نجا من نكال الله في موقف ما أنه يستطيع أن يفلت منه فهو محيط به. وكل ما هنالك أن حكمته اقتضت إمهاله. وهذه المعالجة انطوت في آيات كثيرة وفي سور سبق تفسيرها وفي سور آتية مع وعد رباني صريح بأن نصر المؤمنين حق على الله. 7- على المسلمين مقابلة الميول السلمية من الأعداء بمثلها حتى في حال احتمال تظاهر العدو بهذه الميول خداعا. وكل ما يجب هو أن يكون المسلمون في حذر وتنبّه. وينسجم هذا مع المبدأ القرآني المقرر مكررا من كون حروب المسلمين هي حروب دفاع ومقابلة بمقدار الضرورة التي تكفل سلامة المسلمين وحرية الدين. والأمر القرآني السابق شرحه بالاستعداد الدائم لمقابلة العدو وإرهابه وللإنفاق على ذلك مع الاعتماد على الله هو الكافي لإحباط ما يحتمل أن يبيته العدو من خداع ولجعله يكفّ عنه. ولقد قال بعض المؤولين إن هذا منسوخ بأمر

قتال المشركين كافة إلى أن يسلموا أو بأمر قتال الكتابيين إلى أن يخضعوا ويعطوا الجزية. ونفى بعضهم ومنهم الطبري النسخ وقالوا إن الأمر محكم. وهو الأوجه المتسق مع التقريرات القرآنية التي لا تسوغ القتال لمجرد الشرك والكفر بالرسالة الإسلامية إذا لك يكن من المشرك والكافر عداء وعدوان على ما شرحناه في مناسبات سابقة وما سوف يأتي مزيد من شرحه بعد. 8- ويلحظ أن الأمر القرآني للمسلمين هو لمقابلة جنوح العدو إلى السلم بالمثل، وليس في هذه الآيات ولا في غيرها تسويغ لأن يكون الجنوح للسلم بدءا من المسلمين. بل في سورة محمد آية تنهى عن ذلك وهي: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) أي لا ينبغي للمسلمين أن يضعفوا أمام عدوهم ويطلبوا منه السلم. فهم الأعلون بإيمانهم وتأييد الله لهم وهو مهم كما جاء في هذه الآيات وآيات عديدة أخرى مثل وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: 8] وانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم: 47] وغيرها وغيرها. وفي سورة النساء هذه الآيات المهمة الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76) ووَ لا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104) . 9- وجنوح العدو للسلم معناه أنه شعر بضعفه وعجزه أمام المسلمين فرأى أن ينتهي من موقفه العدائي العدواني وفي هذا تحقيق لغاية الجهاد في سبيل الله على ما جاء في آية سورة البقرة هذه وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) فاقتضت حكمة الله أمر المسلمين بالجنوح للسلم إذا جنح لها عدوهم وعزم على الانتهاء من موقفه العدائي العدواني إزاءهم. وقد شرحنا هذه الآية وبينا ما هو مدى انتهاء العدو من موقفه العدائي في سياق تفسير الآية.

وفي كل ما تقدم تلقينات جليلة رائعة. 10- ومن واجبنا أن ننبه في هذا المقام على مسألة مهمة وهي الاستجابة لطلب دولة اليهود في فلسطين السلم أو جنوحها إليه. فالتلقين القرآني لا ينطبق عليها وإنما ينطبق على العدو الذي له دار ودولة خاصة به منذ الأصل. أما اليهود في فلسطين فهم أعداء معتدون على دار المسلمين والعرب. ومغتصبون لما احتلوه من فلسطين اغتصابا باغيا بمساعدة طواغيت دول الاستعمار أعداء المسلمين والعرب. وقامت دولتهم في فلسطين بعد أن حاربوا المسلمين والعرب فيها أشد حرب وآذوهم أشد أذى وطردوهم من مدنهم وقراهم واستولوا على بيوتهم ومزارعهم وبساتينهم وكرومهم وثرواتهم المنقولة وغير المنقولة. وهتكوا حرماتهم ودنسوا مقدساتهم وهدموا مساجدهم وأزالوا معالم الإسلام والعروبة ولم يكن بينهم وبين العرب والمسلمين سابق عداء قبل تفكيرهم في غزو فلسطين واغتصابها وإنشاء دولة لهم فيها على أنقاض العرب والمسلمين بل كان العرب والمسلمون في ظل السلطان الإسلامي يمنحون من كان في ظل هذا السلطان منهم الحرية والأمان والطمأنينة ومجال النشاط الاقتصادي والاجتماعي، في حين كانوا وظلوا معرضين للاضطهاد والمطاردة والمصادرة في جميع البلاد الأخرى التي كانوا يحلون فيها. وهم حينما يعلنون رغبتهم في السلم مع العرب يريدون ذلك، مع احتفاظهم بما اغتصبوه من دار العرب والمسلمين ونسيان كل ما فعلوه فيهم. ومعنى الأمر للمسلمين بمقابلة ذلك الجنوح بمثله لا ينطبق عليهم، حتى لو تركوا بعض ما اغتصبوه واكتفوا بالقسم الذي قررته لهم هيئة الأمم، لأنه دار المسلمين والعرب وليس لهذه الهيئة أن تمنحهم جزءا مهما كان صغيرا من هذه الدار. وليس لأحد من المسلمين والعرب حقّ في قبول ذلك وهو خيانة لله ولرسوله وللمسلمين وعليهم واجب إعداد كل قوة يستطيعونها لمقاتلتهم وتضييق الخناق عليهم وحصارهم بدون هوادة ولا كلل إلى أن يقوضوا دولتهم وتعود البلاد كما كانت إلى حظيرة السلطان الإسلامي العربي وكل تهاون في ذلك إثم ديني عظيم. هذا، ولقد أورد المفسرون أحاديث نبوية عديدة في سياق هذه الآيات

متساوقة مع تلقيناتها، وابن كثير أكثر من استوعبها منهم. ومنها ما هو وارد في كتب الصحاح، ومن ذلك في صدد عدم النقض إلّا بعد إعلان العدو حديث رواه أبو داود والترمذي عن ابن عمر قال: «كان معاوية يسير في أرض الروم وكان بينه وبينهم أمد فأراد أن يدنو منهم فإذا انقضى الأمد غزاهم فإذا شيخ على دابة يقول الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدرا، إنّ رسول الله قال من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلّن عقدة ولا يشدّها حتى ينقضي أمده أو ينبذ إليهم على سواء فبلغ ذلك معاوية فرجع فإذا الشيخ هو عمرو بن عبسة أحد أصحاب رسول الله» «1» . ومن ذلك في صدد الاستعداد حديث رواه أصحاب السنن عن رسول الله قال: «إنّ الله ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة صانعه يحتسب في صنعته الخير والرامي به والممدّ به. وقال ارموا واركبوا ولأنّ ترموا أحبّ إليّ من أن تركبوا» «2» . وحديث رواه مسلم وأبو داود عن عقبة بن عامر قال: «سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إنّ القوّة الرمي، ألا إن القوّة الرمي، ألا إنّ القوّة الرمي» «3» . وحديث رواه مسلم عن عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من علم الرمي ثم تركه فليس منّا أو قد عصى» «4» . ومن ذلك حديث رواه مسلم عن عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه» «5» . وفي صدد رباط الخيل حديث رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي صدده أيضا حديث رواه الخمسة عن عروة البارقي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم» «6» . وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من احتبس

_ (1) التاج، ج 4 ص 335 وابن كثير ذكر أن الإمام أحمد رواه عن سليم بن عامر أيضا. (2) التاج، ج 4 ص 319 و 320. (3) المصدر نفسه. [.....] (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه. (6) المصدر نفسه ص 311 و 312.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 65 إلى 66]

فرسا في سبيل الله إيمانا بالله وتصديقا بوعده فإنّ شبعه وريّه وروثه وبوله في ميزان يوم القيامة» «1» . وحديث رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «الخيل ثلاثة، هي لرجل وزر، ولرجل ستر ولرجل أجر، فأمّا التي هي له وزر فرجل ربطها رياء وفخرا ونواء على أهل الإسلام فهي عليه وزر. وأما التي هي له ستر فرجل ربطها في سبيل الله، فلم ينس حقّ الله في ظهورها ولا رقابها فهي له ستر، وأما التي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام» «2» . ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن ما في الأحاديث من تنويه بالرمي والخيل هو مستمد من ظروف الحياة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته. والتلقين شامل في إيجاب الاستعداد الدائم والتدريب بكل الأسباب والوسائل حسب الظروف والتطورات المستمرة والمتجددة. [سورة الأنفال (8) : الآيات 65 الى 66] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) . (1) علم أن فيكم ضعفا: هناك من قرأ ضعفا بصورة ضعفاء، وعلى كل فالمعنى غير متباعد. وفي هذه الآيات: 1- أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بحثّ المؤمنين على قتال أعدائهم والثبات فيه. فهم إذا

_ (1) التاج، ج 4 ص 311 و 312. (2) المصدر نفسه.

تعليق على الآية يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال ... والآية التالية لها

صبروا وثبتوا فالعشرون منهم يستطيعون أن يغلبوا مائتين، والمائة منهم يستطيعون أن يغلبوا ألفا من الكفار لأن هؤلاء لا يفقهون. 2- واستدراك لما سبق من تقرير كفاية الواحد من المؤمنين لعشرة من الكفار: فقد علم الله أن فيهم ضعفا فخفف عنهم، فهم إذا صبروا وثبتوا فتستطيع المائة منهم أن تغلب مائتين والألف ألفين بإذن الله الذي هو مؤيد للصابرين. تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ ... والآية التالية لها الآيات متصلة بما سبقها سياقا وموضوعا ومعقبة عليها كما هو المتبادر. والراجح أن المقصود من نعت الكفار بأنهم لا يفقهون هو بيان كون المؤمنين يقاتلون عن إيمان ويقين بنصر الله وحسن العاقبة على كل حال ويعرفون سموّ الغرض الذي يقاتلون في سبيله فيساعدهم كل هذا على الثبات مهما كان الهول وعدد الأعداء في حين أن الكفار ليس عندهم من ذلك شيء وهم محرومون من الروحانية التي تشمل المؤمنين الصابرين. ولقد روى المفسرون أن الآية الثانية نزلت بعد فترة من نزول الآية الأولى وبسبب اعتبار المسلمين أن الآية الأولى فرضت عليهم لقاء عشرة أضعافهم وعدم جواز فرارهم ووجوب صبرهم إزاء ذلك فاستعظموا وتمنوا من الله التخفيف فنزلت الآية الثانية. وقد روى البخاري هذا عن ابن عباس بهذه الصيغة «لما نزلت الآية الأولى إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ ... إلخ شقّ ذلك على المسلمين فجاء التخفيف في الآية الثانية الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ.... فلما خفف الله عنهم نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم» «1» . وروح الآية ومضمونها يلهمان صحة الرواية

_ (1) التاج، ج 4 ص 110.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 67 إلى 69]

باستثناء الجملة الأخيرة التي هي من قبيل الاجتهاد والتي لا نرى لها وجها من حيث إن إنقاص الصبر يذهب بحكمة التخفيف الذي هو بمثابة رحمة ونعمة من الله ويجعل ذلك عقوبة والله أعلم. وعلى كل حال فإن روح الآيتين تدل على أن هدفها الرئيسي هو بثّ روح الصبر والثبات في المسلمين تجاه أعدائهم وإيذانهم بأنهم سيغلبون أعداءهم إذا ما صبروا مهما قلّ عددهم وكثر عدد أعدائهم لأنهم يقاتلون عن إيمان. وفي هذا ما فيه من علاج نفسي مستمر المدى. ولقد قال بعض المفسرين إن في الآية [66] أي الثانية نسخا للأولى. وقال بعضهم إن التخفيف ليس نسخا، وهذا هو الأوجه ولا سيما إن المبدأ المنطوي في الآية [65] ظلّ ماثلا في الآية [66] وهو أن المؤمنين يستطيعون أن يغلبوا إذا صبروا وثبتوا عددا أكثر من الأعداء ولو كانوا أضعافهم. ولقد ظهر في معظم وقائع الفتح التي وقعت في عهد الخلفاء الراشدين بل وبعدهم مصداق كلام الله عز وجل قويا باهرا حيث تواترت الروايات إلى حدّ اليقين بأن المسلمين كانوا يلقون أعداءهم وهم أكثر منهم مرتين وثلاثا وأكثر وينتصرون عليهم بقوة ما كان من إيمانهم بأنهم يقاتلون في سبيل الله وبأن الله ناصرهم على أعدائهم وبأن لهم الفوز على كل حال بإحدى الحسنيين. النصر أو الاستشهاد. والآيات على ضوء هذا الشرح والوقائع تظل مستمد مدد فيض للمسلمين في كل وقت. [سورة الأنفال (8) : الآيات 67 الى 69] ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) . (1) حتى يثخن: بمعنى حتى يقوى ويشتدّ أمره ويتمكن في الأرض.

تعليق على الآية ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ... إلخ والآيتين التاليتين لها

في هذه الآيات: 1- بيان بأنه لا ينبغي لنبي أن يأسر أعداءه في الحرب ويستبقيهم أحياء إلّا بعد أن يشتدّ أمره ويقوى سلطانه وتتوطد رهبته. 2- وإشارة موجهة إلى المؤمنين المخاطبين بأنهم في عملهم ما لا ينبغي قد أرادوا عرض الدنيا في حين أن الله إنما يريد لهم الآخرة وهو عزيز حكيم قادر قوي لا يريد إلّا ما فيه الخير والصواب. 3- وخطاب موجّه إليهم أيضا بأن الله لو لم تقتض حكمته التسامح معهم لأصابهم بما أخذوه من فداء الأسرى عذاب رباني عظيم. 4- وأمر موجه إليهم كذلك بإجازة الاستمتاع بما أخذوه حلالا طيبا، فالله غفور رحيم يتجاوز عن ذنوبهم ويشملهم برحمته مع التنبيه بوجوب تقوى الله واجتناب ما لا يرضاه. تعليق على الآية ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ... إلخ والآيتين التاليتين لها روى المفسرون في صدد هذه الآيات حديثا رواه مسلم والترمذي عن ابن عباس جاء فيه: «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر يوم بدر ما ترون في هذه الأسارى. فقال أبو بكر هم بنو العمّ والعشيرة. أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفّار وعسى الله أن يهديهم للإسلام، وقال عمر لا أرى والله ما رأى أبو بكر ولكن أرى أن تمكّننا من ضرب أعناقهم. فهؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فهوي رسول الله ما قال أبو بكر: فلما كان من الغد جاء عمر فإذا رسول الله وأبو بكر قاعدان يبكيان فقال ما يبكيكما قال الذي عرض عليّ من أخذ الفداء وأنزل الله ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى الآيات» «1» .

_ (1) التاج، ج 4 ص 111.

وهناك روايات أخرى لم ترد في الصحاح وهي متفقة في المدى مع الحديث فاكتفينا بالحديث. وفي الروايات ما يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم شاور بالإضافة إلى أبي بكر وعمر كبار أصحابه الآخرين من الأنصار والمهاجرين ونعتقد صحة ذلك. وفحوى الآيات مع حديث البخاري يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نفذ الرأي القائل بأخذ الفدية قبل نزول الآيات فنزلت الآيات منبهة إلى ما كان الأولى ومجيزة لما تمّ مع الإيذان بغفران الله. ونرى من الواجب أن نبيّن أن التنفيذ النبويّ هو اجتهاد مأجور وأن التنبيه والعتاب هو على كونه خلافا لما هو الأولى في علم الله المغيب عن رسول الله ولقد تكرر الاجتهاد النبوي وتكرر العتاب القرآني مما مرّ منه أمثلة في سور سبق تفسيرها ومما ورد أمثلة منه في سور آتية. وفي هذا صورة من صور سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث كان يجتهد فيما ليس فيه وحي فما كان صوريا أقرّه الله عليه سكوتا أو قرآنا وما كان خطأ عاتبه عليه ونبهه إلى ما هو الأولى وغفره له. وفي القرآن صور من ذلك. منها خروجه لقافلة قريش على ما شرحناه في سياق الآيات السابقة من السورة وليس في هذا مطعن في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة التي فيها عتاب للنبي، فعصمته حق والإيمان بها واجب وهي متحققة فيما يبلغه عن الله وفي التزامه الشديد لأوامر الله ونواهيه وفي عدم وقوعه في إثم ومحظور. وليس في هذا وبين الموقف الذي نحن في صدده وأمثاله تعارض كما هو ظاهر. والآيات والحديث تنطوي على دلالة جديدة تضاف إلى الدلالات الكثيرة مما مرّ منه أمثلة عديدة على كون القرآن وحيا ربانيا وعلى عصمة النبي صلى الله عليه وسلم في تبليغ كل ما يوحى به إليه مهما احتوى من عتاب وتثريب له. وفي استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه صورة من الصور التي يجتهد فيها فيما ليس فيه وحي. وهي في الوقت نفسه تطبيق للوصف القرآني العام للمسلمين الوارد في آية سورة الشورى [38] بأن المسلمين أمرهم شورى بينهم. ولقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم

باستشارة أصحابه صراحة في مواقف أخرى أشير إليها في سورة آل عمران التي يأتي تفسيرها بعد هذه السورة. هذا، وهناك حديث يرويه الترمذي في نزول الآية [68] عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لم تحلّ الغنائم لأحد سود الرؤوس من قبلكم، كانت تنزل نار من السماء فتأكلها فلمّا كان يوم بدر وقعوا في الغنائم قبل أن تحلّ لهم فأنزل الله الآية» «1» . ويلحظ أن الآية جزء من سياق تام ورد في صدد الأسرى وفدائهم وأن الله قد عاتب أو نبّه رسوله فيه على أخذ الفداء. ولهذا فنحن نتوقف أن تكون الآية نزلت في صدد ما ورد في الحديث من غنائم بدر عامة. وكل ما يمكن أن يكون هو أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر المؤمنين برحمة الله لهم في إحلاله الغنائم لهم وتلا الآية على سبيل التدليل والله أعلم. ويورد المفسرون حديثا في هذا السياق عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه تقرير كون الله تعالى قد أحلّ له الغنائم دون غيره من الأنبياء وقد رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة جاء فيه «قال النبي صلى الله عليه وسلم وفضّلت على الأنبياء بست، أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب، وأحلّت لي الغنائم وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا وأرسلت إلى الخلق كافّة وختم بي النبيّون» «2» . ولقد تعددت تأويلات المؤولين في مدى جملة لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ من ذلك أنها بمعنى (لولا أن الله قضى في سابق علمه وحكمته أن تكون الغنائم حلالا لهم) أو بمعنى (لولا أن الله قضى أن لا يؤاخذ المجتهدون عن حسن نية فيما اجتهدوه خلافا لما هو الأولى في علم الله) . أو بمعنى (لولا أن الله قضى أن لا يؤاخذ الذين هداهم على أمر حتى يبين لهم ما يتقون فيه) أو بمعنى (لولا أن الله قضى أن لا يؤاخذ الناس على عمل ليس عندهم فيه بيان من الله) أو بمعنى (لولا أن الله قضى أن يغفر لأهل ما بدر من المواجه من أخطاء) وكل هذه التأويلات واردة، مع استبعادنا الأخير. والله تعالى أعلم.

_ (1) التاج، ج 4 ص 111. (2) التاج، ج 1 ص 205.

وأسلوب الآيات عتابي على فعل ما هو غير الأولى في علم الله، وهذا يسوغ القول إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل بعض ما يفعل بدون وحي وبسائق الاجتهاد فيخطىء ويصيب ويفعل غير الأولى المغيب في علم الله. وليس في هذا مطعن في عصمته على ما شرحناه في سياق تفسير سورة النجم. فعصمته حقّ ومتحققة في صدقه فيما يبلغه عن الله وفي التزامه الحدود التي يأمر الله بها آمرة كانت أم ناهية. وليس بين هذا وبين هذا الموقف وأمثاله- مما تكررت الإشارة إليه في القرآن وروته الروايات (ومن ذلك مسألة المنزل الذي نزله في أدنى ماء من بدر وعدل عنه باقتراح الحباب بن المنذر على ما أوردناه قبل، ومسألة عبوسه حينما جاءه الأعمى يسأله بينما كان يتحدث مع أحد الزعماء على ما جاء في آيات سورة عبس الأولى) - تعارض كما هو ظاهر. والنبي فعل ما فعل مجتهدا بأنه الأصلح في أمر ليس محددا من الله تعالى وليس فيه ذنب أو محظور. ولقد روى المفسرون «1» في سياق هذا الحديث حديثا عن عمر بن الخطاب جاء فيه «أنه جاء إلى رسول الله غداة المشورة في أمر الأسرى وترجيح النبيّ اقتراح فدائهم فوجده مع أبي بكر قاعدين يبكيان فقال يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبكي للذي عرض لأصحابي من أخذهم الفداء ولقد عرض عليّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة- لشجرة قريبة من رسول الله- فأنزل الله عزّ وجلّ الآيات» والحديث ذو مغزى في صدد الشعور النبوي والوحي القرآني معا. والآيات لا تمنع الأسر والفداء بالمرة كما هو ملموح في صيغتها. وإنما هي بسبيل تقرير أن ذلك ما كان ينبغي إلا في حالة اشتداد قوة النبي والمسلمين وتوطيد هيبتهم ورهبتهم وسلطانهم. وينطوي في ذلك تقرير كون معاملة الأعداء بالشدة والصرامة مما يوطد هذه الرهبة والهيبة والسلطان ومما هو ضروري لمصلحة

_ (1) انظر الطبري والبغوي وابن كثير، وقد روى الحديث الترمذي بسند صحيح أيضا. انظر التاج ج 4 ص 111 فصل التفسير.

الدعوة الإسلامية في بعض الظروف. ولقد ورد في سورة محمد آيات تجعل المسلمين بالخيار في معاملة الأسرى بعد الإثخان فيهم وهي فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها [4] حيث انطوى فيها تشريع بالنسبة للظروف التي يكون فيها المسلمون أصحاب قوة وهيبة وتمكّن. كما انطوى فيها تلقين متسق مع التقريرات القرآنية بأن الجهاد الإسلامي هو جهاد للردع والدفاع والمقابلة بالمثل وضمان أمن المسلمين وسلامتهم وحريتهم وحرية الدعوة إلى الإسلام ومنع العدوان عليها وأنه لا ينبغي أن يتجاوز القدر اللازم لتأمين هذه الغايات. وفي إجازة القرآن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم اجتهادا توطيد لمبدأ الرأفة في الحروب الإسلامية. وفيها كذلك قرينة مؤيدة لصحة نقد قول من يقول إنه ليس لمشركي العرب إلا الإسلام أو القتل وكل هذا مما أيدته آيات قرآنية عديدة منها ما مرّ ومنها ما سوف يجيء بعد. ولقد روى المفسرون وكتّاب السيرة روايات متنوعة في سياق هذه الآيات عما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بالأسرى يحسن إيرادها هنا لما فيها من سنن وتلقينات وصحتها إجمالا محتملة ولو لم ترد في الصحاح. من ذلك أنه أمر بقتل شخصين منهم كانا شديدي الأذى والنكاية في مكة وهما النضر بن الحرث وعقبة بن أبي معيط «1» . وأنه حينما وصل المدينة فرق الأسرى بين أصحابه ووصاهم بهم خيرا ونهى عن

_ (1) روى البخاري عن عروة بن الزبير صورة من أذى عقبة للنبي صلى الله عليه وسلم قال: (سألت ابن عمرو بن العاص عن أشدّ شيء صنعه المشركون بالنبيّ فقال: بينما كان يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة فوضع ثوب النبيّ في عنقه فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ورفعه عن النبيّ وقال أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ... التاج ج 3 ص 363) . وروى ابن هشام صورة أخرى وهي أن عقبة جلس إلى النبي واستمع له فغضب عليه أبيّ بن خلف أحد صناديد مشركي قريش وحلف أن يقاطعه إذا لم يأت محمدا ويتفل في وجهه ففعل عدوّ الله ذلك. ج 1 ص 36. أما النضر فكان يتبع النبي وكلما جلس إلى أحد أو جلس عنده أحد جلس وتحدى النبي وكذبه وقال هي أساطير الأولين اكتتبها ... وقد ذكر ذلك ابن هشام أيضا انظر ج 2 ص 358- 359.

التمثيل بهم، ولم يلبث أن أخذ يأتي ذووهم من مكة ليفتدوهم وكان أعلى فداء أربعة آلاف درهم وأقلّه ألف درهم. وكان بين الأسرى أبو العاص بن الربيع زوج بنت رسول الله زينب فأرسلت قلادتها لفدائه. فلما رآها النبي رقّ لها رقة شديدة وقال لأصحابه إذا رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها ما لها فافعلوا. ففعلوا وأخذ النبي مقابل ذلك من أبي العاص وعدا بإرسال زينب إلى المدينة ففعل. وكان بين الأسرى عمّه العباس فقال رجال من الأنصار: ائذن لنا لنترك لابن أختنا عباس فداءه فقال لا والله لا تذرون منه درهما. وأخذ منه مائة أوقية ذهبا فدية. وقد قال له العباس قد كنت مسلما فقال له الله أعلم بإسلامك فإن يكن كما تقول فالله يجزيك. وأما ظاهرك فقد كان علينا فافتد نفسك وابني أخيك نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب وحليفك عتبة بن عمرو أخي بني الحارث بن فهر فقال ما ذاك عندي يا رسول الله قال فأين الذي دفنته أنت وأم الفضل، قلت لها إن أصبت في سفري فهذا المال لبنيّ الفضل وعبد الله وقثم. قال والله يا رسول الله إني لأعلم أنك رسول الله. وإن هذا شيء ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل. وقد كان معه حين خرج من مكة عشرون أوقية من الذهب فأخذت منه بعد أسره فقال يا رسول الله احتسبها من فدائي فقال لا، هذا شيء خرجت تستعين به علينا فأعطاناه الله. وكان بين الأسرى ابن لأبي سفيان اسمه عمرو وقد قتل له ابن آخر اسمه حنظلة. فقالوا له افتد ابنك فقال أيجمع على دمي ومالي. قتلوا حنظلة وأفدي عمرا دعوه في أيديهم ما بدا لهم. وفي هذه الأثناء خرج من المدينة سعد بن النعمان من بني عوف إلى مكة معتمرا وكان مسلما فعدا عليه أبو سفيان فحبسه بابنه عمرو فمشى أقاربه إلى رسول الله وسألوه أن يعطيهم ابن أبي سفيان ليفكوا به صاحبهم ففعل واستخلصوا صاحبهم به، وقد منّ النبي على بعض الأسرى ممن لا مال له ولم يرسل ذووه فداءه ومنهم أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي الذي روي أنه مدح النبي بقصيدة وعاهده على أن لا يظاهر عليه أحدا «1» .

_ (1) انظر ابن هشام ج 2 ص 269- 299 و 364 وتاريخ الطبري ج 2 ص 131- 165 وتفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 70 إلى 71]

وقد روى ابن سعد في طبقاته أن النبي صلى الله عليه وسلم منّ على بعض الأسرى الذين لم يكن لهم مال يفتدون به أنفسهم مقابل تعليم الواحد منهم الكتابة لعشرة من المسلمين. وكان ممن تعلّم بهذه الوسيلة زيد بن ثابت رضي الله عنه «1» . وهناك حديث يرويه الإمام أحمد عن ابن عباس قال «كان ناس يوم بدر ولم يكن لهم فداء فجعل رسول الله فداءهم أن يعلّموا أولاد الأنصار الكتابة فجاء غلام يبكي إلى أبيه فقال ما شأنك قال ضربني معلّمي، قال الخبيث يطلب بذحل بدر، والله لا تأتيه أبدا» «2» . هذا، ونقول في صدد جملة تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ إن إرادة عرض الدنيا مما نسب إلى الكفار في مواضع كثيرة من القرآن بحيث ينبغي صرفه بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأبرار إلى مفهوم آخر. ويتبادر لنا أن الجملة بقصد تقرير كون النداء هو عرض دنيوي في حين أن الله إنما يريد للمسلمين العواقب الحسنة والتنزه التام عن أعراض الدنيا حينما يكون الظرف ظرف جهاد في سبيل الله وتوطيد هيبة المسلمين ورهبتهم في قلوب أعدائهم. [سورة الأنفال (8) : الآيات 70 الى 71] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) . في هاتين الآيتين أمر للنبي بمخاطبة الأسرى وتبشيرهم وإنذارهم: فإذا حسنت نياتهم وطهرت قلوبهم فالله معوضهم خيرا مما أخذ منهم من الفداء وغافر لهم ما أسلفوه وهو الغفور الرحيم. أما إذا أضمروا الخيانة لعهد النبي فليذكروا أنهم خانوا الله من قبل بوقوفهم موقف الكفر والأذى فمكّن الله المسلمين منهم فنكلوا بهم، وهو العليم بكل شيء الحكيم الذي يأمر بما فيه الصواب والحكمة.

_ (1) طبقات ابن سعد ج 2 ص 62. (2) نيل الأوطار ج 8 ص 144 والذحل بمعنى الثأر. [.....]

تعليق على الآية يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم والآية التالية لها

تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ والآية التالية لها وقد روى المفسرون «1» أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه كان يقول: إن هذه الآية نزلت فيّ حين ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إسلامي وقد أعطاني الله خيرا مما أخذ مني مائة ضعف وأبدلني بالعشرين أوقية من الذهب عشرين عبدا كلهم تاجر، مالي في يديه. وفي رواية أخرى أربعين عبدا بدل العشرين. وإنه كان يقول ما أحب أن هذه الآية لم تنزل فينا وإن لي الدنيا، فقد قال الله نؤتكم خيرا مما أخذ منكم. وقد أعطاني مائة ضعف ما أخذ مني. وقال يغفر لكم وأرجو أن يكون قد غفر لي. ورووا مع هذه الرواية رواية أخرى عن ابن عباس جاء فيها أن الأسرى بما فيهم العباس قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم آمنّا بما جئت ونشهد أنك رسول الله ولننصحن بذلك قومنا. والروايات لم ترد في الصحاح ويلحظ إلى هذا أن فحوى الآيتين يفيد أن المخاطبين أكثر من واحد أو بالأحرى جميع الأسرى. وأن الآية الثانية منهما احتوت تحذيرا من الخيانة وإنذارا قويا، وهذا لم يكن متوقعا من العباس بحيث يسوغ التوقف في الروايات وبكون الآيات نزلت في العباس. ونستبعد كذلك ما ذكرته الرواية الثانية من أن الأسرى أسلموا لأن روايات السيرة والمفسرين والمؤرخين متفقة على أن معظم الأسرى قد افتداهم أهلهم واستردوهم ولا بد أن يكون ذلك لو أنهم أسلموا حتى زوج بنت رسول الله فإنه لم يسلم ومنّ رسول الله عليه بتحبيذ من أصحابه حينما بعثت زوجته بعقدها لتفتديه على ما ذكرناه قبل قليل. وعلى كل حال ففي الآيتين إيعاز رباني بما ينبغي أن يتصرف به النبي صلى الله عليه وسلم تجاه الأسرى بعد أن أخذ الفداء من بعضهم ومنّ على بعضهم. ومن الجائز أن يكون النبي بهذا الإيعاز أخذ منهم عهدا بالمسالمة والكفّ، ولعلّه أخذ من بعضهم

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي والخازن وابن كثير.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 72 إلى 75]

عهدا بالإسلام ووعدا بالعودة بعد قضاء ما لهم من مصالح في مكة. وقد يكون التبشير برحمة الله وغفرانه إذا هم ثبتوا على عهدهم وحسن نياتهم، والإنذار إذا كانوا يبيتون الغدر والخيانة مع التذكير بما كان من نصر الله ورسوله عليهم في وقعة بدر قد يدعم ذلك والله تعالى أعلم. [سورة الأنفال (8) : الآيات 72 الى 75] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) . (1) الذين آووا ونصروا: كناية عن أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل المدينة لأنهم آووا إليهم النبي والمهاجرين ونصروهم. هذه الآيات تحتوي بيان صلات كل من المؤمنين والكافرين ببعضهم وموقف كل منهم تجاه بعضهم وتجاه الفريق الآخر: 1- فالذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله، وهم المهاجرون من مكة إلى المدينة من حيث ظروف التنزيل، والذين آووهم ونصروهم، هم المسلمون من أهل المدينة، بعضهم أولياء بعض. والأخوّة موطدة بينهم، يتناصرون في كل موقف ويتولى بعضهم بعضا. 2- أما الذين آمنوا ولم يهاجروا إلى المدينة ليلتحقوا بالنبي والمؤمنين فيها

تعليق على الآية إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله إلخ والآيات التالية لها إلى آخر السورة

من المهاجرين والأنصار فلا يترتب على هؤلاء واجب توليهم إلّا إذا هاجروا والتحقوا بهم. غير أنهم إن استنصروهم على أعداء لهم اعتدوا عليهم بسبب دينهم فيجب عليهم أن ينصروهم إذا لم يكن بينهم وبين هؤلاء الأعداء عهد وميثاق. والله خبير بما يعمل كل من المؤمنين وبمقاصدهم. 3- وأما الكفار فإن بعضهم أولياء بعض. ولا يصح في أي حال أن يكون بينهم وبين المؤمنين المهاجرين والأنصار أي تضامن أو ولاء. ومخالفة هذا الحد مؤدية إلى الفتنة والفساد العظيم وهذا ما يجب على المؤمنين المخلصين أن يحذروه ويتوقوه. 4- والمؤمنون المخلصون حقا هم الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووهم ونصروهم، فهؤلاء جميعهم لهم المغفرة من الله والرزق الكريم عنده. 5- والذين يؤمنون بعد هذا ويلتحقون بالمهاجرين والأنصار ويجاهدون معهم فيصبحون منهم لهم ما لهم وعليهم ما عليهم. 6- والذين تجمع بينهم رحم وقرابة من المؤمنين المهاجرين والأنصار هم أولى ببعضهم. وهذا هو حكم الله وكتابه وهو العليم بمقتضيات كل أمر وشأن. تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلخ والآيات التالية لها إلى آخر السورة يبدو لأول وهلة أنه لا صلة بين هذه الآيات والسياق السابق. غير أن إنعام النظر يؤدي إلى لمس شيء من الاتصال فيما يتبادر لنا حيث إن وقعة بدر وطّدت أولا الأخوة بين المهاجرين والأنصار أشد من قبل لأنهما اشتركا في حرب وغدوا يتحملان تبعاتها الاجتماعية التي كانت شديدة في بيئة النبي وعصره. ووطّدت ثانيا

العداء الشامل بين المهاجرين والأنصار من جانب وبين كفار قريش من جانب، وكان بين هؤلاء والمهاجرين صلات وشيجة من قربى ورحم ودم وصهر وشركة مال وملك، فاقتضت حكمة التنزيل إنزال الآيات لبيان الحكم في صلات كل منهم بالآخر. ووضعت في آخر السورة إما لأنها نزلت بعد سابقاتها مباشرة أو للتناسب الموضوعي. ولم يرو المفسرون رواية في نزول الآيات وإنما رووا عن ابن عباس وبعض التابعين أن التولي في الآيتين الأولى والثانية بمعنى التوارث. وأن الآية الأولى منهما في صدد تشريع التوارث بين المهاجرين والأنصار الذين آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم. وأن الآية الثانية في صدد منع التوارث بين المؤمنين والكفار. وإلى هذا روى المفسرون أيضا أن التولي في الآيتين بمعنى التضامن والتناصر «1» . وروح الآيتين ومضمونهما في جانب القول الثاني فيما يتبادر لنا. ويقوي هذا ما جاء في الآية الأولى من بيان الموقف الذي يجب أن يقفه المهاجرون والأنصار من المؤمنين غير المهاجرين. وتعبير اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ وتعبير فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ يكادان يفسران مفهوم تعبير أَوْلِياءُ وتعبير وَلايَتِهِمْ اللذين جاءا قبل. ويقويه أيضا التنبيه الذي جاء في الآية الثانية على أن مخالفة ما جاء فيها بتبادل التولي بين الكفار والمؤمنين يؤديان إلى الفتنة والفساد الكبير. فهذا التعبير القوي أجدر أن يكون بسبيل التناصر والتولي بين ذوي العصبية والأرحام من المؤمنين والكفار أكثر منه بسبب التوارث. وما جاء في الآية الأولى من بيان الموقف الواجب تجاه المؤمنين غير المهاجرين يدل على أنه كان في مكة أو في البادية مؤمنون ظلوا حيث هم ولم يهاجروا. وقد تكررت الإشارات في سور أخرى إلى هؤلاء أيضا. ومن هذه

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي وبعضهم أورد الروايات المتناقضة. انظر أيضا ابن هشام ج 2 ص 324 حيث قال في سياق تفسير الآية الثانية (لا يوال المؤمن الكافر وإن كان ذا رحم به) .

الإشارات ما يفهم أنه كان من هؤلاء العاجز أو الممنوع عن الهجرة بالقوة، ومنهم من كان يكتم إيمانه كما جاء في هذه الآيات من سورة النساء: وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) وإِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) وآية سورة الفتح هذه: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ [25] ومنهم من كان مستسلما مقصرا عن الهجرة بدون عذر كما جاء في آية سورة النساء هذه: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) . وأسلوب الكلام في حقّ الأخيرين في آية الأنفال [72] والتي نحن في صددها، ينطوي على شيء من التأنيب. كما أن أسلوب آية النساء [97] جاء شديدا قاسيا في حقهم. وهذه حكمة التنزيل التي لم توجب على المهاجرين والأنصار نصرا لهؤلاء إلّا في حدود ضيقة. فحريتهم الدينية هي مما يجب نصرهم فيها لأن الأمر متعلق بكلمة الله ودينه وهذا مما ينطوي في تعبير وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ ومع ذلك جعل هذا الواجب في حدود ضيقة أيضا حيث جعله في حالة ما إذا كان الاستنصار على جماعة ليس بينهم وبين المسلمين ميثاق صلح وسلام. أما حقوقهم ومصالحهم الدنيوية وما ينشأ عن التضامن القبلي أو العائلي من تبعات وواجبات فلا شأن لهم به. ولقد روى الشيخان وأحمد وأصحاب السنن حديثا نبويا جاء فيه: «لا هجرة بعد الفتح وإنما نيّة وجهاد. وإذا استنفرتم فانفروا» «1» . حيث يسوغ القول إن هذا

_ (1) انظر تفسير آية النساء [100] في تفسير الخازن والمنار وانظر تعليق السيد رشيد رضا على هذا الموضوع. وقد ورد هذا الحديث في التاج برواية الخمسة مع فرق يسير وهذه صيغته: «إن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا ... » التاج، ج 4 ص 304.

التأنيب والتشديد إنما كان بالنسبة إلى ما قبل الفتح المكي حيث كان المتأخرون عن الهجرة قد رضوا بالبقاء في دار الكفر والظلم ولم يلتحق القادر منهم بإخوانهم ويضحوا مثلهم ليتضامنوا في موقف النضال القائم بينهم وبين الكفار. ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا رواه الإمام أحمد عن يزيد بن الخطيب الأسلمي جاء فيه فيما جاء في صدد الجهاد والدعوة من وصية النبي التي كان يوصي بها قواد سراياه ودعاته: «فإن أجابوك إلى الإسلام فاقبل منهم وكفّ عنهم ثم ادعهم إلى التحوّل من دارهم إلى دار المهاجرين وأعلمهم إن فعلوا ذلك أنّ لهم ما للمهاجرين وعليهم ما عليهم فإن أبوا واختاروا دارهم فاعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري عليهم ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب إلّا أن يجاهدوا مع المسلمين» . والحديث من مرويات مسلم والترمذي وأبي داود والنسائي أيضا بفروق يسيرة «1» . والراجح أنه صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة فيكون بينه وبين الحديث السابق وبين الآيتين تساوق كما هو واضح. ومع ذلك فإن في الآية الأولى تلقينا مستمر المدى بوجوب عدم بقاء المسلم في دار الظلم والبغي راضخا لحكم الظالمين البغاة وبوجوب هجرته إذا استطاع إلى حيث يكون له إخوان يقاسمهم السرّاء والضرّاء ويتضامن معهم على هدم البغي والظلم وإرغام البغاة والظالمين. وفي الآية تلقين جليل آخر. وهو وجوب احترام المسلمين لعهودهم حتى ولو كانت حائلة أحيانا دون نصر مسلمين آخرين في بقعة أخرى. ولقد تكرر حثّ القرآن على الوفاء بالعهد بحيث يكون هذا مبدأ محكما من مبادئ القرآن. وننبّه

_ (1) انظر التاج، ج 4 ص 327.

بهذه المناسبة على أننا لم نر أحدا من المفسرين فيما اطلعنا عليه يقول بنسخ هذا المبدأ ولو في حالة مثل الحالة التي ذكرت في الآية. بحيث يكون هذا أيضا محكما بالنسبة لهذه الحالة. ومن تحصيل الحاصل أن يقال: إن هذا لا يمنع المسلمين المعاهدين من بذل جهودهم مع معاهديهم لضمان حرية المسلمين وحقوقهم عندهم. لأن روح الآية تلهم أن التلقين قاصر على عدم نقض العهد كما تلهم أن على المسلمين مبدئيا نصرة إخوانهم الذين يستنصرون بهم حيث يوجب هذا عليهم بذل تلك الجهود. وأسلوب الآية الثانية قويّ شديد. وهذا ما اقتضته على ما هو المتبادر ظروف نزولها حيث كانت الوشائج بين مسلمي قريش وكفارهم قويّة، بينما غدا العداء مستحكما شديدا بين المسلمين عامة وبين هؤلاء الكفار، بحيث كان أقل تهاون أو تسامح أو تفكك يسبب فسادا عظيما ويهدد مصلحة المسلمين بأشد الأخطار. وقد تكرر التشديد في هذا الأمر في آيات عديدة أخرى لأن الحالة ظلت تقتضي ذلك مثل آية سورة المجادلة هذه: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [22] ومثل آية سورة التوبة هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [23] . وفي الآيات الثلاث الأولى توطيد للوحدة الإسلامية التي جمعت بين المسلمين على اختلاف قبائلهم، وإقامتها مقام عصبية القبيلة والأسرة الضيقة التي كانت هي ضابط الحياة الاجتماعية العربية قبل الإسلام والتي كانت تؤدي إلى العداء والحروب بين القبائل لأتفه الأسباب. كما أن فيها تلقينا جليلا مستمر المدى بإيجاب كبح جماع النفس والهوى الخاص: الشخصي والأسروي والقبلي في مواقف النضال وجعل المصلحة العامة هي السائدة العليا وتضحية كل اعتبار في سبيلها.

ومن الحق أن ننبّه إلى أن التشديد الذي احتوته الآية الثانية إنما هو في صدد التناصر والتولي أولا. وليس شاملا إلّا بالنسبة للظروف التي يكون فيها عداء وقتال بين المسلمين والكفار ثانيا. حيث ورد في القرآن آيات كثيرة تقرّ المسالمة والصلح بين المسلمين وغيرهم وتأمر بالاستقامة للمعاهدين ما استقاموا مما مرت الإشارة إليه في هذه السورة وفي سورة البقرة وفي سور أخرى على ما يأتي شرحه بعد. وحيث ورد في سورة الممتحنة آيات تحثّ المسلمين على البرّ والإقساط لغيرهم الذين يوادونهم ويسالمونهم وتحصر النهي في الذين يقاتلون المسلمين ويظاهرون عليهم أعداءهم كما ترى فيها: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) . والتنويه الذي احتوته الآية الثالثة قوي وعظيم. فالذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله دون تردد وتقصير والذين آووا المهاجرين ونصروهم وتضامنوا معهم وكبحوا جماع النفس ولم يدعوا لأي ميل وصلة سبيلا على أداء ما يجب عليهم من التضامن والتناصر والتواثق هم أولياء بعض حقا وهم المؤمنون حقا وهم أهل لتكريم الله ورضائه حقا. وفي هذا ما فيه من تلقين جليل نفساني واجتماعي وإيماني مستمر المدى وقد تكرر ثناء القرآن وتنويهه بهم مما مرّ منه أمثلة في سورة البقرة ومما ورد أمثلة أخرى في سور أخرى يأتي تفسيرها بعد. والفقرة الأولى من الآية الرابعة فتحت الباب لاندماج من يؤمن ويهاجر ويجاهد بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في صف المؤمنين المهاجرين المجاهدين السابقين. وهؤلاء وأمثالهم ممن عنتهم جملة وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ في آية سورة التوبة هذه: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ... [100] وفي هذا تلقين جليل يتصل بتوطيد الأخوة بين المسلمين حينما يجتمعون في ساحة واحدة من الإيمان والهجرة

والجهاد وإن تأخر بعضهم عن بعض. ويتصل كذلك بمعنى التسامح والتصافي ونسيان الماضي الأليم. وهو تلقين مستمر المدى في كل ظرف مماثل على ما هو المتبادر. وفي سورة التوبة آية فيها توطيد لهذا المعنى بأسلوب آخر وهي فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) . والفقرة الثانية من الآية الرابعة هي في صدد أولوية ذوي الأرحام ببعضهم حينما يكونون جميعهم مسلمين في كل ما يترتب على ذوي الأرحام نحو بعضهم من حقوق وتبعات ويدخل في ذلك حقوق التوارث طبعا. وهذه الحقوق ممتنعة بين المسلمين والكفار على ما أوضحته السنّة النبوية حيث روى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم» «1» . وحيث روى أصحاب السنن حديثا نبويا ثانيا جاء فيه: «لا يتوارث أهل ملّتين شتّى» «2» . ولقد روى المفسرون «3» أن هذه الآية نسخت ما كان قبلها من التوارث بين المتآخين من المهاجرين والأنصار وأنها نزلت لحدتها ومتأخرة عن سابقاتها. ومع احتمال صحة تأخرها عن سابقاتها حيث احتوت حكما متعلقا بمن التحق بالمسلمين مؤخرا مهاجرا مجاهدا وكون وضعها في محلها هو للتناسب الموضوعي فإننا غير مطمئنين إلى القول بوجود نسخ فيها على النحو الذي ذكره المفسرون استنباطا من الآية الأولى بعد أن رجحنا أن هذه الآية هي في صدد الحثّ على التضامن والتناصر وليست في صدد توطيد التوارث بين المتآخين من الأنصار والمهاجرين استنادا إلى القرائن الملموحة في الآية نفسها. ولقد روى الطبري وغيره أن الآية في صدد منع التوارث التعاقدي حيث كان من عادتهم حينما يدخل واحد في ولاء آخر أن يقول كل منهما للآخر (وترثني

_ (1) انظر التاج، ج 2 ص 229. (2) انظر المصدر نفسه. (3) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.

وأورثك) وأن الآية قد نسخت ذلك. والرواية ليست في الصحاح. ونحن نتوقف فيها لأن ما فيها بعيد عن مضمون الآيات ومقامها. ولقد قال الطبري بعد أن أورد ما أورد بأنه ليس فيها ناسخ ولا منسوخ. ويتبادر لنا أن هذا هو الأوجه. ويتبادر لنا كذلك أن الحكمين اللذين احتوتهما فقرتا الآية متصلان ببعض وأن الآية متصلة بالآية الثانية التي منعت بأسلوب مشدد أن يتولى المؤمنون الكافرين وأن يبقوا على ما بينهم وبينهم من صلة وحقوق بسبب الرحم والدم. فجاءت الآية الرابعة لتبين الحكم فيمن يؤمن من الكفار مؤخرا ويلتحق بالمهاجرين ويجاهد معهم. فهؤلاء قد أصبحوا مثلهم. وقد رفع المنع السابق عنهم. وصار لذوي الأرحام من السابقين واللاحقين الحقوق والواجبات المتعارفة بعد ما غدوا جميعهم مسلمين. وهذا البيان يسوغ القول إن الآية متصلة بالسياق جميعه وإنها نزلت مع الآيات الثلاث السابقة لها. ولقد قال القاسمي في سياق الآية الأخيرة إن الشيعة الإمامية يستدلون بها على تقدم علي رضي الله عنه على غيره بالإمامة. أي أنهم قد اعتبروا مقام النبوة إرثا يرثه الأقربون من ذوي رحم النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا من غرائبهم الكثيرة في تأويل القرآن لتأييد أهوائهم. وقد نسوا هنا أن عمّ النبي العباس عاش بعد النبي وأنه الأولى رحما من علي رضي الله عنهما. وهذا ما كان يحاج العباسيون به العلويين حينما صار لهم الملك وصار العلويون يرون في ذلك غصبا لحقهم.

سورة آل عمران

سورة آل عمران في هذه السورة ثلاثة فصول طويلة: الأول في صدد مناظرة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأهل الكتاب. والثاني في صدد مواقف اليهود ومكائدهم. والثالث في صدد وقعة حربية بين النبي والمسلمين والمشركين. وقد تخلل كل فصل ما يناسب موضوعه من محاجّات وتنديدات وتنويهات ومواعظ ومعالجات وتلقينات ومبادئ جليلة. وجمهور المفسرين وكتّاب السيرة «1» متفقون على أن المناظرة التي جاء الفصل الأول في صددها كانت مع وفد نصارى نجران. ولكنهم لا يذكرون متى قدم هذا الوفد إلى المدينة. وفي سياق لابن سعد في الجزء الثاني من طبقاته «2» وللإمام أبي يوسف في كتابه الخراج «3» نصّ عهد نبوي لهم من شهوده أبو سفيان بن حرب. وهذا قد يعني إن صحّ أن العهد كتب بعد فتح مكة بما لا يقل عن سنة. ويؤيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب العهد الذي كتبه لهم أمّنهم على أنفسهم وملّتهم وأرضهم وأموالهم وبيعهم وأن لا يغير أسقف عن أسقفيته وفرض عليهم جزية سنوية مقدارها ألفا حلة وآذنهم فيه أن ذمته بريئة ممن أكل الربا منهم ... إلخ. لأن هذا لا يمكن أن يكون وقع إلّا بعد أن صار للنبي سلطان على اليمن. وهذا إنما تمّ بعد فتح مكة. وقد أورد ابن هشام خبر قدوم وفد من نصارى نجران

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والزمخشري والطبرسي وابن هشام ج 2 ص 204- 216. (2) طبقات ابن سعد ج 2 ص 55 و 119. (3) ص 40- 41.

على النبي في سلسلة أخبار وقعت أحداثها قبل فتح مكة بمدة طويلة بل وقبل خبر وقعة أحد التي كانت في السنة الهجرية الثالثة. ولم يذكر تاريخا ولا كتاب عهد مع ذكره أن الشطر الأول من السورة قد نزل في مناسبة قدومه وأنهم تناظروا معه في أمر المسيح وأنه اقترح عليهم المباهلة وجعل لعنة الله على الكاذبين امتنعوا وقالوا له نوادعك ونبقى على ديننا «1» . وإجماع الروايات على أن الفصل الأول هو في صدد هذا الوفد ومجيء السورة في الترتيبات المرويّة بعد سورة الأنفال يسوغان القول إن وفد نجران قد قدم في وقت مبكر جدا من العهد المدني وقبل فتح مكة. ويكون خبر نزول سورة آل عمران بعد سورة الأنفال بسبب الفصل الذي فيه خبر المناظرة مع الوفد واردا صحيحا. وحينئذ يكون الخبر الذي رواه ابن سعد وأبو يوسف عن قدوم الوفد بعد فتح مكة وكتابة النبي صلى الله عليه وسلم عهدا له حادثا ثانيا. وجمهور المفسرين متفقون كذلك على أن الوقعة الحربية التي جاء الفصل الثالث من فصول السورة في صددها هي وقعة أحد التي جرت بين المسلمين وبين جيش كفار قريش عند جبل أحد قرب المدينة بعد خمسة عشر شهرا من وقعة بدر حيث زحف صناديد قريش على رأس جيش كبير من مكة على يثرب لأخذ ثأرهم من يوم بدر. وورود هذا الفصل في السورة يؤيد وجاهة كون السورة نزلت بعد سورة الأنفال التي دار معظمها على وقعة بدر. ولقد أورد ابن هشام خبر قدوم وفد نجران قبل خبر وقعة أحد. وقد يؤيد كون وفد نجران جاء قبل وقعة أحد ورود فصل المناظرة في السورة قبل فصل أحد. ولعل انتصار النبي والمسلمين في بدر على أهل مكة كان ذا دويّ عظيم في أنحاء الجزيرة- وهذا مما لا يتحمل ريبا- حفّز نصارى نجران على إرسال وفدهم لاستطلاع النبأ النبوي العظيم وسهل قدومه. والله تعالى أعلم. ومن المحتمل أن تكون مواقف اليهود التي جاء الفصل الثاني في صددها قد

_ (1) ابن هشام ج 2 ص 204- 216.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 1 إلى 6]

كانت في ظروف قدوم وفد نجران فوضعت فصلا ثانيا. وفي كتب التفسير «1» روايات تذكر أن اليهود كانوا طرفا ثالثا في ما كان يجري من مناظرة بين النبي ووفد نجران. وفي هذا الفصل خطاب موجّه إلى أهل الكتاب عامة حينا وإلى النصارى واليهود حينا مما فيه تأييد لذلك. ولقد ذكرت روايات المفسرين «2» اسم بني النضير في سياق تفصيل المواقف اليهودية التي حكاها الفصل. وبنو النضير إنما أجلوا عن المدينة بعد وقعة أحد. وفي هذا تأييد آخر. وقد يدل هذا أن وقعة أحد قد كانت بعد ذلك فوضع فصلها بعد الفصلين. ومع كل ما تقدم فنحن نرجح أن فصول السورة وآياتها قد رتبت بعد استكمال نزولها كما هو شأن سورة البقرة. والله أعلم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) . بدأت السورة بالحروف المتقطعة الثلاثة للتنبيه واسترعاء الذهن إلى ما يأتي بعدها على ما رجحناه في أمثالها. ثم أخذت الآيات بعدها تقرر صفات الله وتنوّه بكتبه: فهو الذي لا إله إلّا هو الحي القيوم يأمر الكون وما فيه. وهو الذي نزّل الكتاب على النبي- والخطاب موجّه إليه- صدقا وحقا ومصدقا لما تقدمه من الكتب السماوية ومتطابقا معها كما أنه هو الذي أنزل التوراة والإنجيل من قبله هدى للناس. وقد أنزل الفرقان كذلك هدى للناس. وهو الذي لا يخفى عليه شيء

_ (1) انظر كتب التفسير السابقة الذكر. وانظر في صدد وقعة أحد ابن سعد ج 3 ص 78- 91 وابن هشام ج 3 ص 3- 159. (2) انظر المصدر نفسه.

تعليق على الآيات الست الأولى من السورة وخلاصة عن وفد نصارى نجران

في الأرض ولا في السماء وهو الذي يصوّر الناس- والخطاب موجه إلى السامعين- في أرحام أمهاتهم كيف تشاء حكمته. وهو العزيز القويّ الذي لا تطاوله قوّة والحكيم الذي يفعل ما فيه الحكمة والصواب. ومن أجل ذلك لا يصح أن تكون الألوهية لأحد غيره ولا يصح أن يكون إله إلّا هو. والذين يكفرون بآياته ويجحدونها يذوقون عذابه الشديد. وهو القادر المنتقم ممن يقف منه ومن آياته موقف الكفر والجحود. والآيات صريحة بأن الله أنزل التوراة والإنجيل. ولقد شرحنا في سياق تفسير الآيات [157- 158] من سورة الأعراف معنى الكلمتين ومدى ما تدلّ عليهما وما هو المتداول في أيدي الكتابيين مما يطلق عليه الكلمتان، وما يعرف بالعهد القديم والعهد الجديد فلا نرى حاجة إلى الإعادة والزيادة. إلّا أن نقول إن في العبارة القرآنية هنا توكيدا لما قررناه من أن القرآن عنى بالتوراة والإنجيل كتابين أوحى الله بهما وأنزلهما وإنهما غير ما في أيدي اليهود والنصارى من أسفار كتبت بأقلام بشرية. وفي ظروف مختلفة وبعد موسى وعيسى وفيهما من التناقض والشوائب ما تتنزّه عنه كتب الله التي أنزلها على أنبيائه. وجمهور المفسرين على أن المقصد من كلمة الفرقان وصف القرآن بأنه نزل ليكون الفارق بين الحق والباطل والفاصل في ما وقع من اختلاف بين أهل الكتب السماوية السابقة وفيما طرأ عليها من تحريف. وهو وجيه لأن القرآن قد ذكر بلفظ الكتاب في الآية الثانية. تعليق على الآيات الستّ الأولى من السورة وخلاصة عن وفد نصارى نجران لقد روى الطبري وتابعه آخرون أن هذه الآيات إلى بضع وثمانين آية بعدها نزلت في مناسبة قدوم وفد من نصارى نجران ومناظرتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في صفات

الله والمسيح. وقد روى هذا ابن هشام عن ابن إسحق وهما أقدم بمائة سنة من الطبري. غير أن المستفاد من سياق ابن هشام أن الذي نزل في هذه المناسبة هو [64] آية فقط. وروح الآيات قد تدعم صحة رواية نزولها في مناظرة بين النبي وفريق من النصارى سواء أكان عدد آياتها ما ذكره الطبري أو ما ذكره ابن هشام لأنها تنطوي على تقريرات حقائق عن الله تعالى وعيسى عليه السلام ينكر بعضها طرف آخر أو يأخذها على غير وجهها الحق وعلى التنديد بهذا الطرف بسبب ذلك. وليس في الآيات ما يساعد على القول ما إذا كانت هذه السلسلة نزلت دفعة واحدة كما يستفاد من الطبري وابن هشام، أم متفرقة غير أن ما فيها من مواضيع ومشاهد متنوعة واستطرادا يجعلنا نرجّح أنها لم تنزل دفعة واحدة. والله تعالى أعلم. وعلى كل حال فالمتبادر أن هذه الآيات الست هي بمثابة مقدمة أو مدخل بين يدي ذكر ما كان من المناظرة أو تعقيب عليها. وهذا استلهم من فحوى الآيات التي أشير فيها إلى التوراة والإنجيل ثم إلى القرآن الذي جاء فرقانا بين الحق والباطل بأسلوب ينطوي على تقرير كونه جاء ليبين ما وقع من تحريف في التوراة والإنجيل وانحراف عنهما ثم إلى تصوير الله تعالى الناس في الأرحام كيف يشاء مما قد ينطوي فيه إشارة إلى حادث ولادة عيسى عليه السلام بأمر الله وتصويره ومعجزته «1» . وخلاصة ما رواه المفسرون وكتّاب السيرة وبخاصة ابن هشام عن وفد نصارى نجران أنه قدم المدينة في ستين راكبا فيهم أربعة عشر من أشرافهم. وفيهم ثلاثة هم الرؤساء فيهم وهم عبد المسيح أمير القوم وعاقبهم وصاحب مشورتهم والأيهم ثمالهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم وأبو حارثة أسقفهم وحبرهم

_ (1) انظر تفسير الطبري وابن كثير والخازن والطبرسي ثم ابن هشام ج 2 ص 204- 216 وطبقات ابن سعد ج 2 ص 55 و 119 وكتاب الأموال للإمام أبي عبيد بن القاسم ص 27 وكتاب الخراج للإمام أبي يوسف ص 40. [.....]

وإمامهم. وقد أنزلهم النبي صلى الله عليه وسلم في مسجدهم وسمح لهم بالصلاة فيه نحو المشرق. وقد ناظروه وجادلوه في أمر عيسى وألوهيته وبنوّته وتلا عليهم ما ورد في القرآن عنه ودعاهم إلى الرجوع عما في عقيدتهم فيه من انحراف، فماروا وكابروا فعرض عليهم المباهلة والملاعنة حيث يدعو كل فريق من الفريقين أن يلعن الله الكاذب فيهم. فاستمهلوه إلى الغد وتشاوروا فيما بينهم فقال لهم عبد المسيح لقد عرفتم والله أن محمدا لنبي مرسل. ولقد علمتم أنه لم يلاعن قوم نبيا قط إلّا استأصلهم الله فإن كنتم أبيتم إلّا إلف دينكم فوادعوا الرجل ولا تلاعنوه. فغدوا على رسول الله وقالوا له قد رأينا أن لا نلاعنك وأن نتركك على دينك ونرجع على ديننا. وسألوه ألست تقول إن عيسى كلمة الله وروح منه قال بلى. قالوا حسبنا هذا منك. وطلبوا منه حسب رواية ابن هشام أن يرسل معهم شخصا من أصحابه يقضي في خلاف ناشب بين بعضهم على حقوق وأرضين فأرسل معهم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه. وطلبوا منه حسب رواية ابن سعد وأبي يوسف أن يكتب لهم كتاب أمان وعهد فكتب لهم كتابا أعطاهم فيه عهده وذمته وأمنهم على أنفسهم وحالتهم وعباداتهم ما لم يظلموا ويتعاملوا بالربا وفرض عليهم جزية سنوية. ومما رواه ابن هشام أن أبا حارثة اعترف لأخ له اسمه كرز بصدق نبوة محمد فقال له وما يمنعك منه وأنت تعلم هذا فقال: ما صنع قومنا لنا شرفونا وأكرمونا ومولونا وأبوا إلّا مخالفته. وهناك رواية طويلة جدا أوردها ابن كثير عن البيهقي تفيد أن قدوم وفد نجران على النبي كان قبل نزول سورة النمل. وبناء على رسالة أرسلها النبي إلى نصارى نجران. وأن الوفد كان مؤلفا من ثلاثة فناظروه ثم أبوا التلاعن معه وطلبوا موادعته وأخذوا منه عهدا وفرض عليهم جزية إلخ مما ذكرته الروايات الأخرى. وليس شيء من أخبار وفد نجران واردا في كتب الصحاح. غير أن هذا لا يمنع أن فيما جاء في الروايات حقائق صحيحة. وقد اتفق على روايتها كتّاب السيرة والمفسرون القدماء ولا سيما الإمامان أبو يوسف وأبو عبيد باستثناء رواية البيهقي التي تبدو شاذة عن الروايات الأخرى ومتناقضة وغير متسقة مع الوقائع والحقائق

من حيث إن سورة النمل مكية ونزلت في عهد مبكر من العهد المكي وأن ما ورد فيها لا يمكن أن يكون إلّا في المدينة وفي حالة كان النبي صلى الله عليه وسلم في قوة وسلطان. وفي بعض آيات السلسلة ما يؤيد بعض ما جاء في الروايات كما أن في سور أخرى آيات تؤيد ما كان من مماراة الكتابيين ومكابرتهم في أمر النبي والقرآن وهم يعرفون أنه الحق والصدق مما مرّ بعضه في سورة البقرة ومما سوف يأتي شيء منه في هذه السورة وغيرها بعدها. وفي سورة التوبة آية صريحة تذكر ما كان من صدّ كثير من الأحبار والرهبان عن سبيل الله وأكلهم أموال الناس بالباطل وبمعنى آخر حرصهم على مناصبهم وما تدرّه عليهم من منافع وهي الآية [34] . وإذا كان من شيء يحسن استدراكه فهو ما نبهنا عليه ورجحناه في مقدمة السورة من أن نصارى نجران أرسلوا وفدا مرتين مرة قبل فتح مكة بعد وقعة بدر حيث ناظروا النبي وامتنعوا عن الاستجابة إلى التلاعن معه ووادعوه على ما جاء في رواية ابن هشام ومرة بعد فتح مكة حيث أخذوا منه عهدا بذمته وفرض عليهم فيه الجزية. والله تعالى أعلم. وإتماما للفائدة وكنموذج لكتب عهد النبي صلى الله عليه وسلم للوافدين عليه وما فيها من مظاهر الحق والعدل والتسامح والتشريع السياسي نورد في ما يلي نص العهد نقلا عن كتاب الخراج للإمام أبي يوسف: «بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما كتب محمد النبي رسول الله لأهل نجران إذ كان عليهم حكمه في كل ثمرة وفي كل صفراء وبيضاء ورقيق فأفضل ذلك عليهم وترك ذلك كله لهم. على ألفي حلة من حلل الأواقي في كل رجب ألف حلة وفي كل صفر ألف حلة مع كل حلّة أوقية من الفضة فما زادت على الخراج أو نقصت عن الأواقي فبالحساب وما قضوا من دروع أو خيل أو ركاز أو عرض أخذ منهم بالحساب. وعلى نجران مؤونة رسلي ومنعتهم ما بين عشرين يوما فما دون ذلك. ولا تحبس رسلي فوق شهر. وعليهم عارية ثلاثين درعا وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا إذا كان كيد باليمن ومعرة وما هلك مما أعاروه رسلي من دروع أو خيل أو ركاب أو عرض فهو ضمن على رسلي حتى

[سورة آل عمران (3) : الآيات 7 إلى 9]

يؤدوه لهم. ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله على أموالهم وأنفسهم وأرضهم وملّتهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم. وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير لا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن من كهانته وليس عليهم دية ولا دم جاهلية. ولا يخسرون ولا يعشرون ولا يطأ أرضهم جيش. ومن سأل منهم حقا فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين. ومن أكل ربا منهم فذمتي منه بريئة. ولا يؤخذ رجل منهم بظلم آخر. وعلى ما في هذا الكتاب جواز الله وذمة محمد النبي رسول الله حتى يأتي الله بأمره ما نصحوا وأصلحوا ما عليهم غير منفلتين بظلم. شهد أبو سفيان بن حرب وغيلان بن عمرو ومالك بن عوف من بني نصر والأقرع بن حابس الحنظلي والمغيرة بن شعبة. وكتب هذا الكتاب عبد الرحمن بن أبي بكر» . وقد يثير هذا الانسجام والسبك شبهة في صحة الكتاب. ولكنا نرجح أن هذا مما كان متداولا منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ولا ينفيه ما يمكن أن يكون طرأ عليه من تنميق وسبك أو بعض زيادة ونقص والله تعالى أعلم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 7 الى 9] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9) . (1) المحكمات: من الإحكام. وسيرد شرح لمداها أكثر بعد. (2) أمّ الكتاب: هذه الكلمة وردت في سورتي الزخرف والرعد أيضا، غير أن المتبادر أنها هنا عنت غير ما عنته في السورتين. وقد قال بعض المؤولين إنها هنا تعني المعاد والأساس في القرآن. وقال بعضهم إنها عنت الأصل الذي يرجع

إليه في القرآن. وكلا التأويلين وجيه. ونحن نرجح الثاني والله أعلم. (3) المتشابهات: من التشابه الذي بمعنى المقاربة والمماثلة أو من معنى الاشتباه في حقيقة المعنى، وسيرد شرح لمداها أكثر بعد. (4) زيغ: انحراف عن الحق. (5) تأويله: شرحنا معاني هذه الكلمة واشتقاقاتها في سياق تفسير سورة الأعراف. وجاءت هنا مرتين. والمتبادر من روح الآية أنها في المرة الأولى عنت صرف المتشابهات إلى ما يؤدي إلى الشك والشبهات والفتنة. وعنت في المرة الثانية المراد من الآيات المتشابهات ومداها وحكمتها وماهيتها. والله تعالى أعلم. المتبادر في شرح وتأويل هذه الآيات والله أعلم هو ما يلي: في الآيات إشارة إلى ما احتواه القرآن من أنواع الآيات ومواقف كل من المنحرفين عن الحق الذين في قلوبهم زيغ والراسخين في العلم منها. فقد أنزل الله تعالى على نبيه الكتاب- والخطاب في الآيات موجّه إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم- وفيه آيات محكمات وآيات متشابهات. والمحكمات هن أمّ الكتاب التي فيها الأسس والأهداف المحكمة التي يجب أن تكون المرجع والتي لا تتحمل تأويلات عديدة. والمتشابهات هي التي جاءت للتشبيه والتمثيل والتي تتحمل وجوها عديدة للتأويل. فالذين في قلوبهم زيغ ويريدون المماراة والتمحّل يصرفون الآيات المتشابهات إلى ما يؤدي إلى الشك والفتنة ويتمحلون في تأويلها تبريرا لأهوائهم وتمشيا مع انحرافهم وزيغهم وبقصد صرف الناس عن الأهداف والأسس والمبادئ المحكمة في حين أن الله هو الذي يعلم التأويل الصحيح القطعي للمتشابهات. والراسخون في العلم يعرفون ذلك ولا يتمحّلون في ما لا يدركون مما هو مغيب عنهم من تأويل المتشابهات القطعي ويقولون آمنّا به كل من عند ربنا. ويدعون الله عز وجل أن يثبت قلوبهم على الحق بعد أن هداهم إليه وأن لا يزيغ قلوبهم عنه وأن يهبهم رحمة منه. ويقررون أن الله تعالى جامع الناس إلى يوم معين يدانون فيه غير مرتابين في ذلك لأن الله قد وعد به وهو لا يخلف الميعاد.

تعليق على الآية هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ... إلخ والآيتين التاليتين لها ومداها في صدد التنزيل القرآني

وهذا الموقف من الآيات المحكمات والمتشابهات هو الجدير بذوي العقول الراجحة الذين يتعظون بالموعظة والتذكير ويقفون عند الحق الموقف الواجب. تعليق على الآية هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ... إلخ والآيتين التاليتين لها ومداها في صدد التنزيل القرآني لقد روى المفسرون روايتين في نزول الآيات جاء في واحدة منها أن جماعة من اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الحروف المتقطعة في أوائل السور ومدة نبوته ومدة الحياة الدنيا بقصد تعجيزه وإفحامه، فنزلت الآيات لتدمغهم بالزيغ والمماحكة وقصد صرف الناس عن آيات القرآن المحكمة وإثارة شكوكهم وشبهاتهم. وجاء في واحدة أن وفد نصارى نجران بعد أن تناظروا مع النبي في أمر عيسى ودعاهم النبي إلى المباهلة امتنعوا وقالوا له ألست تقول إن عيسى من روح الله وكلمته قال بلى. فقالوا هذا حسبنا فنزلت الآيات لتندد بهم وتذكر أنهم احتجوا بالآيات المتشابهة وتركوا الآيات المحكمة التي تنزّه الله عن الولد وتقرر أن عيسى عبد الله ورسوله وأنه دعا إلى عبادة الله وحده وأن ولادته كانت بمعجزة ربانية وحسب. والروايتان لم تردا في الصحاح. غير أن اتفاق الرواة على أن صدر سورة آل عمران نزل في مناسبة قدوم وفد نصارى نجران ومناظرته مع النبي تجعل الرجحان للرواية الثانية. والروايات تدور حول نزول الآية الأولى أي السابعة مع أن هذه الآية والآيتين اللتين بعدها جملة واحدة نزلت معا في ما يتبادر لنا. والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت تنزيل الآيات الثلاث معا لإتمام التقرير للموقف الذي يجب أن يقفه الراسخون في العلم وذوو العقول الراجحة من الآيات المحكمة والمتشابهة.

ودوران الرواية حول الأولى لا يمنع أن تكون الآيات الثلاث نزلت معا كما هو المتبادر. والآيات وإن كانت نزلت في مناسبة حادث وقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فإن أسلوبها المطلق يجعلها عامة المدى والتطبيق كشأن أمثالها. ومدى الآيات خطير جدا لاتصاله بالقرآن وفهمه وهذا مما يسوغ التوسع في شرحها. وفيما يلي شرح لمداها وما روي وقيل في سياقها وتعليق عليه: 1- في صدد معنى مُحْكَماتٌ تعددت التأويلات المروية عن أهل التأويل من أصحاب رسول الله وتابعيهم «1» منها أنها كل ما يعول عليه في القرآن من أحكام ويعمل به من حلال وحرام. أو كل ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان. أو الآيات الواضحة التي لا تحتمل تأويلات عديدة. أو الأوامر والنواهي القرآنية. أو الآيات الناسخة المثبتة للأحكام. أو الأحكام التي لم يطرأ عليها نسخ. أو أركان الإسلام وعماد الدين والفرائض والحدود وسائر ما بالخلق حاجة إليه وما كلفوا به بعاجلهم وآجلهم. ولم نطلع على حديث نبوي أو صحابي وثيق السند. والكلمة تتحمل كل هذه المعاني أو جلّها. ويمكن مع ذلك أن يقال استلهاما من روح الآية من جملة هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ أنها تعني الآيات التي لا تتحمل تأويلات عديدة ولا اشتباها والتي فيها إلى ذلك مبادئ وأحكام ووصايا واضحة غير منسوخة في الشؤون الدينية والدنيوية. وفي سورة محمد آية قد تساعد على فهم مدى الكلمة أو صورة من صورها وهي: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) والصورة في الآية هي أمر رباني قطعي وصريح بالقتال والله أعلم.

_ (1) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي إلخ.

2- في صدد مدى مُتَشابِهاتٌ قيل «1» إنها ما سوى الأحكام والحلال والحرام. أو ما استأثر الله تعالى بعلمه الحقيقي أو أشراط الساعة. أو القصص والأمثال. أو المجازات والتشبيهات. أو ما يحتمل وجوها عديدة للتأويل. أو المتشابهة في الصفة المختلفة في النوع. ولم نطلع كذلك على أثر نبوي أو صحابي وثيق السند في ذلك. والذي نستلهمه من روح الآية أنها الآيات التي تتحمل وجوها عديدة للتأويل أو التي يتشابه فهمها وتأويلها على الأذهان بسبب تنوعها وتنوع سبكها ومقامها وألفاظها والله تعالى أعلم. وننبّه بهذه المناسبة إلى أنه ورد في الآية [23] من سورة (الزمر) تعبير (المتشابه) في هذه الصيغة اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) غير أن التعبير في هذه الآية ليس هو في مقام ومدلول تعبير المتشابهات في آية آل عمران التي نحن في صددها كما هو ظاهر. وهذه ميزة من ميزات البلاغة القرآنية واللغة الفصحى التي نزل بها القرآن حيث يتغير مدلول الكلمة أحيانا بتغير الصيغة التي وردت فيها. ولقد شرحنا مدى الكلمة في تفسير سورة الزمر فنكتفي بهذا التنبيه. 3- والآية الأولى على كل حال تقرر بصراحة أن القرآن يحتوي نوعين من الآيات واحدا محكما وآخر متشابها. والأول هو أمّ الكتاب وعماده. وأهل التأويل متفقون إجمالا على أن المحكمات هي ما فيها أحكام ومبادئ دينية ودنيوية محكمة. فيكون ما عدا ذلك هو من النوع الثاني الذي يتبادر لنا والله أعلم أن الآيات التي فيها تشبيه وتمثيل وترغيب وترهيب ووعظ وتذكير وتنبيه وتنويه وتأنيب وحجاج ثم الآيات التي فيها صفات الله عز وجل وروحه وأعضاؤه وحركاته وكلامه والملائكة والجن وإبليس والشياطين والمعجزات وخلق الأكوان ومشاهدها ونواميسها ومشاهد الحياة الأخروية. فالآيات التي فيها ذلك مختلفة في أساليبها

_ (1) انظر كتب التفسير السابقة.

وألفاظها وصورها ويمكن أن تتحمل وجوها عديدة أو أن يتشابه فهمها على الأذهان. أو يعجز العقل البشري بعامة أو عقول بعض الناس عن إدراك مداها وماهيتها. أو يبدو للمشرّع غير المتمعن وغير الراسخ في العلم أن فيها تغايرا أو تباينا أو تناقضا. والمتمعن في هذا النوع من الآيات يجد أنها تهدف إلى تدعيم ما احتواه القرآن من المبادئ والتلقينات والعقائد والأحكام والتشريعات والتعاليم والوصايا أو بكلمة أخرى إلى تدعيم المحكمات القرآنية. وبذلك يظهر له حكمة التنزيل في جعل آيات القرآن نوعين نوعا محكما وآخر داعما. أو نوعا أسسا ونوعا وسائل كما ذكرنا ذلك في كتابنا (القرآن المجيد) . ويبدو أن حكمة التنزيل قد شاءت أن تأتي آيات النوع الثاني بالأساليب المتنوعة التي وصفت بالمتشابهات التي ذكرنا ما قيل في مدى مفهومها لتحقيق ما أرادته هذه الحكمة من تدعيم للمحكمات. ولقد لحظنا ذلك ونبهنا على ما استشففناه من حكمته ومقاصده في المناسبات الكثيرة التي وردت فيها فصول وآيات النوع الثاني وأساليبها المتنوعة في اختلاف مقاماتها في السورة التي سبق تفسيرها. وإنه ليصح أن يقال على ضوء ما تقدم أن الآية (الأولى) أي السابعة هي مفتاح القرآن الذي يجب على الناظرين فيه مسلمين كانوا أم غير مسلمين أن يتقيدوا به والذي لا يجوز ولا يصح الخروج عنه. لأنه المفتاح الذي جعله الله فاتحا لفهم آيات القرآن. 4- والرواية التي رويت في سبب نزول الآية والتي تذكر أنها نزلت في مناسبة قول وفد نجران للنبي «ألست تقول إن عيسى كلمة الله وروح منه. قال بلى، قالوا هذا حسبنا» . تساعد على القول بالإضافة إلى ما ذكرناه في الفقرة السابقة إن على الناظرين في القرآن أن يرجعوا إلى المحكمات لفهم ما يتشابه عليهم من المحكمات ألفاظا أو حكمة. فوفد نجران أخذ بآيات متشابهة أريد بها التمثيل والتقريب لتقرير كون ولادة عيسى تمّت بمعجزة ربانية وحسب وتركوا المحكمات

في صدد عيسى، في حين أن في هذه المحكمات القول الفصل في ذلك من حيث أنها تقرر أن عيسى عبد الله ورسوله وأنه بشر ولد كبشر وعاش ومات كبشر وإن مثله كمثل آدم قال الله كن فكان وإن الله جلّ وتنزّه أن يتجزأ وأن يسري منه روح إلى بشر بالمعنى التام للكلمة لأن روحه هي ذاته أبدية سرمدية فنزلت الآية تندد بهم وتدمغهم بالزيغ لأنهم تمسكوا بالمتشابهات وتركوا المحكمات التي هي أمّ الكتاب. وهناك حديث رواه الشيخان عن عائشة فيه تدعيم آخر. فقد سئلت عما إذا كان النبي رأى ربّه اشتباها ببعض آيات القرآن التي توهم ذلك فقالت «من زعم أنّ محمدا رأى ربّه فقد أعظم الفرية والله يقول لا تدركه الأبصار» «1» . حيث جعلت في هذه الجملة القرآنية التي وردت في الآية [103] من سورة الأنعام القول الفصل في موضوع رؤية النبي لله تعالى. وهناك آيات كثيرة جدا من نوع المتشابهات تثير بعض الإشكال ولكن ذلك يزول إذا ما جعلت المحكمات مرجعا فاعلا لها. وقد نبهنا على كثير من ذلك في ما سبق تفسيره من السور. فنكتفي بهذا التنبيه ونقول إن الغفلة عن هذا من أسباب كثير من الخلافيات الكلامية في الإسلام ومن أسباب كثير من التوهمات غير الإسلامية في صدد محتويات القرآن ومبادئ الإسلام وتلقيناته وأهدافه. 5- والآية الأولى تقرر أن المحكمات هنّ أمّ الكتاب كما تقرر أن الله وحده يعلم التأويل الصحيح للمتشابهات. وإن الذين يتبعون المتشابهات هم الذين في قلوبهم زيغ ابتغاء الفتنة بتأويلها تأويلا تعسفيا. وهذا يوجب على من لا يريد أن يدمغ بذلك من الناظرين في القرآن أن يصرفوا اهتمامهم الأعظم للمحكمات وتدبّرها وفهمها والالتزام بها لأنها هي القرآن التي فيها تقرير الرسالة المحمدية ومبادئها وعقائدها وأحكامها وأسسها ووصاياها وتلقيناتها. وأن يقف من المتشابهات عند ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه منها بالأساليب التي أوحيت بها لتحقيق المقاصد التدعيمية للمحكمات دون مماراة ولا تيهان في التأويل التعسفي

_ (1) انظر التاج، ج 4 ص 100.

ولا توسع وتزيد مع استشفاف الحكمة والمقاصد الربانية فيها حسب مقاماتها. وما استطاع أن يفهمه بعقله لفظا ودلالة وحكمة ومقصدا وموعظة وتدعيما فهمه. وعليه أن يسأل من هو أعلم منه عما لا يستطيع أن يفهمه بعقله. وما عجز عنه هو ومن هو أعلم منه عن فهمه فيجب أن يقولوا آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ويكلون تأويله إلى الله تعالى. 6- ولقد أثرت أحاديث نبوية عديدة منها ما ورد في الكتب المعتبرة فيها تدعيم لما جاء في الفقرة السابقة. فقد روى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن عائشة قالت «تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية ثم قال فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين عناهم الله فاحذروهم» «1» . وروى مسلم حديثا جاء فيه: «سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين اختلفا في آية وفرق في وجهه الغضب وقال إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب» «2» . وقد أورد ابن كثير في سياق تفسير الآية حديثا أخرجه ابن مردويه عن ابن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه فآمنوا به» . وهناك أحاديث عديدة أخرى من باب هذه الأحاديث فيها بعض زيادات لا تخرج في جوهرها عما في هذه الأحاديث أخرجها أئمة حديث آخرون وأوردها المفسرون في سياق الآية ومن ذلك أحاديث تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو الله بما علمته الآيتان [8 و 9] «3» . ولقد روى الطبري عن قتادة وغيره أن المقصود بجملة الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ هم الحرورية والخوارج والسبئية والقدرية. والمتبادر أن هذا القول هو من قبيل التطبيق الاجتهادي ومن وحي الأحداث والفتن الإسلامية التي حدثت في صدر الإسلام. ولقد قال الطبري بعد أن أورد هذا القول إن المعني بها كل مبتدع بدعة

_ (1) التاج، ج 4 ص 64. (2) المصدر نفسه. (3) انظر ابن كثير والطبري.

في دين الله فمال قلبه إليها تأويلا منه لبعض متشابه آي القرآن ثم حاجّ به وجادل أهل الحق. وعدل عن الواضح من أدلة الآيات المحكمة إرادة منه بذلك اللبس على أهل الحق من المؤمنين وطلبا لعلم تأويل ما تشابه عليه من ذلك كائنا من كان وأي أصناف البدعة كان، من أهل النصرانية واليهودية والمجوسية أو كان سبئيا أو حروريا أو قدريا أو جهميا. وفي هذا السداد والصواب المتساوقان مع إطلاق العبارة القرآنية «1» . 7- ومن المؤسف أن كثيرا من المسلمين لم يتقيدوا بالتلقين الجليل الذي احتوته الآية والأحاديث وانصرف همهم الأكبر إلى الانشغال والجدل فيما يدخل في نطاق المتشابهات أكثر بكثير مما انصرف إلى المحكمات. والناظر في كتب التفسير المطولة يجد الشيء الكثير الذي يعكس ذلك الاهتمام ويجد الأقوال والروايات المعزوة إلى مسلمة اليهود وعلماء الأخبار والتي فيها كثير من الخيال والمبالغة والتناقض والكذب حول المتشابهات المذكورة هي التي تشغل الجزء الأوسع من هذه الكتب برغم ما فيها وما تؤدي إليه من تشويش وتغطية على المحكمات ورغم ما فيها من إشغال ذهن واستنفاد جهد على غير طائل ورغم تحذير كتاب الله ورسوله، وأدى ذلك إلى استمرار ذلك الانصراف والانشغال إلى اليوم حتى لا يكاد المتسائلون يتساءلون عن غيرها. ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ. فهناك من حاول أن يستخرج من القرآن نظريات فنية ورياضية ووقائع تاريخية، مع أن كل ما جاء في القرآن من ذلك جاء بقصد التدعيم للمحكمات وبالأسلوب الذي اقتضته حكمة التنزيل لذلك بدون قصد لتلك النظريات والوقائع. حتى لكأن القرآن أصبح كتاب تاريخ وفن وهندسة

_ (1) السبئية نسبة إلى عبد الله بن سبأ اليهودي الذي ينسب إليه بدعة القول بوصاية علي بعد النبي ثم برجعته ثم بألوهيته. والحرورية هي تسمية أخرى للخوارج لأن الخوارج خرجوا أول خروجهم في مكان اسمه حروراء والقدري هو المنسوب إلى الفرقة التي تقول إن الإنسان خالق أفعال نفسه. والجهمي هو المنسوب إلى الفرقة التي تقول إن الإنسان مجبور على عمله.

وفلك. وهناك من حاول استخراج الغيب والأسرار من بعض الآيات والحروف وهناك من زعم أن للقرآن ظاهرا وباطنا وجرى في متاهات وتخيلات عجيبة من المعاني والاستنباطات واللعب بالألفاظ والشطح إلى ما يكاد يكون هذيانا بسبيل إظهار هذا الباطن. ومنهم من فعل هذا بتأثير من النزعة الصوفية المغالية. ومنهم من فعله لتأييد الأهواء المتنوعة وبخاصة الشيعية. وهناك من كذب على الله ورسوله وأصحابه بسبيل ذلك كله مما أوردنا بعض أمثله منه في ما سبق تفسيره من السور. 8- هناك اختلاف في مدى (الواو) التي سبقت كلمة وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ حيث قال بعضهم إنها عطفت وإن التعبير يفيد أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله أيضا وقدروا العبارة هكذا (والراسخون في العلم الذين يقولون آمنا به كل من عند ربنا يعلمون تأويله) . وحيث قال بعضهم إنها إنشائية وإن الجملة مستقلة عن سابقتها وتفيد أن الراسخين لا يتمحلون في التأويل ويكتفون بإيكال ما اشتبه عليهم فهم كنهه وتأويله إلى الله ويقولون آمنا به كل من عند ربنا ويدعون ربهم بأن لا يزيغ قلوبهم بعد أن هداهم. ومما دلّل عليه الذين يقولون القول الأول إنه لا يصح أن يكون في كتاب الله ما لا يعرف تأويله وما لا يفهمه أحد. والله طلب من الناس أن يتدبروا آيات القرآن وأنزلها وهو يعلم أنهم يفهمون ويعقلون ويعلمون كما جاء ذلك في آيات عديدة وهذا الكلام وجيه بدون ريب. وقد يزيد في وجاهة ذلك أن القول الثاني يؤدي إلى القول إن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا لا يعلم تأويله مما قد يكون غير مستساغ. ومع ذلك فنحن نرجح كون الواو إنشائية وليست عطفية. وأن كلمة تَأْوِيلِهِ في الآية أريد بها والله أعلم ما في المتشابهات من ماهيات وأسرار استأثر الله تعالى بعلمه وأن في القرآن حقا ما لا يفهمه أحد غير الله سرّه وماهيته وكنهه مثل سرّ الله وسرّ الوجود وسرّ الخلق وسرّ النبوة وسرّ الوحي وسرّ الملائكة والجن وإبليس والشياطين إلخ ... وماهيات ذلك. وحينئذ تكون وجاهة قول

القائلين إنه لا يصح أن يكون في القرآن ما لا يفهمه أحد هي في صدد ما في ذلك من حكم وحقائق إيمانية وهذا حق. ولا نرى هذا التقرير متناقضا مع قولنا الآنف لأن ذلك مقرر في آيات قرآنية عديدة. ولسنا نرى من الضروري لأجله أن تكون (الواو) عطفية. ومعلوم أن الصدر الإسلامي الأول درج على عدم الخوض في كيفيات وماهيات ما ورد في القرآن من صفات الله وأعضائه وحركاته ومشاهد كونه وسائر ما في المتشابهات من أمور لا تعرف حقائقها والاكتفاء بالقول آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا والمتبادر أن هذا الذي يراه كثير من الأئمة في مختلف الحقب الإسلامية هو الأولى والأسلم هو نتيجة لما في الآية ثم في الأحاديث من تلقين. ولقد روى بعض المفسرين عن ابن عباس قوله: «أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله» . ونحن نشكّ في صدور هذا القول عن ابن عباس إذا كان أريد به علم تأويل كل ما في القرآن من أسرار ومتشابهات علما لا يقتصر على الحكمة ويشمل السرّ والكنه والماهية. ولقد روى عن ابن كثير الذي روى عنه القول الأول قولا آخر جاء فيه «التفسير على أربعة أنحاء تفسير لا يعذر أحد على فهمه. وتفسير تعرفه العرب من لغاتها. وتفسير يعلمه الراسخون في العلم. وتفسير لا يعلمه إلّا الله» . وعقب ابن كثير على هذا بقوله: إن هذا القول يروى عن عائشة وعروة وأبي الشعثاء وأبي نهيك وغيرهم. ولا يخلو هذا القول من سداد فيه توفيق بين القولين. والله تعالى أعلم. ولقد روى المفسر الشيعي الطبرسي عن أبي جعفر أحد الأئمة قوله: «إن الأئمة والأوصياء من آل رسول الله يعلمون تأويله» . وروى المفسر الشيعي العلوي عن الصادق من الأئمة قوله: «نحن الراسخون في العلم نحن نعلم تأويله» . ونحن نقف من هذا موقف التحفظ كما فعلنا في قول ابن عباس. ونرجح أن هذا من نوع الأقوال التي يسوقها مفسرو الشيعة في كل مناسبة. والله تعالى أعلم.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 10 إلى 13]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 10 الى 13] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13) . (1) كدأب: كعادة، أو كشأن، أو كمثل، أو كعمل. والدأب في اللغة بمعنى الإدمان على العمل والتعب فيه والاعتياد عليه. عبارة الآيات واضحة. وفي الأوليين منها توكيد إنذاري للكافرين بأسلوب مطلق. وتذكير بما كان من أمر فرعون ومن قبله حيث أخذهم الله لأنهم كذبوا بآياته. وفي الثانيتين أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بإنذار الكفار بأنهم سيغلبون في الدنيا ويحشرون إلى جهنّم في الآخرة وبتذكيرهم بما كان من نصر الله للفئة المؤمنة القليلة على الفئة الكافرة الكثيرة حينما التقتا وتقاتلتا. وقد انتهت الآيات بلفت النظر إلى ما في ذلك من عبرة لأولي العقول والبصائر. تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) والآيات الثلاث التالية لها وقد روى المفسرون «1» روايات عديدة في مناسبة هذه الآيات. منها أنها نزلت في اليهود الذين جادلوا النبي في بعض الآيات المتشابهات ابتغاء الدس

_ (1) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي والخازن إلخ.

والفتنة ومنها أنها نزلت في اليهود الذين ذهلوا لانتصار النبي على قريش في بدر وأخذوا يحسبون حساب العواقب. ومنها أنها نزلت في يهود بني قريظة وبني النضير. ومنها أنها نزلت في حق مشركي قريش حيث علم أنهم يحشدون قواهم بقيادة أبي سفيان لأخذ ثأر بدر. ومنها أنها نزلت خصيصا في يهود بني قينقاع وأن النبي صلى الله عليه وسلم جمعهم بعدها وأنذرهم بتقوى الله والإيمان برسالته وحذرهم من الكفر ولفت نظرهم إلى ما كان من نصر الله للمؤمنين على كفار قريش وهم مثلاهم فأجابوه قائلين: إنكم إنما قاتلتم أناسا لا بصيرة لهم في الحرب وإنكم إذا قاتلتمونا علمتم أننا نحن الناس. وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. وروح الآيات وفحواها تلهم أنها ليست موجهة إلى كفار قريش وإنما هي موجهة إلى فئة أخرى مفروض أنها شهدت أو علمت بما وقع في حرب نشبت بين مؤمنين وكفار. وقد يكون هذا ملهما لصحة رواية نزولها في حق اليهود. وقد تكون الآيتان الأوليان منها بمثابة تمهيد تقريري عام بين الآيتين الثانيتين اللتين تأمران النبي بمخاطبة الكفار. وليس في إطلاق كلمة الكفار على اليهود ما يبعد الرواية. فقد نعتت سلسلة آيات البقرة اليهود بهذا النعت في أكثر من حلقة. غير أننا نلاحظ أن الروايات ذكرت في سياق الآيات [55- 59] من سورة الأنفال على ما أوردناه في تفسيرها أن هذه الآيات نزلت في يهود بني قينقاع وأن النبي حاصرهم وأجلاهم بناء عليها. فإما أن تكون آيات آل عمران التي نحن في صددها نزلت قبل آيات الأنفال كإنذار أولي لبني قينقاع، وإما أن تكون نزلت في حق يهود آخرين اقتضت الحكمة إنذارهم وتذكيرهم بعد ما حلّ في كفار قريش ويهود بني قينقاع من بعدهم ما حلّ. ولا سيما أن التسليم بصحة رواية نزولها لإنذار بني قينقاع يقتضي فرض أن تكون نزلت قبل آيات الأنفال في حين أن الظاهر يسوغ القول إنها نزلت بعدها إلّا إذا صحت رواية ترتيب آل عمران كثاني سورة نزولا وهذا ليس وثيقا. وفي الروايات أن الآيات نزلت في حق بني النضير وبني قريظة. وفي آيات الأنفال أمر للنبي بالبطش باليهود إذا ثقفهم وتمكّن منهم في الحرب لتخويف وتشريد وتذكير من خلفهم.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 14 إلى 17]

وهذا يتسق مع احتمال رواية كون الآيات نزلت في حق بني النضير وبني قريظة أكثر. والآيات الأربع حسب ما تقدم من شرح نزولها وتفسيرها تبدو فصلا مستقلا لا صلة له بالآيات السابقة سياقا وموضوعا. إلّا إذا صحّ ما روي من أن الآيات السابقة نزلت في مناسبة مجادلة اليهود في بعض الآيات المتشابهة. ولقد استبعدنا هذا ورجحنا كون الآيات نزلت في صدد وفد نجران. وكما أنه لا يبدو صلة بين هذا الفصل والآيات السابقة كما رجحنا فإنه لا يبدو لها صلة بالآيات اللاحقة لها أيضا كما يتبادر لنا. وسورة آل عمران كسورة البقرة احتوت فصولا عديدة بعضها مستقل عن بعض ثم رتبت على وضعها الحاضر بعد تمامها. وقد تكون هذه الآيات نزلت بعد الآيات السابقة لحدوث مناسبتها في ظرف نزول الشطر الأول من السورة فوضعت في مكانها والله تعالى أعلم. وجمهور المؤولين والمفسرين على أن جملة يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ عنت ما كان من تفوق مشركي قريش يوم بدر عددا على المؤمنين. وهذا ما ذكرته الروايات التي أوردناها في سياق تفسير سورة الأنفال. وأسلوب الآيات قوي ينطوي فيه إيذان رباني حاسم بقهر الذين كفروا برسالة رسول الله وكذبوا بآيات الله المنزلة عليه كما جرت سنّة الله في الذين قبلهم. وفيه تبشير رباني بنصر المؤمنين عليهم. وهذا الإنذار والتبشير مما تكرر في سور مكية ومدنية. وتحقق مصداقهما في العهد المدني فكان فيه مظهر من مظاهر الإعجاز القرآني. [سورة آل عمران (3) : الآيات 14 الى 17] زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17) .

(1) الشهوات: هنا بمعنى ما تشتهيه النفس على ما تلهمه بقية الآية الأولى. (2) القناطير المقنطرة: هنا كناية عن الكمية العظيمة. والقنطار كلمة أعجمية معربة قبل الإسلام. وهناك أقوال عديدة في وزنه منها أن (1200) أوقية أو (100) رطل أو (1000) دينار ذهبا أو (8000) درهم فضة أو (1200) درهم فضة. (3) الخيل المسوّمة: قيل إنها بمعنى المضمرة الحسان وقيل إنها التي تجد من الرعي ما يساعدها على زيادة قوتها وحسنها لأن معنى السوم الرعي. وقيل إنها المعلمة بالتحجيل الأبيض في رجليها ويديها وبالغرة البيضاء في جبهتها حيث تكون كلمة (المسوّمة) من الوسم وعلى كل حال فالمقصد هو صفة من صفات الخيل المحببة. (4) الحرث: الزرع. في الآيات: 1- إشارة إلى ما انطبع عليه الناس من اشتهاء ما تشتهى حيازته من نساء وبنين وكميات كبيرة من الذهب والفضة والخيول المحببة الصفات والأنعام والزروع. 2- واستدراك بأن ذلك كلّه إنما هو متعة في الحياة الدنيا القصيرة الأمد وأن عند الله ما هو أحسن، عاقبة ومآبا. 3- وأمر للنبي بسؤال الناس عما إذا كانوا يريدون أن يخبرهم بما هو خير من ذلك كلّه عند الله للذين اتقوا ربهم وبيان لذلك بأن لهم عنده الخلود في جنات تجري من تحتها الأنهار متمتعين فيها بزوجات مطهرة ولهم فوق ذلك رضوان الله السامي الكريم.

تعليق على الآية زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين ... إلخ والآيات الثلاث التالية لها

4- ووصف بياني للمتقين المستحقين لهذه المنزلة العظمى: فهم الذين يعلنون إيمانهم التام بكل ما جاءهم من عند الله ويطلبون منه المغفرة والوقاية من النار. وهم الصابرون الصادقون الخاضعون المطيعون المنفقون لأموالهم في سبل الله والبر والمتعبدون لله والمستغفرون له بخاصة في الأسحار. تعليق على الآية زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ ... إلخ والآيات الثلاث التالية لها ولم نطلع على رواية بمناسبة نزول هذه الآيات. وقد روى المفسرون أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال حينما نزلت الآية الأولى منها: يا ربّ الآن وقد زينتها لنا فنزلت الآيات التالية لها. والرواية لم ترد في الصحاح. والمتبادر أن الآية الثانية وما بعدها غير منفصلة في النظم والسياق عن الآية الأولى. وقد روى الطبري أن في الآية الأولى توبيخا لليهود الذين آثروا الدنيا وزينتها على الإيمان بالرسالة الإسلامية. ولم ترد هذه الرواية أيضا في الصحاح وإن كان لها صلة برواية كون الآيات السابقة في صدد اليهود. غير أن تعبير الناس والإطلاق في الخطاب في الآية الأولى وانسجامها مع الآيات التي بعدها يسوغان القول إن هذه الآيات فصل مستقل لا علاقة له مباشرة باليهود وبالآيات السابقة. ولقد أورد المفسرون وكتّاب السيرة في مناسبة ذكرهم خبر وفد نجران أن هذا الوفد أقبلوا على مسجد النبي وعليهم ثياب الحبرات وأردية الديباج فأثار مشهدهم المسلمين حتى قالوا ما رأينا وفدا مثلهم «1» . فلا يبعد أن تكون هذه الآيات وقد جاء بعدها بقليل سلسلة طويلة يحتمل أن تكون في صدد مجالس المناظرة بين النبي وهذا الوفد قد نزلت بين يدي هذه السلسلة ليكون فيها للمسلمين الذين دهشوا بزينة الوفد موعظة وتنبيه.

_ (1) انظر ابن هشام ج 2 ص 206 وتفسير الطبري.

هذا، والمتبادر لنا أن الآية الأولى ليست بسبيل تزهيد الناس في متع الحياة وطيباتها وزينتها إطلاقا وكل ما في الأمر أنها تقرر أن الميل إلى ذلك مما طبع الله الناس عليه. وآية سورة الأعراف [32] التي تستنكر تحريم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق وآيات سورة المائدة [86 و 87] والتي تنهى المؤمنين عن تحريم ما أحلّه الله لهم من الطيبات يمكن أن تورد كدليل قرآني على ما نقول. وإنما هي بسبيل التشويق إلى نعيم الآخرة بالتحقق بصفات المتقين الممدوحة إزاء ذكر طبيعة الإنسان بالميل إلى المتع المشتهاة واستهدافا والله أعلم لتطوير هذه الطبيعة إلى ما هو خير وأبقى وتهذيبها حتى لا تطغى على الإنسان فتجعله يستغرق فيها استغراقا ينسيه واجباته نحو الله والناس على ما شرحناه في سياق آية سورة الأعراف وفي مناسبات مماثلة في سور أخرى سبق تفسيرها. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات حديثين وصفهما بالصحة جاء في أحدهما «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال حبّب إليّ النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة» وجاء في ثانيهما: «أنّ عائشة قالت لم يكن شيء أحبّ إلى رسول الله من النساء إلّا الخيل وفي رواية من الخيل إلّا النساء» . ويمكن أن يورد هذان الحديثان كدليل نبوي على أنه ليس هناك مانع من كتاب وسنّة يمنع الإنسان من أن يحبّ النساء والخيل والطيب وطيبات الحياة الأخرى إذا كانت حلالا لا فاحشة فيها ولا معصية مع القصد والاعتدال اللذين هما من التنبيهات القرآنية المتكررة. والصفات التي نوّهت بها الآيات الثلاث الأخيرة جامعة لأحسن صفات المؤمن الصالح. وما يجب أن يتخلّق به من أخلاق دينية وشخصية واجتماعية. وتكاد تكون خلاصة موجزة لأهداف الدعوة الإسلامية وصورة مثالية للمسلم. وقد انطوى فيها بالبداهة الدعوة إلى الاتصاف بها والحثّ عليها. ولقد أورد ابن كثير أحاديث عديدة في سياق هذه الآيات فيها حثّ على الاستغفار وبخاصة في الأسحار وصورة لاجتهاد النبي وأصحابه في ذلك، ولقد علقنا على ذلك وأوردنا طائفة من الأحاديث في سياق تفسير آيات سورة المزمل [1- 8 و 20] والإسراء [78] والذاريات [16- 18] فنكتفي بهذا التنبيه.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 18 إلى 20]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 18 الى 20] شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20) . (1) قائما بالقسط: حال لحقيقة من الحقائق الربانية أي أنه لا إله إلا هو وأنه قائم بالقسط متحقق بالعدل. (2) بغيا بينهم: أي بقصد بغي بعضهم على بعض أو نتيجة لما قام بينهم من بغي بعضهم على بعض. (3) الأميين: شرحنا معاني الكلمة في سورة البقرة والكلمة هنا وفي مقامها قد يكون القصد منها الأمم غير اليهودية. وقد تكون الكلمة هنا كناية عن الأمم غير الكتابية إطلاقا. وقد تكون في مقامها كناية عن الأمم غير اليهودية أيضا. عبارة الآيات واضحة. وقد روى الخازن روايتين في سبب نزولها. الأولى أنها في صدد مناظرة وفد نجران. والثانية تذكر أن حبرين من أحبار الشام قدما إلى المدينة وقالا للنبي نريد أن نسألك عن شيء إن أخبرتنا به آمنّا بك فقال اسألا فقالا أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله فأنزل الله الآيات. والروايات لم ترد في الصحاح. والآيات كما يتبادر لنا استمرار للسياق السابق الذي رجحنا أنه في صدد وفد نجران وهذا ما يجعلنا نرجح أن هذه الآيات أيضا في صدده. ومن المحتمل أن تكون في صدد المشهد الأول من مشاهد المناظرة بين النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الوفد أو في صدد تلقينه الموقف الذي ينبغي أن يقفه في هذا المشهد. وقد استهدفت انتزاع التسليم المبدئي بوحدة الله المطلقة المنزّهة ووجوب الخضوع له وحده وتنزيهه عن الجزء السابع من التفسير الحديث 9

كل نقص من الوفد على اعتبار أن التسليم بذلك مبدئيا يمهد لحل كل خلاف ثانوي ولتحقيق التطابق في المسائل المتفرعة عنها. وفي هذا الأسلوب ما هو ظاهر من القوة والرصانة. والأسلوب الذي بدأت به الآيات من تقرير شهادة الله والملائكة وأولي العلم بوحدة الله هو أسلوب تعبيري لتقوية المعنى المقرر وإعلان كونه حقا وصدقا لا يمكن أن يكون فيه خلاف. وهو كما يظهر أسلوب قوي وملزم يعرض النبي بلسان القرآن به جوهر الدعوة الإسلامية ومبدأها الأساسي وهما وحدة الله المطلقة ووجوب الإسلام له وحده. فهذا هو الدين الحق وهو ما لا ينبغي أن يكون محل خلاف ونزاع. وما كان من ذلك بين أهل الكتاب إنما هو ناشىء عن الأهواء والبغي لا عن كتب الله وأنبيائه. وقد أمر النبي في آخر الآيات إذا كابر الفريق الذي يتناظر معه وجادل في هذا الذي لا يتحمل نزاعا ولا جدالا بأن يحسم الموقف بإعلانه أنه قد أسلم نفسه هو ومن اتبعه لله وأن يسأل سامعيه من كتابيين وأميين عما إذا كانوا يسلمون لله مثله. فإن أسلموا فيكون هدى الله قد جمعهم، وإن تولوا فعليه أن يعلن أنما عليه البلاغ والله هو البصير بالناس المراقب لأعمالهم. ويلحظ أن الآية الأخيرة قد احتوت أمرا للنبي بتوجيه الخطاب لأهل الكتاب وغيرهم. فمن المحتمل أن يكون ذلك من قبيل التعميم والاستطراد لأن الكلام بسبيل الدعوة والتقرير العام. ومن المحتمل أيضا أن يكون بعض مشركي العرب المحايدين أو المسالمين شهدوا المناظرة. ومع ترجيحنا أن تعبير أُولُوا الْعِلْمِ في الآية [18] قد قصد به (أولي الكتاب) بقرينة ذكرهم في الآيات التالية فإن لورود التعبير مطلقا مغزى مهما من حيث احتمال انطوائه على تقرير أن كل من أوتي علما من أي نحلة كان لا بد من أن يشهد هذه الشهادة. وهذا المغزى منطو في آية سورة فاطر إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ على ما شرحنا ذلك في سياق الآية. ولقد رأينا القاسمي والطبرسي يقفان عند الكلمة فيقول الأول إن ذكر أولي العلم في هذا المقام مرتبة جليلة

[سورة آل عمران (3) : الآيات 21 إلى 22]

لهم. ويقول الثاني إن في ذلك تنويها بفضل أهل العلم. وأورد الثاني بعض الأحاديث النبوية فيها هذا التنويه مما أوردناه في مناسبات سابقة. ولقد قال الخازن عزوا إلى بعض أهل التأويل إن جملة وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ منسوخة بآية السيف أو القتال. وهذا مما تكرر قوله من بعض المفسرين والمؤولين في العبارات المماثلة التي مرّت أمثلة منها وبخاصة في السور المكية. وقد نبهنا على الوجه الحق في ذلك في المناسبات السابقة وفي تعليقنا المسهب في سورة (الكافرون) فنكتفي بهذا التنبيه. [سورة آل عمران (3) : الآيات 21 الى 22] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22) . عبارة الآيتين واضحة. وفيها نعي على الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون أنبياءه ومن يأمر بالقسط من الناس. وتقرير حبوط أعمالهم واستحقاقهم عذاب الله. دون أن يكون لهم أي نصير منه. تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ ... إلخ والآية التالية لها لم يذكر المفسرون رواية ما في مناسبة الآيتين. وإنما ساقوا ما يفيد أن المقصود فيها هم اليهود. وهذا صحيح حيث وصف اليهود في بعض حلقات سلسلة سورة البقرة بمثل هذه الأوصاف. ولقد أورد الطبري حديثا عن أبي عبيدة جاء فيه: «قلت يا رسول الله أي الناس أشدّ عذابا يوم القيامة قال رجل قتل نبيا أو رجل أمر بالمنكر ونهى عن المعروف ثم قرأ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ

وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) إلى أن انتهى إلى جملة وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22) ثم قال رسول الله يا أبا عبيدة قتل بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عبادهم وأمروا القاتلين بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوهم جميعا من آخر النهار فذلك تأويل الآية» . والرواية لم ترد في الصحاح. وقد أوردها ابن كثير أيضا كحديث من تخريجات ابن أبي حاتم أحد أئمة الحديث. وصحتها محتملة لأنها متسقة مع ما روي عن اليهود على ما ذكرناه في سياق تفسير آيات البقرة [87 و 91] التي ذكرت ذلك عنهم. وقد أوردنا في سياق ذلك نصوصا من بعض أسفار اليهود القديمة مؤيدة لذلك. ونذكر هنا شيئا فاتنا ذكره وهو أن المؤرخ اليهودي يوسيفوس من رجال القرن الميلادي الأول ذكر في كتابه أن هيرودوس ملك اليهود قتل كثيرا من علماء اليهود وقتل يوحنا بن زكريا الحبر الأعظم «1» . وهكذا تتحدى الآيات القرآنية اليهود في تنديدها وإنذارها المتكررين وتدمغهم بما ورد في أسفارهم وكتبهم بما اقترفوه من جرائم كبرى بقتل الأنبياء والآمرين بالقسط من علمائهم حينما لا يسيرون على هواهم. ومن المحتمل أن اليهود كانوا طرفا في المناظرة وفي المشهد الذي مرّ بيانه. أو أنهم قالوا بمناسبة العقيدة التي أعلنها النبي صلى الله عليه وسلم إنهم يقرون بوحدانية الله ثم أخذوا يعاندون ويحاجّون في صحة رسالة النبي في حين أنه يترتب عليهم التصديق بها لأنها تدعو إلى الله وحده ودينه الحق الإسلام. ولعلهم حاججوا في أمور أخرى يترتب عليهم التسليم بها تبعا للتسليم بالمبدأ في مقتضى الموقف وحكمة التنزيل تذكيرهم بما كان من آبائهم من مواقف مماثلة حيث كانوا يكفرون بآيات الله

_ (1) انظر الترجمة العربية ص 149 وما بعدها. وخبر قتل يوحنا بن زكريا الحبر الأعظم الذي هو يحيى في النصوص الإسلامية مذكور في الإصحاح (14) من إنجيل متى.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 23 إلى 27]

ويجادلون فيها ويقتلون الأنبياء ودعاة الحق ومؤيديه بقصد ربط موقف الحاضرين بموقف الغابرين. وهذا أسلوب جرى عليه القرآن مما مرت أمثلة منه في سلسلة سورة البقرة. وفي الآيات التالية قرائن قد تدل على هذه الأمور المفروضة من موقفهم. والآيات وإن كانت عنت اليهود على ضوء الشرح المتقدم فإن الإطلاق في أسلوبها ينطوي على تلقين مستمر المدى في صدد كل من يكفر بآيات الله ويناوىء دعاة الحق والخير والصلاح ويعتدي عليهم في كل ظرف ومكان. [سورة آل عمران (3) : الآيات 23 الى 27] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27) . عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تنديدا بفريق من أهل الكتاب يدعون إلى تحكيم كتاب الله فيأبونه ويتبجحون بما لهم من الحظوة عند الله في الآخرة ويزهون بدينهم ويفترون على الله فيه، وإنذارا لهم. وإعلانا تقريريا بقدرة الله على منح الملك لمن شاء ونزعه ممن شاء وتغيير الليل بالنهار والنهار بالليل وإخراج الحي من الميت والميت من الحي وإغداقه الرزق على من يشاء بغير حساب. تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ... إلخ والآيات التالية لها إلى الآية [27] روى المفسرون روايات عديدة في سبب نزول الآيات. فرووا في سبب نزول

الآيات الثلاث الأولى أن اليهود رفعوا قضية زنا للنبي ليحكم فيها فحكم بالرجم حسب شريعتهم فأنكروا فطلب منهم إحضار التوراة والاحتكام إليها فأبوا. كما رووا في صددها أن اليهود ادعوا أن إبراهيم كان يهوديا وأن ملّته هي اليهودية فكذبهم النبي وطلب منهم الاحتكام للتوراة فأبوا. ورواية ثالثة تذكر أن النبي دعاهم إلى الإيمان به لأنه مكتوب عندهم في التوراة فأنكروا فطلب الاحتكام للتوراة فأبوا. وفي سبب نزول الآيتين الرابعة والخامسة رووا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وعد المؤمنين بأن يجعل الله لهم ملك الروم وفارس فقال اليهود والمنافقون هيهات أين لمحمد ذلك فنزلت الآيات للردّ عليهم. ومما روي أن هذا الوعد كان يوم حفر الخندق حينما غزت أحزاب قريش والكفار المدينة. فقد استعصت صخرة عظيمة على المؤمنين حين الحفر فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم فجاء فضربها ثلاث ضربات حتى كسرها وكان يتطاير البرق في كل ضربة حتى كأنه مصباح في جوف مظلم فسأل سلمان الفارسي عن ذلك فقال له أضاءت لي من الضربة الأولى قصور الحيرة ومن الثانية قصور الروم ومن الثالثة قصور كسرى فأبشروا واستبشروا بنصر الله ووعده، فقال المنافقون ألا تعجبون يميتكم ويعدكم بالباطل ويعدكم بقصور كسرى والروم والحيرة وأنتم تحفرون الخندق من الفرق ولا تستطيعون أن تبرزوا لعدوكم فأنزل الله الآيتين لتكذيب المنافقين وتأييد وعد النبي صلى الله عليه وسلم. ورواية ثالثة أن اليهود قالوا حينما دعاهم النبي إلى الإيمان به «لا نتبع رجلا جاء لينقل النبوّة من بني إسرائيل» . وعدا رواية تحكيم اليهود للنبي في قضية زنا لم ترد أي من الروايات في الصحاح. ورواية هذا التحكيم رواها البخاري في صدد الآية [93] من هذه السورة «1» . ورواية ما كان أثناء حفر الخندق تبدو مقحمة لأن الآيات في صدد موقف فريد من أهل الكتاب وغزوة الخندق وقعت بعد مدة ما من غزوة أحد التي ذكرت في فصل آخر من هذه السورة. والمتبادر أن الآيات نزلت قبل ذلك بمدة

_ (1) انظر التاج، ج 4 ص 72.

ما. وحجاج اليهود في ملّة إبراهيم ويهوديته قد حكمته آيات أخرى في هذه السورة تأتي بعد قليل. مما يجعلنا نستبعد رواية ذلك في صدد الآيات. وعلى كل حال فالمتبادر أن الآيات الأولى الثلاث نزلت في موقف دعا النبي صلى الله عليه وسلم فيه فريقا من أهل الكتاب إلى الاحتكام للتوراة فأبوا وأن الآيتين الرابعة والخامسة نزلتا معقبتين على هذا الموقف. وجملة قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ حكيت عن اليهود في آية سورة البقرة [80] حيث يمكن أن يكون في ذلك قرينة على أن هذا الفريق من اليهود. والسياق قد يتسق مع رواية كون الآيات الثلاث الأولى في صدد آباء اليهود الاستجابة إلى دعوة النبي للإيمان به. فهم قد أقروا بوحدانية الله ثم راوغوا وأنكروا صحة رسالة النبي بزعم أن النبوة محصورة ببني إسرائيل أو غيظا من أن تظهر في غيرهم. وقد حكت ذلك عنهم آيات سورة البقرة [89- 90] فذكرتهم الآيتان [21- 22] بمواقف آبائهم من الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه، ومن الإيمان ببعض الأنبياء والكفر ببعضهم وقتل بعضهم وهو ما ذكرته عنهم الآيات [85- 88] من سورة البقرة كذلك فدعاهم النبي إلى الاحتكام إلى التوراة لإفحامهم بما فيها من الدلائل على صحة نبوته التي أشارت إليها آية سورة الأعراف [157] وهي: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ ... [157] إلخ فأبوا وعاندوا فنددت بهم الآيات الثلاث لاغترارهم وتبجحهم وافترائهم على الله ثم قررت الآيتان الأخيرتان ما قررته من مطلق تصرف الله وقدرته في كونه وخلقه ومشاهد ذلك لتقرر ضمنا أنه لا حرج عليه أن ينزع النبوة ممن يشاء ويمنحها من يشاء وأن يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء ويرزق من يشاء بغير حساب. وهذا الشرح الذي نرجو أن يكون فيه الصواب جعلنا نلحق الآيتين [26- 27] بالآيات الثلاث كما أنه يسوغ القول أن الآيات الخمس متصلة بالآيات السابقة واللاحقة وأن السياق متسق ومتصل بمشهد الحجاج والمناظرة القائم بين النبي

[سورة آل عمران (3) : الآيات 28 إلى 32]

وأهل الكتاب والذي كان يحتمل أن اليهود كانوا طرفا فيه. على أن كل هذا لا ينبغي فيما يتبادر لنا أيضا أن تكون الآيات في صدد وفد نصارى نجران وأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا هذا الوفد إلى الاحتكام إلى التوراة والإنجيل لإثبات نبوته بما فيهما من دلائل فأبوا وراوغوا. والنصارى يعتبرون التوراة كتاب شريعتهم. وفي آية الأعراف [157] تقرير بأن النبي مكتوب في التوراة والإنجيل معا. ولقد ذكرنا أن قول اليهود لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ قد حكي عنهم في الآية [80] من سورة البقرة فمن المحتمل أن يكون تكرر منهم فاقتضت حكمة التنزيل تكرار حكايته على سبيل التنديد. ولقد أعددنا ما روي في صدد هذا القول في سياق آية سورة البقرة المذكورة فنكتفي بهذا التنبيه. ولا نرى هذا ينفي احتمال أن تكون الآيات في صدد وفد نجران. فقد حكى القرآن عن النصارى أيضا قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه والله تعالى أعلم. والآيات قوية في أسلوبها نافذة في مداها. وتنطوي على تلقينات جليلة مستمرة المدى سواء أفي التنديد بمن يدعى إلى الاحتكام لكتاب الله فيأتي ويراوغ ويظل سادرا في غيّه متمسكا بهواه. أم بمن يتبجح في تزكية نفسه ويغترّ بما يكون له من سلطان أو علوّ مرتبة وسعة رزق وعزة ولا يتذكر أن الله الذي رفعه وأعزّه وآتاه الملك ووسّع له الرزق قادر على خفضه وإذلاله ونزع الملك منه وتضييق الرزق عليه وكأنما تهيب به أن يجعل هذه الحقيقة نصب عينيه وذهنه ليتقي سخط الله وغضبه وتغييره نعمه التي أنعمها عليه إلى السوء بصالح العمل وأداء الواجب نحو الله والناس. [سورة آل عمران (3) : الآيات 28 الى 32] لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32) .

تعليق على الآية لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ... إلخ والآيات التالية لها إلى الآية [32]

(1) من دون المؤمنين: بمعنى بدلا من المؤمنين. أو مكان المؤمنين أو متجاوزين المؤمنين. (2) تقاة: قرئت (تقية) والمعنى واحد وهو الاتقاء. عبارة الآيات واضحة. وقد احتوت تحذيرا مكررا للمؤمنين من تولّي الكافرين دون المؤمنين إلّا إذا كان بقصد التقية حين الاضطرار. وتنبيها إلى أن الله تعالى يعلم كل ما يبدونه ويسرّونه، وأن كل نفس سوف تجد أمامها يوم القيامة ما عملته من خير وشرّ. فيتمنّون حينئذ أن لو كان ما عملوه من سوء وشرّ بعيدا عنهم، وتوكيدا على المسلمين بوجوب طاعة الله والرسول وبيانا بكون طاعة الله ومحبته منوطتان بطاعة الرسول. تعليق على الآية لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ... إلخ والآيات التالية لها إلى الآية [32] ولقد روى المفسرون «1» في صدد هذه الآيات روايات عديدة. حيث روى بعضهم أن الآيات الثلاث الأولى نزلت في بعض المؤمنين أو المنافقين المتظاهرين بالإسلام الذين كانوا يوالون اليهود أو المشركين وأن الآيتين الأخيرتين نزلتا في

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن والطبرسي وابن كثير.

النصارى الذين كانوا يقولون إننا نعظم عيسى حبا لله، أو نزلتا في حق وفد نجران لقولهم نحن نحب الله، أو في حق المشركين الذين كانوا يقولون إننا نعظم الملائكة حبا لله، أو في حق اليهود والنصارى الذين كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه. وقد حكت هذا عنهم آية سورة المائدة هذه: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) ومما رواه بعضهم «1» أنها نزلت في حادث حاطب بن أبي بلتعة أحد المهاجرين بسبب كتابته لأبي سفيان بخبر عزيمة النبي صلى الله عليه وسلم على الزحف على مكة. وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. والرواية الأخيرة بعيدة في ظرفها. والروايات تقتضي أن تكون الآيات نزلت مجزأة وفي ظروف مختلفة مع أن المستلهم من روحها أنها سياق واحد وأنها متصلة بمشهد المناظرة والحجاج وقد جاءت استطرادية بعد ما حملت الآيات السابقة على أهل الكتاب ومنهم اليهود ونددت بكفرهم ومراوغتهم وتبجحهم بالحظوة لدى الله وافترائهم عليه وربطت بين موقفهم الحاضر وموقف آبائهم الغابر لتحذر المؤمنين من موالاتهم حيث كان بين قبائل اليهود وقبيلتي الأوس والخزرج حلف وولاء قديمان على ما شرحناه في سياق آيات سورة البقرة [84- 85] وأنها تضمنت دعوة لأهل الكتاب إلى اتباع النبي إذا كانوا حقا يحبون الله لأنه هو الهادي إلى طريق الله القويم الذي ليس فيه عوج ولا تعقيد ولا انحراف. ولما كانت الآيات التالية لهذه الآيات تلهم أنها في صدد مشهد ثان من مشاهد المناظرة حول العقيدة النصرانية فإنه يصحّ أن يقال إن الآيات الخمس جاءت كذلك ختاما لما اقتضت حكمة التنزيل وحيه في صدد المشهد الأول. وبقطع النظر عن صلة الآيات بمشهد المناظرة ففي الآية الأولى منها تشريع

_ (1) انظر تفسير الخازن.

إسلامي محكم في ذاته. وفي الآيتين التاليتين تدعيم لهذا التشريع. ولقد انطوى في الآية الأولى مبدآن في صدد تنظيم مناسبات المؤمنين مع غيرهم: الأول: عدم جواز اتخاذ المؤمنين من غيرهم نصراء وأولياء بدلا من المؤمنين في أي حال. الثاني: تسويغ مداراة المؤمنين لغيرهم في الظروف التي توجب هذه المداراة لدفع الأذى والشرّ والضرر. وفيما يلي شرح لمدى الآية وما يروى في صددها من أقوال وأحكام وتعليق عليه: 1- لقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل أو يوردونها لأنفسهم في صدد الفقرة الأولى. من ذلك أن النهي يشمل التناصر والتحالف مع الكفار. ويشمل كذلك اتخاذهم بطانة أو اطلاعهم على أسرار المسلمين ولو كان بينهم قربى رحم أو جنس. ومما قالوه في تأويل فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إنها بمعنى براءة الله منه والإيذان بأن فاعل ذلك مرتدّ عن الإسلام. وبعضهم أدار الكلام على اعتبار أن النهي هو عن موالاة الكفار الأعداء من حيث إن هناك كفارا غير أعداء مسالمين أو موادين أو حياديين ومعاهدين. وفي كل هذه الأقوال صواب وسداد. 2- وتنبيه يهدد المئات ولو كان الأمر بديهيا على أن كلمة الْكافِرِينَ في الآية هي نعت لكل جاحد لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم سواء أكان كتابيا أم مشركا أم وثنيا أو ملحدا. وفي آيات في سورة المائدة نهي صريح عن موالاة اليهود والنصارى وأهل الكتاب [52- 58] حيث يكون في ذلك تدعيم قرآني. 3- والآية هي أولى آيات ورد فيها النهي عن تولي الكافرين. وقد تكرر ذلك مرارا في سور أخرى حيث يبدو أن من المسلمين سواء منهم المخلصون أو المنافقون المتظاهرون بالإسلام لم يمتنعوا عن تولي الكفار فاقتضت حكمة التنزيل

موالاة النهي وبتشديد أقوى مما جاء في الآية. 4- والنهي في الآية مطلق أي بدون تعليل حيث توجب عدم تولي الكافرين مطلقا. والآيات التي نزلت بعد ذلك مختلفة الصيغ. منها ما جاء مطلقا ومماثلا لهذه الآية مثل آيات سورة النساء [138 و 139 و 144] والمائدة [51 و 52] والتوبة [23 و 24] ومنها ما جاء معللا بكون النهي هو للأعداء والمعتدين على المسلمين والإسلام مثل آية المائدة [58] والممتحنة [1- 2] . 5- وفي سورة الممتحنة هذه الآية لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) حيث يمكن أن يكون انطوى فيها استدراك تدعيمي لتعليل النهي المذكور آنفا. وفي الآية التي تلي هذه الآية تدعيم حاسم حيث جاء فيها إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) والمتبادر أنه يصحّ أن تعتبر الآيتان ضابطين محكمين لموقف المسلمين من غيرهم مع القول إن جملة أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ تنسحب على مختلف أنواع التعامل والتعايش والتعاون. والله تعالى أعلم. 6- وللسيد رشيد رضا كلام سديد وجيه قاله في سياق تفسير آية آل عمران التي نحن في صددها حيث يقول إنه ليس ما يمنع المسلمين من أن يتحالفوا ويتفقوا مع غيرهم من غير أعدائهم إذا كان لهم مصلحة فضلا عن التعامل الذي ينطوي في آية الممتحنة [8] ويسوق كدليل على ذلك حلف خزاعة مع النبي صلى الله عليه وسلم على شركهم نتيجة لصلح الحديبية حيث اتفق النبي وقريش على أن يخيروا القبيلتين النازلتين في منطقة مكة وهما بكر وخزاعة بين الدخول في صلح النبي أو صلح قريش فاختارت خزاعة النبي واختارت بكر قريشا لأنه كان بين القبيلتين عداء وحروب. وصار الصلح شاملا لكلتا القبيلتين مع الحليف الذي اختارته، وهناك دليل آخر وهو كتاب الموادعة الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم حينما حلّ في المدينة وجعله شاملا لليهود فيها. فأقرهم على دينهم وعلى ما كان بينهم وبين الأوس والخزرج من محالفات وأوجب

عليهم النصرة للمؤمنين مع حلفائهم وأوجب لهم النصرة من المؤمنين وحلفائهم وأوجب لهم وعليهم تبادل المساعدات «1» . وواضح من الأمثلة أنها شاملة للكتابيين والمشركين. وكل من هو غير مؤمن برسالة النبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر. سواء أكان كتابيا أم غير كتابي. وعلى هذا يصحّ أن يقال إن لأولي الأمر من المسلمين أن يلحظوا ما فيه مصلحة المسلمين في صلاتهم مع غيرهم وأن الضابط الذي يجب أن يضبط عملهم هو أولا ما يعرف في الكفار من نوايا المسالمة والموادة أو العداء والغدر والخيانة. فمن كانت نواياه سلمية ودّية جاءت محالفته والاستعانة به في شتى المجالات إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين. وثانيا الحذر الدائم وعدم الاندفاع مع حسن الظن والظواهر. ويمكن أن يقال إجمالا إن آيتي سورة الممتحنة تصحان أن تكونا ضابطا في هذه الحالات والله أعلم. 7- ولقد جاء في سورة المجادلة التي نزلت بعد هذه السورة حسب روايات ترتيب النزول هذه الآيات: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ ... والمتبادر أن الموادة هي دون التولّي والتناصر والتحالف الذي نهت عنه الآيات الأخرى. ويمكن أن تكون تبادل محبة وحسن معاشرة ومشايعة وما في نطاق ذلك وأسلوب الآية قوي نافذ. وقد انطوت على تعديل لمدى الآيات الناهية عن اتخاذ الكفار أولياء بحيث صار النهي القرآني شاملا للموالاة والموادة في مداهما المشروع مع التنبيه على مدى جملة مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ التي هي صريحة بأنها في صدد الكفار الأعداء المحاربين لله ورسوله.

_ (1) انظر ابن هشام ج 3 ص 119- 123. [.....]

8- وقد يلحظ أن النهي والتحذير متصلان اتصالا شديدا بظروف السيرة النبوية التي كان المؤمنون والمشركون وبخاصة القرشيين من هؤلاء فيها في حالة عداء وحرب. وكان موقف اليهود الكافرين بالرسالة المحمدية فيها موقف تعطيل ومناوأة ودسّ وعداء أيضا. وكان موقف نصارى الشام بخاصة موقف ترقب وتربص وعداء. وكان بين المؤمنين المكيين ومشركي قريش أوشاج رحم وقربى وكان بين مؤمني المدينة ومشركيها ومنافقيها أوشاج قربى ورحم. وكان بين مؤمني المدينة واليهود فيها محالفات قديمة. وكل هذا ملموح في الآيات التي أوردنا أرقامها آنفا وفي سياق بعضها. وهذا يفسّر الشدة التي انطوت في الآيات من جهة ويسوغ القول إن الآية التي نحن في صددها والآيات الأخرى جاءت لمعالجة الموقف الراهن من جهة أخرى. غير أن المبدأ الذي احتوته الآية التي نحن في صددها والآيات الأخرى يظل محكما واجب الرعاية في كل ظرف مماثل وفي نطاق ما نوهنا بسداده وصوابه من الأقوال والتأويلات والضابطين المحكمين في آيتي الممتحنة. وجملة إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ظاهرة المعنى بأن القصد من هذا الاستثناء هو مداراة الكفار وليس توليهم على كل حال. ومما قاله الطبري وآخرون إن ذلك سائغ إذا كان هناك خطر أو ضرر يخافهما المسلمون من الكفار وفي حدود ما لا يحل حراما ولا يحرم حلالا وما ليس فيه غضّ عن إهراق دم مسلم أو استحلال ماله أو فيه فساد في الدين أو مشايعة ومناصرة على مسلم بفعل ما. ويدخل في ذلك اتخاذهم بطانة واطلاعهم على أسرار المسلمين ومواضع ضعفهم. وننبه على أن من العلماء من أجاز التقية من الكفار إجازة رخصة وهناك من أوجبها إيجابا. ويتبادر لنا على ضوء العبارة القرآنية أنها تضمنت تسويغا عاما يحدد المسلمون الانتفاع به وفق ظروفهم وفي نطاق الضرورة وفي حدود الأقوال السابقة الوجيهة. ولقد قال بعضهم إن الاستثناء كان بالنسبة لأول الإسلام ثم نسخ بعد أن أعزّ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 33 إلى 64]

الله دينه. ولما كانت ظروف الإسلام والمسلمين لم تبق على وتيرة واحدة حيث كانوا ضعفاء ثم قووا ثم ضعفوا وأن هذا قد يتكرر فالقول بنسخ الاستثناء غير متسق مع طبيعة الأشياء. والراجح أنه مما أملته عزة المسلمين الأولى في صدر الإسلام. ولا يورد القائلون أثرا عن النبي صلى الله عليه وسلم أو كبار صحابته يدعم قولهم. وهذا ما يسوغ القول إنه مستمر الحكم في الحدود التي ذكرناها. 10- وننبه على أن الشيعة يتوسعون في رخصة التقية فيجيزونها في كل الحالات والمواقف. وسواء أكانت تجاه الكفار أم المسلمين. بل ويوجبونها على ما هو مثبوت في كتبهم حتى تبدو أنها من أهم المبادئ التي يدينون بها ويطبقون عليها مختلف الحالات في مختلف المواقف والظروف التاريخية. وقد قال الطبرسي وهو مفسر شيعي معتدل في سياق الآية إن أصحابنا أجازوها في الأحوال كلها عند الضرورة. ولقد ألممنا بهذه المسألة في سياق تفسير الآية [28] من سورة غافر وأوردنا أقوالا وروايات أخرى يرويها الشيعة وأبدينا رأينا في المسألة فلا نرى ضرورة للإعادة إلّا التنبيه على أن آية آل عمران التي نحن في صددها هي في صدد الرخصة في مداراة الكفار فقط وأن المداراة والتقية إزاء غير الكفار حين الضرورة والخطر قد تصحان استئناسا بآية سورة النحل [106] وما ورد من أحاديث أخرى مع ما شرحناه في سياق تفسير آية غافر ومع التنبيه على ذلك على أن المداراة والتقية هما غير الاضطرار إلى تناول ما هو محرم من الأطعمة الذي ورد في آيات الأنعام [145] والنحل [115] والبقرة [173] وما يمكن أن يقاس عليه. وغير إكراه المسلم على عمل أو قول محظور بالقوة. وقد شرحنا هذا في سياق تفسير آية الأنعام [145] وآية النحل [106] فنكتفي بهذا التنبيه والله تعالى أعلم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 33 الى 64] إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37) هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41) وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) .

(1) محرّرا: متحررا أو منقطعا عن أي علاقة بالناس والمقصود أن يكون متفرغا لخدمة الله وبيته. (2) بكلمة منه: الجمهور على أن ذلك يعني عيسى عليه السلام. (3) حصورا: قيل إنها بمعنى عاجزا عن الفساد. وروى الطبري حديثا عن ابن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ من الأرض عودا صغيرا ثم قال لم يكن له ما للرجال إلّا مثل هذا العود. والحديث ليس من الصحاح. وقال القاضي عياض إن العجز عن النساء عيب لا يليق بالأنبياء. وقيل في معنى الكلمة إن الله سمّاه حصورا لأنه كان متعففا عن النساء ترهّبا وتزهّدا. وقيل إن معناها معصوما عن الفواحش. وليس في كتب النصارى التي اطلعنا عليها ذكر لمعنى الحصر بمعنى العجز عن النساء وإن كان المستفاد منه أن يحيى عليه السلام لم يتزوج. الجزء السابع التفسير الحديث 10

(4) رمزا: بمعنى بالإشارة. (5) إذ يلقون أقلامهم: أقلامهم بمعنى سهامهم والجملة بمعنى إذ يقترعون بالسهام على من الذي هو أحقّ بكفالة مريم. (6) بكلمة منه: الجمهور على أن هذا التعبير كناية عن معجزة الله وإرادته بولادة مريم لعيسى بدون مسّ رجل. وفي الآية [47] تفسير بأسلوب آخر حينما استغربت مريم البشارة فقيل لها كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) . (7) المسيح: هذه الكلمة تأتي هنا لأول مرة ثم تكررت وقد أوّلها بعضهم بمعنى البركة. وبعضهم بمعنى المطهر من الذنوب. وربط بعضهم بين الكلمة وكلمة (المسح) العربية فقال سمي لذلك لأنه كان يشفي المرضى بالمسح على رؤوسهم أو لأنه كان ممسوح أخمص القدمين. وظنها بعضهم أنها من السياحة فقال إنها أطلقت عليه لكثرة سياحاته. وكل هذه الأقوال تخمينية وفي بعضها إغراب ظاهر والكلمة عبرانية معرّبة. وقد شرحنا مداها في سياق تعليقنا على المسيح والمسيح الدجال في سورة غافر استئناسا مما جاء في بعض الأسفار فليرجع إليه. (8) عيسى: الكلمة تعريب لاسم يسوع أو يوشع العبراني الأصل. (9) الأكمه: الذي يولد أعمى أو ممسوح العينين. (10) الحواريون: هذه الكلمة تأتي هنا لأول مرة. وقد تكررت في سورتي الصف والمائدة والكلمة على رأي جمهور المفسرين «1» عربية الأصل والمعنى مع اختلاف في التخريج حيث قيل إنها من الحور وهو البياض لأن الحواريين كانوا يلبسون الثياب البيضاء. أو من الحواري وهو لباب الدقيق وخالصه. وأطلقت هذه الكلمة عربيا ومجازا على صفوة أخصاء الشخص وخالصتهم. وقد يعني (الحواري) النظيف النقي. ومن ذلك إطلاق الحوارية والحواريات على النساء الحضريات لخلوص ألوانهن ونظافتهن. واستنتج بعضهم أنها بمعنى النصير

_ (1) انظر تفسير المنار والطبري والبغوي وابن كثير والنسفي والخازن والطبرسي لهذه الآيات وآيات المائدة [115 و 116] والصف [14] .

تعليق على الآية إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين (33) وما بعدها إلى آخر الآية [64] ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران

لحديث صحيح رواه الشيخان والترمذي جاء فيه: «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما ندب الناس يوم الأحزاب كان الزبير بن العوام رضي الله عنه أول الملبين مرة بعد مرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم لكلّ نبيّ حواريّ وحواريّ من أمتي الزبير» «1» . ولقد أرجع بعض الباحثين الكلمة إلى (حوارا) الآرامية بمعنى الأبيض. وقالوا إنها دخيلة على اللغة العربية. واللغة الآرامية واللغة العربية من أصل واحد فلا يمنع أن تكون الكلمة مشتركة في اللغتين ولا يكون محل للقول إنها دخيلة. والحور في اللغة شدّة بياض العين ومنه الحور العين. وقال رشيد رضا إن بعض كتّاب النصارى زعموا أن الكلمة محرّفة عن كلمة (الحواري) اليونانية. وقد فنّد هذا الزعم لغويا وصرفا واستعمالا تفنيدا قويا. (11) نبتهل: من الابتهال وهو دعاء الله والالتماس منه. (12) من دون الله: بدلا من الله أو غير الله. تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) وما بعدها إلى آخر الآية [64] ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران الآيات واضحة في عبارتها وتسلسلها. وقد احتوت ما خلاصته: 1- تنويها بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران ومكانتهم عند الله، وآل عمران هم الأسرة التي أنتجت مريم على ما تلهمه إحدى الآيات. وإشارة إلى ظروف ولادة مريم وطهارتها ومكانتها عند الله وعنايته بها، وظروف ولادة يحيى ومعجزة الله فيها على شيخوخة والده زكريا وعقم أمه، وظروف ولادة عيسى بدون أب ومعجزة الله فيها وما شمله من تكريم وعناية وأظهره على يده من معجزات وآيات، وموقف بني إسرائيل منه وكفرهم به ومكرهم له، وإيمان الحواريين به

_ (1) التاج، ج 3 ص 300.

وتأييدهم إياه وإعلانهم إسلام النفس إلى الله. ورفع الله لعيسى بعد توفّيه وإنذار وتبشير ربانيان للكافرين والمؤمنين الذين يعملون الصالحات. 2- وتعقيبا على ذلك بكون المعجزة الربانية في ولادة عيسى كالمعجزة الربانية في خلق آدم من تراب وبأن الذي ورد في الآيات من بيان قصة ولادته وظروف رسالته وفحوى دعوته هو الحق الذي لا يجوز المماراة فيه. 3- وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا جادله المجادلون في هذا الحق بعد أن جاءه علمه من الله عزّ وجلّ بأن يكلفهم ليبتهل هو وإياهم مع من يحبه ويحبونهم من الأبناء والنساء إلى الله بأن يجعل لعنته على الكاذبين من الفريقين المبتهلين. فإن أعرضوا وأبوا فإن الكذب والفساد يكونان قد لزماهم. والآية [60] يصح أن تكون موجهة إلى السامع إطلاقا. ويصحّ أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحالة الثانية تكون من قبل التثبيت وقد تكرر هذا ومرت منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها. 4- وأمرا آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة واحدة واضحة لا مجال للخلاف فيها يقرّ بها هو وإياهم على السواء: بأن لا يعبد كل منهم إلّا الله وحده وأن لا يشرك كل منهم به شيئا وأن لا يتخذ كل منهم أحدا غير الله ربّا له. فإن أعرضوا بعد هذه الدعوة الصريحة البسيطة فليشهدهم وليشهد الناس أجمع على أنه هو ومن معه مسلمون أنفسهم لله وحده متحققون بهذه العقيدة. وجمهور المفسرين «1» على أن هذه الآيات قد نزلت بمناسبة المناظرة التي قامت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين وفد نصارى نجران اليمن. ولما كان هذا الجمهور متفقا على أن الآيات السابقة أو بعضها قد نزلت أيضا في هذه المناسبة فتكون هذه الآيات مشهدا ثانيا من مشاهد المناظرة أو في صدد ذلك. ولقد روى ابن هشام «2» عن ابن إسحق عن محمد بن جعفر خبر وفادة وفد نجران وأورد آيات سورة آل

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي والطبرسي والخازن وابن كثير إلخ. (2) ابن هشام ج 2 ص 204- 215.

عمران من أولها إلى آخر الآية [64] وقال إنها نزلت في ذلك. ومع أن الآيات قد احتوت تقرير ظروف ولادة السيد المسيح بمعجزة ربانية بسبيل نفي ما يدّعيه النصارى من كونه إلها أو صورة أو أقنوما إلهيا واحتوت تمهيدات وتدعيمات وبيانات عما كان من موقف بني إسرائيل والحواريين من رسالته فقد تخللها من التنبيهات والمواعظ ما جعل أسلوبها متسقا مع أسلوب القصص القرآني في ذلك مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة ومما هو من مميزات الأسلوب القرآني. ولقد قام مشهد جدل مماثل بين النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من النصارى في مكة أيضا احتوى الإشارة إليه فصل طويل في سورة مريم. وفيه بعض التماثل مع مضمون وسياق هذه الآيات. غير أن هذه الآيات تحتوي بعض الزيادات في التمهيد والتدعيم وفي ظروف رسالة عيسى ودعوته ومعجزاته وموقف بني إسرائيل والحواريين منه ورفعه بعد توفّيه. وفي دعوة المحاجّين فيه إلى المباهلة ودعوتهم إلى الله وحده وإعلان عقيدة النبي والمسلمين في إسلامهم إلى الله وحده. ولقد علقنا بشيء من الإسهاب على الهدف الذي استهدف في سورة مريم بذكر ظروف ولادة يحيى وظروف ولادة عيسى عليهما السلام متوالية في سياق واحد فلا نرى ضرورة إلى التكرار لأن التماثل يكاد يكون تاما بين آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات مريم ما ورد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن بشارة زكريا بيحيى ومريم بعيسى عليهم السلام. ونبهنا ما بين ذلك وبين الآيات من تماثل، كما علقنا على ما احتوته الآيات من كلام عيسى لأمه ولبني إسرائيل وعلى ما في كلامه عن شخصيته ورسالته. وأوردنا كثيرا من النصوص الواردة في الأناجيل والمتطابقة مع تقريرات القرآن كما هو المتبادر للمتمعن المنصف فيها فنكتفي بهذا التنبيه. وأسلوب الآيات [58- 64] التي جاءت بمثابة تعقيب على ما سبقها قوي رائع. من شأنه الإلزام والإقناع إذا ما كان الطرف الثاني حسن النية راغبا في الحق

وحده ولا سيما إن ما فيها متسقا مع ما يسلّم به أهل الكتاب من معجزة ولادة يحيى ومن خلق آدم من تراب ومع دعواهم بوحدة الله مع فارق واحد هو عدم انطواء ذلك على أي إشكال وتعقيد واختصاص وعدم تحمله أي تأويل. ومضمون الآيات المذكورة وروحها وبخاصة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم المحاجّين إلى المباهلة، والابتهال إلى الله بلعنة الكاذبين ثم أمر الله له بدعوتهم إلى كلمة سواء بينهم وبينه وإشهادهم إذا تولوا على أنه هو وأتباعه مسلمون لله تعالى فكل ذلك قوي رائع. ويلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في المناظرة في موقف القوي الدافع المفحم الشاعر بقوة موقفه وصحة دعواه وصدق ما يقرره. وهذا المعنى القوي الرائع يظل واردا إزاء كل موقف مكابر في هذا الأمر في كل ظرف ومكان. هذا، وكثير مما جاء في الآيات من المتشابهات التي يمكن أن يرجع في حسمها إلى المحكمات أو الآيات التي فيها صراحة أكثر والتي يجب أن يوكل ما يعجز العقل الإنساني عن فهمه وتأويله إلى الله تعالى ويوقف عند ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه مع استشفاف الحكمة منه. وهذه بعض إيضاحات وتنبيهات في صدد ما احتوته الآيات على ضوء ذلك: فأولا: إن في الآيات زيادات لم ترد في آيات سورة مريم وهو ما احتوته الآيات [33- 38 و 42- 44 و 47- 57] وبعض ما جاء من هذه الزيادات مثل المعجزات التي أظهرها الله على يد عيسى من إحياء للموتى وإبراء للأكمه والأبرص. ومثل قول عيسى إنه مصدّق للتوراة وإنه سوف يحلّ لهم بعض ما حرّم عليهم. ومثل هتافه بمن يكون أنصاره حينما أحسّ من بني إسرائيل بالكفر واستجابة الحواريين لهتافه وإعلانهم إيمانهم. ومثل ما كان من مكرهم به. وخطاب الله لعيسى إنه متوفّيه ورافعه إليه وجاعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا قد ورد في الأناجيل المتداولة المعترف بها صراحة وضمنا «1» . ولقد أوّل المؤولون جملة وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ بما كان من مكر يهوذا الأسخريوطي به وتسليمه

_ (1) انظر مثلا الإصحاحات (4 و 5 و 6 و 8 و 9 و 10 و 11 و 12) من إنجيل متى.

إياه للسلطات وهذا مذكور في الأناجيل «1» . وأوّلها بعضهم بما كان من مكر اليهود به وهذا منثور في جميع الأناجيل. وننبه بهذه المناسبة إلى أن كلمة الحواريين لم ترد في الأناجيل الأربعة المتعرف بها وقد سمّوا فيها (تلامذة المسيح) و (رسله) «2» . وبعض ما جاء من الزيادات لم يرد في الأناجيل المتداولة المتعرف بها مثل إعلان اصطفاء الله آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين. ونذر امرأة عمران ما في بطنها واعتذارها ودعائها وتعويذها لمريم وذريتها بالله من الشيطان واستجابة الله لها وعنايته بمريم وتكفيله إياها لزكريا ومثل قول الملائكة إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ومثل خلق عيسى من الطين كهيئة الطير ونفخه فيها لتكون طيرا بإذن الله. ونعتقد أن هذا مما كان متداولا بين النصارى في عصر النبي وبيئته وواردا في قراطيس كانت في أيديهم لم تصل إلينا. والروايات تذكر أنه كان أناجيل عديدة غير المتداول اليوم وغير المعترف بها فضاعت أو أبيدت على ما شرحناه في سياق سورة الأعراف. وفي كتب التفسير بيانات كثيرة حول ما جاء في هذه الآيات معزوة إلى علماء الأخبار في الصدر الإسلامي. ومنها ما لم يعز إلى راو. وفيها أشياء كثيرة مما ورد في الأناجيل المتداولة مع زيادات وحواش. وفيها أشياء كثيرة أخرى لم ترد في الأناجيل المتداولة ووردت الإشارة إليه في الآيات مع زيادات وحواش. ومن ذلك على سبيل المثال أن أم مريم كانت عاقرا فنذرت إن رزقها الله ولدا أن تجعله سادنا لبيت الربّ وأن مريم كانت بنت رئيس الكهان فخلفه على مهمته زكريا عديله فلما

_ (1) انظر الإصحاح 26 من هذا الإنجيل أيضا. ومعظم ما ذكر وارد في الأناجيل الأخرى كذلك. (2) هذه هي أسماء التلامذة الاثني عشر المذكورة في الأناجيل: سمعان المدعو بطرس- اندراوس أخوه- يعقوب بن زيدي وأخوه يوحنا- فيلبس- برتلماوس- توما- متى القسار- يعقوب بن حلفي- تدارس- سمعان القانوني- يهوذا الأسخريوطي. انظر الإصحاح 10 من إنجيل متى و 3 من إنجيل مرقس و 6 من إنجيل لوقا.

وضعت أم مريم ابنتها جاءت بها إلى بيت الربّ فقال زكريا أنا أحقّ بكفالتها فأبى سائر الكهنة ذلك ثم اتفقوا على الاقتراع فألقوا سهامهم في نهر الأردن فذهب النهر بجميعها عدا سهم زكريا فثبتت بذلك كفالته لها. وأن زكريا كان يجد فواكه الشتاء في الصيف وفواكه الصيف في الشتاء عند مريم. وأن أم يحيى كانت تقول لمريم إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك وإن هذا مصداق الآية مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ في وصف يحيى. وأن المسيح سأل أيّ الطير أشدّ خلقا قالوا الخفاش فأخذ طينا وجعله على صورة الخفاش ثم نفخ فيه وقال كن طائرا بإذن الله فخرج يطير بين يديه. وأن المسيح كان يخبر الغلمان بما صنعه أهلهم وخبأوه من طعام، فيجد الغلمان حينما يعودون إلى بيوتهم الأمر كما أخبرهم. وأن عيسى أحلّ لبني إسرائيل الشحوم ولحوم الإبل وكان هذا مما حرمته التوراة إلخ.. إلخ ... حيث تدل الروايات التي اكتفينا بما أوردنا منها على أن ما جاء في الآيات كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم مع زيادات وحواش. ونقول هنا ما قلناه في أعقاب آيات سورة مريم إن من واجب المسلم أن يؤمن بكل ما جاء في الآيات من أخبار ومحاورات وخوارق. وسواء منها المتطابق مع الأناجيل المتداولة وغير المتطابق وكون ذلك في نطاق قدرة الله مع الإيمان بأنه لا بد لما ورد في الآيات من حكمة. والملموح من هذه الحكمة في الآيات أنها وقد نزلت في صدد المناظرة التي انعقدت بين النبي صلى الله عليه وسلم ووفد نجران حول شخصية عيسى عليه السلام قد هدفت إلى تسفيه عقيدة بنوّة المسيح من الله وألوهيته بشكل ما. وتقرير الحق من أمره. وهو أنه رسول أرسله الله ليدعو الناس إلى عبادته وحده وليقرر لهم أنه ربّه وربّهم وتصحيح ما ارتكسوا فيه من انحرافات. وأن كل ما هنالك أنه ولد بمعجزة وكان هو وأمه مظهر عناية الله وتكريمه وأن ذكر كون عيسى كلمة من الله هو على سبيل التعبير بالمعجزة الربانية من خلقه بدون مسّ رجل وأن التحجج بما في القرآن من عبارات في صدد ذلك هو من قبيل التحجج بالآيات المتشابهة دون المحكم الذي لا يفعله إلّا من في قلبه زيغ ابتغاء الفتنة. في حين أن المحكم صريح بتنزيه الله عن الولد والشريك والقسيم والتعدد والروح المادية التي

تسري منه إلى غيره بأي شكل. ويكون مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فكان. وقد يكون من تلك الحكمة ما بين التقريرات القرآنية والأناجيل من تطابق حيث ينطوي في ذلك قصد الإفحام والإلزام. أما ما ليس متطابقا فهو من وجهة النظر الإسلامية محرّف والله تعالى أعلم. ولقد كان جمهور النصارى في بلاد الشام ومصر والعراق يدينون بمذهب لا يقول بالألوهية التامة لعيسى وبأنه بين بين من الناسوتية واللاهوتية وذو طبيعة واحدة مزيجة خلافا للسلطات الرومانية الحاكمة. وكان هذا الجمهور يتعرض لذلك لاضطهاد هذه السلطات. فلما جاءت جيوش الفتح الإسلامي إلى هذه البلاد أقبلت جماهير هذا المذهب على الصلح مع العرب. ولما عرفت ما في القرآن عن عيسى من كونه وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ وأن الله نفخ في فرجها وجعلها وابنها آية للعالمين، وأن الله أرسل إليها روحه الذي تمثل لها بشرا ليهب لها غلاما زكيا وليكون آية للناس ورحمة منه. ومما جاء في بعض الآيات التي نحن في صددها وفي بعض آيات سورة مريم وسورة الأنبياء التي مرّ تفسيرها وفي الآية [170] من سورة النساء لمحت شيئا من التطابق بين ذلك وبين مذهبها فأقبلت على اعتناق الإسلام. وقد يكون ذلك من مظاهر أو نتائج تلك الحكمة والله تعالى أعلم. وثانيا: قد تبدو الآية [44] مشكلة لأنها تنبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن ما يوحى إليه وخاصة في صدد ظروف ولادة مريم وكفالتها هو من أنباء الغيب. وإشكالها آت من ناحية ترجيحنا أن ما احتوته الآيات مما كان متداولا عند النصارى وغير مجهول عند العرب أو بعضهم. ولقد أشرنا إلى مثل هذا الإشكال في سياق تأويل الآية [49] من سورة هود والآية [102] من سورة يوسف اللتين تذكران أن ما أوحاه الله إلى النبي من قصص هود ويوسف هو من أنباء الغيب وعلقنا على ذلك بما نرجو أن يكون فيه الصواب. وينسحب ما قلناه على هذه الآية ولا نرى أن نزيد عليه إلّا التنبيه على أن الروايات التي يرويها المفسرون عن ذلك تفيد أن ظروف ولادة مريم وكفالتها وما كان يجده زكريا عندها من رزق مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم

ومما يحتمل أن لا يكون مجهولا من بعض العرب. وثالثا: وقد يبدو ما ذكر في الآية [55] من أن الله تعالى جاعل الذين اتبعوا عيسى عليه السلام فوق الذين كفروا به إلى يوم القيامة ثم يكون مصير المؤمنين به النعيم والكافرين به العذاب. والمتبادر أن ذلك إنما هو في صدد الذين اتبعوا رسالة المسيح بجميع محتوياتها ولم ينحرفوا عنها. ومن جملة ذلك وحدة الله عز وجل وتنزيهه عن كل نقص وشائبة وتجزّؤ وتعدّد بأي شكل. واعتراف المسيح بأنه عبد الله ورسوله. ودعوته إلى الله وحده وهو ما حكاه القرآن وما في الأناجيل من نصوص متطابقة مع ذلك صراحة وضمنا مما أوردنا نماذج منه في تفسير سورة مريم. ومن جملة ذلك أيضا بشارة عيسى بالنبي محمد التي ذكرها القرآن في الآية [6] . ومن جملة ذلك كذلك ما في الإنجيل من صفاته مما أشير إليه في آية سورة الأعراف [157] التي تدعو أهل الإنجيل إلى اتباعه. ومقتضى كل ذلك أن يكون الذين يستحقون ذلك النعيم والتفضيل من أتباع عيسى هم الذين لم ينحرفوا عن رسالته إلى زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم ثم آمنوا بهذا النبي واتبعوه. أما المنحرفون عنها قبل بعثة محمد والكافرون برسالة محمد فهم من وجهة نظر العقيدة الإسلامية كفار كما قررت ذلك آيات عديدة منها آيات النساء [150 و 151] والمائدة [72 و 73] . ولقد قررت آية الأعراف [157] أن فريقا منهم اتبع النبي محمدا صلى الله عليه وسلم بعد أن ثبتت لهم صحة الدلائل المكتوبة عندهم على نبوّته كما قررت ذلك آيات عديدة وردت في سور سبق تفسيرها وسور يأتي تفسيرها بعد مثل آيات القصص [52- 55] والإسراء [107- 108] والرعد [36] والمائدة [82- 85] وبهذا الشرح يزول كل إشكال. وكلام المفسرين في هذه المسألة متطابق بالنتيجة مع هذا الشرح الذي نرجو أن يكون فيه الصواب. ولقد روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهوديّ ولا نصرانيّ ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلّا كان من أصحاب النار» «1» . حيث ينطوي في الحديث تأييد نبوي لما قررناه.

_ (1) التاج، ج 1 ص 35.

ورابعا: وقد يبدو ما جاء في الآية [33] مشكلة أيضا بما احتوتاه من تقرير رباني مباشر باصطفاء آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين. وآل عمران هم أسرة مريم. وكذلك في الآية [42] التي قررت أن الله اصطفى مريم على نساء العالمين. والمتبادر أن العبارة أسلوبية. وقد هدفت إلى التنويه بفضل المذكورين ومنزلتهم أو أفضليتهم على غيرهم في عصرهم بما امتازوا به من خصائص وفضائل صاروا بسببها من أصفياء الله. وقد يكون اصطفاء آل عمران ومريم متصلا بخاصة بمعجزة ولادة المسيح التي لم يكن لها مثيل وبما كان من تكريمه ورفعه. وخامسا: وقد يثير ذكر آدم إشكالا من ناحية كون القرآن يقرر أنه أول إنسان خلقه الله في حين أن مفهوم الاصطفاء يفرض وجود آخرين معه يصطفي الله منهم من يصطفيه مما قد ينطبق على نوح وإبراهيم وآل عمران ومريم دون آدم. والمتبادر أن العبارة بالنسبة لآدم هي أيضا أسلوبية لا إشكال حقيقيا فيها من حيث إنه أبو جميع الذين اصطفاهم الله. ويمكن أن يقال مع ذلك إن ذكر اصطفائه متصل بما كان من اختصاصه بالذكر في خلق الله له ونفخه فيه من روحه والإيذان بأنه جاعله خليفة في الأرض وتعليمه الأسماء وأمر الله الملائكة بالسجود له مما ذكرته آيات القرآن أو بما كان من اختصاصه بالمميزات التي اختص بها جنسه الإنساني دون غيره من مخلوقات الله الأخرى وبخاصة الحيوانات التي بينها وبين هذا الجنس تشارك في كثير من الصفات حتى صار خلقا آخر كما جاء في الآية [14] من سورة المؤمنون. وكلام المفسرين في هذه الأمور متطابق كذلك بالنتيجة مع هذه التقريرات. ولقد قال بعضهم إن الاصطفاء لآل إبراهيم وآل عمران هو بالنسبة للمؤمنين منهم. وهذا وجيه. وقال بعضهم إن النبي والعرب يدخلون في ذكر آل إبراهيم تكذيبا لليهود الذين كانوا يقولون إنهم شعب الله المختار من حيث إن إبراهيم ليس فقط جد بني إسرائيل الذين ينتسبون إلى يعقوب وإسحق أبي يعقوب الذي هو ابن إبراهيم بل هو أيضا أبا لإسماعيل الذي ينتسب إليه العرب وأبا لأولاد آخرين ولدوا له من زوجته قطوره على ما جاء في الإصحاح (25) من سفر التكوين.

وسادسا: لقد كانت الآية [55] التي ذكر فيها رفع عيسى عليه السلام بعد توفّيه موضوع بحوث وتأويلات وروايات «1» معزوّة إلى ابن عباس وغيره بالنسبة لمفهوم التوفي والرفع وما إذا كان عيسى عليه السلام مات ثم رفع، أو رفع دون موت، وما إذا كان رفع بروحه أو بروحه وجسده. وما قد يترتب على ذلك من تصادم مع آيات قرآنية أخرى وأحاديث نبوية إذا قيل إنه مات ثم رفع حيث جاء في سورة النساء هذه الآيات: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) وحيث روى الشيخان والترمذي حديثا عن أبي هريرة جاء فيه: «والذي نفسي بيده ليوشكنّ أن ينزل فيكم ابن مريم عليه السلام حكما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتّى لا يقبله أحد وحتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها» «2» . ثم قال أبو هريرة واقرأوا إذا شئتم: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) وهناك حديث نبوي آخر طويل في الدجال رواه مسلم والترمذي وأبو داود ذكر فيه أن الله يبعث المسيح ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق «3» . ومما رواه المفسرون وقالوه: إن التوفّي هنا هو توفية أيام عيسى في الأرض كما قالوا إن جملة مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ بمعنى قابضك من الأرض بدون موت أو إني مميتك ثم رافعك إليّ. واستدلوا بالآية اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى

_ (1) انظر تفسير الآية في الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي. (2) انظر التاج ج 5 ص 323- 325. (3) المصدر نفسه.

سورة الزمر [42] على أن التوفي ليس معناه الإماتة حتما ودائما. وقالوا كذلك إنه لا يصح أن يكون لعيسى حياة وموت ثم حياة وموت في الدنيا، لأن الله إنما جعل لكل إنسان حياة مرة وموتا مرة في الدنيا، ثم حياة في الآخرة عدا ما يكون أحياه الله بمعجزة مما ذكر في القرآن ووجب الإيمان به. ومع ذلك فقد رووا عن ابن عباس وغيره أن الله أماته ثم أحياه بضع ساعات أو بضعة أيام ورفعه إليه لتكريمه ... وللسيد رشيد رضا في صدد ذلك كلام طويل يفيد أن التوفي بمعنى الموت والرفع بمعنى التكريم وأن الأحاديث النبوية هي أحاديث آحاد في أمور غيبية لا يؤخذ فيها إلّا بالقطعي المشهور وإن نفي صلبه وقتله وكونه شبه عليهم لا ينفي موته موتة عادية وإن جملة إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ في سورة النساء هي بالنسبة لأهل الكتاب وليست بالنسبة لعيسى عليه السلام. ولا تخلو هذه الأقوال من وجاهة. ومهما يكن من أمر فإن الذي يتبادر لنا أن الآية إنما استهدفت التنويه بعيسى عليه السلام وفضله وكرامته عند الله ولم تستهدف تقرير واقعة. ولا سيما أن أسلوبها أسلوب خطاب موجّه إلى عيسى قبل توفيه ورفعه. وأن الأولى الوقوف منها عند هذا الحد دون ما تزيد ولا تخمين. ومعلوم أن المبشرين النصارى يحاجون المسلمين بهذه الآية لأن فيها اعترافا بموت عيسى قبل رفعه. وهذا يوافق عقيدتهم مع فارق واحد هو اعتقادهم أنه مات مصلوبا ويرون في الآية في الوقت نفسه نقضا لآية النساء التي تنفي قتل عيسى وصلبه. وتقرر أن الله رفعه إليه بأسلوب قد يفيد أن ذلك كان وهو حي. ولسنا نرى في الآيتين صراحة قطعية بموته قبل رفعه ولا رفعه وهو حي. والعبارة تتحمل الصورتين. والقرآن نفى موته صلبا أو قتلا فليس للنصارى حجة في النص القرآني والحالة هذه حتى لو أوّل بأنه رفع بعد الموت. وسنستوفي البحث في موضوع آية النساء في مناسبتها إن شاء الله. وسابعا: لقد روى المفسرون في سياق جملة وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ

الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) حديثا رواه البخاري عن أبي هريرة أيضا جاء فيه: «قال النبي صلى الله عليه وسلم ما من مولود يولد إلّا والشيطان يمسّه حين يولد فيستهلّ صارخا من مسّ الشيطان إيّاه إلّا مريم وابنها. واقرأوا إذا شئتم وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) » «1» . وروى المفسرون كذلك حديثا آخر رواه البخاري عن أبي هريرة أيضا جاء فيه: «كلّ بني آدم يطعن الشيطان في جنبه حين يولد غير عيسى ابن مريم ذهب يطعنه فطعن في الحجاب» «2» . ويلحظ بالنسبة للحديث الأول أنه يذكر أن الشيطان يمس المولود حين يولد وأنه ربط عدم طعن مريم وابنها بدعاء أم مريم مع أن هذا الدعاء كان بعد ولادة مريم بمدة ما ولقد رأى بعض المفسرين أن ما في الحديثين من قبيل التمثيل والتعبير عن طمع الشيطان في إغواء كل مولود. ولقد قال رشيد رضا: «إن الأحاديث هي آحادية ولا يؤخذ بها في العقائد ومبادئ الدين وإن صحت فيوكل الأمر فيها إلى الله لأنها متصلة بما أخبر به القرآن ووجب الإيمان به غيبا من وجود الشيطان ووسوسته للناس ومحاولته إغراءهم» . وفي هذا القول وجاهة ظاهرة. وقد يمكن أن يضاف إليه أن من الحكمة الملموحة في الأحاديث التساوق النبوي مع القرآن في تكريم مريم وابنها عليهما السلام في الآية التي ربط الحديث الأول بمضمونها والله تعالى أعلم. ولقد قال رشيد رضا إن دعاة النصرانية يشاغبون على عوام المسلمين بالأحاديث مستدلين بها على تفضيل عيسى على محمد عليهما السلام وهذا من عجيب تفاهاتهم. والأحاديث صدرت في مناسبة آية من آيات القرآن متساوقة معها. ومن العجيب أن هؤلاء الدعاة يتمسكون بحديث نبوي ويوردونه لإثبات قولهم ويتركون أحاديث نبوية كثيرة في فضل النبي محمد صلى الله عليه وسلم على عيسى وغيره من الأنبياء عليهم السلام. نكتفي منها بهذا الحديث الذي رواه الترمذي عن ابن عباس قال: «جلس ناس من أصحاب النبي ينتظرونه فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون. فقال بعضهم عجبا: إن الله عزّ وجلّ

_ (1) التاج ج 4 ص 65، وفي فصل النبوة من كتاب التاج ج 3 ص 266 تكرار للحديث الأول مع صراحة بأن جملة (اقرأوا إذا شئتم ... ) هي لأبي هريرة. (2) المصدر نفسه.

تعليق على ما روي في صدد آية المباهلة

اتخذ من خلقه إبراهيم خليلا، وقال آخر وكلّم الله موسى تكليما. وقال آخر وعيسى كلمة الله وروحه. وقال آخر وآدم ونوحا اصطفاهما، فسلّم النبي وقال قد سمعت كلامكم وعجبكم إن إبراهيم خليل الله وهو كذلك وموسى نجيّ الله وهو كذلك وعيسى كلمة الله وروحه وهو كذلك وآدم ونوح اصطفاهما الله وهو كذلك، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر. وأنا أول شافع وأول مشفّع يوم القيامة ولا فخر وأنا أول من يحرّك حلق الجنة فيفتح الله لي فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر» «1» . تعليق على ما روي في صدد آية المباهلة روى المفسرون روايات عديدة في صدد هذه الآية في صيغ مختلفة. معظمها يفيد أنها في صدد مناظرة وفد نجران. وواحدة منها تذكر أنها في صدد موقف حجاجي بين النبي واليهود. وورود الآية في سياق في صدد عيسى عليه السلام يجعل الرجحان للقول الأول. ومما جاء في الروايات التي تذكر أنها في صدد وفد نجران أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما نزلت الآية غدا محتضنا الحسين وآخذا بيد الحسن وفاطمة أو فاطمة وعلي رضي الله عنهم يمشيان وراءه أو دعا هؤلاء وقال لهم إذا دعوت فأمّنوا ثم جاء إلى وفد نجران فدعاه إلى المباهلة حسب نصّ الآية فاعتذر وقال ما ذكرناه في مناسبة سابقة من أنهم يكتفون منه بقوله إن عيسى كلمة الله وروح منه وطلبوا منه الموادعة. وهناك رواية تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبا بكر وولده وعمر وولده وعثمان وولده وعليا وولده رضي الله عنهم ليشتركوا معه في المباهلة والملاعنة وليس من شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح إلّا حديث مقتضب لا يذكر المباهلة رواه مسلم والترمذي عن عامر بن سعد عن أبيه قال: «لمّا

_ (1) التاج، ج 3 ص 206 وانظر أيضا الصفحات 204 و 205 ففيها أحاديث عديدة أخرى في فضل محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. [.....]

أنزل الله الآية دعا النبيّ عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال اللهمّ هؤلاء أهلي» «1» . ولقد شغل هذا الأمر حيزا كبيرا في احتجاجات الشيعة وتأويلاتهم. وكانت رواية أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين وفاطمة وعليا رضي الله عنهم معه إلى المباهلة عمادهم في ذلك. واعتبروها حقيقة يقينية وقالوا إن جملة وَأَنْفُسَنا عنت عليا لأن النبي هو الداعي فلا يكون مدعوّا وإن عليا والحالة هذه أفضل الخلق بعد النبي وأفضل من سائر الأنبياء لأنه في مقام النبي محمد. وإن عدم اصطحاب النبي أحدا من نسائه واصطحابه فاطمة يدل على أن كلمة وَنِساءَنا في الآية لا تعني زوجاته وإنما عنت بنته. وإن الحسن والحسين هما ابنا النبي ولو لم يكونا من صلبه لأنه اصطحبهما على اعتبار أنهما أبناؤه. وإنه لما كانت المباهلة لا تصلح إلّا بين مكلفين فيكون صغر سنهما وعدم بلوغهما الحلم لا ينافيان كمال العقل والتكليف فضلا عن جواز خرق الله العادة للأئمة واختصاصهم بما لا يشركهم فيه غيرهم. والتكلّف والتجوّز والتعسّف بل والمفارقة ظاهرة في كل ذلك مما يقع الشيعة في مثله وأكثر منه على ما مرّ منه أمثلة كثيرة. ولقد تغافلوا في تأويلاتهم عن كون النبي لا يمكن أن يناقض القرآن في تسمية بنته الوحيدة بنسائه حيث عنى القرآن بهذه الكلمة زوجات النبي صلى الله عليه وسلم في آيات سورة الأحزاب [28- 30] كما تغافلوا عن أن الدعوة كانت مشتركة تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ فلم يسألوا أنفسهم ماذا تكون عنت كلمة وَأَنْفُسَكُمْ بالنسبة للوفد حينما أوّلوها بالنسبة للنبي بعلي أي بغير النبي. ولم يرو أحد أن الوفد كان يصطحب نساء وأولادا. وأسلوب الآية أسلوب تحدّ وإفحام. وابن هشام الذي يروي خبر ما كان بين النبي ووفد نجران بالتفصيل ويورد آيات سورة آل عمران في سياق ذلك لم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم استعد للمباهلة فعلا كما لم يذكر أنه أخذ فاطمة وعليا والحسن والحسين رضي الله عنهم للمباهلة. وكل ما ذكره أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى المباهلة فاستمهلوه لينظروا في الأمر ثم غدوا فقالوا له رأينا يا أبا القاسم أن لا نلاعنك. وكل هذا يجعلنا نشك

_ (1) انظر أسد الغابة والمواهب اللدنية للزرقاني ومشارق الأنوار للحمزاوي.

في الرواية ونرجح أنها من صنع الشيعة لتأييد أهوائهم كما فعلوا مثل ذلك كثيرا. ولقد تصدّى الشيخ محمد عبده لهذه المسألة على ما جاء في تفسير رشيد رضا فقال إن مصادر هذه الرواية الشيعة. ومقصدهم معروف. وقد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من أهل السنة. ولكن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية، فإن وَنِساءَنا لا يقولها عربي ويريد بها ابنته إذا كانت له زوجة. ولقد ذكرنا قبل أن ابن هشام أورد خبر قدوم وفد نجران بعد خبر وقعة بدر وقبل خبر وقعة أحد. وأن الفصل الطويل الذي يتفق المفسرون على أنه نزل في مناظرة وفد نجران والذي نحن في صدده قد وضع في السورة قبل فصل وقعة أحد. وأن ذلك يمكن أن يجعل وقت قدوم هذا الوفد عقب انتصار النبي والمسلمين على قريش في بدر وقبل وقعة أحد قوي الورود. وهذا الوقت يقارب أواخر السنة الهجرية الثانية ولقد أرّخ الرواة زواج فاطمة وعلي رضي الله عنهما بالسنة الهجرية الثانية وولادة الحسن رضي الله عنه بالسنة الثالثة وولادة الحسين رضي الله عنه بالسنة الرابعة أو الخامسة «1» . وهذا يعني أن الحسن والحسين رضي الله عنهما اللذين تروي روايات الشيعة أن النبي صحبهما للمباهلة لم يكونا قد ولدا حينما نزلت آية المباهلة ... هذا، ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن رواية دعوة النبي لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأولادهم هي أيضا مصنوعة لمقابلة روايات وتأويلات الشيعة المتعسفة مما له أمثال كثيرة روينا بعضها في مناسبات سابقة «2» . والعلم يقتضينا أن نذكر أن هناك أحاديث أخرى وردت في الصحاح غير الحديث الذي رواه مسلم والترمذي وأوردناه قبل قليل في مناسبة آية المباهلة تروى في مناسبة آية سورة الأحزاب إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) . منها حديث رواه عمر بن أبي سلمة قال: «لمّا نزلت هذه

_ (1) انظر أسد الغابة والمواهب اللدنية للزرقاني ومشارق الأنوار للحمزاوي. (2) انظر فصل المناقب في الجزء التاسع من مجمع الزوائد ففيه أمثلة كثيرة من ذلك. الجزء السابع من التفسير الحديث 11

استطراد إلى حديث مروي في صدد الآية قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ... إلخ من آيات السلسلة ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم لهرقل ملك الروم وشهادة لأبي سفيان وتعليق على ذلك

الآية دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم فاطمة وحسنا وحسينا فجلّلهم بكساء ثمّ قال اللهمّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا. قالت أمّ سلمة وأنا معهم يا رسول الله، قال أنت على مكانك وأنت إلى خير» «1» . وليس في الحديث ذكر لعلي. ولكن مؤلف التاج أورد الحديث في فصل الفضائل وفيه ذكر لعلي «2» ، ومنها حديث رواه كذلك مسلم والترمذي عن عائشة قالت: «خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط مرحّل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله ثمّ جاء الحسين فأدخله معه ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها ثمّ جاء عليّ فأدخله ثمّ قال: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) » «3» . ونحن نتوقف في هذه الأحاديث وفي الحديث الأول معا التي فيها إخراج لنساء النبي من تعبير وَنِساءَكُمْ في الحديث الأول من تعبير أَهْلَ الْبَيْتِ في الأحاديث الأخرى وحصر الأول في فاطمة وحصر الثاني في علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم لأن هذا مناقض لصراحة الآيات القرآنية. وسوف نزيد هذا الأمر شرحا في تفسير سورة الأحزاب، والله تعالى أعلم. استطراد إلى حديث مروي في صدد الآية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ ... إلخ من آيات السلسلة ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم لهرقل ملك الروم وشهادة لأبي سفيان وتعليق على ذلك لقد روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: «حدثني أبو سفيان من فيه إلى فيّ قال انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين النبي «4» فبينا أنا بالشام إذ جيء

_ (1) التاج، ج 4 ص 185. (2) التاج، ج 3 ص 308. (3) المصدر نفسه ص 308 أيضا. (4) يقصد هدنة الحديبية التي انعقدت بين النبي وبين زعماء قريش لمدة عشر سنوات في السنة السادسة للهجرة.

بكتاب من النبي إلى هرقل جاء به دحية الكلبي فدفعه إلى عظيم بصرى فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل فقال هرقل هل هنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي. فقالوا نعم. فدعيت في نفر من قريش فدخلنا على هرقل فأجلسنا بين يديه فقال: أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: أنا، فقال للنفر: إني سائل هذا عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي. فإن كذبني فكذّبوه. ثم قال لترجمانه: سله كيف حسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو حسب. قال: هل كان في آبائه ملك؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت لا، قال: أيتّبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم. قال: يزيدون أم ينقصون؟ قلت: لا بل يزيدون. قال: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ قلت: لا. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إيّاه؟ قلت: تكون الحرب بيننا وبينه سجالا يصيب منا ونصيب منه. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا. ونحن منه في هذه المدة لا ندري ما هو صانع فيها. قال أبو سفيان: والله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه. قال: فهل قال هذا القول أحد قبله؟ قلت: لا. ثم قال: بم يأمركم؟ قلت: يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف. قال: إن يك ما تقول فيه حقا فإنه نبيّ. وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظنه منكم. ولو أني أعلم بأني أخلص إليه لأحببت لقاءه. ولو كنت عنده لغسلت قدميه وليبلغنّ ملكه ما تحت قدمي. ثم دعا بكتاب رسول الله فقرأه فإذا فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمّد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتّبع الهدى. أما بعد، فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام. أسلم تسلم. وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين. فإن تولّيت فإنّ عليك إثم الأريسيّين. ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلّا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتّخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) . فلمّا فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده وكثر اللغط فأخرجنا فقلت لأصحابي خرجنا لقد أمر أمر ابن أبي كبشة. إنه ليخافه ملك بني الأصفر. فما زلت موقنا بأمر رسول الله أنه سيظهر حتى أدخل الله عليّ الإسلام. قال الزهري فدعا هرقل

عظماء الروم فجمعهم في دار له فقال: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد آخر الأبد وأن يثبت لكم ملككم قال فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلّقت فقال عليّ بهم فدعا بهم فقال إني إنما اختبرت شدتكم على دينكم. فقد رأيت منكم الذي أحببت فسجدوا له ورضوا عنه» «1» . ولقد روى كتّاب السيرة والقدماء «2» أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل في السنة الهجرية السادسة بعد صلح الحديبية كتبا عديدة إلى ملوك الفرس والروم والحبشة ومصر وغسان والبحرين واليمامة وأمراء اليمن وأقيالها يدعوهم فيها إلى الإسلام حيث يتبادر أنه اغتنم فرصة هذا الصلح الذي أوقف حالة الحرب بينه وبين أقوى أعدائه. وكان قبل ذلك قد فرغ من تطهير المدينة من اليهود وخضد شوكتهم خضدا تاما في القرى التي هم فيها بين المدينة والشام وكانوا أقوى أعدائه بدورهم فرأى أن يبلغ دعوة الإسلام وصوته إلى العالم عن طريق الملوك والأمراء. وكان ذلك على الأرجح بعد نزول الآية بمدة ما. فأدخلها في نصّ كتاب الدعوة الذي أرسله إلى الكتابيين بخاصة. وصيغة الآية قوية رائعة حيث تدعو أهل الكتاب إلى كلمة فيها كل الحقّ وكل العدل. يدين بها الجميع وهي أن لا يعبد إلا الله وألا يشرك به شيء. وألّا يتخذ الناس بعضهم بعضا أربابا من دون الله وحيث تأمر المسلمين إذا لم يستمع أهل الكتاب لهذه الدعوة. ويستجيبوا لها بأن يقولوا لهم اشهدوا بأنا مسلمون لله مؤمنون بهذه العقيدة الصافية النقية. وبعض المستشرقين يشككون في رواية كتب النبي لملوك الأرض العظام لأسباب تافهة لا تثبت على نقد. والرواية واردة في أقدم كتب السيرة والحديث.

_ (1) التاج، ج 4 ص 65 و 69 والمتبادر أن الحديث شقان رواهما البخاري الأول عن ابن عباس والثاني عن الزهري. وأبو كبشة كنية الحارث بن عبد العزى زوج مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم ويكون أبوه بالرضاعة. وكان زعماء قريش يكنونه بها انتقاصا واستهتارا والأريسيين هم الأتباع والرعية على الأرجح. (2) انظر سيرة ابن هشام ج 4 ص 278- 280، وطبقات ابن سعد ج 2 ص 23- 27.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 65 إلى 68]

والحديث الذي أوردناه من الصحاح. وليس هناك أي سبب لاختراعهما وليس فيهما ما يتحمل شكا وقد أمر النبي بإبلاغ رسالته إلى جميع خلق الله دون أن يخشى شيئا في آية سورة المائدة هذه: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [67] والشطر الأول من سورة المائدة نزل بعد صلح الحديبية بقليل. حيث يدعم كل هذا بعضه بعضا. والله تعالى أعلم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 65 الى 68] يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) . تعليق على الآية يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) وما بعدها الآيات [66- 68] عبارة الآيات واضحة. وفيها: 1- تنديد بأهل الكتاب لمحاجتهم في إبراهيم مع أن التوراة والإنجيل إنما أنزلا من بعده. 2- وتنديد آخر لمحاجتهم في شيء ليس عندهم به علم. 3- ونفي لكون إبراهيم يهوديا أو نصرانيا. 4- وتقرير بأنه كان مسلما حنيفا غير مشرك وبأن أولى الناس به هم الذين على ملّته ومنهم النبي والذين آمنوا به لأنهم أيضا عليها.

وقد روى المفسرون «1» أن الآيات نزلت في مناسبة جدال في ملة إبراهيم قام بين النبي صلى الله عليه وسلم ووفد نجران واشترك فيه فريق من أحبار اليهود. حيث قال اليهود إن ملّة إبراهيم هي اليهودية، وقال النصارى إنها النصرانية. وأسلوب الآيات ومضمونها يؤيدان الرواية. وهناك حديث رواه الترمذي جاء فيه «لما قالت اليهود نحن على دين إبراهيم وقالت النصارى نحن على دين إبراهيم نزلت الآية» «2» . والمتبادر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرر في مجلس الجدل أنه هو على ملة إبراهيم وداع إليها، فادعى اليهود أنهم هم الذين على هذه الملة وأنهم أولى به وادعى النصارى مثل هذه الدعوى، فنزلت الآيات: 1- مسفّهة للدعوى لأن يهودية اليهود هي بعد نزول التوراة ونصرانية النصارى هي بعد نزول الإنجيل في حين أن الكتابين إنما نزلا بعد إبراهيم. 2- مستهدفة تبرئة إبراهيم من الانحراف الذي انحرفه أهل الكتاب فلم يعد من حقهم أن يدعوا أنهم على ملته، وتقرير كون هذا الحق إنما هو للذين ثبتوا على هذه الملة دون انحراف وهي الإسلام لله وحده وعدم إشراك شيء به والاستقامة على ذلك، ثم النبي والذين آمنوا به وإعلان كون الله تعالى هو وليّ المؤمنين المخلصين. ولقد كانت ملّة إبراهيم واتّباع النبي لها ودعوته إليها موضوع آيات ومشاهد عديدة في العهد المكي بين النبي والمشركين على ما نبهنا إليه في مناسبات سابقة «3» وصارت كذلك في العهد المدني بين النبي وأهل الكتاب وبخاصة اليهود. وفي سلسلة آيات البقرة الطويلة آيات عديدة في ذلك حيث يتبادر من ذلك أن إبراهيم عليه السلام وملّته كانا من المسائل الهامة في الدعوة الإسلامية لأن مشركي العرب واليهود والنصارى يلتقون فيهما. وقد شرحنا في المناسبات السابقة مدى

_ (1) انظر تفسير الطبري والخازن والطبرسي وابن كثير وهم يعزون الرواية إلى ابن عباس. (2) التاج، ج 4 ص 69. (3) انظر تفسيرنا لسور الأنعام والرعد والنحل والأنبياء والحج والأعلى.

التقاء اليهود ومشركي العرب فيهما. أما التقاء النصارى معهم فيهما فهو آت من كون هؤلاء يؤمنون بأسفار العهد القديم والأنبياء الذين ورد ذكرهم فيها ومنهم إبراهيم عليه السلام كما هو المتبادر. وقد قال المفسرون في صدد مفهوم الآية الثانية إنها احتوت تنديدا باليهود والنصارى لأنهم إذا صحّ أن يحاجّوا فيما احتوته التوراة والإنجيل لأنه مفروض أنهم يعرفونها فما كان لهم أن يحاجّوا فيما ليس فيها مثل كون ملة إبراهيم هي اليهودية أو النصرانية لأنهم بذلك يحاجّون فيما ليس لهم به علم صحيح «1» وهذا متسق مع فحوى الآيات كما هو المتبادر. وأسلوب هذه الآية بخاصة وأسلوب الآيات بعامة يلهمان على كل حال أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في موقف المستعلي الملزم المستحكم في الحجة والبيان. وروح الآية الأخيرة ومضمونها يفيدان أنها تعني فريقين، فريقا قبل النبي لزم ملة إبراهيم الموصوفة، ثم النبي والذين آمنوا معه كفريق ثان. وهذا يعني كما هو المتبادر أن أحدا لا يستطيع أن يدعي أنه على ملّة إبراهيم بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يكون مؤمنا به من وجهة النظر الإسلامية. ولقد أورد الطبري في سياق هذه الآية حديثا رواه أيضا الترمذي بسند حسن عن عبد الله بن مسعود قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لكلّ شيء ولاة من النبيين وإنّ وليي منهم أبي وخليل ربي. ثم قرأ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) » . والحكمة الملموحة في الحديث توكيد التلازم بين النبي صلى الله عليه وسلم وإبراهيم عليه السلام في الملة الواحدة الموصوفة في الآية الثالثة. وتوكيد ما أمر الله نبيه بالهتاف به في آيات سورة الأنعام [160 و 161] التي سبق تفسيرها والتعليق عليها.

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن وابن كثير.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 69 إلى 74]

هذا، وإذا صحت الرواية التي تقول إن الآيات نزلت في مشهد جدلي اشترك فيه وفد نجران وأحبار اليهود فتكون متصلة بسلسلة الآيات السابقة وفصلا من فصول المناظرة بين النبي ووفد نجران من حيث الأصل والله تعالى أعلم. نقول هذا لأن الآيات التالية التي ذكر فيها أهل الكتاب تفيد أن المقصود منهم اليهود فقط حيث يرد بالبال أن المقصود في الآيات التي نحن في صددها هم اليهود أيضا ولا سيما أن الجدال على ملّة إبراهيم سابقا كان بين النبي واليهود. وفي هذه الحالة يكون نفي النصرانية عن إبراهيم من قبيل الاستطراد والتعميم مما ورد مثله وفي مقامه في سلسلة آيات سورة البقرة الواردة في حق يهود بني إسرائيل على ما نبهنا عليه سابقا وتكون الآيات السابقة خاتمة فصول المناظرة بين النبي ووفد نجران. وتكون هذه الآيات بداية فصل طويل جديد في حق اليهود. وقد وضعت بعد تلك الفصول للمناسبة الموضوعية أو الزمنية. والله أعلم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 69 الى 74] وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) . في الآيات: 1- إشارة تقريرية إلى ما كان يتمناه طائفة من أهل الكتاب وهو تضليل المؤمنين وتشكيكهم في دينهم وتحويلهم عنه.

تعليق على الآية ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم ... إلخ والآيات التابعة لها إلى [74]

2- ونعي عليهم بأنهم لا يضلّون في الحقيقة إلّا أنفسهم دون أن يدروا. 3- وخطاب موجّه إليهم على سبيل التنديد والتقريع بأسلوب السؤال الاستنكاري عن كفرهم بآيات الله مع أنهم يشهدون في سرائرهم بصحتها ويرون أمارات صدقها وعن إلباسهم الحق بالباطل وكتمهم الحق عن عمد وعلم بما في عملهم من بغي وانحراف. 4- وحكاية لما كانت تتواصى به هذه الطائفة بسبيل تضليل المؤمنين وتشكيكهم حيث كانت تتواصى بإظهار الإيمان والتصديق بالنبي والقرآن في الصباح ثم إظهار الشك والجحود في السماء لتؤثر بذلك على المسلمين وتجعلهم يرتدّون عن دينهم ويرجعون عنه. وحيث كانت تتواصى بأن لا يؤمن بعضهم إلّا لبعض لئلا يعرف غيرهم ما عندهم فحاجّوهم به عند ربّهم. 5- وأمر للنبي بأن يعلن- إزاء ما يبيته هؤلاء من المؤامرات والحقد وأساليب الكيد- أن الهدى هو هدى الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء وهو واسع الفضل عليم بمستحقيه وأنه ذو فضل عظيم يختص به من يشاء. وذلك ردا على تواصيهم وأمانيهم ودسائسهم وتثبيتا لنفوس المسلمين. تعليق على الآية وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ... إلخ والآيات التابعة لها إلى [74] ولقد تعددت روايات المفسرين في مناسبة هذه الآيات: من ذلك أن الآية الأولى بسبب محاولة بعض اليهود إغراء معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بترك الإسلام والتهود «1» . وقال بعضهم إن الآيات الثلاث الأولى في حق جماعة من اليهود والنصارى لأنهم يلبسون الحق بالباطل ويكتمون الحق مع أنهم

_ (1) انظر تفسير الخازن. [.....]

يعلمون أن النبي على حق وأن دلائل نبوته موجودة في كتبهم وكل هذا بسبيل تضليل المسلمين وتشكيكهم «1» . وروى جمهورهم «2» أن الآية الرابعة نزلت في حق جماعة من أحبار اليهود تآمروا على الكيد للمسلمين وتشكيكهم في دينهم والتواصي بعدم اطلاعهم على ما عندهم من دلائل بالأسلوب الذي حكته الآيات. ومما رووه أن أحبار اليهود طلبوا من بعض اليهود اعتناق الإسلام والصلاة مع المسلمين في النهار ثم يعودون إليهم ويقولون إننا سألنا أحبارنا فقالوا إن محمدا كاذب وإن المسلمين ليسوا على شيء فيساورهم الشك ويقولون إنهم علماء أهل الكتاب وهم أعلم منا فيرجعون عن الإسلام. وروى بعضهم «3» أن هذه الآيات أو بعضها نزلت في صدد تحويل القبلة حيث شق ذلك عليهم وأخذوا يتآمرون على المسلمين. والصفات والأقوال التي وصفت بها الآيات القائلين ونسبتها إليهم قد وصف اليهود بها ونسبت إليهم بصراحة في سلسلة آيات سورة البقرة مثل الآيات [41- 42 و 76- 77 و 89- 90] والتنديد الذي ندد بهم قد ندد بهم بنفس الصيغة في آيات البقرة المذكورة حيث يسوغ القول بشيء من الجزم إن جميع الآيات في حق اليهود وإن مناسبة نزولها هي الرواية التي تذكر تآمر بعض أحبارهم على تشكيك المسلمين. وفحوى الآيات وروحها متسقان مع هذه الرواية دون غيرها من الروايات. ومن شرح الآيات يبدو ما في الأسلوب الذي عمدوا إليه من كيد شديد. ولهذا استحقوا التقريع اللاذع الذي وجهته إليهم وفضحت به مؤامراتهم الآثمة. وتلهم الآيات إلى هذا أن اليهود كانوا مغترين بما لهم من مركز وتأثير في العرب وأنهم لم يكونوا في حقيقة أمرهم يجهلون قوة دعوة النبي وصدقها وصحتها. وأن

_ (1) انظر تفسير الطبري. (2) انظر الطبري والخازن وابن كثير والطبرسي والبغوي. (3) انظر تفسير الطبرسي.

ما كانوا يحاولونه ويبيتونه كان منهم بغيا وعدوانا وحسدا وغيظا. وهو ما حكته عنهم آيات سلسلة البقرة أيضا وهذا ملموح بنوع خاص في الآية [73] . والفقرة الأخيرة من هذه الآية جديرة بالتنويه بصورة خاصة. فاليهود كانوا يتبجحون بأن فضل الله ونبواته محصورة فيهم. وكانوا يتواصون بعدم الإفضاء بما يعرفون من أسرار دينية حتى لا يحاججهم المسلمون أو يعرفوا ما يعرفونه. فردت عليهم الآية منددة من جهة. وانطوى فيها تثبيت للمسلمين من جهة أخرى. كأنما أريد أن يقال لهم ليس من حرج على فضل الله. فهو يختص به من يشاء. وقد اختصهم بنبوة نبي منهم وبكتاب أنزله بلغتهم. وهذا الموقف مما كان يتكرر من اليهود على ما يستفاد من آيات سلسلة البقرة التي مرّ تفسيرها ومن الآيات الأولى من سورة الجمعة على ما سوف يمرّ شرحها أيضا. والسياق يفيد بصراحة تامة أن جملة وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ هي حكاية لتواصي اليهود لبعضهم وشعار من شعاراتهم وليست تقريرا ربانيا مباشرا موجها فيه الخطاب إلى المسلمين كما يتوهمه بعضهم فيجعلونه شعارا لهم. والشعار أو الجملة تمثل شدة تعصب اليهود إزاء غيرهم وعدم تبادلهم الاعتماد والثقة مع الغير وحذرهم الدائم منه. وقد صار هذا شعارا يهوديا عاما وجبلّة من جبلّتهم التي جعلت كل الناس في كل ظرف ومكان يزوروّن منهم ويقفون منهم نفس الموقف. أما المسلمون فشعارهم تجاه غيرهم يتمثل أولا في الضابطين المنطويين في آيتي سورة الممتحنة [8 و 9] اللتين أوردناهما في سياق شرح الآيات [27 و 28] من هذه السورة وهو البرّ والإقساط وحسن التعامل والتعايش مع المسالمين الموادّين لهم وعدم تولّي الظالمين المعتدين عليهم. ثم في الآيات الكثيرة المكية والمدنية التي تقرر وجوب التزام الحقّ والعدل والقسط والتعامل بذلك وأداء الأمانات إلى أهلها والوفاء بالعدل وعدم الخيانة والغدر مطلقا في كل وقت وظرف

[سورة آل عمران (3) : الآيات 75 إلى 77]

وحالة وتجاه كل أحد وبقطع النظر عن أي اعتبار وعدم مبادرة أحد بالعدوان والاكتفاء بمقابلة العدوان بمثله وفي نطاق الضرورة على ما مرّ شرحه في السور التي سبق تفسيرها وعلى ما سوف يأتي شرحه في سور يأتي تفسيرها بعد. هذا، وأسلوب الآيات ومضمونها يحتملان أن تكون متصلة بسابقاتها اتصال سياق وموضوع معا كما يحتملان أن يكون اتصالها اتصال موضوع وزمن نزول معا، وليس من سبيل إلى ترجيح أحد الاحتمالين. والله أعلم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 75 الى 77] وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77) . (1) الأميين: هنا بمعنى الأمم الأخرى كما تلهمه روح الآيات وهي نسبة إلى الأمة. وفي هذه الآيات: 1- إشارة إلى أن أهل الكتاب فئتان: واحدة تؤدي الأمانة مهما عظمت ولو كانت قنطارا، وأخرى لا تؤديها مهما قلّت ولو كانت دينارا إلّا إذا ظلّ صاحبها جادا في مطلبه وحقه. 2- وحكاية لقول الفئة الثانية وهو أن الله لا يؤاخذها في أي شيء تجاه أحد من غيرها من الأمم. 3- ورد تعنيفي على هذا القول فهو كذب على الله وإن القائلين ليعلمون ذلك أيضا.

تعليق على الآية ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك ... إلخ والآيتين التاليتين لها

4- واستدراك مستأنف بأن كل أمر موضع محاسبة الله في أي موقف وحال دون ما استثناء فالذي يوفي بعهده ويتقي الله فإنه يستحق رضاءه لأن الله يحب المتقين. أما الذين يبيعون عهد الله وأيمانهم بالثمن البخس والمنفعة الخسيسة فهم غير مستحقين من الله إلّا الغضب والسخط وليس لهم في الآخرة أي نصيب من رضائه فلا يكلمهم ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم فيها ولهم العذاب الأليم. تعليق على الآية وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ... إلخ والآيتين التاليتين لها لقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون في مناسبة هذه الآيات. من ذلك رواية يرويها البخاري والترمذي أيضا عن الأشعث بن قيس قال: «إن آية إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ إلخ ... نزلت فيّ. كانت لي بئر في أرض ابن عمّ لي. فأنكرها عليّ فقال النبي بيّنتك أو يمينه فقلت إذن يحلف يا رسول الله فقال النبي من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم وهو منها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان. وأنزل الله الآية» «1» . ومن ذلك رواية يرويها البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى قال: «إن رجلا أقام سلعة في السوق فحلف لقد أعطي فيها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلا من المسلمين فنزلت الآية إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ ... إلخ» «2» . ومن ذلك روايات لم ترد في الصحاح منها أن الآيات نزلت في عبد الله بن سلام الذي ائتمنه رجل على ألف ومائتي أوقية ذهبا فأداها وفي فنحاص بن عذار الذي ائتمنه رجل على دينار فخانه فيه. ومن ذلك أنه كان لجماعة من العرب ذمم على اليهود فلما أسلم العرب أنكر

_ (1) التاج، ج 4 ص 70. (2) المصدر نفسه.

اليهود ما لهم من ذمم قبلهم وحلفوا على ذلك كذبا فأنزل الله الآيات. ومن ذلك رواية تذكر أنه كان لمسلم حقّ على يهودي فأنكره فكلف النبي المسلم بالبينة فلم يستطع فكلف اليهودي باليمين فقال المسلم يحلف ويذهب مالي فأنزل الله الآية الثالثة. ومن ذلك أن هذه الآية نزلت في بعض أحبار اليهود الذين استشهدهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما عندهم من دلائل نبوّته فأنكروا وحلفوا أنه ليس عندهم من ذلك شيء. ويلحظ أولا أن الحديثين يذكران أن الآية الثالثة نزلت في مناسبتين مختلفتين. وثانيا أن عبد الله بن سلام كان قد أسلم واندمج في الإسلام ولم يعد متصفا بصفة كونه من أهل الكتاب. وثالثا أن الحديثين مع الروايات تقتضي أن تكون الآية الثالثة نزلت منفصلة عن الآيتين الأوليين في حين أن المتبادر الذي تلهمه روح الآيات الثلاث ونظنها أنها وحدة تامة وأنها متصلة بسابقاتها ومعقبة عليها. فالآيات السابقة التي ذكرت تواصي اليهود على خداع المسلمين وتضليلهم وعدم اطلاعهم على ما عندهم واحتوت أحد شعاراتهم بعدم الائتمان لغيرهم فجاءت هذه الآيات تذكر شعارا أو صفة أخرى من شعاراتهم وصفاتهم متصلة بالصفات والشعارات المذكورة في الآيات السابقة، وهي جحود الحق والأمانات وحلفهم بالله باطلا في سبيل أعراض الدنيا واستحلالهم أموال الغير واستهانتهم بما يكون للغير قبلهم من حقوق وأمانات وعدم التزامهم بها. وهذا البيان لا يمنع أن يكون وقع بعض وقائع جحد فيها بعض اليهود أمانات وذمما عندهم للمسلمين وحلفوا كذبا فكان ذلك مناسبة ملائمة للتذكير بأخلاقهم وتكرار الحملة عليهم والتنديد بهم في سياق موقفهم من النبي والمسلمين وحكاية تآمرهم على تشكيك المسلمين وتضليلهم وكتم ما عندهم من دلائل على صدق نبوّة النبي وصحة الوحي القرآني. وقد تكون الرواية التي ذكرت حلف بعض أحبار اليهود على عدم وجود شيء من الدلائل عندهم على صحة نبوة النبي والوحي القرآني صحيحة فكانت من المناسبات لنزول الآيات أيضا.

ويتبادر لنا في صدد الحديثين الصحيحين أن ما ذكر فيهما من أحداث قد وقعت بعد نزول الآيات وأن الآية الثالثة تليت للاستشهاد بها فالتبس الأمر على الرواة والله تعالى أعلم. ولقد قال الخازن بلفظ (قيل) إن المقصود من الفئة الأولى هم النصارى ومن الفئة الثانية هم اليهود. وهو قول وجيه تطمئن به النفس وتكون الآيات بذلك قد احتوت وهي مستمرة على التنديد باليهود مقايسة بينهم وبين النصارى لتقوية التنديد. على أن هذا إذا لم يصح وكانت الفئتان من اليهود فإن أسلوب بقية الآية الأولى ومضمونها يلهمان أن الفئة الأولى هي الأقلية والأخرى هي الأكثرية من اليهود. ويظل التنديد بذلك قويا وشاملا لأكثرية اليهود كما هو المتبادر. ولقد احتوت الآية تكذيبا لقول اليهود إنه لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ أي إن شريعتنا لا ترتب علينا أي ذنب ومسؤولية مهما فعلنا مع الأمم الأخرى بما في ذلك خيانتهم وأكل أموالهم، وتقريرا بأنهم يعلمون أنهم كاذبون. ولقد احتوت أسفارهم وصايا عديدة بالغريب الساكن بينهم وعدم ظلمه ومضايقته وهضم أمواله وحقوقه بل وفيها وصية بمساعدة أعدائهم ومعاونتهم في المواقف التي يكونون فيها في حاجة إلى ذلك «1» وبذلك استحكمتهم حجة القرآن ودمغهم بتكذيبهم في هذه المسألة. ومع خصوصية الآيات فإن فيها تلقينات جليلة متسقة مع المبادئ القرآنية العامة ومستمرة المدى سواء أفي الحث على الأمانة والتنويه بالأمناء أم في التنديد

_ (1) انظر الإصحاحات (22 و 23) من سفر الخروج و (19) من سفر الأحبار و (10 و 24) من سفر تثنية الاشتراع. وهذا ما يجعلنا نعتقد أن ما جاء في بعض أسفارهم من نسبة تحريضهم على سكان أرض كنعان وإبادتهم أو استعبادهم والاستيلاء على ديارهم وأموالهم بدون سابق عداء إلى الله هو تحريف متأخر من اليهود لتبرير ما اقترفوه من جرائم وحشية عظمى تنزه الله عن أن يكون قد أمر بها. اقرأ كتابنا تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم وبخاصة فصل خروج بني إسرائيل من مصر وحلولهم في شرق الأردن وفلسطين ص 41- 81.

بالخائنين أم في تقريع الذين يبيعون عهد الله ويحلفون الأيمان الكاذبة في سبيل خسيس المنافع وأعراض الدنيا. ولقد أورد المفسرون في سياق تفسير الآيات أحاديث نبوية عديدة في صدد ذلك: منها حديث أخرجه الإمام أحمد ورواه مسلم وأهل السنن جاء فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة لا يكلّمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم. فقال أبو ذرّ راوي الحديث: من هم خسروا وخابوا. قال: المسبل والمنّان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب» «1» . ومنها حديث أخرجه الإمام أحمد أيضا جاء فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين هو فيها فاجر يقتطع مال امرئ مسلم لقي الله عزّ وجلّ وهو عليه غضبان» «2» . ومنها حديث جاء فيه: «ثلاثة لا يكلّمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم: رجل حلف على سلعة لقد أعطى بها أكثر مما أعطى وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال امرئ مسلم، ورجل منع فضل ماله وفي رواية فضل مائه عن ابن السبيل» «3» . ومنها حديث جاء فيه: «لمّا قال اليهود ليس علينا في الأميين سبيل قال رسول الله كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلّا هو تحت قدمي إلّا الأمانة فإنّها مؤادة إلى البرّ والفاجر» «4» . حيث يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الشأن كما يتساوق مع كل الشؤون. وننبه في هذه المناسبة على أن الحثّ على مراعاة الأمانات والتنويه بمن يفعل ذلك قد تكرر في القرآن والحديث. وكان موضوعا لتعليق لنا في سياق شرح الآيات الأولى من سورة (المؤمنون) .

_ (1) انظر تفسير ابن كثير والخازن. وقد فسروا كلمة المسبل بالذي يسبل إزاره بإفراط. والحديث الأول رواه الخمسة إلّا البخاري عن أبي هريرة بهذا النص: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، المنّان الذي لا يفعل شيئا إلّا المنّ والمنفق سلعته بالحلف الكاذب. والمسبل إزاره) . والحديث الثاني رواه الخمسة بنصه. (انظر التاج ج 3 ص 68 و 69) . (2) المصدر نفسه. (3) انظر تفسير ابن كثير والخازن. (4) انظر تفسير الطبري والحديث من تخريج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 78 إلى 80]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 78 الى 80] وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) . (1) يلوون ألسنتهم بالكتاب: الجمهور على أن الجملة كناية عن تحريف لكتاب الله كتابة أو تلاوة أو تأويلا. (2) ربانيين: جمع رباني: قيل إنها نسبة إلى الربّ. بمعنى المتفرّغ للربّ وعلوم الربّ وعبادة الربّ. وقيل إنها بمعنى العالم الحكيم. وقيل إنها بمعنى الذي يربي الناس ويقودهم ويصلحهم، وقد يكون المعنى الأخير هو الأكثر ورودا في مقام الآية ومداها. في هذه الآيات: 1- إشارة تنديدية إلى فريق من أهل الكتاب يلوون ألسنتهم بأقوال يزعمون أنها من كتاب الله أو يحرفون كتاب الله كتابة أو تلاوة أو تأويلا ليوهموا المسلمين أن ذلك من كتاب الله وليس هو من كتابه ويفترون على الله وهم يعلمون أنهم كاذبون. 2- وتقرير بأنه لا يمكن أن يقول شخص مخلص أتاه الله الكتاب والحكمة والنبوة للناس اعبدوني بدلا من الله تعالى أو اتخذوا الملائكة والنبيين أربابا بدلا من الله لأنه بذلك يكون قد أمرهم بالكفر بعد أن يكون دعاهم إلى الإسلام فأسلموا. وكل ما يمكن أن يقوله للناس كونوا ربّانيين أي مخلصين لله وعبادته. هداة إليه بما تقرءون وتعلمون وتتدارسون من كتبه. الجزء السابع من تفسير الحديث 12

تعليق على الآية وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب ... إلخ والآيتين التاليتين لها

تعليق على الآية وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ ... إلخ والآيتين التاليتين لها وقد روى المفسرون «1» في مناسبة الآيات روايات عديدة. منها أن بعض وفد نجران سأل النبي عما إذا كان يريد أن يعبدوه. ومنها أن هذا السؤال كان من بعض وفد نجران ومن بعض يهود المدينة. ومنها أن بعض المسلمين سألوا النبي عما إذا كان يحسن أن يسجدوا له زيادة في تكريمه. ومنها أن المقصد من البشر الذي تنفي عنه الآيتان الثانية والثالثة أمر الناس بأن يكونوا عبادا له أو بأن يتخذوا الملائكة والنبيين أربابا هو عيسى ومنها أنه هو محمد صلوات الله عليهما. ومنها أنها ردّ على تأويل أهل الكتاب بعض عبارات كتبهم تأويلا يخرجها عن مداها ويجعلها تبرر اعتبار المسيح والعزير أبناء الله أو آلهة وتعظيم الملائكة تعظيما يسبغ عليهم ما ليس لهم من النفع والضرّ المباشرين «2» . وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. والمفسرون يقولون إن الفريق المذكور في الآية الأولى هم اليهود. وهذا صحيح. وقد حكت الآيات [78- 79] من سلسلة آيات سورة البقرة عن اليهود ما حكته هذه الآية. والذي يتبادر لنا أن الآيات متصلة بسابقاتها. ولقد نددت هذه السابقات ببعض صفات اليهود فجاءت الآية الأولى تندد بصفات أخرى من صفاتهم وهي تحريف كتب الله ونسبة المحرّف إلى الله كذبا وإلقاؤه بأسلوب من ليّ اللسان ليوهموا المسلمين بأنه من كتاب الله. ويظهر أن من التحريف الذي حرفوه ما فيه تحميل لكلام بعض الأنبياء معنى لا يحتمله وأن في هذا المعنى تبريرا لعقيدة شركية أو لعقيدة تأثير الأنبياء والملائكة تأثيرا يجعلهم بمثابة شركاء لله

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي والخازن وابن كثير. (2) المصدر نفسه.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 81 إلى 82]

ويبرر تعظيمهم على هذا الأساس فاحتوت الآيتان الثانية والثالثة ردّا عليهم تبرئة للأنبياء من مثل ذلك، وتقريرا لما يمكن أن يصدر عنهم من قول أو أمر أو دعوة. وهذا الشرح لا يمنع أن يكون الرد قد احتوى تزييف عقيدة اليهود ببنوة العزير لله وعقيدة النصارى ببنوة المسيح أو ألوهيته وعقيدة تأثير الملائكة واتخاذهم أربابا مع ذلك بسبب ذلك والتماس جلب النفع ودفع الضرر عنهم. ونفي ارتكاز أي شيء من هذا إلى أساس صحيح من الكتب السماوية أو إلى عقل ومنطق، وعدم اتساقه مع إخلاص الأنبياء والملائكة لله تعالى واعتبارهم أنفسهم عبيدا له. وقد يتوافق هذا مع الرواية الأخيرة وإن كان ذلك يقتضي أن تكون الآيات الثلاث وحدة منفصلة عن سابقاتها. على أن من المحتمل أن تكون الآيتان الثانية والثالثة قد جاءتا بمثابة الاستطراد إلى ذكر بعض آثار التحريف الذي حرّفه أهل الكتاب لكتب الله نصا أو تأويلا. وأسلوب الآيات قوي ومفحم وحاسم. سواء أفي تقريره تحريف اليهود لكتب الله تلاوة وكتابة وتأويلا أم في نفي ارتكاز أي شيء من أقوالهم ودعاويهم وعقائدهم التي فيها انحراف عن عبادة الله وحده وإشراك أحد ما في ذلك بأي شكل من ملك أو نبي على أي أساس صحيح من كتب الله وتقرير كون ذلك من تحريفهم وسوء تأويلهم. وفيها في الوقت نفسه صورة من صور واقع اليهود من ذلك في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره وحياته. [سورة آل عمران (3) : الآيات 81 الى 82] وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82) . (1) إصري: أصل الكلمة العهد الملزم لصاحبه.

تعليق على الآية وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ... إلخ والآية التالية لها

في الآية الأولى تقرير تذكيري بأن الله قد أخذ ميثاقا من الأنبياء بما آتاهم من كتاب وحكمة على أن يؤمنوا بالرسول الذي يجيء من بعدهم مؤيدا لما معهم من الكتاب وأن ينصروه وأنهم قد أشهدوا على أنفسهم بتنفيذ عهده ووصيته. وفي الآية الثانية إنذار لمن يخالف هذا العهد والوصية وتنديد به. فإنه لا يفعل ذلك إلّا فاسق غادر متمرّد على الله. والمتبادر أن جملة وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ أسلوبية لتوكيد العهد الذي أخذه على النبيين والذي اعترفوا به وأقروه. والله أعلم. تعليق على الآية وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ... إلخ والآية التالية لها ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة هاتين الآيتين. ويتبادر لنا أنهما متصلتان بسابقاتهما اتصالا استطراديا. فقد بينت هذه السابقات ما يمكن أن يصدر من أنبياء الله مما يتسق مع إخلاصهم لله فجاءت الآيتان تستطردان إلى ذكر العهد الذي أخذه الله عليهم بتصديق السابق منهم اللاحق حينما يراه متطابقا مع ما جاءوا به ونصره. والمتبادر أن العهد المأخوذ يتضمن بأن يأمر السابق منهم أمته بتصديق ونصر من يأتي بعده من الأنبياء ما داموا مصدقين لما جاءوا به متطابقين معهم في الأسس والأهداف. وبهذا الشرح المتسق مع روح الآيتين ومضمونهما تكون الآيتان قد انطوتا على معنى تدعيمي لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى حجة ملزمة لأهل الكتاب على صدقها ووجوب تصديقها. ولقد قال المفسرون- فيما قالوه عزوا إلى علماء التابعين- إن العهد المأخوذ هو في صدد رسالة النبي محمد خاصة. ومع أن ذلك داخل في عهد تصديق كل نبي وأمته المؤمنة به بتصديق ونصر كل نبي يأتي من بعده فإن لهذا القول وجاهة في مقامه بالنسبة للموقف الجدلي القائم بين النبي صلى الله عليه وسلم وأهل الكتاب.

وأسلوب الفقرة الأولى من الآية الأولى قد يلهم أن العهد الذي أخذه الله على الأنبياء هو عهد مستمد من طبيعة رسالتهم التي هي مستمرة لجميع الأجيال في كل مكان حيث اقتضت حكمة الله أن يتوالى أنبياؤه برسالاته وتعليماته وتشريعاته للناس إلى أن وصل العهد إلى محمد الذي اصطفاه ليكون خاتم النبيين ورشح رسالته لتكون دين الإنسانية جمعاء في كل زمن ومكان وضمنها من الأسس والمبادئ والتلقينات والمرونة والحلول ما يتسق مع هذا وذاك. وقد يتمحل اليهود والنصارى فيقولون إن التوراة والإنجيل لا يحتويان إشارة إلى هذا العهد. وردا عليهم نقول إن ما في أيديهم ليس توراة موسى ولا إنجيل عيسى كتابي الله المنزلين عليهما. وإنما هي أسفار وأناجيل كتبوها بعد موسى وعيسى عليهما السلام على ما شرحناه في سياق كلمتي (التوراة والإنجيل) في سورة الأعراف. وفي آية الأعراف [157] صراحة أنهم يجدون صفة النبي فيهما على ما مرّ شرحه في تفسير هذه الآية. وفي سورة الصف هذه الآية: وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [6] وآيات القرآن كانت تتلى على ملأ من اليهود والنصارى ولا يمكن أن يكون ذلك جزافا. ولقد آمن فريق من النصارى واليهود الذين استطاعوا أن يتغلبوا على مآربهم وأهوائهم برسالة النبي والقرآن وقرروا أنه متطابق لما عرفوه من الحق ولما وعدهم الله به على ما ذكرته آيات عديدة أوردناها في سياق آية الأعراف. ولا بد من أنهم رأوا التطابق بين ما جاء في القرآن والرسالة المحمدية وبين ما كان في أيديهم من توراة وإنجيل صحيحين لم يصلا إلينا. ويكون كل من لم يؤمن برسالة النبي قد تحققت فيه صفة الفاسقين التي قررتها الآية الثانية. ومن الجدير بالتنبه أن الأحاديث النبوية التي تذكر مجيء عيسى عليه السلام في آخر الزمان والتي أوردناها في تفسير سورة غافر وعلقنا عليها قد ذكرت أن عيسى سيكون آنئذ على دين الإسلام فلم يعد للنصارى ما يحتجون به فيها. ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا أخرجه الحافظ أبو يعلى عن جابر قال: «قال

[سورة آل عمران (3) : الآيات 83 إلى 85]

رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلّوا. وإنكم إمّا أن تصدقوا بباطل وإما أن تكذّبوا بحق. وإنه والله لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حلّ له إلّا أن يتبعني وفي رواية لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلّا اتباعي» . والحديث وإن لم يرد في كتب الصحاح فإنه متطابق مع تلقين الآيات مما يجعله محتمل الصحة. ومع كل ذلك ففي الأسفار والأناجيل المتداولة اليوم دلائل عديدة تشير إلى رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم على ما ألمحنا إليه في سياق تفسير آية سورة الأعراف. ووجهة نظر الإسلام في صدد اليهود والنصارى بعد البعثة المحمدية وعدم نجاة أحد منهم عند الله إذا لم يؤمن برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم مشروحة شرحا وافيا أيضا في سياق تفسيرنا للآية [62] من سورة البقرة والآية [55] من سورة آل عمران فليرجع إليه. هذا، ويتبادر لنا أن في الآيات تلقينا مستمر المدى بحيث يكون كل من أمر بما يخالف كتاب الله وسنّة رسوله الثابتة من أعمال وعقائد ومواقف داخلا في ما تضمنته من وصف وذمّ وإنذار. ويصدق هذا في الدرجة الأولى على من ينتسب إلى العلم الديني ولقد ذكر ابن كثير شيئا من هذا تعقيبا على الآيات. والله تعالى أعلم. ولا يترك مفسرو الشيعة هذه الآيات حيث يقولون إن الله يؤذن فيها بأنه أخذ على النبيين العهد بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ونصرة علي عليه السلام رغم ما في هذا القول من مفارقة عجيبة «1» . [سورة آل عمران (3) : الآيات 83 الى 85] أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) .

_ (1) انظر التفسير والمفسرون للذهبي ج 2 ص 70.

تعليق على الآية أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض ... إلخ والآيتين التاليتين لها

عبارة الآيات واضحة وفيها استنكار لمن يبتغي غير دين الله وكل من في السموات والأرض مسلم له. وأمر للنبي بإعلان إيمانه بالله وأنبيائه وجميع ما أنزل عليهم دون تفريق. وإسلامه مع اتباعه لله. وتقرير الخسران لكل من يبتغي دينا غير الإسلام في الآخرة وعدم قبول الله دينا غيره. تعليق على الآية أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... إلخ والآيتين التاليتين لها وقد روى المفسرون «1» أن الآيات نزلت في مناسبة اختصام أهل الكتاب إلى رسول الله بشأن دين إبراهيم وزعم كل فريق منهم أنه عليه فقال النبي إن كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم فغضبوا وقالوا والله ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك. والرواية عجيبة بعد ما ورد في آيات سابقة من هذه السورة ما ورد من مواقف الحجاج والجحود بين أهل الكتاب والنبي وبخاصة في صدد ملّة إبراهيم. وليست واردة في الصحاح بل ولم يروها الطبري شيخ المفسرين وأقدمهم. والذي يتبادر لنا أن الآيات متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا ومنسجمة معها ومعقبة عليها تأييدا وتوكيدا. فبعد أن ذكرت الآيات السابقة صفات أهل الكتاب وتحريفاتهم لكتاب الله وتأويلاتهم السيئة وعدم وفائهم بالعهد الذي أخذه الله عليهم جاءت هذه الآيات تندد بهم وتأمر النبي بإعلان عقيدته في جميع أنبياء الله وكتبه وإسلامه له وتقرر بأن هذا هو دين الله الحق الذي لا يقبل الله غيره ويكون متبع غيره خاسرا.

_ (1) انظر تفسيرها في الخازن والطبرسي. [.....]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 86 إلى 91]

والإعلان والتقرير اللذان احتوتهما الآيات قويان رائعان ونافذان إلى الأعماق بحيث لا يمكن إلا أن يتأثر بهما من كان ذا عقل سليم وقلب طاهر ونية حسنة ورغبة صادقة في الحق والهدى لا يجمد أمامهما ويكابر إلّا مريض القلب خبيث الطوية. والآيات تلهم أن موقف النبي هو موقف المستعلي الفائز الذي هزم خصمه بعد أن ألزمه الحجة. والآية الثانية قد ورد مثلها في سورة البقرة في سياق الحجاج مع اليهود. وذلك في الآية [136] بفروق يسيرة. قد لا يتبين للمرء حكمتها فيجب إيكالها إلى علم الله. ويلحظ أن آية البقرة بدأت بكلمة قُولُوا خطابا للمسلمين وآية آل عمران بدأت بكلمة قُلْ خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم كما هو المتبادر. ولعل في هذا شيئا من تلك الحكمة والله تعالى أعلم. وقد شرحنا مداها في سورة البقرة فلا نرى ضرورة للإعادة والزيادة. ولقد تعددت التأويلات التي يرويها ويقولها المفسرون لجملة وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً منها أن المسلمين يكونون قد أسلموا طوعا وأن الكافرين سيعرفون الحقيقة حينما يرون مصداق نذر الله فيسلمون كرها ولا يكون إسلامهم نافعا لهم. ومنها أنها بمعنى أن جميع من في السموات والأرض خاضع له مسخر لأمره داخل في نطاق قدرته وحكمه النافذ دون أن يتوقف ذلك على رضائهم وكرههم. والمتبادر أن العبارة أسلوبية. وقد يكون القول الثاني هو الأكثر وجاهة. وشيء من نوعها ورد في بعض آيات مكية «1» ، والله تعالى أعلم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 86 الى 91] كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91) .

_ (1) آيات سورة الرعد [15] والإسراء [44] وفصلت [11] .

تعليق على الآية كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق ... إلخ والآيات التالية لها إلى آخر الآية [91]

(1) ولو: قيل إن الواو زائدة أو مقحمة ونحن نجلّ كتاب الله عن ذلك. وقيل إنها واو عطف. وإن المعطوف محذوف وتقديره (ومثله) وهذا هو الأوجه. وفي الآية [47] من سورة غافر آية مثلها وفيها هذا المقدار بلفظه. عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تنديدا بالذين كفروا بعد أن آمنوا بالنبي ورأوا الدلائل على ذلك وشهدوا بصدق ما جاء به. وتقريرا بظلمهم وعدم إمكان حصولهم على توفيق الله وهداه واستحقاقهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين وخلودهم في جهنم إلّا من تاب منهم وسار في طريق الصلاح. وتقريرا بأن الله لن يقبل توبة من كفر بعد إيمانه ثم ازداد كفرا ولن يقبل من الذين كفروا وماتوا على كفرهم فدية ولو كانت ملء الأرض ذهبا. فهؤلاء وأولئك لهم العذاب الأليم. ولن يكون لهم ناصر من الله. تعليق على الآية كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ ... إلخ والآيات التالية لها إلى آخر الآية [91] لقد روى المفسرون روايات عديدة في نزول هذه الآيات. منها أن جماعة من المسلمين منهم الحرث بن سويد ارتدوا ولحقوا بالمشركين فأنزل الله فيهم الآيات الثلاث الأولى ثم ندم الحرث فتاب وعاد إلى الإسلام فأنزل الله الرابعة وبقي رفاقه مصرين على الكفر فأنزل الله فيهم الآيتين الخامسة والسادسة. ومنها أن

الآيات الثلاث نزلت في رجل آمن ثم تنصّر ولحق بالشام. وأنه تاب وعاد فأنزل الله الرابعة. ومنها أنها نزلت في أهل الكتاب الذين رأوا نعت النبي في كتبهم وعرفوا أن رسالته حق فلما بعث كفروا به. ومنها أن المعني بهذا هم اليهود بخاصة. وهم الذين ذكر خبر موقفهم في الآية [89] من سورة البقرة، ومنها أن جملة ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً عنت اليهود الذين كفروا بعيسى ثم بمحمد عليهما السلام. وليس من شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح إلّا خبر ارتداد الحرث ثم إسلامه حيث أورد ابن كثير الخبر برواية النسائي والحاكم وابن حبان عن ابن عباس. وفحوى الآيات ينطبق على هذه الرواية ورفاقه على الوجه الذي أوردناه في إحدى الروايات أكثر من انطباقها على الروايات التي تذكر أهل الكتاب أو اليهود بالصيغة المروية. لأن الآيات تعني أناسا آمنوا ثم كفروا ومنهم من تاب ومنهم من أصرّ على كفره. غير أن رواية الحرث ورفاقه تقتضي أن تكون الآيات منفصلة ومستقلة عن السياق وأن تكون نزلت مجزأة في حين أنها تبدو وحدة منسجمة أولا وأن الآيات السابقة واللاحقة لها في حقّ اليهود ثانيا حيث يتبادر أكثر أن تكون الآيات جزاءا من السياق وفي حق اليهود بخاصة وأن الإشارة إلى إيمانهم ثم كفرهم قصدت ما ذكرته الآية [72] من هذه السورة التي حكت تواصي اليهود بالإيمان بصحة نبوة النبي وما أنزل عليه وجه النهار والكفر آخره حتى يشككوا المسلمين في دينهم. فاليهود على ما تلهمه الآيات في ضوء هذا الشرح نفذوا مؤامرتهم فتظاهروا بالإيمان ثم أظهروا الشك وتراجعوا فاستحقوا الحملة العنيفة في الآيات الثلاث مع فتح باب التوبة في الآية الرابعة وإنذار من لا يغتنم الفرصة ويظل مصرا على كفره والإنذار الشديد الذي تضمنته الآيتان الخامسة والسادسة. ومثل هذا تكرر في القرآن. ولا نريد بهذا أن ننفي رواية حادثة الحرث ورفاقه. وقد جاءت الآيات مطابقة لصورة هذه الحادثة فالتبس الأمر على الرواة وظنوا أنها فيهم. ولا نستبعد أن يكون اليهود استطاعوا بمكرهم ومؤامراتهم أن يؤثروا كما توقعوا على بعض المسلمين فارتدوا ثم ندم منهم فريق فتاب وبقي فريق على كفره وارتداده.

وفي هذا صور متنوعة من السيرة النبوية في مكائد اليهود وحالات مرضى القلوب ومجاهدة النبي صلى الله عليه وسلم بين ذلك كله. والشدة في الإنذار والتقريع تلهم أن أثر الارتداد كان شديدا في نفس النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين سواء أكان من اليهود أم من العرب. ولعلّ هذا يفسر ما أثر من حديث نبوي صحيح في حلّ دم المرتد إذا لم يتب على ما شرحناه في سياق الآية [219] من سورة البقرة. ولقد تعددت تأويلات المفسرين لمفهوم الآية [90] الذي يمنع قبول توبة الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا. فقال بعضهم إنها تعني أن لا تقبل توبتهم ما داموا مشتدين في كفرهم. وقال بعضهم لا تقبل منهم أعمال خير وهم على كفرهم وهذا وذاك من تحصيل الحاصل. وقال بعضهم لا تقبل توبتهم حين الظفر بهم لأن توبتهم تكون غير صادقة. وقال بعضهم لا تقبل توبتهم إذا تابوا حين الموت «1» . وقد يكون في القولين الأخيرين الوجاهة والصواب. وفي سورة النساء آيات تؤيد القول الأخير خاصة حيث جاء فيها: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18) . ويتبادر لنا إلى ذلك أن أسلوب الآية والآية التي تليها هو أسلوب تعبيري في صدد شدة الإنذار تتناسب مع فظاعة العمل. والمتبادر أن تعبير فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ هو تعبير مستمد من شدة تقدير قيمة الذهب في أذهان السامعين بقصد التعبير عن

_ (1) انظر تفسير الآية في الطبري والخازن وابن كثير والطبرسي والبغوي.

[سورة آل عمران (3) : آية 92]

استحالة غفران الله للذين يموتون وهم كفار. وقد تكرر هذا التعبير أو ما يقاربه في سور مكية «1» . [سورة آل عمران (3) : آية 92] لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) . (1) البرّ: هنا بمعنى رضاء الله ورحمته على ما هو المتبادر. وقد جاءت في هذا المعنى في آية سورة البقرة [177] ولقد أوّلها بعضهم بالجنة ولكن المعنى الأول هو الأوجه. تعليق على الآية لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ (1) حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ... إلخ عبارة الآية واضحة، والخطاب فيها موجه على ما يتبادر إلى المسلمين، ولم نطلع على رواية خاصة بمناسبة نزولها. وتبدو الصلة منقطعة بينها وبين ما سبقها وما لحقها. ولقد رويت رواية في صدد الآية التالية لها تفيد أن إسرائيل نذر تحريم أحبّ المطعومات إليه تقرّبا إلى الله. وبين مفهوم هذا النذر ومفهوم الآية شيء من الاتصال كما هو المتبادر ولا ندري إذا كان هذا يسوغ القول- إذا صحت الرواية- أن هذه الآية تمهيد للمشهد الذي احتوته الآيات التالية لها وأنها متصلة بها. ومثل هذه التمهيدات من أساليب النظم القرآني مما مرّت منه أمثلة عديدة. بل نحن نرجح ذلك لأن الآية بدون هذا الغرض تبدو كما قلنا منقطعة عن السياق السابق واللاحق الذي هو في حق اليهود بدون حكمة مفهومة. والله تعالى أعلم.

_ (1) انظر آية سورة يونس [54] والزمر [47] .

والآية في حد ذاتها جملة تامة محكمة. ولذلك أفردناها لحدتها. وقد احتوت تعليما في آداب الصدقات موجها إلى السامعين الذين هم المسلمون أو الذين منهم المسلمون. وقد جاء هذا الأدب بأسلوب آخر في آية سورة البقرة [267] وهو وجوب التصدق من طيب ما في حيازة المتصدق وطيب كسبه وكراهيته التصدق بالرديء غير المحبب إلى صاحبه. وأسلوب الآية هنا قوي يجعل هذا الشرط واجبا. وهو أقوى من أسلوب آية البقرة وفيه توكيد للتلقين الجليل الذي نبهنا عليه في سياق تفسير سورة البقرة. ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن هذا الشرط يتناول الزكاة ونوافل الصدقات معا. وإطلاق الآية يلهم ذلك. وهذا متسق مع المبادئ القرآنية العامة التي تأمر بالإحسان في جميع الأعمال أيضا. وهناك أحاديث تذكر ما كان من تأثر بعض أصحاب رسول الله بهذه الآية. من ذلك حديث رواه البخاري والترمذي عن أنس قال: «كان أبو طلحة أكثر أنصاري المدينة نخلا. وكان أحبّ أمواله إليه (بيرحا) وكانت مستقبلة المسجد. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيّب. فلما نزلت الآية قال يا رسول الله إنّ الله يقول لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا ممّا تحبون. وإنّ أحبّ أموالي إليّ (بيرحا) وإنها لصدقة لله أرجو برّها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. فقال: بخ بخ ذلك مال رابح ذلك مال رابح وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين. قال أفعل يا رسول الله فقسمها في أقاربه وبني عمّه» «1» . ومن ذلك حديث رواه الخمسة عن ابن عمر قال: «أصاب عمر أرضا بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها فقال يا رسول الله إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قطّ هو أنفس عندي منه فما تأمرني به؟ قال: إن شئت حبّست أصلها وتصدّقت بها فتصدّق بها على أن لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا تورث ولا توهب. وتصدّق بها عمر في الفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف. وعلى أن لا

_ (1) التاج، ج 4 ص 71، والمتبادر أن أقاربه كانوا فقراء.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 93 إلى 95]

جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقا غير متموّل» «1» . ومنها حديث رواه ابن كثير في سياق الآية عن ابن عمر قال: «حضرتني هذه الآية فذكرت ما أعطاني الله فلم أجد شيئا أحبّ إليّ من جارية لي رومية. فقلت هي حرّة لوجه الله. فلو أنّي أعود في شيء جعلته لله لتزوجتها» . والفقهاء يعتبرون حديث ابن عمر عن أرض خيبر لعمر مستندا لإجازة الوقف في الإسلام. وظاهر أن ما يعنيه هو الوقف الخيري البحت. والاستناد في محله على هذا الوجه وفي العمل أسوة حسنة للقادرين من المسلمين. [سورة آل عمران (3) : الآيات 93 الى 95] كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) . (1) حلّا: مصدر بمعنى مباح أو حلال. (2) إسرائيل: جمهور المفسرين على أنه اسم ثان ليعقوب، وقد ورد في الإصحاح (32) من سفر التكوين أن الله سمّى يعقوب بإسرائيل وقال له لا يكون اسمك يعقوب فيما بعد بل إسرائيل. في هذه الآيات: 1- تقرير بأن كل المطعومات كانت مباحة لبني إسرائيل قبل نزول التوراة باستثناء ما حرّمه يعقوب على نفسه من نفسه. 2- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتحدّي اليهود بتلاوة نصوص التوراة إن كانوا صادقين في دعوى عكس ذلك.

_ (1) التاج، ج 2 ص 222- 223.

تعليق على الآية كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه ... إلخ والآيتين التاليتين لها

3- وتنديد بمن يفتري على الله الكذب بعد ظهور الحق ووصفه بالباغي الظالم. 4- وأمر آخر للنبي بإعلان صدق الله فيما يوحي به والدعوة إلى اتباع ملة إبراهيم الذي كان حنيفا مسلما ولم يكن مشركا. تعليق على الآية كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ ... إلخ والآيتين التاليتين لها ولقد روى المفسرون روايات عديدة «1» في مناسبة نزول هذه الآيات. منها أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أسئلة عديدة تختلف الروايات فيها ووعدوه باتباعه إذا أجابهم عليها بما يعرفون أنه الحق ومن ذلك أحبّ الطعام إلى جدهم إسرائيل فأجابهم على أسئلتهم أجوبة شهدوا أنها الحق إلّا جوابه على أحبّ الطعام لإسرائيل حيث قال لهم إنه لحوم الإبل أو لحومها وألبانها. أو عرق النسا منها وأنه حرمها على نفسه بنفسه وتقربا لله ووفاء بنذر نذره بأن يحرم على نفسه أحب الطعام إليه إذا شفاه من مرض ألمّ به، فشفاه فأنكروا ذلك وادعوا أن لحوم الإبل أو عرق النسا كانت محرمة في ملة إبراهيم فسار يعقوب على ذلك وحرمت على ذريته بالتبعية فنزلت الآيات تكذبهم وتتحداهم. ومنها أنهم احتجوا على تحليل النبي لحوم الإبل وهي محرمة في التوراة وادعوا أن ذلك التحريم سابقا للتوراة وأنه من ملة إبراهيم في حين أنه يزعم أنه على هذه الملة فنزلت الآيات تكذبهم وتتحداهم وتقرر أنه لم يكن شيء من الطعام محرما دينيا على بني إسرائيل قبل التوراة. وأن ما حرمه إسرائيل إنما حرمه بنفسه ودون أمر رباني سابق ولم ترد أيّة من الروايتين في الصحاح غير أن كلا منهما متسقة مع فحوى الآيات كما هو المتبادر «2» .

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي. (2) هناك حديث رواه الترمذي بسند حسن عن ابن عباس وأورده مؤلف التاج في فصل التفسير وفي سياق تفسير الآية الأولى جاء فيه: (أقبلت يهود إلى النبي فقالوا يا أبا القاسم أخبرنا عما حرم إسرائيل على نفسه؟ قال: اشتكى عرق النسا فلم يجد شيئا يلائمه إلّا لحوم الإبل وألبانها فلذلك حرمها) . التاج ج 4 ص 72. وليس في الحديث ما يؤيد الروايتين. وهو حديث يبدو حدثا مستقلا دون موقف جدلي.

والآيات تلهم والروايات تفيد أن هذا كان مشهدا جدليا بين النبي واليهود. وقد تحدّتهم الآيات بإثبات دعواهم من نصوص التوراة بأسلوب يلهم أنهم عجزوا أو راوغوا، وأن موقف النبي صلى الله عليه وسلم في المشهد كان موقف الملزم المستعلي حيث نسبت الآيات إليهم افتراء الكذب على الله في ما ادعوا ثم عقبت الآية الثالثة وبأسلوب المنتصر في الحجة مقررة صدق الله وداعية إلى اتباع ملة إبراهيم الحقيقية التي عليها النبي صلى الله عليه وسلم. ولقد ورد في الإصحاح (32) من سفر التكوين أن بني إسرائيل لا يأكلون عرق النسا الذي مع (حقّ الورك) في سياق خيالي مفاده أن الله تعالى وتنزّه تمثل ليعقوب رجلا فتصارع معه فلم يقدر الرجل على يعقوب حتى طلع الفجر فقال له أطلقني فقال يعقوب لا أطلقك حتى تباركني فباركه وقال له لا يكن اسمك يعقوب فيما بعد بل إسرائيل. ولمس الرجل حقّ ورك يعقوب فصار يظلع فصار بنو إسرائيل لا يأكلون عرق النسا لأن الله لمس حق ورك يعقوب على عرق النسا. وسفر التكوين كان مما يتداوله اليهود على ما شرحناه في تعليقنا على التوراة. في سورة الأعراف. ويمكن أن يكون اليهود استندوا إلى ما جاء في السفر وزعموا أن عرق النسا محرم عليهم في التوراة التي هي غير سفر التكوين فتحداهم بتلاوتها. ومع ذلك فعبارة سفر التكوين ليس فيها تحريم رباني حتى ولا تحريم يعقوب لعرق النسا فيكون احتجاجهم في غير محله أيضا وتكون الحجة القرآنية مستحكمة عليهم على كل حال. هذا، وهناك حديث في فصل التفسير من كتاب التاج وفي سياق الآيات رواه البخاري وأبو داود عن ابن عمر قال: «جاء اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة

[سورة آل عمران (3) : الآيات 96 إلى 97]

قد زينا فقال لهم كيف تفعلون في من زنى منكم؟ قال: نحممهما ونضربهما فقال لا تجدون في التوراة الرجم فقالوا لا. فقال لهم عبد الله بن سلام كذبتم فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين. فلما أتوا بها وضع مدراسها الذي يقرأ لهم كفّه على آية الرجم فطفق يقرأ ما دون يده وما وراءها ولا يقرأ آية الرجم فنزع يده عن مكانها وقال ما هذه قالوا هي آية الرجم فأمر النبيّ بهما فرجما قريبا من المسجد فرأيت صاحبها يحني عليها يقيها من الحجارة» . وظاهر من النص أن الجملة القرآنية فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها تليت في هذه المناسبة تلاوة. ولا يذكر الحديث أنها نزلت في الحادثة. وتظل الروايات السابقة هي الواردة على نحو ما شرحناه. [سورة آل عمران (3) : الآيات 96 الى 97] إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) . عبارة الآيتين واضحة. وفيها تنويه بفضل الكعبة وتقرير بأنها أول بيت قام لعبادة الله وهو مبارك وهدى للعالمين وفيه علامات واضحة تدل على مقام إبراهيم. ومن دخله كان آمنا. وقد فرض الله زيارته وحجّه على كل فرد من الناس استطاع إلى ذلك سبيلا تقرّبا لله وعبادة له. ومن يكفر بذلك فليس بضار الله الذي هو غني عن العالمين وعبادتهم. تعليق على الآية إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ ... إلخ والآية التالية لها وقد روى المفسرون أن الآيتين نزلتا في مناسبة محاجّة قامت بين النبي واليهود أو بين المسلمين واليهود، ادّعى اليهود فيها فضل معبدهم في بيت الجزء السابع من التفسير الحديث 13

المقدس وفضل استقباله دون الكعبة. وقالوا إن إبراهيم كان يعظم بيت المقدس ويتجه إليه في عبادته فتابعه أبناؤه وذريته وأن النبي لو كان حقا على ملته كما يقول لتابعه ولم يخالفه. ورووا في سبب نزول جملة وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) أن النبي لما نزلت آية الحج جمع أهل الأديان كلّها وقال يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا فآمن بذلك ملّة وهم المسلمون وكفرت الملل الأخرى والروايات لم ترد في الصحاح. والرواية الأخيرة تقتضي أن تكون الآية الثانية نزلت مجزّأة مع أن سبكها لا يفيد ذلك وهي منسجمة كل الانسجام. وباستثناء ذلك يتبادر لنا أن الرواية الأولى واردة. وقد احتوت الآيتان تكذيبا لليهود وتقريرا بنقل الكعبة وسبق قيامها لعبادة الله وصلتها بإبراهيم عليه السلام بدليل العلامات الظاهرة المعروفة بمقام إبراهيم عندها. وكون الله قد فرض حجها على من استطاع من الناس بناء على ذلك. أما جملة وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) فالمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضتها كإعلان مسبق لكفر مفروض بذلك من اليهود. ويتبادر لنا بالإضافة إلى ذلك أن الآيتين متصلتان بالمشهد الذي تضمنته الآيات السابقة وأن مسألة المفاضلة بين الكعبة وبيت المقدس قد أثيرت فيه. ولقد انتهت الآيات السابقة بإعلان صدق ما حرّره الله والدعوة إلى اتباع ملة إبراهيم فاحتوت الآيتان ما احتوتاه لتوكيد سير النبي صلى الله عليه وسلم على ملة إبراهيم دون اليهود. ولعل اليهود قالوا فيما قالوه إن الكعبة لم تذكر في التوراة ولو كان لإبراهيم صلة بها وكانت هي الأفضل لذكرت فأريد أن يقال لهم إن التوراة لا تذكر أشياء كثيرة مما كان قبل نزولها، وضرب لهم مثل بمحرمات الأطعمة التي ذكرتها التوراة مع أن كل طعام كان حلا لبني إسرائيل إلّا ما حرّم إسرائيل على نفسه قبل نزولها. وإن ذلك لم يذكر في التوراة. فراوغوا فتحدتهم الآيات بتلاوة التوراة وإثبات عكس ذلك. والله تعالى أعلم. ولقد قال بعضهم إن فرض الحج في الآية الثانية كان في السنة التاسعة «1»

_ (1) جاء هذا في مقال للشيخ محمد الشرقاوي المدرّس بمعهد الإسكندرية الأزهري في مجلة الوعي الإسلامي عدد ذو القعدة (1385) دون أن يذكر سندا.

وسياق الآيات وما روي في نزولها يؤيد أن ما ذكرناه في سياق تفسير فصل الحج في سورة البقرة من أن الحج قد فرض على المسلمين في وقت مبكر من العهد المدني. فالسياق يدل بصراحة على أن اليهود كانوا ذا وجود قوي في المدينة حينما نزلت الآيات. في حين أنهم لم يعد لهم وجود في السنة التاسعة. هذا فضلا عن الدليل الآخر المنطوي في جملة وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ في الآية [196] من سورة البقرة على ما شرحنا الأمر في سياقها. والله أعلم. ولقد ذكر مقام إبراهيم في آية البقرة [125] والتي احتوت أمرا باتخاذه مصلى والتي ذكر فيها أن الله قد جعل البيت مثابة وأمنا. وبين هذا وما جاء في الآيتين تشابه. ولقد خمّنا أن سلسلة آيات البقرة [104- 152] قد تضمنت فيما تضمنته مواقف حجاج وجدل في صدد الكعبة وبيت المقدس حينما تحول النبي في صلاته نحو الكعبة بدلا من سمت بيت المقدس. وقد علقنا على ذلك بما يغني عن التكرار إلا أن نقول إن الآيات التي نحن في صددها قد تدل على أن هذا الجدل قد ثار ثانية بين النبي واليهود فاقتضت حكمة التنزيل الوحي بها لوضع الأمر في نصابه الحق للمرة الثانية. ولقد قررت الآية [144] من سلسلة البقرة المذكورة أن اليهود يعرفون حقيقة أفضلية الكعبة والاتجاه إليها فجاءت الآيات لتؤكد ذلك بأسلوب مفحم وحاسم آخر. والله تعالى أعلم. ولقد تعددت الروايات والتأويلات التي يرويها المفسرون في صدد أولية البيت المذكور في الآية الأولى. وقد أوردنا هذه الروايات وأوردنا معها حديثا رواه الشيخان والنسائي عن أبي ذرّ في سياق تفسير سورة قريش التي ورد فيها كلمةْبَيْتِ لأول مرة، وعلقنا على ذلك بما يغني عن التكرار فنكتفي بهذا التنبيه فليرجع القارئ إلى ذلك التعليق. ولقد تعددت تخريجات المفسرين والمؤولين لكلمة (بكة) منها أنها اسم آخر

استطراد إلى شمول أمن البيت

لمكة وأن العرب يعاقبون بين الباء والميم ومن ذلك ضربة لازم وضربة لازب. ومنها البك يعني الازدحام وأن مكة سميت بكة وصفا لأنها تزدحم بالناس بالطواف والحج. ومنها أن بكة اسم للموضع الذي فيه البيت ومكة اسم لما عداه. ومنها أنها من التباكي لكثرة ما يكون فيها من ابتهال وبكاء. وليس شيء من ذلك في الصحاح. والمتبادر من روح الجملة أنها اسم آخر لمكة والله أعلم. ومع ما للآيات من خصوصية جدلية وزمنية فإن جملة وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا اتخذت سندا تشريعيا قرآنيا لفريضة الحج في الإسلام لأنها أقوى في هذا المعنى مما جاء في آيات الحج في سورتي البقرة والحج. ولا يخلو هذا من وجاهة ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات الحج في سورة البقرة ما روي في مدى الاستطاعة الواردة في الجملة من أحاديث نبوية وصحابية وتابعية في جملة ما أوردناه من ذلك في سائر تقاليد الحج ومناسكه وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار فنكتفي هنا بالتنبيه على ذلك. ومع أن جملة وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) هي على ما ذكرناه كإعلان مسبق باستغناء الله عن الذين يكفرون أو يمارون بما تقرره الآيات فإن بعض المؤولين قالوا إنها في صدد تقرير كفر المسلم الذي ينكر فرض الحج. وقد أورد الطبري حديثا عن أبي داود قال: «تلا رسول الله الآية فقام رجل من هذيل فقال يا رسول الله من تركه كفر؟ فقال: من تركه لا يخاف عقوبة ومن حجّ ولا يرجو ثوابه فهو كذلك» . والحديث لم يرد في الصحاح. ولكن هذا لا يمنع صحته. والمتبادر أن من يكون هذا موقفه من الحج فإنه يكون منكرا أو كالمنكر لفرضه. وعلى كل حال فكفر من ينكر فرض الحج ولا يعتقد أن في تركه عقوبة وفي القيام به أجرا بديهي بقطع النظر عن قصور الآية تقرير ذلك أو عدمه والله أعلم. استطراد إلى شمول أمن البيت مع أن جملة وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً في الآية الثانية تنطوي على تقرير ما كان

يمنحه البيت من أمن لمن دخله أو كان فيه بصورة عامة وكون ذلك متصلا بتقاليد ما قبل الإسلام فامتد إلى الإسلام على ما ذكرناه في تعليقنا في سورة قريش فإن هناك اختلافا بين المؤولين والفقهاء في صدد تطبيقه على من يرتكب جريمة في الإسلام تستوجب إقامة الحدّ الشرعي حيث قال بعضهم إن من لجأ إلى بيت الله وقد ارتكب مثل تلك الجريمة يكون آمنا. وروي عن ابن عباس وغيره رواية تفيد عدم تنفيذ القصاص عليه فيه وانتظاره إلى أن يخرج منه. وقد أخذ بهذا الإمامان أبو حنيفة وابن حنبل على ما ذكره المفسر القاسمي الذي ذكر أيضا أن الإمامين الشافعي ومالك يذهبان إلى جواز تنفيذ القصاص وقال إن أصحاب هذا الرأي يستدلون على ذلك بحديث رواه البخاري عن أنس بن مالك جاء فيه: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاء رجل فقال إن ابن الأخطل متعلق بأستار الكعبة فقال اقتلوه» . وكان من أشدّ أعداء رسول الله ومؤذيه. ثم بحديث رواه الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «خمس فواسق يقتلن في الحلّ والحرم الحيّة والعقرب والغراب الأبقع والطارد والكلب العقور» . وقالوا إن علة تحليل قتل هذه الفواسق هو ضررها وإن هذا يقاس عليه الفاسق من الناس. وقد أورد القاسمي حديثا عن النبي لم يذكر راويه جاء فيه: «إنّ الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارّا بدم ولا فارّا بخربة» «1» كدليل نبوي آخر. ويظهر أن الحديث لم يصح عند أصحاب القول الأول لأنه لو صحّ لكان فيه القول الفصل. ومع ذلك، فالذي يتبادر لنا أن حكمة الله في منح الأمان لمن دخل الحرم وحكمة رسوله في الأحاديث المتساوقة مع القرآن والتي أوردناها في تعليقنا في سورة قريش تبدو واضحة أكثر إذا أوّلت بأنها منع عدوان أحد على دم أحد وماله في الحرم بحيث يكون من دخله آمنا عليهما. وأن مذهب الإمامين الشافعي ومالك هو الأوجه لأن فيه منعا لإساءة استعمال هذه المنحة الربانية من قبل المجرمين. والله تعالى أعلم.

_ (1) فسّر المفسر كلمة (بخربة) بسرقة يستحق عليها الحدّ الشرعي وهو قطع اليد.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 98 إلى 103]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 98 الى 103] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) . (1) شهداء: قيل إنها بمعنى وأنتم شهداء على أنها حق، وقيل إنها بمعنى وأنتم عقلاء غير غافلين. (2) يعتصم: العصم بمعنى المنع لغة. ومنه (لا عاصم من أمر الله) والاعتصام بمعنى الامتناع والكلمة هنا بمعنى الامتناع بالله. (3) شفا: بمعنى حافة وطرف. في الآيات: 1- أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتوجيه السؤال على سبيل الاستنكار إلى أهل الكتاب عن كفرهم بآيات الله وصدهم عن سبيل الله الذين آمنوا وساروا فيها بقصد تعطيلها وتعويجها. 2- وتنديد بهم لأنهم يفعلون ذلك وهم يعلمون في قرارة نفوسهم صحة رسالة النبي وصدق دعوته. 3- وإنذار لهم بأن الله شهيد عليهم وغير غافل عمّا يفعلون. 4- وخطاب موجّه إلى المسلمين يحذرون به من الإصغاء لأقوالهم وإطاعتهم فيها ويبين لهم به إنما يريدون بها ردّهم إلى الكفر بعد الإيمان فإذا

تعليق على الآية قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون (98) والآيات الأربع التالية لها

سمعوا لهم وأطاعوا حققوا ما يريدونه لهم. 5- وتساؤل ينطوي على التحذير أيضا عما إذا كان يصح أن يكفروا بعد إيمانهم ولا يزال رسول الله هاديهم بين أظهرهم وما زالت آيات الله تتلى عليهم. 6- وتنبيه على أن الذي يتمسك بالله وآياته ويقف عند حدوده فهو الناجي المهدي إلى طريق الحق القويم. 7- وخطاب آخر موجّه إليهم أيضا يؤمرون فيه بالحرص أشدّ الحرص على تقوى الله كما يجب وعلى البقاء على الإسلام والموت عليه. والتمسك بحبل الله المتين متحدين يدا واحدة وقلبا واحدا وعدم التفرق. ويذكّرون فيه بما كان من نعمة الله عليهم وعنايته بهم حيث ألّف بين قلوبهم فأصبحوا إخوانا بعد أن كانوا أعداء وحيث نجاهم وأنقذهم من حفرة النار التي كانوا على حافتها. ففي كل هذا ما يزعهم عن الخلاف والجحود ويقوي اتحادهم وتمسكهم بحبل الله وما يضمن لهم الهدى. تعليق على الآية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) والآيات الأربع التالية لها جمهور المفسرين «1» على أن أهل الكتاب هنا هم اليهود أيضا. وقد رووا رواية ملخصها أن بعض يهود المدينة كبر عليهم أن يروا مركز النبي يقوى ودعوته تتسع، ورأوا أن هذا إنما كان بخاصة بتآخي قبيلتي الأوس والخزرج المدنيتين في ظلّ الإسلام وتوطد الوحدة الدينية بينهما وتناسيهما نتيجة لذلك ما كان بينهما من عداء وحروب في الجاهلية فتآمروا على إثارة الفتنة بينهما وأخذ بعضهم يذكّرون بعض الأوس والخزرج بما كان من مفاخر الجاهلية وحروبها فلم تلبث نخوة

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن والبغوي والطبرسي وابن كثير.

الجاهلية أن تحركت فيهم ودفعتهم إلى التراد في التفاخر ثم اشتد الأمر بينهم إلى التصايح فإلى التداعي إلى السلاح ليعيدوا الحرب بينهما ويحكموا السيف فيمن هو الأولى بالفخر منهما. وأتى الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسارع هو وكبار المهاجرين إليهم يذكّرونهم بالإسلام والأخوة الإسلامية ويهدئون من روعهم حتى سكنوا وأدركوا أنها نزغة من نزغات الشيطان ودسيسة من دسائس اليهود ثم تعانقوا وتباكوا وكرروا الحمد لله ولرسوله على ما كان لهما من فضل ونعمة سابقة ولا حقة فأنزل الله الآيات منددة باليهود وفاضحة لمكرهم ومحذرة للمسلمين ومذكرة لهم بما كان من نعمة الله عليهم وتوطّد الأخوة بينهم في ظل الإسلام. والروايات لم ترد في الصحاح. ولكنها قوية الاحتمال لأنها متسقة مع فحوى الآيات. وقد تضمنت خبر جريمة مروعة أقدم على ارتكابها اليهود وكادوا يهدمون بها بنيان الإسلام الذي وطّده الله ورسوله على الأخوة الإسلامية وأسلوب الآيات متناسب مع تنبيهه وتحذيره وتذكيره مع ذلك الخبر. ويتبادر لنا إلى ذلك أن الآيات غير منقطعة سياقا وموضوعا عن الآيات السابقة لها وأن وضعها بعدها قد كان بسبب ذلك حيث تضمنت صورة أخرى من صور مكائد اليهود ودسائسهم بين المسلمين. والروايات متفقة على أن الآية [103] منطوية على التذكير بما كان بين الخزرج والأوس من عداء وحروب قبل الإسلام. وقد أورد المفسرون في سياقها بعض الروايات التي فيها تفصيل لذلك. ولقد أشرنا إلى هذا وأوردنا بعض التفصيل عنه في تعليقنا على الآيات [84 و 85] من سلسلة آيات البقرة ثم في تعليقنا على الهجرة النبوية في سورة الأنفال فنكتفي بهذا التنبيه. ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها انطوت على تلقينات جليلة مستمرة المدى. سواء أفي التنديد بمن يغلبه هواه وغيظه فيتآمر على دعوة الله ورسوله وهو يعرف أنها حق ويحاول أن يصد المؤمنين بها ويعرقل سيرها. أم في وجوب تمسك المسلمين بأهداف دينهم وهدى قرآنهم وسنّة نبيهم. أم في وجوب الحرص على

الأخوة الدينية التي جمعت بينهم والتي من شأنها أن تجعلهم كتلة قوية. أم في التحذير من الاستماع لدسائس الأغيار الذين يريدون لهم الضرر والضعف والفرقة والتخاذل. هذا، وفي كتب التفسير تأويلات لمدى بعض هذه الآيات نوردها ونعلّق عليها كما يلي: 1- ففي صدد جملة اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ روى الطبري بطرق مختلفة عن ابن مسعود وغيره أن معناها: «أن يطاع الله فلا يعصى. وأن يشكر فلا يكفر. وأن يذكر فلا ينسى» . وعن ابن عباس أن معناها: «جاهدوا في الله حق جهاده ولا تأخذكم في الله لومة لائم وقوموا لله بالقسط ولو على أنفسكم» . وقال ابن كثير إن الرواية الأولى مروية عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم رواها الحاكم في مستدركه مرفوعا وقال إنه صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وكلا التأويلين وجيه. وقد روى الطبري عن قتادة أن الآية منسوخة بآية سورة التغابن [16] التي فيها جملة فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ كتيسير وتخفيف من الله. وروى ابن عباس أنها غير منسوخة. ويتبادر لنا أن الجملة وردت في مقام يوجب التشديد في التحذير فتكون في كل مقام مثله محكمة. أما كون الله إنما يطلب من المسلمين أن يتقوه ما استطاعوا فيمكن أن يقال بدون القول بنسخ الأولى بالثانية إن ذلك من المبادئ القرآنية التي تكرر تقريرها ومن السنّة النبوية التي تعددت الأحاديث الصحيحة فيها على ما ذكرناه وأوردناه في تعليقنا على جملة لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها في الآية [42] من سورة الأعراف فليرجع إليه. 2- وفي مدى معنى بِحَبْلِ اللَّهِ روى الطبري أقوالا منها أن الجملة بمعنى الجماعة أو التوحيد. أو الإخلاص لله أو القرآن. وقد أورد الطبري حديثا في سياق الجملة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض» . ولقد أوردنا في سياق الآية [9] من سورة الإسراء حديثا رواه الترمذي فيه ما جاء في حديث أبي سعيد. وعلى كل حال فالقرآن حقا هو

حبل الله الذي يجب أن يعتصم به المسلمون والذي يعصم من تمسّك به منهم لأن فيه جماع أسباب سعادة الإنسان في دنياه وآخرته. 3- وفي صدد جملة وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن جابر قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث: لا يموتنّ أحدكم إلّا وهو يحسن الظنّ بالله عزّ وجلّ» . وهناك صيغ أخرى أوردها ابن كثير في الحثّ على إحسان الظنّ بالله وكون الله عند ظنّ عبده به» . وليس في الأحاديث ما يفيد أنها تأويل للجملة القرآنية التي يتبادر لنا أنها أوسع شمولا مما تضمنته الأحاديث حيث توجب على المسلمين أن يظلوا مسلمين أنفسهم إلى الله عزّ وجلّ مخلصين له وحده في كل حال حتى الموت. والله أعلم. 4- ويروي الطبري عن أهل التأويل أن المقصود من جملة وَلا تَفَرَّقُوا هو نهي المسلمين عن الفرقة والاختلاف فيما بينهم والحثّ على الإلفة والجماعة وهو الوجيه السديد. وقد أورد في سياقها حديثا عن أنس عن رسول الله جاء فيه: «إنّ بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة وإنّ أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة كلّهم في النّار إلّا واحدة فقيل يا رسول الله ما هي؟ فقبض يده وقال الجماعة. واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا» . وقد روى أبو داود والترمذي عن أبي هريرة هذه الصيغة: «افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرّقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة وتفرّقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة» «2» . وقد يصح أن يساق في هذا المقام حديث رواه الخمسة عن عبد الله جاء فيه: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلّا الله وأني رسول الله إلّا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيّب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة» . حيث ينطوي فيه بيان عظم جريمة الافتراق عن الجماعة. وهناك أحاديث صحيحة أخرى يصح أن تساق في هذا

_ (1) منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله عزّ وجلّ أنا عند ظنّ عبدي بي» ، التاج ج 5 ص 65. (2) التاج، ج 1 ص 39 و 40.

السياق منها حديث رواه الشيخان عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية» «1» . وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات ميتة جاهلية. ومن قتل تحت راية عمّيّة يغضب للعصبية ويقاتل للعصبية فليس من أمّتي. ومن خرج من أمّتي على أمتي يضرب برّها وفاجرها لا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي بذي عهدها فليس من أمتي» «2» . والمتبادر أن المقصود من الجماعة هو جمهور المسلمين المخلصين في إيمانهم وإسلامهم القائمين بالحق والواجب. وأن المقصود من جملة (ما يكره) في الحديث السابق هو ما لا يلائم المرء لأن هناك أمورا قد لا تلائم المرء ولا تكون معصية. أما إذا أمر بمعصية أو كانت معصية محققة فلا طاعة ولا صبر. وهذا ما جاء في حديث رواه الخمسة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحبّ أو كره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» «3» . وهناك أحاديث أخرى من هذا الباب فاكتفينا بما تقدم «4» . ولقد ورد في سورة الأنعام نهي عن التفرق عن سبل الله واتباع السبل الأخرى ونعي على الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا [الآيات: 153 و 159] وعلقنا على ذلك وأوردنا بعض الأحاديث في سياقها. وهذه الأحاديث تفيد أن أهل البدع والأهواء بعض الأحاديث في سياقها ويلحظ فرق بين المقامين حيث إن آيات الأنعام تنهى في الدرجة الأولى عن التفرق في أمر الدين وأن الجملة التي نحن في صددها تنهى عن التفرق في الدرجة الأولى في أمر الدنيا. ومع ذلك فبينهما لقاء من حيث إن الإسلام يشمل شؤون الدين والدنيا معا. والله تعالى أعلم.

_ (1) التاج، ج 3 ص 40. (2) المصدر نفسه. [.....] (3) المصدر نفسه. (4) انظر المصدر نفسه، ص 35- 45.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 104 إلى 105]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 104 الى 105] وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) . الخطاب في الآيات موجّه إلى المسلمين. وقد أمرتهم الآية الأولى بأن يكون منهم دائما جماعة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وحيث نهتهم الثانية عن احتذاء سيرة الذين من قبلهم الذين اختلفوا وتفرقوا بعد أن جاءتهم آيات الله وبيناته ووضحت لهم طريق الحق والباطل والهدى والضلال فالذين يفعلون بما أمرت الآية الأولى هم الناجون المفلحون والذين يفعلون ما نهت عنه الثانية لهم عذاب الله العظيم. تعليق على الآية وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ... إلخ والآية التالية لها يروي الطبري أن هاتين الآيتين نزلتا مع الآيات السابقة لها في المناسبة التي روتها الروايات. ولا مانع من صحة الرواية. وقد جاءتا معقبة على ما قبلها لبيان ما هو الأوجب على المسلمين والأولى بهم والأصلح والأنفع لهم ولبيان الخطر العظيم الذي ينتج عن تفرقهم واختلافهم. ولقد احتوت الآيتان تلقينات ومبادئ جليلة شاملة لكل ظرف ومكان حيث توجب على المسلمين بأسلوب حاسم وفرضي أن يكون بينهم دائما جماعة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأن يحافظوا على الروابط الأخوية فيما بينهم فلا يتفرقوا كما تفرق من قبلهم وأن يستمسكوا بهدي دينهم الواضح فلا يختلفوا فيه كما اختلف من قبلهم. والواجبات الثلاث التي احتوتها الآية الأولى مطلقة وعامة المدى لتكون كما

هو المتبادر متسقة مع جميع الظروف والأمكنة والأدوار والأطوار. وهي (الدعوة) إلى كل ما فيه برّ وعدل وحقّ وإحسان ونفع وتعاون وهذا ما تشمله كلمة الخير. (والأمر) بكل ما عرف أن فيه صلاح المجتمع وقوامه وحياته وصلاح الأفراد وقوامهم وحياتهم. (والنهي) عن كل ما عرف أن فيه فساد المجتمع وضرره وفساد الأفراد وضررهم. وواضح أن هذه الواجبات أو المبادئ من أجلّ المبادئ والواجبات التي من شأنها حفظ كيان المجتمع الذي يسير عليها قويا سعيدا صالحا متعاونا على البرّ والتقوى والفضيلة ومكارم الأخلاق خاليا من الشرّ والبغي والظلم والإثم والفواحش. والمبادئ والواجبات المنطوية فيها واسعة المدى تتناول عشرات المواضيع الاجتماعية والأخلاقية والإنسانية والإصلاحية سلفا وإيجابا. وتكون الآيات بذلك منبع قوة لا ينضب للنشاط في شتّى وجوه الإصلاح والاجتماع والأخلاق والتكافل. ومن الجدير بالتنبيه أن هذه المبادئ والواجبات لا ترد في القرآن هنا لأول مرة. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذكرا لأول مرة في آية سورة الأعراف [157] كبيان لمحتوى رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وصفة من صفاته ثم ذكر كصفات من صفات المؤمنين في آية سورة الحج [40] . والأمر بفعل الخير والتنويه بفاعليه والتنديد بمانعيه ورد في سور عديدة منها سور (القلم) و (ق) و (الحج) . والنهي عن التفرقة جاء في الآيات التي سبقت هذه الآيات وفي آيات سورة الأنعام [153 و 159] . ولقد شرحنا مدى الموضوع الأول وأوردنا ما ورد فيه من أحاديث وأقوال وما عنّ لنا عليه من تعليق في سياق آية سورة الأعراف كما شرحنا مدى الموضوع التالي وأوردنا ما فيه من أحاديث وما عنّ لنا عليه من تعليق في سياق تفسير سور

[سورة آل عمران (3) : الآيات 106 إلى 109]

القلم وق والحج، وشرحنا مدى الموضوع الثالث وأوردنا ما فيه من أحاديث وما عنّ لنا عليه من تعليق في سياق الآيات التي سبقت هذه الآيات وآيات سورة الأنعام فنكتفي بهذا التنبيه ليرجع إلى ذلك. [سورة آل عمران (3) : الآيات 106 الى 109] يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) . في الآيات: 1- تذكير بيوم القيامة الذي تبيضّ فيه وجوه أناس وتسودّ وجوه آخرين وفقا لأعمال أصحابها. 2- وتقرير ضمني بأن الذين تسودّ وجوههم هم الذين كفروا بعد إيمانهم وبأن الذين تبيضّ وجوههم هم المؤمنون الثابتون المخلصون حيث يقرّع الأولون على كفرهم بعد الإيمان ويقال لهم ذوقوا العذاب على كفركم وحيث ينال الآخرون رحمة الله مخلدين فيها. 3- وتنبيه وجّه الخطاب فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن هذه الآيات التي يوحيها الله إليه قد انطوت على الحق. وبأن الله لا يريد للناس ظلما وبأن له ما في السموات والأرض وإليه ترجع جميع الأمور. تعليق على الآية يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ... إلخ والآيات الثلاث التالية لها لا يروي المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية في مناسبة نزول هذه الآيات. والمتبادر أنها استمرار وتعقيب على الآيات السابقة التي انتهت بالإنذار لمن يشذّ

عن حبل الله ويضلّ عن هداه بعد ما جاءته البيّنات واضحة. وواضح أن الآيات احتوت توكيدا لما قرره القرآن في مواضع كثيرة مماثلة من كون ضلال الناس وهداهم وبغيهم واستقامتهم من كسبهم واختيارهم وهم مسؤولون عن أعمالهم ولا يمكن أن يظلمهم الله في ذلك كما لا يمكن أن يريد للناس شرا ولا ضلالا ولا ظلما. ومع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي الذي انطوى في الآيتين فقد يكون من الحكمة في ذكر ابيضاض الوجوه واسودادها ما اعتاد الناس أن يقولوه في حالة الفوز والفرح والعزّة والنصر والإخفاق والحزن والذلّة والقهر. وقد يكون من مقاصد الآية الترهيب والترغيب والله تعالى أعلم. ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون في من عنتهم جملة أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ منها أنهم المنافقون والكتابيون. أو الذين ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم وحاربهم أبو بكر. أو الخوارج الذين حاربهم علي. أو أهل الفتن والبدع والأهواء. وروى ابن كثير عن ابن عباس أن الذين تبيضّ وجوههم أهل السنة والجماعة والذين تسودّ وجوههم أهل البدع والفرقة. والأوامر والنواهي التي تضمنتها الآيات السابقة لهذه الآيات موجهة للمسلمين. وهذا ما يجعلنا نستبعد الكتابيين. ونستبعد أن يكون المقصود في الجملة المنافقين أيضا لأن حالتهم معلومة. والقرآن قرر أنهم قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إيمانهم وأنهم في الدرك الأسفل من النار إذا لم يتوبوا، كما جاء في آيات النساء [88 و 89 و 145 و 146] والتوبة [56 و 68 و 73] وبقية الأقوال تطبيقية من وحي الأحداث بعد النبي صلى الله عليه وسلم. ولم يكن في زمن ابن عباس جماعة مميزة باسم أهل السنّة والجماعة مثلا. ومهما يكن من أمر، فيصح القول إن الآيتين الأوليين في صدد من يلتزم بما أمر الله به وما نهى عنه في الآيات السابقة ومن يشذّ عنها بصورة عامة. ويدخل كل فريق من فرقاء المسلمين ثبت على كتاب الله وسنّة رسوله وكل فريق شذّ عنهما في كل ظرف.

ويسوق الخازن في سياق الآيات أحاديث ورد بعضها في الصحاح من ذلك حديث رواه أيضا الشيخان عن سهل بن سعد جاء فيه: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنا فرطكم على الحوض. من مرّ عليّ شرب. ومن شرب لم يظمأ أبدا. وليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم فأقول إنهم منّي فيقال لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقا سحقا لمن غيّر بعدي» «1» . وحديث رواه مسلم وأبو داود عن أبي ذر أن رسول الله قال: «إن بعدي من أمتي أو سيكون بعدي من أمتي قوم يقرأون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه هم شرّ الخلق والخليقة» «2» . ولفظ أبي داود لهذا الحديث «سيكون في أمتي اختلاف وفرقة. قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية لا يرجعون حتى يرتدّ على فوقه. هم شرّ الخلق والخليقة طوبى لمن قتلهم وقتلوه يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء من قاتلهم كان أولى بالله منهم. قالوا: يا رسول الله وما سيماهم؟ قال: التحليق» «3» . وحديث عن أبي هريرة جاء فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم. يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا. ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا. يبيع دينه بعرض الدنيا» «4» . ولا تبدو صلة بين هذه الأحاديث والآيات التي تساق في سياقها إلّا ما تفيده من شذوذ فئات من المسلمين بعد النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق الإسلام الصحيح

_ (1) التاج، ج 5 ص 344. (2) فضلنا نقل الصيغة من التاج على صيغة الخازن لأن فيها فروقا وإن كانت يسيرة. التاج ج 5 ص 386- 387. (3) فضلنا نقل الصيغة من التاج على صيغة الخازن لأن فيها فروقا وإن كانت يسيرة. التاج ج 5 ص 386- 387. (4) شيء من هذا النص وارد في حديث رواه أبو داود والحاكم عن ابن عمر. انظر التاج ج 5 ص 379.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 110 إلى 112]

وسوء مصيرهم الأخروي مما يمكن أن يتصل بمدى جملة أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ ومما يمكن أن تكون الحكمة النبوية فيها إنذارا وتحذيرا. والله تعالى أعلم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 110 الى 112] كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112) . في هذه الآيات: 1- خطاب تبشيري موجّه إلى المسلمين بأنهم خير أمة أخرجت للناس لإيمانهم بالله وقيامهم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 2- وإشارة تنديدية إلى أهل الكتاب. فلو أنهم آمنوا برسالة النبي لكان خيرا لهم ولتمتعوا بتلك المزية التي جعلها الله للمؤمنين. ولكن لم يؤمن منهم إلّا القليل وأما الأكثر فهم فاسقون. 3- وخطاب تطميني موجّه إلى المسلمين: فليس أهل الكتاب ممن يخشى لهم بأس أو يخاف من ضرر أكيد منهم فضررهم قاصر على الأذى بالدسّ والكيد واللسان. ولو حدثتهم نفوسهم بقتال المسلمين لما ثبتوا في الميدان ولولوا الأدبار ولما كتب لهم أي نصر. فقد لزمتهم المسكنة في كل ظرف ومكان باستثناء بعض الظروف التي يتمسكون فيها بحبل الله ويتعاملون فيها مع الناس بالحق ويرعون معهم العهود. وقد لزمهم غضب الله وسخطه. لأنهم اتخذوا الكفر بآيات الله وقتل أنبيائه بغير حق وعصيان أوامره والوقوف موقف المعتدي ديدنا. الجزة السابع التفسير الحديث 14

تعليق على الآية كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف ... إلخ والآيتين التاليتين لها

تعليق على الآية كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ... إلخ والآيتين التاليتين لها روى المفسرون روايتين في سبب نزول الآيات. واحدة تذكر أنها نزلت في مناسبة تأنيب زعماء اليهود لمن أسلم منهم مثل عبد الله بن سلام وغيره. وثانية تذكر أنها نزلت في مناسبة فخر اليهود بتفضيل الله إياهم على العالمين. ومع ذلك فقد رووا عن أهل التأويل قولين في المقصود من أهل الكتاب. أحدهما أنهم اليهود خاصة وثانيهما أنهم اليهود والنصارى معا. وليس شيء من ذلك واردا في كتب الصحاح. وروح الآيات ومضمونها وتطابق الصفات الواردة فيها مع الصفات الواردة في اليهود صراحة في آيات أخرى وبخاصة في آية سورة البقرة [61] تجعل القول بأن الآيات في اليهود هو الأوجه. مع التنبيه على أننا لسنا نرى في الآيات ما يمكن أن يؤيد احتمال صحة رواية نزولها في مناسبة تأنيب زعماء اليهود لمن أسلم منهم ونرى الرواية التي تذكر أنها في مناسبة فخر اليهود بأنهم أفضل العالمين محتملة الصحة أكثر بل قوية احتمال الصحة. ومن المحتمل أن يكونوا قد دعموا فخرهم أمام المسلمين بما ورد في القرآن من ذلك في آيات عديدة مثل آيات البقرة [47 و 122] والدخان [32] والجاثية [16 و 17] فضلا عما كانوا يستندون إليه في ذلك من نصوص أسفارهم فاقتضت حكمة التنزيل بالإيحاء بالآيات لتقرير كون المؤمنين بالرسالة المحمدية التي تقرر وحدانية الله بدون أي شائبة وربوبيته الشاملة صاروا هم الأولى بوصف كونهم خير أمة أخرجت للناس لأنهم صاروا بالهدى الذي اهتدوا به دون غيرهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله إيمانا صادقا وخالصا. على أن مما تلهمه الآيات أيضا بالإضافة إلى ذلك أن اليهود كانوا يتبجحون بقدرتهم على القتال وإمكانهم أن يعلبوا المسلمين وأن بعض المسلمين كانوا يحسبون لهم حسابا من هذه الناحية. وهذا مما روي عنهم وأوردناه في سياق

تفسير آيات الأنفال [55- 58] وآيات آل عمران [12- 13] ومما تضمنت الإشارة إليه آية سورة الحشر هذه: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ [2] . فاحتوت الآيات ما احتوته من تكذيب لليهود في ذلك وتطمين للمسلمين على النحو الذي شرحناه. وقد انطوى فيها إشارة إلى ما كان من واقع أمرهم في معظم أدوارهم التاريخية من ذلّ ومسكنة وشتات مما هو مؤيد بقوة وبمقياس واسع بتاريخهم الذي فصّلته أسفارهم وعزته إلى انحرافاتهم الدينية والأخلاقية وأيّدته الكتب والروايات القديمة «1» . والآيات كما يبدو من هذا البيان متصلة بمشهد حجاجي بين المسلمين واليهود أو بالسياق السابق وحلقة من سلسلته كما يبدو من خلالها وصف ما كان عليه اليهود في مختلف أنحاء الأرض في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من جبن وذلّة ومسكنة. لقد قال بعض المفسرين «2» إن المقصود من تعبير مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ هم الذين آمنوا من النصارى ومنهم النجاشي كما قال بعضهم «3» إنهم هم الذين آمنوا من اليهود. والذي نرجحه هو القول الثاني لأن الآيات والسلسلة السابقة لها هي في حق اليهود في الدرجة الأولى. ولقد جاءت الآيات وبخاصة الفقرة الأولى من الآية الأولى التي تقرر أن المؤمنين بالرسالة المحمدية هم خير أمة أخرجت للناس في مقامها الذي هو في صدد اليهود ناسخة لكل ما ورد في الآيات القرآنية السابقة عن تفضيل بني إسرائيل

_ (1) انظر أسفار القضاة وصموئيل والملوك وأخبار الأيام ونبوءة أشعيا ونبوءة أرميا ومراثي أرميا وحزقيال وباروك وميخا وصفنيا وعوبيديا وملاخي واستير وعزرا ونحميا والمكابيين وتاريخ يوسيفوس اليهودي من رجال القرن الأول الميلادي وتاريخ العبرانيين للمطران الدبس. وقد استوعبنا ذلك في كتابنا (تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم) . (2) انظر كتب التفسير السابقة الذكر. (3) انظر المصدر نفسه.

على العالمين أو حاصرة لذلك في زمن مضى حينما كانوا صابرين مستقيمين على وصايا الله وشرائعه. ومعظم ما جاء في الآية [112] ورد في الآية [61] من سورة البقرة، وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار. ولقد اختلف المؤولون في مدى الاستثناء في جملة إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ فقال بعضهم: إنه متصل وقال بعضهم إنه منفصل. والفرق هو أنه في الحالة الأولى لا يكون عليهم ذلّة بسبب اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس وتعاملهم معهم بالحق. أما في الحالة الثانية فتكون الذلّة مضروبة عليهم على كل حال بسبب الجرائم الخطيرة التي اقترفوها. وقد أخذنا في شرحنا للآيات بالرأي الأول حيث يتبادر لنا أنه الأوجه والأكثر اتساقا مع روح الآية ونظمها والله تعالى أعلم. ولقد تعددت الأقوال المروية في مدى تعبير كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ منها أن كُنْتُمْ زائدة أو تامة ويكون المعنى (أنتم) أو (صرتم) أو (وجدتم) ومنها أن المقصودين هم خاصة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو المهاجرين منهم بنوع خاص. أو هم (ابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل) وليس شيء من ذلك في الصحاح. والخطاب عام وموجه من حيث الواقع المباشر إلى السامعين من المؤمنين. وهم مهاجرون وأنصار. وهذا ما جعلنا نشرح العبارة القرآنية بما شرحناه من كونها قصدت تقرير كون المؤمنين بالرسالة المحمدية صاروا دون غيرهم أولى الناس بوصف أنهم خير أمة أخرجت للناس. وقد يصح أن يضاف إلى هذا أن الآية قد خاطبت ظرفيا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان الذين وصفتهم آيات عديدة «1» بعظيم

_ (1) انظر آيات سور المعارج [22- 35] والذاريات [16- 19] والشورى [36- 43] وفاطر [29- 34] والفرقان [63- 76] والمؤمنون [1- 11 و 57- 61] والرعد [20- 24] والحشر [8- 10] والأحزاب [22] وآل عمران [169- 174 و 195] والتوبة [71- 72 و 88 و 89 و 100] .

صفات الإخلاص والاستغراق في دين الله ونصرته وبذل كل مال ونفس وجهد في سبيله فكانوا فعلا متحققين بالصفة التي وصفتهم بها الآية. على أن هذا لا يمنع القول إن إطلاق الخطاب للسامعين يمكن أن يكون شاملا لكل مؤمن في كل وقت ومكان، وهو المتفق عليه عند المؤولين والمفسرين في كل خطاب مماثل ليس فيه دليل تخصيصي على ما نبهنا عليه في المناسبات الكثيرة والمماثلة. وهذا ما قاله المفسرون والمؤولون في صدد هذه الآية بالذات، مع التنبيه على أمر مهم وهو أن يكون المسلم الذي يستحق هذا الخطاب مخلصا في إيمانه قائما بواجباته التي منها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فبهذا فقط يكون من مشمول فقرة كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ولقد روى الطبري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى الناس في دعة فقرأ في خطبة له في حجة حجها الآية ثم قال من سرّه أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله فيها. وعلى ضوء ما تقدم يصح أن يقال إن الآية قد جعلت الإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صفات متلازمة وأوجب على المسلمين التحقق بها ورشحهم في حال هذا التحقق بكونهم خير أمة أخرجت للناس يحملون لهم مشاعل الهداية ويخرجونهم من الظلمات إلى النور ويقيمون المجتمع الإنساني الفاضل الذي يسوده العدل والإحسان والبرّ والتعاون والتضامن والحرية ويتحرر المرء فيه من الظلم والطغيان والإثم والفواحش. وإنه لواجب عظيم مشرّف. وقد كان المسلمون حينما قاموا به في صدد الإسلام خير أمة أخرجت للناس حقا. والمسلمون مرشحون لأن يكونوا كذلك في كل ظرف تحققت فيه فيهم تلك الصفات وقاموا بما توجبه عليه من واجبات. وقد يصح أن يقال إن العرب المسلمين كانوا أول المخاطبين بذلك وإن لهم فيه النصيب الأكبر. فقد اختار الله خاتم أنبيائه الذي رشح رسالته لتكون دين العالم

[سورة آل عمران (3) : الآيات 113 إلى 115]

أجمع منهم. وأنزل كتابه المجيد الذي صار كتاب جميع المسلمين المقدس في كل أقطار الدنيا بلغتهم. وجعل مهبط وحيه في قلب جزيرتهم ومهدهم قبلة يتجه إليها جميع مسلمي الأرض في صلواتهم اليومية العديدة ومحجّا يحجون إليه سنويا من جميع أقطار الأرض أبد الدهر وجعلهم وسطا ليكونوا شهداء على الناس كما جاء في آيتي سورتي البقرة والحج [143 و 78] ولا يمكن إلّا أن يكون ذلك لحكمة اختصاصية للعرب والله تعالى أعلم. ولقد أورد الطبري في سياق الآية حديثا رواه بطرقه عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ألا إنكم وفيتم سبعين أمة أنتم آخرها وأكرمها على الله» . وروى الحديث الترمذي بسند حسن بفرق يسير في بدئه وهو: «تتمون سبعين أمة ... » «1» . والكلام النبوي موجه للعرب لأول مرة فيكون فيه تدعيم لما قلناه مساق في سياق الآية والله تعالى أعلم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 113 الى 115] لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) . (1) لن يكفروه: لن يجحد لهم عملهم وسيقابلون عليه بما يستحق. من المؤولين من اعتبر جملة لَيْسُوا سَواءً مستقلة عن ما بعدها. واعتبروا الجملة التالية لها كلاما مستأنفا مستقلا عنها. ومنهم من اعتبر هذه الجملة متصلة بالجملة التالية لها. وأصحاب القول الأول أوّلوا الجملة بأنها في صدد تقرير كون المسلمين وأهل الكتاب الموصوفين بالآيات السابقة لا يصح أن يكونوا

_ (1) انظر التاج، ج 4 ص 73، والحديث في تفسير الآية ووارد في فصل التفسير في كتاب التاج.

تعليق على الآية ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة ... والآيتين التاليتين لها

سواء. ثم استؤنف الكلام لتقرير كون من أهل الكتاب من هو صالح يتّصف بما جاء في الآيات من صفات. ولو أن ما يفعله هذا الفريق لن يجحد من الله تعالى الذي هو العليم بالمتقين. وأصحاب القول الثاني أوّلوا الآيتين بأنهما في صدد الاستدراك لتقرير كون أهل الكتاب ليسوا سواء. فإذا كان منهم الفاسق المعتدي الذي وصف في الآيات السابقة ضمن الصالح المتقي المؤمن بآيات الله والمتعبّد لله والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر والمسارع في الخيرات. ويتبادر لنا أن القول الثاني هذا هو الأوجه والأكثر اتساقا مع روح الآيات ومقامها ومع السياق السابق واللاحق. والله تعالى أعلم. تعليق على الآية لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ ... والآيتين التاليتين لها روى المفسرون كسبب لنزول الآيات أنه لما أسلم عبد الله بن سلام وجماعة آخرون من يهود قالت أحبار اليهود وأهل الكفر منهم ما آمن بمحمد إلّا شرارنا ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم فأنزل الله الآيات. كما رووا أنها في وصف حالة أربعين من أهل نجران وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا نصارى فآمنوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. والروايات لم ترد في الصحاح، ويتبادر لنا أن الآيات استمرار في السياق وتعقيب عليه. فقد جاء في الآيات السابقة أن أهل الكتاب وإن كان أكثرهم فاسقين فإن منهم مؤمنين أيضا ثم أخذت تحمل على الفاسقين وتهوّن من شأنهم فجاءت الآيات تستدرك وتستثني من الحملة الفئة المؤمنة وتذكر مظاهر إيمانهم وإخلاصهم وعملهم الصالح. ونظم الآيات ومضمونها يلهمان هذا بقوة حين الإمعان فيها. وهذا لا ينفي أن تكون الآيات قد قصدت الذين آمنوا بالرسالة المحمدية من أهل الكتاب الذين ذكرت آيات عديدة مكية ومدنية خبر إيمانهم على ما ذكرناه في

[سورة آل عمران (3) : الآيات 116 إلى 117]

مناسبات سابقة. مع القول إننا نرجح أن تكون الآيات في صدد وصف مؤمني اليهود بخاصة لأن الآيات للاستثناء والاستدراك. والسياق في صدد اليهود والله تعالى أعلم. وبعض المبشرين يزعمون أن الآيات في وصف رهبان النصارى في حالة احتفاظهم بنصرانيتهم. وبقطع النظر رجحنا بأنها في صدد اليهود فإن وصف الإيمان بعد البعثة المحمدية لا يكون إلّا لمن آمن بالرسالة المحمدية. وقد وصف القرآن الكافرين بهذه الرسالة من أهل الكتاب بالكفار على ما نبهنا عليه وأوردنا شواهده القرآنية في مناسبات سابقة. ولا يصح أن يعارض القرآن نفسه فيصف بعضهم بالإيمان وهم جاحدون للرسالة المحمدية. وهذا ما يجعلنا نؤكد أن الآيات في صدد فريق من أهل الكتاب قد آمنوا بهذه الرسالة مع ترجيحنا أنهم من اليهود والله تعالى أعلم. والوصف الذي احتوته الآيات عظيم الروعة. يدل على أن الذين آمنوا من أهل الكتاب بالرسالة المحمدية قد فعلوا ذلك بإخلاص وتجرّد شديدين نتيجة لاقتناعهم بصدق الرسالة المحمدية وما جاءت به من مبادئ وتعاليم ثم استغرقوا في عبادة الله تعالى والتقرّب إليه بصالح الأعمال والأخلاق في ظلّ الدين الجديد الذي اعتنقوه وتأثروا بمبادئه وتعاليمه. وفي القرآن المكي والمدني صور مقاربة «1» حيث يصح القول إن هذا كان عاما في من استطاع أن يتغلب على عناده ومكابرته وهواه ومآربه من أهل الكتاب. وقد استمر هذا يتكرر وبمقياس واسع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده إلى اليوم وإلى الأبد. [سورة آل عمران (3) : الآيات 116 الى 117] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) .

_ (1) اقرأ مثلا آيات القصص [51- 53] والإسراء [107 و 108] والرعد [36] وآل عمران [199] والنساء [161] والمائدة [82- 84] .

(1) ريح فيها صرّ: قيل إنها ريح باردة جدا. وقيل إنها ريح السموم الحارة وقيل إنها الريح المزمجرة. وعلى كل فالقصد هو الريح التي تهبّ على الزرع فتتلفه بشدّة لفحها بردا أو سموما أو عاصفة مزمجرة. في الآيتين: تقرير ينطوي على التهوين والتقريع والإنذار بأن الكفار لن يجديهم كثرة أموالهم وأولادهم نفعا عند الله. فهم أصحاب النار المقضى عليهم بالخلود فيها، وإن ما ينفقونه في الحياة الدنيا لن يكون عليهم إلّا بلاء وإنه كالريح التي فيها صرّ تتلف الزرع الذي تصيبه. وليس في هذا ظلم من الله سبحانه. وإنما هم الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم فاستحقوه. ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في نزول الآيات وإنما قالوا «1» - ومنهم من عزا القول إلى ابن عباس وغيره- إن المقصود من جملة الَّذِينَ كَفَرُوا هم أبو جهل وأبو سفيان اللذان كانا يتفاخران بكثرة أموالهما وقدرتهما على الإنفاق لقهر المسلمين، كما قالوا أيضا إن المقصود هم اليهود الذين كانوا ينفقون الأموال في مناوأة ومعاداة رسول الله ورسالته. والمتبادر أن الآيتين متصلتان بالسياق السابق أيضا وأنهما تعنيان كفار اليهود بعد استثناء المؤمنين منهم، وتلهمان أنهم كانوا يتفاخرون بكثرة أموالهم كما كانوا يتفاخرون بقدرتهم على القتال. وأن المسلمين كانوا يحسبون لهذه الأموال حسابا لأنها تمكنهم من الإنفاق والاستعداد للحرب والقتال فجاءتا لتهوّنا من شأن هذه الأموال كما هونت الآيات السابقة من شأن قدرتهم على القتال ولتطمئنا المسلمين من هذه الناحية أيضا.

_ (1) انظر تفسير الخازن.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 118 إلى 120]

والعبارة في الآيتين مطلقة حيث يكون فيهما بالإضافة إلى خصوصيتهما الزمنية تلقين تبشيري وتطمين للمسلمين في كل ظرف مع واجب التنبيه على أن على المسلمين أن يكونوا مسلمين حقا إيمانا وجهادا وعملا واستقامة واستعدادا حتى يحقق الله وعده وتصدق لهم البشرى. [سورة آل عمران (3) : الآيات 118 الى 120] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) . (1) بطانة: أخصاء يطلعون على باطن أموركم. (2) من دونكم: من غيركم. (3) لا يألونكم: لا يقصرون فيكم. (4) خبالا: فسادا أو تشويشا. (5) ودّوا ما عنتم: تمنوا أن يصيبكم العنت والمشقة. في هذه الآيات: 1- خطاب موجه للمسلمين ينهون به عن اتخاذ أخصّاء وأولياء لهم من غيرهم يطلعون على أسرارهم وبواطن أمورهم. 2- وتعليل لهذا النهي: فإنّ هؤلاء لا يقصرون في أي عمل يسبب لهم الفتنة والفساد والتشويش. ويتمنون لهم كل عنت ومشقة. وقد ظهرت علامات البغض والكراهية لهم على ألسنتهم وما تخفيه صدورهم من ذلك أشد. وفي حين أنّ

تعليق على الآية يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم ... إلخ والآيتين التاليتين لها

المسلمين يحبونهم ويودون لهم الخير ويؤمنون بكل ما أنزل الله، ومن ذلك ما أنزله من الكتب السابقة فإنهم لا يقابلون حبهم بحبّ ولا رغبة الخير لهم بمثلها ولا يؤمنون بما أنزل الله جميعه. وإذا لقوهم تظاهروا بالإيمان كذبا ورياء. وإذا خلوا إلى بعضهم عضوا أناملهم من شدّة غيظهم وحقدهم عليهم، وإذا نالهم خير استاءوا وإذا أصابتهم مصيبة فرحوا. 3- تطمين للمسلمين فإنهم إذا صبروا وثبتوا في مواقفهم وراقبوا الله واتقوه لن يضرهم كيدهم وأذاهم وبأن الله محيط بكل ما يعملون ومحبطه. وقد تخللت الآيات فقرات تعقيبية جريا على الأسلوب القرآني: فالله يبين للمسلمين الآيات ويوضح لهم الحقائق حتى يعقلوها ويسترشدوا بها. وليميت هؤلاء الأغيار بغيظهم الذي يأكل قلوبهم. والله عليم بخفايا صدورهم. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ ... إلخ والآيتين التاليتين لها وقد روى المفسرون «1» أن الآيات نزلت في جماعة من المسلمين كانوا يواصلون اليهود ويصادقونهم ويخالطونهم بحجة الحلف الذي كان بينهم في الجاهلية، كما رووا «2» أنها نزلت في جماعة من المسلمين كانوا يفعلون ذلك مع المنافقين بحجة القربى والوشائج الرحمية والقبلية. والروايات لم ترد في الصحاح، ولكن فحوى الآيات يتحمل أيا من الروايتين كما أن الواقع في المدينة في ظرف نزولها يتحمل أيا منهما أيضا. غير أن جملة وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وجملة وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ المماثلة بعض المماثلة للآية [76] من سلسلة آيات البقرة الواردة في حق اليهود قرائن تسوغ

_ (1) انظر تفسيرها في الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن. [.....] (2) المصدر نفسه.

ترجيح كونها في حق اليهود أكثر. والمتبادر أن جملة مِنْ دُونِكُمْ تنطبق كذلك على اليهود أكثر لأن المنافقين عرب من جنس المخاطبين أولا وكانوا يتظاهرون بالإسلام ويؤدون فرائضه حتى إنهم كانوا يشتركون في الحركات الحربية بقطع النظر عن مواقفهم المربية. وقد رجح الطبري ذلك. وإذا صحّ الترجيح تكون الآيات قد احتوت صورة قوية لشدة ما كان يضمره اليهود من العداء والحقد والغيظ للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين والحركة الإسلامية. ونهيا قويا متناسبا مع ذلك ومستندا إلى الواقع المشاهد الملموس عن الاستمرار في موادتهم وموالاتهم من قبل المسلمين واختلاطهم بهم. وهذه الصورة مؤيدة بآية سورة المائدة هذه: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [82] . والآية تدل على أن الآيات الكثيرة الواردة قبلها في سورة آل عمران وسورتي الأنفال والبقرة والتي فيها بيان مواقف اليهود الكيدية والعدائية والتشكيكية نحو المسلمين لم تؤثر في فريق من المسلمين الذين يرجح أنهم المنافقون الظاهرون والمستترون حيث ظلوا يواصلونهم بالمودة ويختلطون بهم. بل لقد ظلّ هذا مستمرا طيلة وجود اليهود في المدينة أي إلى السنة الهجرية السادسة على ما تدل عليه آيات عديدة وردت في سور أخرى بعد هذه السورة على ما سوف يأتي. ومع الخصوصية الزمنية للنهي والتحذير اللذين احتوتهما الآيات فإن إطلاق الأمر وإطلاق الخطاب يجعل تلقينها شاملا لكل زمان ومكان. وظاهر من التعليلات والأوصاف الواردة أن النهي والتحذير هما بالنسبة إلى الجماعات غير الإسلامية التي تقف من المسلمين مواقف الكيد والعداء والحقد والكراهية ومظاهرة الأعداء وأنهما لا يشملان من يكون موادّا مسالما كافّا يده ولسانه عن المسلمين من غير المسلمين على ما نبهنا عليه في مناسبات عديدة. ولقد روى ابن كثير في سياق الآية الأولى حديثا أخرجه ابن أبي حاتم جاء فيه: «قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إن هاهنا غلاما من أهل الحيرة حافظ

كاتب فلو اتخذته كاتبا فقال: قد اتخذت إذا بطانة من دون المسلمين» . وعقب ابن كثير على هذا بقوله إن الآية مع هذا الأثر دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين واطلاع على دواخل أمورهم. وفي كتاب تاريخ عمر بن الخطاب للجوزي بعض أخبار مماثلة أو مقاربة لما رواه ابن أبي حاتم. ونقول تعليقا على ذلك: إن التعليلات التي احتوتها الآيات قوية الدلالة على أن النهي هو عن الذين عرفوا بعدائهم ومكرهم وكيدهم وقصدهم السوء بكل موقف ووسيلة للمسلمين. أو على الأقل الذين يغلب الظن على أنهم كذلك. أما من كانوا أو من غلب الظن على أنهم كانوا غير ذلك فلا نرى في الآية دليلا على عدم جواز انتفاع المسلمين بخبراتهم المتنوعة بالإضافة إلى حسن التعايش معهم. وإذا صح ما روي عن عمر للظرف الذي كان الذميون فيه مظنة ريب وخيانة وغدر فليس من شأنه أن يكون قاعدة عامة مستمرة إلّا في نطاق ذلك. ولقد تصدى رشيد رضا لهذه المسألة بكلام طويل انتهى فيه إلى النتيجة التي قررناها آنفا. والله تعالى أعلم. ويأتي بعد هذه الآيات فصل جديد طويل في صدد وقعة أحد. وبذلك ينتهي الشطر الأول من السورة الذي كان في صدد أهل الكتاب من نصارى ويهود. والذي نستلهمه من فحوى الآيات أن ما يتصل بمناظرة وفد نجران منه ينتهي بالآية [68] وليس فيه عنف وقسوة لأن الوفد قد جاء مستطلعا مناظرا ثم توادع مع النبي ورجع إلى بلاده على ما شرحناه قبل. وأن الآية [69] وما بعدها إلى آخر الآية [120] هي في صدد اليهود ومواقفهم الكيدية والتشكيكية والعدائية ولذلك تميزت عن الآيات السابقة لها بالعنف في التنديد والاستنكار والتحذير. وهكذا تكون سورة آل عمران كسورة البقرة قد احتوت سلسلة طويلة في حقّ اليهود اقتصرت على ذكر هذه المواقف دون استطراد إلى ربط حاضرهم بغابرهم إلّا لماما. والسلسلتان تدلان على ما كان لليهود من أثر في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى ما كان من نشاطهم الشديد في مناوأة النبي والمسلمين والإسلام، فاقتضت حكمة التنزيل أن تأتيا بالأسلوب

[سورة آل عمران (3) : الآيات 121 إلى 129]

القوي العنيف الذي جاءتا به ليكون متناسبا مع ذلك من جهة، ولفضحهم وإضعاف أثرهم من جهة أخرى. [سورة آل عمران (3) : الآيات 121 الى 129] وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) . (1) غدوت: خرجت باكرا في الصباح. (2) من أهلك: من بيتك. (3) تبوّىء: تعدّ أو تهيىء. (4) أن تفشلا: أن تضعفا وتنخذلا. (5) مسوّمين: معلّمين أي بعلامة. (6) ليقطع طرفا: ليستأصل فريقا. (7) يكبتهم: يكبّهم على وجوههم خزيا وخيبة. في هذه الآيات: 1- تذكير للنبي صلى الله عليه وسلم بخروجه صباحا من بيته إلى خارج المدينة ليهيىء للمسلمين الأماكن الملائمة لقتال العدو، وبما كان في أثناء ذلك من أقوال ونوايا

سمعها الله وعلم بها وهو السميع العليم، وبما كان من تردد فرقتين من المؤمنين حتى كادتا تنخذلان وترتدان مع أن الله وليهما وناصرهما ومع أن من واجب المؤمنين أن يتوكلوا عليه. 2- وتذكير للمؤمنين بما كان من نصر الله لهم في وقعة بدر في ظرف كانوا فيه أذلة من القلة والضعف. وحثّ لهم على تقوى الله والإخلاص له حتى ييسر لهم ما يحمدونه ويشكرونه عليه من النتائج والمواقف. 3- وتذكير آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بما كان يوجهه إلى المسلمين من سؤال عما إذا كان لا يكفيهم أن يمدهم ربهم بثلاثة آلاف من الملائكة ينزلها لنصرهم. 4- وتوكيد تأييدي بأن ربهم سوف يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة المتميزين بعلامات خاصة إذا كرّ أعداؤهم عليهم وثبتوا وصبروا واتقوا الله. 5- واستدراك بأن الله إنما يبين أعداد الملائكة ويخبر أنه ينزلهم لتأييدهم ونصرهم لأجل تطمين قلوب المسلمين وبعث الاستبشار في نفوسهم وبأن النصر في حقيقته هو من عند الله وحده القادر على أن يهب لهم النصر على كل حال. وهو العزيز الحكيم القادر على كل شيء والغني عن كل شيء والذي يقضي بما فيه الصواب والحكمة. 6- وبيان لناحية من حكمة الله في ما دار ويدور من حروب بين المسلمين والكفار: فالله يتوخى في ذلك استئصال شأفة الكفار أو قهرهم وارتدادهم خائبين أو بعث الرغبة فيهم في الارعواء والتوبة عما هم فيه أو تعذيبهم لظلمهم وبغيهم. فالأمر في كل ذلك له والحكمة هي في ما ييسره ويسيره وليس للنبي ولا لغيره تأثير فيه. فهو الذي له ما في السموات والأرض وهو مطلق التصرف في كونه وخلقه، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وهو الغفور الرحيم.

تعليق على الآية وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم (121) وما بعدها لغاية الآية [129] وشرح ظروف ومشاهد وقعة أحد

تعليق على الآية وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) وما بعدها لغاية الآية [129] وشرح ظروف ومشاهد وقعة أحد وجمهور المفسرين على أن هذه الآيات والآيات العديدة الأخرى التي وردت فيما بعد إلى الآية [179] قد احتوت إشارات إلى مشاهد وظروف ونتائج وقعة أحد التي وقعت عند جبل أحد قرب المدينة بعد وقعة بدر بنحو خمسة عشر شهرا بين كفار قريش والمسلمين حيث جمع الكفار جموعهم وجاءوا لغزو المدينة وأخذ ثأر وقعة بدر. وليس في هذه الآيات ولا فيما بعدها بسط قصصي تفصيلي لمشاهد الوقعة وإنما هي إشارات لمواضع وشؤون اقتضتها حكمة التنزيل للعظة والعبرة شأن ما جاء في صدد وقعة بدر في سورة الأنفال وغيرهما من الوقائع وهو الأسلوب القرآني فيما ورد في القرآن من قصص ووقائع بصورة عامة. وهذه الآيات قد احتوت شيئا من العتاب والتطمين والعظة والتسلية. وقد جاءت كمقدمة تمهيدية بين يدي المشاهد والظروف التي اقتضت الحكمة الإشارة إليها والأقوال التي قيلت والمواقف التي وقفتها فئات المسلمين بعد الوقعة. وقد نزلت هذه الآيات وسائر الآيات الأخرى التي تتصل بيوم أحد والتي تأتي بعدها بعد انتهاء المعركة. ومما يروى في صدد ما له صلة بهذه الآيات من ظروف وأسباب الوقعة «1» أن النبي لما علم بزحف كفار قريش نحو المدينة استشار الناس في الموقف، وأن كبير المنافقين عبد الله بن أبي وبعض أصحابه ومتابعيه وفريقا من المخلصين من أهل المدينة أشاروا بالتحصّن في المدينة وعدم الخروج لمقابلة العدو خارجها

_ (1) انظر ابن هشام ج 3 ص 3- 159، وطبقات ابن سعد ج 3 ص 78- 91. وانظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير وغيرهم.

والاستعداد لقتاله إذا هاجمهم في عقر بيوتهم، وقالوا له ما دخل علينا أحد إلا غلب وما خرجنا منها إلّا أصبنا. وأشار آخرون بالخروج للقائهم وعدم الظهور بمظهر الخائف وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جنح إلى الرأي الأول بادىء الأمر غير أن أصحاب الرأي الثاني استعظموا ذلك وأخذوا يلحون على الخروج وكانت نفوسهم قوية بما كان من نصر الله لهم في بدر. ومنهم من لم يشهد بدرا ورغبوا في أن يكون لهم حظ من الجهاد والنصر مثل ما كان لمن شهد بدرا حتى مال النبي إلى هذا الرأي فدخل بيته ولبس عدّة حربه ونادى بالناس إلى الخروج وفي وجهه شيء من الاستكراه. وقد روي فيما روى أن أصحاب الرأي الثاني ندموا على الإلحاح وما شعروا به من استكراه النبي فأعادوا الأمر إليه واعتذروا له فقال لهم إنه لا يصح لنبي لبس عدّة حربه أن يخلعها قبل أن يقاتل وأكد نداءه إلى الخروج فخرجوا في نحو ألف وكان عدد أعدائهم نحو ثلاثة آلاف. وفي الطريق انسحب عبد الله بن أبي كبير المنافقين قائلا: أطاعهم وعصاني. وإني لا أرى قتالا سيقع فانسحب معه نحو ثلاثمائة أكثرهم من المنافقين أشياعه. وكاد بطنان من الخزرج قبيلته ومن المخلصين في إيمانهم أن يتأثروا بالمنسحبين وينسحبا لولا أن ثبتهما الله وهما بنو حارثة وبنو سلمة على ما جاء في حديث رواه البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال: «فينا نزلت إذ همّت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليّهما. قال نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة وما يسرني أنها لم تنزل بقول الله والله وليهما» «1» . ومما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي إلى الجبل فجعل ظهره وعسكره إلى أحد. وقال لا يقاتلن أحد منكم حتى نأمره بالقتال. وباستثناء حديث جابر ليس شيء مما روي وأوردنا خلاصته واردا في الصحاح مع التنبيه على أن هناك أحاديث في الصحاح في صدد مشاهد أخرى من مشاهد يوم أحد على ما سوف نورده بعد. ومع التنبيه على أن بعض الروايات تتسق مع بعض الآيات وبعضها لا تتسق. فليس في الآيات ما يدل على أن المنافقين خرجوا ثم

_ (1) التاج، ج 4 ص 73. الجزء السابع من التفسير الحديث 15

انسحبوا. وهناك آيات تأتي بعد تدل على أنهم لم يخرجوا مع الذين خرجوا لأن الخروج كان على خلاف رأيهم ثم احتجوا بأنه لن يقع قتال. كذلك فإنه ليس في الآيات ما يؤيد ما روي من جنوح النبي صلى الله عليه وسلم للرأي القائل بعدم الخروج أولا ثم جنوحه للرأي القائل بالخروج. ولا يؤيد ما روي من أن الكثرة كانت مع الرأي الأول. والذي نرجحه استلهاما من هذه الآيات والآيات التالية أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب الناس للقاء العدو خارج المدينة فاعترض بعض المخلصين والمنافقون واقترحوا البقاء في المدينة والقتال من وراء الجدران. فعارضهم أكثر المخلصين وحبذوا الخروج وأظهروا الاستعداد للجهاد والموت في سبيل الله وهذا مما ذكر في بعض الآيات. فكان هذا من مشجعات النبي على تنفيذ عزيمته بالخروج وعدم الأخذ برأي الذين اقترحوا البقاء والقتال من وراء الجدران وكان هذا مما أغاظ المنافقين فقعدوا ولم يخرجوا وكاد قعودهم يؤثر على بطني الخزرج المخلصين ولكن الله ثبتهما. ولقد روى المفسرون ورواة السيرة فيما رووه أن الفتيان من أبناء المهاجرين والأنصار كانوا يتسابقون إلى الاشتراك في الحرب. وكانوا شديدي الحرص على ذلك وأنّ النبيّ كان يستعرضهم فيأخذ من يراه أهلا لبنيته أو قوته ممن بلغ الخامسة عشرة. وأن منهم من كان يرفع قامته أو يقف على أصابع قدميه ليبدو طويلا وأن منهم من قال للنبي حينما ردّه وأخذ رفيقا له إنه أقوى منه وقادر على صرعه فأذن لهما بالمصارعة أمامه فصرع رفيقه فأخذه. وذكروا من أسمائهم رافع بن خديج وسمرة بن جندب وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وعمرو بن حزم وأسيد بن ظهير والبراء بن عازب، والمتصارعان كانا الأولين. وقد روى أصحاب الصحاح حديثا فيه شيء من ذلك عن ابن عمر قال: «إن النبي صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه» «1» . وفي كل هذا صور مشرقة فيها العبرة والأسوة فأجبنا إيرادها.

_ (1) انظر التاج، ج 4 ص 374، روى الحديث الخمسة.

والمفسرون يروون في صدد ما جاء في مدد الملائكة المذكور في الآيتين [124- 125] أقوالا معزوة إلى بعض التابعين وتابعيهم «1» . منها أن الوعدين بالثلاثة الآلاف والخمسة الآلاف كانا في يوم بدر. وأن الكلام تتمة للآية [123] التي ذكر فيها هذا اليوم. ومما يروون في صدد الوعد الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن أحد رؤساء مشركي الأعراب واسمه كرز وعد قريشا بالمدد يوم بدر وأن ذلك شقّ على المسلمين فوعدهم النبي بمدد آخر من الملائكة إذا جاء هذا المدد. وقد تمت الهزيمة على قريش فلم يأت هذا المدد. ومن هذه الأقوال أن الوعد بالثلاثة الآلاف خاص ببدر والوعد بالخمسة الآلاف خاص بأحد. وقد تحقق الوعد الأول فأيّد الله المجاهدين بالملائكة. أما الوعد الثاني فلم يتحقق لأنه كان مشروطا بصبر المسلمين وتقواهم فلم يصبروا وتمّت عليهم الهزيمة. وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. وفي سورة الأنفال التي نزلت في ظروف يوم بدر ومشاهده هذه الآية إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وهذا النص ينقض الروايات التي تذكر أن الواعدين أو أحدهما كانا يوم بدر على ما هو المتبادر من اختلاف العدد. وعبارة وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا في الآية [125] تنقض بدورها الرواية التي تذكر أن وعد الخمسة آلاف كان يوم أحد وكان مشروطا على صبرهم. لأن العبارة تفيد أن الوعد كان موقوفا على أن يأتيهم العدو ثانية، ولقد روي أن قريشا بعد أن انصرفوا من أحد توقفوا في الطريق وفكروا في الكرّة على المسلمين ثانية. وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فندب الناس إلى لقائهم فاستجابوا له على ما كان فيهم من جروح وحزن من الهزيمة. وكان النبي نفسه مجروحا وساروا حتى بلغوا حمراء الأسد فوجدوا قريشا قد انصرفوا. وقد أشير إلى ذلك في آيات تأتي هي وشرحها بعد. والذي يتبادر لنا ويلهمه نظم السياق أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما ندب المسلمين إلى الخروج بشّرهم بمدد من الملائكة في ثلاثة آلاف. فحكت الآية [124] ذلك ثم

_ (1) انظر الطبري وابن كثير والخازن.

أعقبتها الآية [125] بشرى ربانية مباشرة فيها تأييد للبشرى النبوية مع زيادة بالعدد إذا كرّ عليهم العدو أو لقوه. وإذا صحّ هذا كما نرجو تكون الآيتان وما فيهما من بشرى الله ورسوله بالمدد عائد إلى يوم أحد والله تعالى أعلم. ولقد روى المفسرون «1» أن الآية [128] نزلت لتنبيه النبي حينما قال وقد شجّ رأسه: «كيف يفلح قوم شجّوا نبيّهم» أو حينما كان يختص باللعن بعض قوّاد الحملة مثل أبي سفيان وصفوان بن أمية والحرث بن هشام. أو حينما دعا على مضر بسبب عداء قريش وتعذيبهم للمسلمين المستضعفين الذين لم يستطيعوا الإفلات والهجرة أو حينما دعا على قبائل لحيان ورعل وذكوان وعصية بسبب عدوانهم على جماعة من المسلمين واغتيالهم إياهم غدرا. وباستثناء الرواية الأولى فإن شيئا من الروايات الأخرى لم يرد في الصحاح. والرواية الأولى جاءت في حديث رواه الشيخان والترمذي عن أنس قال: «إنّ رسول الله كسرت رباعيته يوم أحد وشجّ رأسه فجعل يسلت الدم عنه ويقول: كيف يفلح قوم شجّوا نبيّهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله فأنزل الله لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ الآية» «2» . والحديث يقتضي أن تكون الآية نزلت لحدتها. والروايات الأخرى تقتضي أن تكون الآية نزلت لحدتها وفي غير مناسبة أحد. والذي يتبادر لنا أن فيها وفي الآية التي تلتها تعقيبا على الآية [127] وأن جملة لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أسلوبية أو استدراكية. وأنها انطوت على تنبيه من الله تعالى موجه إلى النبي بأنه وإن كان يبشّر المؤمنين بالمدد والنصر ليقطع طرفا من الكفار أو يكبتهم ويذلهم ويردهم خائبين فإنه يظل يحتفظ بالأمر لنفسه وأن الأمر أمره وحده فقد يتوب عليهم وقد يعذبهم. وإذا عذّبهم فإنه يعذّبهم لأنهم ظالمون مستحقون للعذاب. ولا ننفي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال ما جاء في الحديث. وخبر نزول الآية في هذه

_ (1) انظر الطبري وغيره، والطبري أكثرهم استيعابا للروايات التي رويت في صيغ مختلفة وعديدة. (2) انظر التاج ج 4 ص 374.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 130 إلى 136]

المناسبة من كلام الراوي لا من كلام النبي. ومن الجائز أن يكون الراوي ظنّ خطأ أنها نزلت في ذلك أو عنته. والله تعالى أعلم. ولقد روى الطبري أن الآية [127] في قتلى المشركين يوم بدر. كما روى أنها في قتلاهم يوم أحد. والروايات لم ترد في الصحاح. ويتبادر لنا أنها من قبيل التخمين والاجتهاد. ونرجو أن يكون في شرحنا المتقدم الصواب والله تعالى أعلم. وينطوي في الآية [128] على ضوء شرحنا الذي نرجو أن يكون صوابا تلقين مستمر المدى بعدم قطع الأمل في ارعواء بعض الناس إذا وقفوا أحيانا بعض المواقف المنحرفة أو العدائية وأن باب التوبة الذي تظل الآيات تفتحه لجميع الناس من كفار ومنافقين ومجرمين ومحاربين لله ورسوله إلخ يظل مفتوحا إلى الموت على ما شرحناه في سياق تعليقنا على موضوع التوبة في سورة البروج. ولقد آمن غير واحد ممن عاد إلى رسول الله وحاربه وقاد الحملات ضده فتاب عليهم فكان في ذلك مصداق للتنبيه القرآني الرباني. ويلحظ أن الآية [126] قد استدركت ما استدركته آية الأنفال [10] من كون مدّ الله المسلمين بالملائكة وإخبارهم بذلك إنما هو لتطمين قلوبهم وكون النصر في الحقيقة هو من الله. والمتبادر أن حكمة التنزيل شاءت توكيد ما انطوى في آية الأنفال من تلقين على ما نوّهنا به في سياق تفسيرها. [سورة آل عمران (3) : الآيات 130 الى 136] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136) .

تعليق على الآية يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربوا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون (130) وما بعدها إلى آخر الآية [136]

(1) الكاظمين الغيظ: أصل الكظم ملء الوعاء وسده. والمقصد من الجملة أن يمسك المرء على ما في صدره من غيظ ويصبر عليه ولا يظهر أثره. (2) فاحشة: روى الطبري عن السدي أن الكلمة هنا بمعنى الزنا وفي القرآن آيات وردت فيها الكلمة بهذا المعنى حقا. منها آيات النساء [15 و 25] غير أن فحوى الآية وخطورة جريمة الزنا التي عليها حدّ شرعي ولا تذهب بالاستغفار يجعل تأويلها هنا بالزنا في غير محله ويجعل تأويلها الأوجه هو الفعل القبيح العادي. وهذا ما رجحه الطبري أيضا. عبارة الآيات واضحة. وفيها: 1- نهي عن أكل الربا أضعافا مضاعفة. 2- وتوكيد بوجوب تقوى الله وإطاعته وإطاعة رسوله. 3- وتنويه بالمتقين الذين ينفقون أموالهم في أيام الشدائد ويكظمون غيظهم ويعفون عن الناس إذا ما بدر منهم إساءة ما ويذكرون الله إذا ألموا بفاحشة وذنب فيه ظلم لأنفسهم واستغفروه ولم يصرّوا على عملهم. فهؤلاء هم المحسنون الذين يحبّ الله أمثالهم ويقابلهم بالمغفرة ويجعل خلود الجنة لهم جزاء. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وما بعدها إلى آخر الآية [136] ولم يرو المفسرون رواية في مناسبة نزول هذه الآيات إلّا الآية [135] حيث

رووا روايتين في ذلك «1» . ذكر في إحداهما أن واحدا من المسلمين جاءته امرأة تشتري منه تمرا فقال لها في البيت ما هو أجود فلما خلا بها في بيته ضمّها وقبّلها فقالت له اتق الله فتركها ثم داخله خوف وفزع فهام على وجهه ثم أتى رسول الله فاعترف له فنزلت. وذكر في ثانيتهما أن بعض المسلمين قالوا يا رسول الله بنو إسرائيل أكرم على الله منّا فإذا ما أذنبوا وجدوا الكفارة التي يجب أن يكفروها عن ذنبهم مكتوبة على عتبات أبوابهم فكفّروا وزال عنهم الذنب، فلم تلبث الآية أن نزلت، فقال ألا أخبركم بخير من ذلك فقرأها عليهم. والروايات لم ترد في الصحاح وتبدو الآيات جميعها منسجمة متساوقة كأنما هي وحدة تامة. وإلى هذا فالآيات تبدو لأول وهلة فصلا مستقلا لا صلة له بسياق مشاهد وقعة أحد ويبدو وضعه في محله غير مفهوم الحكمة لأن ما قبله وما بعده متصل بمشاهد هذه الوقعة. ولقد احتوت آيات آتية في صدد مشاهد يوم أحد أن من المسلمين من استمع إلى وساوس المنافقين وتذمّر من عدم سماع النبي لرأيه. وأن منهم من عصا النبي وترك المكان الذي عيّنه له في الحرب وأن منهم من لم يستطع كظم غيظه. مما قد يجعل احتمال صلة بين هذه الآيات وبين ما كان من بعض المسلمين أثناء وقعة أحد وبعدها. غير أن النهي عن أكل الربا أضعافا مضاعفة في الآيات لا يبدو متصلا بشيء من ذلك. وعلى كل حال ففي الآيات كما هو المتبادر نهي وموعظة وتنبيه وتنويه في صدد أمور وقعت فعلا قبل نزولها فشاءت حكمة التنزيل الوحي بها ووضعها في موضعها. ولقد روينا في صدد آيات الربا [275- 281] في سورة البقرة أن هذه الآيات من أواخر ما نزل من القرآن. والمتبادر والحالة هذه أن النهي عن أكل الربا أضعافا مضاعفة الوارد في الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها قد نزل قبل آيات

_ (1) انظر تفسير الطبري والطبرسي.

البقرة وأنه الخطوة الثانية في صدد تحريم الربا بعد الخطوة الأولى التي تضمنتها آية سورة الروم هذه وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ ... [39] على ما نبهنا عليه في سياق تفسير هذه الآية ثم في سياق تفسير آيات البقرة. ولقد علقنا بما فيه الكفاية على موضوع الربا ونبهنا على أن مآسيه التي تنطوي في تعبير لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً هي تعليل حكمة تحريم الربا بالمرة في آيات سورة البقرة فلا نرى محلا للإعادة أو الزيادة إلّا رواية أوردها الطبري في سياق الآية الأولى كمثال على مدى جملة أَضْعافاً مُضاعَفَةً جاء فيه: «أنّ الدائن في الجاهلية كان يأتي إلى مدينه فيقول له تقضي أو تزيد فإذا لم يستطع القضاء أجّل الدين سنة وضاعفه. فإذا انقضت السنة ولم يستطع المدين القضاء ضوعف الدين المضاعف لسنة أخرى فيصبح أربعة أضعاف بعد سنتين» مما ينطوي في ذلك صورة مأساوية للربا توضح ذلك التعليل المنطوي في الآية. ويتبادر لنا أن ما احتوته الآيات [134 و 135] من التنويه بالذين ينفقون في أيام الشدائد في سبيل الله ووجوه البرّ ومساعدة المحتاجين ويكظمون غيظهم ويتجملون بالصبر ويعفون عن الناس ويذكرون الله ويستغفرونه حينما يلمون بذنب ولا يصرّون عليه متصل بموضوع الآية الأولى من حيث وجوب معاملة المدينين بالبرّ والتقوى والصبر عليهم والتصدق بما لم يستطيعوا أداءه من دين. وقد احتوت آيات الربا في سورة البقرة وبخاصة الآيتين [280 و 281] شيئا من ذلك. وبالإضافة إلى هذا فإن إطلاق الكلام فيها يجعلها ذات تلقين جليل مستمر المدى في صدد الأخلاق الفاضلة والمواقف الكريمة التي يجب أن يتحلى بها المسلم ويقفها تجاه الله وتجاه الغير في كل ظرف ومكان. وهو ما تكرر بأساليب ومناسبات عديدة في السور المكية والمدنية. ولقد علقنا على هذه الأخلاق والأفعال وأوردنا طائفة من الأحاديث النبوية الواردة فيها والمتساوقة في تلقينها مع تلقين الآيات في السور المفسرة سابقا فنكتفي بهذا التنبيه. مع التنبيه على أمر وهو أن حكمة التنويه في الآيات بالمنفقين في الشدائد ظاهرة. إلا أن ذلك لا يعني بخس أجر وعمل

[سورة آل عمران (3) : الآيات 137 إلى 142]

المنفقين في الأوقات الأخرى بطبيعة الحال. [سورة آل عمران (3) : الآيات 137 الى 142] قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) . (1) ولا تهنوا: بمعنى ولا تضعفوا أو لا تروا في أنفسكم ذلة أو مهانة. (2) قرح: بمعنى الأذى والسوء. قيل إنها هنا بمعنى ما أصاب المسلمين في أحد من جروح وقتل. (3) وليعلم الله، ولما يعلم الله: المتبادر أنهما تعبيران أسلوبيان بمعنى ليظهر الله. (4) وليمحص: ولينقي. أو ليختبر. في هذه الآيات وجّه الخطاب إلى المؤمنين وهي: 1- مقررة أنه قد جرت سنة الله قبلهم في خذل الكافرين والمكذبين وأنه لمن الممكن أن يروا مصداق ذلك في الأمم السابقة إذا ساروا في الأرض وزاروا مساكنها وآثارها وأن القرآن قد احتوى من القصص والأمثال ما فيه البيان الكافي والهدى والموعظة لمن يتقي الله ويؤمن به. 2- وناهية عن أن يهنوا ويحزنوا لما أصابهم. فهم الأعلون على أعدائهم على كل حال. وفي البداية والنهاية على ما جرت سنّة الله وعليهم أن يطمئنوا بذلك

تعليق على الآية قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة ... إلخ وما بعدها لغاية الآية [142] وعلى ما فيها من مشاهد وقعة أحد وخلاصة أحداث هذه الوقعة

كل الطمأنينة إذا كانوا مؤمنين حقا. 3- ومنبهة إلى أنه إذا كان أصابهم أذى وسوء فقد أصاب أعداءهم مثل ذلك أيضا، وأن الأيام دول وسجال بين الناس وأن ما أصابهم في هذا اليوم مما اقتضته حكمة الله حيث أراد أن يختبر الناس ويظهرهم على حقيقتهم ويميّز المؤمنين الصادقين ويكرم بعضهم بالشهادة وينقي نفوسهم ويطهرها فلا ينبغي أن يخطر ببال أحد منهم أنه تخلّى عنهم. فإن الله لا يحبّ البغاة الظالمين ولا بدّ له من محق الكافرين والكذبين وأنه لا ينبغي لهم أن يحسبوا أن دخول الجنة أمر سهل وإنما هو منوط باختبارات يختبر الله بها عباده ويتميز فيها المجاهدون منهم والصابرون بالفعل والبرهان. تعليق على الآية قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ ... إلخ وما بعدها لغاية الآية [142] وعلى ما فيها من مشاهد وقعة أحد وخلاصة أحداث هذه الوقعة وواضح أن أسلوب الآيات هو أسلوب تطمين وتسكين وتسلية وتعزية وتقوية نفس وتهدئة روع وبعث أمل. وقد روى المفسرون أن الآيتين [139- 140] نزلتا حينما ندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بعد وقعة أحد إلى الخروج إلى الكفار الذين بلغه أنهم فكروا في الكرّة على المسلمين على ما ذكرناه قبل كما رووا أنهما نزلتا في تسلية المسلمين عن دوران الدائرة عليهم في وقعة أحد. والرواية الثانية هي الأكثر اتساقا مع فحوى الآيات مع القول إن ما جاء فيها ينسحب على الآيات جميعها لأنها سلسلة منسجمة. ولقد حلّ بالمؤمنين في وقعة أحد آلام وأحزان وضحايا فاقتضت حكمة التنزيل معالجتها بهذه الآيات القوية

النافذة حقا التي من شأنها بعث الطمأنينة والعزاء والأمل في المسلمين. وخلاصة ما روي من وقائع وقعة أحد «1» أن قريشا زحفوا بثلاثة آلاف فيهم 700 دارع ومعهم 200 فرس و 3000 بعير وخمس عشرة امرأة منهن هند زوجة أبي سفيان ليذكرن الرجال بقتلى بدر ويحمسنهم على القتال والثأر. وكان الذين خرجوا مع رسول الله وشهدوا المعركة 700 وقد طمأنهم النبي بتأييد الله ونصره إذا صبروا وثبتوا. وجعل الرماة في مكان عال وشدّد عليهم الوصية بأن لا يغادروا مكانهم مهما جرى، وأن يستمروا على رشق العدو بالنبال من ورائهم وحماية ظهرهم. ثم رتّب الصفوف. ونشب القتال بالمبارزة ثم بالتزاحف فانكشف المشركون وانهزموا لا يلوون على شيء وتبعهم المسلمون يضعون فيهم السلاح حتى أجهضوهم- أبعدوهم- عن معسكرهم، ثم أقبلوا ينتهبون هذا المعسكر. ورأى الرماة ما جرى فظنوا أن المعركة انتهت وتداولوا الأمر في النزول والاشتراك في النهب، فاعترض البعض وقالوا إن هذا مخالف لوصية رسول الله. وتنازعوا ثم ترك أكثرهم مكانه ولم يبق ثابتا إلا ثلاثة عشر بقيادة عبد الله بن جبير ظلوا برمون المشركين بنبالهم. ورأى خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل- وكانا على خيالة قريش- خلو المرتفع من حماته الرماة فكرّا بالخيل على هذه الناحية وقتلوا من بقي من الرماة فيه ثم أتوا المسلمين من ورائهم فانتقضت صفوف المسلمين وانقلبت المعركة ضدهم وأخذوا ينهزمون صاعدين الجبل، ونادى مناد من ناحية قريش: إن محمدا قد قتل، فازداد الذعر والفوضى وانهزم معظم المسلمين لا يلوون على شيء. وقد ثبت النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وغيرهما من أصحابه في الميدان. وسقط في حفرة فكسرت رباعيته وشجّ رأسه ولكنه ظلّ ثابت الجنان يهتف بالمسلمين ويدعوهم إلى العودة فلم يلبثوا أن آب إليهم رشدهم وعادوا إلى النبي

_ (1) انظر ابن هشام ج 3 ص 3- 159، وطبقات ابن سعد ج 3 ص 78- 91، وانظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والخازن وابن كثير.

وكان القتال قد توقف وقد استشهد نحو عشرة من المهاجرين في رواية وأقل من ذلك في رواية، منهم حمزة عمّ النبي ومصعب بن عمير الذي أرسله رسول الله إلى المدينة بعد اتفاقه مع أهلها قارئا وإماما وداعيا وكان صاحب راية رسول الله يوم أحد، ونحو سبعين من الأنصار رضي الله عنهم جميعا. وكان قاتل حمزة حبشيا مملوكا اسمه وحشي عند جبير بن مطعم فوعده بالعتق إن هو قتل حمزة ثأرا لعمه طعمة الذي قتل في بدر. وكان وحشي ماهرا برمي الحربة ففعل. وروي أن هند زوجة أبي سفيان كانت من المحرّضات له ثأرا لأخيها وأبيها وابن لها قتلوا في بدر أيضا، ومما روي أنها بقرت بطن حمزة وأخذت قطعة من قلبه أو كبده ولاكتها. وكان عدد قتلى قريش 23 فيهم بعض الصناديد. وقد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا منهم هو أبيّ بن خلف الجمحي حيث هاجم النبي وقال له سأقتلك، فقال له: بل أنا الذي أقتلك، ثم رماه بحربة كسرت أضلاعه وما لبث أن هلك. ومما روي من صور بطولات المخلصين في المعركة أن عمّ أنس بن مالك كان غاب عن بدر فقال: «لئن أشهدني الله مع النبي يوما ليرينّ منّي ما أحبّ، فجاهد يوم أحد فلما انهزم الناس قال اللهمّ إني أعتذر إليك ما صنع المسلمون وأبرأ إليك مما جاء به المشركون ثم تقدم فما زال يقاتل حتى قتل وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية سهم» . وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد بسبعة من الأنصار ورجلين من المهاجرين فلما رهقه المشركون قال من يردّهم وله الجنّة أو هو رفيقي في الجنّة فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل ثم تقدم أخر فقاتل حتى قتل ثم أخذ الآخرون يتقدمون واحد بعد آخر دون رسول الله حتى قتلوا. وأن أبا طلحة وكان رجلا راميا شديد النزع فقام على رأس رسول الله، فيما انهزم الناس وأخذ يرمي بسهامه حتى كسر قوسين أو ثلاثة. والنبي يقول لمن يمرّ عليه بحجفة من النبل انثرها لأبي طلحة. ولقد أشرف النبي على الناس فقال له أبو طلحة بأبي أنت وأمي لا تشرف. يصبك سهم ونحري دون نحرك. وروى الطبرسي عن الإمام أبي جعفر أن عليا رضي الله عنه أصابه يوم أحد ستون جرحا فعالجته أم عطية بأمر

رسول الله وكان رسول الله والمسلمون يعودونه وكان عليّ يقول الحمد لله لم أفرّ ولم أول الدّبر. ومما روي أن أبا سفيان هتف: أفي القوم محمد؟ ثلاث مرات فأمر النبي بأن لا يجيبوه. ثم هتف: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ ثم هتف: أفي القوم ابن الخطاب؟ فلما لم يسمع جوابا قال لقومه أما هؤلاء فقد قتلوا وكفيتموهم. فما ملك عمر نفسه أن قال كذبت يا عدوّ الله إنهم لأحياء كلّهم وقد بقي لك ما يسوءك. كذلك مما روي أن أبا سفيان هتف (يوم بيوم بدر) والحرب سجال وستجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني. ثم أخذ يرتجز (اعل هبل. اعل هبل) فردّ عليه المسلمون بأمر النبي (الله أعلى وأجلّ) وهتف (لنا العزّى ولا عزّى لكم) فأجابوه (الله مولانا ولا مولى لكم) . ومما روي أن قريشا ندموا لعدم استئصال المسلمين وفكروا في الكرة عليهم، وعلم النبي بذلك فندب المسلمين إلى الخروج فاستجابوا له وخرجوا رغم ما كان ألمّ به وبهم من جروح وتعب وحزن فوصلوا مكانا اسمه حمراء الأسد فوجدوا قريشا قد انصرفوا. وفي الآيات التالية إشارات عديدة تؤيد صحة كثير مما جاء في هذه المرويات التي ورد كثير منها في صحيح البخاري ومسلم أيضا «1» . ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها جديرة أن تكون منبع قوة روحية مستمرة ينهل منه المسلمون المخلصون في كل زمن ومكان، يقع عليهم مثل ما وقع على المسلمين في يوم أحد، فيردّ عنهم شعور الفزع واليأس ويمدهم بالتأييد الذي يحفزهم على مقابلة الموقف بما يقتضيه من النشاط والتفاني. ولقد كان ثبات النبي صلى الله عليه وسلم في الميدان وشجاعته ورباطة جأشه وهو ما أيدته الآيات التي تأتي بعد قليل رغم ما أصابه من جروح ورغم انهزام معظم جيشه موقفا لائقا بالعظمة النبوية. وكان فيما هو المتبادر العامل الأقوى في وقوف كفار قريش

_ (1) انظر التاج، ج 4 ص 77 و 372- 374.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 143 إلى 148]

عند الحد الذي وقفت عنده المعركة على كثرة عددهم وقوة عددهم حيث عاد المنهزمون وانضووا إليه وتجلّدوا وتماسكوا أمام عدوّهم القوي. وقد تجلّت مثل هذه العظمة في خروجه على رأس المسلمين للقاء هذا العدو الذي قيل إنه كان يفكر في الكرة. وفي هذا وذاك أروع الأمثلة وأقوى الأسوة لزعماء المسلمين وقادتهم الذين يجب أن يكون لهم في رسول الله الأسوة الحسنة. [سورة آل عمران (3) : الآيات 143 الى 148] وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) . (1) ربّيون: قيل إنها من ربا يربو بمعنى كثر وأن الكلمة بمعنى جموع كثيرة وقيل إنها نسبة إلى الربّ ومعناها عباد الله المخلصون أو أتباع رسل الله المخلصون. (2) وما استكانوا: وما ذلّوا وتخاذلوا واستسلموا للمسكنة. (3) وإسرافنا: ما أوغلنا فيه من الأخطاء. وفي هذه الآيات وجّه الخطاب أيضا إلى المسلمين: 1- مقررة بأنهم كانوا يتمنون الموت في سبيل الله قبل نشوب القتال. وقد تحققت أمنيتهم ونشب القتال ولا قى بعضهم الموت فليس في هذا أمر مفاجىء لهم.

تعليق على الآية ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون (143) والآية: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ... وما بعدهما إلى الآية [148]

2- ومنبهة بأن محمدا ليس إلّا رسول من رسل الله جاء قبله رسل كثيرون وهو معرّض كسائر البشر للموت أو القتل، وكان ذلك أمر الرسل السابقين له. فلم يكن يصح أن ينقلبوا على أعقابهم ويتخاذلوا وينهزموا إذا حلّ فيه ما هو طبيعي ومعرض له وبأن الله لن يأبه لمن ينقلب على عقبيه في مثل هذه الحالة ولن يضرّ الله هذا شيئا وبأن الله مجزي الشاكرين الصابرين أحسن الجزاء وبأن لكل نفس أجلا معينا عند الله لا تموت إلّا به وبأن من قصر نيته وهمّه على الدنيا نال نصيبه منها وانتهى أمره عند هذا الحدّ. ومن رغب في الآخرة وسعى لها أناله الله ثوابه وهو مجزي الشاكرين الصابرين. 3- ومذكرة بما كان من أمر الأنبياء قبله، فكثير منهم قاتلوا وقاتل معهم أتباعهم من عباد الله المخلصين وأصيبوا بالأذى والسوء فصبروا ولم يهتموا ولم يضعفوا لما أصابهم في سبيل الله ولم يتخاذلوا ولم يستكينوا. وكل ما كان منهم أن طلبوا من ربهم غفران ما قد يكون وقع منهم من ذنوب والتجاوز عما قد يكون بدا منهم من تقصير في جانب الله وحقه، وتثبيت أقدامهم ونصرهم على أعدائهم الكفار، فكان من الله أن استجاب دعاءهم فآتاهم ثواب الدنيا بالنصر والتأييد وثواب الآخرة بالرضا والغفران. وهكذا قابلهم الله على إحسانهم وهو الذي يحبّ المحسنين. تعليق على الآية وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) والآية: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ... وما بعدهما إلى الآية [148] المتبادر من فحوى الآيات جملة أنها استمرار للسياق السابق لها. ويمكن أن تكون قد نزلت معه أو نزلت بعده تتمة له. وهي موجهة للمسلمين وتضمنت عتابا لهم وتنبيها وتذكيرا وتمثيلا بالمخلصين السابقين من عباد الله وأتباع رسله الذين

كانوا يقاتلون معهم دون ضعف ولا استكانة دون أن يتأثروا بما أصابهم في القتال من أذى وشدّة، وأسلوبها قوي نافذ كسابقاتها. واستهدفت ما استهدفته من معالجة الحالة الروحية التي ألمّت بالمسلمين تأثرا من وقعة أحد ونتائجها. ولقد روى الطبري أن الآية الأولى نزلت في أناس كانوا غائبين عن بدر. فكانوا يتمنون يوما مثله فكانوا من المنهزمين يوم أحد فعوتبوا بالآية والرواية لم ترد في الصحاح. والمتبادر أن قصارى الذين كانوا غائبين عن بدر وتمنوا لو شهدوها وشهدوا غيرها أن لا يكونوا أكثر من أفراد في حين أن الخطاب عام وأن الذين انهزموا واستحقوا العتاب كانوا أكثر المشتركين في المعركة. ولذلك نتوقف في الرواية ونرى في الآية دليلا مؤيدا لما خمنّاه من أن الذين كانوا إلى جانب الخروج للقاء العدو ومتحمسين كانوا أكثر المسلمين المخلصين من مهاجرين وأنصار. ولقد روى الطبري أن الآية الثانية هي في صدد ما كان من مواقف المسلمين حينما شاع خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال بعضهم لو كان نبيا لما قتل ودعا بعضهم إلى العودة إلى دين الآباء. ودعا بعضهم إلى أخذ الذمة من أبي سفيان قائد المشركين، ثم انهزم هؤلاء فدبّ الذعر في صفوف المسلمين فكانت الهزيمة. والرواية لم ترد في الصحاح كذلك. وأسلوب الآية عام يتبادر منه أنها تتمة للعتاب الذي احتوته الآية الأولى للذين انهزموا. ولقد أورد القاسمي في سياق الآية الأولى حديثا رواه البخاري أيضا عن عبد الله بن أبي أوفى جاء فيه: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظر في بعض أيامه التي لقي فيها العدوّ حتى مالت الشمس ثم قام في الناس فقال: أيّها الناس لا تتمنّوا إلقاء العدوّ وسلوا الله العافية فإذا لقيتموه فاصبروا، واعلموا أن الجنّة تحت ظلال السيوف. ثم قال: اللهمّ منزّل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم» . ولقد أورد الخازن في سياق جملة وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) حديثا رواه الخمسة عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّما الأعمال بالنّيات وإنما لكلّ امرئ ما

نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» . وفي الحديث تنبيه وتأديب وتحذير. فالله تعالى يعلم نيّة كل امرئ في ما يقدم عليه. ولا يشكر إلّا الذين خلصت نياتهم له وفي سبيله. وإذا ظنّ امرؤ أنه قد يخدع الناس بتظاهره خلافا لما بيّته في نفسه فليس بخادع الله تعالى. والجملة القرآنية مما تكرر مثالها في آيات عديدة منها آية سورة هود [15] وآية سورة الإسراء [18] وآية سورة الشورى [20] . وقد روى الطبري عن الإمام أبي جعفر أن جملة وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) هي في حق علي رضي الله عنه الذي جرح ستون جرحا في أحد وكان يقول الحمد لله لم أفرّ ولم أولّ الدبر. وجهاد علي رضي الله عنه وثباته معروفان ولا شك في أنه مستحقّ عليهما شكر الله تعالى. ولكن في صرف الجملة له وحده تعسفا لأن فحواها مطلق شامل لجميع من شكر الله وقام بواجبه قياما حسنا. هذا، والآيات مع خصوصيتها جديرة بأن تكون كسابقاتها منبع قوة لا ينضب ينهل منه المؤمن المخلص في كل ظرف مماثل ويستمد منه القوة والجرأة والإقدام على كل تضحية في سبيل دين الله ومبادئه السامية. والآية الثانية بخاصة عظيمة التلقين والمدى. فالنبي صلى الله عليه وسلم بشر كسائر البشر معرّض للموت والقتل. وعلى المسلمين أن يحملوا الواجب الذي حملهم إيّاه القرآن وهو الاستمساك برسالته ونشرها والدفاع عنها، وبكلمة أخرى القيام بمهمة النبي الدينية والدنيوية إذا ما مات أو قتل ولا يجوز أن يتخاذلوا في ذلك وينقلبوا على أعقابهم. وسواء أكان ذلك في أثناء الحرب أم في الظروف الأخرى. ولقد ذهل الناس حتى عمر بن الخطاب رضي الله عنهم حينما توفي النبي صلى الله عليه وسلم فأمدت هذه الآية الرائعة أبا بكر رضي الله عنه بالقوة التي ساعدته على الوقوف موقفه الرائع والهتاف بالناس بعد أن تلاها عليهم: من كان يعبد محمدا فإن محمدا الجزء السابع من التفسير الحديث 16

[سورة آل عمران (3) : الآيات 149 إلى 154]

قد مات. ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت «1» . فثابوا إلى وعيهم واستمسكوا بحبل الله ورسالة نبيه ودافعوا عنها وقاموا بواجبهم في نشرها في مشارق الأرض ومغاربها وكانوا نعم الأسوة الحسنة لمن يأتي بعدهم من المسلمين. [سورة آل عمران (3) : الآيات 149 الى 154] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154) . (1) إذ تحسّونهم: إذ تمعنون فيهم قتلا.

_ (1) انظر ابن هشام ج 4 ص 334 و 335.

(2) إذ تصعدون: قرئت بفتح التاء وضمها. ومعناها في الجملة الأولى من الصعود إلى الجبل. وفي الثانية من الإصعاد وهو الهبوط أو السير في مستوى الأرض وبطون الأودية. وهناك من قال إنها هنا أيضا بمعنى الصعود إلى الجبل. والروايات تذكر أن النبي نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي وجعل ظهره وعسكره إلى أحد. فإذا كان هذا المنزل كان بين المدينة وأحد فتكون الكلمة من الإصعاد وإذا كان من وراء الجبل فتكون من الصعود. (3) يدعوكم في أخراكم: يناديكم من ورائكم وأنتم منهزمون. (4) أثابكم غمّا بغمّ: قالوا إن فعل (أثاب) في أصله بمعنى جزى وكافأ. وإنه يستعمل في الجزاء الحسن والسيء على السواء. وإن كان استعماله في الحسن أكثر. وهنا في معناه الأصلي. وقيل في الجملة إنها بمعنى أصابكم بغمّ مقابل الغمّ الذي أصاب عدوّكم يوم بدر فكانت واحدة بواحدة. وقيل إنها بمعنى أصابكم أو جازاكم بغمّ بعد غمّ وهو خبر قتل النبي صلى الله عليه وسلم ثم ما كان من قتل في المسلمين وهزيمتهم. وقيل إنها بمعنى جازاكم بغمّ القتل والهزيمة على ما سببتموه للنبي من غمّ بعصيان أمره والمعنى الأول للتهوين. ولعلّه يتسق أكثر مع الجملة التي أتت بعده هذه الجملة لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ والمعنى الثالث قوي الورود أيضا. (5) ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا: ثم سلّط عليكم بعد الغمّ الذي حلّ فيكم من الهزيمة نعاسا تشعرون معه بالأمن والسكينة. (6) لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم: لخرج الذين كتب عليهم القتل إلى المكان الذي قدر عليهم أن يموتوا فيه حينما يكون أجلهم قد أتى ولا يمنع ذلك أن يبقوا في بيوتهم. (7) وليبتلي الله ما في صدوركم: ليختبر الله وليظهر ما في قلوبكم. (8) وليمحص ما في قلوبكم: ليصفي ويطهّر ما في صدوركم.

في الآيات خطاب موجه للمسلمين: 1- حذروا به من استماع أقوال الكفار وإطاعتهم لأنهم إن فعلوا ذلك ردوهم عن إيمانهم فانقلبوا خاسرين. 2- وطمئنوا به بأن الله مولاهم وناصرهم دائما وهو خير الناصرين وبأنه سيلقي الرعب في قلوب الكفار بسبب إشراكهم مع الله شركاء ما أنزل بهم من سلطان وبأنه أعدّ لهم في الآخرة مأوى بئس هو من مأوى للظالمين أمثالهم. 3- ودلّل به لهم على ذلك بما كان من ظروف معركة أحد في أول أمرها: فقد صدقهم الله وعده بنصرهم فمكّنهم من عدوهم وجعلهم يمعنون فيهم قتلا. وأراهم ما أحبوا من النصر. وإذا كان الموقف انقلب ضدهم فلم يكن ذلك إلّا بسبب تخاذلهم وقلّة صبرهم وعصيانهم أمر الرسول وتنازعهم. وانقسامهم إلى فئتين واحدة منهما كان همّها الدنيا بينما كان همّ الأخرى الآخرة. وقد كان نتيجة ذلك أن انهزموا مصعدين لا يلوون على شيء والرسول يهتف بهم من ورائهم ويدعوهم إلى الرجوع إليه. 4- وسكّن به مع ذلك روعهم. فلقد كان ما كان من صرف النصر عنهم اختبارا من الله عزّ وجلّ. ومقابلة عاجلة على ما بدا منهم من تقصير وعصيان وفشل ونزاع. ولقد شملهم الله مع ذلك بعفوه وفضله وهو ذو الفضل على المؤمنين حتى لقد كان من مظاهر ذلك أن ألقى الأمن والسكينة في قلوبهم فأخذهم النعاس وهو لا يغشى إلّا الآمن المطمئن. وكل هذا حتى لا يحزنوا ولا يجزعوا على ما فاتهم من نصر ولا ما أصابهم من هزيمة. 5- وندّد بفريق منهم أهمّتهم أنفسهم همّا عظيما ولم يذعنوا لقضاء الله ويسلموا لحكمه وحكمته فيما جرى مندفعين في ذلك وراء الظنون والخواطر الجاهلية التي تتناقض مع الإيمان بالله متسائلين عما إذا كان من الحق أن لا يقام لهم وزن ولا يكون لهم رأي في الموقف كاتمين في صدورهم خواطر مريبة أخرى لا يجرؤون على إظهارها قائلين إنهم لو كان لهم في الموقف رأي وفي الأمر

تعليق على الآية يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين (149) وما بعدها لغاية الآية [154] وما فيها من مشاهد وقعة أحد

والتدبير كلمة مسموعة لما قتل الذين قتلوا منهم ولما كانت الهزيمة التي حلّت بهم. 6- وتنبيه لهؤلاء خاصة بأن عليهم أن يعلموا أن الأمر كله لله وأن الطاعة له وحده وأن موت من مات إنما كان بالأجل الذي ليس فيه تقدم ولا تأخر وأن الناس لو ظلوا في بيوتهم ولم يخرجوا إلى المعركة لما كان من معدى عن خروج الذين قتلوا بأي حال وسبب حتى يموتوا في الأماكن التي قتلوا فيها وأن الله عليم بكل ما يدور في صدورهم. وأنه قضى بما قضى ليختبر ما في هذه الصدور حتى يظهر ويعرف الناس بعضهم بعضا على حقائقهم وليطهر قلوب المؤمنين وينقيها. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) وما بعدها لغاية الآية [154] وما فيها من مشاهد وقعة أحد وقد روى المفسرون «1» أن الآية [149] نزلت في المنافقين الذين قالوا للمؤمنين ارجعوا إلى إخوانكم أو ارجعوا إلى دينهم أو كفّوا عن القتال. وأن الآية [151] نزلت في قريش الذين توقفوا في الطريق ولاموا أنفسهم على تركهم المسلمين دون أن يستأصلوهم مع أنهم لم يبق منهم إلّا الشريد ثم عزموا على الكرة فألقى الله الرعب في قلوبهم وجعلهم ينكصون عن عزيمتهم. والمتبادر أن الآيات وحدة مترابطة وأنها استمرار للسياق السابق وقد نزلت جميعها مع جميع الآيات الأخرى بعد انتهاء المعركة. وهذا لا ينفي أن يكون للرواية الأولى أصل ما وأن يكون بعض كفار قريش

_ (1) انظر تفسير الطبرسي والخازن.

أو بعض منافقي المدينة أو عزوا إلى أقاربهم من المخلصين بالانقضاض من حول النبي، وقد ألمّ بهم ما ألمّ من هزيمة ومصيبة فاحتوت الآية الأولى إشارة إلى ذلك وتحذيرا من الاستماع إلى الكفار وما في ذلك من خسران في معرض ما احتوته الآيات من تطمينات وتنبيهات. وكذلك يقال بالنسبة للرواية الثانية أيضا. ولقد روينا قبل أن قريشا ندموا على الرجوع قبل استئصال المسلمين وفكروا في الكرة وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه ذلك ندب المسلمين إلى الخروج للقائهم ووصل إلى مكان اسمه حمراء الأسد فوجد المشركين قد انصرفوا «1» . وكان ذلك رعبا وخوفا حينما بلغهم أن النبي هو الذي سارع إليهم على رأس المسلمين رغم ما أصابهم بدلا من أن يخافوا من كرّتهم. ولقد احتوت الآيات بعض مشاهد المعركة وهي متوافقة إجمالا مع ما ذكرته الروايات ورويناه في سياق تفسير الآيات [137- 142] وهو ليس بقصد السرد القصصي وإنما بقصد العتاب والتأنيب للذين انهزموا وتذمروا وجزعوا وعصوا أمر رسول الله وتنازعوا وتخاذلوا بعد أن كان الله قد حقّق لهم وعده ونصرهم في الجولة الأولى ثم بقصد تحذيرهم من طاعة الكفار وتصديقهم. ولقد أوّل المؤولون جملة يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ بمعنى أنهم ظنوا كظنّ المشركين أن الله لن ينصر رسوله خلافا لما وعده به من النصر لأن النبي في قلّة والمشركين في كثرة. وهو في محلّه. ولقد روى المفسرون في سياق جملة ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ حديثا عن أبي طلحة رواه البخاري والترمذي أيضا جاء فيه: «كنت ممن تغشّاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مرارا. يسقط وآخذه. ويسقط وآخذه. وزاد الترمذي والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم همّ إلّا أنفسهم. أجبن قوم وأرغبه وأخذله للحقّ» «2» . وحديثا آخر عن أبي طلحة رواه

_ (1) انظر تفسير الطبري للآية. (2) . التاج ج 4 ص 75 و 76. [.....]

الترمذي جاء فيه: «رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر وما منهم يومئذ أحد إلّا يميد تحت حجفته من النعاس فذلك قول الله ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ» » . ونحن نتوقف في التسليم بأن الطائفة الأخرى هم المنافقون على ما جاء في الزيادة التي يرويها الترمذي في الحديث الأول برغم أن جمهور المفسرين أخذوا بذلك. وتوقفنا هو استلهام من روح الآيات ومضمونها. ونرجح أنهم فئة من المخلصين الذين اشتدت عليهم المصيبة والجزع. وربما كانوا ممن استشهد أقاربهم في الوقعة. ويؤيد توقفنا وترجيحنا أن الروايات ذكرت أن المنافقين انسحبوا ولم يشهدوا المعركة على ما ذكرناه قبل. وقد أيدت هذا الآيات [167 و 168] التي تأتي بعد قليل بقوة أكثر من الرواية لأنها حكت دعوة المنافقين إلى القتال وعدم تلبيتهم وقولهم لو نعلم قتالا لا تبعناكم. وهناك دليل آخر على كون هذه الفئة هي من غير المنافقين وهو منطو في الآيات [156- 159] التي تأتي بعد قليل أيضا. ولعل الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها أي [149] التي فيها تحذير للمؤمنين من طاعة الكفار والاستماع إليهم تصحّ أن تكون دليلا آخر على ذلك أيضا. وفي جملة يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ أيضا قرينة أخرى. فلو كانوا منافقين لما عوتبوا على ظنهم بالله غير الحق لأن هذا من ديدنهم. وواضح أن الآيات كسابقاتها بسبيل معالجة الحالة المريرة التي نتجت عن هزيمة أحد. وما أصاب المسلمين فيها من خسائر في الأرواح والجراحات بما فيها من تطمين وتنبيه وتأديب ثم من تحذير من المنافقين والكفار والغلوّ من اليأس أو الانحراف إلى ما لا يليق بالمؤمن المخلص تجاه الله عزّ وجلّ. ومع خصوصيتها الزمنية فإن فيها تلقينا مستمر المدى لكل مسلم في كل موقف مماثل وبخاصة في وجوب عدم الاستماع إلى وساوس الكفار والمنافقين الذين يغتنمون فرصة الظروف والحالات التي يكون المسلمون فيها أمام مواقف

_ (1) التاج، ج 4 ص 75 و 76. والحجفة: محركة آلة من آلات الحرب.

تعليق على تعبير الجاهلية

حرجة وأزمات خطرة فيتقدمون إليهم بأسلوب النصح الذي يكون كالسمّ في الدسم. وفيها في الوقت نفسه معالجة روحية وقوة نافذة من شأنها أن تمدّ المؤمن بالجرأة والصبر وإيثار ما عند الله على حطام الدنيا في كل موقف مماثل. ولقد استطرد بعض المفسرين إلى مسألة القدر في مناسبة جملة قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ولقد كتبنا تعليقا مسهبا على هذه المسألة في سورة القمر فنكتفي بهذا التنبيه مع القول إن الجملة هنا هي في صدد معالجة الموقف والله تعالى أعلم. تعليق على تعبير الْجاهِلِيَّةِ وهذا التعبير يرد هنا لأول مرة. ولقد ورد في آيات أخرى، منها ما جاء في مقام مماثل لما ورد فيه هنا وذلك في آية سورة الفتح [26] : إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ ومنها ما جاء في معنى الحكم الذي لا يستند إلى حقّ وشرع وكتاب من الله وذلك في آية سورة المائدة هذه: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) ومنها ما جاء في معنى الدور الذي سبق الإسلام وذلك في الآية [33] من سورة الأحزاب: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى. وأصل الكلمة اشتقاق من فعل (جهل) الذي هو في الغالب ضد (علم) والذي يأتي في الاستعمال العربي المتواتر في معان عديدة أخرى لا تبعد عن معنى الجهل ومظاهره. مثل التطاول على الغير وارتكاب الموبقات والتسرع والرعونة وعدم التروي وعدم النضج والانفعال النفساني والعاطفي. ومن ذلك خطاب يوسف لإخوته المحكي في الآية [89] من سورة يوسف: قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ وآية الحجرات هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) . ومنها البيت المشهور:

[سورة آل عمران (3) : آية 155]

ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا ومنها حديث خاطب به النبي صلى الله عليه وسلم فيه أبا ذرّ في موقف غضب له: «إنّك امرؤ فيك جاهلية» «1» . والراجح أن التعبير في المقام الذي نحن في صدده من هذا الباب. وأنه كان مستعملا قبل الإسلام في مثل هذه المقامات. وأما ما هو مشهور من إطلاقه على زمن ما قبل البعثة هو إطلاق قرآني بقصد وصف عدم ارتكاز تقاليد أهل ذلك الزمن على شرع وهدى ربانيين. إذ لا يعقل أن يكون أهل ذلك الزمن أطلقوه على أنفسهم. والله تعالى أعلم. [سورة آل عمران (3) : آية 155] إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) . (1) استزلّهم: أوقعهم في الزلّة والخطيئة. في الآية تقرير بأن الذين انهزموا حينما التقى المسلمون والكفار إنما أوقعهم الشيطان في هذه الزلّة بسبب ما اقترفوه من الخطايا. وبشرى بأن الله قد عفا عنهم مع ذلك فإنه غفور للذنوب حليم متسامح مع عباده. تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ (1) الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يتبادر لنا أن المؤمنين الذين فروا من المعركة قد خافوا مغبة ذلك. ولا سيما

_ (1) انظر مادة (جهل) في الجزء الأول من «أساس البلاغة» للزمخشري، وانظر الجزء الأول من كتاب «بلوغ الأرب» ص 15- 17.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 156 إلى 158]

أن آيات الأنفال [15- 16] قد نهتهم عن الفرار. وأنذرتهم إنذارا قاصما على ما شرحناه في سياقها. كما أن آية الأنفال [45] قد أمرتهم بالصبر والثبات. ولقد علم الله إخلاصهم وما أصابهم من خسائر في الأرواح وجروح في الأجساد وحزن وجزع فاقتضت حكمته أن يغفر لهم زلّتهم وأن يبشرهم بهذه البشرى تهدئة لروعهم وتضميدا لجراحهم وأن يكتفي بما وجهه إليهم في الآيات من عتاب وتأنيب وتحذير وتنبيه. وفي ذلك ما فيه من معالجة ربانية جليلة للموقف العصيب وتأميل في عفو الله وحلمه وغفرانه في كل موقف مماثل إذا لم تشبه شائبة من سوء نية وخبث طوية. ولقد قال المفسرون في صدد جملة بِبَعْضِ ما كَسَبُوا إنها تعني عصيان رسول الله وحبّ الغنيمة وكراهية الموت. ولا يخلو هذا من وجاهة متصلة بظروف ما وقع يوم أحد. [سورة آل عمران (3) : الآيات 156 الى 158] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) . (1) ضربوا في الأرض: خرجوا للسياحة أو التجارة. (2) غزّى: جمع غاز. وفي هذه الآيات: 1- تحذير للمؤمنين بأن لا يكونوا كالكفار الذين ينسون الله وقضاءه وحكمته ويقولون لمن يخرج غازيا أو سائحا أو تاجرا فيموت أو يقتل: إنه لو لم يخرج لما مات أو قتل.

تعليق على الآية يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى ... إلخ والآيتين التاليتين لها

2- وتقرير بأنه من وراء مثل هذه الأقوال إلّا الحسرة وليست هي من الحق والحقيقة والإيمان في شيء. فالمحيي والمميت هو الله. ولكلّ نفس أجل معين لا تتقدم ولا تتأخر عنه. 3- وتنبيه للمؤمنين بأن من الواجب عليهم أن يعلموا بالإضافة إلى ما تقدم أن القتل والموت في سبيل الله ليسا مصيبة تستوجب الحسرة والجزع وأن فيهما من مغفرة الله ورحمته ما يفوق كل ما يجمعه الجامعون من حطام الدنيا وأيامها. وأن مصير الناس إلى الله في كل حال ولا معدى عن ذلك سواء أماتوا موتا طبيعيا أم ماتوا قتلا. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى ... إلخ والآيتين التاليتين لها والآيات كذلك استمرار للآيات السابقة سياقا وموضوعا وهدفا، وجمهور المفسرين «1» يقولون ومنهم من يعزو القول إلى تابعين وتابعي تابعين أن المراد من جملة كَالَّذِينَ كَفَرُوا هم المنافقون ومنهم من يخصّ بالذكر كبيرهم عبد الله بن أبي. وفي آية تأتي بعد قليل نسب مثل هذا القول إلى المنافقين صراحة حيث يكون صرف الكلام إلى المنافقين هنا في محلّه. وفحوى الآية الأولى يدلّ على أن هذا القول مما كان يصدر من المنافقين قبل وقعة أحد وكلّما مات أو قتل أحد من أقاربهم ومعارفهم في غزوة أو سفرة في سبيل الله وطاعته، إما على سبيل الشماتة أم على سبيل التعطيل والصدّ. ويدل كذلك على صحة ما قلناه قبل قليل من أن المتذمرين الذين حكت الآية [154] أقوالهم ومن جملتها لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ

_ (1) انظر الطبري والطبرسي والخازن والبغوي وابن كثير.

[سورة آل عمران (3) : آية 159]

شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا هم من المؤمنين المخلصين وقد وجّه الكلام في هذه الآيات إليهم على سبيل التأنيب والعظة ومعالجة الحالة الروحية التي ألمّت بهم نتيجة لآلام الوقعة ووسوسة المنافقين. ومع خصوصية الآيات الزمنية فهي كسابقاتها مستمرة التلقين لكل مسلم في كل ظرف بوجوب عدم التشبه بالكفار والمنافقين والاندماج في دسائسهم والاستماع إلى وساوسهم المؤدية إلى الانحراف عن الإخلاص لله تعالى والجهاد والتضحية في سبيله. ومن شأنها أن تمدّ المؤمن المخلص بالصبر والرضا والتسليم لحكمة الله والجرأة والإقدام وإيثار ما عند الله على حطام الدنيا ومتاعها. [سورة آل عمران (3) : آية 159] فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) . (1) فبما رحمة: الجمهور على أن (ما) هنا زائدة وأن الجملة بمعنى فبرحمة من الله. تعليق على الآية فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ... إلخ وأمر الشورى في الإسلام الآية متصلة بالسياق ومعقبة على ما جاء في الآيات السابقة كما هو المتبادر. وعبارتها واضحة. وفيها وصف لموقف النبي صلى الله عليه وسلم مما بدا من بعض المخلصين من أقوال وتذمر ومرارة وحسرة. فقد وسعهم بحلمه الذي جبله الله عليه فكظم غيظه وعاملهم باللين والرقة. وقد احتوت تنويها بهذا الموقف الكريم وإقرارا له وبيانا لما كان يمكن أن ينتج في مثل هذا الظرف الذي ثارت فيه النفوس وغلت الأفكار

وهاجت وغلبت عاطفة الحسرة والندم والتذمر لو كان فظا غليظ القلب حيث كان من الممكن أن ينفضوا من حوله. وأمرا بما هو أكثر من ذلك وهو العفو عنهم واستغفار الله لهم ومشاورتهم في الأمر. وتتجلّى في الفقرة الأولى صورة رائعة للخلق النبوي الكريم من لين وعدم فظاظة وقسوة قلب مما كان متحليا به من قبل وكان من دون ريب من أسباب اصطفاء الله له للرسالة العظمى واللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سورة الأنعام [124] والذي انطوى في التقرير التنويهي في جملة وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ سورة القلم [4] مما علّقنا عليه في سياق تفسير السورتين تعليقا يغني عن التكرار. وينطوي في الآية علاج قوي محبب وشاف لثورة النفوس وهياج الأفكار وغلبة العواطف مما كان من آثار يوم أحد. ومما لا شك فيه أن هذا العلاج قد آتى نفعه فهدّأ النفوس والأفكار وطمأنها بالنسبة للموقف الحاضر والمواقف المستقبلة معا. والآية كما قلنا قبل تنطوي على دلالة على أن المتذمرين الذين قالوا هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ ولَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا على ما حكته الآية [154] كانوا من المخلصين وليسوا من المنافقين كما هو واضح من روحها ومضمونها وتلقينها. ومع خصوصية الآية الموضوعية والزمنية فإن فيها تلقينا جليلا مستمر المدى. فالذي يختار لرئاسة المسلمين وكل زعيم وحاكم فيهم يجب أن يكونوا متصفين باللين والرقة. بعيدين عن الجفاء والغلظة والقسوة. مدركين لمقتضيات المواقف. واسعي الصدر والحلم إزاء استفزاز المستفزين عن جهل أو خبث طوية ولا سيما في الظروف الحرجة والأزمات العصيبة. وعليهم فوق ذلك أن لا يستبدوا بالرأي والعزائم بل يشاوروا أهل العلم والرأي والمكانة والخبرة والعقول الراجحة قبل أن يضطلعوا بمسؤولية السير فيما يعتزمون أن يسيروا فيه. وأن لا يسيروا إلّا بعد نضوج الرأي وتبين أصحّ الوجوه وأصلحها وأكثرها اتساقا مع الظروف القائمة

ومصلحة المسلمين العامة. وكل مخالفة أو إهمال لأي من ذلك هو مخالفة وإهمال للتلقين الذي انطوى في الآية. وروح الآيات ومضمونها يحددان أولا واجب كل من الرئيس أو الزعيم أو الحاكم أو المستشار. فللمستشار أن يبدي رأيه، وللرئيس والزعيم والحاكم أن يضطلعوا بمسؤولية اختيار أصحّ الآراء وأفضلها وبمسؤولية المبادرة والتنفيذ. ويوجبان ثانيا على الرئيس والزعيم والحاكم الاستشارة في كل أمر وعزيمة. ويوجبان ثالثا التوسع في الاستشارة بحيث لا يهمل أي فريق من الجماعات التي يتألف منها المجتمع الإسلامي. ويلهمان رابعا إقرار حقّ الاعتراض لأصحاب الشأن والرأي والعلم إذا ما رأوا ما يوجب ذلك من خطط وعزائم. ويوجبان خامسا على أولياء الأمور توسيع صدورهم لذلك والنظر فيه بتروّ بقصد تبيّن الحق والمصلحة. وفي كل هذا قواعد صريحة ورائعة للحكم في الإسلام كما هو واضح. وجملة فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ تفيد أن الحكم في الإسلام يشبه ما يسمى اليوم بالنظام الرأسي الذي يكون فيه رئيس الدولة صاحب السلطة التنفيذية الذي يجب عليه أن يستشير أصحاب الشأن والعلم من مختلف الفئات ثم يضطلع بمسؤولية اختيار أصحّ الآراء وأفضلها وبمسؤولية المبادرة والتنفيذ. ولقد تركت الآية أسلوب المشاورة بدون تعيين وتحديد. ويتبادر لنا من حكمة ذلك والله أعلم أن كون هذا الأمر مما لا يمكن تحديده لأن ظروف الاجتماع عرضة للتطور والتبديل فينبغي تركه للظروف والأحوال. وهذا هو أسلوب القرآن الذي جعل للشريعة الإسلامية صلاحية الخلود والإلهام في كل زمن ومكان. ومن الجدير بالذكر في هذا المقام أن القرآن المكي قد نوّه بالشورى وجعلها من خصائص المسلمين الصالحين كما جاء في آية سورة الشورى هذه: وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) فلما صار للإسلام سلطان نافذ في شخص النبي صلى الله عليه وسلم أكّد القرآن هذا المبدأ بأسلوب الإيجاب

والتنفيذ حين اقتضت حكمة التنزيل والمناسبة. ولعل من الحق أن يقال إن تشريع إيجاب استشارة أهل الرأي والمكانة والعلم من مختلف الجماعات على الرؤساء والزعماء والحكام بالأسلوب الذي جاء به في القرآن من خصائص ما انفردت به الشريعة الإسلامية ومن جملة مرشحاتها للخلود والعموم. ولقد قال المفسرون «1» عزوا إلى بعض التابعين وتابعي تابعين أن المشاورة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها هي فيما ليس فيه نصوص قرآنية ووحي رباني وفيما ليس له علاقة بالمبادىء الدينية والشرعية الأساسية. وهذا قول وجيه واجب التسليم به من دون ريب. وإذا صح هذا في حقّ النبي فإنه يكون من باب أولى بالنسبة لمن يخلفه في رئاسة المسلمين. وهذا متسق مع القاعدة العامة التي تقول (لا اجتهاد مع النصّ) . غير أنه يلاحظ أن كثيرا مما ورد في القرآن من تعاليم ومبادئ في شؤون السياسة والحكم والجهاد والمال والقضاء والاجتماع قد ورد على الأكثر كخطوط وأسس عامة. وقلّما جاء محدود الأشكال والجزئيات. وقد ترك أسلوب تنظيمها وتنفيذها على ما هو المتبادر إلى ظروف المسلمين وأحوالهم مما بينّا حكمته أكثر من مرة. فمن المعقول أن تكون هذه محلّا للتشاور والاجتهاد ضمن الخطوط والحدود الأساسية القرآنية. ونضيف إلى هذا أن ما ورد في تحديده وتنظيمه سنّة نبوية ثابتة وصريحة هو واجب الاتباع وليس محلّا للاجتهاد. وقد أمر الله المسلمين بأن يأخذوا ما آتاهم الرسول وينتهوا عمّا نهاهم في آية سورة الحشر [7] . كما أمرهم بإطاعة الرسول مثل إطاعتهم لله وردّ الأمر إليه وإلى سنّته بعد الله وقرآنه في آيات عديدة مثل: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ النساء [59] . ولقد روى ابن كثير عن ابن عباس أن المقصود في جملة وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ أبو بكر وعمر. وهذا غريب مناقض لروح الآية وفحواها وسياقها وظروف

_ (1) انظر تفسير الطبري والطبرسي والخازن.

نزولها على ما شرحناه قبل، بل إن ذلك ينطوي على مشاورة الذين تذمروا وقالوا ما لا ينبغي أن يقال نتيجة لهيجان أفكارهم ومرارتهم وحسرتهم، وهذا يعني أن المشاورة يجب أن تكون مع ذوي الرأي والشأن والعلم والخبرة من مختلف طبقات الناس كما قلنا قبل. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا أخرجه ابن مردوديه عن علي بن أبي طالب قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزم فقال مشاورة أهل الرأي ثم اتّباعهم» . ولم يرد هذا الحديث في الصحاح. فإن صحّ ولا مانع من صحته فيكون الاتّباع لما يكون عليه رأي أكثرهم واختيار الأصلح من الآراء والأخذ به. وجواب رسول الله يفيد أن الأخذ بالرأي الذي يتفق عليه أكثر المستشارين أمر واجب. ويتبادر لنا أن هذا منطو في صيغة الآية والله تعالى أعلم. ولقد أورد المفسر المذكور حديثا رواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن غنيم قال: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر لو اجتمعتما في مشورة لما خالفتكما» . والحديث لم يرد في الصحاح فإذا صحّ ولا مانع من صحته فيكون فيه تلقين بوجوب الأخذ بآراء المخلصين الموثوقين من ذوي العقل والرأي. وهناك أحاديث وردت في الصحاح يمكن أن تؤيد معنى الحديث. منها حديث رواه الترمذي عن عبد الله بن حنطب قال: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أبا بكر وعمر فقال هذان السمع والبصر» «1» . وحديث رواه الترمذي أيضا عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبيّ إلّا وله وزيران من أهل السماء ووزيران من أهل الأرض. فأما وزيراي من أهل السماء فهما جبريل وميكائيل وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر» «2» . ولقد روى البغوي بسنده عن عائشة أنها قالت: «ما رأيت رجلا أكثر استشارة للرجال من رسول الله صلى الله عليه وسلم» وفي هذا الحديث إن صحّ ولا مانع من صحته سير

_ (1) التاج، ج 3 ص 316- 317. (2) المصدر نفسه.

رسول الله في الخطة التي أمر الله رسوله بها. ولقد كان رسول الله يستشير أصحابه في كل أمر هام وفي كل موقف عام مما كثرت أمثلته في كتب التفسير في مناسبات عديدة ومما كثرت أمثلته في روايات السيرة وأوردناه في مناسبات سابقة. ومن واجب المسلمين أن يكون لهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة والقدوة. ولقد قال بعض المفسرين ورووا عن بعض أهل التأويل إن الله أمر رسوله بمشاورة المسلمين لتعليم المسلمين ورؤسائهم ليستنّوا بذلك وحسب لأنه لم يكن في حاجة إلى ذلك وهو يتلقى الوحي من الله أو ليعلم الناصح من الغاشّ منهم أو ليعلم مدى عقولهم وأفهامهم أو لتطييب قلوبهم ورفع شأنهم وجمعهم. وما دام أن النص القرآني مطلق وصريح بأمر الله لرسوله بمشاورة المسلمين، فالذي يتبادر لنا أن الأولى أخذه على مفهومه دون التزيد بتعليلات لا قرينة عليها من كتاب وحديث. وليس من تعارض بين هذا وبين كون النبي صلى الله عليه وسلم يتلقى وحي الله. فكل ما فيه وحي رباني لا يحتاج بطبيعة الحال إلى مشاورة. ولكن هناك كما قلنا آنفا شؤونا كثيرة لا يكون فيها وحي رباني. وهذه هي التي أمر الله رسوله بمشاورة المسلمين فيها. وهناك مأثورات كثيرة تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستشير المسلمين في شؤون متنوعة من شؤون الحرب وغير الحرب ويعمل بما يشيرون. فإذا كان ذلك خلاف الأولى نزل قرآن بالتنبيه أو العتاب. وإذا كان حائزا لرضاء الله وموافقته نزل قرآن بذلك أو بقي الأمر سكوتا عنه وماضيا. وقد أوردنا أمثلة من ذلك في مناسبات سابقة بحيث يكون ذلك القول على إطلاقه في غير محله. وهناك بعض الأحاديث في أدب الاستشارة والمشيرين يصحّ أن تساق في هذا المساق. منها حديث أورده ابن كثير وهو من مرويات أصحاب السنن أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المستشار مؤتمن» «1» . وحديث أورده ابن

_ (1) التاج، ج 5 ص 67. الجزء السابع من التفسير الحديث 17

[سورة آل عمران (3) : آية 160]

كثير معزوا إلى ابن ماجه عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه» . وحديث ثالث أورده ابن كثير رواه أيضا أبو داود والحاكم عن أبي هريرة جاء فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه. وزاد في رواية: ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أنّ الرشد في غيره فقد خانه» «1» . حيث ينطوي في الأحاديث تقرير واجب المسلم بإبداء رأيه إذا استشير في أمر وبالتزامه الأمانة والصدق والعلم فيما يشير به. ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن من الواجب مراعاة ذلك في أي موقف يستشار فيه المسلم سواء أكان في الحالات الخصوصية والفردية والشخصية أم في الحالات العامة والرسمية. والله تعالى أعلم. [سورة آل عمران (3) : آية 160] إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) . الخطاب في الآية موجه إلى المسلمين منبّه لهم إلى أن الله إذا ما نصرهم فلن يغلبهم أحد وسائلا سؤالا يتضمن النفي عمن يمكن أن ينصرهم إذا هو خذلهم. وداعيا للمؤمنين المخلصين إلى الاتكال عليه وحده. وليس هناك رواية خاصة فيها. والمتبادر أنها متصلة بالسياق واستمرار في التعقيب على الآيات السابقة. وفيها تثبيت للمسلمين ودعوة إلى التمسك بالله والإخلاص له والاعتماد عليه وحده. ولعل فيها ردّا على وساوس الكفار والمنافقين التي حاول هؤلاء أن يبثّوها في نفوس المسلمين. وقد انطوى فيها تلقين مستمر المدى يمدّ المؤمن بالقوة الروحية في كلّ ظرف وبخاصة في الأزمات المحرجة.

_ (1) التاج، ج 5 ص 67.

[سورة آل عمران (3) : آية 161]

[سورة آل عمران (3) : آية 161] وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) . (1) الغلول: أخذ الشيء خفية وبدون حقّ. وقد أريد به خاصة إخفاء غنائم الحرب. في الآية تنزيه لأي نبيّ أن يغلّ أي أن يخفي شيئا من غنائم الحرب التي توضع بين يديه. وإنذار للغالّين فإنهم يأتون يوم القيامة بما غلّوا مفضوحين مخزيين فيوفيهم الله ما كسبوا دون نقص وظلم. تعليق على الآية وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) لقد روى المفسرون في صدد هذه الآية روايات عديدة، وبعض هذه الروايات مروي بصيغ عديدة ومن طرق مختلفة. ومن هذه الروايات رواية رواها الترمذي وأبو داود أيضا بسند حسن عن ابن عباس جاء فيها: «افتقدت قطيفة حمراء يوم بدر فقال بعض الناس لعلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها فأنزل الله الآية لتقرّر أنه لا يمكن لنبيّ أن يغلّ» . ورواية مروية عن قتادة قال: «إنّ الآية نزلت في غنائم أحد حين ترك الرماة مركزهم للغنيمة وقالوا نخشى أن يقول رسول الله من أخذ شيئا فهو له ولا يقسم كما قسم في بدر فقال لهم رسول الله ظننتم أننا نغلّ ولا نقسم لكم فنزلت الآية ردّا على ظنهم» . ورواية تذكر أن رسول الله بعث طلائع ثم غنم فلم يقسم للطلائع فأنزل الله الآية عتابا على ذلك. ورواية تذكر أن طائفة من الأقوياء ألحّوا على رسول الله أن يختصهم بالغنائم فأنزل الله الآية إيذانا بأن النبي لا يصحّ أن يفعل ذلك. ورواية تذكر أنها بسبيل نفي كتم النبي شيئا مما أنزله الله عليه. وهناك قراءة لكلمة (يغلّ) بضم الياء وفتح الغين لتكون الجملة بمعنى أن النبي لا يصحّ أن يخون أصحابه أو يخفوا عنه شيئا.

وباستثناء الرواية التي يرويها الترمذي وأبو داود ليس شيء من الروايات واردا في الصحاح. وباستثناء رواية قتادة فليس شيء من الروايات متصلا بوقعة أحد التي يدور السياق عليها. ورواية الترمذي وأبي داود في صدد بدر التي نزلت فيها سورة الأنفال ولسنا نرى لها محلا أو مناسبة هنا. والآية [153] تذكر ما كان من تنازع الرماة وعصيانهم لأمر رسول الله رغبة في حطام الدنيا فيكون احتمال صحة رواية قتادة هو الأقوى. وتكون الآية قد نزلت لتنزّه النبي صلى الله عليه وسلم عن ما ظنه الرماة، مع الترجيح أن الآية لم تنزل بمفردها وإنما نزلت مع السياق الذي نزل جميعه بعد الواقعة. وقد جاءت مطلقة لتنزيه كل نبيّ عن هذه النقيصة التي يجلّ مقام النبوّة عنها. وبالإضافة إلى ذلك فإن جملة وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ مطلقة المدى بحيث انطوى فيها إنذار ووعيد لكل من يقترف هذه الجريمة في كل وقت. ولقد أورد المفسرون في سياق الآية أحاديث نبوية عديدة فيها إنذار ووعيد للذين يغلّون. ومما هو متساوق مع الآية. ومن هذه الأحاديث ما يتصل بالغلول من غنائم الحرب ومنها ما يتصل بالغلول من العمل الحكومي بصورة عامة. ومن هذه الأحاديث ما ورد في كتب الصحاح. ومنها ما ورد في كتب أئمة حديث آخرين. وهذه من باب ما ورد في كتب الصحاح. فمما ورد في غلول الغنائم الحربية حديث رواه الشيخان وأبو داود عن أبي هريرة قال: «خرجنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم عام خيبر فلم نغنم ذهبا ولا ورقا إلّا الثياب والمتاع. فتوجّه رسول الله نحو وادي القرى وقد أهدي له عبد أسود يسمّى مدعما فبينما هو يحطّ رحل رسول الله أصابه سهم فقتله فقال الناس هنيئا له الجنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم كلا والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا فلمّا سمعوا ذلك جاء رجل بشراك أو شراكين إلى النبيّ فقال شراك أو شراكان من نار» «1» . وحديث رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو قال: «كان على ثقل رسول

_ (1) التاج ج 4 ص 350 و 351 وهناك أحاديث أخرى من بابها في الكتب الخمسة وغيرها فاكتفينا بما أوردناه.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 162 إلى 163]

الله رجل يقال له كركرة فمات فقال النبيّ هو في النار فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلّها» «1» . ومما ورد في غلول العمال حديث رواه الشيخان وأبو داود عن أبي حميد قال: «استعمل النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلا من الأسد يقال له ابن اللّتبيّة على الصدقة فلما قدم قال هذا لكم وهذا أهدي لي فقام رسول الله على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال ما بال عامل أبعثه فيقول هذا لكم وهذا أهدي إليّ أفلا قعد في بيت أبيه أو بيت أمّه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا؟. والذي نفس محمّد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئا إلّا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه بعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر. ثمّ رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه ثم قال اللهمّ هل بلّغت، مرّتين» «2» . وحديث رواه أبو داود والحاكم عن بريدة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول» . وحديث رواه الإمام أحمد عن أبي حميد قال: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هدايا العمال غلول» «3» . وواضح أن الأحاديث تنطوي على أن هذه الآية قد احتوت تلقينا مستمر المدى وإن نزلت في تنزيه مقام النبوة عن الغلول. وهو تلقين في وجوب رعاية كلّ إنسان ما يوكل إليه حفظه والتصرّف فيه من الأموال العامة والأمانات بكلّ دقة وعدم إساءة استعماله وفي وجوب التزام كلّ عامل من عمّال الدولة النزاهة والتجرّد وتجنّب التهمة والشبهة واستغلال عمله، وفي التشنيع على من يخالف ذلك بأي شكل من الأشكال. وفي ذلك من الروعة والجلال ما يغني عن الإطناب. [سورة آل عمران (3) : الآيات 162 الى 163] أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163) . في الآيتين تساؤل ينطوي على النفي عما إذا كان يصح التسوية بين الذين

_ (1) المصدر السابق نفسه. (2) التاج ج 3 ص 49. (3) انظر تفسير ابن كثير وهناك في الكتب الخمسة وفي كتب التفسير أحاديث أخرى من هذا الباب فاكتفينا بما أوردناه. انظر التاج ج 3 ص 49 و 50 وج 4 ص 350 و 351.

[سورة آل عمران (3) : آية 164]

يتبعون ما فيه رضوان الله وبين الذين يستحقون غضبه وسخطه بخبثهم وكفرهم فهؤلاء مأواهم جهنّم وبئس هي من مصير. والله بصير بما يعمله الناس جميعا. وإن عنده مقامات ومنازل لكل منهم وفق عمله. وقد روى الطبرسي والخازن أن الآيتين نزلتا في المقايسة بين الذين استجابوا لدعوة النبي وخرجوا لمقابلة الغزاة وبين المنافقين الذين لم يستجيبوا وقعدوا. وقال الطبري إن الآيتين متصلتان بآية الغلول وفيها إنذار لمن يغلّ وتنويه بالمستقيم الأمين وليس شيء من ذلك واردا في الصحاح. ونحن نرى توجيه الطبري هو الأوجه لأنه الأقرب إلى ما في الآية السابقة لهما. وفيهما على كل حال تنويه عام مستمر المدى بالذين يتوخون بأعمالهم رضاء الله ويلتزمون أوامره ونواهيه، وإنذار وتنديد عامّان مستمرا المدى كذلك بالذين يفعلون ما يغضبه ويسخطه. [سورة آل عمران (3) : آية 164] لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) . في الآية تقرير لنعمة الله وفضله على المؤمنين ببعثه إليهم رسولا منهم يبلغهم آياته ويطهر نفوسهم من الخبائث النفسية والفكرية والجاهلية ويعلمهم كتاب الله ويبصرهم بحكمته بعد أن كانوا قبله في ضلال شديد. ولم نر المفسرين يذكرون شيئا كمناسبة للآية. والمتبادر أنها استمرار للسياق وفيها كذلك معنى التعقيب والتعليق على حوادث وقعة أحد ولعل فيها تمهيدا للآيات التالية أيضا. ولقد انطوى في الآية تنويه بالرسالة المحمدية وأهدافها بأسلوب وجيز رائع. ولقد وجّه الخطاب فيها إلى العرب بصراحة مما انطوى في تعبير رَسُولًا مِنْ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 165 إلى 168]

أَنْفُسِهِمْ وفي هذا توكيد لشأنية العرب في الرسالة الإسلامية وكونهم حملتها لأنهم أول المخاطبين بها والمتلقين كتاب الله عن رسوله مباشرة والسامعين لتعليمه وحكمته. ولقد انطوت هذه المعاني في آيات سابقة أيضا «1» . وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت توكيدها في هذا المقام بسبب ما ألمّ بالمسلمين من وقعة أحد لتهدأ نفوسهم وتسكن قلوبهم. ولقد قرأ بعضهم أنفسهم هنا وأنفسكم في آية سورة التوبة هذه لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) بفتح الفاء من النفاسة أو النبل بحيث يكون معنى الكلمة أن النبي من أنفس وأنبل أروماتهم. ومع أن هذا مما وردت فيه أحاديث صحيحة أوردناها في سياق تفسير آية النحل [113] فإن الجمهور على قراءة الفاء بالضمّ كجمع للنفس. وقد يدعم صواب هذه القراءة آيات سورة البقرة [129 و 151] والنحل [113] والجمعة [2] التي ورد فيها تعبيرات منهم ومنكم من مقام من أنفسكم وأنفسهم. كما يدعمها ما روي عن ابن عباس وأوردناه في سياق آية سورة النحل كتوضيح لذلك. وهذا الاستدراك ليس في مقام نفي ما وردت به الأحاديث من كون النبي خير البشر أسرة وعشيرة وقبيلة وبطنا مما ورد في تلك الأحاديث كما هو واضح. [سورة آل عمران (3) : الآيات 165 الى 168] أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168) .

_ (1) انظر آيات البقرة [150- 151] والحج [78] .

(1) أنّى هذا: كيف وقع هذا أو لماذا وقع. (2) فادرأوا: فامنعوا. تضمنت الآيات: 1- حكاية لتساؤل بعض المسلمين تساؤل المتألم المستنكر عما وقع عليهم من المصيبة في يوم أحد. 2- وأمر للنبي بإجابتهم أولا بأن ما أصابهم في هذا اليوم هو نصف ما أصاب أعداءهم في يوم بدر فلا موجب لهذا الجزع الذي يظهرونه، وثانيا بأن ما كان إنما وقع بسبب تصرفهم. وينطوي في الجواب- استلهاما من جملة إن الله على كل شيء قدير- أن ما كان ليس هو إخلافا من الله بوعده بالنصر ولا عجزا منه عن نصرهم فهو قدير على كل شيء، وثالثا بأن ما كان إنما كان كذلك بإذن الله حتى يمتاز المؤمنون من المنافقين ويظهر كل منهم على حقيقته. 3- وإشارة استطرادية إلى موقف المنافقين. فقد قيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو اشتركوا في الدفاع عن بلدكم وأعراضكم وأموالكم فلم يلبوا وقالوا إنّا لا نتوقع قتالا ولو كنا متأكدين من ذلك لا تبعناكم. 4- وتنفيد لقولهم وأفعالهم: فهم إنما يقولون ذلك بأفواههم ويضمرون في قلوبهم خلافه مما يعلمه الله وهو الأعلم بما يضمرون ولقد كانوا في هذا الموقف أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان. ثم إنهم لم يكتفوا بالقعود عن القتال وخذل إخوانهم بل أخذوا بعد الوقعة يثيرون في نفوسهم المرارة ويظهرون فيهم الشماتة حيث أخذوا يقولون لهم لو أطعتمونا ولم تخرجوا مثلنا لما قتل منكم من قتل ولما أصابكم ما أصابكم. 5- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتحديهم بدفع الموت عن أنفسهم إن كانوا صادقين فيما يقولون تحدّيا منطويا على التهكم والإلزام.

تعليق على الآية أولما أصابتكم مصيبة ... إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [168]

تعليق على الآية أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ ... إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [168] ولم يرو المفسرون رواية خاصة في صدد نزول الآيات وإنما أعادوا بعض ما قالوه من وقائع وقعة أحد ومواقف المنافقين مما روينا تفصيله وعلقنا عليه قبل. والمتبادر أنها استمرار للسياق. وقد احتوت شيئا من العتاب وكثيرا من التسكين والتطمين والتهوين وحملة على المنافقين. بالإضافة إلى بعض مشاهد الوقعة وموقف المنافقين فيها. ومن الإعجاز القرآني أن تكون صورة المنافقين التي رسمتها الآيات كثيرا ما تتكرر وتظهر في ظروف النضال مع البغاة والظالمين وفي الأزمات الحرجة التي تواجهها الأمم والجماعات في سبيل الحق والعقيدة والكرامة. ومن الطبيعي أن يكون ما في الآيات من تشنيع وتقبيح لا حقين بأصحاب مثل هذه الصورة في كل ظرف وأن يكون في الآيات من هذا الاعتبار تلقين جليل مستمر المدى. وفيما حكته الآيات عن دعوة المنافقين إلى القتال في سبيل الله أو في سبيل الدفاع عن بلدهم وجوابهم وفي جملة الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا كوصف لهم دليل قرآني على أنهم لم يخرجوا مع الخارجين إلى لقاء قريش عند جبل أحد كما روى المفسرون وكتّاب السيرة ذلك وذكرناه قبل. والمتبادر أن كبير المنافقين لما أشار مع بعض أشياعه على النبي بالبقاء في المدينة وعدم الخروج ثم عمل النبي بما أشار به أكثر المسلمين قال أطاعهم وعصاني وأظهر السخط وقعد مع أشياعه. ولقد روى ابن سعد رواية «1» جاء فيها أن النبي بعد أن جاوز ثنية الوداع مع

_ (1) طبقات ابن سعد ج 3 ص 90. [.....]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 169 إلى 171]

أصحابه في طريقهم إلى سفح أحد إذا هو بكتيبة خشناء فقال من هؤلاء؟ قالوا هذا عبد الله بن أبيّ في ستمائة من مواليه من يهود بني قينقاع. فسأل (أو قد أسلموا؟) قالوا لا يا رسول الله فقال قولوا لهم فليرجعوا فإننا لا نستعين على المشركين بالمشركين. والرواية لم تردد في الصحاح وهي غريبة من نواح عديدة. فإن بني قينقاع قد أجلوا عن المدينة قبل وقعة أحد بخمسة عشر شهرا. والآيات التي نحن في صددها تذكر أن النبي أو المسلمين طلبوا من المنافقين أن يخرجوا معهم فأبوا بحجة أنهم لا يتوقعون قتالا. ولقد روى ابن كثير عن مجاهد وجابر أن جملة الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا هي في عبد الله بن أبيّ كبير المنافقين وأصحابه المنافقين. وهو في محله وتؤيده الآية التي سبقت هذه الجملة التي حكت أقوال المنافقين. ولقد روى الطبري عن قتادة بسبيل توضيح جملة مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ في الآية [165] أنها عنت ما كان من عصيان الرماة لأمر النبي وتركهم أماكنهم من حيث إن ذلك أدّى إلى الهزيمة وهو في محلّه. كذلك روي عن قتادة بسبيل توضيح جملة أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها أنها عنت ما كان من خسائر بدر وأحد من المشركين والمؤمنين حيث قتل المؤمنون في بدر من المشركين سبعين وأسروا سبعين وقتل منهم في أحد سبعون ولم يؤسر أحد منهم. ونصّ الآية قد يؤيد هذا التوضيح. [سورة آل عمران (3) : الآيات 169 الى 171] وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) . (1) يستبشرون: يشعرون بالبشرى والسرور.

تعليق على الآية ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون (169) والآية التي بعدها

وفي هاتين الآيتين: 1- نهي فيه معنى التطمين والبشرى عن أن يظنّ السامعون أن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا. 2- وتوكيد في مقام الجواب بأنهم أحياء لهم عند ربهم التكريم والرزق الحسن. وهم فرحون مغتبطون مستبشرون بما نالوه من نعمة الله وفضله ولما تيقنوه من صدق وعده لهم، وفرحون مستبشرون بالنسبة لإخوانهم الذين خلفوهم من ورائهم أحياء من حيث إنهم لن يلقوا عند الله ما يخيفهم ولا يحزنهم ما داموا تركوهم على المنهج الحقّ والاستشهاد في سبيل الله ومن حيث إن الله لن يضيع أجر المؤمنين المخلصين. تعليق على الآية وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) والآية التي بعدها وقد تعددت الروايات التي رواها المفسرون في مناسبة الآيات «1» منها أنها نزلت في حق شهداء بدر ومنها أنها في حق شهداء أحد ومنها أنها في حق شهداء بدر وأحد. ومنها أنها في حق شهداء بئر معونة، الذين كان من قصتهم على ما رواه المفسرون وكتّاب السيرة «2» أن أحد زعماء بني عامر الموصوف بملاعب الأسنة قدم على النبي فعرض عليه الإسلام فلم يبعد وطلب منه أن يبعث معه نفرا إلى قومه لعلّهم يجيبون فقال له إني أخاف عليهم أهل نجد، فقال أنا جار لهم فبعث معه سبعين رجلا من قرّاء الأنصار الشباب وكان معهم كتاب إلى عامر بن الطفيل زعيم بني عامر فأرسلوه إليه حينما وصلوا إلى بئر معونة فقتل الرسول ثم

_ (1) انظر الطبرسي والطبري والخازن. (2) انظر ابن سعد ج 3 ص 93- 96 وتفسير الطبري للآية.

استصرخ قومه وغيرهم وأحاطوا بالمسلمين فقتلوهم جميعا عدا واحد منهم نجا من القتل لأن زعيما منهم كان نذر أن يعتق رقبة فعتقه بعد أن جزّ ناصيته، وكان وقع الحادث أليما شديدا على النبي والمسلمين. ويتبادر لنا من نظم الآيتين أنهما جاءتا معقبتين على الآيات السابقة لهما التي حكت أقوال المنافقين وتحدتهم حيث احتوتا تطمينا للمؤمنين الأحياء وبهتا للمنافقين وإحباطا لدسهم وتحريضهم. وعبارة الآيتين مطلقة شاملة بحيث تشمل البشرى التي انطوت فيهما شهداء أحد وغيرهم وإن كانت صلتها بشهداء أحد أوكد لأن وقعة أحد هي موضوع السياق. ومثل هذا التنويه والتسكين قد ورد في آيات سورة البقرة [155- 157] في سياق الإشارة إلى بعض حوادث الجهاد الأولى وشهدائها على ما شرحناه في مناسبتها. غير أن في التعبير هنا بعض الزيادات التنويهية والتطمينية كما أن فيها تنويها بالمخلصين الأحياء حيث اقتضت ذلك حكمة التنزيل بسبب ما ألمّ بالمسلمين من حزن ومرارة في وقعة أحد. ولقد روى المفسرون أحاديث عديدة في سياق هذه الآيات كتفسير وتوضيح، منها حديث روي عن ابن عباس «1» : «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه إنّ الله لما أصيب إخوانكم بأحد جعل أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلّقة في ظلّ العرش فلمّا وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا من يبلغ إخواننا عنّا أننا أحياء في الجنة لئلا يزهدوا في الجنّة ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله أنا أبلغهم عنكم فأنزل الآية وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) » وهناك رواية بهذا الحديث فيها زيادة جاء فيها: «أنّ الله قال لهم هل تشتهون شيئا قالوا يا ربّ نريد أن

_ (1) انظر تفسير الخازن للآية وانظر أيضا تفسيرها في ابن كثير حيث روي هذا الحديث مع شيء من المغايرة. وانظر التاج ج 4 ص 76- 77 حيث ورد هذا الحديث من رواية الترمذي في فصل التفسير.

تردّ أرواحنا إلى أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى» «1» . ومنها حديث أخرجه الإمام أحمد جاء فيه: «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرّها أن ترجع إلى الدنيا إلّا الشهيد فإنّه يسرّه أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى بما يرى من فضل الشهادة» «2» . ومنها حديث عن جابر جاء فيه: «لمّا قتل أبي يوم أحد جعلت أبكي فقال لي رسول الله لا تبكه، ما زالت الملائكة تظلّله بأجنحتها حتى رفع» «3» . ولقد تطرق بعض المفسرين من هذا إلى التساؤل عما إذا كانت الجنة مخلوقة الآن استنادا إلى الحديث وعمّا إذا كانت حياة الشهداء روحانية أو جسمانية. ومنهم من اتخذ الآية والحديث دليلا ضد المعتزلة الذين لا يسلّمون بأن الجنة مخلوقة الآن «4» . وعلى كل حال فواجب المؤمن أن يؤمن بما جاء في الآيات والأحاديث النبوية المفسرة أو المتسقة معها مع الملاحظة أن ذلك من الأمور الغيبية التي يجب الوقوف منها عند ما وقف عنده القرآن أو المأثور الثابت من أحاديث النبي مع استشفاف ما لا بدّ أن يكون في عبارتها من حكمة دنيوية أيضا. ويتبادر لنا من ذلك قصد تبشير الأحياء من المسلمين وتطمينهم بالنسبة لشهدائهم الأعزاء وبالنسبة لأنفسهم. وحثّهم على الثبات على دين الله والجهاد في سبيله الذي يضمن لهم التكريم الرباني العظيم. وإطلاق العبارة في الآيتين يسوغ القول أن فيها علاجا روحيا قويا مستمر المدى في صدد الحثّ على الجهاد مهما كانت النتيجة. يستمد منه المؤمن المخلص في كل وقت إيمانا وثباتا وجرأة وإقداما. فما دام الموت أمرا محتما على كل امرئ وما دام أنه لا يكون إلّا في الأجل المعين عند الله وما دام للشهيد هذه

_ (1) المصدر السابق نفسه. (2) انظر تفسير ابن كثير. (3) المصدر نفسه. (4) انظر تفسير الخازن.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 172 إلى 174]

الحياة الكريمة عند الله فضلا عما له عند الناس من كرامة وحسن ذكر فليس من موجب للخوف من الجهاد ولا للجزع من نتائجه مهما كانت. [سورة آل عمران (3) : الآيات 172 الى 174] الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) . في هذه الآيات: تنويه بالذين استجابوا إلى الله ورسوله رغم ما نالهم من جراح وتعب ولم يبالوا بما قاله لهم الناس من أن الأعداء قد جمعوا لهم بل زادهم إيمانا بالله وتمسكا به واعتمادا عليه وهتفوا قائلين حسبنا الله ونعم الوكيل. ولقد عادوا دون أن يمسّهم سوء بفضل الله ونعمته وبركة ما كان منهم من صبر وجرأة وإيمان واعتماد على الله. وقد نالوا فوق ذلك رضوان الله ذي الفضل العظيم. وإن للذين أحسنوا من المسلمين واتقوا الأجر العظيم عند الله. تعليق على الآية الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) والآيتين اللتين بعدها وقد روى المفسرون روايتين «1» في صدد نزول الآيات: أولاهما ما أوردناه قبل من تفكير قريش في الكرة بقصد استئصال المسلمين، وببلوغ الخبر للنبي صلى الله عليه وسلم ومسارعته للخروج على رأس فريق من أصحابه وبلوغهم حمراء الأسد حيث وجدوا قريشا قد انصرفوا «2» . وثانيتهما أن أبا سفيان قائد قريش هتف متواعدا مع

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن. (2) هذه الرواية رواها البخاري في هذا النص: (قالت عائشة لعروة بن الزبير يا ابن أختي لما أصاب نبي الله ما أصابه يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا فقال من يذهب في أثرهم فانتدب منهم سبعين رجلا كان من بينهم أبو بكر والزبير) . التاج، ج 4 ص 77 وقد يكون في الحديث التباس أو اقتضاب.

النبي والمسلمين ليوم آخر يلتقون فيه في بدر في السنة المقبلة، وأجابه المسلمون بأمر النبي بالموافقة وهذا مما اعتاده العرب في حروبهم فلما جاء الموعد خرج النبي على رأس فريق من أصحابه حتى بلغ بدرا فلم يجدوا قريشا وشهدوا سوق بدر وكان لهم فيها ربح تجاري عظيم وعادوا ولم يلقوا كيدا أو سوءا. وابن سعد يذكر وقوع الغزوتين وأسبابهما التي ذكرها المفسرون «1» . وروح الآيات وفحواها يلهمان أنها في صدد مشهد جهادي فور وقعة أحد وما زالت مرارة الوقعة وجراحها شديدة الأثر في المسلمين. وهذا مما يتوافق مع الرواية الأولى ومع الآيات أكثر وإن كان هذا لا يمنع أن تكون قريش قد هتفوا بموعد بدر للسنة القابلة حينما انصرفوا من أحد ثم فكروا في الكرّة. والمتبادر أن الآيات لم تنزل لحدتها، وليست منفصلة عن سابقاتها. وكلمة الَّذِينَ متصلة نظما بكلمة الْمُؤْمِنِينَ التي كانت خاتمة الآيات السابقة وأن السلسلة كلها نزلت دفعة واحدة عقب أحداث وقعة أحد ومشاهدها. وكل ما هناك أن هذه الآيات احتوت التنويه باستجابة المؤمنين لدعوة النبي وخروجهم معه رغم ما أصابهم من قرح. وهو ما جعل الرواة يروون أنها نزلت في ذلك. والآيات تحتوي صورة رائعة لاستغراق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته والجهاد في سبيلها وعمق إيمان العصبة المخلصة التي كانت حوله في الله وشدة اعتمادها عليه وصبرها وتفانيها وقوة روحها واستغراقها في تأييد النبي وطاعته وعدم مبالاتها بما كان ينالها من بلاء وأذى في سبيل الله وإعلاء كلمته. وبخاصة في الحالة التي نزلت فيها حيث استجابوا وخرجوا إلى عدو يزيد عدده عليهم أضعافا كثيرة ويفوقهم في الوسائل وقد انتصر عليهم ونالهم منه أذى شديد،

_ (1) ابن سعد ج 3 ص 90- 91 و 100- 102.

وكانت جراحهم دامية وأجسادهم متعبة بما فيهم رسول الله الذي كان مجروحا في وجهه مشجوجا في جبهته مكسورة رباعيته مكلومة شفته السفلى متوهنا منكبه الأيمن من ضربة أصابته وركبتاه مشجوجتان «1» . ويزيد في روعة الصورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يندب على ما روته الروايات إلّا الذين شهدوا معركة أحد وقاتلوا فيها ولم ينهزموا. وقد روي أن عددهم كانوا سبعين «2» . ومما رواه المفسرون «3» من روائع هذه الصورة أن رجلين من الأنصار كانا جريحين فلما أذّن مؤذن النبي بالخروج قالا لبعضهما أتفوتنا غزوة مع رسول الله ولم يكن لهما دابة يركبانها فخرجا مع ذلك. وكان أحدهما أشدّ جراحا من الآخر فكان أخوه يحمله من حين إلى آخر حتى بلغا ركب النبي! ومن ذلك أن شابا استشهد أبوه في المعركة ولم يكن شهدها بنفسه لأن أباه آلى عليه أن يتخلف إلى جانب سبع أخوات له فجاء إلى النبي وطلب منه الإذن بالانضمام إليه بعد أن أخبره بعذره الذي منعه من شهود المعركة! وفي كل هذا عظيم الأسوة والتلقين لكل مسلم في كل ظرف ومكان. ولقد روى البخاري عن ابن عباس قال: «حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار. وقالها محمّد حين قالوا إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم» «4» . حيث ينطوي في الحديث إيذان بأن هذه الجملة مما كان يرددها أنبياء الله حين يحزبهم أمر من الأمور فيستمدون بذلك من الله قوة وروحا. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا أخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا حسبنا الله ونعم

_ (1) هذه رواية ابن سعد ج 3 ص 90- 91. (2) انظر تفسير الطبري والخازن. (3) انظر تفسير الطبري. (4) التاج ج 4 ص 88. [.....]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 175 إلى 177]

الوكيل» وحديثا أخرجه الإمام أحمد عن عوف بن مالك قال: «إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين فقال المقضى عليه لما أدبر حسبي الله ونعم الوكيل. فقال النبي ردّوا عليّ الرجل فقال له إن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس فإذا غلبك أمر فقل حسبي الله ونعم الوكيل» . والحديثان لم يردا في الصحاح. وصحتهما محتملة. وفي الأول تعليم نبويّ للمسلمين ليستمدوا منه من الله روحا وقوة حينما يحزبهم أمر عظيم. وفي الثاني تعليم بذلك مع تنبيه مهم ورائع وهو أن على المسلم أن يبذل جهده في ما يواجهه من الأمور أيضا ولا يكتفي بالاستسلام وقول حسبنا الله ونعم الوكيل. والله تعالى أعلم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 175 الى 177] إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) . في هذه الآيات: 1- تنبيه وتثبيت للمؤمنين. فالشيطان يثير في نفوسهم الخوف من أوليائه ليقعدهم عن القتال فعليهم أن لا يستمعوا لوساوسه ولا يخافوهم بل يخافوا الله وحده إن كانوا مؤمنين حقا. 2- وتطمين للنبي: فليس من موجب لحزنه واغتمامه بسبب الذين يسارعون في الكفر. فإنهم ليسوا بضارين الله ودينه شيئا. وقصارى أمرهم أن الله لا يوفقهم ولا يجعل لهم حظا في الآخرة ويكون لهم فيها عذاب عظيم. 3- وتقرير تطميني بأن الذين يفضلون الكفر على الإيمان ويبيعون هذا بذاك لن يضروا الله ودينه شيئا. وإنما هم ضارون أنفسهم بما سوف يصيبهم من عذاب الله الأليم. الجزء السابع من التفسير الحديث 18

تعليق على الآية إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين (175) والآيتين التاليتين لها

تعليق على الآية إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) والآيتين التاليتين لها لم يرو المفسرون رواية ما في نزول هذه الآيات. وإنما رووا عن أهل التأويل أن المقصودين في جملة يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ وجملة الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ هم المنافقون. وهذا مستلهم من فحوى الآيات وسياقها. وتكون الآيات والحالة هذه استمرارا تعقيبيا للسياق السابق بسبيل تثبيت المؤمنين وتطمينهم. والتنديد بالمنافقين وترهيبهم بالإضافة إلى ما فيها من حقائق يجب الإيمان بها. وأسلوب الآيات قوي نافذ من شأنه أن يبعث الطمأنينة والروح في قلوب المؤمنين المخلصين وأن يمدّهم بقوة روحانية في كلّ ظرف. [سورة آل عمران (3) : آية 178] وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178) . عبارة الآية واضحة. وفيها تكذيب لما يظنّه الكفار من أن إملاء الله لهم وإمهالهم وتيسيره ما ييسره لهم خبر خير وعلامة على رضاء الله عنهم بل هو إملاء منه ليزدادوا إثما على إثم حيث يكون لهم عنده العذاب المهين. تعليق على الآية وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178) عزا الطبري إلى مقاتل أن الآية نزلت في مشركي مكة وإلى عطاء أنها نزلت في يهود بني قريظة وبني النضير. وليس شيء من ذلك واردا في الصحاح. والسياق

في صدد المؤمنين والمنافقين ووقعة أحد التي كان المشركون طرفا فيها. ولهذا فإن رواية كونها في اليهود لا محلّ لها كما هو المتبادر. ومن الجائز أن يكون المنافقون قد تبجحوا بما كان لهم من عاقبة وسلامة أو المشركون بما كان لهم من نصر وتفوق في المعركة فاقتضت حكمة التنزيل تكذيبهم وإنذارهم مع التنبيه على أن المتبادر أن الآية جزء من السياق ولم تنزل لهذه الغاية لحدتها وإنما نزلت مع السياق بعد الوقعة وانطوى فيها ما انطوى من مقصد، والله أعلم. ومن الجدير بالتنبيه أن في القرآن وبخاصة المكي منه آيات كثيرة تذكر أن الكفار كانوا يحسبون ما ييسره الله لهم من سعة رزق وأسباب قوة هو علامة لرضاء الله وتذكر كذلك أن ذلك في حقيقة الأمر بمثابة استدراج وإملاء واختبار. وفي بعضها تكذيب لظنهم «1» والعبارة هنا من هذا القبيل كما هو المتبادر. ولقد كانت الآية من الموضوعات الجدلية بين علماء الكلام كما كانت موضوع تمحّل من بعض الأغيار. وليس فيها ما يتحمل ذلك، أو يستدعيه. فقد جاءت تعبيرا أسلوبيا استهدف تسكين المؤمنين وتطمينهم وإنذار الكفار معا على الوجه الذي شرحناه والذي نرجو أن يكون فيها الصواب. على أن من الممكن أن يقال إن الذين كفروا قد كفروا بسبب خبث نياتهم وفساد أخلاقهم فاستحقوا ما جاء في الآية نتيجة لذلك. وبهذا يزول ما قد يبدو ظاهرا من إشكال من كون الله يملي لهم ليزدادوا إثما والله تعالى أعلم. ولقد أورد الخازن في سياق الآية حديثا عن النبي جاء فيه: «إذا رأيت الله يعطي على المعاصي فإن ذلك استدراج منه ثم قرأ الآية» . والحديث لم يرد في الصحاح ولكنه متساوق مع مدى الآية وتوضيح لها. ولقد قال الطبري وغيره إن جملة نُمْلِي لَهُمْ بمعنى (نطيل أعمارهم) ولقد أورد الخازن في صدد ذلك حديثا جاء فيه: «إنّ بعضهم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيّ

_ (1) اقرأ آيات سورة القلم [44 و 45] والأعراف [182 و 183] والمؤمنون [55 و 56] مثلا.

[سورة آل عمران (3) : آية 179]

الناس خير فقال من طال عمره وحسن عمله. قيل فأيّ الناس شرّ؟ قال: من طال عمره وساء عمله ثم قرأ الآية» «1» . والحديث من مرويات الترمذي عن أبي بكرة بدون جملة ثم قرأ الآية. وما جاء في الحديث حقّ. غير أن المتبادر أن إطالة العمر مع سوء العمل هي إحدى صور الإملاء التي منها أيضا بسط الرزق والقوة والعافية والبنون. والله تعالى أعلم. [سورة آل عمران (3) : آية 179] ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) . شرح الآية ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ ... إلخ وتعليق عليها روى الطبري عن مجاهد أن الآية في صدد وقعة أحد وأنها بسبيل تقرير كون ما وقع فيها حكمة ربانية لتمييز المخلصين من المنافقين. وهم الذين عنى بهم (الطيب والخبيث) وروى الخازن عن الكلبي أن قريشا قالت يا محمد تزعم أن من خالفك في النار ومن آمن بك في الجنة فأخبرنا بمن يؤمن وبمن لا يؤمن فأنزل الله الآية. وروى هذا المفسر عن السدي أن النبي قال: «عرضت عليّ أمتي في صورها وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر فبلغ المنافقين فقالوا استهزاء زعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ممن لم يخلق بعد ونحن معه ولم يعرفنا فبلغ ذلك رسول الله فقام على المنبر فقال ما بال أقوام طعنوا في علمي، لا تسألونني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة إلّا أنبأتكم به. فقام عمر فقال يا رسول الله رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبالقرآن إماما وبك نبيا فاعف عنّا، عفا الله عنك. فقال النبيّ هل

_ (1) التاج، ج 5 ص 154.

أنتم منتهون؟. فأنزل الله الآية. وقال الخازن قيل إن المؤمنين سألوا أن يعطوا آية يفرقون بها بين المؤمن والكافر فنزلت الآية. وقيل إن قوما من المنافقين ادعوا أن إيمانهم كإيمان المؤمنين فأظهر الله نفاقهم يوم أحد ونزلت الآية. وليس شيء من ذلك في الصحاح والروايات تقتضي أن تكون الآية نزلت منفردة وبعضها يقتضي أن تكون نزلت في مكة. وفحواها وروحها يلهمان أنها غير منفصلة عن السياق. وقد يكون ما رواه الطبري في الرواية الأولى هو الأكثر احتمالا بحيث يصحّ القول إن الآية تضمنت تعليلا لما أصاب المسلمين بقصد التهدئة والتسكين بما مفاده ومآله: 1- إن الله إذا كان قد ابتلاهم في وقعة أحد فإنما كان ذلك منه لاقتضاء حكمته بعدم ترك أمر الناس الذين يدعون الإسلام ملتبسا وبتمييز خبيثهم من طيبهم ومنافقهم من مؤمنهم وخائنهم من مخلصهم. 2- وهذا من غيب الله الذي لا يطّلع عليه الناس إلّا بالاختبار العملي. 3- وكل ما هناك أن الله تعالى يصطفي لرسالته من يشاء ويختصه بعنايته وفضله ودعوة الناس إليه. 4- وعلى المؤمنين المخلصين أن يؤمنوا بالله وحكمته وقضائه ويقفوا عندهما وأن يؤمنوا برسله ويصدقوهم ويطيعوهم. فإذا فعلوا ذلك واتقوا الله وراقبوه في أعمالهم استحقوا الأجر العظيم عنده. ولعل بعض المسلمين تساءلوا عما إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم نتائج الوقعة وعما إذا لم يكن الأولى أن لا تكون وقعت ما دام أنها كانت نكبة على المؤمنين. فكان هذا وما من بابه مما أريد الردّ عليه في الآية مع التعليل والتثبيت والحكمة والإنذار للكفار والمؤمنين. والآية بهذا الشرح الذي نرجو أن يكون فيه الصواب قوية نافذة. وفيها تلقين مستمر المدى في كل حالة مماثلة في كل ظرف.

[سورة آل عمران (3) : آية 180]

[سورة آل عمران (3) : آية 180] وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) . عبارة الآية واضحة وفيها تنديد وإنذار للذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله. مع التنبيه على أن ميراث السموات والأرض لله وحده بسبيل التشديد في التنديد والإفحام من حيث إن الذين يبخلون إنما يبخلون بمال الله وهو يأمرهم بعدم البخل به. ولم يرو المفسرون مناسبة خاصة لنزول الآية وإنما أوردوا أقوالا فيما عنته. منها قول معزوّ إلى ابن عباس أنها في حقّ أهل الكتاب الذين يكتمون ما عندهم من البينات والدلائل على صدق الرسالة المحمدية مؤولا البخل بالكتمان. ومنها قول معزوّ إلى السدي وغيره أنها في مانعي الزكاة «1» . وفي فصل التفسير في صحيح البخاري في سياق تفسير آل عمران حديث عن أبي هريرة جاء فيه: «قال رسول الله: من أتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثّل له ماله شجاعا أقرع له زبيبتان يطوّقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا الآية» «2» . وجمهور المفسرين على أن القول الثاني هو الأوجه وهو حقّ ومتسق مع فحوى الآية. ولا سيما أن النعي على الذين أوتوا الكتاب لكتمانهم إيّاه هو موضوع آيات أخرى في هذه السورة تأتي بعد قليل. ويبدو من هذا أن الآية ليست من السياق السابق. ولقد حكت الآيات التالية لهذه الآية قول اليهود بأنهم أغنياء والله فقير وروي أن هذا كان منهم جوابا للنبي صلى الله عليه وسلم في وقت طلب منهم مساعدة على ما سوف نذكره بعد حيث يتبادر لنا أن بين هذه الآية والآيات التالية صلة وأنها جاءت بمثابة تمهيد لحكاية ذلك القول وتعنيف اليهود عليه ووصفهم بالبخل بمناسبته. وبكلمة

_ (1) انظر تفسيرها في الطبري والخازن وابن كثير. (2) انظر التاج، ج 4 ص 78، والشجاع هو الثعبان واللهزمتان هما الشدقان من تفسير مؤلف التاج.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 181 إلى 184]

أخرى جاءت بدء فصل جديد، والله أعلم. والآية على كل حال احتوت تقرير معنى تام في صدد التنديد بالبخلاء الضانين بأموالهم عن سبيل الخير وبخاصة الممتنعين عن أداء الزكاة الواجبة عليهم وإنذارهم. وعبارتها مطلقة تتضمن الشمول والاستمرار في التلقين كما هو واضح أيضا. وأسلوبها قوي رائع في التنديد الذي ينطوي على الحثّ على الإنفاق من المال الذي في أيديهم والذي هو في حقيقته مال الله وفضله ليسوا أكثر من وكلاء عليه. ولقد تكرر ما جاء في هذه الآيات كثيرا في القرآن المكي والمدني معا بأساليب متنوعة. لأنه أساس رئيسي من أسس الرسالة المحمدية. [سورة آل عمران (3) : الآيات 181 الى 184] لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184) . تضمنت الآيات ما يلي: 1- تقريرا بشهادة الله وإنذاره في سياق حكاية قول صدر من اليهود حيث قررت أن الله قد سمع قولهم إن الله فقير ونحن أغنياء وأنه سجّله عليهم كما سجّل ما كان قبل من قتل اليهود للأنبياء. ولسوف يحاسبهم الله ويدخلهم ناره الحارقة ويقول لهم ذوقوا عذابها فهو جزاؤكم الحقّ على ما قدمت أيديكم دون ما ظلم لأن الله ليس ظلّاما لعبيده وإنما هو موفيهم ما يستحقون. 2- وحكاية لقول آخر صدر منهم جوابا على دعوة النبي إياهم إلى الإيمان به

تعليق على الآية لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ... إلخ والآيات الثلاث التالية لها

حيث قالوا على سبيل تحدي النبي وتعجيزه إن الله وصّانا بألا نصدق رسولا يدعي أنه مرسل من الله إلّا إذا أكلت القربان الذي يقرّبه نار تنزل من السماء. 3- وأمرا للنبي بالردّ عليهم ردا ينطوي على التنديد: فلقد جاءهم رسل من قبله بالبينات وبالذي طلبوه فلماذا قتلوهم إن كانوا صادقين في حفظ وصية الله. 4- وتطمينا وتسلية للنبي، فإذا أصرّ اليهود على تكذيبه فلا موجب لغمّه وحزنه فإن له أسوة بالرسل السابقين الذين جاءوا بالحقّ والصدق والكتب الإلهية المنيرة فكذبوا أيضا. تعليق على الآية لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ ... إلخ والآيات الثلاث التالية لها واسم اليهود ليس صريحا في الآيات. غير أن جمهور المفسرين قرروا أنها في حق اليهود. ومضمونها قوي الدلالة على ذلك. كما أن آيات عديدة في هذه السورة وفي سورة البقرة نعتت اليهود بالصفات التي جاءت عنهم في هذه الآيات التي جرت على الأسلوب الذي تكرر وخاصة في القرآن المدني بالنسبة لليهود وهو وصل مواقف الحاضرين من النبي صلى الله عليه وسلم بمواقف السابقين من أنبيائهم من قبل حتى كأنها صادرة من الحاضرين وذلك على سبيل التشديد في التنديد وبيان عدم غرابة ما يفعله الحاضرون لأنهم سائرون على قدم آبائهم السابقين وجبلّتهم. وقد روى المفسرون» في صدد الآية الأولى أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أبا بكر رضي الله عنه إلى جماعة من اليهود يدعوهم إلى الإسلام ويبيّن لهم أركانه ومن جملتها الزكاة وأورد لهم آية فيها حثّ على إقراض الله قرضا حسنا فجادلوه وصدر

_ (1) هذه الرواية والروايتان الأخريان وردت في سياق تفسير الآيات في الطبري والطبرسي والخازن وابن كثير.

من بعضهم القول البذيء في حقّ الله الذي حكته الآية على سبيل الهزؤ والجحود حتى أن أبا بكر لم يملك نفسه من أن يغضب ويلطم القائل. وفي رواية أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أبا بكر ليطلب منهم مالا يستعين به على بعض حروبه لأنهم حلفاء المسلمين وقد أوجب ذلك عليهم في كتاب الموادعة الذي كتبه حينما حلّ في المدينة على ما ذكرناه في مناسبة سابقة فجرى ما ذكرته الرواية الأولى. وهناك رواية ثالثة أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا جماعة من اليهود إلى الإسلام والإيمان برسالته فقالوا له ما حكته الآية [183] . والروايات لم ترد في الصحاح. وتقتضي أن تكون الآيات نزلت مجزّأة في حين أنها تبدو منسجمة بحيث يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة. ويتبادر لنا أن فيها تسجيلا لمشهد جدلي قام بين النبي صلى الله عليه وسلم وبعض اليهود أو في البدء بين أبي بكر وبعض اليهود في صدد الرسالة الإسلامية وما تدعو إليه من الإنفاق في سبيل الله ووصفها ذلك بإقراض الله قرضا حسنا فحكت ما كان منهم إزاء ذلك ثم ربطت بينه وبين ما كان من آبائهم من مواقف جريا على الأسلوب القرآني الذي مرّت أمثلة منه في هذه السورة وفي سورة البقرة. ومن الجدير بالذكر أن في الإصحاحات (17 و 18 و 19) من سفر الملوك الثالث في الطبعة الكاثوليكية أخبار مما أشير إليه في الآية [183] إشارة خاطفة حيث ذكر فيها خبر قتل كثيرين من أنبياء الله وخبر استشراء عبادة البعل بين بني إسرائيل برعاية ملوكهم وبخاصة برعاية آحاب ملك إسرائيل وزوجته إيزابيل وخبر مناظرة بين النبي إيليا وبين أبناء البعل وتحديه إياهم بتقريب كل منهم قربانا. فمن هبطت من السماء نار فأكلت قربانه كان هو الذي على الحق. وخبر نزول نار من السماء وأكلها قربان النبي إيليا دون قرابين أبناء البعل، وعدم ارعواء آحاب وزوجته وجمهور بني إسرائيل عن انحرافهم الديني رغم ذلك ومطاردتهم للنبي بحيث يستحكم ردّ القرآن في اليهود ويبهتهم بما في أسفارهم من وقائع.

[سورة آل عمران (3) : آية 185]

[سورة آل عمران (3) : آية 185] كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185) . في الآية تقرير بحتمية الموت على كل نفس وبأن ما في الحياة الدنيا من المتعة هو إلى زوال وهو باطل خداع. وبأن مصير الناس الخالد إنما يتقرر يوم القيامة حيث يوفون أجورهم حسب ما قدموه من عمل في الدنيا وأن الفوز الحقيقي هو لمن يزحزح بعمله عن النار ويدخل الجنة. تعليق على الآية كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ... إلخ ولم نطلع على رواية خاصة بالآية. ويتبادر لنا أنها غير منقطعة عن السياق السابق. فالآية [180] نددت بالبخل وأنذرت البخلاء بعذاب الله يوم القيامة، والآية [181] حكت تفاخر اليهود بغناهم فجاءت هذه الآية لتوكيد كون الحياة الدنيا التي يحرص البخلاء عليها فيضنون بما آتاهم الله من فضله ويفاخر اليهود بغناهم فيها إنما هي متعة قصيرة. ولتوكيد كون العمل الصالح فيها من إيمان وبرّ وخير وإنفاق في سبيل الله ومساعدة المحتاجين هو وحده الذي ينجّي الإنسان في الحياة الأخروية التي تتسم بالخلود ويزحزحه عن النار، فيكون لصاحبه بذلك الفوز العظيم. وواضح أن الآية تظل قوية الهتاف والتذكير على مدى الدهر بما احتوته من حقيقة وبما انطوى فيها من توكيد. على أننا ننبه هنا كما نبهنا في مناسبات سابقة إلى أنه ليس في هذه الآية أيضا ما يدعو إلى نفض اليد من الدنيا ومتعها وطيباتها والنشاط فيها في مختلف المجالات. وإنما هدفها هو التذكير بحتمية الموت وحثّ الناس والمسلمين بخاصة على الاستمساك بحبل الله وتقواه والقيام بواجباتهم نحوه ونحو الناس والاستكثار من العمل الصالح الذي هو وحده النافع المنجي لهم في الحياة الأخروية.

[سورة آل عمران (3) : آية 186]

[سورة آل عمران (3) : آية 186] لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) . الخطاب في الآية موجّه إلى المسلمين يقرر لهم به بأنهم معرضون للابتلاء والاختبار في أموالهم وأنفسهم خسارة وقتلا. كما أنهم سوف يسمعون من أهل الكتاب والمشركين كثيرا من البذاءات المؤذية للنفس، وأن عليهم أن يصبروا ويثبتوا ويتقوا الله. وهذا الموقف الذي لا يقفه إلّا صاحب العزم تجاه تلك الاختبارات هو الموقف الذي يجمل بهم. تعليق على الآية لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ ... إلخ روى المفسرون أن الآية نزلت في مناسبة ما كان بين أبي بكر وفنحاص مما ذكرناه قبل أو في مناسبة هجو كعب بن الأشرف الشاعر اليهودي للنبي والمسلمين أو في مناسبة موقف مؤذ وقفه عبد الله بن أبي كبير المنافقين من النبي في مجلس حيث أسمع النبي ما يكره وردّ عليه بعض المخلصين وكاد يقع قتال بين المخلصين والمنافقين بسبب ذلك. والروايات لم ترد في الصحاح. ويتبادر لنا أن الآية متصلة بالسياق السابق. وهذا لا يمنع أن يكون صدر في ظرف نزولها بعض مواقف مؤذية من اليهود والمنافقين. وقد جاءت مطلقة لتنبه المؤمنين إلى ما يمكن أن يتعرضوا له من خسائر في الأرواح والأموال ومن بذاءات ومكائد بصورة عامة استهدافا لحملهم على توطين أنفسهم على الصبر والتحمل والتضحية في كل موقف مماثل. وقد انطوت على بشرى بالفوز النهائي لهم إذا ما صبروا وثبتوا واتقوا الله.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 187 إلى 189]

وفي كل هذا تلقين جليل ومنبع إلهام فياض للمؤمن المجاهد في سبيل الله والحق في كل ظرف ومكان. وننبّه هنا كما نبّهنا في مناسبات سابقة إلى أنه لا محلّ للظن بأن الآية تدعو إلى الصبر على الإهانات والأذى والعدوان. فهذا مما قررت الآيات العديدة المكية والمدنية «1» حقّ المسلمين على مقابلته بالمثل وبذل الجهد في إرغام البغاة الظالمين وحثّهم عليه مما مرّت منه أمثلة عديدة. وإنما هي في صدد الحثّ على تحمل ما هو طبيعي الوقوع وهم يجاهدون في سبيل الله ودينه الكفار من المشركين وأهل الكتاب من خسارة في الأرواح والأموال وما قد يسمعونه من بذاءات ويلمسونه من مكائد. ولقد استطرد المفسرون في سياق هذه الآية إلى ذكر قتل الشاعر اليهودي المذكور آنفا حيث رووا أن رسول الله قال: «اللهمّ اكفنيه، ثم قال: من لي به فقد آذاني» ، فتقدم أحد أصحاب رسول الله محمد بن سلمة فقال أنا له يا رسول الله ثم أخذ بعض رفاق له وذهبوا إلى حصن اليهود وخادعوه حتى تمكنوا من قتله وحزوا رأسه وجاؤوا به إلى رسول الله. وهذا من صور السيرة النبوية التي يصحّ أن يكون فيها الأسوة. وننبّه على أن هذا الحادث لم يكن الأول فقد كان هناك شاعر يهودي بذيء آخر اسمه أبو عفك فانتدب رسول الله من قتله وكان سالم بن عمير رضي الله عنه «2» . [سورة آل عمران (3) : الآيات 187 الى 189] وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) .

_ (1) انظر آيات الشورى [36- 43] والبقرة [190- 194] مثلا. (2) انظر تفصيل الحادثين في طبقات ابن سعد ج 3 ص 67 و 70 و 73، وانظر ابن هشام ج 2 ص 436 وانظر الطبري في تفسير الآية.

تعليق على الآية وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون (187) والآيتين التاليتين لها

(1) بمفازة: بمنجاة. في هذه الآيات: 1- تقرير بأن الله قد أخذ عهدا من أهل الكتاب بأن يبينوا للناس ما في كتبهم ولا يكتموا منه شيئا فنبذوا عهد الله وكتبه وراء ظهورهم وباعوها بثمن بخس فبئس ما شروه بها. 2- وخطاب موجّه للنبي صلى الله عليه وسلم والسامعين بالتبعية بأن لا يظنّ أحد منهم أن الذين يزهون بما ينسبونه إلى أنفسهم من صفات ومزاعم ويحبّون أن يحمدهم الناس ويمدحوهم ويوقروهم على ما لم يتحقق فيهم من صفات وما لم يصدر منهم من أقوال وأفعال تستوجب الحمد والمدح والتوقير يمكن أن ينجوا من عذاب الله. فإنهم سوف يلقون عذابه الأليم من دون ريب. فهو مالك السموات والأرض والمتصرف فيهما والقدير على كل شيء فلا يعجزه هؤلاء ولا تنطلي عليه أباطيلهم. تعليق على الآية وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187) والآيتين التاليتين لها في فصل التفسير من صحيح البخاري روايتان في صدد ومناسبة الآيتين [187 و 188] جاء في أولاهما عن أبي سعيد: «أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلّفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله فإذا قدم اعتذروا إليه وحلفوا وأحبّوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت» . وجاء في ثانيتهما عن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا يهود فسألهم عن شيء فكتموه إيّاه

وأخبروه بغيره وأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ثم قرأ الآيتين [187 و 188] » «1» . وهناك روايات أخرى عن ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم لم ترد في الصحاح. منها ما يذكر أن الآية [187] نزلت في حق اليهود والنصارى أو في حق اليهود خاصة لكتمانهم صفات رسول الله الواردة في كتبهم وما يذكر أن الآية الثانية نزلت في فريق من اليهود قالوا للنبي إنهم يؤمنون به كذبا وخداعا. وفي حديثي البخاري تعارض حيث يبدو من حديث أبي سعيد أن الآية [187] نزلت في غير ما نزلت فيه الآيتان حسب حديث ابن عباس. والذي يتبادر لنا أن الحديثين والروايات هي من قبيل التخمين والتطبيق وأن الآية الأولى هي بمثابة تمهيد للثانية. وهما منسجمتان وتبدوان وحدة كاملة. وأنهما إلى هذا غير منقطعتين عن الآيات السابقة. وفيهما استمرار على التنديد باليهود الذين هم موضوع الحديث. مع القول إنه قد يكون حدث حادث أو موقف من نوع ما ذكر في حديث ابن عباس والروايات قبل نزول الآيات. أما الآية الثالثة فقد جاءت لتقرير قدرة الله تعالى على تحقيق ما وعد به من عذاب الذين يكتمون كتابه ويحبّون أن يحمدوا بما لم يفعلوا. ولقد قال الطبري إن إطلاق العذاب يحتمل أن يكون العذاب المنذر به دنيويا وأخرويا معا. ولا يخلو هذا من وجاهة ولقد أنذر الله اليهود في آيات كثيرة في سور سبق تفسيرها بخزي ونكال وذلّ وعذاب في الدنيا وتحقق فضلا عما سوف ينالونه من عذاب في الآخرة. ولقد أدار المفسرون الكلام على الآيتين على اعتبار أنهما شاملتا التلقين للمسلمين أيضا وأوردوا في صدد ذلك بعض الأحاديث. وهذا سديد يلهمه إطلاق

_ (1) انظر التاج ج 4 ص 78، والحديث الأول ورد في صحيح مسلم والثاني في مسند الترمذي أيضا انظر أيضا تفسير الآيات في الطبري والطبرسي والخازن وابن كثير حيث رووا الروايتين.

العبارة فيهما أولا وكون المسلمين قد صاروا بالقرآن من الذين أوتوا الكتاب بالمعنى العام ثانيا. فضلا عن أن كل ما فيه تلقين أخلاقي واجتماعي في القرآن بالنسبة للسابقين يصحّ أن يكون فيه مثل ذلك للمسلمين مما ذكرناه في مناسبات كثيرة ومماثلة. ولقد احتوت كل من الآيتين أمرين من ذلك ففي الأولى: أولا: نعي على نبذ الميثاق الذي أخذه الله على الذين أوتوا الكتاب ببيان ما فيه وعدم كتمانه. ثانيا: نعي على إساءتهم استعماله في ما يعود عليهم بالمنافع العاجلة والأغراض الخسيسة. وفي الثانية: أولا: نعي على الذين يزهون ويتبجحون بما يأتونه. وثانيا: نعي على الذين يحبون أن ينالوا الحمد على شيء لم يفعلوه. والتلقين يدور في نطاق سلبي ونطاق إيجابي معا من حيث إنه يشنّع على ما تنعى عليه الآيتان من أفعال وأخلاق ويستنكرها من جهة ويلزم الذين أوتوا الكتاب ببيان ما أوتوه والالتزام به قولا وعملا من جهة أخرى. والمتبادر أن جملة وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ تعبير أسلوبي بمعنى أن الذين أوتوا الكتاب صاروا تلقائيا ملزمين ببيان ما فيه للناس وعدم كتمانه ثم العمل به. وقد يزيد هذا من عظم مسؤوليتهم وخطورة تصرفهم ومواقفهم سلبا وإيجابا. ولقد روى الخازن قولا لأبي هريرة جاء فيه: «لولا ما أخذ الله عزّ وجلّ على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء. ثم تلا الآية» . كما روي عن الحسن بن عمارة قال: «أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألفيته على بابه فقلت أريد أن تحدثني فقال أما علمت أني تركت الحديث فقلت إما أن تحدثني وإما أن أحدثك. فقال

حدثني فقلت: حدثني الحكم بن عيينة عن يحيى بن الخراز قال سمعت عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: «ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا قال فحدثني أربعين حديثا» . وفي هذا تساوق مع ما قررناه من المتبادر من الجملة. وفيه تفسير لجملة أُوتُوا الْكِتابَ بمعنى (أوتوا العلم) أيضا وهو تفسير سديد مؤيد بما جاء في القرآن من ترادف بين الكلمتين في آيات كثيرة منها ما ورد في سور سبق تفسيرها. ويسوغ القول إن الذين أوتوا العلم إطلاقا مخاطبون بما في الآيات من تلقينات إيجابية وسلبية. ويكون فيها والحالة هذه تلقينات متصلة بآداب العلم والعلماء وواجباتهم وسلوكهم شخصيا واجتماعيا وخلقيا وعلميا والله أعلم. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات بعض أحاديث نبوية فيها ما يفيد أن هذا المفسر قد أخذ بذلك التفسير واعتبر ما في الآيات تلقينات شاملة للعلماء وآدابهم وواجباتهم وسلوكهم وهو متسق مع ما قلناه آنفا. من ذلك حديث قال إنه مروي بطرق عديدة. وقد رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة بهذا النصّ: «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة» «1» . ولقد تطرق رشيد رضا في سياق تفسير الآية [187] إلى تزلف العلماء لأصحاب السلطان ومداهنتهم لهم. وما في ذلك من تورّط في الارتكاس في ما نصّت عليه الآية. وأورد بعض الأحاديث منها حديث عن أنس نعته بالمشهور. وقال رواه العقيلي في المصنف والحسن بن سفيان في مسنده وأبو نعيم في الحلية وقال السيوطي إن له شواهد فوق الأربعين والراجح أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد جاء فيه:

_ (1) التاج ج 1 ص 58، ونورد في هذه المناسبة حديثين في الصحاح روى أحدهما الشيخان عن أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليبلغ الشاهد الغائب فإنّ الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى منه» . وروى ثانيهما الترمذي وأبو داود عن ابن مسعود جاء فيه: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم نضّر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه فربّ مبلغ أوعى من سامع، وفي رواية نضّر الله امرأ سمع منّا حديثا فحفظه حتى يبلغه فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه وربّ حامل فقه ليس بفقيه» . التاج ج 1 ص 59 و 60.

«العلماء أمناء الرسل على عباد الله ما لم يخالطوا السلطان فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسل فاحذروهم واعتزلوهم» «1» . وحديث عن ابن عباس عن النبي قال نقلا عن السيوطي إنه رواه ابن ماجه بسند رواته ثقات جاء فيه: «إنّ أناسا من أمتي يتفقهون في الدين ويقرأون القرآن ويقولون نأتي الأمراء فنصيب من دنياهم ونعتزلهم بديننا ولا يكون ذلك. كما لا يجتنى من القتاد إلّا الشوك، كذلك لا يجتنى من قربهم إلّا الخطايا» . وحديث رواه معاذ بن جبل وأخرجه الحاكم جاء فيه: «إذا قرأ الرجل القرآن وتفقّه في الدين ثم أتى باب السلطان تملّقا إليه وطمعا بما في يده خاض بقدر خطاه في نار جهنّم» . وحديث رواه الديلمي جاء فيه: «سيكون في آخر الزمان علماء يرغّبون الناس في الآخرة ولا يرغبون، ويزّهدون الناس في الدنيا ولا يزهدون، وينهون عن غشيان الأمراء ولا ينتهون» . وهذه الأحاديث لم ترد في الصحاح. ولكن ما فيها من حيث الموضوع لا يخلو من الحق والسداد. ومع ذلك فإن الموضوع يتحمل شيئا من البيان. فالعلماء طائفة مهمة من المسلمين، عليها واجبات ولها حقوق عامة وخاصة ولا بد لها بسبيل ذلك من الاتصال بأصحاب السلطان. فالمتبادر أن المكروه الذي يقع تحت طائلة نهي الآية والأحاديث هو إعانة العالم للسلطان الجائر الشاذّ المنحرف. وإقراره على جوره وشذوذه وانحرافه ومداهنته ومخالطته وغشيانه رغم ذلك ابتغاء منافع الدنيا الخسيسة. وهناك حديث صحيح يرويه رشيد رضا في السياق وموجه إلى المسلمين جميعهم وليس إلى علمائهم يصحّ أن يكون ضابطا وقد رواه النسائي والترمذي عن كعب بن مجرة قال: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن تسعة فقال إنه ستكون بعدي أمراء من صدّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه وليس بوارد عليّ الحوض. ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه وهو وارد عليّ الحوض» .

_ (1) من كلام رشيد رضا أن ابن الجوزي قال عن هذا الحديث إنه موضوع منازعا في ذلك السيوطي الذي قال إن له شواهد فوق الأربعين. الجزة السابع من التفسير الحديث 19

[سورة آل عمران (3) : الآيات 190 إلى 195]

هذا، ومن الحق أن ننبّه على أن ما ذكره رشيد رضا من تزلّف العلماء ومداهنتهم للسلطان بسبيل المنافع والوجاهات الدنيوية على حساب كلمة الحقّ والموقف الحق ليس إلّا صورة من صور ما يمكن أن يكون منطويا في جملة فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187) وإن كانت أشدّها خطورة حيث يمكن أن يكون من صورها استغفال بسطاء المسلمين وتحريف أحكام كتاب الله وسنّة رسوله أو تأويلها أو تطبيقهما تطبيقا غير صحيح بقصد إعطاء الرفض والفتاوى للناس في مختلف شؤون الدنيا والدين وبسبيل نيل المنافع والوجاهات. والله تعالى أعلم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 190 الى 195] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195) . (1) المنادي: قيل إن الكلمة تعني القرآن وقيل إنها تعني النبي والقولان سائغان وإن كان الثاني هو الأكثر ورودا. في الآية الأولى تنبيه تمهيدي على ما في خلق السموات والأرض وتعاقب

تعليق على الآية إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب (190) وما بعدها إلى الآية [195]

الليل والنهار من الآيات الدالة على عظيم قدرة الله وبديع صنعه تدعو ذوي العقول الراجحة إلى التفكير والتدبّر. وفي الآيات الأربع التالية حكاية مناجاة رائعة تنطوي على التنويه على لسان الفئة الراجحة العقل الطاهرة القلب المسلمة النفس المخلصة في الإنابة إلى الله تعالى التي تذكر الله قياما وقعودا وعلى جنوبها وتتفكر في خلق السموات والأرض وتهتف إلى ربّها مقررة أنه لا يمكن أن يكون قد خلق هذا الكون العظيم باطلا وعبثا وبدون غاية وحكمة. وتلتمس منه أن يقيها عذاب النار الذي يكون الخزي نصيب من يدخله فيها وتقرر أنها قد سمعت المنادي الذي يدعو إلى الإيمان به فآمنت وأسلمت النفس إليه. وتطلب منه أن يغفر لها ذنوبها ويتجاوز عن سيئاتها ويجعلها من جملة الأبرار ويحشرها معهم ويمنحها ما وعدها إياه يوم القيامة الذي لن يكون فيه أنصار للظالمين. وتعلن يقينها بأن الله عزّ وجلّ لا يمكن أن يخلف وعده لمن آمن به وأسلم النفس إليه. وفي الآية الأخيرة جواب رباني على هذه المناجاة متّسق معها في الروعة ومن شأنه بعث الطمأنينة والسكينة في نفوس أصحابها حيث أعلنهم به أن الله قد استجاب دعاءهم وأنه لن يضيع عملا صالحا عمله أحد منهم ذكرا كان أم أنثى فهم سواء في ذلك وبعضهم من بعض وأنه سوف يتجاوز عن سيئات الذين هاجروا من أنفسهم أو أجبروا على الخروج والذين أوذوا في سبيله وقاتلوا وقتلوا وأنه سوف يدخلهم الجنات التي تجري تحتها الأنهار ثوابا وجزاء على إخلاصهم وتضحياتهم وهو الذي عنده حسن الجزاء لكل من يعمل صالحا. تعليق على الآية إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) وما بعدها إلى الآية [195] في كتب التفسير روايتان في صدد هذه الآيات. واحدة عن ابن عباس جاء

فيها «1» أن قريشا سألوا اليهود: بم جاءكم موسى؟ قالوا: عصاه ويده بيضاء للناظرين. وسألوا النصارى: بم جاءكم عيسى؟ قالوا: كان يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى. فأتوا النبي فقالوا له: ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهبا فدعا ربّه فأنزل الله الآية الأولى ليتفكروا في خلق السموات والأرض. وثانية عن أم سلمة «2» أنها سألت رسول الله ما بال القرآن يذكر الرجال بالهجرة ولا يذكر النساء فنزلت الآية الأخيرة. والرواية الأولى لم ترد في الصحاح. وقد استغربها ابن كثير الذي رواها ونبّه على ذلك بقوله إن الآية مدنية. أما الرواية الثانية فهي محتملة وقد رواها الترمذي كما أشرنا آنفا مع التنبيه على أن المتبادر أن الآيات وحدة تامة منسجمة. فإذا صحت فيكون سؤال أم سلمة سابقا لنزولها فاقتضت حكمة التنزيل ذكر المؤمنين بجنسيهم في الجواب استجابة لتساؤل المؤمنات بلسان أم المؤمنين والله أعلم. والمتبادر كذلك أن الآيات ليست منقطعة عن السياق السابق مهما بدت فصلا جديدا وبخاصة عن الآيات التي جاءت قبل موضوع اليهود، بل ولعلها متصلة بموقف اليهود والمشركين الذين ذكروا معا في آية سابقة ليكون فيها مقارنة بين هؤلاء وبين المؤمنين المخلصين. والآيات من روائع الفصول القرآنية ومن أقواها تأثيرا في النفس وبعثا على الخشوع والهيبة وتوجيها إلى الله. وقد روي من طرق عديدة أن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما كان يتلوها في جنح الليل والأسحار ويبكي خشوعا كلما تلاها «3» . وفي فصل التفسير في صحيح البخاري حديث عن ابن عباس في سياق هذه الآيات جاء فيه:

_ (1) انظر تفسير ابن كثير وهو يرويها عن الطبراني بسند متصل إلى ابن عباس. (2) انظر تفسير ابن كثير والطبري والخازن والطبرسي وانظر أيضا التاج ج 4 ص 79 حيث روى ذلك الترمذي في فصل التفسير. وهذا نصّ حديثه عن أم سلمة قالت: «قلت يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة وكانت أم سلمة أولى ظعينة هاجرت إلى المدينة فأنزل الله تعالى فاستجاب لهم أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ. (3) انظر تفسير الخازن وابن كثير.

«بتّ عند خالتي ميمونة فتحدث رسول الله مع أهله ساعة ثم رقد فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء فتلا الآيات ثم قام فتوضأ واستن وصلّى إحدى عشرة ركعة ثم أذّن بلال فصلى ركعتين ثم خرج فصلى الصبح» «1» . وروى ابن كثير حديثا أخرجه ابن مردويه جاء فيه: «أنّ عبد الله بن عمر سأل عائشة أم المؤمنين عن أعجب ما رأته من النبيّ صلى الله عليه وسلم، فبكت ثم قالت: كلّ أمره كان عجبا، أتاني في ليلتي حتى دخل معي في فراشي ولصق جلده بجلدي ثم قال يا عائشة ائذني لي أتعبد لربي قلت إني لأحبّ قربك وأحبّ هواك. فقام إلى قربة في البيت فما أكثر صبّ الماء ثم قام فقرأ القرآن ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت حقويه ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت حجره. ثم اتكأ على جنبه الأيمن ووضع يده تحت خده ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت الأرض فدخل عليه بلال فآذنه بصلاة الفجر فلما رآه يبكي قال يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا، وما لي لا أبكي وقد نزل عليّ الليلة إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) إلى آخر الآيات، ثم قال ويل لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكّر فيها» . وروى ابن كثير عن أبي هريرة حديثا آخر جاء فيه: «إنّ رسول الله كان يقرأ هذه الآيات كلّ ليلة» . والحديثان الأخيران لم يردا في الصحاح. ونتوقف إزاء ما جاء في الأول بخاصة من سيلان دموع النبي حتى تبلغ حقويه ثم حجره ثم الأرض. ومهما يكن من أمر ففي الأحاديث صورة لاستغراق النبي صلى الله عليه وسلم في عبادة ربّه وشكره وبخاصة في الليل، وهو ما كان أمر به في أول رسالته على ما جاء في الآيات الأولى من سورة المزّمل. ومع أن الآيات قد عنت الفئة المخلصة التي هاجرت وأوذيت وقاتلت في سبيل الله وتحملت التضحيات في عهد النبي فإن في أسلوبها معنى التعميم

_ (1) التاج ج 4 ص 79 ومعنى استنّ: نظف أسنانه بالسواك. [.....]

والشمول كما هو المتبادر، كما أن روحها ينطوي على معنى الدعوة إلى التأسي بتلك الفئة والتحقق بما كانت عليه وما اضطلعت به ولنيل الدرجة العليا التي نالتها. ومهما تكن رواية أم سلمة في صدد الآية الأخيرة صحيحة فإن الأسلوب الذي جاءت عليه هذه الآيات جدير بالتنويه من حيث انطواؤه على تسجيل كون تلك الفئة المخلصة المستغرقة في الله ونصر دينه والمتحملة للتضحيات من أصحاب رسول الله الأولين السابقين بالهجرة والإخراج والأذى والقتل والقتال مزيجة من الرجال والنساء معا وكون الجنسين متضامنين تضامنا وثيقا في ذلك كله. وكون الجنسين سواء في موضوع الخطاب والمناجاة والتنويه والعمل والثواب والتضحية والأذى والقتل والقتال والهجرة والإخراج وفي تقرير الأهلية لذلك كله. ولعل قرن المرأة بالرجل في هذا المقام وبهذا الأسلوب من أقوى مؤيدات مساواتهما في الشريعة الإسلامية في الحقوق والواجبات العامة ومن أقوى مؤيدات أهلية المرأة في نظر الشريعة لكل واجب عام. ولقد قرن المؤمنات بالمؤمنين في آية من سورة البروج في معرض تسجيل ما تعرّض له المؤمنون من الجنسين من فتنة وأذى. ولقد قرنت الأنثى بالذكر في مواضع عديدة من القرآن المكي بأسلوب يفيد أنهما شيء واحد وأنهما متساويان في التكليف وما يترتب عليه من نتائج في الدنيا والآخرة. وفي السور المدنية التي تأتي بعد هذه السورة آيات كثيرة ذكر فيها الجنسان معا بأساليب قوية رائعة فيها توكيد للمعنى المنطوي في الآية التي نحن في صددها حيث يتساوق في ذلك القرآن المكي والمدني معا. ولقد تحفظ بعض المفسرين والفقهاء في صدد مساواة المرأة بالرجل في الدين والعقل والمركز الدنيوي استنادا إلى بعض الآيات والآثار. ولقد علقنا على ذلك بما فيه الكفاية في سياق تفسير الآية [13] من سورة البقرة وقبلها

[سورة آل عمران (3) : الآيات 196 إلى 198]

في سياق آيات مكية أخرى وبخاصة آية سورة الروم [23] فلا نرى محلا للإعادة والزيادة. ولقد روى ابن كثير عن مجاهد عن أم سلمة أنها قالت إن آخر آية نزلت هي الآية [195] وليس هذا الحديث من الصحاح. والآية جزء غير منفصل من سلسلة. فالتوقف فيه أولى. ولقد وقف بعض المفسرين «1» عند جملة الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ ولمحوا فيها تجويزا للصلاة في هذه الحالات وأوردوا حديثا عن عمران بن الحصين رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «صلّ قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب» «2» . والحديث يبنى على سؤال من الحصين بسبب بواسير كانت فيه. وظاهر أنه صدر للترخيص لمعذور وليس له صلة بالآية التي نحن في صددها والتي هي في صدد التنويه بالفئة المخلصة التي تذكر الله في كل حالاتها. والصلاة هي صورة من صور ذكر الله وليست كل صوره. [سورة آل عمران (3) : الآيات 196 الى 198] لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198) . عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تنبيها للنبي صلى الله عليه وسلم والسامعين من المؤمنين بالتبعية بعدم الأبوه والاغترار بما يتمتع به الكفار من أسباب القوة والبروز في الدنيا. فليس هو إلّا متاع قصير الأمد ثم يكون مأواهم جهنم في حين تكون منازل المتقين الجنات التي تجري من تحتها الأنهار وبذلك يثبت أن ما عند الله للأبرار هو خير وأفضل مما عنده للكفار.

_ (1) انظر تفسير الخازن وابن كثير. (2) التاج، ج 1 ص 179.

تعليق على الآية لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد (196) والآيتين التاليتين لها

تعليق على الآية لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) والآيتين التاليتين لها وقد روى المفسرون «1» أن الآيات نزلت في مشركي العرب الذين كانوا يتجرون وتكثر في أيديهم الأموال ويتنعمون بها فقال بعض المسلمين: إن أعداء الله في العيش الرخي وقد هلكنا من الجوع. كما رووا أنها نزلت في اليهود للسبب نفسه. والروايات لم ترد في الصحاح. ومع أنها قد تكون متسقة مع مدى الآيات فالذي يتبادر لنا أنها ليست منقطعة عما قبلها. فالآيات السابقة نوّهت بالمهاجرين والمجاهدين بما نوّهت ووعدتهم بما وعدت فلا يبعد أن يكون بعض المسلمين قالوا ما ذكرته الروايات أو تساءلوا عن سببه بمناسبة تلك الآيات فاقتضت حكمة التنزيل الردّ على ذلك للتطمين والتسكين. بل لعلّ فيها ما يستأنس به على أنها كسابقاتها متصلة بالآيات التي ذكر فيها اليهود والمشركون وما يتمتعون به والتي دعي المسلمون فيها إلى توطين النفس على الصبر والتحمّل. ولقد تكرر ما جاء في الآيات في مواضع كثيرة من القرآن المكي. وفي بعضها ما يفيد أن الكفار كانوا يحسبون ذلك دليلا على عناية الله بهم ورعايته لهم فكانت الآيات تردّ عليهم مكذبة منددة متوعدة بالعاقبة الوخيمة لهم مقررة أن ذلك فتنة واختبار واستدراج وإملاء وواعدة المؤمنين المتقين بالعاقبة السعيدة. وينطوي في الآيات صورة واقعية من الحياة كانت تبرز في العهد المكي والعهد المدني من السيرة النبوية. فاقتضت حكمة التنزيل تكرار الإشارة إليها في القرآن المكي والمدني بأسلوب فيه علاج روحي للمؤمنين وإنذار رادع للكفار. وهذه الصورة تبرز في كل ظرف ومكان لأنها كما قلنا من صور الحياة

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبرسي والخازن.

[سورة آل عمران (3) : آية 199]

بحيث يصحّ القول إن في الآيات علاجا روحيا مستمرا يمدّ المسلمين بالقوة والأمل والطمأنينة بحسن العاقبة في عالم الخلود مهما ضاقت عليهم الأحوال في عالم الفناء. ولقد أورد المفسر القاسمي في سياق الآية الأولى حديثا عن ابن عباس رواه الشيخان أيضا جاء فيه: «إنّ عمر بن الخطاب قال جئت رسول الله فإذا هو في مشربة وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف وعند رجليه قرظ مصبور وعند رأسه أهب معلّقة فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت فقال ما يبكيك؟ قلت: يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هم فيه وأنت رسول الله! فقال: أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟» . والحديث ورد في فصل التفسير في صحيح البخاري في سياق تفسير سورة التحريم في مناسبة ما كان من غضب رسول الله على زوجاته. وفيه صورة من صور معيشة رسول الله صلى الله عليه وسلم وزهده التي روي من بابها صور عديدة «1» . وفي جواب النبي لعمر ما احتوته الآية من تلقين ومعالجة. ولا نرى فيه تعارضا مع قول الله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ الأعراف [32] وفي سورة المائدة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [87] وإنما الصورة كما قلنا صورة عيش النبي صلى الله عليه وسلم وزهده لما هو بسبيله من مهمة عظمى رأى أنها تقتضي منه التفرّغ لها والزهد في ما عداها «2» . [سورة آل عمران (3) : آية 199] وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) .

_ (1) التاج، ج 4 ص 239- 241. والأهب هي أكياس جلد توضع فيها أشياء المعيشة. (2) انظر صور معيشة رسول الله وزهده في أحاديث عديدة في التاج ج 5 ص 160- 164.

عبارة الآية واضحة. وفيها تقرير تنويهي بوجود فريق من أهل الكتاب يؤمنون بالله وبالقرآن كما يؤمنون بالكتب السابقة التي أنزلت على أنبيائهم إيمانا مخلصا فلا يحرفون ولا يتلاعبون ولا يبيعون آيات الله بالثمن البخس. فلهؤلاء عند الله الأجر الذي يستحقونه وهو سريع الحساب يؤدي إلى صاحب الحق حقه بدون مطل ولا إمهال. وقد روى المفسرون روايات عديدة في مناسبة نزول هذه الآية وفيمن عنته. منها أنها نزلت في النجاشي ملك الحبشة ومن آمن من قومه بالرسالة النبوية. فإن النبي لما بلغه موت النجاشي دعا إلى الصلاة عليه فقال المنافقون إنه يصلي على رجل من غير دينه فنزلت. ومنها أنها نزلت في عبد الله بن سلام أحد أحبار اليهود وغيره من أفراد اليهود الذين آمنوا بالرسالة المحمدية. ومنها أنها نزلت فيمن آمن بهذه الرسالة من أهل الكتاب عامة «1» . والروايات لم ترد في الصحاح. والآية على كل حال تحتوي تقرير حقيقة واقعية تكررت الإشارة إليها في الآيات المكية والمدنية وهي إيمان وتصديق أشخاص عديدين من أهل الكتاب نصارى ويهود برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم واندماجهم في الإسلام وإخلاصهم كل الإخلاص. وقد أوردنا نصوص الآيات في مناسبات سابقة. ويتبادر لنا أن الآية استهدفت مع تقرير تلك الحقيقة الاستدراك على ما جاء في الآيتين [186- 187] من تنديد بأهل الكتاب الذين يناوئون الدعوة النبوية ويؤذون المسلمين ويكتمون ما عندهم من بينات الله وينبذون بذلك الميثاق الذي أخذه عليهم بيان ما في كتبهم ثم تنبيه المسلمين العرب المتسائلين تساؤل العجب الذي أشرنا إليه في مناسبة الآية السابقة إلى كونهم ليسوا وحدهم الذين آمنوا وصدقوا واستجابوا وإن من أهل الكتاب من فعل مثلهم، وإن من شأن ذلك أن يبعث فيهم السكينة والثبات والصبر في إسلامهم ومواقفهم والأمل في انتشار دين الله وفي تمكّنهم في الأرض ويجعلهم لا ينخدعون بما يرونه من قوة الكفار

_ (1) انظر تفسير الآية في الطبري والطبرسي والخازن وابن كثير.

[سورة آل عمران (3) : آية 200]

وثرواتهم إذ أن ذلك إلى انتقاص وزوال. وبهذا التوجيه الذي نرجو أن يكون صوابا تبدو صلة الآية بسابقاتها وبالسياق جميعه واضحة. وفي الآية التالية ما يؤيد هذا التوجيه أيضا على ما يتبادر منها. ومما يحسن التعقيب به أن تلك الحقيقة التي قررتها الآية قد انطوت على حقيقة أخرى وهي أن الرسالة المحمدية قد استجيب لها من مختلف الملل والنحل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولقد احتوى القرآن آيات عديدة تقرر أن الذين لم يستجيبوا إليها كانوا متأثرين بأهوائهم ومطامعهم الخاصة سواء منهم الكتابيون والعرب المشركون مما شرحناه وأوردنا شواهده في سياق تفسير سور فاطر والفرقان والشورى. [سورة آل عمران (3) : آية 200] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) . (1) صابروا: غالبوا أعداءكم بالصبر. (2) رابطوا: أصل الرباط هو إعداد الخيل والاستعداد الدائم للحرب. ومعنى الكلمة هنا هو الأمر بالاستعداد الدائم واليقظة الدائمة والمرابطة للعدو. وفي هذه الآية أمر للمسلمين بالصبر على دينهم ومغالبة أعدائهم بالصبر والمرابطة مع الاستعداد الدائم له وتقوى الله والتزام حدوده. ففي ذلك ضمان فوزهم وفلاحهم. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) ولم نطلع على رواية خاصة بالآية. والمتبادر أنها متصلة بالآيات السابقة ومعقبة عليها فسبيل الانتصار على الأعداء الكفار هو هذا الذي أمرت به الآية. فإذا فعله المسلمون هان عليهم أعداؤهم وتمّت لهم الغلبة عليهم. فلا محل للاغتمام بما هم عليه من قوة خداعة وإنما الواجب هو التحلّي بالصفات

والأفعال الضامنة للتغلّب على هذه القوة. والآية مع اتصالها بسابقاتها جملة تامة في تنبيه المسلمين بصورة عامة تنبيها مستمر المدى والتلقين إلى ما يضمن لهم الفوز والفلاح والقوة والاستعلاء من الصبر والثبات وتقوى الله والاستعداد الدائم للعدو. وهو تنبيه رائع وشامل. وقد جاءت خاتمة قوية للسورة. وطابع الختام المألوف في كثير من السور بارز عليها. هذا، ومع أن شرحنا للآية منطبق على شرح جمهور المفسرين لها «1» فإن منهم من روى بعض الأحاديث التي تفيد أنها في صدد الصلاة أيضا حيث روى ابن كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة أقبل عليه يوما فقال له: يا ابن أخي أتدري فيم نزلت هذه الآية؟ قال: لا. قال: أما أنه لم يكن في زمان النبي غزو يرابطون فيه ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد ويصلّون الصلوات في أوقاتها ثم يذكرون الله فعليهم نزلت أن: اصبروا على الصلوات الخمس وصابروا أنفسكم وهواكم ورابطوا في مساجدكم واتقوا الله فيما عليكم لعلكم تفلحون. وأورد ابن كثير عقب هذا حديثا عن أبي أيوب جاء فيه: «وفد علينا رسول الله فقال هل لكم إلى ما يمحو الله به الذنوب ويعظم به الأجر، قالوا: ما هو يا رسول الله؟ قال: إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة وهو قول الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) » «2» ، وهذان الحديثان لم يردا في كتب الأحاديث الصحيحة. وقد قال ابن كثير عن الحديث الأخير إنه غريب جدا من الطريق المروي عنه. والذي يتبادر لنا أن هذا الحديث لو صحّ فإنه يحتمل أن يكون بمثابة التمثيل والتشبيه ولا سيما أن الآية كانت نازلة قبل صدوره من النبي صلى الله عليه وسلم. ويلمح في الحديث المروي عن أبي

_ (1) انظر تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن والبغوي والزمخشري. (2) روى ابن كثير هذا الحديث من طرق عديدة بينها بعض الاختلاف في العبارة مع الاتفاق في الجوهر.

هريرة أنه يفسر الرباط بما صار يفهم منه في زمن الفتوح في عهد الخلفاء الراشدين وبعده وقد عاش إلى زمن خلافة معاوية بن أبي سفيان. وعلى كل حال فما زلنا نرجح أن معنى الآية هو تأويل جمهور المفسرين الذي تابعناهم فيه. وهناك أحاديث نبوية عديدة في فضل المرابطة وأجرها والحثّ عليها. ويستفاد منها أنها متصلة بالجهاد الحربي في سبيل الله وظروفه. وأكثر من استوعبها ابن كثير في سياق تفسير الآية. ومنها ما روي بصيغ متقاربة من طرق مختلفة ومنها ما ورد في الصحاح أيضا. من ذلك حديث رواه البخاري عن سهل بن سعد قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها» «1» . وحديث رواه الترمذي والنسائي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عينان لا تمسّهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله» «2» . وحديث رواه أبو داود والترمذي عن فضالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلّ الميت يختم على عمله إلّا المرابط فإنّه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويؤمّن من فتّان القبر» «3» . وحديث رواه الترمذي والنسائي عن عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رباط يوم في سبيل الله أفضل أو خير من صيام شهر وقيامه. ومن مات فيه وقي فتنة القبر ونما له عمله إلى يوم القيامة» «4» ولفظ النسائي: «رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم في ما سواه من المنازل» «5» . وهناك أحاديث أخرى فاكتفينا بما أوردناه وفي الأحاديث صور من السيرة النبوية تفيد أن الرباط الجهادي كان مما يمارس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفيها تلقينات مستمرة المدى في وجوب التيقظ والاستعداد والمرابطة في سبيل الله تجاه أعداء الإسلام والمسلمين وعدوانهم الواقع أو المرتقب.

_ (1) التاج ج 4 ص 299 و 300. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه.

سورة الحشر

سورة الحشر جلّ هذه السورة في صدد إجلاء فريق من اليهود عن المدينة. وما كان من مواقف المنافقين فيه وتشريع للفيء ومداه وما كان من تشادّ حوله. وفيها أكبر مجموعة لأسماء الله الحسنى والمرجح أنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة حسب ما جاءت في المصحف. والمفسرون وكتّاب السيرة متفقون «1» على أن الفريق اليهودي هم بنو النضير إحدى قبائل اليهود الإسرائيليين الذين كانوا يقيمون في المدينة. ومتفقون «2» كذلك على أن حادثهم وقع بعد نحو خمسة أشهر من وقعة أحد. والمعقول أن يكون ترتيبها بعد سورة آل عمران التي احتوت مشاهد وظروف هذه الواقعة. غير أن الذين يروون ترتيب السور المدينة حسب النزول يجعلونها الخامسة عشرة ويجعلون سورة الممتحنة التي احتوت الإشارة إلى أحداث وقعت بعد صلح الحديبية مكانها بعد سورة آل عمران ثم يجعلون بعد الممتحنة سورة الأحزاب التي احتوت الإشارة إلى وقعتي الأحزاب أو الخندق وبني قريظة اللتين وقعتا بعد مدة ما من وقعة بني النضير وليس في هاتين السورتين ما يبرر تقديمهما على سورة الحشر وليس في سورة الحشر ما يبرر تأخيرها عنهما بل وعن غيرهما حتى تكون الخامسة عشرة في الترتيب. ومن العجيب أن رواة الترتيب لم ينتبهوا إلى ما في ذلك من شذوذ واستحالة. ويبدو لنا أنهم خلطوا بين سورتي الحشر والممتحنة وبدلا من أن

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن والطبرسي والزمخشري وابن كثير وطبقات ابن سعد ج 3 ص 98- 100، وابن هشام ج 3 ص 191- 198. [.....] (2) المصدر نفسه.

[سورة الحشر (59) : الآيات 1 إلى 4]

يجعلوا الحشر بعد آل عمران جعلوا الممتحنة غلطا «1» . ولما كان هذا عندنا في درجة اليقين لأنه قائم على واقع متفق عليه فقد رأينا أن نخلّ بالترتيب الذي تابعنا فيه المصحف الذي اعتمدناه وجلّ روايات الترتيب معا، فنجعل سورة الحشر بعد آل عمران بدلا من سورة الممتحنة ونقدم سورة الفتح التي يؤخرها الرواة كثيرا حتى يجعلوها الثانية والعشرين أو السادسة والعشرين والتي نزلت في حادث صلح الحديبية بدون أي مبرر ثم نجعل بعدها سورة الممتحنة لأن ذلك يتسق مع التسلسل الزمني لوقائع السيرة النبوية. وهو الذي قصدنا إليه حينما اعتزمنا على جعل تفسيرنا للسور وفق روايات ترتيب النزول. هذا، ويسمي المفسرون سورة الحشر باسم بني النضير عزوا إلى ابن عباس وغيره «2» لأنها نزلت في صدد وقعتهم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4) . (1) من حيث لم يحتسبوا: من حيث لم يظنوا ويحسبوا حسابه.

_ (1) انظر كتابنا «سيرة الرسول» ج 2 ص 9، و «الإتقان» ج 1 ص 10- 12. (2) انظر تفسيرها في تفسير البغوي وابن كثير والخازن.

تعليق على الآيات الأربع الأولى من السورة وحادث إجلاء بني النضير

الآية الأولى من المطالع التي تكررت في عدّة سور مدنية كمقدمة تمهيدية لما بعدها وقد جاءت هنا كذلك. أما مطلع سورة الأعلى فليس من هذه المطالع لأنه أمر بالتسبيح. وقد تضمنت الآيات تقرير ما يلي: 1- إن الله الذي يسبح له ما في السموات والأرض القوي الجانب الحكيم التقدير هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من موطنهم لأول الحشر في حين لم يكن المؤمنون يظنون أن يتم ذلك وكان المخرجون يظنون أن حصونهم ما نعتهم من الله. ولكن بلاء الله أتاهم من حيث لم يخطر ببالهم ويحسبوا حسابه وقذف في قلوبهم الرعب حتى إنهم خربوا أو هدموا بيوتهم بأيديهم فضلا عن أيدي المؤمنين. وإن في ذلك لعبرة يعتبر بها أولو الأبصار والعقول. 2- لقد اقتضت حكمة الله أن يكتفى بإخراجهم وجلائهم مع أنهم مستحقون لعذاب أشدّ في الدنيا. ولسوف يكون لهم في الآخرة عذاب النار. وذلك بسبب ما كان منهم من مشاقة لله ورسوله ومناوأة وعداء، ومن يفعل ذلك يتعرض لغضب الله الشديد العقاب. تعليق على الآيات الأربع الأولى من السورة وحادث إجلاء بني النضير والمفسرون وكتّاب السيرة «1» متفقون على أن هذه الآيات نزلت في صدد إجلاء يهود بني النضير الذين كانوا مقيمين في إحدى ضواحي المدينة. وعلى أن الحادث كان بعد وقعة أحد وقبل وقعتي الأحزاب وبني قريظة. وأسلوب الآيات يدل على أنها جاءت للعظة والعبرة وتذكير المسلمين بما

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير والزمخشري وانظر ابن هشام ج 3 ص 191 وما بعدها.

يسّر الله لهم بحيث لو لم يكن تيسيره لما تمّ لهم ما تمّ. ولم تأت للسرد القصصي وهو شأن سائر حوادث الجهاد في القرآن. ولما كانت الآيات التالية لها قد احتوت تشريع تخصيص الفيء جميعه لبيت مال المسلمين والفئات المحتاجة بأسلوب قوي حاسم فمن السائغ أن يقال إن هذه الآيات قد جاءت بأسلوبها الذي جاءت به لتبرير ذلك التشريع. ويتضمن هتاف الآيات فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) بشرى ربانية تمدّ المسلمين بالروح والقوة والأمل في ظرفهم الحاضر المشابه للظروف الذي كان فيه المسلمون تحت راية الرسول صلى الله عليه وسلم. حيث يحتلّ الذين كفروا من أهل الكتاب الصهيونيون اليهود جميع فلسطين عدوانا واغتصابا بعد أن شرّدوا معظم أهلها عنها بمساعدة وتأييد طواغيت الاستعمار الطامعين بالسيطرة على بلاد العرب وثرواتها. فالمسلمون الآن يظنون كما كان يظن المسلمون الأولون أنهم غير قادرين على استرداد الأرض المغتصبة. والمغتصبون يظنون أنهم لن يغلبوا ولن يقدر المسلمون على استرداد ما اغتصبوه منهم بسبب ما هم عليه من قوة تمدهم بها أميركا طاغوت الاستعمار الأكبر اليوم وبسبب تأييد هذا الطاغوت لهم. ولكن الله أتى الذين كفروا من أهل الكتاب الأعداء من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب وجعلهم يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين وأجلاهم عن الأرض المقدسة. وهو قادر على أن يفعل ذلك مع الصهيونية وأنصارهم الطغاة المعتدين. ومن تحصيل الحاصل أن نقول إن على المسلمين أن يقوموا بما أوجبه عليهم كتاب الله في آيات عديدة أخرى فيتضامنوا أشد تضامن ويتخلوا عن ما هم فيه من تمزّق وتخاذل وتهاون وكل هذا مما مكّن عدوهم وأنصاره من بلادهم ولا يهنوا في كفاحه ويعدوا له كل ما يستطيعون من قوة وقد منحهم الله نعمه العظيمة التي فيها قوّة عظمى لو عرفوها وقدروها واستعملوها حق معرفتها وقدرها واستعمالها. أما حادث إجلاء بني النضير فخلاصة ما ذكرته روايات السيرة والتفسير «1»

_ (1) انظر الكتب السابقة الذكر، وانظر أيضا طبقات ابن سعد، ج 3 ص 98- 100. الجزة السابع من التفسير الحديث 20

هي أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب مع بعض أصحابه إلى حي بني النضير ليستعين بهم على ديّة قتيل كان بين قومه وبين النبي، وبين قومه وبين بني النضير في الوقت نفسه حلف وعهد وجوار جريا على التقاليد الجارية فتظاهروا بالاستعداد لتلبية طلبه وقالوا لبعضهم إنكم لن تجدوا فرصة أحسن من هذه الفرصة لاغتياله وأخذوا يدبرون طريقة لذلك فارتاب النبي في حركتهم فانسحب بسلام وأرسل إليهم في اليوم التالي إنذارا بالجلاء في ظرف عشرة أيام على أن يأخذوا أموالهم المنقولة ويقيموا وكلاء على أراضيهم وبساتينهم. وكانوا حلفاء لقوم كبير المنافقين عبد الله بن أبي فاستشاروهم فحرضوهم على الرفض ووعدوهم بالنصر فاغتروا ورفضوا فحاصرهم النبي وضيّق عليهم وأمر بقطع بعض نخيلهم إرغاما وإرهابا. ولم يجد المنافقون من حلفائهم وفاء بما وعدوهم به من النصر فاستولى الرعب عليهم ورضوا بالجلاء بشروط أشدّ من الأولى بسبب تمردهم وعنادهم وهي تسليم سلاحهم وتنازلهم عن أراضيهم وبساتينهم وحمل منقولاتهم فقط. وفي آيات آتية من السورة إشارة إلى ما كان من قطع النبي لبعض نخيلهم وإلى ما كان من مواقف المنافقين حلفائهم حيث يتسّق ذلك مع الروايات التي أوجزناها. ومما روته الروايات أن بني النضير أرادوا إظهار الزهو والخيلاء وهم يخرجون حيث كانت قيانهم يعزفن وأصحاب الدفوف والمزامير يضربون بدفوفهم ومزاميرهم وأنهم هدموا بيوتهم وحملوا سقفها وعضائدها وأبوابها وأن اثنين منهم أسلما فبقيا حيث هم سالمة لهم أموالهم وأن منهم من ذهب إلى بلاد الشام ومنهم من ذهب إلى خيبر فأقام مع يهودها، ومن هؤلاء زعماؤهم الذين تزعموا يهود خيبر. وقد هدموا بيوتهم ونزعوا الأعمدة والأبواب الخشبية منها وحملوها لئلا ينتفع بها المسلمون، جاء المسلمون فأتموا تخريب هذه البيوت وهذا ما تضمنته جملة بُيُوتَهُمْ

بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ على ما رواه المفسرون. ومما روته الروايات كذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم احتاز من سلاحهم ثلاثمائة وأربعين سيفا وخمسين درعا وخمسين بيضة. ولقد تعددت تأويلات المفسرين ورواياتهم لجملة لِأَوَّلِ الْحَشْرِ «1» فقيل إنهم سألوا النبي إلى أين نخرج فقال لهم إلى أول الحشر في الشام وقيل إن معناها (هذا هو الحشر الأول أي الجلاء الأول ويعقبه حشر ثان وهو ما تمّ في زمن عمر بن الخطاب) وقيل إن معناها أنهم لم يلبثوا أن استسلموا وقبلوا الخروج لأول ما حشر النبي عليهم واستعدّ لقتالهم. ولعلّ التأويل الأخير هو الأوجه لأنه لم يقع قتال بينهم وبين المسلمين، وهو المتّسق مع روحه الآية الثانية التي هي بسبيل تقرير ما كان من تيسير الله بخروجهم بسهولة وسرعة لم تكونا متوقعتين لأحد. وتأويل الجملة بأنها أول جلاء يهودي يتناقض مع ما هو متفق عليه من أن بني قينقاع كانوا أول من أجلي من اليهود على ما شرحناه في سياق سورة الأنفال. وجملة ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ واسعة المدى والشمول وتدل على أنه كان من يهود بني النضير مواقف عديدة مؤذية ومزعجة تجاوزت مواقف الجدل والمناظرة في شؤون الدعوة بل وتجاوزت مواقف التشكيك والاستهتار والاستخفاف والطعن وأن محاولتهم اغتيال النبي كانت السبب المباشر. ولقد كان كعب بن الأشرف منهم وكان شاعرا فكان يهجو النبي والمسلمين بقصائده المقذعة ويشبّب بنسائهم حتى إن النبي انتدب المسلمين إلى اغتياله فلبّى الطلب بعضهم وذهبوا فاغتالوه. وكان ذلك قبل هذه الوقعة «2» .

_ (1) انظر الطبري والبغوي والزمخشري وابن كثير إلخ. (2) ابن سعد ج 3 ص 70- 72، وابن هشام ج 2 ص 431 وما بعدها.

[سورة الحشر (59) : آية 5]

[سورة الحشر (59) : آية 5] ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5) . (1) لينة: نخلة، وقيل إنها نوع خاص من جيد النخل. وقيل إنها غرسة النخل الفتية. الخطاب في الآية موجّه إلى النبي والمؤمنين على سبيل تبرير ما فعلوه من قطع بعض نخيل بني النضير لإرهابهم وإرغامهم. فهي تقرر أن ما قطعوه إنما قطعوه بإذن الله وما أبقوه إنما أبقوه بإذن الله. وما كان من إذن الله إنما كان لخزي العاصين المتمردين وإرغامهم. والآية استمرار للسياق السابق كما هو المتبادر. وقد روي أن بني النضير عيّروا النبي بتقطيعه النخل وأن المنافقين من حلفائهم شاركوهم في هذا التعبير فاقتضت حكمة التنزيل إنزالها لتثبّت النبي والمسلمين وللردّ على اليهود والمنافقين. وقد يكون في التبرير القرآني إجازة لأي عمل من نوعه يؤدي إلى إرغام العدو حينما تقوم حالة حرب وعداء بين الكفار والمسلمين والله تعالى أعلم. [سورة الحشر (59) : الآيات 6 الى 7] وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7) . (1) أفاء: جعله فيئا أو ساقه. (2) أوجفتم: هيّأتم، ومعنى جملة فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ

تعليق على الآية وما أفاء الله على رسوله منهم ... إلخ والآية التالية لها وتشريع الفيء

لم تسيروا مسيرة تحتاج إلى خيل وركائب ولم تقاسوا حربا ولا مشقة في سبيل ما أفاء الله عليكم. (3) كيلا يكون دولة بين الأغنياء: لئلا يكون المال العائد من هذا الفيء مما يصحّ أن يتداوله الأغنياء. تضمنت الآيات: 1- مقدمة تبريرية لتشريع الفيء. فأملاك وبساتين اليهود المجليين إنما هي هبة الله وتيسيره لرسوله. ولم يكن على المسلمين في إحرازها مشقة وكلفة من حرب وإعداد خيل ومؤونة، وقد مكّن الله رسوله من ذلك وهو الذي يسلط رسله على من يشاء وهو القدير على كل شيء. 2- تشريعا بشأن هذه الأملاك والبساتين: فما أفاء الله على رسوله والحالة هذه فهو لله والرسول وذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. وليس للأغنياء فيه نصيب حتى لا تبقى الثروة محصورة التداول بين الأغنياء. 3- تدعيما لهذا التشريع: فعلى المؤمنين أن يسمعوا ويطيعوا. فما آتاهم الرسول أخذوه. وما نهاهم عنه ومنعهم منه وجب عليهم أن ينتهوا عنه ويمتنعوا. وعليهم بتقوى الله والوقوف عند أوامره. فإنه شديد العقاب على من يخالف ويتجاوز حدوده المرسومة. والجملة الأخيرة تتضمن تقرير كون ما يفعله الرسول من مثل ذلك هو من وحي الله وأمره. تعليق على الآية وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ ... إلخ والآية التالية لها وتشريع الفيء وقد روى المفسرون «1» أن بعض المسلمين طالبوا النبي بقسمة أملاك

_ (1) انظر تفسير البغوي والخازن والطبري. والمفسرون الأولان ذكرا (بعض المسلمين) أما الطبري فقد روى أن الذين نكلوا في الموضوع وطلبوا قسمة الفيء هم جماعة من الأنصار.

وبساتين بني النضير أسوة بغنائم بدر وغيرها أي بعد إفرازه الخمس لبيت المال والمعوزين من المسلمين، فكان رأي النبي أن جميعها لبيت المال والمعوزين لأنهم لم يوجفوا على إحرازها خيلا ولا ركابا. وأن الآيات قد نزلت بسبيل تأييد رأي النبي صلى الله عليه وسلم. والرواية محتملة الصحة كما هو ظاهر مع التنبيه إلى أن أسلوبها القوي الحاسم الذي تضمن فيما تضمنته إنذارا شديدا يدل على أن الذين طالبوا بالقسمة كانوا متشددين في موقفهم. وفي ذلك مشهد من مشاهد السيرة النبوية والتشريع القرآني وظروفه. بل وأنه ليتبادر لنا والله أعلم أن جميع هذا الفصل بل السورة جميعها نزلت بسبيل ذلك. وأسلوب الآية الثانية يجعل التشريع فيها عاما شاملا لكل ما يدخل في حوزة رسول الله وخلفائه من بعده بالتبعية من أموال العدو بدون تكلّف المسلمين نفقة ومشقة ليكون لبيت المال وينفق على مصالح الإسلام والمسلمين العامة وعلى فقراء المسلمين ومحتاجيهم معا. وهذا ثاني تشريع قرآني مالي ورسمي بعد تشريع الغنائم الحربية. وقد عرف باسم الفيء اقتباسا من نصّ الآيات وروحها. ولقد نبهنا على ما في تشريع الغنائم من خطورة وجلال. وتشريع الفيء أعظم خطورة وأبعد مدى لأنه يتضمن تخصيص جميع ما يأتي من هذا المورد للصالح العام وفقراء المسلمين. والجهات والفئات التي خصص لها الفيء هي التي خصص لها خمس الغنائم في آية سورة الأنفال [41] ولقد كتبنا تعليقا وافيا على آية سورة الأنفال وأوردنا الأحاديث والروايات التي أورد المفسرون كثيرا منها أيضا في سياق آيات الفيء هذه. وكل ما ذكرناه في تعليقنا المذكور يصح أن يساق هنا فلا نرى ضرورة إلى الإعادة والزيادة.

تعليق على جملة وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا

تعليق على جملة وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا مع أن هذه الجملة جاءت لتدعم تشريع الفيء الذي احتوته الجملة السابقة لها ثم لتوطيد سلطة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فإنها جاءت في صيغة مطلقة فصارت تشريعا عام الشمول بوجوب اتباع أوامر النبي صلى الله عليه وسلم ونواهيه وسننه القولية والفعلية كجزء من العقيدة الإسلامية. وقد أكد هذا في آية أقوى في سورة النساء وهي: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) بالإضافة إلى آيات أخرى فيها تدعيم مثل آيات آل عمران [31 و 32] والنساء [59 و 68] والنور [52] والأحزاب [71] والفتح [17] . والجملة التي نحن في صددها والآيات التي أوردناها أو أشرنا إلى أرقامها تتضمن إيذانا من الله عزّ وجلّ بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم فيما يأمر به وينهى عنه عن الأمر إلّا بما هو صالح وخير وعن النهي إلّا بما هو ضارّ وباطل. وتنبيه على أن هذا ليس من شأنه أن يتناقض مع ما تضمنته بعض الآيات من عتاب للنبي صلى الله عليه وسلم على بعض ما فعله. فهذا كان منه اجتهادا بأنه خير وصالح. ولم يكن يعلم ما هو الأولى في علم الله بدون وحي. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر وينهى كثيرا باجتهاد منه فكان القرآن يسكت عن ذلك مقرّا أو يؤيده نصّا أو يعاتب عليه ويوحي بما هو الأولى حسب مقتضى حكمة الله على ما شرحناه في مناسبات سابقة. وهناك أحاديث نبوية رواها أصحاب الصحاح في دعم ذلك وتوضيحه. من ذلك حديث رواه الشيخان عن أبي هريرة عن النبي وأورده الأئمة والمفسرون في سياق الجملة التي نحن في صددها قال: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم

كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» » . وحديث أورده الخازن في سياق الجملة جاء فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه أمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول ما أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه» «2» . والأمر في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ميسور بالاستماع منه والرجوع إليه شخصيا. أما بعد وفاته فقد أصبح السير واجبا وفق ما روي وصحّ عنه من أوامر ونواه وسنن قولية وفعلية. وهذا بطبيعة الحال يستتبع وجوب التثبيت فيما ينسب إليه من ذلك. ولقد يسّر الله رجالا مخلصين لله ورسوله محّصوا ما نسب إليه من أحاديث ودونوا ما صحّ عندهم منها فصارت مرجعا عظيما من مراجع التشريع الإسلامي. ومن أهم الضوابط التي وضعها العلماء أن لا يكون بين ما نسب إليه وبين أحكام ومبادئ القرآن الثابتة والمحكمة الواضحة تعارض وتناقض. لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يأمر وينهى بما يتعارض مع الأحكام والمبادئ القرآنية والأحاديث النبوية الواردة في شؤون وأحكام قرآنية تدور على الأغلب حول تخصيص ما فيه إطلاق، وتوضيح ما فيه غموض، وإتمام ما يحتاج إلى إتمام، وبيان ما سكت القرآن عن جزئياته وأشكاله وفروعه مثل عدد ركعات الصلوات وكيفياتها وأركانها ونصاب الزكاة على أنواع الأموال وبقية أنصبة الإرث التي تبقى في حالة وراثة النساء لآبائهن وإخوانهن وطقوس الحج إلخ.. إلخ.. وقد مرّ من ذلك أمثلة كثيرة وسيأتي أمثلة أخرى في المناسبات الآتية.

_ (1) التاج ج 4 ص 231. (2) في التاج حديث فيه مثل هذا الحديث مع زيادة مهمة رواه أبو داود والترمذي عن المقدام بن معد يكرب عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «ألا لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه وما وجدتم فيه من حرام فحرّموه. ألا لا يحلّ لكم الحمار الأهلي. ولا كلّ ذي ناب من السبع ولا لقطة معاهد إلّا أن يستغني عنها صاحبها. ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه» ، التاج ج 3 ص 87.

تعليق على جملة كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم

تعليق على جملة كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ هذه الجملة وإن كانت في صدد منع الأغنياء من نصيب من الفيء وتداول ما يفيئه الله تعالى على المسلمين من الأعداء بين الأغنياء والأقوياء وحسب، فإنها تنطوي فيما يتبادر لنا والله أعلم على معنى جليل بعيد المدى، وهو أنه لا ينبغي أن تكون الثروة محصورة التداول في أيدي فئة قليلة من الناس، وإن من حقّ السلطان الإسلامي أن يتخذ من التدابير ما يكفل توزيعها بين أكبر فئة منهم ولو بطريق تخصيص الفقراء ببعض موارد الثروة دون الأغنياء استئناسا بالآية التي فيها هذه الجملة حيث شاءت حكمة الله أن تخصص مورد الفيء جميعه لمصالح المسلمين العامة وفئاتهم المحتاجة دون الأغنياء. ولقد أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقراء المهاجرين» «1» . وعمر رضي الله عنه كان من أقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبالتبعية من أكثرهم فهما لتوجيهات النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن وروحه. ولا شك في أنه صدر في قوله هذا عما اعتقد أنه يتسق مع ذلك. ولقد تواترت الروايات إلى حدّ اليقين بأنه رتّب المرتبات لمختلف فئات المسلمين وكان يهتم كثيرا لمساعدة ونجدة المحرومين والضعفاء والفقراء «2» مما فيه توثيق لصحة صدور ذلك القول عنه. [سورة الحشر (59) : الآيات 8 الى 10] لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10) .

_ (1) انظر تاريخ الطبري ج 3 ص 291. (2) انظر تاريخ عمر بن الخطاب للإمام ابن الجوزي حيث استوعب كثيرا من أقواله وأفعاله في هذا الصدد.

تعليق على الآية للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون (8) والآيتين التاليتين لها

(1) الذين تبوّؤوا الدار والإيمان من قبلهم: الجمهور على أن الجملة كناية عن الأنصار والدار هي دار الهجرة أي المدينة حيث كانوا مقيمين فيها وقد آمنوا قبل قدوم المهاجرين إليها. (2) لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا: الجمهور على أن الضمير في الكلمتين الأوليين عائد إلى الأنصار وفي كلمة أُوتُوا عائد إلى المهاجرين. ومعنى الجملة لا يشعر الأنصار بحسد أو غيرة مما أوتي المهاجرون. (3) يؤثرون على أنفسهم: من الإيثار أي يؤثرون الغير على أنفسهم. (4) خصاصة: فاقة وحاجة. تعليق على الآية لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) والآيتين التاليتين لها عبارة الآيات واضحة. وتبدو أنها بيان توضيحي للمستحقين للفيء من الفقراء حيث شمل أولا الفقراء المهاجرين الذين اضطروا إلى الخروج من ديارهم والتخلي عن أموالهم فيها ابتغاء فضل الله ورضوانه ونصرة دينه ورسوله. وثانيا فقراء الأنصار الذين آمنوا برسالة النبي في دار الهجرة قبل أن يأتي إليها المهاجرون ورحبوا بالذين هاجروا إليهم وأحبوهم والذين يؤثرون غيرهم على أنفسهم ولو كان

بهم فاقة وحاجة ولا يحسدون المهاجرين على ما أوتوا ولا يغارون منهم حيث أثبتوا أن الله قد وقاهم من الشحّ وهيأ لهم بذلك سبيل الفلاح. وثالثا فقراء المسلمين الذين آمنوا بعد السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار واندمجوا فيهم وكانوا يدعون الله بأن يغفر لهم ولإخوانهم السابقين عليهم بالإيمان وبأن لا يجعل في قلوبهم غلا ولا حسدا نحوهم وهو الرؤوف بعباده الذي يشملهم بسابغ رحمته. ولقد روى المفسرون «1» ما يفيد أن المهاجرين كانوا فقراء لا أرض ولا مورد لهم وكانوا عالة على الأنصار فلما فتح الله على النبي ويسّر له أموال بني النضير شاور الأنصار واسترضاهم في النزول عن حقهم فيها حتى يقسمها على المهاجرين فيكفوهم مؤونتهم وأن الأنصار رضوا بذلك عن طيب خاطر ولم يشعروا بحسد ولا غيرة مما اعتزمه النبيّ من توزيع الفيء على المهاجرين عدا الذين في قلوبهم مرض ونفاق. وأن النبي قسّم هذه الأموال على المهاجرين فقط ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة رجال فقراء منهم. وأن الآيات بسبيل تأييد ما فعله النبي إلهاما، والثناء على الأنصار الذين تنازلوا عن حقهم. ونحن في حيرة من هذه الروايات التي رواها معظم المفسرين عزوا إلى ابن عباس لأننا نراها متناقضة مع تقرير الآيات السابقة التي شرّعت جميع الفيء للمصالح العامة والمحتاجين لأنه تيسر بدون إيجاف خيل وركاب فلم يستحق فيه المسلمون استحقاقا ملزما كاستحقاقهم في الغنائم التي يحوزون عليها بعد قتال وإيجاف خيل وركاب ومنعت قسمته على المسلمين الميسورين. بل وتتناقض مع روح الآيات نفسها التي جاءت مطلقة وبعضها معطوف على بعض بحيث تبدو بأسلوب قوي أنها أرادت فقراء الفئات الثلاث معا أي السابقين من المهاجرين والأنصار والذين آمنوا بعدهم واندمجوا فيهم. وكل ما يمكن احتماله فيما نرى وفيه توفيق بين روح الآيات وخطوط الرواية أن تكون ما آلت إليه حالة المهاجرين الاقتصادية من ضيق وحرج قد ألهمت

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي والخازن وابن كثير.

النبي صلى الله عليه وسلم بقصر الفيء الذي تيسّر بدون إيجاف وحرب على المصالح العامة والفقراء المساكين واليتامى وأبناء السبيل وذي القربى دون الأغنياء ولم يكن من المهاجرين أغنياء وإنما كان من الأنصار وأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد خاطب هؤلاء فأظهر المخلصون وهم الأكثرية العظمى منهم الرضاء دون اعتراض وحساسية مما كان جعلهم يستحقون التنويه العظيم الذي احتوته الآية. وظلّ الذين في قلوبهم مرض منهم يشغبون وينتقدون فاقتضت حكمة التنزيل تأييد النبي بهذه الآيات والتي قبلها لتكون حاسمة للأمر وتشريعية مطلقة لأمثال الفيء فيما بعد. ولعل ما ذكرته الروايات من إعطاء النبي فقراء من الأنصار نصيبا من هذا الفيء قرينة أو دليل على ذلك. ولقد روى الإمام أبو يوسف والإمام أبو عبيد أن المسلمين الذين فتحوا العراق طلبوا من عمر بن الخطاب أن يقسم أرض السواد العراقي عليهم فأبى وقال لهم إنه لجميع فقراء المسلمين في جميع أجيالهم حقا في ذلك استنادا إلى هذه الآيات. وأبقاها كذلك. يؤخذ ريعها من مستأجريها ويوزع على فقراء المسلمين حيث يمكن القول على ضوء هذه الرواية الواردة في أقدم كتابين وصلا إلينا لإمامين مشهورين أن عمر رضي الله عنه اعتبر الآيات توضيحا للمستحقين للفيء من فقراء المسلمين على اختلافهم سواء أكانوا من المهاجرين أم من الأنصار الأولين أم من الذين آمنوا بعد الرعيل الأول من هؤلاء وأولئك. ثم اعتبرها مستمرة الحكم بالنسبة لجميع أجيال المسلمين في مستقبل الأيام. وصيغة الآيات وعطف بعضها على بعض ومجيئها بعد ذكر مصارف الفيء وخاصة الفئات المحتاجة من المسلمين مما يدعم هذا الاعتبار. ونقف إزاء تصرف عمر بن الخطاب رضي الله عنه لنقول إنه صورة من ما كان يفهم كبار أصحاب رسول الله من التوجهات القرآنية. وإنه عمل فريد رائع في بابه فيه تدشين لما يمكن أن يسمى أملاك الدولة التي ترصد على فقراء المسلمين تطبيقا عمليا لتشريع مساعدة هؤلاء الفقراء التي جعلت من نظام الدولة الإسلامية على ما تلهمه الآيات. وعلى ما شرحناه في سياق شرحنا آيات خمس

الغنائم والزكاة في سورتي الأنفال والمزمل. ويتبادر لنا أن عمر رضي الله عنه اعتبر فقراء المسلمين من الفئات الثلاث بمثابة (مساكين) في معنى الكلمة الذي جاء شرحها في حديث نبوي رواه الشيخان عن أبي هريرة «ليس المسكين الذي يطوف على الناس تردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكنه الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدّق عليه ولا يقوم فيسأل الناس» . ويتبادر لنا كذلك أن عمر رضي الله عنه لا بدّ من أنه لحظ جمع مصارف الفيء وكان ينفق من إيراد السواد العراقي عليها حسب ما تقتضيه المصلحة وأن ما روي إنما كان لتطبيق مدى الآية وعدم توزيع الأرض على الفاتحين وإبقائها بمثابة الفيء والمصارفة والله تعالى أعلم. والمستفاد مما ذكره أبو عبيد أيضا أن عمر رضي الله عنه سلك في أرض الشام المفتوحة ما سلكه في أرض العراق. هذا، ووصف الفئات الثلاث المخلصة في حدّ ذاته وصف قوي محبب وجدير بالتأمل والإجلال ويدل على ما كان من قوة إخلاص السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان لدين الله ورسوله وتحمّلهم معظم التضحيات في سبيلهما فاستحقوا ثناء الله العظيم في هذه الآيات وفي آية التوبة هذه وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) كما استحقوا ثناء رسوله صلى الله عليه وسلم في أحاديث عديدة وردت في الكتب الخمسة منها حديث رواه مسلم عن أبي موسى جاء فيه: «أصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتي أمتي ما يوعدون» «1» . وحديث آخر رواه مسلم عن أبي موسى جاء فيه: «الله الله في أصحابي، الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبّهم فبحبّي أحبّهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه» «2» . وحديث رواه

_ (1) انظر التاج، ج 3 ص 270- 272. [.....] (2) المصدر نفسه.

الأربعة عن أبي سعيد جاء فيه «لا تسبّوا أحدا من أصحابي فإنّ أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» «1» وحديث رواه الترمذي عن بريدة جاء فيه: «ما من أحد من أصحابي يموت بأرض إلّا بعث قائدا ونورا لهم يوم القيامة» «2» وحديث رواه الشيخان عن البراء جاء فيه: «الأنصار لا يحبّهم إلّا مؤمن ولا يبغضهم إلّا منافق فمن أحبّهم أحبّه الله ومن أبغضهم أبغضه الله» «3» . وحديث رواه الشيخان عن أنس جاء فيه: «آية الإيمان حبّ الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار» «4» . وحديث رواه الشيخان عن أنس أيضا جاء فيه يخاطب امرأة من الأنصار: «والذي نفسي بيده إنّكم لأحبّ الناس إليّ، ثلاث مرات» «5» . وحديث رواه البخاري والترمذي عن أبي هريرة جاء فيه: «لو أنّ الأنصار سلكوا واديا أو شعبا لسلكت في وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار» «6» وحديث رواه مسلم والترمذي عن زيد بن أرقم جاء فيه: «اللهمّ اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار ولنساء الأنصار» «7» . وهذه الأحاديث خلاف أحاديث كثيرة في عدد كبير بأعيانهم من المهاجرين والأنصار. ونقول استطرادا: أولا: إن كلمة (صحابي) مع أنها تطلق من قبل المسلمين على كل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم من المؤمنين فإن كلمة (أصحابي) في هذه الأحاديث تدلّ في مقامها على أن المقصود منهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وصحبوا النبي صلى الله عليه وسلم في حياته رضي الله عنهم. وثانيا: إن

_ (1) انظر التاج، ج 3 ص 270- 272. (2) المصدر نفسه. (3) انظر التاج ج 3 ص 341- 344. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه. (6) المصدر نفسه. (7) المصدر نفسه.

اسم (المهاجر) يطلق على من هاجر من مكة إلى المدينة قبل فتح مكة فقط. لأن هناك حديثا نبويا جاء فيه: «لا هجرة بعد الفتح» وإن المهاجرين أنواع، نوع هاجر إلى الحبشة قبل هجرة النبي إلى المدينة ثم جاؤوا منها إلى المدينة. ونوع هاجر إلى المدينة من مكة في ظروف هجرة النبي إلى المدينة. ونوع هاجر إلى المدينة من مكة بعد مدة ما وقبل فتح مكة وظلّ أثناء هذه المدة مشركا. وإن كلمة (السابقين الأولين) بالنسبة للمهاجرين تطلق على النوعين الأولين فقط. وثالثا: إن الأنصار أيضا أنواع، نوع آمن قبل هجرة النبي إلى المدينة وهم الذين ذكروا في الآية الثانية التي نحن في صددها. ونوع آمنوا بعد هجرته. وإن كلمة (السابقين الأولين) بالنسبة للأنصار تطلق على النوع الأول فقط. هذا، ولقد روى الشيخان والترمذي كسبب لنزول جملة وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ عن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أصابني الجهد فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا فقال ألا رجل يضيّفه هذه الليلة يرحمه الله فقام رجل من الأنصار فقال أنا يا رسول الله فذهب إلى أهله فقال لامرأته ضيف رسول الله لا تدّخريه شيئا. قالت والله ما عندي إلّا قوت الصبية. قال فإذا أراد الصبية العشاء فنوّميهم وتعالي فاطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة ففعلت ثم غدا الرجل على رسول الله فقال لقد عجب الله أو ضحك الله عزّ وجلّ من فلان وفلانة فأنزل الله الجملة» «1» . والجملة جزء من آية والآية جزء من سياق. وكل ما يمكن أن يكون أن النبي تلا الآية حينما فعل الأنصاري وامرأته ما فعلاه فالتبس الأمر على الرواة. ولقد أورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن أنس قال: «قال المهاجرون يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلا في كثير. فقد كفونا المئونة وأشركونا في المهنأ. حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كلّه» . وروى البخاري عن أنس قال: «دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم الأنصار أن يقطع لهم البحرين

_ (1) انظر التاج، ج 3 ص 341- 344.

[سورة الحشر (59) : الآيات 11 إلى 17]

قالوا لا إلّا أن نقطع لإخواننا المهاجرين مثلها» . وروى البخاري عن أبي هريرة قال: «قالت الأنصار أقسم بيننا وبين إخواننا النخيل. قال: لا. فقالوا أتكفونا المئونة ونشرككم في الثمرة قالوا سمعنا وأطعنا» . وأورد ابن كثير حديثا جاء فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم فقالوا أموالنا قطائع بيننا وبينهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غير ذلك قالوا وما ذاك يا رسول الله قال هم قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم وتقاسموهم الثمر فقالوا نعم يا رسول الله» . ولقد آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجال المهاجرين وبين رجال من الأنصار فكان مما فعله الأنصار تجاه من آخاهم معهم النبي من المهاجرين أن قاسموهم بيوتهم وأشركوهم في أعمالهم وأموالهم حتى لقد طلّق بعضهم بعض زوجاته لييسر لأخيه المهاجر التزوّج بها على ما جاء في كتب السيرة والتفسير. وكل هذا بوادر مؤيدة لما وصف الله به الأنصار في قوله: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ. وفي صدد الجملة وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ أورد ابن كثير حديثا عن أبي هريرة قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنّم في جوف عبد أبدا. ولا يجتمع الشحّ والإيمان في قلب أبدا» . وحديثا عن جابر بن عبد الله رواه مسلم أيضا قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إياكم والظلم فإنّ الظلم ظلمات يوم القيامة واتّقوا الشحّ فإنّه أهلك من كان قبلكم. حملهم على أن يسفكوا دماءهم ويستحلّوا محارمهم» . وهكذا يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الأمر كما هو في كل أمر. [سورة الحشر (59) : الآيات 11 الى 17] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17) .

تعليق على الآية ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب ... إلخ وما بعدها لغاية الآية [17]

(1) جدر: جمع جدار والراجح أن الكلمة هنا بمعنى السور أو الحواجز الحجرية التي تكون حول الدور. (2) بأسهم بينهم شديد: عداوتهم فيما بينهم شديدة. (3) تحسبهم جميعا وقلوبهم شتّى: تظنهم في ظاهرهم متّحدين مع أن قلوبهم متخالفة متفرّقة. تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ... إلخ وما بعدها لغاية الآية [17] في الآيات وصف لمشهد من مشاهد وقعة بني النضير وإجلائهم وموقف المنافقين حلفائهم في ذلك وحالة اليهود النفسية والاجتماعية: 1- فقد حاول المنافقون تشديد عزيمتهم ووعدوهم بعدم إطاعة أحد فيهم وبالقتال إذا قوتلوا وبالخروج معهم إذا أخرجوا. فاحتوت الآيات تكذيبا لهم فيما قالوه ووعدوا به، وقررت أنهم حتى لو قاتلوا معهم لولّوا الأدبار ولما انتصروا، وبأن مثلهم كمثل الشيطان الذي يزيّن للإنسان الكفر ثمّ يتخلّى عنه قائلا له إني بريء منك إني أخاف الله. وبأن عاقبة الفريقين النار خالدين فيها وهو جزاء الظالمين. الجزء السابع من التفسير الحديث 21

2- ولقد استولى الرعب على اليهود حينما حاصرهم النبي حتى صاروا يخافون المسلمين أكثر مما يخافون الله ولا يجرؤون على مواجهتهم في الحرب، وقصارى أمرهم أن يقاتلوا وهم متحصنون في قرارهم المحصنة أو من وراء جدرها وأسوارها. وإن عداوتهم لبعضهم شديدة وقلوبهم متفرقة وإن بدا في الظاهر أنهم مجتمعون متفقون. وأنهم في حالتهم هذه كحالة جماعة من قبلهم لم يلبثوا حين حوصروا أن خارت عزائمهم وذاقوا شرّ ما صنعوا. والآيات تعقيب على ما كان في ظروف حادث بني النضير وموقف اليهود والمنافقين. بل المتبادر أن آيات السورة من مطلعها إلى آخر هذه الآيات قد نزلت بعد انتهاء الحادث تعقيبا عليه من جهة وتوضيحا لحالة اليهود والمنافقين من جهة، وتشريعا لما اقتضت حكمة التنزيل تشريعه من جهة، وتبريرا وتعليلا لكل ذلك من جهة في آن واحد. ويتبادر لنا أن بعض الأفعال التي جاءت في صيغة المضارع أو الاستقبال هي أسلوبية ولا تعني أن تكون الآيات قد نزلت قبل انتهاء الحادث. ولقد قلنا قبل إن حلفاء بني النضير هم الخزرج أو قوم عبد الله بن أبي كبير المنافقين منهم. ولقد كان الجمهور الأكبر من الخزرج مخلصين مؤيدين للنبي صلى الله عليه وسلم في موقفه من اليهود فكان في ذلك خذل وخزي لعبد الله بن أبي ومن تابعه من عشيرته في نفاقه وموقفه وصاروا كما حكت الآيات أعجز وأجبن من أن يفوا بوعودهم لليهود. وعاد تحريضهم وتثبيطهم على هؤلاء بخسارة أشدّ مما كان ينالهم لو لم يفعلوا. أما ما أشير إليه تلميحا في الآية [15] من المثال القريب الذي حلّ في غيرهم فهو حادث إجلاء بني قينقاع على ما ذكره بعض المفسرين عزوا إلى ابن عباس وقد قال بعض آخر إنه مثل ما حلّ بالمشركين في بدر «1» . والقول الأول هو الأرجح بقرينة ضمير قَبْلِهِمْ العائد لبني النضير والذي يعني حادثا لليهود ولأن المشركين عادوا فكرّوا على المسلمين وأخذوا ثأرهم في وقعة أحد. ولقد شرحنا

_ (1) انظر الطبري.

حادث إجلاء بني قينقاع في سياق تفسير سورة الأنفال فنكتفي بهذه الإشارة هنا إلى ذلك الحادث. وقد قال بعض المفسرين إن جملة لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى إنها في صدد اليهود والمنافقين معا «1» . وقال بعضهم هي في صدد اليهود فقط «2» . وهذا هو الأوجه فيما نرى ولذلك صرفناها إلى اليهود فقط، فاليهود فقط هم الذين كانوا يقيمون في قرى محصنة في ضاحية منعزلة عن مساكن العرب. وفي الجملة تأييد لما شرحناه في سياق تفسير الآيات [84- 85] من سورة البقرة وهو أن اليهود في المدينة لم يكونوا كتلة متضامنة وأن بعضهم كانوا أعداء لبعض. ولقد نكّل النبي ببني قينقاع حينما أسفروا عن عدائهم وعدوانهم فلم يتحرك بنو النضير وبنو قريظة لنصرتهم. ثم نكّل ببني النضير فلم يتحرك بنو قريظة مما فيه تأييد آخر من الوقائع. والآيات وإن تكن في معرض مشهد من مشاهد السيرة فإن فيها تلقينات جليلة تظل مستمد إلهام وقوة للمخلصين من المسلمين تجاه أعدائهم وتجاه المخامرين منهم مع الأعداء إذا هم كانوا أشداء أقوياء القلوب والعزائم والإيمان لأن الأعداء والمخامرين في هذه الحالة لن يلبثوا أن يخزوا ويخذلوا إزاء مثل هذا الموقف. وتظل كذلك مستمد إلهام في تقبيح مواقف المخامرين والمنافقين والمتضامنين بأي أسلوب مع الأعداء وفي عدم قبول أي عذر لهم قد يعتذرون به باسم الصداقة والواقع أو المصلحة أو المحالفة. لأن المصلحة العامة العليا هي التي يجب أن يكون لها الاعتبار الأول. ولقد ساق المفسرون «3» قصصا مختلفة الصيغ والأسماء متفقة المغزى مسبهة

_ (1) انظر الطبرسي. (2) انظر الطبري والبغوي وابن كثير. (3) انظر ابن كثير والبغوي والخازن.

[سورة الحشر (59) : الآيات 18 إلى 20]

البيان عن ابن عباس وغيره في سياق الآية [16] خلاصتها أن الإنسان الذي قال له الشيطان اكفر هو شخص كان ناسكا أعيا الشيطان فاحتال عليه وكسب ثقته وعلمه اسم الله الأعظم فصار يشفي به المجانين والمصروعين والمرضى، ثم خالط الشيطان فتاة جميلة حتى جنّت فجاءوا بها إلى هذا الناسك فأعجبته وحينئذ استطاع الشيطان أن ينفذ إليه ويزيّن له مواقعتها ثم قتلها لإخفاء جريمته وجاء أهلها لتفقدها فشعر الناسك بالورطة التي تورط بها فظهر له الشيطان وقال له إن سجدت لي أنقذتك من ورطتك فسجد له وحينئذ قال له إني بريء منك إني أخاف الله!. وقد تكون هذه القصص مما كان يتداوله الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعلى كل حال فالآية إنما جاءت في معرض التمثيل والتنديد والإفحام. [سورة الحشر (59) : الآيات 18 الى 20] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20) . تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ ... إلخ والآية التالية لها لم يرو المفسرون مناسبة لنزول الآيات. والمتبادر أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة التي ندّد فيها بالمنافقين ومواقفهم وباليهود الكافرين لتوصي المؤمنين المخلصين بتقوى الله ومراقبته والتكفير فيما يقدمونه لغدهم من أعمال يجزون عليها خيرا كانت أم شرا. وتحذرهم من أن يكون مثل أولئك الذين أهملوا تقوى الله وواجباتهم نحوه وتمردوا على أوامره وانحرفوا عن جادة الحق فأهملهم نتيجة لذلك ولم يوقفهم إلى ما ينجي أنفسهم فوقعوا في شرّ أعمالهم. وفيها

[سورة الحشر (59) : الآيات 21 إلى 24]

تشجيع وتنويه وتطمين للمخلصين، وتنديد وإنذار للمنافقين والكفار من أهل الكتاب موضوع الآيات السابقة. ولقد روى ابن كثير في سياق تفسير الآية الأولى حديثا أخرجه الإمام أحمد ومسلم جاء فيه: «أنه جاء إلى رسول الله قوم من مضر حفاة عراة شديدي العياء فتغير وجهه لما رأى بهم من الفاقة، فأمر بلالا فأذّن وأقام الصلاة فصلّى بالناس ثم خطبهم فقرأ آية سورة النساء هذه: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) ، ثم قرأ الآية الأولى من هذه الآيات ثم وقف عند جملة وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وقال هو تصدّق الرجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع برّه من صاع تمره حتى قال ولو بشقّ تمرة، فجاء رجل من الأنصار بصرّة كادت كفّه تعجز عنها بل عجزت ثم تتابع الناس حتى تكوّم كومان من طعام وثياب فتهلّل وجه رسول الله ثم قال من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ في الإسلام سنّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» . حيث ينطوي في هذا الحديث الرائع كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستخرج العبرة والموعظة من الآيات ويوجّه الناس بها نحو الخير والبرّ ويشجع عليهما بمثل هذه القوة وكيف كان أصحاب رسول الله يسارعون في الاستجابة ابتغاء رضوان الله ورسوله رضي الله عنهم. [سورة الحشر (59) : الآيات 21 الى 24] لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) .

تعليق على الآية لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله والآيتين التاليتين لها

(1) القدوس: المبالغ في التنزّه والطهارة. (2) السلام: المرجو للأمن والسلام. (3) المؤمن: واهب الأمن والطمأنينة. وقرئت (المؤمن) بمعنى المعتمد الذي يركن إليه ويؤمن له. (4) المهيمن: المراقب والمسيطر على عباده. (5) الخالق: قيل إن معنى الكلمة المقدّر لما يوجده على ما اقتضته حكمته. (6) البارئ: قيل إن معناها الموجد لما يخلقه من العدم أو المنشئ له أو المميز لأنواعه. تعليق على الآية لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ والآيتين التاليتين لها لم يرو المفسرون مناسبة لنزول هذه الآيات أيضا والمتبادر أنها استمرار للتعقيب على الآيات السابقة وبقصد تقرير كون ما في القرآن من الآيات والمعاني والحكمة والموعظة والقوّة الروحانية والهداية لو نزل على جبل لخشي الله وتصدّع من خشيته. وكون الذي أنزله هو الله ذو الأسماء الحسنى الذي يسبّح له ما في السموات والأرض ويعنون لعظمته وقدرته، المقدّس المنزّه عن كل شائبة الذي لا يعزب عن علمه وإحاطته شيء ظاهر وخفي وحاضر وغائب، العظيم في رحمته واهب الأمن والسلام، القوي الذي أوجد كل شيء من العدم وميّز أنواعه. الذي لا يفعل إلّا ما فيه الحكمة. المتعالي عن كلّ شريك وندّ. وكون ذلك يستوجب تأثر الناس بالقرآن وخشيتهم وخضوعهم جميعا لله اعترافا وعبادة وطاعة. وكون ذلك مما ينبّه الله تعالى إليه الناس لعلّهم يتنبهون ويتفكرون فيما يجب عليهم نحوه ويؤدونه له.

وقد انطوى فيها معنى التأنيب والتنديد للذين لا يتأثرون بالقرآن ولا يخلصون لله وهم الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، الذين حذّرت الآيات السابقة المؤمنين من أن يكونوا مثلهم. ولقد احتوت الآيات مجموعة رائعة من أسماء الله الحسنى لم تجتمع في مجموعة قرآنية أخرى مع التنبيه على أنها وردت متفرقة في آيات متعددة. وأسلوبها نافذ من شأنه أن يثير في النفس الطيبة الشعور بهيبة الله وعظمته وقوّة القرآن الروحية. ولقد أورد ابن كثير في سياق تفسير هذه الآيات حديثا أخرجه الإمام أحمد عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قال حين يصبح- ثلاث مرات- أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قرأ الآيات الثلاث من آخر سورة الحشر وكّل الله به سبعين ألف ملك يصلّون عليه حتى يمسي وإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا. ومن قالها حين يسمي كان بتلك المنزلة» . وفي الحديث تنويه قوي بفضل الآيات وقوّة روحانيتها. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب بحديثه أصحابه المؤمنين المخلصين الصالحي الأعمال حيث يسوغ هذا أن يقال إن الشخص الذي يعمل به ويريد أن يحصل على المنزلة المذكورة فيه لا بد من أن يكون متحققا بالإيمان والإخلاص والصلاح في الوقت نفسه. ولقد أورد المفسر نفسه في سياقها أيضا حديثا عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أسماء الله الحسنى أوردناه وأوردنا الأسماء الحسنى المذكورة فيه وعلقنا عليه في سياق تفسير الآية [180] من سورة الأعراف فنكتفي بهذا التنبيه.

سورة الجمعة

سورة الجمعة هذه السورة فصلان. في أولهما تنديد باليهود بسبب تفاخرهم باختصاص الله إيّاهم بالفضل على غيرهم وتكذيبهم وتحدّ لهم. وبيان ما كان من فضل الله على العرب الأميين في إرسال نبي منهم إليهم يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة. وفي ثانيهما تنديد بفريق من المسلمين كانوا يتركون النبي يوم الجمعة وهو يخطب ويخرجون من المسجد إذا ما رأوا لهوا أو تجارة. وحظر للبيع في وقت صلاة الجمعة. وإيجاب للسعي إليها. وإباحة ابتغاء فضل الله بالتجارة بعدها. ولا يبدو تناسب موضوعي وظرفي بين فصلي السورة مع اقتصارها عليهما. ولا يبدو حكمة ذلك واضحة إلى أن يكون اليهود قد أنكروا بعث الله تعالى نبيّا من الأميين ثم فاخروا المسلمين بأن توراتهم احتوت تحديد يوم لله من أيام الأسبوع ثم تفاخروا بأنهم هم وحدهم أولياء الله. فأوحى الله بفصول السورة على سبيل الردّ والتنديد والتحدي. ولقد روى البخاري ومسلم حديثا عن أبي هريرة سنورده في سياق تفسير الآيات الأولى من السورة تفيد عبارته أن سورة الجمعة نزلت دفعة واحدة. وقد يدعم هذا ما خمنّاه وما هو نتيجة ذلك من ترابط فصلي السورة. والله تعالى أعلم. وترتيب هذه السورة في ترتيب النزول الذي يرويه المصحف الذي اعتمدناه هو الرابع والعشرون. والتراتيب المروية الأخرى مقاربة لذلك «1» . مع أن محتوى السورة يدل على أنها نزلت في وقت كان في المدينة فيه فريق من اليهود وكانوا على شيء من القوة والاعتداد. ولما كان يهود بني قريظة هم آخر من بقي من

_ (1) انظر الجزء الثاني من كتابنا سيرة الرسول ص 9. [.....]

[سورة الجمعة (62) : الآيات 1 إلى 4]

اليهود في المدينة وقد نكّل النبي صلى الله عليه وسلم بهم في السنة الهجرية الخامسة بعد وقعة الخندق. وقد أشير إلى ذلك في سورة الأحزاب. فعلى أقل تقدير تكون سورة الجمعة قد نزلت قبل ذلك وبالتبعية قبل سورة الأحزاب. وهذا ما يبرر تقديم تفسيرها على هذه السورة. والله تعالى أعلم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) . (1) الأمّيين: الذين لا كتاب عندهم من الله. وهي هنا تعني العرب. (2) ولما يلحقوا بهم: الضمير في (بهم) عائد إلى الأميين موضوع الكلام في الآية الأولى كما تلهمه روح الآية وسياقها. وبخاصة كلمة (منهم) قبل الجملة. الآية الأولى مطلع تمهيدي لما بعدها. احتوت تقرير خضوع كل من في السموات والأرض لله وتقديسهم له. وهو العظيم القدسية. العزيز الحكيم. والآيات الثلاث احتوت تقريرا لما كان من عناية الله تعالى بالعرب وفضله عليهم وهو صاحب الفضل الذي يؤتي فضله من يشاء بعد أن كانوا في ضلال مبين وذلك: 1- بإرساله فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويطهّر نفوسهم ويعلمهم كتاب الله وكل ما فيه من حكمة وسداد. 2- وبعدم اقتصار ذلك على الحاضرين منهم وشموله لأناس أو أجيال منهم لم يلحقوا بهم بعد.

تعليق على الآيات الأربع الأولى من السورة وما فيه من التنويه بفضل الله على العرب في تكريمهم بإرسال نبيه منهم

تعليق على الآيات الأربع الأولى من السورة وما فيه من التنويه بفضل الله على العرب في تكريمهم بإرسال نبيه منهم ولم نطلع على رواية في مناسبة نزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة بالآيات التالية وتمهيد لها. وقد انطوت في حدّ ذاتها على معاني التنويه والمنّ الرباني بما كان من فضل الله على العرب وتكريمهم وتشريفهم بنبيه العربي وكتابه العربي. وفي هذا تلقين قوي بما يجب عليهم من إخلاص واستمساك شديدين بدين الله وكتابه وسنّة رسوله التي هي الحكمة التي علّمهم إياها النبي. ثم بما يجب عليهم من الدفاع عن هذا التراث المجيد وحفظه نقيّا صافيا طاهرا شكرا لله على ما كرّمهم به من عروبة نبيه وكتابه التي كان لهم فيها رفعة الذكر وعلوّ القدر وخلود الاسم وقوة السلطان الروحي بين أمم الأرض عامة والأمم الإسلامية خاصة. وهذه المعاني كلّها مما انطوى في آيات عديدة مكية ومدنية في سور سابقة «1» وعلّقنا عليها بما يقتضي، حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت تكرار ذلك وتذكير العرب به في المناسبات المختلفة والمتجددة. ولقد ورد في فصل التفسير من صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: «كنّا عند النبي صلى الله عليه وسلم حين أنزلت عليه سورة الجمعة فتلاها فلما بلغ: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ قال له رجل: يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ فلم يكلمه رسول الله وسلمان الفارسي فينا فوضع يده عليه وقال: والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من هؤلاء» «2» . وقد أورد الطبري وغيره بالإضافة إلى هذا الحديث الذي أوردوه أقوالا معزوة إلى مجاهد

_ (1) انظر تفسير آيات سورة الأنبياء [10] والزخرف [43- 44] والحج [78] والبقرة [143] . (2) التاج، ج 4 ص 234.

[سورة الجمعة (62) : الآيات 5 إلى 8]

وغيره منها أن المقصودين هم الأعاجم ومنها أنهم الذين يدخلون الإسلام إلى يوم القيامة من عرب وعجم. ولا يبدو الحديث تفسيرا حاسما للجملة ولا حاصرا للفئات التي ذكرت الآيات أنهم لما يلحقوا بهم. وكل ما يمكن أن يفيده الحديث هو بشرى تحققت باعتناق أهل فارس الدين الإسلامي في جملة من اعتنقه من العرب وغير العرب. وكلمتا (منهم وبهم) يجعلان صرف المعنى إلى الأميين موضوع الكلام والمعطوف عليهم هو الأولى والمعقول. وكلمة الأميين رادفت في القرآن العرب. وجاء مفردها وصفا للنبي صلى الله عليه وسلم في آيات سورة الأعراف [157 و 158] والسورة نزلت في أواسط العهد المدني على الأرجح ثم أخذ العرب يدخلون في الإسلام جماعة بعد جماعة حتى إذا تمّ فتح مكة واعتنق أهلها الإسلام أخذ العرب يدخلون في دين الله أفواجا من كل صوب بحيث يصح القول إن الجملة قد تضمنت تطمينا أو بشرى ربانية تحققت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم. هذا، وحديث أبي هريرة في حدّ ذاته يفيد كما قلنا في تعريف السورة أن السورة نزلت دفعة واحدة وأن فصولها مترابطة. والله تعالى أعلم. [سورة الجمعة (62) : الآيات 5 الى 8] مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) . (1) أسفار: جمع سفر وهو الكتاب.

تعليق على الآية مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا ... إلخ والآيات الثلاث التالية لها

في الآيات: 1- تنديد لاذع باليهود. فقد أتاهم الله التوراة وأمرهم بالسير عليها وتدبر ما فيها وتنفيذه، وهذا معنى حمّلوا التوراة، فلم يفهموها ولم يقوموا بحقها وانحرفوا عنها، وأن مثلهم كمثل الحمار الذي يحمل كتبا لأنه لا ينتفع بما فيها. وبئست حالة قوم مثل حالتهم بتكذيبهم آيات الله. ولن ينالوا توفيق الله وتسديده لأن الله لا يوفق الظالمين أمثالهم. 2- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتحدّيهم. فإذا كانوا صادقين في زعمهم أنهم أولياء الله وأصحاب الحظوة لديه دون سائر الناس فليتمنوا الموت الذي يقرّبهم إلى الجزاء الأخروي العظيم الذي يمنّون النفس به. 3- وتقرير بحقيقة واقعهم. فإنهم لا يتمنون الموت أبدا لأنهم يخافون المصير الرهيب بسبب ما اقترفوه وقدموه بين أيديهم من الآثام. وإن الله لهو العليم بالظالمين. 4- وإنذار لهم. فالموت الذي يخافونه ويتهربون منه ملاقيهم لا محالة. وإنهم لراجعون إلى الله عالم الحاضر والمستقبل والمغيب ومنبّأون بما عملوا ومحاسبون عليه. تعليق على الآية مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً ... إلخ والآيات الثلاث التالية لها ولم نطلع على رواية في مناسبة نزول هذه الآيات أيضا. والمتبادر أنها والآيات السابقة لها سلسلة واحدة. نزلت دفعة واحدة. وفي سياق موقف جدلي قام بين النبي صلى الله عليه وسلم واليهود. وتفاخر اليهود فيه وتبجحوا بأنهم أولياء الله وأحباؤه وموضع حظوته وأن الدار الآخرة خالصة لهم دون سائر الناس. بل ويستلهم من روح آيات السورة الأربع الأولى أنهم قالوا فيما قالوه إن الله جعل النبوة فيهم خاصة

وأنكروا- بناء على ذلك- نبوة النبي لأنه عربي. فنزلت الآيات تكذبهم وتندد بهم وتتحداهم وتفحمهم بأسلوب قوي نافذ ولاذع. وننبّه على أن مثل هذه المزاعم والأقوال والمواقف قد حكيت عن اليهود في آيات عديدة في سورتي البقرة وآل عمران اللتين مرّتا وفي سورتي النساء والمائدة اللتين تأتيان بعد مما يدل على أنها كانت تتكرر منهم في المناسبات المختلفة. وهذا الموقف من اليهود لا يمكن أن يكون منهم إلّا في ظرف كانوا فيه في المدينة على شيء من القوة والاعتداد. وهذا يصدق عليهم في السنين الخمس الأولى من الهجرة. وهو ما جعلنا نقدم السورة على ما شرحناه في مقدمتها. ولقد جاء في آية سورة الأعراف [157] التي سبق تفسيرها أن أصحاب التوراة والإنجيل يجدون النبي الأمّي مكتوبا في كتابيهما المذكورين وقلنا في سياق تفسيرها إن الآيات كانت تتلى علنا ولا ريب في أنها كانت تعبر عن حق وحقيقة يسلم بهما أصحاب الكتابين. ولقد جاء في آية سورة الأحقاف [10] التي سبق تفسيرها أن من الإسرائيليين من شهد وآمن برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وفي ذلك تقرير لواقع لا شك فيه. ولقد جاء في آية سورة الأنعام [114] وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ وهذا تقرير لواقع لا شكّ فيه. ولقد جاء في آيات سورة الإسراء [107 و 108] وآيات سورة القصص [52- 55] أن الذين أوتوا العلم والكتاب اعترفوا وآمنوا بصدق القرآن ورسالة النبيّ. وجاء في آية سورة آل عمران [199] وسورة النساء [162] أن من أهل الكتاب ومن الراسخين في العلم من بني إسرائيل من اعترف وآمن بصدق رسالة النبي. وهذا وذاك تقرير لواقع لا شكّ فيه فيكون تنديد الآية الأولى التي نحن في صددها وتمثيل المنكرين لنبوة النبي من اليهود بالحمار الذي يحمل الأسفار محلّين ملزمين مفحمين لأن الذين أنكروا نبوة النبي الأمي أنكروا ما هو وارد في توراتهم الذي جعل بعضهم يسلّمون به ويؤمنون بالقرآن وبالنبي الأمي صلى الله عليه وسلم.

[سورة الجمعة (62) : الآيات 9 إلى 11]

[سورة الجمعة (62) : الآيات 9 الى 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) . (1) إذا نودي: إذا أذّن لأنّ في الأذان دعوة للمسلمين إلى الصلاة (حيّ على الصلاة- حيّ على الفلاح) . وقد استعمل هذا الفعل في مثل هذا الموقف في إحدى آيات سورة المائدة وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً [58] . في الآيات: 1- أمر موجّه للمسلمين بترك البيع والسعي إلى ذكر الله في المساجد حين يؤذّن المؤذن وينادي للصلاة يوم الجمعة. 2- وإباحة لهم بالانتشار في الأرض وابتغاء فضل الله بالكسب والعمل بعد انقضاء الصلاة. 3- وتنديد بفريق منهم كانوا يتركون النبي قائما في المسجد يوم الجمعة ويخرجون إذا ما رأوا أو سمعوا بتجارة أو لهو. ويغفلون بذلك عن أن ما عند الله هو خير من اللهو والتجارة وأنه خير الرازقين. تعليق على آيات صلاة الجمعة وتنويه بخطورتها الدينية والاجتماعية ولمحة عن تاريخ الجمعة قبل الإسلام ومسألة اتخاذ يوم الجمعة يوم عيد وعطلة عامّا للمسلمين والآيات فصل مستقل عن الآيات السابقة. ولا تبدو حكمة وضعه بعدها

واقتصار السورة عليه وعلى الفصل السابق له إلّا إذا صحّ ما ذكرناه في المقدمة. ونرجو ذلك. وقد روى البخاري والترمذي في مناسبة نزول الآية الأخيرة فقط من هذه الآيات حديثا عن جابر قال: «أقبلت عير يوم الجمعة ونحن مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فثار الناس إلا اثني عشر رجلا فأنزل الله وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً» «1» . ولقد أورد الطبري وغيره هذا الحديث ورووا زيادة مهمة لم ترد في الصحاح. ومن ذلك ما رواه البغوي أن الانفضاض كان بسبب سماع طبل صاحب القافلة. وأن النبي صلى الله عليه وسلم غضب من ذلك حتى قال: «والذي نفس محمّد بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى أحد لسال بكم الوادي نارا» . وفي رواية: «أنه سأل كم بقي في المسجد فقالوا اثنا عشر رجلا وامرأة فقال لولا هؤلاء لسوّمت لهم الحجارة من السماء» . وفي رواية رواها الطبري: «أن الانفضاض تكرّر ثلاث مرات على ثلاث جمع لم يكن يبقى في كلّ جمعة إلّا اثنا عشر رجلا وامرأة وأن النبي قال في الثالثة والذي نفسي بيده ولو اتّبع آخركم أولكم لالتهب عليكم الوادي نارا، وأنزل الله وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً ... إلى آخر الآية» . والذي يتبادر لنا أن الآيات الثلاث نزلت دفعة واحدة في مناسبة تسلل المسلمين من المسجد. وقد احتوت الأولى والثانية بيانا تمهيديا بخطورة شهود صلاة الجمعة. وترك البيع في وقتها كمقدمة للتنديد. وفي هذا إذا صح صورة من صور المسلمين في العهد المدني. والراجح أنها صورة للمسلمين المستجدين من غير الرعيل الأول من المهاجرين والأنصار الذين تواترت الروايات على أنهم كانوا مستغرقين في الله ورسوله، وأيّدت ذلك الآيات العديدة التي مرّت أمثلة منها. وروح الآيات تلهم أن صلاة يوم الجمعة والقيام للخطبة بين يديها مما كان جاريا ومفروضا قبل نزولها وأنها نزلت للحثّ على شهودها وبيان خطورتها

_ (1) انظر التاج ج 4 ص 234- 235 وكلمة (عير) بمعنى القافلة ومن ذلك في سورة يوسف وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) .

والتنديد بالمنفضين عنها أو المهملين فيها. وهذا المعنى يكون صحيحا وحاسما إذا صحّ ترجيحنا بأن الآيتين الأولى والثانية نزلتا مع الآية الثالثة دفعة واحدة وهو ما نرجوه. وهناك روايات وآثار تؤيد ذلك حيث روى ابن هشام عن ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل في قباء حينما جاء من مكة مهاجرا فأقام فيها أياما وأن صلاة الجمعة أدركته في بني سالم بن عوف فصلّاها في مسجدهم الذي أسّسه لهم في بطن وادي رانوناء فكانت أول جمعة صلّاها بالمدينة «1» . وهذه الرواية تدل على أن صلاة الجمعة كانت تقام في مكة أيضا قبل الهجرة. وقد يؤيد هذا حديث رواه أبو داود وابن حبان والبيهقي والحاكم وصححه عن عبد الرحمن بن مالك وكان يقود أباه بعد ذهاب بصره قال: «كان أبي إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحّم لأسعد بن زرارة فسألته عن ذلك فقال لأنه أول من جمع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة قلت كم أنتم يومئذ؟ قال أربعون» «2» . وأسعد بن زرارة هو أحد زعماء الأوس الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وتعاقدوا معه. ولا ريب أنه تلقى واجب صلاة الجمعة عنه كما تلقى عنه واجبات الإسلام الأخرى ... ولقد روي فيما روي «3» أن أهل يثرب رأوا أن يتخذوا لهم يوما يجتمعون فيه كما كان لليهود يوم السبت وللنصارى يوم الأحد فاختاروا يوم الجمعة. كما روي «4» أن كعب بن لؤي رتّب أو سنّ اجتماعات عامة تقوم في هذا اليوم وبدّل اسمه من (العروبة) إلى يوم الجمعة. والمتبادر أن اسم اليوم وما توخّي منه أعمّ من نطاق يثرب وأقدم. وأن للاسم دلالة ظاهرة على معناه. وأن لرواية سنة كعب وتغييره اسم اليوم من العروبة إلى الجمعة أصلا وحقيقة مع ترجيحنا أن يكون الاجتماع المسنون ذا صبغة أو غاية دينية طقسية واجتماعية معا. وقد تكون فكرة

_ (1) سيرة ابن هشام ج 2 ص 111- 112. (2) التاج، ج 1 ص 247- 248 ومعنى جمع بنا صلّى بنا صلاة الجمعة. (3) تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي ج 5 ص 246. (4) المصدر نفسه.

التفرغ للصلاة أو لبعض الطقوس الدينية أو عقد اجتماعات عامة في يوم الجمعة في الجاهلية مقتبسة من اليهود والنصارى في الأصل أو قد لا تكون. فهناك أمم قديمة كثيرة كان لها أيام أسبوعية خاصة للاجتماعات الدينية والاجتماعية العامة لا تمتّ إلى النصرانية ولا إلى اليهودية كما لا يخفى. على أن سكوت الروايات عن الإشارة بشيء هام إلى هذا الاجتماع الأسبوعي الجاهلي القديم يدلّ على أنه لم يظلّ على خطورته الأولى أو بالأحرى على أنه قد أهمل في عهد الجاهلية المتأخر ولم تبق له إلّا ذكرى الاسم فأحياها الإسلام ليكون هذا اليوم العربي الأسبوعي يوما مشهودا لذكر الله واجتماع المسلمين للصلاة في وسطه وسماع الخطبة والموعظة من رسول الله والأئمة من بعده. وظاهر مما تقدم أن تشريع صلاة الجمعة في الإسلام كان في بدئه مكّيا ونبويا ثم صار بالآيات التي نحن في صددها قرآنيا ولعلّ في إيراد الآيات الثلاث بعد فصل التنديد باليهود ردّا على ما خمّناه من تفاخر هؤلاء بيوم معين في الأسبوع كله عندهم. فالله سبحانه قد جعل للمسلمين أيضا يوما معينا له هو يوم الجمعة ولقد رويت أحاديث عديدة في تعيين الله يوم الجمعة للمسلمين وفي فضلها وفضل صلاتها ووجوب شهودها والاحتفال لذلك، منها حديث عن أبي هريرة رواه الشيخان والنسائي جاء فيه: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا تبع فيه. اليهود غدا والنصارى بعد غد» «1» . وحديث عن أبي هريرة رواه مسلم والنسائي وأحمد جاء فيه: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره لينتهينّ أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمنّ الله على قلوبهم ثم ليكوننّ من الغافلين» «2» . وحديث عن أبي الجعد الضّمري رواه أصحاب السنن والحاكم جاء فيه: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: من ترك ثلاث جمع تهاونا بها

_ (1) التاج، ج 1 ص 244- 262. (2) المصدر نفسه. الجزء السابع من التفسير الحديث 22

طبع الله على قلبه» «1» . وحديث عن ابن عباس رواه الشافعي جاء فيه: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: على كلّ محتلم رواح الجمعة وعلى كلّ من راح الجمعة الغسل» «2» . وحديث رواه أبو داود والبيهقي عن طارق بن شهاب جاء فيه: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: من ترك الجمعة من غير ضرورة كتب منافقا في كتب لا يمحى ولا يبدل» «3» وحديث رواه أبو داود والنسائي عن حفصة جاء فيه: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم الجمعة حقّ واجب على كلّ مسلم في جماعة إلّا أربعة: عبد مملوك أو امرأة أو صبيّ أو مريض» «4» . وحديث رواه الشيخان وأبو داود عن سلمان الفارسي وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويطّهر ما استطاع من الطهر ويدّهن من دهنه ويمسّ من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرّق بين اثنين ثم يصلّي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلّم الإمام إلّا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى» «5» . ولفظ أبي داود: «من اغتسل يوم الجمعة ولبس من أحسن ثيابه ومسّ من طيب إن كان عنده ثم أتى الجمعة فلم يتخطّ أعناق الناس ثم صلّى ما كتب الله له ثم أنصت إذا خرج الإمام حتى يفرغ من صلاته كانت كفّارة لما بينها وبين جمعته التي قبلها» «6» . وحديث رواه ابن ماجه وعبد السلام عن عبد الله بن سلام قال: «سمعت رسول الله يقول على المنبر في يوم الجمعة ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوب مهنته» «7» . وحديث رواه الشيخان والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «على كلّ مسلم حقّ أن يغتسل في كلّ سبعة أيام يوما يغسل فيه رأسه وجسده» . ولفظ النسائي «على كلّ رجل مسلم في كلّ سبعة أيام غسل هو يوم

_ (1) التاج، ج 1 ص 244- 262. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. - وهذا الحديث والله لم يجعل شهود صلاة الجمعة جماعة واجبا على المرأة والصبي والعبد المملوك فهو لا يمنع ذلك لمن أراد واستطاع منهم كما هو المتبادر. (5) المصدر نفسه وتفسير ابن كثير. [.....] (6) المصدر نفسه. (7) المصدر نفسه.

الجمعة» «1» . وحديث رواه الترمذي جاء فيه: «من تخطّى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسرا إلى جهنّم» «2» . وحديث رواه الخمسة إلّا أبا داود جاء فيه: «إنّ رسول الله ذكر يوم الجمعة فقال فيه ساعة لا يوافقها غير مسلم وهو قائم يصلّي يسأل الله شيئا إلّا أعطاه إيّاه وأشار بيده يقلّلها» «3» . وروى مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي موسى عن وقت هذه الساعة أن رسول الله قال: «هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة» «4» . وحديث رواه الخمسة عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت» «5» . وهناك أحاديث أخرى اكتفينا بما تقدم حيث تدل كثرتها على ما كان من اهتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة الجمعة وشهودها والتطهر والتزين والتجمّل لها وحيث ينطوي في هذا ما ينطوي من تعليم وتأديب رائعين. وخطورة واجتماع الجمعة الاجتماعية أيضا واضحة بالإضافة إلى خطورته الدينية. حيث يجتمع المسلمون جميعهم في المساجد في المدن والقرى في مشهد رائع عظيم فيذكرون اسم الله ويصلّون له ويستمعون لوعظ الخطباء. وقد يدخل هذا في حكمة التنبيه والإنذار القرآنية والنبوية. ولقد كانت هذه الخطورة أشدّ وأعظم في زمن رسول الله وخلفائه الراشدين حيث كانوا هم الذين يخطبون الناس خطبا تتناول أمور المسلمين العامة الحاضرة سياسية واجتماعية وجهادية وأخلاقية حثّا وزجرا وتعليما وإرشادا وإخبارا واستشارة. ومن الواجب حتما على المسلمين وخطبائهم أن يلتزموا بالأمر الرباني والنبوي والسنّة النبوية والراشدية. ولقد استدل الفقهاء والمفسرون من جملة وَتَرَكُوكَ قائِماً على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلقي خطبة الجمعة وهو واقف. وهناك حديث رواه الخمسة عن ابن عمر قال:

_ (1) المصدر السابق وتفسير ابن كثير. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه.

«كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب ثمّ يقعد ثم يقوم كما تفعلون الآن» «1» . وفي رواية: «كان للنبيّ خطبتان يجلس بينهما» «2» . وهناك بعض أحكام فرعية للفقهاء فيها بعض الخلاف ليس هنا موضع التبسّط فيها غير أننا نرى أن نشير إلى نقطة هامة كثر القول فيها وهي فكرة اتخاذ يوم الجمعة يوم عطلة وراحة للمسلمين. فالذي يتبادر لنا أن الأمر بترك البيع والسعي إلى الصلاة كان من مقتضى الواقع أو بسبب كون البيع هو الذي كان يشغل الناس عن السعي إلى صلاة الجمعة أكثر. ولا يعني أن الذين لا يبتاعون مسموح لهم أن يتابعوا ما هم فيه من عمل وغير مأمورين إلى تركه والسعي إلى صلاة يوم الجمعة حينما يؤذن لها. بحيث يصحّ القول إن الآيات هي في صدد شهود الصلاة وسماع الخطبة في وقتها المعيّن، وحظر البيع والاشتغال بأمور الدنيا المباحة في هذا الوقت وإباحة ذلك بعد انقضاء الصلاة. وليس فيها ما يمنع اتخاذ هذا اليوم يوم راحة وعطلة أسبوعية كما أنه ليس فيها ما يوجب ذلك. وهذا شأن كسائر الشؤون الاجتماعية المباحة متروك لما يراه المسلمون ويتفقون عليه فيما يتبادر لنا. وإذا كان رأي أولي الأمر وعاداتهم المباحة مما يكون مرجحا في شؤون مسلمين التي لم يرد فيها نصّ فإن ذلك في جانب اتخاذ هذا اليوم يوم راحة وعطلة أسبوعية عام لأن الأولي الأمر ومصالح الحكومة جرت على هذا منذ الأمد الطويل. ولقد رأينا المفسر القاسمي يقول إن جملة: وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تدل على عدم مشروعية تعطيل يوم الجمعة الذي فيه تشبيه بأهل الكتاب. ولسنا نرى هذا محلّه. فالآيات انطوت على تقرير كون الممنوع هو البيع والشراء وقت الصلاة ثم إباحتهما بعدها. والإباحة لا تعني الإيجاب. وفي الأحاديث السابقة حثّ نبوي على الاحتفال بيوم الجمعة من لبس ثوب نظيف غير ثوب المهنة والاغتسال والتطيّب مما يمكن أن يكون فيه تدعيم لفكرة اتخاذ هذا اليوم يوم عيد وعطلة وراحة للمسلمين، والله تعالى أعلم.

_ (1) التاج ج 1 ص 244- 262، وتفسير ابن كثير. (2) المصدر نفسه.

كلمة في حالة اجتماع العيد والجمعة في يوم واحد

كلمة في حالة اجتماع العيد والجمعة في يوم واحد لقد قرأنا في كتاب مبادئ الفقه الإسلامي في العبادات للشيخ الفاضل محمد سعيد الوفي طبعة ثالثة الصفحة 89 حديثا: رواه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم وابن ماجه عن زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في يوم جمعة كان يوم عيد أيضا: «أيّها الناس إنّ هذا اليوم قد اجتمع لكم فيه عيدان فمن أحبّ أن يشهد معنا الجمعة فليفعل ومن أحبّ أن ينصرف فليفعل» . ولم نجد هذا الحديث في كتاب التاج الجامع للكتب الخمسة التي منها كتابا أبي داود والنسائي. وإنما قرأنا حديثا قريبا منه في مجمع الزوائد هذا نصّه: «عن ابن عمر قال: اجتمع عيدان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فطر وجمعة فصلّى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد ثم أقبل عليهم بوجهه فقال يا أيّها الناس قد أصبتم خيرا وأجرا. وأنا مجمعون فمن أراد أن يجمع معنا فليجمع ومن أراد أن يرجع إلى أهله فليرجع» . رواه الطبراني في الكبير من رواية إسماعيل بن إبراهيم التركي عن زياد بن راشد أبي محمد السماك ولم أجد من ترجمها. ومجمعون مأخوذ من الجمعة. وجملة ولم أجد من ترجمهما لمؤلف الزوائد وعنى على الأغلب الراويين إسماعيل وزياد. ونقول تعليقا على ذلك إن الإجابة لنداء الجمعة فرض قرآني واجتماع وصلاة العيد سنّة. ولا يصح فيما يتبادر والله أعلم أن يستغنى عن الفرض بالسنّة مع عظم خطورة هذا الفرض وما ورد في تركه من أحاديث صحيحة عديدة أوردناها قبل قليل ... حتى ولو قيل إن الاستغناء هو عن حضور اجتماع وخطبة الجمعة ولا يعني سقوط صلاة الظهر. وهذا ما يجعلنا نتوقف في هذا الحديث إلّا إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أذن لأناس لا يسمعون نداء الجمعة أو لا تجب عليهم لعذر ما، والله تعالى أعلم. استطراد إلى الأذان في الإسلام إن تعبير يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ يعني الأذان وقد عبّر به بذلك في آية أخرى في سورة المائدة. وقد رأينا من المناسب أن

نستطرد هنا فنقول إن هناك بعض الآثار في أوليته وكيفيته. فهناك حديث يرويه الطبراني عن ابن عمر جاء فيه: «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما أسري به إلى السماء أوحي إليه بالأذان» «1» . وقال الطبراني إن من رواة هذا الحديث طلحة بن زيد الذي ينسب إليه الوضع، وكونه موضوعا واردا لأن مقتضاه أن يكون الأذان مكّيا وهو ما لا يعقل لأن المسلمين كانوا في مكة ضعفاء وفي قلة ويجتمعون للصلاة سرّا. وفي طبقات ابن سعد روايات عن الزهري عن سعيد بن المسيب وفي موطأ مالك حديث عن يحيى بن سعيد. ويستفاد منهما أنه كان ينادي منادي النبي الصلاة جامعة فيجتمع الناس فلما صرفت القبلة نحو الكعبة أمر بالأذان، وهذا يفيد أنه كان في العهد المدني وهو الأوجه الأرجح. ومما ذكرته الروايات أن النبي قد أهمّه هذا الأمر فاقترح بعضهم الضرب بخشبتين وبعضهم الضرب بالبوق وبعضهم الضرب بناقوس. فبينما هم على ذلك رأى عبد الله بن زيد الخزرجي في منامه رجلا مرّ وعليه ثوبان خضراوان وفي يده ناقوس فسأله أن يبيعه له فقال له ماذا تريد به فقال لجمع الناس للصلاة فقال له أنا أحدثك بخير من ذلك تقولون الله أكبر. أشهد أن لا إله إلّا الله. أشهد أن محمدا رسول الله. حي على الصلاة، حي على الفلاح. الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلّا الله. فلما أفاق أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال له قم مع بلال فالق عليه ما قيل لك وليؤذن بذلك ففعل. وجاء عمر فقال رأيت مثل الذي رأى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلله الحمد فذلك أثبت. وفي رواية أن مما ألقي عليهما جملة (الصلاة خير من النوم) لأذان الصبح) «2» . ومهما يكن من أمر فإن هناك حديثا رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي محذورة أن النبي صلى الله عليه وسلم علّمه الأذان والإقامة. وصيغة الأذان هي: الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. زاد في رواية ترفع صوتك فيها ثم تقول: أشهد أن لا إله إلّا الله. أشهد أن لا إله إلّا الله. أشهد أن محمدا رسول الله. أشهد أن محمدا رسول الله. زاد في رواية تخفض بها صوتك ثم ترفع صوتك بالشهادة: أشهد أن لا

_ (1) مجمع الزوائد ج 1 ص 329. (2) انظر موطأ مالك ج 1 ص 36، وطبقات ابن سعد ج 2 ص 11 و 12.

إله إلّا الله. أشهد أن لا إله إلّا الله. أشهد أن محمدا رسول الله. أشهد أن محمدا رسول الله. حيّ على الصلاة. حيّ على الصلاة. حيّ على الفلاح. حيّ على الفلاح. فإن كان لصلاة الصبح قلت الصلاة خير من النوم. الصلاة خير من النوم. الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلا الله. وصيغة الإقامة بعد حيّ على الفلاح قد قامت الصلاة. قد قامت الصلاة. الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلا الله» «1» . وهناك حديث يرويه الخمسة عن أنس قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة إلّا الإقامة» «2» . وهناك حديث يرويه الطبراني عن بلال: «أنه كان يؤذن للصبح فيقول حي على خير العمل فأمره رسول الله أن يجعل مكانها الصلاة خير من النوم» «3» . ونبّه الطبراني على أن أحد رواة هذا الحديث ضعيف. وتبقى جملة (الصلاة خير من النوم) من تعليم النبي الأول على ما جاء في الحديث الأول. وهناك حديث رواه الخمسة عن أبي جحيفة قال: «رأيت بلالا يؤذن ويدور ويتبع فاه هاهنا وهاهنا وأصبعاه في أذنيه ورسول الله في قبة حمراء من أدم» «4» . وفي رواية «لما بلغ حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح لوى عنقه يمينا وشمالا ولم يستدر» «5» . وهناك حديث رواه الخمسة عن أبي سعيد قال: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن» «6» . وزاد غير البخاري «ثم صلّوا عليّ فإنه من صلّى عليّ صلاة صلى الله عليه عشرا. ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تبتغى إلّا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل الله لي الوسيلة حلّت له الشفاعة» «7» .

_ (1) التاج، ج 1 ص 146- 148، ومعنى ما جاء في الحديث الثاني أن الجمل في الأذان تكون شفعا وفي الإقامة وترا إلا كلمات (قد قامت الصلاة) فتكون شفعا. (2) المصدر نفسه. (3) مجمع الزوائد ج 1 ص 330. [.....] (4) التاج، ج 1 ص 146- 148. (5) المصدر نفسه. (6) المصدر نفسه. (7) المصدر نفسه.

وهناك حديث رواه الخمسة إلّا مسلما عن جابر قال: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قال حين سمع النداء اللهمّ ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلّت له شفاعتي يوم القيامة» «1» . وهناك حديث رواه أصحاب السنن عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يردّ الدعاء بين الأذان والإقامة» «2» . وحديث رواه أبو داود جاء فيه: «قال رجل يا رسول الله إن المؤذنين يفضلوننا. فقال قل كما يقولون فإذا انتهيت فسل تعطه» «3» . والأذان الإسلامي فريد رائع في بابه. وفيه هتاف متكرر بأعلى الصوت على ملأ الناس على اختلاف ألوانهم وأجناسهم ونحلهم بأن الله أكبر من كل شيء فتمتلىء النفس المؤمنة قوة بذلك واستغناء عن غير الله واستصغارا لغير الله. وفيه دعوة متكررة إلى الفلاح والنجاح بالصلاة والتي يعبد بها المؤمن ربّه الأكبر عبادة خاضعة فيتلو فيها قرآنه المجيد ويسبّح باسمه ويحمده على نعمه ويلتمس منه الرشد والهداية بالإضافة إلى الشهادة المتكررة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم الذي شاء الله أن يكون خاتم أنبيائه وأن يكون الدين الذي جاء به دين الإنسانية جميعا. ويتكرر هذا كل يوم خمس مرات ليلا ونهارا في جميع أقطار الدنيا التي ينتشر فيها المسلمون. والله أكبر والعزّة لله ولرسوله وللمؤمنين.

_ (1) التاج، ج 1 ص 146- 148. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه.

سورة الأحزاب

سورة الأحزاب في هذه السورة مواضيع عديدة ومتنوعة. منها ما هو تشريعي في صدد إلغاء أحكام التبني والظهار. ومنها ما هو حربي في صدد وقعتي الأحزاب وبني قريظة. وفيها فصل في تخيير نساء النبي ومواعظ لهن وفيها ما فيه استدراك لمسألة طلاق الزوجة قبل المسيس. ومنها ما له علاقة بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبيوته وزواجه بمطلقة ابنه بالتبني. وفيها حملات على الكفار والمنافقين. والمصحف الذي اعتمدناه يذكر ترتيب نزولها بعد سورة آل عمران. وقد ذكر ذلك في تراتيب عديدة أخرى. وهناك رواية تذكر أنها نزلت بعد الأنفال وأخرى بعد سورة النور. والتدقيق في مضامين فصول السورة وما روي من ظروف نزولها يسوّغ القول إنها نزلت في فترات متباعدة ثم ألّف بينها. ولقد احتوت مثلا فصلا في أنكحة النبي صلى الله عليه وسلم يدلّ فحواه وما روي في نزوله على أنه نزل بعد نزول الآية التي فيها تحديد لعدد الزوجات في سورة النساء التي ذكر الرواة ترتيبها بعد هذه السورة. وفيها آيات في صدد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بمطلقة ابنه بالتبني زيد ولا بد من أن ذلك كان قبل نزول آية النساء في تحديد عدد الزوجات، لأن في السورة آية تحرّم على النبي صلى الله عليه وسلم الزواج بعد تحديد العدد وإقراره على زوجاته اللاتي في عصمته. ولقد ذكرت الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج بعض زوجاته في أثناء زيارته للكعبة في السنة السابعة للهجرة حيث يسوغ هذا القول أن تأليفها قد تأخر إلى وقت متأخر من العهد المدني. أما ترتيب المرتبين لها في النزول بعد سورة آل عمران أي كرابعة سورة فلم نر له مبررا إلا احتمال كون مطلعها قد نزل مبكرا على بعده لأن مطلعها الذي فيه تسفيه لتقاليد التبني والظهار متصل بحادث زواج النبي صلى الله عليه وسلم بمطلقة متبنيه

كما نرجح. ولأن في الروايات ما قد يفيد أن هذا الحادث لم يقع مبكرا. ولم نر أي مبرر لرواية نزولها بعد الأنفال أو بعد النور. ومهما يكن من أمر فإننا بعد تقديمنا سورة الحشر صار وضعها بعدها سائغا لأن وقعتي الأحزاب وبني قريظة قد وقعت بعد قليل من وقعة بني النضير التي نزلت فيها سورة الحشر وبذلك نكون قد راعينا التسلسل الزمني للسيرة النبوية. هذا، ولقد روي عن عائشة أم المؤمنين: «أن هذه السورة كانت تقرأ مائتي آية فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر إلّا ما هو الآن» «1» . وقد روى المفسر النسفي: «أن أبيّ بن كعب سأل أبا ذرّكم تعدون سورة الأحزاب قال ثلاثا وسبعين فقال والذي يحلف أبي به إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول» . ولقد قرأنا منها آية الرجم (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم) . وقد حمل النسفي- راوي الحديث- كلام أبي على أن المقصد منه هو الإشارة إلى ما نسخ من القرآن في عهد النبي. غير أن حديث عائشة صريح بأنها تقصد أن إسقاط معظم السورة كان في زمن عثمان. والحديثان غير موثقين ولم يردا في كتب الأحاديث الصحيحة والتوقف فيهما أولى. ومن الجدير بالذكر أن مصحف عثمان إنما نقل عن المصحف الذي حرر في زمن أبي بكر رضي الله عنهما فلم يكن أي احتمال لإسقاط معظم السورة من مصحف عثمان. ولقد كانت عائشة ذات شخصية قوية ومن مراجع القرآن والسنّة ولا يعقل أن تسكت عن هذا الإسقاط لو كان واقعا ولا يعقل أن يهمل اعتراضها. ومع ما في تعليل النسفي لحديث أبي بن كعب من وجاهة فإننا نشك في أن يكون قد وقع نسخ آيات أو فصول كثيرة من السورة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. فإن مثل هذا الحادث الخطير لا يعقل أن لا يرد فيه روايات وثيقة تحتوي بيانات وافية.

_ (1) الإتقان ج 2 ص 26.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 1 إلى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الأحزاب (33) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) . في الآيات: نداء موجه إلى النبي يؤمر فيه بتقوى الله وعدم إطاعة الكافرين والمنافقين والاستجابة إلى ما يقولونه واتباع وحي الله فقط والاتكال عليه وحده. فالله أعلم بمقتضيات الأمور ولا يأمر إلّا بما فيه الحكمة والصواب. وهو الخبير بكل ما يفعله الناس. وهو نعم الكافي لمن توكل عليه. تعليق على الآيات الثلاث الأولى من السورة لقد روى المفسرون «1» أن الآيات نزلت بمناسبة قدوم وفد من قريش فيهم أبو سفيان وعكرمة بن أبي جهل إلى المدينة بأمان من النبي فنزلوا على عبد الله بن أبي، ثم ذهبوا معه إلى النبي فطلبوا منه الموادعة، ويدع آلهتهم بدون سبّ وعقائدهم بدون تسفيه ويدعونه وشأنه فأثار ذلك عمر واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم فقال له إني أعطيتهم أمانا. ورووا كذلك أنها نزلت في وفد ثقيف الذي طلب من النبي أن يمتعهم باللات والعزّى سنة حتى تعلم قريش منزلة ثقيف عنده. والروايات لم ترد في الصحاح ويلحظ أن الآيات التي تلي هذه الآيات قد نزلت في صدد وقعة الأحزاب التي كانت نتيجة لزحف عظيم من قبل قريش وحلفائهم على المدينة لاستئصال شأفة النبي. ومن المحتمل أن تكون آيات وقعة الأحزاب قد وضعت في موضعها القريب من هذه الآيات بسبب تناسب الظروف. وهذا يجعلنا نستبعد أن يكون وفد من قريش قد قدم إلى المدينة في هذا الظرف لعرض الموادعة على النبي مما روته الرواية الأولى. إلّا أن يقال إن أبا سفيان قدم

_ (1) انظر تفسير البغوي والطبرسي.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 4 إلى 5]

لاستطلاع أحوال النبي والمسلمين مع استبعادنا لذلك نظرا لحالة العداء الشديدة القائمة بين النبي والمسلمين من جهة وبين أهل مكة أو زعمائها المشركين من جهة ثانية. ولقد كان ما ذكرته الرواية الثانية في السنة التاسعة من الهجرة وبعد فتح مكة بعام «1» فليس لذكره محل في مطلع سورة يرجح أنه نزل في وقت مبكر من العهد المدني. والذي يتبادر لنا أن الآيات إمّا أن تكون نزلت في مناسبة مراجعة فريق آخر من الكفار والمنافقين في صدد التساهل في بعض الشؤون، وإما أن تكون مقدمة للآيات التالية التي فيها حملة على بعض التقاليد الجاهلية الراسخة وأمر بإلغائها على سبيل التثبيت والتشجيع والتنبيه على وجوب تنفيذ وحي الله وأمره وعدم المبالاة باعتراض الكفار والمنافقين. وهذا ما نرجحه. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 4 الى 5] ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5) . (1) تظاهرون: هنا من الظهار وهو قول الزوج لزوجته أنت حرام عليّ كظهر أمي بقصد تحريم وطئها على نفسه. (2) أدعياءكم: كناية عن الأبناء بالتبني. في هاتين الآيتين: 1- نفي تقريري بأن الله لم يجعل قلبين في جوف أي إنسان. ولم يجعل زوجة الرجل أمّه بمجرد استعماله صيغة الظهار. ولم يجعل دعي الرجل ابنا له

_ (1) انظر طبقات ابن سعد ج 2 ص 77- 78، وابن هشام ج 4 ص 194- 197.

تعليق على الآية ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم ... إلخ والآية التالية لها

بمجرد تبّنيه. وبأن هذا ليس من الحقّ والصدق في شيء. وهو مردود على أصحابه. وبأن الله يقرر الحق والصدق ويهدي إلى سبيلهما. 2- وأمر بتسمية الأبناء بالتبني باسم آبائهم الحقيقيين ونسبتهم إليهم. فهو الأقسط عند الله والمتفق مع الحقّ والحقيقة. فإذا لم يعرف آباؤهم فهم إخوان متبنيهم في الدين ومواليهم وكفى. 3- وتنبيه على أن الله غفور رحيم لا يؤاخذ المسلمين فيما أخطأوا به من غير علم وعمد. وإنما يؤاخذهم بما يصدر منهم من أخطاء عن عمد وعلم. تعليق على الآية ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ ... إلخ والآية التالية لها روى المفسرون أن الفقرة الأولى من الآية الأولى نزلت لتكذيب شخص اسمه دهية أو أبو معمر على اختلاف الرواية كان يزعم أن له قلبين في جوفه. كما رووا أنها نزلت تكذيبا للمنافقين الذين كانوا يقولون إن للنبي قلبين قلبا معنا وقلبا معهم. أو تكذيبا لرجل كان يقول إن لي قلبين أعقل بكل منهما أفضل من عقل محمد. رواية قول المنافقين رواها الترمذي عن ابن عباس بسند حسن ونصها: «قيل لابن عباس أرأيت قول الله تعالى ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ما عنى بذلك. قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يصلي فخطر خطرة فقال المنافقون الذين يصلون معه ألا ترى أن له قلبين قلبا معكم وقلبا معهم فأنزل الله الآية» «1» . ولقد روى البغوي عن الزهري ومقاتل أن الجملة مثل ضربه الله للمظاهر من امرأته وللمتبني لولد غيره، ومعناها أنه كما لا يكون للرجل قلبان فإن زوجة

_ (1) التاج، ج 4 ص 183، وخطر خطرة بمعنى سها سهوا ما.

تقليد الظهار في الجاهلية

المظاهر لا تكون أمه، ووالد المبتنى لا يكون أباه الحقيقي. لأنه لا يكون للإنسان أمّان ولا والدان. وهذا يفيد أن حديث ابن عباس لم يثبت عند الزهري ومقاتل. ونحن نميل إلى الأخذ بهذا لأننا نراه الأوجه في توضيح مدى الجملة. ولقد اكتفى السياق هنا في صدد الظهار بالتسفيه وتقرير النفي. ثم بيّن الحكم فيه في سورة المجادلة. في حين أن الحكم في التبني قد بيّن هنا. حيث يلهم هذا أن الظرف الذي نزلت فيه الآيات لم يكن يقتضي غير ذلك. وننبه على أن في سورة المجادلة ما قد يلهم أنها نزلت قبل هذه الآيات على ما سوف نشرحه في تفسيرها. وإذا كان ما نستلهمه في محله فيكون تسفيه الظهار هنا تدعيما لتسفيه تقاليد التبني وتقريرا لكونها سخيفة مثل تقليد الظهار. وقد روى الطبري عن مجاهد ما يؤيد ذلك حيث روى أن هذا قال إن الآية قد نزلت في قضية زيد بن حارثة متبنّى النبي صلى الله عليه وسلم التي ورد ذكرها في آيات أخرى في هذه السورة. ولقد انطوى في الآية الثانية تلقينات جليلة مستمرة المدى في توطيد الأخوة الدينية بدون اعتبار لأي فارق طبقي. ثم في تقرير كون مسؤولية المرء عن أخطائه إنما تكون فيما يقع منه من ذلك عن علم وعمد وهو ما تكرر تقريره في مواضع عديدة في القرآن ونبهنا عليه. وجملة وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) وإن كانت جاءت في معرض تدعيم ما سفهته ونفته الآية من دعاو وتقاليد فإنها شاملة مستمرة الفيض والإشعاع في صدد تقرير كون الله إنما يأمر دائما بما هو حق وإنما يهدي بما يأمر إلى سبيل الحقّ والخير. وداعمة لوجوب التزام حدود أوامر الله تعالى ونواهيه والإيمان بأنها تهدف دائما إلى ما فيه الحق والخير. تقليد الظهار في الجاهلية وظهار الزوجات الذي أشير إليه في الآيات عادة جاهلية لتحريم الزوج على نفسه وطء زوجته مع إبقائها في عصمته. حيث يقول لها أنت عليّ كظهر أمي.

تقليد التبني في الجاهلية ومداه

وكان الأزواج يعمدون إلى ذلك إذا كرهوا زوجاتهم أو كنّ ولودات بنات فقط أو أرادوا مكايدتهن أو ابتزاز أموالهن وحملهن على التنازل عن مهورهن وحقوقهن أو استبقائهن حاضنات لأولادهن، وكانوا كذلك يتفادون تطليقهن أنفة من أن يتزوجن غيرهم. وهذا التقليد يشبه من ناحية ما تقليد الإيلاء الذي ورد ذكره وحكمه في آيات سورة البقرة [225- 226] وفي هذا التقليد كما في ذلك ظلم وبغي فلذلك سفّهه القرآن هنا وقرر حكما في صدده في سورة المجادلة. تقليد التبني في الجاهلية ومداه والتبنّي هو اتخاذ رجل ما طفلا أو صبيا غريبا ابنا له. وكان هذا من تقاليد العرب في الجاهلية. وكان يجري بشيء من المراسم حيث يعلن المتبني في ملأ من الناس تبني الطفل أو الصبي فيصبح في مقام ابنه من صلبه في كل الواجبات والحقوق فيرث كل منهما الآخر ويحرم على كل منهما ما يحرم بين الأب والابن من أنكحة. فلا يصح للمتبنّى أن يتزوج إحدى بنات متبنّيه ولا أخواته ولا عماته ولا خالاته ولا يصح للمتبنّى أن يتزوج بنات متبنّيه ولا أخواته ولا عماته ولا خالاته ولا أرملته ولا مطلقته. وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم ابن على هذه الطريقة وهو زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي. وكان مملوكا لزوجته أم المؤمنين خديجة رضي الله عنهما فاستوهبه منها وأعتقه. وجاء أبوه فخيره بين البقاء عنده أو الالتحاق بأبيه فاختار البقاء فأعلن أبوه براءته منه فأعلن النبي تبنّيه له. وكان ذلك قبل نبوّته. وصار يدعى زيد بن محمد. وظل الأمر على ذلك إلى أن نزلت هذه الآيات فصار يدعى زيد بن حارثة «1» . ولقد ظلّ النبي صلى الله عليه وسلم يحبّه ويرعاه وقد عهد إليه بقيادة سرايا عديدة أكثر من أي

_ (1) انظر تفسير الآيات في الخازن والبغوي والطبرسي وأسد الغابة ج 2 ص 224- 225، وفي فصل التفسير من صحيح البخاري حديث عن ابن عمر جاء فيه: (ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ. وانظر التاج ج 4 ص 183.

صحابي آخر «1» . ولما استشهد في مؤتة كان ابنه أسامة محل رعاية النبي ومحبته وعطفه. ولقد روى ابن هشام أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عيّن أسامة قائدا لجيش أراد أن يسيره إلى مؤتة لأخذ ثأر أبيه وجيشه، قال الناس أمر غلاما حدثا على جلّة المهاجرين والأنصار وكان النبي وجعا فخرج فخطب في الناس فقال: «انفذوا بعث أسامة. فلعمري لئن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله. وإنه لخليق بالإمارة وإن كان أبوه لخليقا بها» «2» . ولقد روى البلاذري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما أنشأ ديوان العطاء جعل أسامة في جملة أصحاب الأربعة آلاف وجعل ابنه عبد الله في جملة أصحاب الثلاثة آلاف فاعترض عبد الله قائلا إني شهدت ما لم يشهد أسامة فقال له أبوه: زدته عليك لأنه كان أحبّ إلى رسول الله منك وكان أبوه أحبّ إلى رسول الله من أبيك «3» . ولقد أورد الطبري في سياق الآية حديثا لم يذكر راويه رواه البغوي بطرقه عن سعد وأبي بكرة أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من ادعى إلى غير أبيه متعمدا حرّم الله عليه الجنّة» . ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن الإنذار النبوي هو في صدد الدعوى الجدية التي تناقض ما سنّه الله وأبطله. أما أن يقول رجل لآخر أصغر منه يا بني أو يقول رجل لآخر أكبر منه يا أبي من قبيل التحبّب والتكريم فليس من هذا الباب. ولقد أورد ابن كثير في هذا المقام والمعنى حديثا رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أنس أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له يا بني. وهذا من هذا الباب. هذا، ولقد جرت عادة الناس ومن جملتهم المسلمون على تبنّي بعض الأيتام فينشئونهم في كنفهم ويعتنون بهم ويعاملونهم كأبنائهم وقد يكون هذا جائزا بل ومأجورا إذا لم يتجاوز الأمر نطاق البرّ والتربية والتنشئة والعناية. أما إذا تجاوز إلى الدعوة الجدية بالبنوّة والأبوّة وما يترتب عليهما من حقوق ومعاملات تحلّ ما حرّم الله وتحرّم ما أحلّ وتمنح وتسمح ما لم يمنحه الله ويسمح به، وتمنع ما لم يمنعه

_ (1) تصفّح الجزء الثالث من طبقات ابن سعد. (2) ابن هشام ج 4 ص 329. [.....] (3) ص 456.

تعليق على تعبير ومواليكم

الله فيكون ذلك حراما كما هو المتبادر. والله تعالى أعلم. تعليق على تعبير وَمَوالِيكُمْ هذا التعبير الوارد في الآيات يفيد على الأرجح مدلولا تقليديا خاصّا. حيث كان من الجاري عند العرب قبل الإسلام أن يطلب شخص أو عشيرة أو قبيلة من العرب أن يلتحق بشخص أو عشيرة أو عشيرة أو قبيلة أخرى بقصد الحماية والاستنصار. فإذا قبل ذلك الملحق به أعلنه على الملأ حتى يعرف الناس وحينئذ يدعى مولى الشخص الملحق به إذا كان فردا أو موالي القبيلة الملحق بها إذا كانوا جماعة ويسمى ذلك مولى ولاء أو موالي ولاء. ويصبح المولى أو الموالي من عصبية الملحق به الاجتماعية لهم ما لهم وعليهم ما عليهم حتى إنهم كانوا يتوارثون «1» . وما يصادفه قارئ الكتب العربية القديمة من تعابير فلان مولى فلان أو مولى بني فلان أو القبيلة الفلانية موالي القبيلة الفلانية هو من هذا الباب. ومن هنا جاء إطلاق تعبير (موالي) على المسلمين من غير العرب فكأنهم بدخولهم الإسلام قد التحقوا بالعرب واندمجوا في عصبياتهم. وكلمة (مولى) تطلق كذلك على المملوك، غير أن تقليد الولاء الذي نشرحه هنا ليس من ذلك. والآية [5] أرادت أن تقول إنه إذا لم يعرف آباء الأبناء بالتبنّي فهم إخوان المسلمين في الدين ومواليهم. لهم ما لهم وعليهم ما عليهم استمدادا من العرف الجاري في دلالة التعبير. [سورة الأحزاب (33) : آية 6] النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6) . في هذه الآية:

_ (1) انظر تفسير الآيات وتفسير الآية [33] من سورة النساء في تفسير الخازن. الجزء السابع من التفسير الحديث 23

تعليق على الآية النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم إلخ

1- تقرير بحقّ النبي على المؤمنين فهو أولى بهم من أنفسهم. 2- وتقرير بحقّ أزواجه على المؤمنين فهن أمهاتهم أيضا. 3- وتقرير الأولوية لذوي الأرحام من المؤمنين فيما بينهم. 4- وتنبيه على أن تقرير الأولوية بين ذوي الأرحام من المؤمنين لا يحول دون مساعدة المؤمنين لأوليائهم من غير ذوي الأرحام وإسداء المعروف إليهم. وهذا هو حكم الله الذي كتب عليهم. تعليق على الآية النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ إلخ ولقد روى المفسرون أن الفقرة الأولى نزلت في جماعة ندبهم النبي إلى الجهاد فقالوا نذهب فنستأذن آباءنا وأمهاتنا «1» . وأن الفقرة الثانية نزلت في صدد تحريم نكاح زوجات النبي على المؤمنين «2» . وأن الفقرة الثالثة في صدد نسخ ما كان يجري من التوارث بين المهاجرين والأنصار الذين آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم حين قدومه إلى المدينة أو لما كان يجري من التوارث بطريق الولاء والتبني والمؤاخاة وحصره بين ذوي الأرحام «3» . ولم يرد شيء من هذه الروايات في الصحاح ويبدو غريبا أن تشتمل آية واحدة على فقرات، كل منها في صدد موضوع لا صلة له بالآخر. والذي يتبادر لنا أن الآية متصلة بالآيات السابقة وأنها جاءت معقبة عليها من جهة ومشرعة من جهة، ومستدركة من جهة، ومقررة لموضوع التوارث في نصابه الحق من جهة.

_ (1) انظر تفسير البغوي والطبرسي. (2) انظر تفسير الخازن والبغوي والطبرسي. (3) انظر المصدر نفسه.

فقد ألغي التبني وما يترتب عليه من أحكام وكان للنبي ابن بالتبني فقررت الفقرة الأولى من الآية أن النبي هو بمثابة أب لجميع المسلمين وأنه أولى بهم من أنفسهم وأن زوجاته أمهاتهم فلا محلّ ليكون له ابن خاص بالتبني. وكان التبني يكسب حقا في الإرث فقررت الفقرة الثانية أنّ حق التوارث إنما هو بين ذوي الأرحام وأمرت الآية [5] اعتبار الأبناء بالتبني الذين أبطل تبنيهم ولم يعرف آباؤهم الحقيقيون إخوانا وموالي وأولياء لمتبنيهم بسبب اندماجهم السابق فيهم فقررت الفقرة الثالثة أن إبطال حق التوارث في التبني ليس من شأنه أن يمنع المتبنين السابقين من مساعدة متبنيهم الذين غدوا موالي أو أولياء لهم. وبهذا يستقيم السياق والمعنى والمدى كما هو المتبادر. ولقد رويت زيادة في الفقرة الأولى من الآية وهي جملة «وهو أبوهم» بعد كلمة (أنفسهم) وذكر في الرواية أن ذلك كان في مصحف أبي بن كعب أحد علماء القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» وقد تكون الجملة تفسيرية، وفيها على كل حال تدعيم لما شرحناه آنفا سواء أكانت تفسيرية أم أصلية كما جاء في الرواية. مع ترجيحنا أنها تفسيرية وليست أصلية إذا صحت الرواية. فالكلمة لم ترد في مصحف عثمان، ومصحف عثمان نقل عن مصحف أبي بكر ومصحف أبي بكر كتب بعد شهور من وفاة النبي ليكون إماما على ملأ الناس. وروجع على ما كان في أيدي المسلمين من مصاحف ومدونات. وجملة إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً تنطوي على تلقين مستمر المدى للمسلمين بوجوب البرّ وإسداء المعروف على اختلاف أنواعه لمن ينتمي إليهم من تابعين ومماليك وحاشية وحلفاء. ولقد روى الشيخان والترمذي في سياق هذه الآية حديثا عن أبي هريرة جاء فيه: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما من مؤمن إلّا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة. اقرأوا إذا شئتم النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم. فأي مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من

_ (1) انظر تفسير الطبرسي.

تعليق على مدى تعبير من المؤمنين والمهاجرين

كانوا، فإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه» «1» . وفي الحديث توضيح نبوي متصل بمدى الآية كما هو المتبادر. تعليق على مدى تعبير مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ وتعبير مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ يحتوي قيدا احترازيا على ما يتبادر لإخراج غير المؤمنين من ذوي الأرحام من الأولوية وحقوق الإرث وحصر ذلك بين المؤمنين. ولعلّ اختصاص المهاجرين بالذكر هو بسبب أن بعض ذوي أرحامهم كانوا ما يزالون كفارا. وعدم التوارث بين المسلم وغير المسلم من القواعد الشرعية الجارية النبوية. وقد تكون هذه الآية من مستندات ذلك. وقد روى البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود حديثا عن أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم» «2» . ولقد جاء في آخر سورة الأنفال آية احتوت تقرير الأولوية بين ذوي الأرحام بدون هذا القيد. فلعل الأمر ظلّ ملتبسا على المسلمين فاقتضت الحكمة توضيحه بهذه المناسبة في القرآن والحديث. أما القول بأن هذه الفقرة تحتوي نسخا لآية سورة الأنفال [72] والتي روي أنها اعتبرت مقررة للتوارث بين المتآخين من مسلمي الأنصار ومهاجريهم فإننا لم نر في تلك الآية ولا في هذه الفقرة ما يلهمه أصلا أو نسخا على ما مرّ شرحه أيضا في سياق سورة الأنفال.

_ (1) التاج ج 4 ص 183. وقد فسّر الشارح كلمة (ضياعا) بالأولاد القاصرين. وهذا صواب على ضوء مدى الحديث. (2) انظر التاج، ج 2 ص 229.

تعليق على مدى ذكر أمومة أزواج النبي للمؤمنين في الآية النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم

تعليق على مدى ذكر أمومة أزواج النبي للمؤمنين في الآية النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وننبّه على أن النصّ على أمومة أزواج النبي للمسلمين في هذه الآية لم يكن من شأنه أن يبيح لرجال المسلمين ما أبيح لأبناء زوجات النبي الحقيقيين بالنسبة لأمهاتهم على ما يستفاد من الآيات [53- 55] من هذه السورة حيث منعت هذه الآيات رجال المسلمين من الدخول على زوجات النبي وطلب ما يريدون منهن من وراء حجاب واستثنت من ذلك آباءهن وأبناءهن وإخوانهن وأبناء إخوانهن وأبناء أخواتهن. وحرّمت نصّا التزوج بهن من بعد رسول الله حيث يفيد هذا أن النصّ على أن أمومتهن للمؤمنين في الآية لم يكن بسبيل تحريم زواجهن على المؤمنين كما روى المفسرون وأشرنا إليه قبل. وإنما هو تعبير أسلوبي بسبيل تقرير المعنى الذي عنّ لنا والذي نرجو أن يكون هو الصواب وهو كون النبي وأزواجه بمثابة والد المؤمنين وأمهاتهم فلا يكون من محل ليكون للنبي ابن خاص منهم بالتبنّي. والتعبير بعد يتضمن معنى تكريميا لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم يوجب التنبّه إليه. الخلاصة وبناء على ما تقدم وتعقيبا عليه يمكن أن يقال والله أعلم إن جملة النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ قد تضمنت تقريرا أو تنويها بما في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي قلوب زوجاته رضي الله عنهن من حبّ وعطف وحرص على المؤمنين واهتمام لأمورهم أشد من اهتمامهم لأنفسهم حتى صار رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أولى بهم من أنفسهم وبمثابة أبيهم وصارت زوجات رسول الله رضي الله عنهن بمثابة أمهاتهم دون أن يتجاوز ذلك ما يكون بين ذوي الأرحام من حقوق مادية ووراثية حيث يبقى ذوو الأرحام بعضهم أولى ببعض وحديث الشيخين فيه

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 7 إلى 8]

تفسير وزيادة عظيمة الشأن وهو أن المال للورثة وأن من مات من المؤمنين وعليه دين فالنبي صلى الله عليه وسلم يسدّ دينه. وأن من مات وترك أيتاما بلا مال فالنبي صلى الله عليه وسلم يرعى أيتامه أيضا وهكذا تبدو الولاية والأبوية النبوية السامية في أروع مثاليتها وعظمتها، صلّى الله على سيدنا محمد وسلّم تسليما. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 7 الى 8] وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8) . في هاتين الآيتين: 1- تذكير على سبيل التقرير بأن الله قد أخذ من الأنبياء وبخاصة من النبي نفسه ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ميثاقا قويا مؤكدا على حمل رسالته وتبليغها للناس. 2- وتقرير بأن الله تعالى سوف يسأل الذين صدقوا في التبليغ ويستشهدهم على أممهم، وبأنه أعدّ للذين كفروا برسالات أنبيائه ولم يصدقوهم عذابا أليما. ولم نطلع على رواية في مناسبة الآيتين ولا على تعليل لوضعهما في مكانهما لأنهما يبدوان وحدة مستقلة لا علاقة لها بما سبق وبما هو آت. وقد تبادر لنا مع ذلك أن يكون فيهما معنى التعقيب على الآيات السابقة جميعها بدءا من مطلع السورة الذي احتوى تثبيتا للنبي وأمرا له بتقوى الله وعدم إطاعة الكفار والمنافقين واتباع وحيه والاعتماد عليه وحده. فالله في تحميله إياه رسالته قد أخذ عليه عهدا بالقيام بالمهمة قياما تاما لا تساهل فيه ولا هوادة ودون تأثر بأي اعتبار كما أخذ مثل ذلك من الأنبياء السابقين وعليه أن يقوم بها وأن يعرف أنه مسؤول عنها يوم القيامة. واختصاص النبي ونوحا وإبراهيم وموسى وعيسى بالذكر قد تكرر في

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 9 إلى 25]

القرآن. وقد علقنا على ذلك في سياق تفسير سورة الشورى بما يغني عن التكرار. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 9 الى 25] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) .

(1) إذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر: في الجملة وصف لشدة الخوف. فالعيون من شدة الخوف تتحرك زائغة يمينا وشمالا. والقلوب يشتد خفقانها حتى كأنها ترتفع من مكانها إلى الحناجر. (2) وتظنون بالله الظنونا: تذهبون مذاهب في إساءة ظنكم بالله. (3) هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا: حينئذ استشعر المؤمنون بالبلاء العظيم الذي ابتلوا به واضطربوا اضطرابا شديدا. (4) يثرب: اسم المدينة التي هاجر إليها رسول الله القديم وصارت تعرف باسم المدينة والمدينة المنورة. وقد أشير إليها باسم المدينة في آيات منها آية في هذه السورة. (5) بيوتنا عورة: أي مكشوفة في متناول العدو. (6) ولو دخلت عليهم من أقطارها: لو دخل العدو عليهم من أطراف المدينة. (7) ثم سئلوا الفتنة لأتوها: ثم طلب منهم الارتداد عن الإسلام لفعلوا. (8) وما تلبثوا بها إلّا يسيرا: وما كانوا يقاومون ذلك الطلب إلّا مقاومة خفيفة وظاهرة. (9) المعوّقين: المعطلين والمثبطين عن القتال. (10) ولا يأتون البأس: ولا يشهدون الحرب والقتال أو يشتركون فيهما. (11) سلقوكم بألسنة حداد: طعنوكم وهاجموكم بألسنة ماضية بالبذاءة والأذى. (12) يودوا لو أنهم بادون في الأعراب: يتمنوا لو أنهم كانوا في البادية

تعليق على الآية يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود ... إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [25] وشرح ظروف ومشاهد وقعة الأحزاب

بعيدين عن مسرح الحرب. (13) من قضى نحبه: من مات أو استشهد. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ ... إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [25] وشرح ظروف ومشاهد وقعة الأحزاب عبارة الآيات مفهومة. وقد احتوت وصف مشهد زحف من أعداء المسلمين على المدينة أجمعت روايات التفسير والسيرة على أنه الوقعة التي عرفت في تاريخ السيرة النبوية بوقعة الأحزاب أو الخندق. وقد سميت بوقعة الأحزاب لأن الآيات سمّت الزاحفين الغزاة بالأحزاب. وسمّيت بوقعة الخندق لأن النبي والمسلمين قرروا حفر خندق لمنع الأحزاب من اقتحام المدينة. ولم تقصد الآيات سرد وقائع الوقعة سردا قصصيا كما هو واضح من أسلوبها وإنما أشير فيها إلى بعض المواقف والآثار التي اقتضت حكمة التنزيل الإشارة إليها بقصد الموعظة والتنويه والتنديد كما هو شأن الأسلوب القرآني في القصص وفي الأحداث الجهادية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بصورة عامة. وملخص ما ذكرته روايات التفسير والسيرة «1» عن هذه الوقعة أن النبي لما أجلى يهود بني النضير عن المدينة ذهب زعماؤهم إلى خيبر وتزعموا يهودها ثم ذهب منهم وفد إلى مكة فحرضوا زعماءها على غزو المدينة واستئصال شأفة النبي والمسلمين قبل أن يتفاقم خطره ووعدوهم بمظاهرة من بقي في المدينة من اليهود لهم والتحالف معهم إذا زحفوا على المدينة. وكان بنو قريظة هم الكتلة الكبيرة الباقية فأجابوهم وتعاهدوا معهم بعد إلحاح وضغط شديدين. ومما يروى أن

_ (1) انظر تفسير الآية في الطبري والخازن والبغوي والطبرسي وابن كثير وانظر ابن هشام ج 3 ص 229- 250 وطبقات ابن سعد ج 3 ص 108- 116.

زعماء الطرفين ذهبوا إلى الكعبة وأقسموا على الثبات على المخالفة عند الأصنام التي كانت في فنائها وأن زعماء قريش استحلفوهم أن يقولوا إنهم هم الأهدى أم محمد فقالوا لهم هم الأهدى مما احتوته آية سورة النساء هذه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) إشارة إليه على ما رواه المفسرون «1» . ثم ذهب الوفد إلى قبائل غطفان وقيس وغيلان وحرضوهم وتحالفوا معهم. ولما أتمّت هذه الأحلاف أو الأحزاب جهازها زحفوا على المدينة ونزلوا على أطرافها وكان عددهم نحو عشرة آلاف أو أكثر وكانت قيادة قريش والأحزاب في يد أبي سفيان. وسعى زعماء بني النضير حتى جعلوا يهود بني قريظة الموجودين في المدينة ينقضون عهدهم مع المسلمين. وقد أرسل النبي زعيمي الأوس والخزرج ليستطلعا خبرهم فوجدوهم على أخبث حال حيث أنكروا ما بينهم وبين النبي والأنصار من عهود وأسفروا عن عدائهم ولؤمهم. وجرؤ المنافقون فأخذوا يثبطون همم إخوانهم ويثيرون فيهم الفزع ويسيئون أدبهم نحو الله ورسوله. وقد أدّى كل هذا إلى اضطراب المسلمين الذين وجدوا أنفسهم بين نارين من الأعداء من قدامهم وخلفهم ومخامرة من المنافقين بين صفوفهم. وجعل النبي وأصحابه يقررون حفر خندق حول المدينة من ناحية مكة ويعسكرون حوله للدفاع ويرفعون النساء والأولاد إلى الهضاب والجبال. وقد أتموا حفر الخندق برغم ما نالهم من جهد وشارك النبي في العمل وعسكروا وراءه وكان عددهم ثلاثة آلاف. وقد حال الخندق كما كان مقدرا دون اشتباك المسلمين مع الأحزاب في معركة وزحف عام ولم يقع بينهم إلّا حوادث قتال وبراز فردية وتراشق بالنبال. ولم يصب من الطرفين إلّا قليل. وظل الأحزاب يحاصرون المدينة نحو عشرين يوما. وقد جاء في هذه الأثناء شخص من غطفان اسمه نعيم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان مؤمنا يكتم إيمانه عن قومه وسأله عما يجب عليه أن يفعله لصالح المسلمين فأمره بالتخذيل والتثبيط في

_ (1) انظر كتب التفسير المذكورة آنفا وابن هشام ج 3 ص 230.

صفوف الأعداء. فسعى بين اليهود والأحزاب حتى أوجد شكا في كل من الطرفين نحو الآخر ثم ثارت زوبعة شديدة أزعجت الأحزاب إزعاجا شديدا فاشتدّ فيهم السأم والفتور وألقى الله في قلوبهم الرعب فلم يلبث أبو سفيان أن قرر الارتحال فارتحل وارتحل معه القرشيون والمكيون ثم ارتحل برحيلهم بقية الأحزاب من القبائل. وهكذا ردّهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال. وكانت الوقعة في شهر شوال للسنة الهجرية الخامسة. وظاهر أن الآيات لا تحتوي إلّا القليل مما جاء في الروايات. ومع ما تتحمله هذه الروايات من بعض الملاحظات فإن ما جاء في الآيات متسق معها إجمالا. ولقد احتوت الآيات وصفا لآثار الزحف في صفوف المسلمين وحملة تقريع شديدة على المنافقين، ولمواقف النبي صلى الله عليه وسلم والمخلصين من المؤمنين بأسلوب قوي يفوق في روعته ما جاء في الروايات. وفيه شيء من التماثل في المعالجة والتقرير والتنديد والتلقين لما في الآيات الواردة في سورة آل عمران في صدد وقعة أحد. والمستفاد منها: 1- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قطب الرحى في الموقف وعموده الراسخ الثابت الذي لم يتزلزل مما ينطوي خاصة في الآية [21] التي دعت المسلمين ليكون لهم منه الأسوة الحسنة. 2- أن اضطرابا شديدا ألمّ بالمسلمين بسبب كثرة الغزاة وقوّة جهازهم وموقف اليهود الغادر الذين كانوا من ورائهم. ثم تميزوا فالفئة المخلصة الصادقة التفّت حول النبي وأيدته وأظهرت استعدادها التام للدفاع والقتال واعتبرت الزحف اختيارا ربانيا من نوع ما أخبرهم الله به واعتزمت على الصدق والثبات وازدادت إيمانا وتسليما له فكانت موضع ثناء الله وتنويهه العظيمين في الآيات [22- 23] أما المنافقون ومرضى القلوب فلم يتورعوا من التظاهر بالكفر والجحود وإساءة الأدب مع الله ورسوله في مثل قولهم ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (12) والتثبيط

ودعوة إخوانهم إلى العودة إلى بيوتهم والفرار من الميدان بحجة كاذبة. ويظهر أنهم كانوا وعدوا النبي بأن لا يفروا من الميدان وأن لا يقعدوا عن القتال ولعل ذلك كان بعد وقعة أحد التي وقفوا فيها موقفا شديد النكاية استحقوا من أجله حملة شديدة في سورة آل عمران فذكرت الآيات [15- 18] كل ذلك وحملت عليهم حملة شديدة قارعة تدل على ما كان لموقفهم من أثر شديد في نفس النبي والمخلصين وفي الموقف كله، وقد وصفوا بالفزع الشديد حينما يرون الخطر، والبذاءة الشديدة حينما يزول، وبالشح على الخير وعلى كل نفع للمؤمنين المخلصين وبأنهم لم يكونوا يترددون طويلا لو دخل الأعداء المدينة في إعلان كفرهم وارتدادهم عن الإسلام إلى الشرك. وبأنهم لم يصدقوا حينما قيل لهم إن الأحزاب ارتدوا خائبين عن المدينة وظنوا أنهم لن يلبثوا أن يعودوا وتمنوا لو أنهم في البادية يتسمعون أخبار السوء عن المسلمين دون أن يشهدوا معهم الحرب والقتال جبنا وكيدا حيث ينطوي في هذه الأوصاف صور قوية لما كانت عليه حالة المنافقين. ومع ذلك كله فقد اقتضت حكمة التنزيل بعد أن كشف الله الغمة عن المسلمين أن يظل الباب مفتوحا أمامهم يؤملون منه توبة الله عليهم وعفوه عنهم على ما جاء في الآية [24] حيث انطوى في هذا توكيد لما نبهنا عليه أكثر من مرة لكون ما ورد عن المنافقين في هذه الآيات وغيرها وهو تسجيل لواقعهم ولكون هدف الرسالة المحمدية والدعوة القرآنية هو إصلاح الناس واستصلاحهم وهدايتهم وإبقاء الباب مفتوحا دائما للتائبين والمستغفرين منهم. ولقد تاب كثير من المنافقين وأخلصوا فكان في ذلك مصداق لذلك. هذا، ومن الواضح أن الوصف الذي احتوته الآيات للمخلصين والمنافقين ومواقفهم مما يظهر في ظروف النضال والجهاد في كل وقت ومكان. ولذلك فإن ما جاء فيها في صدد كل من الفئتين يظل مستمر المدى في تلقينه وعبرته. ولقد روى الطبري أن المعنيين في الآية [15] هم جماعة بني حارثة الذين

همّوا أن يفشلوا يوم أحد على ما ذكرته آيات سورة آل عمران. ونحن نتوقف في هذا. فهؤلاء قد ثبتوا وعفا الله عنهم كما جاء في آيات هذه السورة أيضا والسياق في صدد المنافقين، ونرجح بل نجزم أنهم هم المعنيون في الآية. ولقد كان هؤلاء تخاذلوا يوم أحد ونرجح أنهم عاهدوا رسول الله والمؤمنين على أن لا يكرروا موقفهم فكذبوا وكرروه فاستحقوا ما احتوته الآيات من حملة قارعة مع مقابلة ذلك بما فعله المخلصون من الوفاء بما عاهدوا عليه فكان منهم من استشهد في هذه المعركة وقبلها ومنهم من ينتظر حتى يكون من مصداق ما عاهدوا الله عليه دون انحراف. ومما رواه ابن هشام «1» أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى قائدي قبائل غطفان يساومهما على الرجوع عن المدينة مقابل ثلث ثمارها فقبلا فاستدعى زعيمي الأوس والخزرج واستشارهما فسألاه هل هذا من الله أم من صنعك قال بل من صنعي حيث رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم إلى أمر ما. فقال سعد بن معاذ لقد كنا وهؤلاء على الشرك ولا يطمعون أن يأكلوا ثمرة منها إلّا من قرى أو بيعا. أفحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا به وبك نعطيهم أموالنا. والله لا نعطيهم إلّا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم فرجع رسول الله حينئذ عن رأيه حيث ينطوي في الخبر صورة رائعة من قوة نفوس المؤمنين وشجاعتهم واعتزازهم بالإسلام. وتلقين مستمر المدى سواء فيما كان من تفكير رسول الله في المساومة كتدبير وقائي ودفاعي في الظرف العصيب الذي واجهه المسلمون أم في رجوعه عنه لأنه كان اجتهادا منه. ولقد روى البخاري وابن هشام خبر معجزات نبوية حدثت أثناء الخندق «2» . منها إشباع أهل الخندق بثمرات قليلة بسطها رسول الله على ثوب، وإشباعهم بطعام من صاع برّ وذبيحة صغيرة صنعته زوجة جابر بن عبد الله لما قال لها إنه رأى

_ (1) ابن هشام ج 3 229 و 230. (2) انظر التاج، ج 3 ص 250 و 251، وابن هشام ج 3 ص 233- 239 وروى الطبري وغيره هذه المعجزات أيضا في سياق تفسير الآيات.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 26 إلى 27]

في رسول الله خمصا شديدا. ومنها خبر صخرة استعصت على الحفارين من أصحاب رسول الله فضربها رسول الله فكانت تبرق تحت ضرباته حتى اقتلعها وسأله سلمان الفارسي عن البرقات فقال إن الله بشرني بالأولى بفتح اليمن وبالثانية بفتح الشام والمغرب وبالثالثة بفتح المشرق. ولقد روى الشيخان عن أنس قال: «خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم. فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال: اللهمّ إن العيش عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة فقالوا له مجيبين: نحن الذين بايعوا محمّدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا» «1» ورويا كذلك عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوم الأحزاب ينقل معهم التراب، وقد وارى التراب بياض بطنه وهو يقول: «والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدّقنا ولا صلّينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبّت الأقدام إن لاقينا إن الألى قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا ورفع بها صوته أبينا أبينا» «2» حيث ينطوي في الحديثين صورة رائعة من مواساة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وتشجيعهم ومشاركتهم فيها عظيم الأسوة والتلقين. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 26 الى 27] وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27) .

_ (1) التاج ج 4 ص 374. (2) المصدر نفسه ص 374- 375. [.....]

تعليق على الآية وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم ... إلخ والآية التالية لها وشرح وقعة بني قريظة

(1) ظاهروهم: ناصروهم. (2) صياصيهم: حصونهم. تعليق على الآية وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ ... إلخ والآية التالية لها وشرح وقعة بني قريظة عبارة الآيتين مفهومة. وقد احتوت إشارة إلى مشهد جهادي ضد فريق من أهل الكتاب. وتجمع روايات التفسير والسيرة على أنهم يهود بني قريظة في المدينة. ومما ذكرته هذه الروايات أن جبريل أتى النبي فور انصراف الأحزاب وبلّغه وجوب الزحف حالا على بني قريظة فأرسل مناديا ينادي «من كان سامعا مطيعا فلا يصلين إلّا ببني قريظة» حيث ينطوي في هذا شدة أثر ما أظهره بنو قريظة من غدر وعداء في الموقف العصيب الذي نجم من زحف أحزاب المشركين من كل صوب. وعبارة ظاهَرُوهُمْ تلهم أنه بدا منهم أثناء حصار الأحزاب للمدينة أعمال ضارة بالمسلمين مظاهرة للأحزاب مما أثار في نفوس النبي وأصحابه الغيظ والسخط فوق ما أثاره إنكارهم لعهد رسول الله وإعلانهم العداء للمسلمين أمام زعيمي الأوس والخزرج على ما ذكرناه في سياق الآيات السابقة. وملخص ما جاء في الروايات عن هذه الوقعة «1» أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصرهم مع المسلمين خمسا وعشرين ليلة ولم يقبل منهم إلّا الاستسلام بدون قيد وشرط. فلم

_ (1) انظر كتب تفسير الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير ثم ابن هشام ج 3 ص 252- 271، وابن سعد ج 3 ص 117- 121. وبعض ما جاء في هذه الخلاصة ورد في أحاديث صحيحة عديدة أيضا. انظر التاج ج 4 ص 376 و 377.

يكن لهم مناص من ذلك لما ضاق الخناق عليهم. ولقد كانوا حلفاء الأوس فقال بعضهم لرسول الله إنهم موالينا فارفق بهم كما رفقت بموالي إخواننا الخزرج- يعنون بذلك بني قينقاع وبني النضير الذين قبل شفاعة الخزرج فيهم واكتفى بإجلائهم- فقال لهم هل ترضون أن يكون الحكم فيهم واحدا منكم قالوا بلى قال فذاك إلى سعد بن معاذ. وكان زعيمهم. وكان أصابه في حصار الخندق سهم فأمر النبي بنقله إلى خيمة في مسجده ووكل به امرأة مؤمنة من قبيلة أسلم كانت خبيرة بمداواة الجرحى. فجاءه بعض قومه وأبلغوه ذلك وحملوه على حمار وساروا في ركابه وهم يقولون له أحسن يا أبا عمرو في مواليك فقد ولاك رسول الله أمرهم فلما جاء إلى النبي وأبلغه قرار تحكيمه فيهم قال: آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم وإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتسبى الذراري والنساء وتقسّم الأموال فبادره النبي قائلا: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة. (أي سموات) » ثم نفذ الحكم فيهم عدا بعض أفراد أعلنوا إسلامهم فعصموا دماءهم وأموالهم. ومما روي أن ما صادره رسول الله منهم 1500 سيف و 300 درع و 2000 رمح و 1500 ترس وحجفة وخمر عدا كثير من الجمال النواضح والماشية. وكان عدد الذين قتلوا بين 600 و 700 وفي رواية 400 واستثنى من القتل من لم ينبت شاربه وأسروا مع النساء والأطفال واعتبر الجميع رقيقا وأرسل قسم منهم على اختلاف في الروايات في عددهم إلى نجد حيث بيعوا واشتري بثمنهم خيل وسلاح «1» . ومما روي كذلك «2» أن بني قريظة طلبوا من النبي أن يرسل إليهم أبا لبابة بن عبد المنذر الأوسي ليستشيروه في أمرهم فأرسله إليهم فسألوه عما إذا كان ينصحهم أن ينزلوا على حكم النبي وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه

_ (1) انظر كتب التفسير وأجزاء وصحف ابن هشام وابن سعد السابقة الذكر. (2) المصدر نفسه.

فرقّ لهم وقال نعم، ثم أشار بيده إلى حلقه يعني أن مصيرهم في هذه الحالة هو الذبح، وأن أبا لبابة شعر أنه قد خان الله ورسوله فانطلق على وجهه إلى مسجد رسول الله فربط نفسه بعمود وقال لا أبرح من مكاني هذا حتى يتوب الله عليّ مما صنعت، فبلغ ذلك النبي فقال أما إنه لو جاءني لاستغفرت له فأما إذ قد فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه وظلّ على حاله أياما ثم هتف النبي لقد تيب على أبي لبابة فبادرت أم سلمة وكان عندها فهتفت من باب حجرتها على أبي لبابة تبشره، ولما خرج النبي إلى صلاة الصبح أطلقه بيده حيث ينطوي في هذا صورة رائعة من صور العهد النبوي. ولقد انتقد بعض المستشرقين قسوة الحكم والتنكيل. وليس في نقدهم حق وصدق فالآية صريحة بأن اليهود ظاهروا الأحزاب. وهذا يعني أنه بدا منهم موقف حربي ما في الظرف العصيب الذي واجهه المسلمون والذي تعرضوا فيه لخطر الإبادة والاستئصال والذي وصفته الآيات أشد وصف. وتعجيل النداء للمسلمين بالسير نحوهم يوم انصراف الأحزاب بدون تريث دليل على ما كان من شدّة أثر موقفهم الطارد في نفوس النبي والمسلمين. ولقد غرّهم الموقف واستبشروا بزحف الأحزاب إلى درجة أنهم لم يتورعوا عن إنكار عهدهم وردّ زعيمي الأوس والخزرج ذلك الردّ اللئيم الذي رويناه قبل والذي جرح قلب زعيم الأوس حليفهم أشد جرح، بل ولقد استمروا في موقفهم بعد انصراف الأحزاب حيث روى الطبري أنهم أخذوا يبذأون في حقّ النبي صلى الله عليه وسلم حينما دنت طلائعه لحصارهم على مسمع من حامل الراية علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فلا جرم أن يكون عقابهم مناسبا مع موقفهم اللئيم الغادر. ولا سيما إنهم لم يعتبروا بإجلاء بني قينقاع وبني النضير قبلهم. ومع ذلك كله فإن القتل اقتصر على المقاتلة بعد أن عرض عليهم الإسلام فأباه أكثرهم وآمن أفراد منهم فسلموا. واستثنى من القتل الأولاد والنساء وفي كل هذا من التسامح والحلم ما يخالف ما سجلته الأسفار من خططهم الرهيبة تجاه أعدائهم حينما ينتصرون عليهم. ولقد قال المفسرون إن الأرض التي أورثها الله المسلمين دون أن يطؤوها الجزء السابع من تفسير الحديث 24

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 إلى 34]

على ما جاء في الآية الثانية هي أرض خيبر. وإن عبارة الآية بمثابة بشرى سابقة وهناك من أغرب فقال إنها مكة أو بلاد الروم وبلاد فارس «1» . والذي يستلهم من روح الآية ومضمونها أنها أرض كان يملكها بنو قريظة بعيدة عن مساكنهم استولى عليها المسلمون في ظروف الوقعة في جملة ما استولوا عليه من أموالهم وأملاكهم. هذا، والذي نرجحه أن الآيتين نزلتا مع الآيات السابقة في سياق واحد. وأن هذه وتلك قد نزلتا بعد الوقعتين بسبيل ما احتوته من تعقيب وتذكير وتنويه وتنديد ومنّ بفضل الله ونصره. هذا، والآية [26] وإن كانت حكت ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في بني قريظة فإنها انطوت على إقرار رباني لما فعلوه جزاء الموقف الشديد الخطورة من الغدر والخيانة الذي وقفوه. ولقد كان نزولهم على حكم النبي بمثابة استسلام واستئسار. فبعدما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأقرّه الله عليه من قتل بعضهم واسترقاق بعضهم تشريعا يقاس عليه في الظروف المتأتية والله تعالى أعلم. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 الى 34] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) .

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي.

تعليق على الآية يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا (28) وما بعدها إلى آخر الآية [34]

(1) فاحشة: هنا بمعنى المعصية الكبيرة والنشوز وسوء الخلق على ما رواه المفسرون عن ابن عباس وغيره. (2) قرن: من القرار أي أسكنّ أو التزمن بيوتكن. (3) التبرّج: إظهار المرأة محاسنها للناس عن قصد. (4) الرجس: هنا بمعنى ما ليس فيه لله رضا من أعمال ومظاهر منكرة ومريبة وآثمة. تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا (28) وما بعدها إلى آخر الآية [34] عبارة الآيات مفهومة. وقد روى المفسرون «1» روايات مختلفة في مناسبة نزولها. منها أنها نزلت في حادث غيرة غارتها عائشة. ومنها أنها نزلت في مناسبة مطالبة بعض نساء النبي بزيادة النفقة وأن هذا قد أزعجه وأحزنه حتى حلف أن يهجر نساءه شهرا. ومسألة الغيرة واليمين رويا في مناسبة الآيات الخمس الأولى من سورة التحريم. وفحوى آيات سورة التحريم يتسق مع ذلك أكثر. ولقد روي أن أبا بكر استأذن على رسول الله والناس على بابه جلوس فلم يأذن. ثم جاء عمر فاستأذن فلم يأذن. ثم أذن لهما فدخلا فوجداه جالسا ساكنا واجما ونساؤه حوله فقال عمر لأقولن شيئا أضحك به رسول الله فقال يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة- يعني زوجته- سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها فضحك رسول الله

_ (1) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.

وقال هن حولي كما ترى يسألنني النفقة. فقام أبو بكر إلى عائشة فوجأ عنقها. وقام عمر إلى حفصة فوجأ عنقها وكلاهما يقول لابنته لا تسألي رسول الله شيئا «1» . وترتيب الآيات يلهم بقوة أن هذه الرواية كمناسبة لنزولها هي الأوجه. فالآيات فصل مستأنف لا صلة موضوعية لها بالآيات السابقة. غير أن مجيئها بعدها مباشرة يورد على البال أن تكون مطالبة نساء النبي كانت بعد أن فتح الله على النبي والمسلمين من أموال بني قريظة. والآيتان الأوليان تلهمان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعيش في بيته عيشة شظف وزهد وهو ما أيّدته الروايات التي تبلغ حدّ اليقين كثرة وتواترا. فلما وسّع الله بما وسّع ظنّ نساء النبي أنه آن لهن أن ينعمن بالحياة وتتسع نفقاتهن فطالبن بما طالبن. ولهذا من المحتمل كثيرا أن تكون المطالبة وقعت عقب تقسيم أموال بني قريظة وأخذ النبي خمسها المخصص لله وللرسول ولذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل على ما نصّت عليه آية سورة الأنفال [41] . وأن تكون الآيات نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت بعدها للمناسبة الظرفية. وأسلوب الآيات وبخاصة الأوليين وما ذكرته الروايات من انزعاج النبي من مطالبة نسائه بالتوسع في النفقة يلهم أن الفقر لم يكن هو الذي جعله يعيش عيشة الزهد والشظف وإنما كان ذلك بسبب استغراقه في الله ودعوته وصالح المسلمين استغراقا لم يبق معه محل للتفكير في نعيم الدنيا ومتاعها فلم يلبث الوحي أن نزل بهذا الفصل الرائع في أسلوبه وتلقينه ومداه: فواجبات النبوة أعظم من أن تتسع للحياة الدنيا وزينتها. وإيمان النبي بمهمته واستغراقه فيها يملان كل فراغ منه. وسد الخلّة بالكفاف هو كل الكفاية بالنسبة للمظهر أو الاحتياج الإنساني المادي في النبي. وما دخل في حيازته فهو لصالح المسلمين بعد التصرف بما فيه الكفاف لعيشته. ونساء النبي جزء منه ليس لهن معدى من السير بسيرته إذا كنّ يفضلن البقاء في عصمته والاحتفاظ بشرف الصلة العظيم به. ولسن هن عند الله كسائر النساء

_ (1) نقلت الرواية من البغوي وفي كتب التفسير الأخرى نصوص متفقة في الجوهر مع بعض تغاير.

وبخاصة إذا اتقين. ومن أجل هذا فعذابهن على ما يقترفن من إثم ومعصية وثوابهن على ما يفعلن من صالح ويظهرن من الطاعة لله ولرسوله مضاعفان. وليس يليق بهن كثرة الخروج والتبرّج واللين في القول وإطماع مرضى القلوب بهن. وليذكرن ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة ففي ذلك من الاختصاص الرباني والفضل ما يغنيهن عن أي شيء. وليعلمن أن الله إنما يريد أن يذهب عنهن الرجس ويطهرهن تطهيرا. أما إذا أصررن على مطلبهن فلسن منه وليس منهن. فإن له من واجباته ومهمته ولذائذه الروحية ما يشغله عن ذلك كله. ولا يكون لهن عليه والحالة هذه إلّا أن يسرحهن بعد أن يعطيهن ما يحسن من تعويض يتمتعن به. وهكذا تكون الآيات قد احتوت الإشارة إلى صفحة رائعة من حياة النبي الخصوصية فيها كل القوة وكل الصميمية. وفيها ردّ مفحم على من حاول أن يغمز النبي ويوهم أنه استغرق في ملاذ الدنيا وشهواتها ونعيمها حينما تيسرت أموره وكثرت الأموال بين يديه. أما مسألة تعدد زوجاته التي غمزوه بها أيضا فليست من هذا الباب وستكون موضوع بحث وشرح في مناسبة أخرى. وعلى ضوء هذا وعلى ضوء آيات أخرى منها آيات سورة الأعراف هذه قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ [32] وآية سورة المائدة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) . يمكن أن يقال إن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بين الله ورسوله والدار الآخرة وبين الحياة الدنيا وزينتها هو أمر من خصوصيات النبي وأزواجه وليس في ذلك ما يمنع سائر المسلمين من أن يستمتعوا بطيبات ما أحلّ الله لهم وزينة الحياة الدنيا التي أخرج الله لعباده على أن يكون بدون إسراف ولا استغراق. والروايات مجمعة على أن نساء النبي قد اخترن الله ورسوله وشرف الصلة بالنبي وانتهى الموقف بذلك راضية نفسه وراضية نفوسهن معا. ومما روي في

صدد ذلك «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حينما نزلت عليه الآيات بدأ بعائشة رضي الله عنها فقال لها إني أذكر لك أمرا ما أحبّ أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك قالت وما هو؟ فتلا عليها الآيات فقالت أفيك أستأمر أبويّ بل أختار الله ورسوله وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت فقال إن الله تعالى لم يبعثني معنتا ولكن بعثني معلما ميسرا لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلّا أخبرتها. ثم خيّر نساءه واحدة فواحدة فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة» «1» . ولقد روى الشيخان والترمذي هذا الحديث بخلاف يسير حيث رووا عن عائشة أنها قالت: «لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك قالت وقد علم أن أبويّ لم يكونا يأمراني بفراقه ثم قال إن الله جلّ ثناؤه قال يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إلى تمام الآيتين فقلت له ففي أي شيء أستأمر أبويّ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. ثم فعل أزواج النبي مثل ما فعلت» «2» . ومما ذكره المفسرون أنه كان يومئذ تحت رسول الله تسع زوجات هن عائشة وحفصة وأم سلمة وأم حبيبة وسودة وصفية وزينب بنت جحش وميمونة بنت الحارث وجويرية المصطلقية. مع أن بعض الروايات تذكر أن النبي تزوج صفية بعد وقعة خيبر التي كانت بعد صلح الحديبية أي بعد وقعة الخندق وبني قريظة بنحو سنة ونصف. وتزوج ميمونة أثناء زيارته للكعبة التي كانت بعد سنة من صلح الحديبية. وتزوج أم حبيبة بعد صلح الحديبية حيث كانت في الحبشة إلى هذا الوقت. وقد أرّخ الرواة وقعة بني قريظة بشهر ذي القعدة من السنة الهجرية الخامسة «3» . ولذلك فنحن نتوقف فيما رواه المفسرون من عدد زوجات النبي حين نزول الآيات إذا كان ما يلهمه السياق من أنها نزلت عقب وقعة بني قريظة صحيحا.

_ (1) انظر تفسير الآيات في البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي. (2) انظر التاج ج 4 ص 184. (3) انظر كتب التفسير المذكورة وابن هشام ج 3 ص 254 و 338 و 388 و 417 و 426.

ويأتي بعد في هذه السورة آيات فيها تشريع إقراري لما تزوجه النبي صلى الله عليه وسلم من زوجات وتشريع يمنع تزوجه بزوجات أخرى بعد ذلك فنرجح أن العدد المروي هو في صدد ذلك. أما زوجات النبي في وقت التخيير إذا صحّ أنه عقب وقعة بني قريظة فهن عائشة وحفصة وأم سلمة وسودة وجويرية. ولعلّ اللتين طالبتا بالنفقة هما الأوليان. وقد يستلهم هذا مما روي من شدة أبي بكر وعمر لابنتيهما هاتين حينما قال لهما النبي صلى الله عليه وسلم هن حولي كما ترى يسألنني النفقة على ما أوردناه قبل. والله تعالى أعلم. هذا، وكلمة الرِّجْسَ في القرآن جاءت بمعنى النجاسة المادية كما هو ملموح في آية الأنعام قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [145] وجاءت بمعنى النجاسة المعنوية كما هو ملموح في آيات كثيرة منها آية سورة المائدة هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ «1» [90] وقد تكون في الآية [34] من الآيات التي نحن في صددها شاملة للنوعين بحيث يكون معنى الجملة التي جاءت فيها أن الله إنما يريد بما وصّى به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ونبههم إليه هو أن يجنبهم كل ما فيه نجاسة وقذارة وإثم وانحراف ويطهرهم من ذلك تطهيرا تاما. وفي هذا ما فيه من عظم الرعاية الربانية لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم. وفي تأويل جملة مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ روى المفسرون عن ابن عباس أنها عنت النشوز والمعصية وسوء الخلق. ولا بأس في هذا التأويل. وقد يتسق مع الآية التي تلي الجملة التي تنوّه بمن تطيع الله ورسوله وتعمل صالحا. مع القول إنها تتحمل أن يكون معناها (الزنا) أيضا وقد يكون في جملة يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ قرينة على ذلك والله أعلم.

_ (1) انظر آيات التوبة [96 و 126] والحج [30] مثلا. وقد جاءت في آيات أخرى بمعنى عذاب الله وغضبه كما هو في آيات الأعراف [70] والأنعام [125] ويونس [100] .

وفي تأويل جملة فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ روى المفسرون أنها عنت عدم الليونة في الكلام وترقيقه بأسلوب يثير الشهوة في الفاسقين والمنافقين ويجعلهم يطمعن في نساء النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نستبعد ونستغرب هذا. ويتبادر لنا والله أعلم أن في العبارة تحذيرا لنساء النبي صلى الله عليه وسلم بألّا يتجاوزن في أقوالهن وأفعالهن ما رسم رسوله حتى لا يظن مرضى القلوب أن ذلك التجاوز بترخيص من النبي صلى الله عليه وسلم. وفي تأويل النهي عن التبرّج روى المفسرون أنه في صدد النهي عن إظهار الزينة وإبراز المفاتن أمام غير المحارم. وهو تأويل وجيه. وتفيد جملة وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى أن نساء العرب قبل البعثة كنّ يفعلن ذلك. ولقد نهى النساء عن إظهار مفاتنهنّ وزينتهنّ أمام غير المحارم في إحدى آيات سورة النور، وهذا مما يلهم ذاك، وبسبيل توكيد نهيه لنساء المسلمين عامة. وهناك من أوّل جملة وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ بمعنى (الزمن الوقار والسكينة في بيوتكن) . وهناك من أوّلها بمعنى (المكوث في البيوت وعدم الخروج) . وقد يكون التأويل الثاني هو الأوجه مع التنبيه على أن الأمر لم يكن يعني عدم خروجهن بالمرة، وإنما يعني عدم الإكثار من الخروج على غير ضرورة. وروح العبارة يلهم هذا فيما نعتقد. فهناك حاجات وضرورات ملزمة للخروج. والروايات متواترة على أن نساء النبي كن يخرجن في حاجاتهن وضروراتهن في حياة النبي وبعده ... ولقد روى الشيخان عن عائشة حديثا جاء فيه: «خرجت سودة لحاجتها بعد أن نزل الحجاب وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها فرآها عمر فقال يا سودة أما والله لا تخفين علينا فانظري كيف تخرجين. فانكفأت راجعة ورسول الله في بيتي يتعشّى وبيده عرق فدخلت فقالت يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمر كذا وكذا فأوحى الله إليه ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه فقال إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن» «1» . وننبه على كل حال أن الآيات صريحة بأنها

_ (1) التاج، ج 4 ص 188 و 189.

موجهة إلى نساء النبي بخاصة وقد احتوت تعليلا حكيما لما فيها من أوامر وتنبيهات. ولقد أورد ابن كثير في سياق الجملة حديثا رواه البزار عن أنس جاء فيه: «جئن النساء إلى رسول الله فقلن يا رسول الله ذهب الرجال بالفضل والجهاد في سبيل الله تعالى فما لنا عمل ندرك به عمل المجاهدين فقال من قعدت في بيتها منكن فإنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله» . وحديثا ثانيا رواه البزار أيضا جاء فيه: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم إن المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان وأقرب ما تكون بروحة ربّها وهي في قعر بيتها» . والحديثان ليسا من الصحاح. والآية [195] من آل عمران تجمع الرجال والنساء معا في الهجرة والقتال في سبيل الله على ما شرحناه في تفسيرها. وهناك آيات في سورة النور تلهم جواز خروج النساء وقضاء حاجاتهن المتنوعة في نطاق الاحتشام والبعد عن أسباب الفتنة على ما سوف يأتي شرحه في سياق تفسيرها. وهناك أحاديث عديدة صحيحة تذكر أن المؤمنات كنّ يخرجن مع رسول الله وغيره للجهاد. من ذلك حديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أنس قال: «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يغزو بأمّ سليم ونسوة من الأنصار معه فيسقين الماء ويداوين الجرحى» «1» . وحديث رواه الشيخان عن أنس قال: «لمّا كان يوم أحد انهزم الناس عن النبيّ، وقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأمّ سليم مشمّرتين أرى خدم سوقهما تنقلان القرب على متونهما ثم تفرغانها في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتفرغانها في أفواه القوم» «2» . وحديث رواه البخاري جاء فيه: «قالت الربيع بنت معوّذ كنّا نغزو مع النبيّ فنسقي القوم ونخدمهم ونردّ الجرحى والقتلى إلى المدينة» «3» . وحديث رواه مسلم جاء فيه: «قالت أمّ عطية غزوت مع النبيّ سبع غزوات أخلفهم في رحالهم فأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى وأقوم على المرضى» «4» . يضاف إلى هذا التواتر الذي لم ينقطع في تردد

_ (1) التاج، ج 4 ص 306 و 307. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه. [.....] (4) المصدر نفسه.

تعليق على تعبير الجاهلية الأولى

النساء كلما شئن على المساجد واشتراكهن بصلاة الجماعة مع الرجال. وهناك حديث رواه الشيخان وأبو داود عن ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» «1» . وليس هناك أي حديث صحيح فيما اطلعنا عليه يمنع خروج المرأة للجهاد والصلاة والحاجات الأخرى التي تقتضيها طبائع الحياة وما وهب الله المرأة من مواهب. وما أقرها القرآن والسنة لها من حقوق سياسية واجتماعية واقتصادية مما مرت منه صور وأمثلة ومؤيدات في السور التي سبق تفسيرها ومما سوف يمرّ منه من صور وأمثلة ومؤيدات في السور التي يجيء تفسيرها بعد، بحيث يسوغ التوقف إزاء الحديثين أو حملهما على محمل التحذير والتنبيه بسبيل اتقاء الفتنة ودواعيها إذا صحّا. والله تعالى أعلم. هذا، ومع أن مقام النبوة في عظمة أخلاق النبي وإيمانه وروحه واستغراقه في الله ودعوته لا يمكن أن يدانى. ومع أن الآيات متعلقة بخصوصيات النبي وزوجاته موضوعا وظرفا فإن هذا لا يمنع أن تكون منبع إلهام فياض ومدد تلقين جليل لكلّ من يتصدّر للزعامة السياسية والإصلاحية والجهادية استلهاما من الآية [21] من آيات السورة التي تحثّ المؤمنين على اتخاذ رسول الله لهم أسوة حسنة. ولقد حمّلت الآيات نساء النبي واجبات مهمة في تقدير مركزهن بالنسبة لخطورة مركز النبي. وفي هذا المعنى تلقين جليل لنساء زعماء المسلمين وقوادهم بل وعامتهم كما هو المتبادر ... تعليق على تعبير الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى كتبنا تعليقا على تعبير (الجاهلية) في تفسير سورة آل عمران. وقد رجحنا أن إطلاق هذا التعبير على دور ما قبل الإسلام هو إطلاق قرآني. ولقد أورد المفسرون في سياق تعبير الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى في الآيات التي نحن في صددها أقوالا معزوة

_ (1) التاج، ج 1 ص 211.

تعليق على ما روي من أحاديث في صدد تعبير أهل البيت

إلى ابن عباس وغيره مفادها أن دور الجاهلية الذي سبق البعثة دوران الأول هو الذي كان ما بين زمن نوح وإدريس أو قبل عيسى عليهم السلام والثاني هو ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام. ويبدو لنا أن هذا التقسيم غير مستقيم مع الواقع. من حيث إن بروز النساء العربيات وإظهار محاسنهن للرجال كان معروفا ممارسا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وقد نهى نساء النبي عن ذلك الذي وصف بتبرّج الجاهلية الأولى. وهو ما لا يدخل في نطاق الدور المسمى في التقسيم بالجاهلية الأولى. وعلى كل حال فالجملة القرآنية أسلوبية فيما يتبادر لنا هدفت إلى النهي عن التبرّج الذي كان السابقون يعرفونه ويمارسونه قبل البعثة. لأن ذلك لا ينبغي للمؤمنات وبخاصة لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم. تعليق على ما روي من أحاديث في صدد تعبير أَهْلَ الْبَيْتِ ومع أن دلالة الآيات صريحة كل الصراحة في كون تعبير أَهْلَ الْبَيْتِ في الآية [33] هو كناية عن نساء النبي صلى الله عليه وسلم اللائي هن موضوع الخطاب فيها وراجع إليهن فقد رويت بعض أحاديث تدخل في شمولها غير نساء النبي بل ويخرج بعضها نساء النبي من شمولها. منها حديث رواه مسلم والترمذي عن أم سلمة أم المؤمنين جاء فيه: «نزلت الآية إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) في بيتي فدعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة وحسنا وحسينا فجلّلهم بكساء وعليّ خلف ظهره ثم قال اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا فقلت: وأنا معهم يا رسول الله؟ قال: أنت على مكانك وأنت إلى خير» «1» . ومنها حديث عن عائشة أم المؤمنين رواه مسلم والترمذي جاء فيه: «خرج النبي غداة وعليه مرط مرحّل من شعر أسود فجاء الحسن بن عليّ فأدخله ثمّ جاء الحسين

_ (1) التاج، ج 3 ص 308- 309.

فأدخله ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها ثمّ جاء عليّ فأدخله ثمّ قال: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) » «1» . ومنها حديث رواه مسلم عن الحصين عن زيد بن أرقم جاء فيه فيما جاء: «أنّ النبيّ قال: أذكّركم في أهل بيتي أذكّركم في أهل بيتي أذكّركم في أهل بيتي. فسأل الحصين زيدا: ومن أهل بيته يا زيد أليس نساؤه؟ قال: نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم من الصدقة بعده وهم آل عليّ وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس. وفي رواية قال الحصين من أهل بيته، نساؤه؟ قال زيد: لا وأيم الله إنّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثمّ يطلّقها فترجع إلى أبيها وقومها. أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا من الصدقة بعده» «2» . وإلى هذا فهناك أحاديث أخرى عن النبي رواها المفسرون في سياق تفسير الآية لم ترد في الكتب الخمسة، منها حديث أخرجه الإمام أحمد عن أنس بن مالك جاء فيه: «أن النبيّ كان يمرّ بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول الصلاة يا أهل البيت إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا» «3» . ومنها حديث عن عائشة جوابا على سؤال سألتها أم مجمع عن أحبّ الناس إلى رسول الله فقالت: «لقد رأيت رسول الله جمع عليا وفاطمة وحسنا وحسينا بثوب ثمّ قال اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا. فقلت: يا رسول الله أنا من أهلك؟ قال: تنحي فإنك إلى خير» «4» . ومنها حديث عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نزلت هذه الآية فيّ وفي علي وحسن وحسين وفاطمة» «5» . ومنها حديث عن سعد قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزول الوحي عليه بالآية أخذ عليا وابنيه وفاطمة وأدخلهم

_ (1) التاج، ج 3 ص 308- 309. (2) المصدر نفسه. (3) انظر تفسير الطبرسي وابن كثير والطبري والبغوي. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه.

في ثوبه ثم قال: ربّ هؤلاء أهلي وأهل بيتي» «1» . ونقف أمام هذه الأحاديث- وبخاصة أمام ما يخرج نساء النبي صلى الله عليه وسلم من مدلول تعبير أهل البيت ومنها والذي يتمسك به الشيعة تمسكا شديدا- موقف الحيرة بل التحفظ والتوقف إزاء دلالة الآيات الصريحة وسياقها. ولا سيما إن الآية التي جاءت بعد الجملة هي استمرار للخطاب الموجه إلى نساء النبي بحيث لا يمكن أن يصرف التعبير في هذا المقام إلى غيرهن. هذا فضلا عن أن تعبير أهل البيت قد ورد في آيات أخرى كناية عن الزوجة. منها آيات سورة هود هذه في سياق قصة إبراهيم: وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) وآية سورة النمل هذه: إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) «2» ، بل لقد روى الشيخان والترمذي حديثا في سياق الآية [52] من هذه السورة سوف نورده بعد، جاء فيه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يمرّ على حجرات زوجاته فيقول السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله «3» . ولقد روى ابن كثير عن عكرمة أحد كبار علماء التابعين أنه كان يقول إن هذه الجملة قد نزلت في نساء النبي خاصة ومن شاء باهلته بذلك. ولقد قال ابن كثير معلقا على الجملة إنها نصّ في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت هاهنا لأنهن سبب نزولها وسبب النزول داخل فيه قولا واحدا، إما وحده على قول عكرمة أو مع غيره على الصحيح. ولقد

_ (1) انظر تفسير الطبرسي وابن كثير والطبري والبغوي. (2) ومثل هذه الآية آيتان في سورة طه وهي [10] وفي سورة القصص وهي [29] . (3) انظر التاج فصل التفسير ج 4 ص 187. وفي هذا الحديث انسجام نبوي مع الخطاب القرآني الذي يصف نساء النبيّ بأنهن أهل البيت ويمكن أن يقال والحالة هذه إذا صحت الأحاديث السابقة فيكون قصد النبي توكيد اللحمة العصبية الدنيوية بينه وبين أولاده وأحفاده ويكون في الحديث توفيق بين موقفي النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم.

[سورة الأحزاب (33) : آية 35]

روى البغوي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس بأن المراد بأهل البيت نساء النبي لأنهن في بيته وقال إن هذا قول مقاتل وعكرمة أيضا. ويلحظ أن الحديث الصحيح الذي روي عن أمّ سلمة ذكر أن آية إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) قد نزلت في بيتها مع أنها ليست آية برأسها وإنما هي تتمة لآية ثم جزء من سياق. ومثل هذه الملاحظة واردة بالنسبة للحديث الصحيح المروي عن أبي سعيد الخدري والحديث المروي عن سعد الذي أورده الطبري. ومما يتمسك به الشيعة بسبيل تدعيم تأويلهم استعمال ضمير المخاطب لجمع المذكر في الجملة مع أن الجملة التي قلبها وبعدها استعمل فيهما ضمير الجمع المخاطب المؤنث. وليس في هذا حجة ما. فضمير الجمع المخاطب المذكر استعمل أيضا في حكاية الخطاب الموجه إلى زوجة إبراهيم وزوجة موسى عليهما السلام في آيات سورتي هود والنمل التي أوردناها آنفا. ولسنا بسبيل نفي أقرب الناس إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم من معنى (أهل بيته) أو الانتقاص مما هم أهل له بسبب ذلك من التوقير والاحترام. ولكن من الحق أن يقال إن هذا الشمول أو الحصر لا يكون مستقيما إذا أريد الاستناد فيه إلى هذه الجملة القرآنية وسياقها وظروف نزولها. وكل ما يسوغ قوله إن الأحاديث المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم إذا صحت قد قصدت تعميم مدلول الجملة القرآنية لتشمل الأربعة المطهرين عليا وفاطمة والحسن والحسين بالإضافة إلى نساء النبي رضوان الله عليهم جميعا. ونصوص الأحاديث قد تفيد هذا. لأنها ليس فيها قصد الحصر بأسلوب صريح وقاطع. والله تعالى أعلم. [سورة الأحزاب (33) : آية 35] إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35) .

تعليق على الآية إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ... إلخ

(1) المسلمين والمسلمات: هنا هي بمعناها اللغوي أي المسلمين أنفسهم لله على ما هو المتبادر. تعليق على الآية إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ... إلخ عبارة الآية واضحة. وهي بسبيل التنويه بكل مسلم ومسلمة يتصفان بالصفات التي وردت فيها ويفعلان الواجبات التي نبهت عليها. وبسبيل بشرى استحقاقهما عظيم الأجر ورفيع المنزلة عند الله تعالى. ويلحظ أن الصفات والواجبات قد جمعت كل صفات الخير وعناوين البرّ وضمانات النجاح والسعادة في الدنيا والآخرة حيث ينطوي في هذا ما يتوخّاه القرآن من الارتفاع بالمسلمين والمسلمات إلى ذرى الكمال في مختلف المجالات. ومع أن أسلوب الآية مطلق ينطوي فيه حكمة ربانية لتكون مستمرة المدى لكل وقت ومكان فإنه يتبادر لنا أنها تنطوي في الوقت نفسه على الإشادة بصفات فريق من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرجال والنساء كانوا يتصفون فعلا بهذه الصفات ويفعلون تلك الواجبات. وأن فيها والحالة هذه صورة رائعة من صورهم رضوان الله عليهم. ولقد رويت بضع روايات في مناسبة نزول الآية اختلفت فيها الأسماء والكيفيات واتفقت الغاية وهي تساؤل بعض المسلمات عن سبب اختصاص القرآن الرجال بالذكر والتنويه. أو مراجعة بعضهن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وممن ذكرت الروايات أسماءهن أم سلمة أم المؤمنين وأسماء بنت عميس زوجة جعفر بن أبي

طالب وأم عمارة الأنصارية. والأخيرة ذكرت في حديث رواه الترمذي جاء فيه: «عن أم عمارة قالت يا رسول الله ما أرى كلّ شيء إلّا للرجال وما أرى النساء يذكرون بشيء فنزلت الآية» «1» . ولقد أوردنا في سياق تفسير الآية [195] من سورة آل عمران حديثا رواه الترمذي عن أم سلمة مماثلا لهذا الحديث وذكر فيه أن آية آل عمران هذه نزلت بناء على مراجعتها النبي صلى الله عليه وسلم في صدد عدم ذكر النساء مع الرجال. والآية تبدو وحدة تامة مستقلة لأول وهلة. وقد يقوي هذا صحة رواية سبب نزولها وهو مراجعة أم عمارة أو غيرها. غير أننا نلاحظ أن القرآن لم يغفل قبل نزول هذه الآية المرأة المسلمة الصالحة والتنويه بها في المكي منه والمدني «2» . وأن الآية التالية قد أشير فيها إلى واجب المؤمن والمؤمنة على السواء من أمر الله ورسوله وقضائهما. فهذا وذاك يوردان على البال أن تكون الآية متصلة بالسياق التالي لها، وبمثابة مقدمة تمهيدية. كما لا يبعد أن تكون جاءت معقبة على الآيات السابقة بعد ذكر نساء النبي وواجباتهن ولتستطرد إلى ذكر الأجر العظيم عند الله لكل مؤمن ومؤمنة يقوم بواجبه ويلتزم حدود الله. ومهما يكن من أمر فإن صيغة الآية قوية رائعة من ناحية ذكر النساء مع الرجال في ما احتوته من تنويه وأوجبته من واجبات. وهي حاسمة الصراحة في اعتبار المرأة مخاطبة في القرآن كالرجل سواء بسواء بكل التكاليف التعبدية والأخلاقية وأهلا لكل ما يترتب على ذلك كالرجل سواء بسواء. وننبه بهذه المناسبة على أن العلماء والمفسرين متفقون على أن كل خطاب قرآني موجّه للمؤمنين والمسلمين أو فيه ذكر للمؤمنين والمسلمين في أي شأن وليس فيه قرينة على اختصاص الرجال دون النساء هو شامل للمسلمات والمؤمنات.

_ (1) التاج، ج 4 ص 185. (2) من الآيات المدينة آية سورة آل عمران [195] ومن الآيات المكية آية سورة النحل [97] وآية سورة غافر [40] وآية سورة البروج [10] .

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 36 إلى 40]

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 36 الى 40] وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40) . (1) الذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه: جمهور المفسرين على أن الجملة تعني زيد بن حارثة الذي كان ابنا بالتبنّي للنبي وقد كان مملوكا فأعتقه. (2) إذا قضوا منهن وطرا: كناية عن الوطء والجماع. في هذه الآيات: 1- تنبيه في صيغة النهي المشدد على أنه لا ينبغي لمؤمن ولا مؤمنة إذا أمر الله ورسوله بشيء يتعلق بخاصة أمورهم أن يختاروا غير ما أمر الله ورسوله. فإن العاصي لله ورسوله في شيء هو عظيم الضلال والانحراف عن الحق. 2- وتذكير موجّه للنبي فيه معنى العتاب لأنه أمر الذي أنعم عليه وأنعم الله عليه بأن يمسك زوجته ولا يطلقها ويتقي الله في أمرها في حين أن هذا القول قد صدر منه خشية من كلام الناس وإخفاء لأمر يريد الله إظهاره وفعله. مع أن الله هو أحق بالخشية فلا يصح إخفاء أمره خشية من الناس. 3- وإشارة إلى هذا الأمر الذي يريد الله إظهاره وهو زواجه من زوجة زيد ابنه بالتبني المكنّى عنه بجملة الذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه بعد قضاء وطره الجزء السابع من التفسير الحديث 25

تعليق على الآية وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم وما بعدها لغاية الآية [40] وتمحيص زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها

منها ليكون قدوة للمؤمنين فلا يشعرون بحرج في التزوج بزوجات أبنائهم بالتبني إذا ما انفصلن عنهن بالطلاق أو الموت. وتقرير بأن هذا هو قضاء الله وأمره الذي يجب أن يكون النافذ الجاري. 4- وتعقيب على الحادث ينطوي على التثبيت: فليس على النبي من حرج في تنفيذ ما أمر الله وفي الاستمتاع بما فرضه الله له. فهذه سنّة الله في أنبيائه السابقين أيضا. فهو قد اختار أنبياءه لتبليغ رسالاته وتنفيذ أوامره وعدم خشية أحد غيره. وكفى به معتمدا ووكيلا. وإن أوامر الله مقدّرة بمقتضيات المصلحة وهي واجبة التنفيذ. 5- وتعقيب آخر ينطوي على التعليل والتوضيح موجه إلى المؤمنين: فمحمد ليس هو أبا زيد أو غيره منهم. وإنما هو رسول الله وخاتم النبيين. وكان الله وما يزال العليم بكل شيء. تعليق على الآية وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وما بعدها لغاية الآية [40] وتمحيص زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها لقد روى المفسرون روايات عديدة في سبب نزول الآية الأولى «1» . منها أنها نزلت حينما خطب النبي صلى الله عليه وسلم بنت عمته زينب بنت جحش لزيد بن حارثة فاعترض أهلها أو اعترضت هي وقالت أنا خير منه. ومنها أنها نزلت في أم كلثوم بنت عتبة بن أبي معيط وكانت من أول من هاجر من النساء فوهبت نفسها للنبي فزوجها زيدا فسخطت هي وأخوها وقالا إنما أردنا رسول الله. ومنها أنها نزلت بمناسبة خطبة النبي جارية من الأنصار لمسلم غريب يتعاطى الجلب فاستنكف أهلها.

_ (1) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي. [.....]

ورووا أن الآيات الأخرى نزلت في مناسبة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش بعد أن طلقها زيد بن حارثة الذي كان ابنا بالتبني لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ومما رووه في صدد ذلك أن النبي بعد أن زوج زينب بزيد رآها قائمة في درع وخمار وكانت بيضاء جميلة فوقعت في نفسه وأعجبه جمالها حتى أنه لم يتمالك أن قال سبحان مقلّب القلوب أو عبارة أخرى من بابها على اختلاف الروايات. وأن زينب شعرت بذلك فأخذت تتكبر على زيد وتزعجه فشكاها للنبي وأبدى رغبته في تطليقها. أو أن الله قد ألقى في نفس زيد كراهيتها لما علم بما وقع في نفس نبيه منها فرغب في تطليقها وأن النبي نصحه بعدم تطليقها وإمساكها مع أنه ودّ في نفسه لو يطلقها حتى يتزوجها. غير أن الأمر اشتد بينهما حتى انتهى إلى الطلاق فتزوجها النبيّ بعد انقضاء عدّتها. ومما يروى أن النبيّ أرسل زيدا إليها ليذكر لها أن النبيّ يخطبها لنفسه فلما رآها عظمت في نفسه فولّى مدبرا وهتف قائلا: أبشري يا زينب فإن رسول الله بعثني لأذكره لك. وهناك رواية تذكر أن زينب أخبرت زيدا بما شعرت به من ميل قلب النبي لها فقال لها هل لك أن أطلقك حتى يتزوجك رسول الله فقالت أخشى أن تطلقني ولا يتزوجني «1» . ويلاحظ أن الآية الأولى منسجمة مع الآيات التالية ونرجح أنها نزلت معها وفي الصدد الذي احتوته الآيات التالية لها. ومن المحتمل أن تكون الآية الأولى كانت تتلى في المناسبات التي كان بعض المسلمين يترددون فيها في تلبية اقتراحات رسول الله في صدد تزويج بناتهم لمسلمين كانوا يرونهم أقلّ مرتبة منهم، وكان النبي يريد باقتراحاته القضاء على مثل هذا الشعور الطبقي بين المسلمين فالتبس الأمر على الرواة وظنوها نزلت في هذه المناسبات. ولقد كانت قصة زواج النبي من مطلقة ابنه بالتبني موضوع تعليق ونقد وأخذ ورد قديما وحديثا. ولقد كان تساهل بعض المفسرين في إثبات الروايات البعيدة عن منطق الوقائع وروح الآيات باعثا لاستغلال الأغيار للقصة واستخراج ما يمسّ

_ (1) هذه الرواية من مرويات الطبرسي.

كرامة النبي صلى الله عليه وسلم ونزاهة أخلاقه وتصرفه منها. ولقد دافع الكتاب والمتكلمون والمفسرون قديما وحديثا وحاولوا أن يضعوا الأمر في نصابه الحق. ومنهم من رأى بين الروايات دسّا مقصودا أو خلطا وتشويشا «1» . والروايات لم ترد في كتب الصحاح. وليست موثقة. ولم ترد في كتب ابن هشام وابن سعد وهي أقدم ما وصل إلينا من كتب تؤرخ السيرة النبوية. وقد أثبت مؤلفوها ما أثبتوه فيها نقلا عن مدونات قديمة أو تسجيلا لروايات معنعنة من راو إلى راو إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا مهم في بابه. ولا نستبعد أن تكون الرواية التي تذكر إعجاب النبي بجمال زينب حينما رآها بدرع وخمار وميل قلبه إليها وما ترتب على ذلك من نتائج من مدسوسات الزنادقة والشعوبيين غير المؤمنين في القرنين الثالث والرابع الذين كانوا يحاولون هدم الإسلام وتشويهه بكثير من الدسائس والمقالات بل نحن نكاد نجزم بذلك. ومن الحق أن تكون الآيات نفسها هي السند الأوثق والمستلهم الأقوى. فإذا أمعن في نصها وروحها ظهر أن المسألة في أصلها متعلقة بتقليد التبني أصلا وفرعا. وأمكن استلهاما من نصوصها ومن بعض الروايات الواردة في صددها تسلسل صورها على النحو التالي: 1- خطب النبي صلى الله عليه وسلم زينب لزيد فاعتذرت وتمنّعت لأسباب قد يكون منها أن زيدا على كل حال ليس ابن النبي وأنها أنبل أرومة منه. ومسألة الكفاءة كانت مسألة مهمة في الاجتماع العربي. فأنزل الله الآية الأولى فلم يسعها إلّا الاستجابة لله ورسوله ولكنها ظلّت تشعر بالغضاضة وهذا ما ذكره الطبري. 2- وشعر زيد بذلك فصبر على مضض. فلما استمر صار الأمر مزعجا له وباعثا لشكواه وراجع النبي صلى الله عليه وسلم في شأن طلاقها.

_ (1) انظر كتب حياة محمد لهيكل طبعة ثانية ص 307- 310، وانظر أقوال المفسرين الطبري والبغوي والطبرسي والخازن والزمخشري والقاسمي. وقد نقل الأخير عن الإمام ابن العربي وعن الإمام محمد عبده كلاما قويا في ذلك.

3- وكان التبني يستتبع حرمة النكاح. فلما اقتضت حكمة التنزيل التنديدية في أوائل السورة تنديدا شديدا يتضمن إبطاله لأنه ليس مما يقرّه الله وبيان ما يجب عمله إزاء الأبناء بالتبني اقتضت إبطال ما يستتبعه ومن ذلك تحليل زواج المتبني من مطلقة متبناه. وكان التقليد راسخا فلم يجرؤ أحد على الإقدام على ذلك. فألهم الله النبي أن يقدم عليه بنفسه. ولكنه تردد في تنفيذ ما ألهمه الله تحسبا لانتقاد الناس فأمر زيدا بتحمل زوجته. وكان هذا سبب العتاب الموجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فرسل الله هم حملة رسالته ومبلّغوها. ولا ينبغي لهم أن يحسبوا حسابا لغيره ... ثم ثبت الله قلبه وأزال تردده وألهمه أن في العمل إتماما لتنفيذ حكم الله في إبطال التبني وتوابعه فتزوج بزينب بعد أن طلقها زيد. 4- وقد كان هذا مثيرا لما توقعه النبي من انتقاد حيث لاكت بعض الأفواه على الأرجح أفواه المنافقين ومرضى القلوب الحادث. ووجه نقد هامس أو غير هامس للنبي فكان ذلك سببا لنزول الآيات التي قررت ما اقتضت الحكمة تقريره. ومن جملة ذلك التنبيه على أن محمّدا ليس أبا حقيقيا لأي من المؤمنين وبالتالي فإنه ليس والد زيد حتى تحرّم عليه مطلقته. وهذا التسلسل يستتبع القول إن الحادثة وظروفها النفسية والتنفيذية قد جرت بإلهام ربّاني ولكن بدون وحي قرآني. إلّا ما كان من التنديد بالتبني وإعلان عدم إقرار الله له في أول السورة الذي يمكن أن يكون هو مصدر ذلك الإلهام. وإن الآيات نزلت بعد ذلك للردّ والتثبيت والتبرير والعتاب وشرح سنة الله وواجبات الأنبياء في تبليغ رسالات الله وتنفيذ أوامره دون اهتمام لنقد ذلك ومعارضته. وموضوع عتاب النبي صلى الله عليه وسلم في صيغة الآية الثانية واضح وهو التريث في ما ألهمه الله من قبول رغبة زيد في تطليقه زينب ليتزوجها. وصيغة الآيات كلّها منصبة بصراحة تامة على وجوب الرضاء بقضاء الله ورسوله وبيان حكمة الله وأمره في إزالة الحرج عن المؤمنين- وليس عن النبي فقط- في تزوج زوجات أبنائهم بالتبني

إذا طلقوهن أو ماتوا عنهن، وواجب النبي في تنفيذ أمر الله وتقرير كون ما فعله هو إرادة الله وإلهامه. وفي هذا وبخاصة في جملة لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً مفتاح الحادث وتعليله الحقّ الصادق. وهذا لا يمكن أن يسوغ استخراج ما استخرج من القصة مما يمكن أن يكون فيه مساس بالنبي وخاصة ما استغلّه الأغيار من رواية كونه أعجب بجمال زينب وعشقها وما قالوه من أن النبي دبّر تطليق زينب من زيد ليتزوجها. ولقد كان زيد وزينب رضي الله عنهما يعرفان بطبيعة الحال أن التقاليد لا تسمح بتزوّج النبي منها. بل وإن الآية الأولى لتلهم أن زينب استعظمت خطبة النبي لها تأثرا بهذه التقاليد. وقد أوردنا رواية تذكر أن زينب قالت لزيد أخشى أن تطلقني ولا يتزوجني. وهذه نقطة هامة من شأنها أن تهدم ركنا من أركان الرواية هدما تاما وأن تسوغ الجزم بأن زيدا إنما أراد أن يطلقها بسبب ما بدا منها من مواقف رأى فيها غضاضة وإزعاجا. وربما كان ذلك السبب هو إلغاء التبنّي، فصار زيد ليس ابنا للنبيّ صلى الله عليه وسلم فرأت نفسها ذات نسب لا يتناسب مع زيد بعد إلغاء التبنّي. وفي الآية الأولى منها بخاصة توطيد لأوامر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. ومقياس لإخلاص المؤمنين لهما. وكلاهما مستمر المدى. فالواجب على كل مسلم في كل وقت ومكان أن يقف عند ما قضى الله ورسوله إيجابا وسلبا. وتنفيذا وامتناعا. وسواء أتبيّن حكمته أم لم يتبينها. مع الإيمان بأنه لا بدّ من أن يكون لكل أمر وحكم وتقرير وإيذان رباني ونبوي حكمة وإن أعياه إدراكها. وقد تكرر هذا في آيات كثيرة بأساليب متنوعة ممّا مرّ منه أمثلة عديدة وممّا هو الأساس الرئيسي للشريعة الإسلامية. والقرآن يمثّل حكم الله وقضاءه والسنن القولية والفعلية الثابتة عن رسول الله تمثّل حكم رسول الله وقضاءه. ونخلص من كل ذلك بكلمة ختامية وهي أن المتبادر والمستلهم من فحوى الآيات ونصوصها وهي أن مفتاح الحادث في الآية التالية فالله سبحانه وتعالى أمر بإلغاء التبني فكان المقتضى أن تلغى أحكامه أيضا وكان فيها حرمة

تزوّج الآباء بمطلقات الأبناء بالتبني، فتحرّج المؤمنون من ذلك فأمر الله تعالى رسوله بتنفيذ ذلك بنفسه حتى يكون قدوة للمؤمنين فخشي كلام الناس وتحرّج فعوتب على ذلك وكان إلغاء التبني وغدوّ زيد (زيد بن حارثة) بعد أن كان (زيد بن محمد) مما أثار الاستعلاء في النسب في نفس زينب فأثار ذلك توترا بين الزوجين فشكا زيد للنبي وشاوره بتطليقها فنصحه بإمساكها وكان تطليقها الوسيلة المناسبة التي قدّرها الله وأمر بها فعوتب على ذلك أيضا. ويظهر أن زينب تحرّجت من التزوّج من النبي لأنها على كل حال كانت زوجة (زيد بن محمد) فنبهت إلى أنه لا خيار لها حينما يقضي الله ورسوله أمرا، فكان كل ذلك حسما للأمور وجاءت الآيات التالية بعد هذه حاسمة أيضا فليس من حرج على النبي فيما فرض الله وهذه سنّة الله في رسله الذين من واجبهم أن ينفذوا أوامر الله ولا يخشون إلّا الله وقيل ذلك وبعده (ليس محمد أبا زيد ولا غيره في الحق والحقيقة وإنما رسول الله وخاتم النبيين والله تعالى أعلم) . ولقد جاء بعد قليل من هذه الآيات هذه الآيات: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) . ثم هذه الآيات: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) . والمتبادر أن المنافقين أطالوا ألسنتهم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى زينب رغم ما في الآيات السابقة من قوة تضع الأمور في نصابها الحقّ، فأنزل الله تلك الآيات وبعد قليل من هذه الآيات جاءت هذه الآيات: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً

تعليق على مدى جملة وخاتم النبيين

عَظِيماً (71) والمتبادر أن بعض المؤمنين المخلصين أيضا اندمجوا في المقالات فنبههم الله سبحانه وتعالى إلى ما هو أولى بهم من تقوى الله والقول السديد وطاعة الله ورسوله والله أعلم. تعليق على مدى جملة وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ ولقد علّق المفسرون «1» على هذه الجملة فقالوا إنه ينطوي فيها أنه يكون خاتم الرسل أيضا لأن كل رسول نبيّ وليس كل نبي رسولا فما دام أنه خاتم النبيين فهو خاتم الرسل. ثم رووا في سياقها أحاديث نبوية عديدة منها حديث رواه الترمذي عن أبي بن كعب جاء فيه: «مثلي في النبيين كمثل رجل بنى دارا فأحسنها وأكملها وترك فيها موضع لبنة لم يضعها فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه ويقولون: لو تمّ موضع هذه اللبنة؟ فأنا في النبيين موضع هذه اللبنة» «2» . ومنها حديث أخرجه الإمام أحمد عن أنس بن مالك جاء فيه: «إنّ الرسالة والنبوّة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي بعدي» قال فشقّ ذلك على الناس فقال: «ولكن المبشرات، قالوا يا رسول الله وما المبشرات؟ قال رؤيا الرجل المسلم وهي جزء من أجزاء النبوة» «3» . ومنها حديث عن أبي هريرة رواه الترمذي جاء فيه: «فضلت على الأنبياء بستّ أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلّت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الخلق كافّة، وختم بي النبيون» . ومنها حديث عن جبير بن مطعم أخرج في الصحيحين جاء فيه: «إنّ لي أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله تعالى بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدميّ، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي» . ومنها

_ (1) انظر تفسيرها في ابن كثير والخازن. (2) روي هذان الحديثان بطرق عديدة مع خلاف يسير. (3) انظر المصدر السابق نفسه.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 إلى 48]

حديث عن عبد الله بن عمر أخرجه الإمام أحمد جاء فيه: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما كالمودع فقال: «أنا محمّد النبيّ الأميّ ثلاثا ولا نبيّ بعدي. أوتيت فواتح الكلم وجوامعه وخواتمه، وعلمت كم خزنة النار وحملة العرش وتجوز بي وعوفيت وعوفيت أمتي فاسمعوا وأطيعوا ما دمت فيكم فإذا ذهب بي فعليكم بكتاب الله أحلّوا حلاله وحرّموا حرامه» «1» . ولقد رشح القرآن الدين الإسلامي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم في آيات عديدة ليكون دين البشرية جميعا في كلّ زمن ومكان مثل آية الفتح هذه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) [28] «2» وآية سورة النور هذه: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55) . ولقد احتوى القرآن من الأسس والمبادئ والتشريعات والتلقينات والنظم والمعالجات في صدد العقائد والمعاملة والحياة الدنيوية والأخروية ما يكفل حلّ جميع الإشكالات والتمشي مع كل طور وزمن ومكان وصلاح البشرية وسعادتها على أتمّ وجه وأفضله. وجاءت السنن النبوية متممة موضّحة مفسّرة فلم يعد هناك حاجة إلى أنبياء ورسل من بعده وذلك هو مصداق قول الله وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ صلوات الله وسلامه عليه. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 الى 48] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48) .

_ (1) نقلنا نص هذا الحديث والأحاديث السابقة عن ابن كثير. (2) هذا المعنى جاء أيضا في آية سورة التوبة [33] وفي آية سورة الصف [9] .

(1) هو الذي يصلي عليكم وملائكته: الجمهور على أن معنى صلاة الله ورحمته وهدايته ومعنى صلاة الملائكة تأييدهم واستغفارهم. عبارة الآيات واضحة ولم نطلع على رواية في سبب نزولها. والذي يتبادر لنا أنها متصلة بموضوع الآيات السابقة ومعقبة عليها حيث احتوت تنبيه المؤمنين إلى ما لهم عند الله من كرامة وما أحاطهم به من عناية فأخرجهم برسالة نبيه من الظلمات إلى النور وأيّدهم بملائكته، ثم إلى ما يجب عليهم من كثرة ذكر الله وشكره ومراقبته في كل وقت وحال وحيث احتوت كذلك تثبيتا للنبي وتنويها بمهمته العظمى التي جعله الله بها شاهدا على أمته ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله وسراجا منيرا، وأمرا بعدم الأبوه بالكافرين والمنافقين وأقوالهم ومكائدهم ودسائسهم المؤذية بسبيل ما يدعو إليه ويقوم به من إصلاح وخير، وجعل اعتماده على الله وحده وله فيه نعم الكفاية والوكالة. والآية الأخيرة بخاصة مما تلهم هذا التوجيه، ومما تلهم الاتصال ومعنى التعقيب في الآيات بالنسبة للآيات السابقة. ومما تلهم كذلك أن نقد حادث زواج النبي بمطلقة زيد ولوك الألسن له وتشويش الأفكار حوله إنما كان من المنافقين والكفار. وهذه الآية وظروف ورودها تلهم تلقينا جليلا في صدد صورة اجتماعية عامة تتكرر دائما. ففي سبيل كل دعوة إلى الخير والإصلاح يقف المنافقون ومرضى القلوب والأخلاق حجر عثرة يثيرون الأفكار ويبثّون الوساوس والدسائس ويثبطون الهمم. فواجب الدعاة عدم الأبوه لهم والسير قدما في طريق الخير والإصلاح الذي اضطلعوا بالسير فيه.

وأسلوب الآيات في حدّ ذاتها قوي رائع سواء فيما أمرت به المؤمنين من الإكثار من ذكر الله وتسبيحه في كل وقت وفي بشراها بأن الله عزّ وجلّ يمنحهم دائما بركاته وهو الرحيم بهم وبأن الملائكة دائمو الدعاء لهم وبأن ذلك وسيلة وكفيل لإخراجهم من الظلمات إلى النور حيث يتضمن كل هذا تلقينا مستمر المدى لجميع المؤمنين في كل وقت. أم في ما احتوته من التنويه العظيم بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي شاءت حكمة الله أن يختاره ليكون داعيا إليه مبشرا ونذيرا وسراجا منيرا للناس في كل ظرف ومكان. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأولى أحاديث عديدة فيها تنويه بفوائد ذكر الله عزّ وجلّ منها حديث رواه الإمام أحمد عن أبي الدرداء رواه أيضا الترمذي بصيغة مقاربة قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ذكر الله تعالى» «1» . ومنها حديث رواه البخاري عن أبي العالية وأورده مؤلف التاج مرويا من الشيخين والترمذي عن أبي هريرة بهذا النصّ قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله عزّ وجلّ أنا عند ظنّ عبدي بي وأنا معه حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه. وإن اقترب إليّ شبرا اقتربت إليه ذراعا وإن اقترب إليّ ذراعا اقتربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» «2» . حيث يتساوق التلقين اللغوي مع التلقين القرآني فيما لذكر الله تعالى من فوائد يأتي في مقدمتها أن من شأن ذكر الله منع الذاكر من الارتكاس في ما نهى الله عنه وحفزه على الاندفاع في ما أمره وفي هذا وذاك جماع الخير والنجاة في الدنيا والآخرة. ومن هنا تبدو الحكمة السامية الربانية والنبوية في تكرار الأمر بالإكثار من ذكر الله عزّ وجلّ مما مرت منه أمثلة كثيرة في السور المكية والمدنية وتفسيرها. وقد علقنا

_ (1) التاج، ج 5 ص 83. (2) المصدر نفسه ص 78 و 79 وهناك أحاديث أخرى في ذكر الله في تفسير ابن كثير وفي التاج الجزء الخامس فاكتفينا بما أوردناه.

[سورة الأحزاب (33) : آية 49]

على ذلك بنوع خاص في سياق تفسير الآيات الأخيرة من سورة الأعراف. مع التنبيه على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة من أن ذكر الله يجب أن يكون صادرا عن وعي وإخلاص وليس حركة لسانية عن قلب لاه. ولقد روى ابن كثير في سياق الآيتين [45 و 46] حديثا رواه الإمام أحمد عن عطاء بن يسار قال: «لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت أخبرني عن صفة رسول الله في التوراة. قال: أجل. والله إنّه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن يا أيّها النبي إنّا أرسلناك شاهدا ومبشّرا ونذيرا وحرزا للأميين وأنت عبدي ورسولي. سميتك المتوكل ليس بفظّ ولا غليظ ولا صخّاب في الأسواق. ولا يدفع السيئة بالسيئة. ولكن يعفو ويصفح ويغفر. ولن يقبضه الله حتى يقيم الملّة العوجاء بقول لا إله إلّا الله فيفتح بها أعينا عميا وآذانا صمّا وقلوبا غلفا» وقال ابن كثير إن البخاري روى هذا في البيوع «1» . والحديث ليس صادرا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن عبد الله بن عمرو من قراء شباب أصحاب رسول الله وأتقيائهم وكان حريصا على تلقي أحاديث رسول الله وكتابتها ويروى أنه كان له كراسة يكتب فيها أحاديث رسول الله عرفت بالصادقة «2» . ومهما يكن من أمر فالآية [157] من سورة الأعراف صريحة بأن اليهود يجدون صفة النبي صلى الله عليه وسلم مكتوبة في التوراة على ما شرحناه في تعليقنا على هذه الآية. [سورة الأحزاب (33) : آية 49] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49) . (1) إذا نكحتم: هنا بمعنى إذا تزوجتم أو عقدتم نكاحكم.

_ (1) انظر كتاب السنة للسباعي ص 73. (2) لم نعثر على هذا الحديث فيما بين أيدينا من أحاديث البخاري.

تعليق على الآية يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها

في الآية خطاب للمؤمنين على سبيل التشريع والتنبيه يقرر لهم فيه بأنه ليس لهم فرض عدّة على الزوجة التي يطلقها زوجها قبل مسّها، وبأن على الزوج المطلق أن يؤدي لمطلقته حقّها من المتعة وأن يسرّحها سراحا جميلا لا أذى فيه ولا ضرر. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها لم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآية. وهي كما تبدو فصل جديد. أو بداية فصل جديد من فصول السورة. وقد جاءت موضحة أو مستدركة لآيات سورة البقرة [236- 237] التي وردت في صدد المطلقات قبل المسيس. وقد احتوت آيات البقرة هذه تشريعا في صدد متعتهن ومهورهن دون عدتهن. ولقد ذكر في آية سورة البقرة [228] أن المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء. فمن المحتمل أن يكون الأمر قد التبس على المسلمين فاستفتوا النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية بعد مدة من نزول آيات البقرة فأمر النبي بوضعها في مقامها لحكمة غابت عنّا. ولعل ذلك بسبب كون آيات البقرة كانت مرتبة فلم ير النبي ضرورة لإخلال ترتيبها والله أعلم. وقد انطوى في الآية تعليل أو حكمة تشريع. فالعدة هي لاستبراء الرحم ولإعطاء مجال للزوج المطلق لمراجعة زوجته. فإذا لم يقع مسّ فلا يبقى محل لذلك. ولقد ذهب بعض العلماء إلى أن الخلوة الصحيحة توجب العدة ولو لم يكن وطء «1» . غير أن الجمهور على أن العدّة إنما تجب بالوطء. وهذا هو المنسجم مع نصّ الآية وحكمة تشريع العدّة. وهذا غير كون الخلوة الصحيحة موجبة للمهر

_ (1) انظر تفسير البغوي وابن كثير والخازن. والحديث النبوي منقول عن البغوي الذي رواه بطرقه. وقد أورده القاسمي وقال إنه من مرويات ابن ماجه عن المسور بن محرمة.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 50 إلى 52]

الكامل ولو لم يكن وطء الذي هو أيضا محل خلاف بين الفقهاء والذي يمكن أن يكون وجيها على ما شرحناه في سياق الآيات [236- 237] من سورة البقرة. وصيغة الآية تلهم أن الحثّ على الرفق بالمرأة وأداء حقها وحسن معاملتها في حالة طلاقها هو هدف رئيسي فيها. وهذا متسق مع النصوص القرآنية العديدة التي استهدفت ذلك أيضا. ولقد استنبط بعض الأئمة مثل الإمامين الشافعي وابن حنبل من هذه الآية ومن حديث رواه جابر عن رسول الله جاء فيه «لا طلاق قبل النكاح» أنه لا يقع طلاق قبل عقد نكاح بحيث لو قال رجل إن تزوجت فلانة فهي طالقة وتزوجها فلا يقع عليه طلاق. وذكر ابن كثير أن هذا مذهب طائفة كبيرة من السلف «1» . ويظهر من هذا أن هناك رأيا فقهيا يخالف هذا. ونحن نرى القول وجيها أكثر من نقيضه. وهناك قضية أخرى من هذا الباب وهي حالة رجل يقول: «أيما امرأة تزوجتها فهي طالق» حيث ذكر ابن كثير أن الإمامين أبا حنيفة ومالك يقولان بوقوع الطلاق في حين أن الإمامين الحنبلي والشافعي يقولان بعدم وقوعه «2» . ونحن نرى هذا أوجه من القول الأول أيضا فالطلاق قد شرّع للفراق بعد الزواج في حالة تعذر الوفاق على ما شرحناه في سياق آيات الطلاق في سورة البقرة. وهذا إنما يتحقق بعد الزواج والله تعالى أعلم. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 50 الى 52] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52) .

_ (1) انظر تفسير الآية في الخازن. (2) المصدر نفسه. [.....]

(1) آتيت أجورهن: دفعت مهورهن. وقد سمّي المهر أجرا في آية سورة النساء [23] . مع كلمة فريضة كما جاء في الآية: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً. (2) وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك: وما أصبح ملك يمينك من السبي الذي يسّره الله لك. (3) ترجى: بمعنى تترك وتهمل أو تؤجل. (4) وتؤوي إليك: وتدخل إليك. (5) ومعنى جملة وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ: أي تؤوي إليك من ابتغيت ممن أرجأتهنّ سابقا. في الآيات: خطاب للنبي بشأن أنكحته على سبيل التشريع يؤذن فيه: 1- أن الله قد أحلّ له زوجاته اللائي تزوج بهن سواء أكن اللائي أدى مهورهن من بنات أعمامه وعماته وأخواله وخالاته المهاجرات معه أم اللائي وهبن أنفسهن له، أم اللائي هن ملك يمينه مما أفاءه الله عليه من سبي الأعداء. 2- وأن هذا مباح له على وجه التخصيص دون سائر المؤمنين الذين شرع لهم ما شرع في آيات أنزلها قبل هذه الآيات حتى لا يكون في حرج وإشكال من أمر زوجاته وحياته الزوجية والله غفور رحيم. 3- أن الله قد أحلّ له كذلك أن يتصرف بما يتراءى له معهن في المعاشرة الجنسية فيترك أو يهمل أو يؤجّل من يشاء منهن ويؤوي إليه للنكاح من يشاء منهن ويعود إلى من ترك وأجّل منهن.

تعليق على الآية يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن إلخ والآيتين التاليتين لها

4- وأن هذا أدعى إلى إدخال السرور على أنفسهن وعدم حزنهن ورضائهن بما يفعله معهن جميعهن. والله يعلم ما في قلوب الناس وميولهم ويأمر بما فيه المصلحة ويوسع لهم من حلمه. 5- وأنه ليس له بعد الآن أن يتزوج بامرأة زواجا بعقد ولا يترك إحدى زوجاته ليأخذ مكانها غيرها ولو أعجبه حسنها باستثناء ملك اليمين الذي يظل مباحا له، والله رقيب على كل شيء. تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ إلخ والآيتين التاليتين لها والذي يتبادر لنا استلهاما من فقرة قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ أن هذه الآيات نزلت بعد آيات سورة النساء [3 و 18- 28] التي احتوت تشريعات في صدد الأنكحة وعدد الزوجات التي يستطيع الرجل جمعهن في عصمته وما يحلّ له وما لا يحلّ إلخ وبمناسبتها. فقد كان تعدد الزوجات جاريا من دون تحديد فتعددت زوجات النبي صلى الله عليه وسلم كما تعددت زوجات غيره. فلما نزلت آيات النساء المذكورة وبخاصة الآية الثالثة التي اعتبر نصّها تحديدا تشريعيا للتعدد وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا (3) بحيث لا يزيد عدد الزوجات التي يستطيع المسلم أن يجمعهن في عصمته معا عن أربع باستثناء ملك اليمين احتفظ الذين كان عندهم أكثر من أربع زوجات بأربع منهن وسرّحوا العدد الزائد. وبرزت مشكلة زوجات النبي اللائي كن أكثر من العدد المحدد محرجة له ولهن، ونعتقد أن هذا مفتاح القضية في هذا المقام. فقد كان في إمكان زوجات المسلمين الزائدات عن العدد اللائي سرّحهن أزواجهن بعد نزول الآية أن يتزوجن فلم يكن هناك ضرر عظيم من تسريحهن، فاقتضت حكمة

التنزيل أن لا يكون هذا سائغا لنساء النبيّ بسبب ما صار لهن من شرف وكرامة فأوحى الله بهذه الآيات لحلّ المشكلة على النحو الذي شرحناه. ولعل النبي أراد أن يطلق الزائدات منهن تقيدا بالتحديد القرآني كما فعل المسلمون فكان هذا مما أزعج أمهات المؤمنين وأحزنهن لما سوف يكون من أمر المطلقات منهن وقد حرموا من استمرار شرف النسبة إلى النبي وانسدّ عليهم باب الحياة الزوجية وفقدوا السند والكفيل فاحتوت الآية الأولى ما احتوته من إباحة احتفاظ النبي صلى الله عليه وسلم بهن جميعا. كذلك يتبادر لنا من روح الآية الثانية وصلتها بالأولى حتى كأنما هي استمرار لها أنها في صدد التحديد بأسلوب خاص وأنها احتوت شبه إيعاز للنبيّ بالاكتفاء بمعاشرة أربع من نسائه معاشرة جنسية في وقت واحد وإرجاء الأخريات بدون تعيين مع إعطائه حقّ معاشرة إحدى المرجئات تطييبا لنفسها وإزالة لحزنها من الهجر على أن يرجىء واحدة من اللائي كان يعاشرهن وهكذا دواليك. والفقرة الأخيرة من هذه الآية مما يصحّ أن يكون قرينة على ذلك. ولقد روى الزمخشري في كشّافه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد عاشر بعد هذه الآيات أربعا فقط من نسائه وهن: عائشة وحفصة وزينب وأم سلمة رضي الله عنهن. وروى الطبري أن النبي آوى أربعا وأرجأ خمسا بدون أسماء. والروايات لم ترد في الصحاح. ونصّ الآية يجعل النبي في الخيار في الإرجاء والإيواء ومعاودة الإيواء لمن أرجأ. بحيث يسوغ التوقف في هذه الروايات والقول إن النبيّ صلى الله عليه وسلم لا بدّ من أنه طبق الآية نصا وروحا والله أعلم. ولقد روى الطبري والبغوي عن ابن رزين أنه لما نزلت آية التخيير أشفقت زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلقهن فقلن يا نبي الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت ودعنا على حالنا. والذي نرجحه أن هذا كان منهن كما خمّنا حين نزلت آية تحديد العدد وفكر النبيّ في تطليق الزائد عن العدد وأن في الرواية لبسا، لأن ظرف التخيير انقضى في موقف آخر باختيار نساء النبي البقاء في عصمته كما شرحناه في الجزء السابع من التفسير الحديث 26

سياق آية التخيير ولم يكن هناك محل خوف من طلاق بعد نزول التخيير إذا ما اختار نساء النبي الله ورسوله والبقاء عنده وهو ما وقع. ولقد روى المفسرون أن إحداهن سودة أعلنت تنازلها عن يومها لعائشة ليبقيها في عصمته. والراجح أن ذلك كان بعد نزول التحديد وقبل نزول الآية الإذن للنبي باستبقاء جميع نسائه حيث نزلت لتهدئة اضطرابهن وتسكين حزنهن وتطمين قلوبهن. ولقد رأينا المفسرين يديرون الكلام في سياق الآية [50] على مفهوم كونها مطلقة وبسبيل إعلان كون الله تعالى قد أحلّ له فيها نوع النساء الموصوفات فيها دون غيرهن اللائي لا يتصفن بهذه الصفات «1» . وقد أوردوا حديثا عن بنت عمّه أبي طالب جاء فيه: «خطبني رسول الله فاعتذرت له فعذرني. ثم أنزل الله الآية فلم أعد أحلّ له لأني لم أهاجر معه وكنت من الطلقاء» . وقد روى هذا الحديث الترمذي أيضا عن أم هانىء بنت أبي طالب «2» ونحن نتوقف في هذا ونرجح استئناسا بفحوى الآية وروحها أنها بسبيل إقرار ما كان قد تمّ من زيجات النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول الآية استدراك أمر التحديد بالنسبة إليه. ولعلّ في نص الآية إما قرينة بل دليلا على ما نقول. ولقد روى الطبري مع اشتراكه في القول المذكور آنفا عن أبيّ بن كعب كلاما قد يكون فيه تأييد حيث قال ما مفاده أن الله قد أحلّ في الآية للنبي النساء اللاتي كان تزوجهن مما ذكرت الآية أوصافهن في حين أحلّ للمؤمنين مثنى وثلاث ورباع بدون تحديد أوصاف والله تعالى أعلم. ولقد كان في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم على ما تكاد تتفق عليه الروايات حين نزول الآيات عشر زوجات هنّ عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر وسودة بنت زمعة وأم سلمة بنت أبي أمية وأم حبيبة بنت أبي سفيان وجويرية بنت الحارث وزينب

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير. (2) انظر التاج، ج 4 ص 186 و 187 وكلمة الطلقاء أطلقها النبي على أهل مكة الذين استسلموا يوم الفتح وأسلموا ومنّ عليهم. ولم يعد من هاجر منهم إلى المدينة يعدّ مهاجرا لأن النبي قال: (لا هجرة بعد الفتح) . على ما أوردناه في سياق الآية [77] من سورة الأنفال.

بنت خزيمة وزينب بنت جحش وسنية النضيرية وميمونة بنت الحارث رضي الله عنهن. وماتت زينب بنت خزيمة في حياته وبقيت التسع الأخرى إلى أن توفاه الله تعالى. ولم يتزوج أحدا بعد هذه الآيات «1» . وقد يكون في هذا دليلا آخر مؤيدا. ولقد احتوت الآية [52] تشريعا استثنائيا سلبيا بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم مقابل التشريع الاستثنائي الإيجابي الذي احتوته الآية [51] على ما يتبادر لنا. فبعد أن أبيح له في الآية [51] الاحتفاظ بزوجاته جميعهن حرّم عليه في الآية [52] التزوج بالمرة باستثناء ملك اليمين. ونصّ الآية صريح بأن الحظر مؤبد أي أنه يظل قائما لو ماتت بعض نسائه أو جميعهن أو طلقهن. هذا في حين أن المسلمين يستطيعون أن يغيروا مع الاحتفاظ بالعدد المحدد ويتزوجوا تمام العدد المحدد. ولقد أورد الطبري والبغوي وابن كثير بعض أحاديث في صدد هذه الآية. منها حديث عن عائشة وآخر عن أم سلمة قالتا فيهما: «ما مات النبيّ حتى أحلّ الله النساء» . ومنها حديث عن أبيّ بن كعب يفيد أن الآية لم تحرّم الزواج على النبي بالمرة وإنما حرمت عليه ضربا من النساء من غير النوع الذي أحلّه الله له في الآية [50] والأحاديث ليست من الصحاح. ونصّ الآية فيما نرى، وبخاصة جملة مِنْ بَعْدِهِ صريح بالنهي إطلاقا. ولذلك فنحن نتوقف فيها. ولقد قال ابن كثير فيما قال أيضا: إن غير واحد من العلماء كابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جرير وغيرهم قالوا إن هذه الآية نزلت مجازاة لأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم ورضا عنهن على حسن صنيعهن في اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة لما خيرهن رسول الله حينما نزلت آية التخيير [28] فقصره عليهن وحرّم عليه أن يتزوج بغيرهن أو يستبدل بهن أزواجا غيرهن مما فيه توثيق لما قلناه. هذا مع التنبيه على أن هذه الأقوال إنما يحتمل صدورها

_ (1) كان تحته بالإضافة إلى زوجاته المذكورة أمتان ملك يمينه هما ريحانة القرظية ومارية القبطية. وقد تسرى بالثانية بعد نزول الآيات. انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي والخازن وانظر ابن هشام ج 4 ص 321- 326.

من هؤلاء العلماء تعليقا على مدى الآية دون كونها سببا لنزولها. فإننا ما نزال نرى أن هذه الآية والآيتين السابقتين لها قد نزلت بعد آيات سورة النساء وبخاصة التي يحدد فيها عدد الزوجات اللائي يجوز جمعهن في عصمة الرجل وبمناسبتها. لأن هذا هو المتسق مع نصوصها وبخاصة مع جملة خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ. ولقد قال بعض المفسرين «1» في مدى تعبير وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ أن فيه إشارة إلى عادة عربية قبل الإسلام حيث كان العرب يتبادلون الزوجات فيتنازل واحد عن زوجته لآخر مقابل تنازل هذا عن زوجته له. والذي يتبادر لنا أن القصد منه هو نهي النبيّ عن تطليق إحدى نسائه لأجل أخذ غيرها مكانها تقيدا بالعدد الذي أباحه الله له. أو بعبارة ثانية عدم التزوج بعد الآية باستثناء ملك اليمين كما قلنا قبل قليل. وصيغة الجملة وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها صيغة أسلوبية ولا تعني في مقامها على ما يتبادر لنا أن ذلك بالنسبة للمستقبل. ونصّ الآية [50] التي وردت فيها هذه الجملة يفيد بقوة أن المرأة التي وهبت نفسها هي من جملة ما شملته جملة إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ إلخ. ولقد تعددت الروايات في شخصية هذه المرأة منها أنها ميمونة بنت الحارث التي تزوجها النبي في ظرف زيارته الكعبة في السنة السابعة من الهجرة بناء على الاتفاق الذي تمّ بينه وبين قريش في الحديبية ومنها أنها زينب بنت خزيمة المعروفة بأم المساكين ومنها أنها خولة بنت حكيم أو أم شريك بن جابر. والاثنتان الأوليان هما من زوجات النبي فعلا دون الأخريين على ما يستفاد من الأسماء المروية التي أوردناها آنفا. ويبدو أن رواية كونها ميمونة هي الأقدم والأوثق. وقد نبّه المفسرون

_ (1) انظر الخازن والبغوي.

على أن هبة التي وهبت نفسها للنبي ليست بمعنى التملك أو الزواج بدون عقد ومهر. وهو في محله. وقد روى ابن هشام أن العباس عمّ النبي هو الذي زوجها للنبي وأصدقها عنه أربعمائة درهم «1» . ولقد كان استثناء القرآن النبيّ صلى الله عليه وسلم من تحديد الزوجات الوارد في حق سائر المؤمنين موضع انتقاد وغمز من قبل الأغيار بزعم أنه يضع لنفسه قوانين خاصة كما كانت كثرة زوجاته موضع غمز ونقد أيضا بزعم أن ذلك يدلّ على شدة شهوانيته. ولقد ردّ كتّاب المسلمين على هذا وذاك ردودا متنوعة وجيهة. منها أن النبي صلى الله عليه وسلم في تعدد زوجاته لم يكن شاذّا عن بيئته وعن الطبيعة البشرية. ومنها أن لأكثر زوجاته ظروفا غير دواعي الرغبة الجنسية إذ توخّى في بعضها تكريم صاحبيه أبي بكر وعمر وفي بعضها توثيق الرابطة بين الإسلام وبعض القبائل كزيجته بجويرية المصطلقية التي كان من نتائجها إسلام جميع قبيلتها وفي بعضها تكريم الزوجات التي مات أزواجهن في الحبشة أو استشهدوا في الجهاد مثل أم حبيبة وأم سلمة «2» وسودة. ومنها أن نصف زوجاته كنّ من المتقدمات في السنّ وأمهات أولاد كبار ممن تقلّ الرغبة الجنسية فيهن عادة. وجوهر ومدى الردود صحيحان كلّ الصحة «3» .

_ (1) انظر تفسير الآيات في البغوي والخازن وابن كثير والطبري والطبرسي ثم ابن هشام ج 4 ص 324 وابن سعد ج 3 ص 169. (2) أورد ابن كثير في سياق الآية [155] من سورة البقرة حديثا رواه الإمام أحمد عن أم سلمة جاء فيه: «إن النبي صلى الله عليه وسلم خطبها بعد انتهاء عدّة حدادها على زوجها أبي سلمة الذي مات شهيدا في حرب، فقالت له: أنا امرأة قد دخلت السن وأنا ذات عيال وأنا امرأة شديدة الغيرة فأخاف أن ترى مني شيئا يعذبني الله به، فقال: أما ما ذكرت من الغيرة فسوف يذهبا الله عنك، وأما ما ذكرت من السن فقد أصابني مثل الذي أصابك وأما ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي» . (3) انظر كتاب حياة محمد لهيكل طبعة ثانية ص 303- 317 وتاريخ الإسلام السياسي لحسن إبراهيم ج 1 ص 130- 136، وحقائق الإسلام وأباطيل خصومه لعباس محمود العقاد ص 196- 199.

ومما يصح أن يضاف إلى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما تزوج لأول مرة في شبابه تزوج بمن تزيد عنه في السن سنين كثيرة. وظلّ مقتصرا عليها طيلة حياتها التي بلغت فيها سنّ الشيخوخة أو كادت. وكان من أسرة رفيعة ويستطيع أن يخطب ويتزوج بالأجمل والأفتى قبل زوجته وبعدها لو كان دافعه شهوانيا وحسب، رغم أن هذا ما تبرره البيئة والتقاليد والطبيعة كما قلنا. وكان ينبغي على الغامزين لو يشعرون بشيء من الإنصاف والحياء أن يتبينوا كل ذلك في ظرف التخيير الذي شرحناه في سياق الآية [28] والذي بدا فيه رسول الله في أروع صورة من التسامي ونبذ لذائذ الحياة وأن يتذكروا أنه كان في قدرته بعد نبوته ثم بعد هجرته بخاصة أن يتزوج بالأفتى والأجمل والأغنى وليس بالمطلقات والأرامل وأمهات الأولاد والمتقدمات في السن. ونقول على سبيل المساجلة إن النبي لم يكن في حاجة إلى تشريع خاصّ لو لم يكن هناك ظروف قاهرة. وكان بإمكانه أن يستغني عن المتقدمات في السنّ وذوات الأولاد وغير الجميلات لو كانت دواعيه هي الرغبة الجنسية وحسب. وقد شرحنا هذه الظروف في سياق تفسير الآية [51] التي تضمنت إشارة إليها. وهي ظاهرة الصواب والحكمة والسموّ لا يكابر فيها منصف. ولقد تضمنت هذه الآية بالإضافة إلى ذلك إيعازا بعدم مباشرة أكثر من العدد المحدد على ما شرحناه كذلك فكان فيه توفيق بين هذه الظروف والتحديد القرآني. يضاف إلى هذا أن الآية [52] قد حرّمت التزوج على النبي بالمرة بعدها حتى ولو لم يبق في عصمته زوجة من زوجاته بالطلاق أو الموت على ما رجّحنا أنه المتبادر منها. وفي هذا ردّ مفحم آخر على الغامزين. هذا، والآيات كما رجحنا قد تضمّنت استدراكا لآية سورة النساء [3] التي اعتبرت تشريعية في تحديد عدد الزوجات الذي يصحّ للمسلم جمعه في عصمته في

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 53 إلى 54]

وقت واحد. فممّا يرد بالبال أنها نزلت بعد أن تمّ ترتيب آيات سورة النساء وعقب الآية السابقة لها فرأى النبي أن توضع في سياقها الذي وردت فيه في هذه السورة بإلهام من الله. وفي هذا صورة من صور تأليف آيات وسور القرآن. والله تعالى أعلم. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 53 الى 54] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) . (1) إلّا أن يؤذن لكم: إلّا أن تدعوا ويؤذن لكم بالدخول. (2) غير ناظرين: غير منتظرين. (3) إناه: نضجه. (4) فانتشروا: انصرفوا وتفرقوا. (5) ولا مستأنسين لحديث: ولا تبقوا بقصد الائتناس والتسلّي بالكلام. (6) متاعا: شيئا ما. (7) حجاب: ستر. (8) تنكحوا أزواجه: بمعنى تتزوجوهن. الخطاب في الآيات موجه إلى المؤمنين: 1- تنهاهم فيه عن عدم دخول بيوت النبي إلّا بدعوة إلى طعام على أن لا يأتوا قبل إيذانهم بنضجه بقصد انتظار ذلك في هذه البيوت. فإذا نضج الطعام

تعليق على الآية يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم ... إلخ والآية التالية لها

ودعوا فليدخلوا وإذا أكلوا فليتبادروا إلى الخروج دون إطالة مكث بقصد السمر والحديث. 2- وتنبههم فيه إلى أن ما كان من تصرف مخالف منهم لهذا كان مما يثقل على النبي ويؤذيه ولكنه كان يستحيي منهم فلا يصارحهم. والله لا يستحيي من الحقّ. ولذلك فهو ينهاهم وينبههم إلى ما يقتضي من الأدب في هذا الباب. وإذا ما كان لهم حاجة ما عند نساء النبي فعليهم أن يسألوهن عنها من وراء ستار. فهذا هو أطهر لقلوبهم وقلوبهن. وعليهم أن يلتزموا هذه الآداب ولا يؤذوا رسول الله بمخالفتها. وليس لهم كذلك أن يتزوجوا بزوجاته من بعده أبدا فإن إثم ذلك عند الله عظيم. وعليهم أن يذكروا دائما أن الله عليم بكل شيء سواء أأظهروه أم أخفوه في صدورهم. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ ... إلخ والآية التالية لها وقد روى المفسرون ورواة الحديث في صدد القسم الأول من الآية الأولى بعض أحاديث وروايات. ومما رواه الشيخان والترمذي من ذلك «أن النبي صنع طعاما في مناسبة بنائه على زينب وأمر أنسا أن يدعو الناس فصار يدعوهم فيأتون فيأكلون ويخرجون ثم يجيء غيرهم فيأكلون فيخرجون حتى لم يجد أحدا يدعوه، فقال: يا نبي الله ما أجد أحدا أدعوه، فقال: ارفعوا طعامكم. وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت فخرج رسول الله فانطلق إلى حجرة عائشة فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله، فقالت: وعليك السلام ورحمة الله، كيف وجدت أهلك بارك الله لك، فتقرى حجر نسائه كلهن يقول لهن كما يقول لعائشة ويقلن له كما قالت عائشة ثم رجع النبي فإذا ثلاثة رهط يتحدثون وكان النبي شديد الحياء فخرج منطلقا نحو حجرة عائشة فأخبر أن القوم خرجوا فرجع حتى إذا وضع رجله في

أسكفة الباب داخلة والأخرى خارجة أرخى الستر بينه وبين أنس ونزلت الآية إلى جملة ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ» «1» . وقد روى الشيخان في صدد القسم الثاني من الآية: «أن عمر قال: قلت يا رسول الله يدخل عليك البرّ والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آيات الحجاب وهي: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ» «2» . والحديث الأول أكثر اتساقا مع مضمون الآية. ويفيد الحديث الثاني أن عمر كان يتمنى حجبهن شخصيا بحيث لا يراهن أو يجلس إليهن الناس وفيهم البرّ والفاجر في حين أن مضمون الآية لا ينطوي على هذا القصد تماما. ولقد روى الطبري حديث عمر ثم روى أن أنس بن مالك قال: أنا أعلم الناس بهذه الآية ثم ساق حديث وليمة النبي صلى الله عليه وسلم في مناسبة زواجه بزينب على النحو الذي جاء في الحديث الأول كأنما يصحح المناسبة. وهذا لا ينفي أن يكون عمر اقترح على النبي قبل نزول الآية حجب نسائه وأن يكون اعتبر الآية حين نزلت استجابة لاقتراحه. وقد روى البخاري عن ابن عمر حديثا عن عمر قال: «وافقت أبي في ثلاث. قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلّى فنزلت وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى البقرة [125] وقلت يا رسول الله لو أمرت نساءك أن يحتجبن فإنه يكلّمهن البرّ والفاجر فنزلت آية الحجاب. واجتمع نساء النبي في الغيرة عليه فقلت لهن عسى ربي إن طلّقكن أن يبدله خيرا منكن فنزلت آية التحريم عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ ... إلخ الآية» . حيث ينطوي في الحديث دليل آخر على هذا الاعتبار.

_ (1) انظر التاج فصل التفسير ج 4 ص 187- 188، وانظر أيضا تفسير الآيات في الطبري والطبرسي والخازن والبغوي وابن كثير. ففي كتبهم أحاديث وروايات أخرى بينها بعض التغاير في الصيغ مع الاتفاق في الجوهر فاكتفينا بنقل ما رواه الشيخان والترمذي. (2) المصدر نفسه.

وقد روى المفسرون في صدد القسم الأخير من الآية الأولى أن بعض المسلمين قال إنه إن عاش بعد النبي ليتزوجن بعائشة. والرواية ليست بعيدة الاحتمال والأرجح إن صحت أن يكون القائل من الذين لم يرسخ الإيمان في قلوبهم بعد، لأن في قوله شيئا من التحدي لا يمكن أن يصدر من مخلص صادق الإيمان. وعلى كل حال فالذي نرجحه أن الفقرة الأخيرة لم تنزل لحدتها وأن الآيتين نزلتا معا. ومن المحتمل أن يكون هذا القول المروي قد صدر قبل نزولهما فاقتضت الحكمة التنبيه على ما فيه من إثم عظيم للمناسبة الموضوعية. وواضح من نصّ الآية الأولى أنها في صدد بيوت النبي صلى الله عليه وسلم وزوجاته بخاصة. كما أن من الواضح منها أن الحجاب المذكور فيها لا يعني نقاب الوجه وإنما يعني ستار الباب أو حجابه وأن الأمر بسؤالهن من وراء حجاب إذا أريد سؤالهن متاعا مستتبع للأدب الذي تعلمه الآية بعدم الدخول لبيوت النبي إلّا بإذن ودعوة إلى طعام وعدم إطالة المكث للسمر والحديث، حتى إن حديث عمر لا يفيد ذلك قط. ووجه المرأة ويداها ليسا عورة فهي تصلي وهما مكشوفان. وتؤدي مناسك الحج وهما مكشوفان. بل هناك حديث نهى النبي فيه عن النقاب والقفازين في إحرام المرأة على ما أوردناه في تفسير آيات الحج في سورة البقرة. وفي سورة النور آيات فيها تعليم عام بالنسبة للمؤمنين والمؤمنات عامة في صدد دخول بعضهم على بعض وتناول الطعام والدخول على المخادع وما يجوز للمرأة إظهاره من زينتها لمحارمها إلخ مما يقوي الدليل على خصوصية حكم الآية الأولى ببيوت النبي. والمتبادر أن حالة بيوت النبيّ التي لم تكن إلّا حجرات في طرف الساحة المسورة التي اتخذ النبيّ قسما منها للصلاة والاجتماع بالناس هي التي اقتضت هذا النهي. وقد ذكر الطبري في سياق الآيات وسبب نزولها أن زينب كانت موجودة في البيت الذي ظلّ بعض المدعوين سامرين فيه. وتحريم التزوج بنساء النبي بعده في الآية الأولى دليل قطعي على أن حكمها ومداها محصوران

[سورة الأحزاب (33) : آية 55]

ببيوت النبي ونسائه. وقد يكون فيها دليل على أن ممّا كان جاريا دخول المسلمين لبيوت بعضهم وتناولهم الطعام والسمر فيها ونساؤهم فيها مع رجالهم وذوي محارمهم. وقد ظلّ هذا سائغا بعد قيده بالاستئذان والإذن والاحتشام ووجود ذوي المحرم على ما سوف يأتي شرحه في سياق تفسير سورة النور. ومع خصوصية الآية ببيوت النبي ونسائه فإن فيها أدبا يحسن بالمسلمين أن يلتزموه وهو مراعاة حال أهل البيت وعدم إطالة المكث فيه وعدم التحجج بالسؤال عن أمر وطلب متاع ما وكثرة طروق بيوت الناس إذا ما كان ذلك مما يسبب ضيقا وحرجا لأهل البيت، وهذا كثيرا ما يكون. أما تحريم التزوج بزوجات النبي من بعده فحكمته ظاهرة، فقد سماهن القرآن بأمهات المؤمنين وقد جعل الله لهن بعض الخصوصيات بسبب هذه الكرامة التي كرّمهنّ بها فلا يصح لمسلم أن يفعل أو ينوي أن يفعل فيه إخلال. فيها. وصيغة النهي عن التزوج بزوجات النبي من بعده يؤيد ما قلناه. وسياق الآية التي وصفهنّ فيها بأمهات المؤمنين في هذه السورة من أن هذا الوصف هو من باب التكريم ولم ينطو على تحريمهن على المؤمنين في حالة طلاقهن أو ترملهن حيث اقتضت حكمة التنزيل النصّ على ذلك في الآية التي نحن في صددها. [سورة الأحزاب (33) : آية 55] لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55) . (1) واتقين الله: أمر موجه لنساء النبي على سبيل الالتفات الخطابي. وفي هذه الآية استدراك لآداب الحجاب والدخول التي احتوتها الآيات السابقة. والضمائر فيها عائدة بالتبعية إلى نساء النبي فليس من جناح أن يدخل على نساء النبي آباؤهن وأبناؤهن وإخوانهن وأبناء إخوانهن وأبناء أخواتهن ونساؤهن

تعليق على الآية لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ... إلخ

وخدمهن الذين هم ملك أيمانهن. وعليهن بتقوى الله والتزام حدوده وملاحظة كونه حاضرا في كل آن وشهيدا على كل شيء. تعليق على الآية لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ ... إلخ ولم نطلع على مناسبة خاصة لنزول الآية. فإما أن تكون نزلت مع الآيتين الأوليين وإما أن يكون النهي قد أحدث بعض الحرج بالنسبة لمحارم نساء النبي فنزلت للاستدراك. وإذا صحّ الاحتمال الثاني دون الأول فتكون الآية قد وضعت في مكانها للمناسبة الموضوعية. ويلحظ أن الأعمام والأخوال لم يذكروا في المستدركين. ولقد قال بعض المفسرين «1» إن الأعمام والأخوال في مقام الآباء ولذلك لم يذكروا ولكن حكم الإباحة يجري عليهم كما قال بعضهم «2» إنهم ممن كره أن يدخلوا بدون إذن وحجاب على نساء النبي حتى لا ينعتوهن لأبنائهن الذين هم غير محارم عليهن. والقول الأول هو الأوجه فيما نرى. ومسألة نعت النساء للأبناء ولغيرهم واردة في حقّ الإخوان وأبناء الإخوان وأبناء الأخوات والنساء جميعا ومهما يكن من أمر ومهما كانت حكمة عدم ذكر الأعمام والأخوال خافية فإننا نقول إن القرآن يتمم بعضه بعضا. والأعمام والأخوال من محارم المرأة بنص آية النساء هذه: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ [23] بحيث يكون في هذا تأييد ما لوجاهة ذلك القول. ولقد أورد المفسر القاسمي حديثا عن البخاري عن عائشة رضي الله عنها جاء فيه: «أنها قالت: استأذن عليّ أفلح أخو أبي القعيس بعد ما أنزل الحجاب فقلت لا آذن حتى أستأذن النبي فلما دخل عليّ قلت له: يا رسول الله إن أفلح أخا أبي القعيس استأذن

_ (1) انظر تفسير الآية في الطبري والطبرسي والبغوي وابن كثير والخازن. (2) المصدر نفسه.

[سورة الأحزاب (33) : آية 56]

فأبيت أن آذن حتى أستأذنك، فقال: وما منعك أن تأذني؟ فقالت: إن الرجل ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس. فقال: ائذني له فإنه عمّك تربت يمينك» . وأفلح صار عمّها لأنه أخو زوج امرأة أرضعتها فمن باب أولى أن يكون دخول الأعمام والأخوال الأصليين جائزا. وقد قال المفسرون «1» في تعبير وَلا نِسائِهِنَّ قولين، أحدهما أن المقصود به النساء المؤمنات. وأن غير المؤمنات داخلات في النهي. وثانيهما أن التعبير عام يقصد به النساء عامة لوحدة الجنس، والنفس تطمئن بالقول الثاني أكثر. ويتبادر لنا أن صيغة وَلا نِسائِهِنَّ قد جاءت للتوافق اللفظي أكثر منها للاختصاص. كذلك فإن لهم في تعبير وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ قولين «2» ، أحدهما أن المقصود به الإماء دون العبيد. وثانيهما أن الجنسين سواء في القصد. وإطلاق التعبير يتناول الجنسين كما هو واضح. ولذلك فإن النفس تطمئن بوجاهة القول الثاني أكثر. ولا سيما أن مالكة العبد من محارمها على ما تفيده آية سورة النور [31] على ما سوف يأتي شرحها بعد. [سورة الأحزاب (33) : آية 56] إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) . تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) في هذه الآية: 1- تقرير تنويهي بما للنبي صلى الله عليه وسلم عند الله وملائكته من عظيم المنزلة ورفعة

_ (1) انظر كتب التفسير السابقة الذكر. (2) المصدر نفسه.

الشأن: فألله تعالى يصلي عليه بشموله الدائم بعطفه ورحمته. والملائكة يصلون عليه بدعائهم وتأييدهم. 2- وأمر للمسلمين بأن يصلّوا هم عليه ويسلّموا صلاة وتسليما متناسبين مع رفعة شأنه وعلّو منزلته بالدعاء والتعظيم والإجلال. والمتبادر أن الآية متصلة بما قبلها وما بعدها معا. ومعقبة على ما جاء قبلها من التعليم والتأديب والنهي وممهدة لما جاء بعدها من الإنذار للذين يتعمدون مكايدة النبي صلى الله عليه وسلم وأذاه. وأنها استهدفت تلقين المسلمين ما يجب عليهم إزاء النبي من التوقير والإخلاص واجتناب كلّ ما يؤذيه ويحزّ في نفسه قولا وعملا سرا وجهرا واتباع كل ما فيه رضاؤه وقرة عينه وفعله. ومع خصوصية الآية فإن إطلاق العبارة فيها يجعلها عامة شاملة لكل مسلم ومسلمة في كل وقت ومكان وموجبة عليهم أداء حق النبي صلى الله عليه وسلم من التوقير والتعظيم والدعاء والترحم وعظيم الشكر في سبيل تسجيل الاعتراف بما له عليهم من فضل خالد الأثر في هداهم إلى الحق والخير وسعادة الدارين وإخراجهم من الظلمات إلى النور. ولقد أثرت أحاديث كثيرة مختلفة الرتب في صدد الصلاة على النبي ووجوبها وفضلها من ذلك حديث رواه البخاري والترمذي جاء فيه: «قيل لرسول الله حينما نزلت الآية: أما السلام عليك فقد عرفناه فكيف نصلّي عليك؟ فقال: قولوا اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد» «1» . ومنها حديث عن عبد الله بن مسعود قال: «إذا صليتم على النبي فأحسنوا الصلاة عليه. قالوا له: علّمنا، فقال: قولوا اللهم اجعل صلاتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين محمد عبدك

_ (1) انظر التاج فصل التفسير ج 4 ص 189 وهذه الصيغة هي المأثورة التي تتلى في التشهد بعد التحيات في الصلوات. [.....]

ورسولك إمام الدين وقائد الخير ورسول الرحمة، اللهم ابعثه مقاما محمودا يغبطه به الأولون والآخرون. اللهم صلّ على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد» «1» . ومنها حديث رواه ابن ماجه جاء فيه: «قال رسول الله: لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه، ولا صلاة لمن لم يصلّ على النبي، ولا صلاة لمن لم يحبّ الأنصار» «2» . ومنها حديث أخرجه الإمام أحمد جاء فيه: «أنّ النبيّ جاء ذات يوم والسرور يرى في وجهه، فقالوا: يا رسول الله إنّا لنرى السرور في وجهك! فقال: إنه أتاني الملك فقال يا محمّد أما يرضيك أن ربّك عزّ وجلّ يقول إنه لا يصلّ عليك أحد من أمتك إلّا صلّيت عليه عشرا ولا يسلّم عليك أحد إلّا سلّمت عليه عشرا» «3» . ومنها حديث أخرجه الإمام أحمد أيضا جاء فيه: «أتاني آت من ربي عزّ وجلّ فقال: من صلّى عليك من أمتك صلاة كتب الله له بها عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات وردّ عليه مثلها» «4» . ومنها حديث جاء فيه: «من صلّى عليّ صلاة صلّت عليه الملائكة ما صلّى، فليقلل العبد من ذلك أو ليكثر» «5» . ومنها حديث عن ابن مسعود قال: «قال لي رسول الله إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاة» «6» . صلوات الله على سيدنا محمد وسلامه صلاة وسلاما متناسبين مع فضله وجهاده وعظمة منزلته ورفعة شأنه وأثر نوره الوهاج الذي سيبقى ساطعا في الخافقين والذي سيزداد سطوعا كلما استقامت عقول الناس وحسنت نواياهم واستنارت بصائرهم فاستبانوا سبل الهدى والسعادة بفضل ذلك النور والقرآن معجزة نبوّته العظمى.

_ (1) انظر تفسير الطبرسي وابن كثير. (2) ابن كثير. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. (5) البغوي وهناك أحاديث عديدة أخرى استوعبها ابن كثير من هذا الباب فاكتفينا بما تقدم. (6) المصدر نفسه.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 57 إلى 58]

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 57 الى 58] إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) . تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) والآية التالية لها عبارة الآيتين واضحة. وفيهما إنذار شديد بلعنة الله في الدنيا والآخرة وعذابه المهين لمن يؤذي الله ورسوله، وبيان شدّة إثم الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات وينسبون إليهم ما لم يصدر عنهم بقصد أذيتهم. ولقد روى ابن كثير عن ابن عباس أن الآية الأولى نزلت في الذين طعنوا على النبي صلى الله عليه وسلم في تزوجه صفية اليهودية وروى الخازن في نزول الآية الثانية ثلاث روايات بلفظ (قيل) إنها نزلت في الذين كانوا يؤذون علي بن أبي طالب بالكلام أو في الذين آذوا عائشة أو في الفساق والزناة الذين كانوا يتعرضون للنساء في الليل ويؤذونهم. وإلى هذا فقد قال المفسرون «1» إن أذى الله هو نسبة الولد والشريك والفقر إليه واتخاذ النصارى وعبادتها من دون الله والإلحاد في أسماء الله وصفاته وإن أذى النبي هو تكذيبه ونسبة السحر والشعر والكهانة والجنون والافتراء إليه وما كان من شجّ وجهه وكسر رباعيته في يوم أحد، كما قالوا إن هناك محذوفا مقدرا في جملة يؤذون الله، وهو: يؤذون أولياء الله. وليس شيء من هذه الروايات في الصحاح، والذي يتبادر لنا استئناسا بمضمونها ومضمون وروح الآيات السابقة واللاحقة أن الآيتين متصلتان موضوعا وسياقا بما قبلهما وما بعدهما ومعقبتان على ما قبلهما وممهدتان لما بعدهما

_ (1) انظر أيضا الخازن وابن كثير والطبرسي والبغوي.

حيث احتوت الآيات السابقة تنبيها إلى عظم إثم من يؤذي رسول الله بأي شكل والآيات اللاحقة تعليما لنساء المؤمنين يجنبهن أذى الناس، وإنذارا قاصما للمنافقين ومرضى القلوب والمرجفين إذا لم ينتهوا عن مواقفهم المؤذية. وهذا يوضح أن هذه الفئة هي التي كان يتوقع منها ويقع منها ما فيه أذى الله ورسوله والمؤمنين والمؤمنات فاستحقت ما احتوته الآيتان من اللعنة والإنذار. والآيتان في حدّ ذاتهما جملة تامة. وإطلاق العبارة فيهما يجعلهما شاملين لكل نوع من أنواع الأذى وسوء الأدب والبذاءة والقذف والإحراج والبغي والغمز واللمز في حق الله وحق رسوله وحق المؤمنين والمؤمنات. وبهذا الاعتبار فإن فيهما تلقينا مستمر المدى في شجب الذين يصدر منهم شيء من مثل ذلك في كل وقت ومكان ومناسبة وفي التشنيع عليهم والدعوة إلى الوقوف منهم موقف الشدّة والتأنيب والتنكيل. وجملة بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا بالنسبة للمؤمنين والمؤمنات تزيد في قوة الإنذار بالإثم كما هو المتبادر. ولقد أورد المفسرون في سياق الآيتين أحاديث عديدة. فمما رواه البغوي بطرقه حديث قدسي عن النبي جاء فيه: «قال الله يؤذيني ابن آدم بسبّ الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلّب الليل والنهار» . وحديث قدسي آخر عن النبي جاء فيه: «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ومن أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة» . ولقد أورد ابن كثير الحديثين وأورد بالإضافة إليهما أحاديث أخرى منها حديث رواه الإمام أحمد عن النبي جاء فيه: «من آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله يوشك أن يأخذه» «1» . وحديث آخر أخرجه ابن أبي حاتم عن عائشة جاء فيه: «قال رسول الله أي الربا أربى عند الله قالوا الله ورسوله أعلم قال أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم» «2» . وبعض الأحاديث لم ترد في الصحاح ولا مانع من صحتها.

_ (1) هذا النص ورد في التاج برواية الشيخين وأبي داود والترمذي انظر ج 3 ص 272. (2) في التاج حديث قريب لهذا برواية أبي داود عن أبي هريرة ونصه: (إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق) . التاج ج 5 ص 24.

[سورة الأحزاب (33) : آية 59]

وبعضها واردة وفيها تلقين متساوق مع التلقين القرآني كما هو المتبادر. [سورة الأحزاب (33) : آية 59] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59) . (1) الجلباب: قيل إنه الملاءة التي تشتمل بها المرأة وقيل إنه المقنعة التي تغطي المرأة بها جبهتها ورأسها وقيل إنه الخمار الذي تستر به شقوق ثيابها. في هذه الآية خطاب موجّه للنبي صلى الله عليه وسلم يأمر فيه بالإيعاز إلى أزواجه وبناته وسائر نساء المؤمنين بضمّ جلابيبهن على أجسامهن حتى يعرفن بهذا الزيّ فلا يؤذين ببذيء الكلام. تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59) وقد روى المفسرون «1» أن الفساق كانوا يتعرضون للنساء في الليل حين يذهبن لحاجاتهن بدون تفريق بين الحرائر والإماء والعفيفات وغير العفيفات وأن الآية نزلت لجعل زيّ خاصّ لحرائر المؤمنات يميزهن عن غيرهن حتى يسلمن من التعرض والأذى. ومنهم من قال إن الفساق كانوا إذا رأوا المرأة متجلببة كفوا عنها وقالوا إنها حرة. فأمرت الآية نساء المؤمنين بعدم إهمال الجلباب. وقد روى البغوي في سياق الآية عن أنس قال: «مرّت بعمر بن الخطاب جارية مقنّعة فعلاها بالدرة وقال يا لكاع أتتشبهين بالحرائر ألقي القناع» والروايات ليست في الصحاح ولكنها متسقة مع مضمون الآية وروحها كما هو المتبادر. وتبدو الآية لأول وهلة مستقلة. غير أن من الممكن أن يلمح شيء من

_ (1) انظر تفسير الآية في الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير.

الاتصال بينها وبين الآية السابقة لها التي نبهت على عظم إثم الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات، وبينها وبين الآية التالية لها التي احتوت إنذارا قاصما للمنافقين ومرضى القلوب والمرجفين في المدينة. وهذا الاتصال الذي نبهنا إليه في شرح الآيات السابقة يؤيد ما قلناه إن هذه الفئة هي التي كان يقع منها ما يؤذي الله ورسوله والمؤمنين والمؤمنات. والإيعاز كما هو واضح قد تناول زوجات النبي وبناته وسائر نساء المؤمنين. ونصّ الآية يفيد أن جميعهن كنّ يخرجن وتقع أعين الناس عليهن. وفي هذا قرينة أخرى على أن الحجاب الذي ذكر في الآية [53] ليس النقاب. وعلى أن الأمر بقرار نساء النبي الوارد في الآية [33] ليس مطلقا وباتا. والنصّ يؤيد كذلك ما قلناه في سياق الآيات [28- 34] من أن ما في هذه الآيات من أوامر وتنبيهات هو خاصّ بنساء النبي. ففي ذلك المقام اقتصر الكلام عليهن. ولما اقتضت الحكمة تعليم جميع المؤمنات إطلاقا ذكرن في جملتهن في هذا المقام. وقد اختلف القول في الجلباب ومفهوم إدنائه. وأوجه الأقوال في الجلباب هو الملاءة أو العباءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار. أما الإدناء فمن المفسرين من قال إنه تغطية الرأس والوجه. ومنهم من قال إنه ليس تغطية تامة للوجه وإنما هو تغطية جزئية بحيث يكشف عن العيون أو عين واحدة أو يغطي شقا من الوجه. وعلى كل حال فجملة يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ لا تفيد أن اتخاذ المؤمنات للجلباب شرعا إسلاميا جديدا وإن الذي تفيده هو أن اتخاذ النساء للجلباب كان زيّا ممارسا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم فأمرت بإدنائه كتعليم بزيّ خاص يعرف به المؤمنات ويفرّق به بين الحرائر والعواهر. ليمتنع بذلك أذى الفسقة والفجار عنهن. وصيغة الآية تشريعية مستمرة الشمول من دون ريب. غير أن الذي يتبادر لنا من روحها وظرف نزولها أن شمول التشريع فيها قياسي أكثر منه شكليا. أي أنه يوجب على المؤمنات زيّا أو مظهرا خاصا يميزهن عن العواهر ويمنع عنهن أذى الفساق دون التقيد بنفس الشكل الذي كان جاريا وقت نزول الآية.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 60 إلى 62]

فأشكال اللباس والمعيشة والحياة عرضة للتبدّل والتطور ولقد بدأ هذا التبدل والتطور في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم واستمر عبر الأحقاب الإسلامية بدون حرج إلّا مما هو مخالف لروح الآيات القرآنية من الخلاعة والتهتك والتشبه بالعواهر. وهذا هو المتسق مع التشريع القرآني الإلهي ومع طبيعة الأمور التي يراعيها هذا التشريع في رسم المبادئ والقواعد وبيان الأهداف والغايات وعدم التقيد بالأشكال التي هي عرضة للتطور والتبدل حسب المكان والزمان والضرورة. هذا مع القول إن للنساء ولرجال المؤمنين اتخاذ ما يشاؤون من أشكال اللباس وطرق المعيشة في حدود الآداب الإسلامية. وليس من مانع للنساء أن يحتفظن إذا شئن بالجلباب أو الملاءة أو العباءة، ويدنينها على وجوههن ورؤسهن كما يشأن. والله تعالى أعلم. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 60 الى 62] لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62) . (1) المرجفون: من الإرجاف. وهو إشاعة الشائعات السيئة لتخويف الناس وإثارتهم. (2) المدينة: يثرب وقد سميت في الإسلام باسم المدينة ومدينة الرسول. في هذه الآيات: 1- إنذار قاصم لفئات المنافقين ومرضى القلوب والمرجفين في المدينة بأنهم إذا لم ينتهوا عمّا يبثونه من وساوس ودسائس ويوقعونه من أذى وقلاقل فإن الله يغري نبيّه بهم ويسلّطه عليهم ويقدّره على طردهم من المدينة مدموغين بدمغة اللعنة مهدوري الدم ليقتلوا قتلا ذريعا بدون هوادة واستثناء وتساهل أين ما وجدوا.

تعليق على الآية لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا (60) والآيتين التاليتين لها

2- وتنبيه على أن هذه هي سنّة الله فيمن مضى من أمثالهم من الأمم وهي السنّة التي لا تتبدل في حال. تعليق على الآية لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا (60) والآيتين التاليتين لها ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزولها. وإنما قال المفسرون «1» إن المنافقين كانوا يشيعون أخبار السوء عن سرايا النبي صلى الله عليه وسلم وبعوثه الجهادية بسبيل إلقاء الرعب في قلوب المسلمين وتخويفهم وتخذيلهم. وإن الآيات هي في صدد ذلك. وهذا هو معنى الإرجاف على ما قالوه وقد روى الطبري عن عكرمة تأويلا لجملة وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أنهم أصحاب شهوة الزنا الذين يتبعون النساء والآيات شملت هؤلاء وهؤلاء. والذي يتبادر لنا من روحها ومن السياق السابق أن الإنذار هو بصدد ما كان يبدو من الفئات المذكورة فيها من سوء أدب وذوق وبذاءة وأذى وكيد ودسّ وولوغ في الأعراض وإثارة الريب والفتنة سواء أكان في حقّ الله ورسوله أم في حقّ المؤمنين والمؤمنات، وأنها بناء على ذلك متصلة بالآيات السابقة سياقا وموضوعا. ولقد احتوت الآيات حكما قرآنيا موكولا تنفيذه للنبي صلى الله عليه وسلم بتأديب هذه الفئات إذا لم تنته عن أذاها وإرجافها بعد الإنذار وهو الطرد وإهدار الدم والقتل دون هوادة وتسامح. واحتوت بالتبعية توطيدا لسلطان النبي وإيذانا باستعمال القوة والصرامة بحقها.

_ (1) انظر الطبري والبغوي والخازن وابن كثير.

وقد يلحظ أن الآية الأولى احتوت أوصاف ثلاث فئات. ولقد ذكر المنافقون ومرضى القلوب في آيات عديدة منها ما جاء في السور التي سبق تفسيرها وشرحنا مدى أمرهم. والمرجفون يأتي ذكرهم هنا لأول مرة. والراجح أنهم الذين يبثون شوائع السوء وروح الهزيمة ويثبطون الهمم وهذا مما قاله المؤولون على ما ذكرناه آنفا. والإنذار والتنديد الشديدان في الآية موجهان إلى الفئات الثلاث على السواء حيث يتبادر من هذا أنها تصدر عن موقف واحد هو عدم الإخلاص في الإيمان بالله ورسوله والوقوف عند أوامرهما ونواهيهما وأن التعدد آت من كون كل منها كانت تتميز بعمل من أعمال الضرر والشرّ والأذى فيكون ديدن واحدة هو الإرجاف وواحدة هو الاستهتار بالقيم والأعراض وواحدة هو الرياء والخداع والوقوف من النبي والإسلام والمسلمين موقف التربّص. والله تعالى أعلم. ولم نطلع على روايات وثيقة تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد طرد هذه الفئات من المدينة وأهدر دمها، بل هناك آيات كثيرة في سور عديدة يجيء ترتيبها بعد هذه السورة تدل على أن النبي قد وسّع صدره وحلمه لهم مع ما تكررت حكاية القرآن عنهم من مواقف الدسّ والتشكيك والتعطيل والتثبيط وإشاعة الفاحشة والقلق والخوف بين المسلمين في مختلف الظروف بل مع ما ذكرته إحدى آيات التوبة من أنهم قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إيمانهم [74] ومع ما أمرته إحدى آيات هذه السورة وإحدى آيات سورة التحريم من مجاهدتهم والإغلاظ عليهم هم والكفار سواء: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ التوبة [73] ، والتحريم [9] وأنه ظلّ على هذه الخطة إلى آخر حياته. وأن باب التوبة ظلّ مفتوحا لهم في جميع الظروف كما جاء في السور المدنية التي نزلت بعد هذه السورة مضافا إليها ما جاء في السور المدنية السابقة لهذه السورة معا. فمن المحتمل والحالة هذه أن الآيات قد أثرت التأثير المطلوب في أفراد هذه الفئات في الصدد والظروف التي نزلت فيها فلزموا حدودهم وكفوا أذاهم وكفي

المؤمنون شرّهم بوجه الإجمال. كما أن من الممكن أن يقال إن النبي قد ألهم سعة الصدر لهم والحلم عليهم لما كان بينهم وبين كثير من المخلصين من روابط رحم وقربى ولم يعتبرهم أعداء محاربين كالكفار ولا سيما أنهم كانوا يتظاهرون بالإسلام ويقومون بفرائضه التعبدية والمالية ويشتركون في الجهاد ويحلفون الأيمان على إخلاصهم وصدق إسلامهم على ما حكته آيات عديدة في سور عديدة بعد هذه السورة. وإنهم أخذوا بعد التنكيل باليهود يتضاءلون عددا وقوة. وتضيق دائرة عدواهم وشرّهم ومكائدهم. وإن النبي اعتبر هذه الآية وأمثالها بمثابة توجيهات متروك إليه أمر تقدير ظروف تنفيذها والسير فيها بما يوافق مصلحة الإسلام والمسلمين. ومع خصوصية الآيات الزمنية والموضوعية فالذي يتبادر لنا أن حكمها عام شامل ومستمر، وموكول لأولي الأمر في المسلمين. حيث توجب عليهم سلوك سبيل الشدة في القمع والتنكيل مع من لم يرتدع عن موقف الأذى والدسّ والإرجاف لسلامة المجتمع وطمأنينته. ولقد يرد على هذا أن وصف المنافقين ومرضى القلوب والمرجفين في المدينة هو وصف متصل بالعهد النبوي. غير أن الذي ينعم النظر في حالة المجتمعات في أي ظرف ومكان يجد بدون ريب هذه الفئات فيها وإن تنوعت صورها حيث تتمثل في الذين يتخذون الطغاة والظالمين والأعداء أولياء يبتغون عندهم العزة ويساعدونهم على إذلال أمتهم واستعبادها ويخونون مصالح بلادهم وأمنها بسبيل منافعهم أو أحقادهم أو الاثنتين معا. وتتمثل كذلك في الذين يشيعون الفاحشة بين الناس ويثيرون فيهم الشكوك والهواجس والفزع في أوقات الأزمات ويستهترون بالقيم الأخلاقية والإنسانية والروحية والاجتماعية والأسروية الصالحة المستحبة بسبيل نزواتهم وأهوائهم. ويقصرون في واجبات الإخلاص والتضامن والتعاون والتضحية المتنوعة، ولا يبالون بما يقع على أمتهم من مصائب ومظالم وبغي ونكبات ولا يهتمون إلّا لمصالحهم الخاصة. حيث يبدو من هذا مدى الإعجاز القرآني في وصف ومعالجة حالات تقع في كل ظرف ومكان وفي شمول

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 63 إلى 68]

التنديد والإنذار وحيث يصدق ما قلناه من تلقين الآيات المستمر. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 63 الى 68] يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) . تعليق على الآية يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) والآيات الثلاث التالية لها عبارة الآيات واضحة. وقد احتوت حكاية سؤال للنبي عن الساعة وما أمره الله من جواب على السؤال. ثم أعقب ذلك إيذان بلعنة الله للكافرين وما أعدّه لهم من سعير حيث يخلدون فيها دون أو يجدوا وليّا ولا نصيرا وحيث تقلب وجوههم في النار وتأخذهم الحسرة والندامة ويتمنون لو كانوا أطاعوا الله ورسوله ويدعون على سادتهم وكبرائهم الذين أطاعوهم فأضلّوهم باللعنة ومضاعفة العذاب. وتبدو الآيات فصلا جديدا. ولم نطلع على رواية خاصة لنزولها. وإنما ورد في الخازن: قيل إنّ المشركين كانوا يسألون رسول الله عن وقت قيام الساعة استعجالا على سبيل الهزؤ وكان اليهود يسألون النبيّ عن ذلك امتحانا لأن الله أعمى عليهم علمها في التوراة فأمر الله نبيه بأن يجيبهم بما في الآيات. وقيام الساعة أو القيامة كان من أهم ما دار حوله الجدل بين النبي والكفار في العهد المكي على ما حكته آيات كثيرة حكت في الوقت نفسه سؤالهم النبي أكثر من

مرة عن موعدها على سبيل التحدي والاستهتار. وتفيد الآيات أن ذلك ظلّ من المواضيع التي كان يعمد إليها الكفار للتمحّل والتعجيز في العهد المدني أيضا. والجواب الذي احتوته من باب الأجوبة التي احتوتها الآيات المكية حيث يؤمر فيها النبي بأن يعلن أن علمها عند الله وليس هو إلّا نذيرا وبشيرا ولا يعلم من أمر الغيب إلّا ما شاء الله «1» . وتعبير الناس يشمل كل فئات المجتمع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. غير أن تعقيب حكاية السؤال وجوابه بجملة على الكفار يمكن أن يكون قرينة على أنه أورد من بعض الكفار أو الشاكين في الآخرة من المنافقين ومرضى القلوب. ولقد تبع هذه الآيات آيات فيها تحذير للمسلمين من أن يكونوا كالذين آذوا موسى بما قد يمكن أن يكون قرينة على أن لليهود يدا أو دخلا في هذا السؤال الجديد بقصد التشكيك بالنبي ورسالته. وإذا صحّ هذا فإن احتمال كون السؤال من بعض المسلمين الذين لم يرسخ الإيمان في قلوبهم واردا أيضا بتحريض وإيعاز من اليهود فاحتوت الآيات حملة على الكفار ومصيرهم الرهيب على سبيل التنبيه والإنذار. والله تعالى أعلم. والآيتان الأخيرتان تؤكدان ما حكته آيات مكية عديدة عن أدوار الزعماء والأغنياء والكبراء في مناوأة الرسالة النبوية وتعطيلها. وتفيدان أن من أغنياء اليهود والعرب وزعمائهم وكبرائهم في المدينة من كان يقوم بمثل هذه الأدوار في العهد المدني أيضا. ومع خصوصية الآيتين الزمنية وانطوائهما على ما يتبادر على قصد إثارة الحسرة والندم في السامعين للقرآن مباشرة على طاعة المفسدين الكفار من كبرائهم وسادتهم وإنذارهم بما سيلقونه من نكال ويستشعرونه من ندم وحسرة في الآخرة فإن فيهما تلقينا مستمر المدى في تجنّب مواقف النساء والتعطيل التي يقفها الكبراء والزعماء من كلّ حركة ودعوة فيها خير وبرّ وصلاح. وصرخة داوية ضدهم.

_ (1) اقرأ مثلا آيات الأعراف [187 و 188] وآيات يونس [48- 54] وآيات الأنبياء [35- 40] وآيات النمل [67- 75] .

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 69 إلى 71]

وهتافا لعامة الناس ليحذروهم ولا يبالوا بهم لما يعود عليهم من ذلك من شرّ ونكال في دنياهم وآخرتهم مع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي الذي انطوى فيهما. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 69 الى 71] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) . تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى ... إلخ والآيتين التاليتين لها عبارة الآيات واضحة. وقد حذّر فيها المسلمون من أذية النبي كما فعل بنو إسرائيل مع موسى على ما كان من وجاهته وطهارته عند الله، وأمروا فيها بتقوى الله وعدم التفوّه بغير ما فيه السداد وإطاعة الله ورسوله وبذلك يصلح الله أعمالهم ويغفر لهم ذنوبهم ويضمنون لأنفسهم الفوز العظيم. والآيات وإن بدت لأول وهلة فصلا جديدا فإننا نرجح أن بينها وبين السياق السابق صلة ما على ما شرحناه قبل قليل. والله تعالى أعلم. ولقد روى المفسرون في موضوع الآيات أحاديث متنوعة. منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة جاء فيه: «قال رسول الله: إنّ موسى كان رجلا حيّيا ستّيرا ما يرى من جلده شيء فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقال: ما يستتر هذا الستر إلّا من عيب بجلده إما برص وإما أدرة «1» وإما آفة. فأراد الله عزّ وجلّ أن يبرئه مما قالوا، فخلا يوما وحده فوضع ثيابه على حجر ثم اغتسل فلما فرغ وأقبل إلى ثيابه عدا الحجر بثوبه فلحق به حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانا

_ (1) فسّر المفسرون الكلمة بأنها ضخامة الخصيتين.

أحسن الناس خلقا وبرّأه مما كانوا يقولون» . فذلك قول الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ إلخ «1» . ومنها حديث معزو إلى علي بن أبي طالب: «أن أذى بني إسرائيل لموسى هو اتهامهم إيّاه بقتل هارون فأمر الله الملائكة فحملوه ومرّوا به ببني إسرائيل فعرفوا أن موسى لم يقتله» «2» . ومنها «أن قارون استأجر مومسا لتقذف موسى بنفسها على رأس الملأ فعصمه وبرّأه» «3» . وقد رووا في سياق ذلك حديثا أخرجه الإمام أحمد جاء فيه: «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قسم ذات يوم قسما فقال رجل من الأنصار إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، فقال له مسلم آخر سمع القول: يا عدوّ الله أما لأخبرنّ رسول الله بما قلت، ثم أخبر النبيّ بالأمر فاحمرّ وجهه ثم قال: رحمة الله على موسى فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر» «4» . والأحاديث الثلاثة هي في بيان ما أوذي به موسى، وفيها ما هو صحيح فيوقف عنده. والحديث الرابع فيه حادث واقعي إزاء النبي صلى الله عليه وسلم فجاء فيه ما جاء من حكاية تأسي النبي صلى الله عليه وسلم بموسى عليه السلام ويتضح به هدف الآيات التحذيري والتنبيهي أيضا. وفي الآيات تأديب رباني مستمر التلقين في وجوب الامتناع عن اتهام الناس بما ليس فيهم والتزام حدود الحق والسداد في كل ما يصدر عن المرء من قول. ولقد روى ابن كثير حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في سياق الآية وفي مناسبتها جاء فيه: «لا يبلّغني أحد عن أحد شيئا فإني أحبّ أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر» . وقد انطوى في الحديث كذلك تأديب نبوي في وجوب الامتناع عن نقل ما يسيء من أقوال الناس إلى من قيلت فيهم لما في ذلك من إثارة للكراهة والبغضاء وأذى النفس.

_ (1) انظر التاج ج 4 ص 189- 190 فصل التفسير وقد روى المفسرون حديث الشيخين والترمذي بصيغ وطرق عديدة وقد نقلناه عن التاج. وانظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن. [.....] (2) انظر كتب التفسير المذكورة. (3) انظر المصدر نفسه. (4) انظر المصدر نفسه.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 72 إلى 73]

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 72 الى 73] إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73) . تعليق على الآية إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ ... إلخ والتي بعدها عبارة الآيتين واضحة من الناحية اللغوية. ولم يرو المفسرون رواية خاصة في سبب نزولهما. ويتبادر لنا أنهما معقبتان على الآيات السابقة في صدد النهي عن أذى الناس الأبرياء واتهامهم بما ليس فيهم. ففي هذا إخلال بالأمانة التي حملها الإنسان. ثم في صدد الأمر بتقوى الله والتزام حدود الحق والقول السديد. فإن هذا من مقتضيات الأمانة وما يؤدي إلى الصلاح والفوز ورضاء الله وغفرانه. ولقد تعددت أقوال المفسرين «1» في مفهوم الأمانة وتأويل الآية الأولى عزوا إلى ابن مسعود وابن عباس وقتادة ومجاهد وغيرهم من أصحاب رسول الله وتابعيهم. من ذلك أن الأمانة هي الطاعة لله والتزام ما فرضه أمرا ونهيا. ومنها أنها أركان الإسلام التعبدية والمالية. ومنها أنها عدم خيانة الودائع وأداء الدين. ومنها أنها التكليف عامة. ومنها أن الله عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال فاعتذرن وقلن نحن مسخرات وكفى فقال لآدم إني عرضتها على السموات والأرض والجبال فأشفقن منها، فقال آدم وما فيها يا ربّ، فقال له إن قمت بحقها جوزيت وغفر لك وإن قصرت فيها عوقبت وعذبت فقبل وتحملها،

_ (1) انظر الطبري والبغوي والزمخشري والطبرسي والخازن وابن كثير والقاسمي.

فلم يلبث أن عصى ربّه وأخرج من الجنة. ومنها أن المقصود من السموات والأرض والجبال هو أهلها ويدخل في ذلك الملائكة والحيوان على اختلافه عدا بني آدم. والذي يتبادر لنا أن الأمانة هي أهلية التكليف، أو التكليف نفسه بما فيه من الإخلاص لله وعبادته والتزام أوامره ونواهيه. وإن جملة إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ قد جاءت بلفظ الواقع على وجه التقدير بقصد تقرير خطورة التكليف وأهليته وواجباته بحيث لو عرض ذلك على السموات والأرض والجبال وهي ما هي من العظمة والسعة والجلال لخافت من التقصير فيه وأبت حمله فحمله الإنسان أو اختص بحمله نتيجة لتأهيل الله له بالتمييز والإرادة وقابلية الخير والشرّ والاختيار بينهما مما لم يكن حظّ غيره من المخلوقات. غير أنه لم يرعها حقّ رعايتها، فنمّ بذلك عن جهل لخطورة ما حمل وعن ظلم لنفسه بتقصيره في القيام بما حمل. ويتبادر لنا من روح الآيتين أن النعت التنديدي بالإنسان بكونه ظلوما جهولا هو موجه في الدرجة الأولى إلى من لم يرع الأمانة حقّ رعايتها. أو أن هذا هو المقصود بذلك. ويتبادر لنا كذلك أن اللام التي بدئت الآية الثانية بها هي سببية. وأن هذه الآية متممة للمعنى المنطوي في الآية الأولى حيث تكون احتوت تقرير كون الله قد اختصّ الإنسان بالأمانة التي هي بمعنى التكليف كوسيلة لاختبار الناس حتى يميز خبيثهم من طيبهم وطالحهم من صالحهم ومقصرهم من القائم بواجباته منهم فيعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الذين يكونون قد انحرفوا عن طريق الحقّ والواجب واندفعوا بما اختاروه من طريق بالتقصير والظلم والجهالة. ويشمل المؤمنين والمؤمنات الذين يكونون بإيمانهم قد اختاروا طريق الحق المستقيم وكان ذلك حافزا لهم على القيام بواجبهم ورعاية الأمانة حقّ رعايتها بعطفه وتوفيقه ورحمته وغفرانه. ويتبادر لنا أن تأويل وَحَمَلَهَا بمعنى خانها غير سليم من ناحية اللغة

مدى التنويه القرآني بالإنسان

والاستعمال القرآني لكلمة (حمل) ومشتقاتها. ومن ناحية كون ليس كل إنسان على الإطلاق هو خائن للتكليف والأمانة مقصّر بواجباته نحوهما. فهناك الأنبياء والرسل وأولياء الله الصالحون والتابعون لهم بإحسان الذين يصحّ أن يدخلوا في عموم كلمة (الإنسان) فيكونوا حسب هذا التأويل مدموغين أيضا بالخيانة. بل وإن هذا الذي نقوله يرد في تشميل نعت الظلم والجهالة لكل إنسان مطلقا كما قد توهمه العبارة القرآنية. ويجعل ما قلناه من أن المراد به هو الإنسان المنحرف عن طريق الحق والهدى هو الأوجه والأكثر ورودا. مدى التنويه القرآني بالإنسان والآيتان بهذا الشرح الذي نرجو أن يكون فيه الصواب قد احتوتا تنويها جديدا بالإنسان وخطورة شأنه. وتقريرا لأهليته للتكليف وقابليته لاختيار الخير والشرّ والاستقامة والانحراف وإنذارا للذين يختارون الضلال ويسيرون في طريقه وبشرى للذين يختارون الهدى ويسيرون في طريقه كذلك. بل نكاد أن نقول إن الآيتين وبخاصة أولاهما احتوت مفتاح كل ما أفاده القرآن للإنسان من اهتمام عظيم خاصة كل ما سواه بل وكان محور كل أو جلّ آياته حيث جعله على ما تفيده الآيات القرآنية الكثيرة جدا والعبارة القرآنية فيها قطب الكون والمخلوقات الأخرى وخليفة الله في أرضه وسخّر له كل ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة وكرّمه وفضّله على كثير من خلقه وامتازه عن غيره من الحيوان فجعله خلقا آخر واختصّه بالبعث والحساب والثواب والعقاب وسّواه بيده ونفخ فيه من روحه وجعله في أحسن تقويم وعلى أحسن الصور وأعدلها وعلّمه البيان وعلّمه كل العلوم وكان من حكمة خلقه قصد ابتلاء نوعه أيهم أحسن عملا. فجاءت هذه الآيات لتكون ذروة ذلك الاهتمام ومفتاحه وهو كونه الذي أهلّه الله تعالى لحمل الأمانة والتكليف دون سائر مخلوقاته.

دلالات ذكر المؤمنين والمؤمنات والمشركين والمشركات والمنافقين والمنافقات

دلالات ذكر المؤمنين والمؤمنات والمشركين والمشركات والمنافقين والمنافقات وهناك دلالات عديدة لذكر هذه الفئات بالأسلوب الذي جاء به رأينا فائدة في التنبيه عليها على حدة. فأولا: إنه مع شمول ما انطوى في الآيات من مقاصد لجميع الناس في جميع الأزمان فإن ذكر الفئات في الآية الثانية يجعل الصلة وثيقة بينها وبين سامعي القرآن الأولين من مختلف الفئات. أو بعبارة ثانية يعطي صورة لما كان عليه المجتمع في العهد النبوي. وثانيا: إن ذكر المؤمنات والمشركات والمنافقات يفيد أن الميدان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وإزاء دعوته ورسالته لم يكن خاليا من المرأة وأنه كان هناك مؤمنات مخلصات كما كان هناك مشركات عنيدات ومنافقات خائنات فاستحقت الأوليات بشرى الله بالتزامهن حدود الله وتكليفه واستحقت الأخريات إنذار الله وعذابه لانحرافهن عن هذه الحدود. وثالثا: إن ذكر الرجال والنساء نصّا في الآية الثانية هو تابع لذكر الْإِنْسانُ في الآية الأولى. وبعبارة أخرى إن كلمة الْإِنْسانُ قد عنت الذكر والأنثى معا. وفي هذا توكيد لما احتوته آيات كثيرة في كون الذكر والأنثى هم إزاء التكليف وواجباته وتبعاته سواء بدون أي تمييز مع القول إن هذا المعنى في الآيتين أشدّ بروزا والله تعالى أعلم.

فهرس محتويات الجزء السابع

فهرس محتويات الجزء السابع

تفسير سورة الأنفال 7 تعليق على الآيات الأربع الأولى 9 تعليق على مدى أمر القرآن بإطاعة الله ورسوله في السور المدنية 12 تعليق على الآية كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [14] وشرح ظروف ومشاهد وقعة بدر 15 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وما بعدها إلى آخر الآية [19] 23 تعليق على ما قيل في مدى جملة وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى 25 تعليق على ما روي في صدد الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وما بعدها إلى الآية [26] من روايات وأقوال وما فيها من تلقينات 28 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ والآيتين اللتين بعدها 33 تعليق على الآية وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ 35 استطراد إلى ظروف وكيفية هجرة النبي والمسلمين 37 تعليق على الآية وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ 41

تعليق على الآية وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ وما بعدها إلى آخر الآية [37] 44 تعليق على الآية قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ والآيتين التاليتين لها 47 شرح الآية وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ... وما ورد في صددها من تأويلات وأحاديث وتعليقات عليها 49 أولا: تأويل الغنيمة 50 ثانيا: الآية لا تذكر إلا الخمس أما الأخماس الأربعة 52 ثالثا: عدد مصارف خمس الغنائم خمسة 53 رابعا: كان النبي يأخذ سهما من الخمس 54 خامسا: سهم ذي القربى 57 سادسا: المسكين 62 سابعا: ابن السبيل 63 ثامنا: اليتامى 63 تاسعا: مقارنة بين آية الأنفال [41] وآية التوبة [60] 63 عاشرا: أقوال الفقهاء في توزيع سهام خمس الغنائم 64 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وما بعدها إلى الآية [49] 68 تلقين جملة ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ 72 تعليق على الآية إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ والآيات التالية لها إلى آخر الآية [63] وشرح وقعة بني قينقاع وما في الآيات من مبادئ وتلقينات 75 التلقينات المنطوية في الآيات [55- 64] 80

تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ ... والآية التالية لها 86 تعليق على الآية ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ... إلخ والآيتين التاليتين لها 88 تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ والآية التالية لها 95 تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلخ والآيات التالية لها إلى آخر السورة 97 تفسير سورة آل عمران 105 تعليق على الآيات الست الأولى من السورة وخلاصة عن وفد نصارى نجران 108 تعليق على الآية هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ... إلخ والآيتين التاليتين لها ومداها في صدد التنزيل القرآني 114 تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ والآيات الثلاث التالية لها 123 تعليق على الآية زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ ... إلخ والآيات الثلاث التالية لها 127 تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ ... إلخ والآية التالية لها 131 تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ... إلخ والآيات التالية لها إلى الآية [7] 133 تعليق على الآية لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ... إلخ والآيات التالية لها إلى الآية [32] 137 تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى

الْعالَمِينَ وما بعدها إلى الآية [64] ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران 147 تعليق على ما روي في صدد آية المباهلة 159 استطراد إلى حديث مروي في صدد الآية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ ... إلخ من آيات السلسلة ورسالة النبي إلى هرقل ملك الروم وشهادة لأبي سفيان وتعليق على ذلك 162 تعليق على الآية يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ وما بعدها الآيات [66- 68] 165 تعليق على الآية وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ... إلخ والآيات التابعة لها إلى الآية [74] 169 تعليق على الآية وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ... إلخ والآيتين التاليتين لها 173 تعليق على الآية وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ ... إلخ والآيتين التاليتين لها 178 تعليق على الآية وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ... إلخ والآية التالية لها 180 تعليق على الآية أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... إلخ والآيتين التاليتين لها 183 تعليق على الآية كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ ... إلخ والآيات التالية لها إلى آخر الآية [91] 185 تعليق على الآية لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ... إلخ 188 تعليق على الآية كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ ... إلخ والآيتين التاليتين لها 191 تعليق على الآية إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ ... إلخ والآية التالية لها 193

استطراد إلى شمول أمن البيت 196 تعليق على الآية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ والآيات الأربع التالية لها 199 تعليق على الآية وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ... إلخ والآية التالية لها 204 تعليق على الآية يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ... إلخ والآيات الثلاث التالية لها 206 تعليق على الآية كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ... إلخ والآيتين التاليتين لها 210 تعليق على الآية لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ ... إلخ والآيتين التاليتين لها 215 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ ... إلخ والآيتين التاليتين لها 219 تعليق على الآية وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وما بعدها لغاية الآية [129] وشرح ظروف ومشاهد وقعة أحد 224 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وما بعدها إلى آخر الآية [136] 230 تعليق على الآية قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ ... إلخ وما بعدها لغاية الآية [142] وعلى ما فيها من مشاهد وقعة أحد وخلاصة أحداث هذه الوقعة 234 تعليق على الآية وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ والآية وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ... وما بعدهما إلى الآية [148] 239 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى

أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ وما بعدها لغاية الآية [154] وما فيها من مشاهد وقعة أحد 245 تعليق على تعبير الْجاهِلِيَّةِ 248 تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ 249 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى ... إلخ والآيتين التاليتين لها 251 تعليق على الآية فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ... إلخ وأمر الشورى في الإسلام 252 تعليق على الآية وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ 259 تعليق على الآية أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ ... إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [168] 265 تعليق على الآية وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ والآية التي بعدها 267 تعليق على الآية الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ والآيتين اللتين بعدها 270 تعليق على الآية إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ والآيتين التاليتين لها 274 تعليق على الآية وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ 274 شرح الآية ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ ... إلخ وتعليق عليها 276 تعليق على الآية لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ

أَغْنِياءُ ... إلخ والآيات الثلاث التالية لها 280 تعليق على الآية كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ... إلخ 282 تعليق على الآية لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ ... إلخ 283 تعليق على الآية وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ والآيتين التاليتين لها 285 تعليق على الآية إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ وما بعدها إلى الآية [195] 291 تعليق على الآية لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ والآيتين التاليتين لها 296 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 299 تفسير سورة الحشر 302 تعليق على الآيات الأربع الأولى من السورة وحادث إجلاء بني النضير 304 تعليق على الآية وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ ... إلخ والآية التالية لها وتشريع الفيء 309 تعليق على جملة وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا 311 تعليق على جملة كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ 313 تعليق على الآية لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ والآيتين التاليتين لها 314 تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ... إلخ وما بعدها لغاية الآية [17] 321 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ ... إلخ والآية التالية لها 324

تعليق على الآية لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ والآيتين التاليتين لها 326 تفسير سورة الجمعة 328 تعليق على الآيات الأربع الأولى من السورة وما فيه من التنويه بفضل الله على العرب في تكريمهم بإرسال نبيه منهم 330 تعليق على الآية مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً ... إلخ والآيات الثلاث التالية لها 332 تعليق على آيات صلاة الجمعة وتنويه بخطورتها الدينية والاجتماعية ولمحة عن تاريخ الجمعة قبل الإسلام ومسألة اتخاذ يوم الجمعة يوم عيد وعطلة عاما للمسلمين 334 كلمة في حالة اجتماع العيد والجمعة في يوم واحد 341 استطراد إلى الأذان في الإسلام 341 تفسير سورة الأحزاب 345 تعليق على الآيات الثلاث الأولى من السورة 347 تعليق على الآية ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ ... إلخ والآية التالية لها 349 تقليد الظهار في الجاهلية 350 تقليد التبني في الجاهلية ومداه 351 تعليق على تعبير وَمَوالِيكُمْ 353 تعليق على الآية النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ... إلخ 354 تعليق على مدى تعبير مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ 356 تعليق على مدى ذكر أمومة أزواج النبي للمؤمنين في الآية النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ 357 الخلاصة 357

تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ ... إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [25] وشرح ظروف ومشاهد وقعة الأحزاب 361 تعليق على الآية وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ ... إلخ والآية التالية لها وشرح وقعة بني قريظة 367 تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [34] 371 تعليق على تعبير الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى 378 تعليق على ما روي من أحاديث في صدد تعبير أَهْلَ الْبَيْتِ 379 تعليق على الآية إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ... إلخ 383 تعليق على الآية وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وما بعدها لغاية الآية [40] وتمحيص زواج النبي بزينب بنت جحش 386 تعليق على مدى جملة وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ 392 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها 397 تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ إلخ والآيتين التاليتين لها 400 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ ... إلخ والآية التالية لها 408 تعليق على الآية لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ ... إلخ 412 تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً 413

تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً والآية التالية لها 416 تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً 418 تعليق على الآية لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا والآيتين التاليتين لها 421 تعليق على الآية يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً والآيات الثلاث التالية لها 424 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى ... إلخ والآيتين التاليتين لها 426 تعليق على الآية إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ ... إلخ والتي بعدها 428 مدى التنويه القرآني بالإنسان 430 دلالات ذكر المؤمنين والمؤمنات والمشركين والمشركات والمنافقين والمنافقات 431

الجزء الثامن السور المفسّرة في هذا الجزء «1» 1- النساء. 2- محمد. 3- الطلاق. 4- البينة. 5- النور. 6- المنافقون. 7- المجادلة. 8- الحجرات. 9- التحريم. 10- التغابن. 11- الصفّ 12- الفتح

_ (1) النظر الفهرست المفصل في آخر الجزء.

سورة النساء

سورة النساء في هذه السورة فصول عديدة ومتنوعة. تحتوي أحكاما وتشريعات وتوكيدات ووصايا في اليتامى وحقوقهم. وحلال الأنكحة ومحرماتها. والمواريث والعلاقة الزوجية وحق كل من الزوجين وحماية المرأة وتوطيد شخصيتها وحقوقها. وواجبات الناس في احترام حقوق بعضهم. ورعاية حقوق الضعفاء ومعاونتهم. والتيمم وأحكام الجنابة والنهي عن الصلاة في حالة السكر. وتوطيد سلطان النبي وأولي الأمر من المسلمين. وتوطيد أحكام القرآن والسنة النبوية لتكون أصولا في مختلف الشؤون ومرجعا. وتوطيد صلاحية الاستنباط والاجتهاد في الفروع والأشكال وما لا يكون فيه نصوص صريحة من قرآن وسنة لذي العلم والخبرة والأمر. وواجب الحذر والاستعداد للعدو. والنضال والجهاد ضد الظلم وفي سبيل المستضعفين. وواجب تضامن المسلمين وتكتلهم مع بعضهم وعدم قبول دعوى الإسلام بدون ذلك، وتنظيم العلاقات السياسية بين المسلمين وغير المسلمين من حياديين ومعاهدين ومحاربين. وأحكام القتل الخطأ والعمد. ووجوب قبول ظواهر الناس وعدم اتخاذ الجهاد وسيلة للغنائم وصلاة الخوف. وواجبات القاضي وآداب القضاء وتحري الحق والعدل بقطع النظر عن أي اعتبار. وحملات شديدة على المنافقين ومواقفهم. وتوطيد الإيمان بجميع الرسل والأنبياء. وبيان حكمة الله في إرسال الرسل. وبيان حقيقة أمر عيسى وردود على اليهود والنصارى في شأنه. وهتاف بالناس جميعا من كتابيين ومشركين للاستجابة إلى دعوة الحق والسير في طريق الله القويم. وقد تخلل فصول السورة صور كثيرة عن السيرة النبوية. ومواعظ ومعالجات وتلقينات بليغة مستمرة المدى.

ومضامين فصول السورة وسياقها يلهم أن منها ما نزل مبكرا ومنها ما نزل متأخرا. ومنها ما له ارتباط ببعضه ظرفا أو موضوعا. ومنها المستقل. ومنها ما نزل قبل سور أو فصول من سور متقدمة عليها في الترتيب. ومنها ما نزل بعد سور أو فصول من سور متأخرة عنها. وكل هذا يسوغ القول إن هذه السورة ألّفت تأليفا بعد استكمال نزول فصولها. وأكثر روايات ترتيب النزول تجعل هذه السورة سادسة السور المدنية نزولا ومنها ما يجعلها ثامنة «1» . ولعلّ ذلك بسبب تبكير مطلعها الذي يبرز عليه طابع المطلع. ولقد جاءت آخر آية منها في أحكام إرث الكلالة لا يمكن تعليل وضعها في مكانها إلّا بكونها نزلت بعد تأليف فصول السورة فألحقت بها لأنها متصلة بأحكام المواريث التي احتوتها السورة. وفي ذلك عندنا دليل حاسم على أن تأليف السورة قد تمّ في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وإرشاده وفي زمن متأخر من العهد المدني. والله سبحانه وتعالى أعلم. هذا ولقد أورد السيوطي في الإتقان حديثا أخرجه الحاكم في مستدركه والبيهقي في الدلائل والبزار في مسنده عن عبد الله بن مسعود قال «ما كان يا أيها الذين آمنوا أنزل بالمدينة وما كان يا أيها الناس ففي مكة» وأخرج الإمام أبو عبيد هذا الحديث في الفضائل مرسلا. وفي الآية الأولى لهذه السورة التي لا خلاف في مدنيتها نقض ما لهذا القول على إطلاقه كما هو ظاهر. وقد لا حظ ذلك غير واحد من العلماء ونبهوا عليه على ما جاء في الإتقان أيضا «2» . وليست هذه الآية هي الوحيدة المحقق مدنيتها والتي فيها خطاب يا أيها الناس. ففي بعض السور المدنية مثل ذلك أيضا. والله تعالى أعلم.

_ (1) انظر كتابنا سيرة الرسول ج 2 ص 9 والإتقان ج 1 ص 10- 12. (2) الإتقان ج 1 ص 18.

[سورة النساء (4) : آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النساء (4) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) . (1) تساءلون به: تتساءلون به، وقرئت بتشديد السين والمعنى واحد. وهو الذي تناشدون وتستحلفون به بعضكم حيث كان من عادة العرب أن يقولوا لأجل الاطمئنان باليقين نشدتك بالله أو سألتك بالله. (2) الأرحام: هي على قول الجمهور معطوفة على محل (به) أي اتقوا الأرحام التي تناشدون وتستحلفون بها بعضكم حيث كان من عادة العرب أن يقولوا لبعضهم نشدتك بالرحم أو سألتك بالرحم إذا أرادوا أن يطلبوا مطلبا أو يستحلفوا أحدا. وقد يرد أن تكون معطوفة على الله بمعنى واتقوا الأرحام وقطيعتها. تعليق على الآية الأولى من السورة عبارة الآية واضحة. والخطاب فيها موجّه للناس يدعون فيه إلى تقوى الله الذي يناشد بعضهم به بعضا، وتقوى الأرحام بمعنى حفظها وعدم قطيعتها وهي التي يناشد كذلك بعضهم بعضا بحقها. وينبهون فيه إلى أن الله رقيب عليهم محص لجميع أعمالهم. وهو الذي خلقهم من نفس واحدة ثم خلق منها زوجها وأخرج منها الكثير من الرجال والنساء. ولم يرو المفسرون مناسبة خاصة لنزول الآية. والمتبادر أنها جعلت فاتحة السورة كبراعة استهلال لما احتوته من الأحكام والتشريعات المتعددة في حقوق النساء وذوي الأرحام، فلكل من هؤلاء حقوق يجب على الناس تقوى الله ومراقبته فيها وأداؤها إلى أهلها. وعلى ذلك يقوم المجتمع البشري قويا مطمئنا. ويتوطد التعاطف والتعاون بين أفراده الذين هم أخوة من أب واحد وأم واحدة. ومع أن

المتبادر من روح الآية أن الخطاب موجه في الدرجة الأولى إلى المسلمين الذين يؤمنون بالقرآن ويتلقون ما جاء فيه نبراسا وهدى لهم وهم أهل الدعوة إلى تقوى الله فإن استعمال لفظ النَّاسُ لا يخلو من معنى جليل في صدد الدعوة إلى تقوى الله في الحقوق التي هي قدر مشترك بين جميع الناس الذين يتألف منهم المجتمع البشري. وبهذا كله تبدو الآية رائعة في أسلوبها ومداها. ويلحظ أن في الآية تكرارا لما ورد في سور سابقة في النزول من الإشارة إلى وحدة النفس الإنسانية وخلق زوجها منها. حيث يمكن أن يلمح من هذا التكرار قصد توكيد التنويه الرباني بشأن بني آدم ومركزهم بين خلق الله والتذكير بما يوجبه عليهم هذا التوكيد من تقوى الله تعالى على اعتبار أنهم هم المكلفون بذلك على ما شرحناه في آخر سورة الأحزاب السابقة لهذه السورة في النزول. وهناك أحاديث نبوية عديدة في تعظيم حرمة الأرحام والنهي عن قطيعتها حيث يبدو من ذلك حكمة ما جاء في الآية من مناشدة الناس بالأرحام التي يتساءلون بها ووجوب تقوى الله فيها. من ذلك حديث رواه الشيخان عن أبي أيوب جاء فيه «إنّ رجلا قال يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة فقال تعبد الله لا تشرك به شيئا. وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم» «1» وحديث رواه الشيخان وأبو داود عن أبي هريرة قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم من سرّه أن يبسط الله رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه» «2» . وحديث رواه البخاري وأبو داود والترمذي جاء فيه «ليس الواصل بالمكافىء. ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها» «3» وحديث رواه البخاري والترمذي عن أبي هريرة جاء فيه «قال النبي صلى الله عليه وسلم إنّ الرحم شجنة من الرحمن فقال الله من وصلك وصلته ومن قطعك قطعته» «4» وحديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يدخل الجنة قاطع رحم» «5» .

_ (1) التاج ج 5 ص 8- 10، وهناك أحاديث أخرى فاكتفينا بما تقدم. (2) التاج ج 5 ص 8- 10، وهناك أحاديث أخرى فاكتفينا بما تقدم. (3) التاج ج 5 ص 8- 10، وهناك أحاديث أخرى فاكتفينا بما تقدم. (4) التاج ج 5 ص 8- 10، وهناك أحاديث أخرى فاكتفينا بما تقدم. (5) التاج ج 5 ص 8- 10، وهناك أحاديث أخرى فاكتفينا بما تقدم.

[سورة النساء (4) : آية 2]

[سورة النساء (4) : آية 2] وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) . (1) حوبا: إثما أو ذنبا. وعبارة الآية واضحة. وقد احتوت أمرا ربانيا بوجوب أداء أموال اليتامى وحقوقهم وعدم أكلها وإساءة استعمالها وتبديل الخبيث بالطيب منها. وبيانا لما في ذلك من ذنب عظيم عند الله. تعليق على الآية وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ إلخ وقد روى بعض المفسرين «1» أن الآية نزلت في يتيم بلغ رشده فامتنع عمه ووصيه عن أداء أمواله إليه فشكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآية فاستجاب العمّ واستعاذ من الحوب الكبير. والرواية لم ترد في الصحاح بل في كتب التفسير القديمة كالطبري. ومع احتمال أن يكون قد حدث شيء مما ذكرته فإن نصف الآية المطلق واحتواءها حالات أخرى غير حالة الامتناع عن دفع مال اليتيم وورود آيات أخرى بعدها في صدد التشديد على حقّ اليتيم يجعلنا نرجح أنها لم تنزل لحدتها بسبب الحادث المروي وأنها استمرار لما قبلها بالدعوة إلى تقوى الله في أموال اليتيم ومتصلة بما بعدها في الوقت نفسه. ويدل نصّها على أن بعض الأوصياء كانوا يتحايلون على أموال الأيتام الذين تحت وصايتهم فيتصرفون فيها لمصالحهم ويجعلون الرديء من ماشية وغلة ونقود محل الطيب فاقتضت حكمة التنزيل أن تكون الآية مطلقة العبارة شاملة لمختلف الحالات.

_ (1) انظر تفسير الخازن للآية.

[سورة النساء (4) : آية 3]

وننبه على أن القرآن المكي قد أمر مرارا بمراقبة الله في أموال اليتامى وحقوقهم. ولا بد من أن يكون هذا بسبب استشراء عادة البغي عليها والإساءة فيها فلما توطد سلطان الإسلام في المدينة اقتضت حكمة التنزيل أن يعار الأمر اهتماما تشريعيا. وقد بدأ ذلك فعلا في الآية [220] من سورة البقرة. وورد في هذه السورة آيات عديدة بسبيل ذلك هذه أولاها. وهكذا تتسق المبادئ القرآنية في المكي والمدني من القرآن وتتطور في المدني وفقا لتطور حالة الإسلام فتغدو تشريعا بعد أن كانت تنبيها ووعظا وإنذارا ولقد علقنا على هذا الموضوع وأوردنا ما روي فيه من أحاديث في سياق سورة الفجر فنكتفي بهذا التنبيه. [سورة النساء (4) : آية 3] وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3) . (1) ألا تقسطوا: أن لا تعدلوا. (2) مثنى وثلاث ورباع: معدولة عن اثنتين اثنتين، وثلاث ثلاث، وأربع أربع. (3) ذلك أدنى ألا تعولوا: فسر بعضهم أَلَّا تَعُولُوا بأن لا يكثر عيالكم وتفقروا. وفسرها بعضهم بأن (هذا أحرى أن يمنعكم من الجور والجنف) والكلمة لغويا تتحمل المعنيين. غير أن المقام يجعل المعنى الثاني هو الأوجه. وهو ما أخذنا به. في الآية تنبيه للمسلمين على أنهم في حال احتمال خوفهم من عدم العدل مع البنات واليتيمات فلهم في غيرهن متسع فليتزوجوا بما يطيب لهم من غيرهن بواحدة أو اثنتين أو ثلاث أو أربع ثم تنبيه آخر في مقام الاستطراد على أنهم إذا خافوا من احتمال عدم العدل الواجب مع أكثر من زوجة واحدة فعليهم أن يكتفوا

تعليق على الآية وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع إلخ وتمحيص مسألة تعدد الزوجات

بواحدة أو بما في ملك يمينهم من الإماء فقط. فهذا هو أحرى أن يجنبهم إثم الجور والجنف. تعليق على الآية وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ إلخ وتمحيص مسألة تعدد الزوجات لم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآية. ويتبادر لنا أنها جاءت معقبة على الآية السابقة لها التي تنهى عن أكل أموال اليتامى وهادفة إلى حماية البنات اليتيمات. أما بقية الآية فقد احتوت استطرادا متسقا مع مداها. ولقد روى البخاري ومسلم عن عروة قال: «سألت عائشة عن قول الله تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فقالت: يا ابن أختي، هذه اليتيمة تكون في حجر وليّها تشركه في ماله ويعجبه جمالها ومالها فيريد أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فنهوا عن ذلك إلّا أن يبلغوا لهن أعلى سنّتهن في الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن» «1» . وقد روى الطبري حديثا آخر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة جاء فيه «أنّ الآية الأولى نزلت في اليتيمة تكون عند الرجل وهي ذات مال فلعله ينكحها لمالها وهي لا تعجبه ثم يضربها ويسيء صحبتها فنهوا عن ذلك» وتبدو حكمة النهي في هذا الحديث أظهر مما هي في الحديث الأول كما هو واضح. فإن احتمال الخوف من الجور أحرى أن يكون من ناحية زواج الوصي على اليتيمة غير الجميلة طمعا في مالها فقط. والمتبادر أن هذه الحالة تكون في ذوي القربى حيث تكون اليتيمة ذات المال في حجر أحد أقاربها فيضنّ بمالها أن يأخذه الغريب فيتزوجها أو يزوجها لابنه ولا يكون لها من جمالها عاصم فتتعرض للأذى. وهذا المعنى ذكر بصراحة أكثر في آية أخرى من هذه السورة وهي: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ

_ (1) التاج ج 4 ص 79- 80. [.....]

يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (27) . هذا في صدد الفقرة الأولى من الآية. وواضح من روحها أن الأمر الوارد في الفقرة الثانية أي فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ هو في حالة الخوف من عدم العدل والإنصاف في حالة التزوج باليتيمات. وأنه لا حرج من التزوج بهن في حالة انتفاء هذا الخوف. والمتبادر أن الفقرة الثالثة التي جاءت بعدها أي فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا قد جاءت في مقام الاستدراك في حالة الخوف من عدم العدل بين الزوجات العديدات اللاتي جعلت الفقرة الثانية فيهن مندوحة عن عدم الإقساط باليتيمات، وفي الجملة الأخيرة من الفقرة تعليل لذلك حيث يكون الاقتصار على زوجة واحدة أو ملك اليمين من الإماء مانعا للجور وعدم العدل. وهكذا تكون الآية قد هدفت إلى حماية اليتيمات ثم إلى منع الجور عن الزوجات في حالة التعدد. وهذا وذاك من روائع الأهداف القرآنية التي تكررت بأساليب متعددة مرّ بعضها في سياق أحكام الطلاق التي تضمنتها آيات البقرة [221- 242] على ما شرحناه في مكانها، وفي هذه السورة فصول أخرى من هذا الباب أيضا. ومع أن صيغة الفقرة الثانية في إباحة تعدد الزوجات في عصمة الرجل ليست تشريعية في التحديد وإنما هي بسبيل المخرج من خوف عدم الإقساط في اليتيمات فإن معظم العلماء اعتبروها تحديدا لعدد الزوجات اللاتي يسوغ للرجل جمعهن في عصمته وهو أربع زوجات حيث رووا أن الرجل كان قبلها ومنذ ما قبل الإسلام يجمع في عصمته أكثر من أربع زوجات ويصل العدد أحيانا إلى عشر. ومن ذلك أنه كان تحت النبي صلى الله عليه وسلم حينما نزلت الآية عشر نساء. وهناك أحاديث نبوية ساعدت على هذا الاعتبار. منها حديث أخرجه الإمام أحمد جاء فيه «إن غيلان بن سلمة

الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم اختر منهن أربعا» «1» وحديث رواه أبو داود عن عميرة الأسدي جاء فيه «إني أسلمت وعندي ثمان نسوة فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال اختر منهن أربعا» «2» وحديث رواه الشافعي عن نوفل بن معاوية الديلي جاء فيه «أسلمت وعندي خمس نسوة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم اختر أربعا منهن أيهن شئت وفارق الأخرى» «3» ولقد قال الذين اعتبروا الآية تحديدا إن الله قد أحل للنبي أن يحتفظ بزوجاته اللاتي كن في عصمته زائدات عن الحد واستندوا في ذلك إلى آيات سورة الأحزاب [50- 52] التي مرّ تفسيرها. على أن هناك أقوالا ومذاهب مخالفة لذلك «4» حيث ذهب قائلوها إلى أن الفقرة ليست لأجل الحصر والتحديد وإنما هي للترغيب لأجل تفادي ظلم اليتيمات وحسب، وأن من السائغ أن يجمع الرجل في عصمته ما شاء أكثر من أربع. وذهبت الشيعة والظاهرية التي تأخذ ألفاظ القرآن على ظاهرها على ما ذكره ابن كثير إلى جواز جمع تسع نساء حيث اعتبروا كلمات مثنى وثلاث ورباع معدولة عن اثنين وثلاث وأربع، وجمعوا هذه الأرقام فصار الجمع تسعا. وأورد المفسر القاسمي أقوالا مطولة للرازي والشوكاني في تبرير جمع أكثر من أربع وفي كون الفقرة لا تعني التحديد، وفي إيراد أدلة على ضعف الأحاديث المروية عن غيلان وعميرة ونوفل وإبراز عللها وكون حديث الصحابي إذا صحّ لا يكون حجة على من لم يقل بحجيته، وفي أنه لم يقم دليل على كون جمع النبي لعشر نساء كان من قبيل الاختصاص. غير أن العمل المتواتر بعدم جواز جمع أكثر من أربع في عصمة الرجل من لدن العهد النبوي والخلفاء الراشدين قد عدّه أهل المذاهب السنية وعلماء الحديث

_ (1) هذه النصوص من ابن كثير، وقد وردت في كتب التفسير الأخرى انظر الطبري والطبرسي والبغوي والخازن والقاسمي. (2) انظر المصدر نفسه. (3) انظر المصدر نفسه. (4) انظر المصدر نفسه.

دليلا على ذلك وهو الحق الذي يجب الالتزام به والوقوف عنده. أما القول إنه لم يقم دليل على أن جمع النبي لعشر نساء هو من قبيل الاختصاص فهو غريب. ففي آية سورة الأحزاب [50] وبخاصة في جملة خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ من هذه الآية دليل لا يدحض على ذلك فيما هو المتبادر وعلى ما شرحناه في سياق تفسير الآيات [50- 52] من سورة الأحزاب. ومن العجيب أن يتجاهله القائلون. بل وفيها دليل على صحة مذهب جمهور أهل السنة في التحديد. ولقد قلنا في مقدمة السورة إن مضامين بعض فصولها تلهم أن بعضها نزل قبل فصول في سور متقدمة عليها في الترتيب. وآية النساء التي نحن في صددها من الأمثلة على ذلك حيث يتبادر أنها نزلت قبل آيات سورة الأحزاب المذكورة التي نزلت للاستدراك بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم. ولما كانت هذه الآية متصلة موضوعا وسياقا بما قبلها وما بعدها فقد يصح القول إن الفصل كلّه قد نزل قبل آيات الأحزاب المذكورة التي هي فصل قائم بذاته. ولو أن رواة الترتيب جعلوا سورة الأحزاب بعد هذه السورة لكان ذلك معقولا بسبب تقدم هذا الفصل على آيات سورة الأحزاب المذكورة. ولو كان هناك قرينة على أن هذا الفصل قد نزل قبل وقعتي الأحزاب وبني قريظة لكنا نرى مبررا لتقديم هذه السورة على سورة الأحزاب في الترتيب. ويبدىء بعض الأغيار ويعيدون في أمر إباحة الإسلام لتعدد الزوجات، والإنصاف يقتضي القول إن هناك ظروفا يكون فيها التعدد مفيدا من دون ريب وإن هناك ظروفا يكون فيها مضرّا من دون ريب أيضا. فهناك احتمال بأن يكون الرجل أو المجتمع في حاجة إلى كثرة النسل لأسباب اقتصادية واجتماعية عامة وخاصة. وهناك احتمال بأن تكون زوجة الرجل عاقرا أو مريضة ولا يرى من الرأفة والإنصاف ما يسوغ له طلاقها. وهناك احتمال بتفوق عدد النساء في مجتمع ما على

عدد الرجال وتعرض الزائدات للشقاء والعوز والسقوط. وهناك احتمال السفر والتغرب لمدة طويلة لأسباب متنوعة لا يكون في الإمكان اصطحاب الزوجة فيها. ففي مثل ذلك يكون التعدد سائغا أو واجبا أو مرغوبا فيه. أما عدا هذه الحالات فإن التعدد يسبب المشاكل والبغضاء والتناحر في داخل الأسرة فيجعل حياتها جحيما. وهذا عدا الاحتمال الغالب بعدم العدل بين الزوجات العديدات سواء من ناحية المعاشرة أم من ناحية النفقة أم من ناحية تفضيل بعضهن على بعض لأسباب متنوعة نفسية واجتماعية واقتصادية مما يؤدي كذلك إلى المشاكل والبغضاء والتناحر في داخل الأسرة فيجعل حياتها بدوره جحيما. وتنبيه القرآن إلى ذلك في جملة فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً يتسق مع طبيعة الأشياء والوقائع. وفي هذه السورة آيات تذكر ما يمكن أن يقع من نشوز وإهمال من الرجال لبعض زوجاتهم العديدات ومن الميل الشديد لواحدة دون أخرى منهن وتقرر استحالة العدل بينهن وتوصي ببعض الحلول والمعالجات وهي الآيات [127- 130] . وهي وإن كانت لا تمنع التعدد بالمرة بسبب تلك الضرورات الملزمة فيما هو المتبادر فإنها تلهم بوجوب الاكتفاء بواحدة في حالة عدم قيام تلك الضرورات على ما سوف يأتي شرحه بعد. وهكذا تكون الحكمة التشريعية القرآنية قد توخت إباحة التعدد لمعالجة حالة قائمة وسائغة فيها غلوّ وإفراط ولتكون بعد ذلك مخرجا للحالات السابقة الذكر والتشديد على وجوب العدل والاقتصار على زوجة واحدة في الحالات الأخرى بحيث يمكن أن يقال إن تلقين الاقتصار هو الأقوى وإن إباحة التعدد هو المخرج للحالات والضرورات الاستثنائية المتنوعة الدواعي. وفي هذا ما فيه من روعة وجلال. ولقد اقتضت حكمة الله ووعده أن يكون الدين الإسلامي والشرائع الإسلامية دين البشرية وشرائعها مما احتوت توكيده آيات عديدة منها آية سورة الفتح هذه هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) فكان من ذلك أن احتوت الشرائع الإسلامية ما احتوته في هذا الصدد كما في غيره من حلّ مختلف المشاكل والانطباق على كل حالة وظرف. الجزء الثامن من التفسير الحديث 2

ولعلّ فيما هو منتشر في الأمم والبلاد التي تجعلها شرائعها تقتصر على زوجة واحدة من الشذوذ والتحايل على هذه الشرائع ونقضها بمختلف الأشكال ومن جملة ذلك استباحة الأعراض المحرمة والسفاح والتخالل السري والعلني دليلا حاسما على حكمة التشريع الإسلامي «1» . ومما يحسن التنبيه عليه في هذا المقام أنه ليس في الآية إيجاب للتعدد وإنما فيها تحديد لإباحة مطلقة كانت واقعة وسائغة. فضلا عما احتوته من توكيد بالعدل وإيجاب للاقتصار على واحدة إذا غلب احتمال الجور. وهناك نقطة يتناولها الباحثون. وهي كيفية تنظيم التعدد. فبعضهم يرى إناطة الأمر بالقضاء الذي يكون عليه التثبت أولا من الحاجة والضرورة وثانيا من قدرة الرجل على الإنفاق والإقساط وعدم قصد المضارة. فإذا ثبت له ذلك أجاز الزواج الجديد وإلّا منعه. وبعضهم يرى أن الآيات القرآنية قد جعلت تقدير ذلك منوطا بالرجل وحذرته وأنذرته بحيث يكون مخالفا لتلقينات القرآن إذا ما أقدم على التزوج من جديد دون أن يكون متيقنا من استطاعته على الإنفاق وعلى الإقساط والعدل. ونحن إذ نذكر أن المسلمين كانوا يرفعون مشاكلهم في الحياة الزوجية من نكاح وطلاق ورضاع وحضانة وشقاق ومضارة إلخ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى خلفائه الراشدين من بعده فيقضون فيها في نطاق كتاب الله وسنة رسوله ساغ أن يقال إن أولي الحلّ والعقد من المسلمين وأولياء أمورهم إذا رأوا أن يكلوا أمر التثبت من قدرة الرجل على التعدد وحاجته إليه إلى القضاء وإناطة ذلك به فيكون ذلك صحيحا. وليس في الكتاب والسنة ما يمنعه، وقد أخذت بعض الحكومات الإسلامية تسير عليه «2» .

_ (1) انظر تفسير الآية في المنار حيث ساق الإمام رشيد رضا له وللإمام محمد عبده من الأقوال والتعليلات ما فيه الحجة المقنعة التي لا يماري فيها منصف وعاقل. وهي في جملتها متسقة مع ما قررناه. (2) ممن عرفنا منها الحكومة التونسية.

على أن هناك أسلوبا آخر مستلهما من تلقينات القرآن قد يسدّ الثغرة أيضا. فالحالة إما أن تكون برضاء الزوجة القديمة وعلم من الزوجة الجديدة بكون الزوج متزوجا أو لا تكون القديمة راضية أو الجديدة عالمة. فإن كانت الأولى راضية والجديدة عالمة لا يكون إشكال. وكل ما في الأمر وجوب التزام الزوج العدل وعدم الميل الشديد حسب تلقينات كتاب الله وسنة رسوله. أمّا إذا لم تكن القديمة راضية ورأت في ما يريده زوجها أن يقدم عليه ضررا عليها وتحميلا لنفسه ما لا طاقة لها به فيكون الموقف موقف شقاق ويصبح لها الحقّ في رفع أمرها إلى الحاكم ليحل ذلك وفقا للآية [35] من هذه السورة وفي نطاق ما سوف نشرحه من مداها بعد. وهذا ما تستطيع المرأة الجديدة أن تفعله أيضا إذا لم تكن عالمة بزواجه وكان قد غرر بها. والله تعالى أعلم. ولقد قال بعض المفسرين عزوا إلى بعض التابعين «1» : إن تَعُولُوا في الآية من (عال) بمعنى صار فقيرا وإن معنى الجملة (لئلا تفقروا من كثرة الأولاد والعيال) ولقد وردت كلمة عائِلًا في سورة الضحى بمعنى فقير وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى ووردت كلمة عَيْلَةً بمعنى الفقر في سورة التوبة وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ... غير أن جمهور المفسرين «2» على أنها بمعنى (لئلا تجوروا ولا تميلوا) وإن الكلمة من (عال) بمعنى جار أو مال. وهذا مما هو وارد في معاجم اللغة وكتبها. ونقد بعضهم «3» القول الأول لغويا وصرفيا. وروح الآية ومضمونها يلهمان وجاهة تأويلها بمعنى الجور والميل أكثر. ويمكن أن يقال أيضا في توجيه هذا التأويل إنه لو كان القصد تفادي الفقر بسبب كثرة العيال والنفقة عليهم لما أبيح استفراش الإماء بدون قيد وشرط في نفس الآية كبديلات عن الزوجات. فهنّ في هذا سواء والحرائر في الطبيعة الجنسية.

_ (1) انظر تفسير الطبري. (2) انظر أيضا الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والزمخشري والطبرسي. (3) انظر الطبرسي والخازن والزمخشري.

تعليق على جملة أو ما ملكت أيمانكم في الآية الثالثة

تعليق على جملة أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ في الآية الثالثة وتعبير أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مطلق يدل كما قلنا آنفا على عدم تحديد عدد الإماء اللاتي يمكن استفراشهن في ظروف واحدة من قبل سيدهن. وهذا إقرار لعادة كانت جارية وليس إنشاء تشريعيا كما هو المتبادر. وروح الآية تدل على أن جعل الإماء بديلا من الزوجات فيها هو بسبب قلة الأكلاف والمشاكل التي تنجم عن الزواج بالحرائر واحدة أو أكثر وهذا المعنى واضح أكثر في آية أخرى من هذه السورة وهي وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ [25] . والجمهور على أن ما أبيح للمسلم الحرّ من استفراش ما يملك من إماء بدون تحديد غير مؤثر في حقه في جمع أربع زوجات في عصمته في ذات الوقت أيضا. والمتبادر أن الشقاق بين الزوجات والجور عليهن إنما كان واردا بالنسبة للحرائر وحسب. وبهذا يزول ما يمكن أن يقع في الوهم من التناقض. وإطلاق استفراش الإماء الذي قد يبدو الآن عجيبا ليس هو عجيبا بالنسبة للزمن الذي نزلت فيه الآية. وقد جعل وسيلة لتفادي الظلم أولا. وهو وسيلة من وسائل تحرير الإماء في الإسلام ثانيا من حيث أن الأمة التي تلد لسيدها تتحرر حال وفاته ولا يصح عليها بيع ولا هبة في حياته وتسمى بأم ولد تمييزا لها عن غيرها «1» . هذا بالإضافة إلى ما هيأه القرآن من الوسائل التي تجعل الرقّ من أساسه آئلا للزوال بالنسبة للأزمان التالية لزمن نزول الآية على ما سوف نزيده شرحا في مناسبات آتية. ولقد شرحنا الشروط التي لا بدّ من توفرها ليكون استفراش الإماء سائغا من

_ (1) هناك حديث رواه ابن ماجه والإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه «أيما امرأة ولدت من سيدها فهي معتقة عن دبر منه» أي بعد وفاته ولا يصح عليها في حياته بناء على ذلك بيع ولا هبة. التاج ج 2 ص 250.

[سورة النساء (4) : آية 4]

وجهة نظر الشريعة الإسلامية في سياق تفسير الآيات الأولى من سورة (المؤمنون) فلا نرى ضرورة للإعادة. [سورة النساء (4) : آية 4] وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4) . (1) صدقاتهن: مهورهن والصداق هو المهر. (2) نحلة: أمرا واجبا أو فريضة واجبة أو عطاء واجبا لا بد منه. عبارة الآية واضحة. ولم يرو المفسرون رواية خاصة في نزولها. والمتبادر أنها متصلة بموضوع الآية السابقة اتصال استطراد. فعلى الذين أبيح لهم نكاح ما يطيب لهم من الزوجات في نطاق التحديد الذي انطوى في الآية السابقة أن يدفعوا لزوجاتهم المهور المتفق عليها كعطية واجبة ولا ينقصوا منها شيئا بدون موافقتهن ورضائهن. فإذا تنازلن لهم عن شيء منها بطيب نفس ورضاء فهو لهم سائغ حلال. وهدف حماية حق الزوجات في الآية بارز أيضا مثله في الآية السابقة. ولقد روى الطبري عن بعض المؤولين أن الآية هدفت إلى منع عادة كانت جارية وهي تبادل الزواج بدون مهر فيزوج الرجل أخته أو ابنته لرجل ويتزوج أخت الرجل أو ابنته مقابل ذلك بدون مهر. وأوجبت أداء مهر الزوجة لها حين البناء عليها. وهذا وارد ووجيه. وفيه حماية للمرأة وعدم إضاعة حقها في مهرها لأي سبب. وهذه العادة كانت تسمى الشغار. وقد رويت أحاديث نبوية في ذلك منها حديث رواه مسلم والترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا شغار في الإسلام» «1» . وحديث رواه الخمسة عن ابن عمر جاء فيه «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار. والشغار أن يزوّج الرجل ابنته على أن يزوّجه الآخر ابنته ليس بينهما

_ (1) التاج ج 2 ص 305.

[سورة النساء (4) : آية 5]

صداق» «1» وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة قال «الشغار أن يقول الرجل للرجل زوّجني ابنتك وأزوّجك ابنتي أو زوّجني أختك وأزوّجك أختي» «2» . والمتبادر أن يكون تزويج رجل ابنته لابن رجل آخر مقابل تزويج هذا ابنته لابن ذلك الرجل بدون مهر ينسحب عليه ذلك المنع، والله تعالى أعلم. [سورة النساء (4) : آية 5] وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) . (1) السفهاء: أوجه تأويلات الكلمة أنهم ضعفاء العقل والتمييز صغارا كانوا أم كبارا. (2) التي جعل الله لكم قياما: التي جعلها الله قوام حياتكم ومعيشتكم. (3) ارزقوهم فيها: أجروا عليهم معيشتهم منها. تعليق على الآية وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً إلخ عبارة الآية أيضا واضحة. ولم نطلع على رواية خاصة في نزولها. ويتبادر لنا أنها استمرار استطرادي للسياق السابق الذي احتوى أوامر ونواهي تناولت المعاملات والحقوق المالية والشخصية. وقد نهت المسلمين عن وضع أموالهم في أيدي ضعفاء العقل والتمييز. ونبهتهم إلى أن المال قوام الحياة ووسيلة المعاش فيجب عدم التفريط فيه وإضاعته بتصرف السفهاء. وهذا مظهر من مظاهر اتساق تعاليم القرآن مع واقع الحياة الإنسانية وعنايتها وتوجيهاتها في الشؤون الاقتصادية والمعاشية. وقد نبهت الآية إلى وجوب الإنفاق على السفهاء ما هم في حاجة إليه من

_ (1) التاج ج 2 ص 305. (2) التاج ج 2 ص 305.

طعام وكساء ووجوب التصرف معهم بالحسنى. وهذا من مظاهر عناية القرآن بهذه الطبقة. وروح الآية وتنبيهاتها تدل على أن السفهاء المقصودين في الآية هم الذين يكونون من ذوي رحم وقربى أصحاب الأموال الذين تجب عليهم نفقتهم. ولقد أورد المفسرون «1» أقوالا عديدة في المقصود بكلمة السفهاء معزوة إلى ابن عباس ومجاهد ومقاتل وغيرهم من الصحابة والتابعين منها أنهم الصبيان والنساء، ومنها أنهم النساء خاصة، ومنها أنهم كل ضعيف في عقله وتمييزه قاصرا كان أم بالغا وذكرا كان أو أنثى. ولقد أورد القائلون بأنهم النساء حديثا نبويا لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة جاء فيه «أنّ النساء سفهاء إلّا التي أطاعت قيّمها» مع أن هذا الحديث لو صحّ لا يصحّ أن يساق كدليل على تأويل الكلمة بالنساء فهو يصف المتزوجات اللاتي لا يطعن قيّمهن بالسفه لا جميع النساء، وهؤلاء ليسوا إلّا قلة ضئيلة. وقد علقنا على هذا بما فيه الكفاية في سياق تفسير الآيات [8- 14] من سورة البقرة والآية [20] من سورة الروم فلا حاجة للإعادة والزيادة. إلّا أن نقول إن نصّ الآية وروحها يتسقان مع القول الأخير الذي يقول إن المقصود من الكلمة كل ضعيف في عقله وتمييزه. ومن العجيب أن الذين يقولون إنهم النساء خاصة ينسون أن في الآية السابقة لهذه الآية مباشرة صراحة بوجوب إعطاء الزوجة مهرها تاما دون ابتزاز منه وبتقرير حقها في التصرف فيه حيث ينقض هذا ذلك القول الذي يراد منه عدم قدرة المرأة على حسن التصرف والتدبير. ويأتي بعد قليل آيات تقرر حقّ المرأة في الإرث وأهليتها في الدين والاستدانة والتملك والوصية والتصرف في كل ما اكتسبت. ومن جملة ذلك آية تنهى الزوج عن أخذ شيء مما أعطاه لزوجته ولو كان قنطارا مما فيه ضمنا إقرار بإعطاء الزوجات المال الكثير. وكل هذا يزيد في أسباب العجب ويكون فيه دعم حاسم.

_ (1) انظر تفسير الخازن وابن كثير والبغوي والطبرسي. [.....]

[سورة النساء (4) : آية 6]

والآية وإن كانت موجهة إلى أصحاب الأموال لتدبير أمورهم بأنفسهم وتحذيرهم من تمكين ضعفاء العقل والإدراك من أولادهم ونسائهم منها تفاديا من الإساءة في استعمالها فإنها تنطوي على ما يمكن أن تلهمه روحها على مبدإ تشريعي وهو عدم تمكين ضعفاء العقل والتمييز من أموالهم أنفسهم لغلبة الظن بتفريطهم وإساءة تصرفهم بحيث يجب الحجر عليهم من قبل ولي الأمر وإقامة أوصياء يدبرون لهم أموالهم ويقومون بالإنفاق عليهم بالمعروف والحسنى. وقد قال المفسر القاسمي إن العلماء قد استدلوا بهذه الآية على وجوب الحجر على السفيه البالغ سواء أطرأ عليه السفه أم كان من حين البلوغ. [سورة النساء (4) : آية 6] وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) . (1) حتى إذا بلغوا النكاح: الجملة بمعنى حتى إذا بلغوا سنّ الاحتلام والقدرة على المعاشرة الجنسية. (2) وبدارا أن يكبروا: استعجالا لأكلها قبل أن يكبروا وتبقى لهم أموالهم. الخطاب في هذه الآية أيضا موجّه للمسلمين كسابقاتها. وقد تضمنت: (1) أمرا باختبار اليتامى حينما يبلغون سنّ الحلم ودفع أموالهم إليهم إذا ثبت لهم رشدهم وتمييزهم. (2) نهيا عن أكل أموالهم بحجة تدبير أمور أصحابها أكلا فيه إسراف وفيه استعجال قبل أن يكبروا. (3) وتحديدا للموقف الذي يجب أن يقفوه من مال الأيتام الذي في عهدتهم. وهو أن يعفّ الغني ولا يمدّ يده إليه. أما الفقير فله أن يأخذ أجرا

تعليق على الآية وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح ... إلخ

بالمعروف أي بدون مبالغة فيما يأخذ. (4) أمرا بالإشهاد حينما يدفع الوصيّ لليتيم أمواله. تعليق على الآية وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ ... إلخ روى الشيخان عن عائشة قالت «إن الآية وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ نزلت في وليّ اليتيم إذا كان فقيرا أن يأكل منه مكان قيامه عليه بمعروف» «1» وليس في الحديث إشارة إلى مناسبة معيّنة، وإنما فيه توضيح لمدى الآية. وهو ظاهر من نصّها. وهناك رواية «2» تذكر أنها نزلت في مناسبة استفتاء شخص من النبي صلى الله عليه وسلم عما يحقّ له من مال ابن أخيه اليتيم الذي تحت يده ومتى يدفعه إليه. والرواية وإن كانت لم ترد في الصحاح فإنها محتملة الصحة. ولكن المتبادر من روح الآية ونصّها أنها بسبيل تشريع أساسي وعام في صدد أموال اليتامى في حال صغرهم وفي حال بلوغهم سنّ الحلم والرشد. وهي من هذه الناحية متصلة نوعا ما بالآيات السابقة سياقا وموضوعا. وقد يكون استفتاء العمّ قد جاء وسيلة إلى ذلك. ولقد احتوت الآية وسيلتين متلازمتين للاستيثاق من قابلية اليتيم أولاهما بلوغه سنّ النكاح أي سنّ الاحتلام والقدرة الجنسية، وثانيتهما ثبوت رشده في التصرف. أي أنه لا يكفي لدفع مال اليتيم إليه أن يبلغ سنّ الحلم بل ينبغي أن يثبت رشده أيضا. وهذا يستتبع القول فيما يتبادر لنا إنه إذا لم يثبت رشده بعد بلوغه سنّ الحلم يدخل في حكم الآية السابقة فيعتبر سفيها ويظل محجورا عليه ويدبر ماله من قبل الولي أو الوصي وينفق عليه منه إلى أن يثبت رشده. والمتبادر من روح الآية والرواية ثم من روح الآيات المكية والمدنية عامة

_ (1) التاج ج 4 ص 80. (2) انظر تفسير الخازن.

التي نزلت في التشديد على حقّ اليتيم وحفظ ماله أن أولياء اليتامى كانوا من عصبتهم وأقاربهم الأدنين كالأخوة الكبار والأعمام وأن أموال اليتامى التي كانت على الأعمّ الأغلب من المواشي والزروع والثمار كانت مختلطة بأموالهم. ولذلك كانوا محل تهمة أكل أموالهم وتبديل الطيب منها بالخبيث. ومن هنا تبدو حكمة التشديد القرآني المتوالي. لأن هذا المجال الغريب ولأن الغريب لا يجرؤ على ما يجرؤ عليه عصبة اليتيم وأقاربه الأدنون. وحديث الشيخين عن عائشة الذي أوردناه قبل يفيد هذا أن ولي اليتيم كان يرى لنفسه حقّا في أخذ شيء من مال اليتيم القاصر مقابل النظر عليه وتدبيره فأباحت الآية هذا للفقير مع شرط الأكل بالمعروف أي عدم تجاوز الحد المتعارف على أنه حقّ معقول وسائغ. وأمرت الغني بالتعفف لأنه ليس في حاجة. فكان ذلك متسقا مع ما تكرر من مظاهر عناية حكمة التنزيل ورعايتها لليتيم. وفيه في الوقت نفسه دليل على أن أولياء اليتامى كانوا في العادة من ذوي عصبة اليتامى وأقربائهم الأدنين. ولقد روى المفسرون بعض الأحاديث النبوية في صدد ما يجوز للولي غير الغني أكله من مال اليتيم من ذلك حديث رواه الإمام أحمد جاء فيه «أنّ رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لي مال ولي يتيم فقال: كل من مال يتيمك غير مسرف ولا متأثل مالا ولا أن تقي مالك- أو قال- تفدي مالك بماله» «1» مما فيه توضيح تطبيقي للآية واتساق مع هدفها. ولقد روى المفسرون أقوالا عن بعض الصحابة والتابعين في صدد ما إذا كان ما يأخذه الفقير من مال اليتيم قرضا يجب رده إذا أيسر أم لا. فمنهم من قال إنه قرض، ومنهم من قال إنه مقابل الجهد والنظر. والقول الثاني هو الأوجه على

_ (1) انظر تفسير ابن كثير. وقد روى هذا المفسر أحاديث أخرى من باب هذا الحديث فاكتفينا بما أوردناه. انظر أيضا تفسير الخازن والزمخشري والطبري والطبرسي. ومعنى غير متأثل غير مدخر ومكتنز.

ما هو المتبادر والأكثر اتساقا مع روح الآية والأحاديث وبخاصة مع صراحة الحديث المروي عن عائشة رضي الله عنها. والخطاب في الآية وإن كان موجها للأولياء فإن الذي يتبادر لنا أن هذا لا يعني أنه ليس لولي الأمر والحكام حق الإشراف على تطبيق أحكامها سواء أفي اختيار اليتامى والتثبت من بلوغهم الرشد بعد الحلم أم في مراقبة الأولياء ومنع إساءة تصرفهم في أموال اليتامى التي تحت أيديهم بأي وجه. فإن هذا مما يحقق الهدف القرآني. ولقد تعددت الأقوال في سنّ الرشد ودلائله وكيفية التثبت منه. ولم نطلع على حديث نبوي صحيح في ذلك. وقد عزا بعض المفسرين إلى ابن عباس وسعيد ابن جبير وغيرهم أن دلائل ذلك صلاح الدين وحفظ المال، وقال بعضهم إن من ذلك اجتناب الفواحش والتبذير ومع ما في هذه الأقوال من وجاهة فإن عدم تفصيل ذلك في القرآن والسنة الصحيحة قد يعني أنه ترك للمسلمين والحكام حسب الأزمنة والأمكنة والأشخاص. ولقد قال بعضهم إن سنّ الرشد هي السابعة عشرة أو الثامنة عشرة. وروح الآية يفيد أن القصد من جملة فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً هو ثبوت رشدهم بعد بلوغهم الحلم. وهذا منوط بالتمييز والإدراك والأخلاق وليس بالسنّ. فإذا بلغ اليتيم الحلم ولم يثبت رشده بذلك يظل محجورا عليه كما قلنا قبل. وهذا المتفق عليه عند الجمهور. وهناك نقطة يحسن الإشارة إليها وهي تأخر ظهور القدرة الجنسية في اليتيم. وهو ما عبرت عنه الآية في جملة حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ لم نطلع على حديث نبوي وراشدي في ذلك. ولم نر أحدا من المفسرين فيما اطلعنا عليه تعرض لهذه النقطة والاحتلام في البلاد الحارة قد يكون قبل الخامسة عشرة وقد يتأخر في غيرها إلى بعدها. وقد يتأخر لسبب جسماني أو صحي أيضا. ولقد روى ابن كثير حديثا وصفه بالصحيح جاء فيه «رفع القلم عن ثلاث الصبي حتى يحتلم أو يستكمل الخمس عشرة ... » وروى الخمسة عن ابن عمر حديثا جاء فيه «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم

[سورة النساء (4) : الآيات 7 إلى 10]

عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه» «1» . والآية قد هدفت إلى إيجاب التثبت من بلوغ اليتيم سنّ الرجولة والرشد معا. وقد يمكن الاستئناس بالحديثين على أن سنّ الرجولة يمكن أن يكون في الخامسة عشرة ولو لم يكن احتلام بحيث يسوغ القول على ضوء ذلك أن اليتيم إذا بلغ الخامسة عشرة ولم يكن قد احتلم وثبت رشده يكون قد تحققت صلاحيته للتصرّف بماله وساغ دفعه إليه. والله تعالى أعلم. [سورة النساء (4) : الآيات 7 الى 10] لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10) . (1) الأقربون وأولو القربى: يلفت النظر إلى الفرق في دلالة اللفظين حيث استعملا في موضعين متغايرين. فالأول استعمل في موضع الدلالة على الاستحقاق في الإرث حيث يفيد أنه يعني القربى القريبة التي تخول الإرث، والثاني استعمل في موضع الهبة والعطية حيث يفيد أنه يعني القربى البعيدة التي لا تخول الإرث. (2) الرجال والنساء: المتبادر من روح الآيات ونصها أن الجملة تعني الذكور والإناث البالغين والقاصرين.

_ (1) التاج ج 2 ص 244 و 245.

تعليق على الآية للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون إلخ والآيات الثلاث التالية لها

تعليق على الآية لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ إلخ والآيات الثلاث التالية لها عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت: (1) تقريرا بحق كل من الرجال والنساء في ما يتركه والدوهم وأقاربهم القريبون من إرث كنصيب مفروض من الله. (2) وحثا على منح ذوي القربى الذين لا تخولهم درجة قرابتهم الإرث والمساكين واليتامى منحا مما قسم على أصحاب الحق فيه وتطييب خاطرهم إذا ما حضروا قسمة التركة. (3) ودعوة قوية إلى تقوى الله في تنفيذ أوامره. وقد انطوت الدعوة على تذكير وتمثيل قويين: فكل امرئ يخاف على ذريته إذا مات عنها وهي ضعيفة قاصرة أن يصيبها أذى وتهضم فعليه والحالة هذه أن يتقي الله فلا يتسبب بقول أو عمل فيهما أذى وهضم لذرية ضعيفة قاصرة ولا يقول ويعمل إلّا ما فيه الحق والخير والصلاح. (4) وعودة إلى التنبيه على حقّ اليتامى بإنذار شديد لآكلي أموالهم وحقوقهم ومضيعيها بغيا وظلما وطمعا. فليعلم هؤلاء أنهم بذلك إنما يأكلون النار المحرقة وأنهم سيصلون هذه النار في الآخرة. وقد روى المفسرون رواية مختلفة في صيغها متفقة في مداها عن عكرمة وغيره مفادها أن الآية الأولى نزلت بمناسبة امرأة أنصارية مات زوجها وتركها مع يتيمة أو ثلاث يتيمات وخلّف مالا فأبى عم أو أعمام أو أبناء عمّ البنات أن يعطوهن شيئا من تركته على عادتهم قبل الإسلام في عدم توريث النساء فشكت أمرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له يا رسول الله لا تركب فرسا ولا تحمل كلا ولا تنكأ عدوا يكسب عليها ولا تكتسب فنزلت فأرسل إليهم بعدم التصرف بالتركة حتى

ينظر ما ينزل في أمرها مفصلا ثم نزلت بعدها آيات المواريث فأمر بقسمة التركة وفقا لذلك «1» . ورووا أن الآية الرابعة أي [10] نزلت في رجل من غطفان أكل مال ابن أخيه اليتيم «2» . والروايات متسقة مع مدى الآيات. وإن لم ترد في الصحاح وهذا لا يمنع احتمال صحتها على أن الذي يتبادر لنا أن الآيات منسجمة مع بعضها أولا وليست منقطعة الصلة بسابقاتها ولا حقاتها موضوعا وسياقا ثانيا. وجملة نَصِيباً مَفْرُوضاً بخاصة قرينة على صلتها بلا حقاتها التي تبين نصيب كل صاحب حقّ في الإرث بحيث يصحّ أن يقال إن هذه الآيات وما بعدها قد نزلت معا. وأن ما روته الروايتان من أحداث كانت مناسبة لنزول هذا الفصل. وقد اختلفت الأقوال التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم فيما إذا كانت الآية [8] منسوخة بآيات المواريث الواردة بعد أم محكمة «3» . وقد عزي القولان لابن عباس! والقول الثاني هو الأوجه فيما هو المتبادر وهو ما عليه الجمهور لأن هذه الآية كما يتبادر من روحها ومن الآية السابقة لها أنها في صدد الذين لا تخولهم درجة قرابتهم نصيبا في الإرث. فلا محل للقول أنها نسخت بآيات المواريث. ولقد روى المفسرون «4» عن بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم أن هذه الآية في معرض الإيعاز على المشرف على الموت بالوصية للفئات المذكورة فيها. ونصّ الآية لا يتحمل ذلك فيما نرى لأنه يقرر أمرا بعد موت صاحب المال وإن كان القول في حد ذاته لا يخلو من وجاهة متسقة مع إيجاب القرآن على المسلم الذي يحضره الموت الوصية إذا ترك خيرا أي مالا على ما جاء في الآية [180] من

_ (1) انظر تفسير الطبري والخازن. (2) انظر تفسير الخازن. (3) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن وغيرهم. (4) انظر المصدر نفسه.

سورة البقرة التي مرّ تفسيرها والتعليق عليها. ثم مع توكيد القرآن على وجوب تنفيذ وصية الميت على ما جاء في آيات تأتي بعد هذه الآيات حيث يفيد هذا أن وصية المسلم لغير ورثته بقصد صلة الرحم والبرّ مما كان مأمورا ومعمولا به ومرغوبا فيه. والمتبادر أن الذين حثت الآية على رزقهم من التركة من أولي القربى هم الذين لا تخولهم درجة قرابتهم نصيبا من التركة ويكونون فقراء بدليل جمعهم مع المساكين والمتبادر كذلك أن اليتامى الذين حثت الآية على إعطائهم هم اليتامى الفقراء بالدليل نفسه. والآية مطلقة بحيث لا تمنع أن يكون اليتامى والمساكين من الغرباء عن الميت أو أقاربه. وقد روى بعض المفسرين «1» أن الآية [9] في صدد التنبيه على أصحاب المال بعدم تبذير أموالهم بالهبات والوصايا تبذيرا يؤدي إلى حرمان ذريتهم من بعدهم. ومنهم من قال إنها في صدد تنبيه أصحاب الأموال إلى وجوب الوصية لأقاربهم الفقراء واليتامى والمساكين «2» . ومنهم من قال إنها في صدد التحذير من الإلحاح على صاحب المال في الإكثار من الهبات والوصايا لغير ذريته وتنبيههم إلى ما يؤدي ذلك إليه من حرمان ذرية الرجل والإهابة بهم إلى تذكر حالة ذريتهم أنفسهم إذا تركوها محرومة ضعيفة وإلى ألّا يقولوا إلّا المعروف الذي ليس فيه حرمان وأذى. ولا تخلو هذه الأقوال من وجاهة. وبخاصة القول الأخير الذي قد يتسق مع نصّ الآية. على أنه يتبادر لنا أن الآية مرتبطة بالتي بعدها التي تنذر آكلي مال اليتيم ظلما حيث تهيب بهم إلى تقوى الله في أفعالهم وأقوالهم والخوف على أولادهم من أن يصيروا أيتاما مهضومي الحقّ مأكولي المال من بعدهم. هذا والآية [8] جديرة بالتنويه من حيث كونها حاسمة في صدد تثبيت حق النساء خاصة في الإرث لأن هذا الحق لم يكن معترفا به مما فيه توكيد للعناية

_ (1) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن وغيرهم. (2) المصدر نفسه.

[سورة النساء (4) : الآيات 11 إلى 14]

الربانية بالمرأة على اختلاف حالاتها وفي تثبيت هذا الحق تثبيت لأهليتها للتصرف في المال. وتوهين من ناحية ما لما يساق من تطبيق وصف السفهاء عليها في مثل هذا المقام. كذلك فإن الآية [10] جديرة بالتنويه أيضا لقوة ما فيها من إنذار وزجر ضد آكلي أموال اليتامى وظالميهم مما كان موضوع عناية القرآن في آيات كثيرة مكية ومدنية. ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآية أحاديث نبوية عديدة متساوقة مع مدى وهدف الآية وإن لم ترد بنصّها في الصحاح. منها حديث أخرجه ابن مردويه عن أبي برزة قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث يوم القيامة قوم من قبورهم تأجّج أفواههم نارا قيل يا رسول الله من هم قال الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً الآية» . [سورة النساء (4) : الآيات 11 الى 14] يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11) وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14) .

تعليق على الآية يوصيكم الله في أولادكم إلخ والآيات الثلاث التالية لها وشرح إجمالي لأحكام الإرث وتلقينات الآيات

(1) ولد: هذا اللفظ وجمعه في الآيات يعني الذكور والإناث. (2) الكلالة: تطلق الكلمة على الميت بدون وارث أصلي أو فرعي مباشر أي الذي لا يكون له والد وأم وولد. والكلال هو الإعياء أي الضعف والعجز. كأنما الكلمة استعيرت لبيان عجز الميت وضعفه بفقده الوالد والولد من قبل. وأكثر المفسرين على أن الميت إذا ترك ابن ابن لا يعد موته كلالة «1» . تعليق على الآية يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ إلخ والآيات الثلاث التالية لها وشرح إجمالي لأحكام الإرث وتلقينات الآيات عبارة الآية واضحة. وقد احتوت بيان ما اقتضت الحكمة بيانه من الأنصبة المفروضة للرجال والنساء أو الذكور والإناث في إرث الأموات كما يلي: (1) نصيب الذكر هو ضعف نصيب الأنثى. (2) إذا كان الميت أبا ولم يترك إلّا بنتا فلها نصف تركته. وإن ترك أكثر من بنتين فلهن ثلثاها. (3) إذا كان للميت والدان وأولاد فلكل من والديه السدس. (4) إذا كان للميت والدان وليس له أولاد فلوالده الثلثان ولأمه الثلث. (5) إذا كان للميت والدان وليس له أولاد وله إخوة فيكون للأم السدس بدلا من الثلث.

_ (1) انظر تفسير الآيات في الزمخشري والخازن والطبرسي والبغوي. الجزء الثامن من التفسير الحديث 3

(6) للزوج نصف تركة زوجته إن لم يكن لها ولد. فإن كان لها ولد فله ربعها. (7) للزوجات ربع تركة زوجهن إن لم يكن له ولد. فإن كان له ولد فلهن الثمن. (8) إذا لم يكن للميت والدان ولا أولاد وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما سدس التركة وإذا كان الإخوة والأخوات أكثر فهم شركاء في ثلث التركة. (9) التركة التي تقسم على الورثة هي ما يبقى منها بعد سداد دين الميت وتنفيذ وصيته. وقد انتهت الآية الأولى بفقرة توطيدية لهذا التقسيم. فالناس لا يدرون حقيقة الأنفع لهم من آباء وأبناء ولكن الله أعلم بذلك. وقد أمر بما هو الأصلح لهم وجعله فريضة واجبة التنفيذ. وهو العليم الحكيم الذي يعلم مقتضيات الأمور ويأمر بما فيه الحكمة والصلاح. وقد انتهت الآية الثانية بالتنبيه على عدم تعمد الإضرار والإجحاف بحقوق أحد. وعلى أن هذا التقسيم هو فريضة الله العليم الحليم الذي يعلم مقتضيات الأمور ويرأف بكل ذي حق ويعامله بمقتضى حلمه. وفي الآيتين الأخيرتين توطيد تعقيبي أيضا: فما تقدم من الأحكام هي حدود الله التي يجب الوقوف عندها وعدم الانحراف عنها والتلاعب فيها. ومن أطاع الله ورسوله والتزم حدود الله كانت له الجنة والفوز العظيم. ومن عصاهما وانحرف عن حدود الله وتجاوزها أدخله الله النار وكان له عنده العذاب المهين. ولقد رويت بعض الأحاديث والروايات في مناسبة نزول الآيات. من ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن جابر قال «عادني النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فوجدني النبي صلى الله عليه وسلم لا أعقل شيئا فدعا بماء فتوضأ منه ورشّ عليّ فأفقت فقلت يا رسول الله

ما تأمرني أن أصنع في مالي؟ فنزلت يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» «1» ومنها حديث رواه البخاري وأبو داود عن ابن عباس قال «كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين فنسخ الله من ذلك ما أحبّ فجعل للذكر مثل حظّ الأنثيين وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس والثلث وجعل للمرأة الثمن والربع وللزوج الشطر والربع» «2» ومنها حديث رواه أبو داود والترمذي عن جابر قال «جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله فقالت يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك يوم أحد شهيدا. وإن عمّهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا ولا تنكحان إلا ولهما مال. قال يقضي الله في ذلك فنزلت آيات المواريث يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ ... فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمّهما فقال أعط ابنتي سعد الثلثين وأعط أمهما الثمن وما بقي هو لك» «3» ومنها رواية عن السدي قال «كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري- أي البنات- ولا الضعفاء من الغلمان ولا يرث الرجل من ولده إلّا من أطاق القتال، فمات عبد الرحمن بن ثابت وترك امرأة وخمس بنات فجاء الورثة فأخذوا ماله فشكت امرأته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآيات «4» . وهذه الأحاديث تقتضي أن تكون الآيات نزلت مجزّأة في مناسبات مختلفة ويلحظ أن بعضها سيق كمناسبة لبعض الآيات السابقة. والذي يتبادر لنا من انسجام الآيات من أول السورة إلى آخر هذه الآيات وتسلسلها سياقا وموضوعا أنها نزلت في ظرف واحد دفعة واحدة أو تباعا لتحتوي ما احتوته من تشريعات وتحذيرات وتحديدات متنوعة متناسبة في صدد حقوق الأيتام واليتيمات وأموالهم وحقوق الزوجات ومهورهن والعدل بينهن وحقوق أصحاب الحق في التركات من رجال ونساء.

_ (1) التاج ج 4 ص 80. (2) المصدر نفسه. (3) التاج ج 2 ص 232. [.....] (4) الخازن.

وهذا لا يمنع طبعا أن تكون وقعت مناسبات ورفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم شكايات وتظلمات واستفتاءات مما احتوته الأحاديث والروايات فكان ذلك مناسبات لنزول هذه السلسلة التشريعية. ولقد تعددت تأويلات المؤولين التي يرويها المفسرون لجملة آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً وكلمة نَفْعاً حيث قيل إن النفع المذكور هو نفع الدنيا أو نفع الدنيا والدين أو نفع الآخرة وحيث قيل في تأويل الجملة كلها (إن الله قد عين أنصبة الوارثين من الآباء والأبناء بمقتضى حكمته التي يعرف بها ما هو الأنفع للناس ولم يترك ذلك لهم لأنهم لا يدرون أي شيء أنفع فيخطئون في تعيين الأنصبة وتقسيم التركة) وفي هذا سداد كما هو الظاهر. ويلحظ أن في الأحكام شيئا من الاقتضاب والإطلاق والفراغ. مثل إغفال الفقرة الأولى من الآية الأولى ذكر حالة وحقّ البنتين اللتين ترثان وحدهما أباهما، والاكتفاء بذكر حالة وحق بنت واحدة أو نساء فوق اثنتين. ومثل إغفال الفقرة الثانية من نفس الآية ذكر مستحق الباقي إذا كان الوارث والدين وبنتا واحدة حيث ذكر فيها أن الوالدين يأخذان السدسين والبنت النصف. ومثل السكوت عن مستحق السدس الذي ينقص من نصيب الأم إذا كان للوارث أخوة مع الوالدين. ومثل إغفال ذكر مستحق النصف الثاني من تركة الزوجة التي ليس لها ولد، ومستحق الأرباع الثلاثة من تركة الزوج الذي ليس له ولد. ومثل إغفال ذكر مستحق الثلثين الباقيين من تركة من يموت كلالة. وعلى كل حال فالمتبادر أن الآيات احتوت الأسس والأحكام الرئيسية التي اقتضت حكمة التنزيل بيانها. وقد أكملت بعض الآيات والسنن المأثورة النبوية والراشدية بيان وأحكام ما فيها من اقتضاب وإطلاق وفراغ. وصار كل ذلك موضوع أبحاث واستنباطات وتفريعات تكون منه علم واسع وخطير من العلوم الإسلامية الفقهية المعروف بعلم الفرائض. وجملة فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ هي كما هو المتبادر لبيان كون أحكام الإرث

التي احتوتها الآيات مما رسمه الله وفرضه. وكلمة الفرائض التي سمى بها العلم المذكور آنفا هي جمع فريضة كما هو واضح. وقد استعملت هذه الكلمة للدلالة على أحكام الإرث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حيث جاء في حديث نبوي رواه الترمذي عن أبي هريرة «تعلّموا القرآن والفرائض وعلّموها الناس فإني مقبوض» «1» . ومما جاء في القرآن للتوضيح والتحديد والإتمام وسدّ الفراغ الآية الأخيرة من سورة النساء التي جعلت للأخ جميع تركة أخته المتوفاة كلالة وجعلت للأختين ثلثي تركة أخيهما المتوفى كلالة وجعلت جميع التركة لأخواته وإخوته إذا كانوا أكثر من ذلك على أن يكون نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى. وقد بدأت الآية بجملة يَسْتَفْتُونَكَ حيث يدل ذلك على أنه وقع التباس في صدد ما احتوته الآية [12] من الآيات التي نحن في صددها من حكم إرث الذي يموت كلالة وهو السدس لكل من أخته وأخيه، والثلث إذا كانوا أكثر من ذلك فجاءت الآية الأخيرة من السورة في بيان حكم التوارث بين الإخوة الأشقاء أو الإخوة من أب الذين يورثون كلالة واعتبرت الآية [12] في صدد حكم التوارث بين الإخوة من أمّ على ما رواه جمهور المفسرين من طرق عديدة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم وقالوا إن هذا متفق عليه «2» . ومن ذلك الحالة التي أغفلتها الفقرة الأولى من الآية الأولى إلى الآية [10] ونبهنا عليها وهي عدم ذكر حكم البنتين حيث قيست على ما احتوته الآية الأخيرة من سورة النساء بالإضافة إلى الحديث النبوي الذي أوردناه قبل والذي روي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى البنتين ثلثي تركة والدهما. ومن ما جاء في الأحاديث المأثورة أحاديث نبوية منعت التوارث بين المسلمين والكفار. منها حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أسامة بن

_ (1) التاج ج 2 ص 228. (2) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي والطبرسي والخازن وابن كثير والنيسابوري والنسفي والقاسمي.

زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم» «1» وحديث آخر رواه أصحاب السنن جاء فيه «لا يتوارث أهل ملّتين شتى» «2» ومن ذلك حديث رواه أصحاب السنن جاء فيه «القاتل لا يرث» «3» . ومن ذلك حديث رواه الترمذي جاء فيه «أيّما رجل عاهر بحرة أو أمة فالولد ولد زنا لا يرث ولا يورث» «4» . ومن ذلك حديث رواه البخاري وأبو داود عن شرحبيل بن هذيل «أن ابن مسعود سئل عن حقّ بنت وبنت ابن وأخت فقال: أقضي بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم، للبنت النصف، ولبنت الابن السدس، وما بقي فللأخت» «5» حيث يفيد هذا أن بنت الابن المتوفى في حياة أبيه ترث من جدها إن لم يكن له ولد ذكر آخر يحجبها. وقد قيس على ذلك ابن الابن أيضا. وقد روي عن زيد بن ثابت حديث فيه توضيح أكثر لهذه الحالة جاء فيه «أولاد الأبناء بمنزلة الأبناء إذا لم يكن دونهم ابن. ذكرهم كذكرهم. وأنثاهم كأنثاهم. يرثون كما يرثون. ويحجبون كما يحجبون ولا يرث ولد ابن مع وجود ابن ذكر آخر» «6» وننبه على أن العلماء نبهوا على أن هذا بالنسبة لابن الابن دون ابن البنت لأنه ليس من ذوي عصبة المورث «7» . ومن ذلك ما روي عن ملاعنة رجل لامرأته ونفيه ولدها عنه حيث روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ألحق الولد بأمه وحرمه من ميراث الأب الذي نسبته أمه إليه وجعل التوارث بينه وبين أمه وورثتها من بعدها وحسب. وقد ورد هذا في حديث رواه

_ (1) التاج ج 2 ص 229. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه ص 230. وواضح أنه لا يرث قتيله إذا كان له نصيب شرعي في تركته. (4) المصدر نفسه ص 231. (5) المصدر نفسه ص 230. (6) تفسير الخازن. (7) تفسير القاسمي.

البخاري وأبو داود «1» . ومن ذلك حديث رواه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا معلّما وأميرا على قوم. فسئل عن رجل توفي وترك بنتا وأختا فأعطى كلا منهما النصف وكان ذلك في حياة النبي «2» . وهذا قد يفيد أنه أفتى بما علم من فتاوى رسول الله. ومن ذلك أحاديث في إرث الجد والجدة حيث روى أصحاب السنن أن النبي قضى لرجل مات ابن ابن له بالسدس. كما رووا أن أبا بكر قضى لجدة بسدس تركة ابن ابن لها وأن عمر قضى للجد مع الإخوة بالثلث وأن النبي جعل للجدة السدس إذا لم تكن دونها أمّ «3» والمتبادر أن الجد يستحق ذلك إذا كان ابنه ووالد ابنه متوفّى في حياته. ومن ذلك حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي جاء فيه «أنا مولى من لا مولى له. أرث ماله وأفكّ عانه والخال مولى من لا مولى له يرث ماله ويفكّ عانه» «4» ولفظ رواية الترمذي «الله ورسوله مولى من لا مولى له والخال وارث من لا وارث له» والفقرة الأولى توطد حق بيت المال في تركة من لا وارث له. والفقرة الثانية تجعل الخال وريثا إذا لم يكن للميت وريث من عصبته. ومن ذلك حديث رواه أبو داود والترمذي وحسّنه عن عائشة قالت «إن مولى للنبي صلى الله عليه وسلم مات وترك شيئا ولم يدع ولدا ولا حميما فقال هاهنا أحد من أهل أرضه قالوا نعم قال فاعطوه ميراثه» «5» ومن ذلك حديث رواه الخمسة في صدد ميراث

_ (1) التاج ج 2 ص 231 والملاعنة اصطلاح إسلامي حيث يكلف الزوج الذي يتهم زوجته بالزنا ولا يكون معه شهود أن يشهد بالله أربع شهادات إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين وحيث يسمح للزوجة أن ترد شهادته بأربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيفرق بينهما دون إقامة حدّ. (2) المصدر نفسه ص 232. (3) المصدر نفسه ص 236. (4) المصدر نفسه ص 239 وعانه بمعنى أسيره أو مملوكه. ومولى بمعنى وارث. [.....] (5) المصدر نفسه ص 239 و 240.

رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة عن أبي بكر رضي الله عنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا نورث ما تركناه صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال. وفي رواية لا يقتسم ورثتي دينارا ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤونة عاملي فهو صدقة» «1» . ومن ذلك حديث رواه الترمذي وأحمد والحاكم عن علي بن أبي طالب قال «إنكم تقرءون هذه الآية مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وإن رسول الله قضى بالدين قبل الوصية. وإن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلّات الرجل يرث أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه» «2» والشطر الأول من هذا الحديث يزيل الإشكال في تقديم الوصية على الدين في النص القرآني. وهذا هو الحق العدل لأن الوصية هبة وتبرع من مال الواهب المتبرع والدين ليس ماله. وإنما هو مال غيره ولا يكون ما يتركه بعد موته مالا خالصا له إلا بعد إخراج ما ليس ماله. والحديث بالتالي يسوغ القول إن النّص القرآني ليس لترتيب أولوية وإنما هو أسلوبي وحسب. وفي الشطر الثاني من الحديث توضيح لمدى التوارث بين الأخوة وفي حالة موت الكلالة فالتركة يرثها في الدرجة الأولى الأخوة الأشقاء ذكورا وإناثا فإذا لم يكن له إخوة أشقاء فيرثه أخوته لأبيه. وننبه على أن هذا الشطر يجب أن يكون موضحا لآية النساء الأخيرة في الكلالة لأنها نزلت لأجل الأخوة من أب أو من أب وأمّ. أما إذا كان لميت الكلالة أخ أو أخت لأمه فيكون لكل منهما السدس وإن كانوا أكثر فللجميع الثلث حسب نصّ الآية [12] التي قلنا إن الفقهاء والمؤولين متفقون على أنها لأجل نصيب الأخوة من أم من ميت الكلالة. والمتفق عليه أن الأشقاء أو الأخوة من أب لا يحجبون نصيب الأخوة من أم إذا كان لميت الكلالة أخوة من أم وأخوة لأب وأم أو لأب. فهؤلاء يأخذون نصيبهم وفق آية النساء الأخيرة على ما سوف يأتي شرحها ووفق الشطر الثاني من الحديث الأخير بعد إخراج نصيب الأخوة من أم لأن هذا النصيب مفروض قرآنا.

_ (1) التاج ج 2 ص 239 و 240. (2) المصدر نفسه ص 234.

ولقد روى الشيخان وأبو داود والترمذي حديثا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر» «1» حيث يفيد هذا الحديث أن البواقي من تقسيم التركة حسب أحكام الآيات يعطي للأقرب فالأقرب إلى المتوفى من عصبته الذكور فقط الأخوة فأبناء الأخوة فالأعمام فأبناء الأعمام إلخ وأن الخال يأتي إذا لم يكن له عصبة ذكور. وهناك اصطلاح يستعمله علماء الفرائض، وهو الحجب ويريدون به القول بأن وجود طبقة من القرابة يحجب طبقة أخرى يحق لها أن ترث لو لم تكن الأولى موجودة. وقد جعلوا الحجب نوعين حجب نقصان وحجب حرمان. فمن الأول أن الولد يحجب الزوج من نصف تركة زوجته إلى الربع والزوجة من ربع تركة زوجها إلى الثمن. ويحجب الأب من الثلثين والأم من الثلث إلى السدس لكل منهما. والأخوة يحجبون الأم من الثلث إلى السدس إذا لم يكن للميت ولد وورثه أبواه. ومن الثاني سقوط حق الأخوة للأم وأولاد الأم بالأب والجد وبالولد وولد الابن وسقوط حق الأخوة للأم والأب بالأب والأم والابن وابن الابن ... وبمناسبة الحجب ننبه على أننا لم نطلع على أثر نبوي عن مدى كلمة إِخْوَةٌ في جملة فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ في الآية الأولى. وفي هذه الجملة مسألتان، الأولى مسألة عدد الأخوة الذين يحجبون الأم من الثلث إلى السدس. والثانية مسألة السدس الذي ينقص من نصيب الأم. ففي المسألة الأولى روى المفسرون عن بعض أصحاب رسول الله والتابعين قولين: أحدهما أن العدد الحاجب هو ثلاثة على الأقل أخذا بمدى جمع (إخوة) وثانيهما اثنان أخذا بجواز استعمال صيغة الجمع للاثنين. والجمهور على ما يستفاد من أقوال المفسرين هو على القول الثاني ويكون الأخ الواحد أو الأخت الواحدة غير حاجب. ويرد على بالنا خاطر وهو أي كلمة (الإخوة) للجنس فإذا صحّ هذا فيكون وجود أخ أو أخت فقط حاجبا أيضا والله تعالى أعلم. وفي المسألة الثانية الجمهور على أن

_ (1) المصدر السابق نفسه ص 233.

السدس الذي ينقص من الأم يعود إلى الأب لأنه أولي ذكر في العصبة دون الإخوة. ونكتفي بما تقدم «1» وفيه سداد للفراغ والاقتضاب والإطلاق الملحوظ في الآيات دون تبسط في التفريعات والاصطلاحات والاستنباطات والتطبيقات لأنه خارج عن منهج التفسير. هذا، ومما يحسن لفت النظر إليه أن هذه الأحكام قد غيرت وعدلت ما كان جاريا قبل نزولها في أمر الميراث مما كان فيه تموج وجنف. فقد كان حق الآباء والأقربين حائرا أو غير ثابت حتى لقد اقتضت حكمة التنزيل التعجيل بالأمر بوجوب الوصية للوالدين والأقربين في آيات سورة البقرة [180- 182] وكان كذلك حق الإناث في مختلف حالاتهن أمهات كنّ أو بنات أو بنات أو زوجات أو أخوات حائرا غير ثابت وعرضة للتهضم والإنكار. فثبتت الآيات حق الوالدين وحق المرأة في جميع حالاتها وحق الأقربين على أساس الأقرب فالأقرب عصبة بقطع النظر عن كونهم ذكورا وإناثا وصغارا وكبارا وضعفاء وأقوياء وليس فيها غبن ولا إجحاف في حق أحد. ونريد أن نخصّ مسألة نصيب الأنثى في هذا المقام بكلمة لأن الأغيار غمزوا الشريعة الإسلامية بسبب جعلها نصيب الذكر ضعف نصيبها. مع أن الحكمة في ذلك ظاهرة بليغة وفيه كل الحق والإنصاف بل وربما كان فيه الإحسان الذي يفوق العدل. فالأنثى في غالب أحوالها مضمونة النفقة من ابنها أو أبيها أو زوجها بل أو أخيها. وحينما لا تكون كذلك فإنها لا تكون في الغالب مكلفة بغير نفسها. وذلك بعكس الذكر المكلف دائما بالإنفاق عليها وعلى أسرته مما هو مشاهد وممارس في مختلف الأدوار والبيئات دون استثناء. فإذا أضيف إلى هذا أن القرآن قد اهتمّ اهتماما عظيما بتثبيت حقها الذي كان ضائعا أو حائرا وحماها من الظلم والإجحاف ظهر أن في الغمز أو النقد قلبا للحقيقة وغضا لمزايا الشريعة الإسلامية

_ (1) في تفسير الخازن خاصة بسط واسع.

على طول الخط. ومهما تطورت البشرية فلن يأتي طور فيما نعتقد تنعكس فيه الحالة ويكون الرجل عالة على المرأة أو تكون المرأة هي المنفقة على الأسرة دونه في الأعم الأغلب. وكل ما يحتمل أن يكون أن طوائف من النساء يعوّلن على كسبهن في معيشتهن فتقل رغبتهن في التقيد بقيد الزواج أو يطرأ على زوج مانع قاهر من صحة وظرف فتبذل الزوجة جهدها في الكسب للإنفاق على الأسرة أو للمشاركة في الإنفاق. وهذا لن يغير ما قررناه ويخفف من مسؤولية وأعباء نفقة الأسرة والمرأة عن ظهر الرجل. وواضح من هذا الشرح أن عدم تسوية المرأة بالرجل في الميراث ليس من شأنه أن يخل بما قرره الله ورسوله لها من أهلية تامة ومركز متساو مع الرجل في مختلف المجالات الأخرى. كذلك نريد أن نلفت النظر إلى ما في الأمر باحترام وصية المرأة المورثة المتوفاة وتنفيذها وتسديد ديونها من دلالة على ما وطده القرآن من شخصية المرأة وحقوقها وأهليتها التصرفية المدنية والمالية على قدم المساواة مع الرجل. فهي ترث كما يرث، وتوصي كما يوصي، وتستدين كما يستدين، وتمتلك كما يمتلك استقلالا عنه مما كان في الوقت الذي نزل فيه القرآن مفقودا كل الفقد في سائر أنحاء العالم المتحضر فضلا عن غيره، وظل كذلك بمقياس واسع بعده إلى أمد قريب. بل ما يزال بعض الأمم المتحضرة لم تحققه! ولقد عدّ جمهور العلماء والمفسرين أن الآيات قد نسخت أحكام آيات الوصية الواردة في سورة البقرة التي أشرنا إليها قبل قليل بالنسبة للذين جعلت لهم نصيبا مفروضا من تركة أمواتهم أي الوالدين والأقربين الأدنين وجاء الحديث النبوي «لا وصية لوارث» «1» مؤيدا لذلك وبقي حكم وجوب الوصية بالنسبة لمن ليس له نصيب محكما وهذا صواب. وقد نبهنا عليه في سياق شرح آيات البقرة المذكورة. والحديث المذكور وتوكيد وجوب تنفيذ وصية الميت في هذه الآيات دليل على بقاء وجوب الوصية لمن ليس له نصيب محكما. ولقد حددت السنة

_ (1) أوردنا نصّه في مناسبة سابقة وانظر التاج ج 2 ص 243.

النطاق الذي يجب أن لا تتعداه الوصية. وقد شرحنا ذلك وأوردنا ما في صدده من أحاديث في سياق شرح آيات البقرة فلا نرى محلا للزيادة أو الإعادة. وتكرار توكيد وجوب تنفيذ وصية المورث وتسديد ديونه وتقديم ذلك على حقوق الوارثين ذو مغزى خطير بما فيه من الاتساق مع مقتضيات الحق والإنصاف والبرّ والإحسان التي قررها القرآن في مختلف المناسبات. وهو في أصله طبيعي لأن الديون والوصايا حقوق ثابتة في التركة للغير. والوارث إنما يحق له ما يفضل من تركة الميت بعدها. وتعبير غَيْرَ مُضَارٍّ مطلق. ومع أنه جاء في الآية الثانية فقط فإن إطلاقه قد يسوغ القول بأنه شامل لما جاء في هذه الآية وفي الآية الأولى معا. وإطلاقه يسوغ القول كذلك أن ما انطوى فيه من النهي عن المضارة موجه للمورث حين يستدين وحين يوصي وللورثة حين يقتسمون التركة وينفذون الوصية ويسددون الدين. وإن مما يشمله الأمر أن لا يتعمد المورث الإضرار بورثته في المبالغة في المنح والاستغراق في الدين. وأن لا ينسى في الوقت نفسه الوصية لأولي القربى واليتامى والمساكين. وأن لا يتعنت الورثة في أداء ما على التركة من حقوق للغير أي ديون ووصايا. ولا في إعطاء كل ذي حقّ حقّه من الورثة حسب أحكام الآيات وسنة الرسول. وتلقين هذا التعبير بهذا الشرح جليل متصل بمبادىء العدل والإنصاف والبرّ القرآنية ومستمر المدى كما هو واضح. ولقد روى الطبري بطرقه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا جاء فيه «قال النبي صلى الله عليه وسلم الضرار في الوصية من الكبائر» وروى هذا الحديث من طرق أخرى غير منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه من أقوال ابن عباس وبصيغ أخرى منها «الضرار والحيف من الكبائر» . وأورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فإذا أوصى وحاف في وصيته فيختم له بشرّ عمله فيدخله النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل

النار سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة ثم قال أبو هريرة اقرأوا إذا شئتم تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إلى قوله عَذابٌ مُهِينٌ» . وهذه الأحاديث لم ترد في الصحاح. وهذا لا يمنع صحتها. وهناك حديث من باب الحديث الأخير رواه الترمذي وأبو داود بسند صحيح عن أبي هريرة جاء فيه «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار» «1» . وفي الأحاديث تلقين متساوق مع التلقين القرآني كما هو ظاهر. والآيات [13 و 14] من الآيات التي نحن في صددها قويتا الأسلوب في صدد توطيد الأحكام والأوامر التي احتوتها آيات المواريث. ففي التزامها طاعة لله وفي عصيانها عصيان لله وتعدّ على حدوده. وقد جعلت الآية [14] عقوبة الخلود في النار لمن يتجاوز أحكام الله ويحتال عليها مستحلا لذلك. وهذا إنذار رهيب هدف فيما هدف إليه جعل المسلمين يتقون الله ولا يقدمون على مخالفة أحكامه وتجاوزها. وبعض المسلمين يعمدون إلى اختصاص بعض الورثة بشيء من أموالهم المنقولة وغير المنقولة في حياتهم فيسلمونهم الأموال المنقولة ويسجلون عليهم الأموال غير المنقولة. والذي يتبادر لنا أن هذا احتيال على حدود الله وأحكامه ويدخل في نطاق المضارة المنهي عنها والإنذار الرباني الرهيب. وهناك حديث نبوي في هذا الصدد بالذات رواه الخمسة عن النعمان بن بشير قال «انطلق بي أبي يحملني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله اشهد أني قد نحلت النعمان كذا وكذا من مالي. فقال له أكلّ بنيك قد نحلت مثل هذا قال لا. قال فأشهد على هذا غيري. ثم قال أيسرّك أن يكونوا في البرّ إليك سواء. قال بلى. قال فلا إذا. وفي رواية أنه قال اتّقوا الله واعدلوا في أولادكم» «2» . وهناك حديث نبوي عام ومبدئي رواه مسلم وأبو داود عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله تعالى» «3» .

_ (1) التاج ج 2 ص 241. (2) المصدر نفسه ص 232 و 233. (3) المصدر نفسه

استطراد إلى الوقف

استطراد إلى الوقف ويدخل في ما تقدم فيما يتبادر لنا ما يعمد إليه بعض أصحاب الأملاك من وقف أملاكهم في حياتهم بقصد حرمان بناتهم المتزوجات من الغير أو حرمان بعض فئات من الورثة الذين جعلت الآيات لهم نصيبا مفروضا في تركات أمواتهم ومعلوم أن الذين يفعلون ذلك من أصحاب الأملاك لتحقيق تلك المقاصد يجعلون مصير هذه الأملاك أو بعض ريعها إلى جهة من جهات البرّ مستندين في ذلك إلى ما أساغته السنة النبوية من الوقف الخيري حيث روى الخمسة في هذا حديثا عن ابن عمر قال «أصاب عمر أرضا بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها فقال يا رسول الله إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه فماذا تأمرني به. قال إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها. فتصدق بها عمر أنه لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يورث ولا يوهب ويكون ثمرها للفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف. ولا جناح على من وليها أن يأكل بالمعروف أو يطعم صديقا غير متمول فيه» «1» وهذا العمل مما يصح أن يحتذي به أصحاب الأملاك ويشجعون عليه من دون ريب. ولكن استناد الذين يوقفون أملاكهم للمقاصد المذكورة سابقا ويغطونها بتخصيص شيء من ريعها أو بجعل مصيرها للخير غير مستقيم. وإنما هو أسلوب احتيالي على أحكام كتاب الله ورسوله. وقد عرف هذا النوع بالوقف الذري. وحتى لو كان توزيع ما يخصص من ريعه وفق الأنصبة الشرعية لما ساغ الاستناد فيه إلى ما فعله عمر بأمر رسول الله وتسويغه. ويظل يعتبر بدعة سيئة، وحسنا فعلت بعض الحكومات الإسلامية حينما تنبهت له ومنعته وحلت الموجود منه لمخالفته لروح التشريع من جهة ولأضرار عديدة تحققت به من جهة أخرى. وفي صدد الوقف الخيري البحت نرى أن ننبه على أمر، وهو وقف امرئ لجميع أملاكه للخير إذا كان له ورثة شرعيون. ونادرا ما يكون أحد لا يكون له ورثة شرعيون مهما كانت درجة صلتهم به.

_ (1) التاج ج 2 ص 274.

[سورة النساء (4) : الآيات 15 إلى 18]

ويتبادر لنا أن ذلك لا يسوغ بوجود ورثة شرعيين مهما كانوا. وأنه يصح بل يجب ملاحظة الحديث النبوي الذي أوردناه في سياق آيات الوصية في سورة البقرة والذي يجعل الثلث هو الحد الأقصى للوصية في هذه الحالة. والله تعالى أعلم. [سورة النساء (4) : الآيات 15 الى 18] وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18) . (1) الفاحشة: هنا بمعنى الزنا على قول الجمهور وهو ما تلهمه الآية أيضا. (2) اللذان: الكلمة جمع مذكر في مقام اللذين على قول الجمهور. احتوت الآيتان الأوليان تشريعا بحق الذين يأتون الفاحشة من النساء والرجال وهي الزنا على تأويل جمهور المفسرين: (1) فإذا اقترفت النساء الفاحشة وشهد أربعة من المسلمين على ذلك حين استشهادهم فوجب حبسهن في البيوت إلى أن يمتن أو يأمر الله في شأنهن أمرا ويجعل لهن سبيلا وفكاكا بصورة ما. (2) أما الرجال الذين يقترفون الفاحشة فوجب أذيتهم. فإذا تابوا وأصلحوا تركوا وشأنهم. فإن الله تواب رحيم يقبل التوبة من التائبين ويشملهم برحمته. أما الآيتان الأخريان فإنهما جاءتا استطراديتين في صدد التوبة لتقررا أن الله

إنما يعد بقبول توبة الذين يقترفون الذنوب بسائق الجهل والطيش ثم يستشعرون حالا بخطائهم فيسارعون إلى التوبة قبل فوات الوقت. فهؤلاء هم الذين يتوب عليهم الله. أما الذين يظلون يرتكبون الآثام والموبقات بدون مبالاة إلى أن يحضرهم الموت ثم يستشعرون بالحسرة فيقولون تبنا أو الذين يموتون وهم كفار فلا توبة لهم ولهم عذاب أليم عند الله. ولقد شرحنا الآية [16] على اعتبار أن وَالَّذانِ جمع مذكر على ما عليه الجمهور والمأثور من اللغة يسمح به. وقد ذكر النساء في الآية [15] فصار من السائغ أن تكون الكلمة قد قصدت الرجال للمقابلة. ويكون على هذا تثنية فَآذُوهُما وفَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما هي للتساوق وحسب. على أن هناك من يقول إن الآية [15] هي بحق النساء الثيبات والمتزوجات وأن الآية [16] هي بحق الأبكار من الرجال والنساء على السواء. وهناك من يقول: إن الآية [16] تعني لواط الذكر بالذكر «1» . ولقد أورد الذين قالوا هذه الأحاديث النبوية الواردة في عقوبة جريمة اللواط والتي منها حديث رواه أصحاب السنن عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» «2» ويلحظ أن الحديث عين عقوبة أشد من العقوبة التي عينتها الآية التي نحن في صددها والتي هي الخطوة التشريعية الأولى لمرتكبي الفاحشة. وهذا يجعلنا نرجح أن الحديث قد صدر في ظرف الخطوة التشريعية الثانية التي عينت عقوبة شديدة على الزنا على ما سوف نشرحه في سياق تفسير سورة النور بحيث يسوغ القول إن إيراد الحديث للتدليل على أن كلمة (اللذان) قد قصد بها لواط الذكر بالذكر في غير محله. ونحن نرجح أن هذه الكلمة في مقامها هي جمع مذكر على ما شرحناه قبل. والله تعالى أعلم.

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن. (2) المصدر نفسه.

تعليق على الآية واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم والآيات الثلاث التالية لها

تعليق على الآية وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ والآيات الثلاث التالية لها ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. ويلحظ شيء من التناسب الموضوعي بين هذه الآيات وما بعدها من الآيات المتصلة بمعاملة النساء والأنكحة المحرمة والمحللة وبين الآيات السابقة، بحيث يرد في البال أنها استمرار في التشريعات المتصلة بهذا الموضوع. وأنها نزلت بعدها. ولقد احتوى القرآن المكي تقبيحا وزجرا عن الزنا ووعيدا للزناة وعدّ ذلك من الفواحش الكبرى على ما جاء في آيات سورة الفرقان [68- 69] والإسراء [32] . وهو الأسلوب المتسق مع ظروف العهد المكي. فجاءت هذه الآيات بأسلوب تشريعي لأن ذلك صار ممكنا في العهد المدني. ومع ذلك فإن التشريع في الآيات هو خطوة أولى. وقد جاءت الخطوة الثانية في الآيات الأولى من سورة النور وفي بعض الأحاديث النبوية على ما سوف يأتي شرحه في سياق تفسير هذه السورة. ويلحظ أن عقوبة الزنا في الخطوة التشريعية الأولى اقتصرت بالنسبة للرجال الذين عبر عنهم بكلمة وَالَّذانِ على ما رجحناه على جملة فَآذُوهُما وبالنسبة للنساء على جملة فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وقد قال المفسرون عزوا إلى ابن عباس وغيره إن فَآذُوهُما بمعنى التعيير والضرب والتوبيخ. وإن حكمة استبقاء النساء في البيوت هي عدم تعريضهن للفاحشة ثانية بالبروز للرجال «1» . وهذا مما يتسق مع روح الآيات. مع التنبيه على أن أقوال المفسرين لا تفيد أن إمساك النساء في البيوت هو عقوبة. في حين أنه في الحقيقة عقوبة شديدة لأنه سجن أبدي حتى الموت أو يجعل الله لهن سبيلا. وكل من العقوبتين متناسبة على ما هو المتبادر مع طبيعة كل من الرجل

_ (1) انظر الخازن وابن كثير والطبري. الجزء الثامن من التفسير الحديث 4

والمرأة أو ظروفهما في ذلك الوقت من حيث إن الرجل مضطر إلى السعي والارتزاق فاكتفي في عقوبته بالضرب والتعزير ولم تكن المرأة في مثل هذا الاضطرار فعوقبت بالحبس حتى الموت أو يجعل الله لها سبيلا. ولقد روى المفسرون في سياق الآية حديثا عن عبادة بن الصامت قال «كان رسول الله إذا نزل عليه الوحي أثر عليه وكرب وتغير لذلك وجهه. فأنزل الله عز وجل عليه ذات يوم فلما سرى عنه قال خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا: الثيب بالثيب والبكر بالبكر، الثيب جلد مائة. ورجم بالحجارة والبكر جلد ثم نفي سنة» «1» ومن المحتمل أن يكون الحديث النبوي صدر على أثر نزول آيات سورة النور التي فيها تشريع جلد مائة للزاني والزانية. وجمهور المفسرين والعلماء «2» على أن الخطوة الثانية في سورة النور والأحاديث النبوية نسخت الآيات التي نحن في صددها. ويلحظ أولا أن في الخطوة الثانية تحديدا وتشديدا للعقوبة وهذا أحرى أن يسمى تعديلا لا نسخا. ويلحظ ثانيا أن استشهاد أربعة شهود ظل محكما في الخطوة الثانية. ولقد استند بعضهم إلى الآية الثانية فقال إن مرتكب الفاحشة إذا تاب تسقط عنه العقوبة. والعقوبة المعينة في الآية هي كما قلنا الخطوة الأولى ثم جاءت آيات سورة النور والأحاديث فنسختها وصارت هذه المحكمة لأنها تنصّ على وجوب اتباع الحدّ على الزاني والزانية بدون رأفة وبدون استدراك بحيث يكون ذلك القول غير سليم. وعدم سلامة القول يلمح أيضا من نصّ الآية الثانية حتى بقطع النظر عن أمر نسخها بآيات النور. فهي تأمر بأذية مرتكبي الفاحشة ثم الإعراض عنهما إذا تابا وأصلحا وهذا من نوع توبة من يرمي المحصنات ولم يأت بأربعة شهداء التي ذكرت في آيات سورة النور [4 و 5] وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ

_ (1) ابن كثير وقال المفسر قال الترمذي حديث حسن صحيح. وقد روي هذا الحديث بطرق عديدة وبشيء يسير من الخلاف على ما جاء في تفسير ابن كثير ... انظر أيضا تفسير الطبري والخازن والبغوي والطبرسي. [.....] (2) انظر الكتاب المذكورة أيضا.

جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) ومرتكب الفاحشة يكون قد أثم من ناحيتين من ناحية مخالفته لله وارتكابه ما حرّمه ومن ناحية عدوانه على عرض آخر. فعليه الحدّ لهذا وإذا تاب فيحظى بعفو الله عن ذلك. وهناك بعض الأحاديث في هذا الصدد سنوردها ونعلق عليها في سياق شرح آيات النور «1» . وجملة فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ ... لا تفيد فيما يتبادر لنا معنى الشهادة العيانية لجريمة الزنا فقط بل تفيد معنى الشهادة العلمية الخبرية أيضا بل قد تفيد هذه الشهادة في الدرجة الأولى إذا أمعن فيها. فكأنما تقول والله أعلم (إذا علمتم أن امرأة ترتكب الفاحشة فاسألوا عن سيرتها فإن شهد أربعة من المسلمين بذلك فامسكوها في البيت ... ) ومع أن الجمهور «2» على أن الشهادة التي يثبت بها الزنا هي الشهادة العيانية أي رؤية العملية الجنسية الجريمة ومشاهدتها بدون استنتاج ولا تخمين ولا بناء على الروايات والشائعات والمعرفة الصادقة فإنّ نصّ العبارة القرآنية يجعلنا نشك في صواب ذلك ونصرّ على القول إن المقصود هو الشهادة العلمية. فالنص يأمر باستشهاد أربعة من المسلمين إطلاقا إذا ما عرف أن امرأة أتت فاحشة. وهذا إنما يكون بعد أن يعزى إليها ذلك ويعني بالتالي أنه شهادة علم وليس شهادة عيان. ولم نطلع على حديث نبوي صريح في ذلك. والحوادث التي روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام الحد فيها على الزناة كانت بناء على اعتراف أصحابها «3» . وقد عبّر الحديث الذي

_ (1) هناك حديث سنورده ونمحّصه في سياق تفسير آيات سورة النور الأولى رواه الخمسة عن ابن عباس أن عمر رضي الله عنه قال ما مفاده (إن حدّ الزنا يوقع على الزاني إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف) حيث يفيد هذا أنه أضيف إلى إثبات الزنا بالشهادة التي عبر عنها بكلمة (البينة) وسيلتان أخريان هما الحبل بالنسبة للمرأة والاعتراف بالنسبة للرجل والمرأة. (2) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن. (3) انظر التاج ج 3 ص 22 و 23 وسنورد أحاديث هذه الحوادث في تفسير سورة النور.

يرويه ابن عباس والذي أشرنا إليه آنفا عن هذه الشهادة بجملة «إذا قامت البينة» . وهذا لا يفيد صراحة بأنها بينة عيانية. وقد يقال إن من الممكن أن يكون المقصود أنه حينما يعزى إلى امرأة عمل الفاحشة يطلب من المسلمين رصدها فإذا رآها أربعة منهم ترتكب الفاحشة عيانا شهدوا وإذا صحّ هذا الفرض برغم ما يبدو عليه من تكلف فإثبات الزنا يزداد صعوبة ويكون ذلك من حكمة إناطته بشهادة عيانية من أربعة من المسلمين حتى لا تهتك أعراض النساء بشهادات علمية وخبرية وقليلة والله تعالى أعلم. ولقد أورد المفسر القاسمي في سياق تفسير الآيات الأولى من سورة النور حديثا عزاه إلى البخاري جاء فيه «إنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه جلد أبا بكرة وشبل بن معبد ونافعا بقذف المغيرة والي الكوفة بالزنا لما شهدوا بأنهم رأوه مستبطنا المرأة لأن الشاهد الرابع وهو زياد لم يشهد بشهادتهم» ويتبادر لنا أن الذين جعلوا الشهادة التي يثبت بها الزنا عيانية قد استندوا إلى هذا الحديث. والذي يتبادر لنا أن هذا الحديث إذا صح هو في صدد حادثة معينة وليس في صدد مبدأ تحديد كيفية الشهادة بإثبات الزنا. هذا مع قولنا إن من المستبعد أن يكون الشهود الأربعة المذكورون في الحديث قد رأوا العملية صدفة وأنهم لا بدّ من أن يكونوا قد علموا بها مسبقا فترصدوها حتى شاهدوها. وننبه على أن جلد عمر للثلاثة المروي في الحديث مستند إلى آية في سورة النور وهي وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ... [4] وسنزيد الآية شرحا في مناسبتها. ومهما يكن من أمر هذه النقطة فإن الحكمة في جعل عدد الشهود لإثبات جريمة الزنا بالشهادة أربعة ظاهرة بليغة. وبخاصة على ضوء ما يذهب إليه الجمهور من أنها يجب أن تكون عيانية. فهذه الجريمة من شأنها دائما أن تهزّ كيان الأسر وتثير الارتباك والهياج في المجتمع وتؤدي إلى عواقب وخيمة في ظروف كثيرة. والتشدد في إثبات وقوعها يحول دون كل ذلك. أما إذا شهد أربعة شهود عيان فمعنى ذلك أن المجرمين استهتروا استهتارا بشعا بمصلحة المجتمع وسلامة الأعراض بجريمتهم ويصبح إعلان الجريمة والتنكيل بمرتكبيها من مصلحة الجمهور.

وكلمة (منكم) تفيد كما هو المتبادر وجوب كون الشهود الأربعة التي تثبت بشهادتهم جريمة الزنا من المسلمين. ولهذا فيما يتبادر مغزى بعيد المدى في الظرف الذي نزلت فيه الآية وفي كل ظرف معا. فالمفروض أن المؤمن المسلم يعرف خطورة إثم شهادة الزور وضرر إشاعة الفاحشة بين المسلمين ويعرف أن مصلحة المجتمع الإسلامي هي مصلحته. فلا يقدم على شهادة من هذا النوع في حق أخيه المسلم إلّا إذا كان على يقين منها بحيث يعتقد أنه مؤاخذ عند الله إذا كتمها في حين أن هذا لا يكون مؤكدا من غير المسلم في حق المسلم. وكلمة (منكم) تحتمل أن تشتمل الرجال والنساء معا. غير أن الجمهور على حصر حق الشهادة في الحدود بخاصة في الرجال. ولم نطلع في صدد ذلك على حديث نبوي صحيح. وإنما رأينا الإمام رشيد رضا يذكر في سياق تفسير الآية أن الزهري- وهو من علماء الحديث من التابعين- قال: (مضت السنّة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين بعده أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود) ونحن في حيرة من هذا. فقد تذهب الجريمة بدون عقاب إذا توقف إثباتها على شهادة امرأة مسلمة. هذا إلى أن فرصة النساء لمشاهدة مثل هذه الجريمة أكثر سنوحا من الرجال كما هو المتبادر، ولقد قلنا إننا لم نطلع على حديث نبوي صحيح. وهناك حديث رواه أبو داود والترمذي يصح أن يورد لأن فيه تأييدا لتحفظنا. حيث رويا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه «أن النبي صلى الله عليه وسلم ردّ شهادة الخائن والخائنة وذي الغمر على أخيه وردّ شهادة القانع لأهل البيت وأجازها لغيرهم وفي رواية لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية» «1» فهذا الحديث مطلق. ويفيد أن كل من يكون متصفا بالصفات المذكورة سائغ الشهادة مطلقا في الحدود وغير الحدود معا وسواء أكان رجلا أو امرأة. والله تعالى أعلم. والجملة التي نحن في صددها قد جاءت في الآية التي فيها النساء. غير أنها

_ (1) التاج ج 3 ص 38 ومعنى ذي الغمر ذي العداوة والحقد. ومعنى القانع الخادم أو التابع.

شاملة للرجال الذين يأتون الفاحشة أيضا المذكورين في الآية التالية لها على ما هو المتبادر من حيث إن العقوبة المترتبة عليهم لا توقع إلّا بعد ثبوت جريمتهم بالطرق التي تثبت جريمة النساء. باستثناء الحبل بطبيعة الحال. أي بالشهادة التي عبر عنها في حديث ابن عباس بالبينة أيضا أو الاعتراف. وجملة فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما تفيد كما هو المتبادر أمرا بالكف عن أذاهما إذا أظهرا الندم والتوبة والصلاح. وهذا شرط قبول توبة التائب على ما جاء في آيات عديدة وشرحناه شرحا وافيا في سياق تفسير سورة الفرقان. ولعل كلمة وَأَصْلَحا بخاصة تنطوي في مقامها على إيجاب تلافي نتائج الفاحشة مما قد يدخل فيه التعويض والزواج. والله أعلم. وفي الآيتين [17- 18] اللتين جاءتا استطراديتين في صدد التوبة زيادة مهمة جديرة بالتنويه حيث توجب على المذنبين الإسراع في التوبة والصدق فيها وتنبه على أن تأخير التوبة إلى ساعة الموت يجعلها غير مقبولة عند الله. وفي هذا ما فيه من التلقين البليغ. فالتوبة إنما فتح بابها للناس حتى يندموا ويرعووا ويصلحوا ما أفسدوا وهم في متسع من حياتهم ومتعة من صحتهم وعمرهم. هذا، وجملة فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً وجملة فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ وجملة فَآذُوهُما وجملة فَأَعْرِضُوا عَنْهُما وإن تكن موجهة للمسلمين فالمتبادر أن محل توجيهها في الدرجة الأولى هو أولو الأمر والشأن والحكم والسلطان منهم. وقد ذكر ذلك المفسر الخازن فيما ذكره في صدد ذلك. وهو حق لأنهم هم الذين يؤهلهم مركزهم واحترام الناس لأوامرهم ونواهيهم لاستشهاد الشهود والحكم بحبس النساء في البيوت وضرب الرجال وتعزيرهم. وهذا يعني بالتبعية أن هذه الأمور منوطة في الدرجة الأولى بهم وأن من واجب المسلمين رفعها إليهم. وعدم التصرف فيها مباشرة لما يؤدي إليه ذلك من فوضى وأخطاء وأهواء. هذا ولقد رأى المعتزلة في جملة إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ تأييدا لمذهبهم بأنه

[سورة النساء (4) : الآيات 19 إلى 21]

يجب على الله الأصلح لعباده «1» . وهذا تعبير مناف للأدب نحو الله لا يليق استعماله على ما نبهنا عليه في مناسبة سابقة أيضا. والمتبادر أن الجملة أسلوبية يقصد بها بيان كون الله تعالى إنما يتوب على الذين يعملون السيئات بجهالة ثم يتوبون من قريب. [سورة النساء (4) : الآيات 19 الى 21] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21) . عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت: (1) نهيا للمسلمين عن إمساك الزوجات مع الكراهية والبغض بقصد الكيد والإعنات وابتزاز أموالهن من مهور وغيرها. (2) وأمرا لهم بمعاشرتهن بالحسنى والمعروف وتحملهن حتى في حال الشعور بكرههن. فليس كل ما يكرهه المرء شرا حقا. وقد يجعل الله في المكروه خيرا كثيرا. (3) وتحذيرا لهم في حال اعتزامهم على تركهن للتزوج بغيرهن ألا يأخذوا شيئا مما أعطوهن مهما كان كثيرا. ففي ذلك إثم وظلم كبيران بعد ما كان بينهما ما كان من صلة الزوجية العظمى والميثاق والعهد الذي تم به التراضي. (4) واستثناء لحالة صدور فاحشة ثابتة منهن. فهذه حالة استثنائية خطيرة قد تسوغ للزوج الكره والفراق ومحاولة استرداد ما أعطاه كله أو بعضه.

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير رشيد رضا.

تعليق على الآية يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ... إلخ والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقينات

تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ ... إلخ والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقينات ولقد روى البخاري عن ابن عباس أنه قال «كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحقّ بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاءوا زوجوها وإن شاءوا لم يزوجوها فهم أحقّ بها من أهلها فنزلت الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ» «1» . وهناك روايات أخرى يرويها الطبري وغيره ذكر في بعضها أسماء وأحداث معينة وفي بعضها أن ابن الزوج وأقاربه كانوا يمسكون الزوجة إذا توفي زوجها حتى تفتدي نفسها برد المهر وفي بعضها أنهم كانوا يلقون عليها ثوبا كإعلان بأنهم سيمسكونها عندهم. وفي بعضها أن أهل ابن الزوج يفعلون ذلك إذا كان هذا الابن صغيرا حتى يكبر فيمسكها أو يتركها. وأن الآية الأولى نزلت في منع هذه العادات المجحفة. ويلحظ أن الفقرة الأخيرة من الآية الأولى تنطوي على قرينة حاسمة على أن الخطاب فيها موجه للأزواج في صدد معاملتهم لزوجاتهم حيث يجعل ذلك رواية نزولها بسبب عادة إمساك ابن الزوج أو أقاربه لزوجة الأب لأنفسهم أو لأخذ الفدية منها غريبة. وقد يكون تعبير لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً من ما سوغ للمؤولين ولابن عباس ما قالوه كسبب لنزول الآية. ولقد رأينا الزمخشري يؤولها تأويلا وجيها متسقا مع ملاحظتنا وهو (لا يحلّ لكم أن تمسكوا زوجاتكم على كراهيتكم لهن حتى يمتن عندكم بقصد أن ترثوهن) وقد يكون من القرائن على أن الآية في صدد معاملة الأزواج لزوجاتهم ورود نهي عن نكاح زوجات الآباء في آية

_ (1) التاج فصل التفسير ج 4 ص 81.

مستقلة تأتي بعد الآيات التي نحن في صددها. ونرجح أن الروايات المساقة هي في صدد هذه الآية وأن سوقها في صدد الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها من قبيل الالتباس. والذي يتبادر لنا أن الآيات نزلت في مناسبة شكوى رفعها بعض الزوجات إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حق أزواجهن بسبب ما بدا من بعض المحاولات والمواقف التي تضمنتها الآية الأولى والله أعلم. ومع أن الآيات تبدو فصلا مستقلا فإن موضوعها متصل بموضوع النساء وحمايتهن وحقوقهن مما احتوت الآيات السابقة توطيده حتى ليصح أن يقال إنها استمرار لها. ومن المحتمل كثيرا أن تكون نزلت بعدها إن لم تكن نزلت معها فوضعت بعدها للمناسبة الظرفية والموضوعية. ولد سبقت وصايا ونواه وتحذيرات مماثلة في الآيات (222- 247) من سورة البقرة مما يؤكد ما كان يلقاه الزوجات من أزواجهن من المكايدة والأذى وما كان يعمد إليه الأزواج من أساليب لابتزاز أموالهن فاقتضت الحكمة مواصلة توكيد النواهي والتحذيرات للقضاء على هذه التصرفات المكروهة المتناقضة مع الحق والعدل والواجب والعهد الزوجي. وأسلوب الآيات هنا قوي رائع حقا. ينطوي على أبلغ التلقين وأروع العظة في حماية الزوجات وتعظيم شأن الصلة الزوجية ووجوب حسن معاشرتهن ومعاملتهن، وحمل النفس على ما تكره في هذا السبيل، والتعفف عن أموالهن ولو كانوا هم الذين أعطوها لهن لأنها صارت حقهن، وعدم التسرع في التخلي عنهن وتطليقهن. فإذا أضيف إليها ما احتوته الآيات العديدة الأخرى المكية والمدنية من مثل ذلك وفي صدده وقد مرّ منها أمثلة كثيرة بدا الأمر فذّا بالنسبة لجميع الشرائع، وصار من خصوصيات القرآن والشريعة الإسلامية ومرشحاتها للخلود والشمول. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات حديثا مقتطعا من حديث خطبة حجة وداع رسول الله رواه مسلم وأبو داود جاء فيه «اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن

مسألة المغالاة في المهور

بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله» «1» وفي مجمع الزوائد حديث رواه ابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي» مما فيه تلقين متسق مع التلقين القرآني في وجوب إحسان معاملة الزوجات والبرّ بهنّ، وهناك حديث آخر مهم رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يفرك مؤمن مؤمنة وإن كره منها خلفا رضي منها بآخر» «2» . وجمهور المفسرين والمؤولين على أن جملة يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ في الآية الأولى كناية عن الزنا. وإن للزوج في حالة ثبوت ذلك على زوجته حقا في استرداد مهرها وما قد يكون أعطاها إياه من مال أو بعضه بالأسلوب الذي لا يخالف شرعا ولا عرفا. وهذا متسق مع روح الآية كما هو المتبادر. مسألة المغالاة في المهور ولقد روى المفسرون في سياق الآية [20] أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس في خلافته فقال «ما إكثاركم في صداق النساء وقد كان الصداق في عهد النبي وأصحابه أربعمائة درهم فما دون ذلك. ولو كان في الإكثار تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها، فلأعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم» . ثم نزل، فاعترضته امرأة من قريش فقالت يا أمير المؤمنين نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم، قال نعم، فقالت أما سمعت ما أنزل الله؟ قال وأي ذلك؟ فقالت: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فقال اللهم غفرا كل الناس أفقه من عمر، ثم رجع فركب المنبر فقال: أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب- وفي رواية- فمن طابت نفسه فليفعل» «3» . ورووا روايات أخرى من بابها جاء في إحداها أن عمر بن الخطاب قال: لا تغالوا في مهور النساء، فقالت

_ (1) التاج ج 2 ص 143 و 288. (2) المصدر نفسه. وكلمة يفرك بمعنى يبغض والراجح أن المقصود بمؤمن ومؤمنة زوج وزوجة مؤمنان. (3) النص منقول عن ابن كثير.

امرأة ليس ذلك لك يا عمر إن الله يقول وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً فقال عمر: إن امرأة خاصمت عمر فخصمته «1» . وجاء في إحداها أن عمر قال «لا تزيدوا في مهور النساء، فقالت امرأة ما ذاك لك، قال ولم؟ قالت إن الله قال وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً الآية فقال عمر امرأة أصابت ورجل أخطأ» «2» وجاء في إحداها أن عمر قال لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية من الفضة فمن زاد جعلت الزيادة في بيت المال فقالت امرأة ما ذاك لك: قال لم؟ قالت إن الله يقول وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً الآية فقال امرأة أصابت وأخطأ عمر «3» . وهذه الروايات لم ترد في الصحاح وقد روى أصحاب السنن حديثا فيه نهي من عمر عن المغالاة في المهور فقط عن أبي العجفاء قال «خطبنا عمر فقال ألا لا تغالوا بصداق النساء فإنّها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم. ما أصدق امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية» «4» . على أن عدم ورود قصة اعتراض إحدى النساء على عمر في هذا الحديث لا يمنع أن تكون روايته المروية بصيغ وطرق عديدة صحيحة. ولئن صحت فيكون فيه صورة رائعة عن العهد الراشدي. منها نباهة المرأة العربية وقدرتها على استنباط الأحكام من القرآن. وجرأتها على الدفاع عن حقوقها. وإقرار الرجال وفي

_ (1) النص منقول عن ابن كثير. (2) المصدر نفسه. (3) من رشيد رضا. (4) التاج ج 2 ص 270 وقيمة الاثنتي عشرة أوقية (480) درهما على ما جاء في شرح الحديث وهناك حديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي سلمة يؤيد ما جاء في الحديث المروي عن عمر جاء فيه (سألت عائشة كم كان صداق رسول الله قالت كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشّا. أتدري ما النش قال لا. قالت نصف أوقية فتلك خمسمائة درهم) انظر التاج ج 2 ص 269. [.....]

مقدمتهم الخليفة بذلك ومنها تراجع الخليفة عن وصية وصاها حينما نبهته المرأة إلى احتمال مخالفة الوصية للتلقين القرآني. والمتبادر أن إيعاز عمر كان اجتهادا منه فيه مصلحة للمسلمين. وهناك حديث رواه ابن حبان في صحيحه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه «إن من خير النساء أيسرهن صداقا» «1» وحديث ثان رواه أحمد والحاكم والبيهقي جاء فيه «إن من يمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير صداقها» «2» ومن المحتمل أن يكون عمر قد استأنس بهذه الأحاديث وأمثالها في إيعازه. وفي سورة النور آية تنطوي على تلقين قوي بوجوب تيسير الزواج لكل فئة وبخاصة للفقراء مما لا يتيسر إلّا بعدم المغالاة في المهور وهي وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) . وحتى على فرض صحة رواية احتجاج المرأة على عمر وتراجعه عن إيعازه فإنه ليس في الآية ما يصح الاستدلال به على أن المبلغ الكبير الذي عنته بلفظ القنطار هو المهر فقط حيث يمكن أن يكون مجموعة عطايا من الزوج. وعبارتها تهدف إلى حماية المرأة وعدم ابتزاز ما صار حقها الشرعي من مال أعطاه لها زوجها فيه المهر وغير المهر مهما كثر. ويظل تلقين آية سورة النور والأحاديث النبوية وإيعاز عمر واردا واجب الاحترام بل ومخولا للحكام الإشراف على مقادير المهور ومنع المغالاة فيها في كثير من الظروف التي لا يكون أكثر الناس فيها قادرين على دفع مهور عالية حيث يؤدي هذا إلى تعسير الزواج وتزايد الأيامى- أي العزاب- من رجال ونساء وعبيد وإماء، وبعبارة أخرى إلى تعطيل أمر الله الوارد في آية سورة النور أما القادرون فالذي يتبادر لنا أنه ليس في التلقين المشار إليه ما يحول دون زيادة المهر بينهم عن المقدار المحدد في الروايات المروية. ولعل حكمة عدم

_ (1) انظر تفسير الآية في تفسير المنار. (2) المصدر نفسه.

[سورة النساء (4) : آية 22]

تحديد المقدار في الكتاب والسنة مع حضهما على التساهل فيه بالنسبة للناس الذين لا يقدرون على الكثير وهم الأكثرية الساحقة تلمح في كون طبيعة الحياة التي فيها التفاوت في المقدرة والمراتب الاجتماعية لا تتعارض مع الزيادة بالنسبة للقادرين بل تجعل ذلك مما لا يمكن تفاديه. وهكذا تتسق الشريعة الإسلامية مع مصلحة الأكثرية الساحقة من الناس ومع طبيعة الحياة في مختلف الظروف وهذا من مرشحاتها للشمول والخلود. ولقد روى أبو داود والنسائي وأحمد حديثا عن أمّ حبيبة أم المؤمنين قالت «إنها كانت تحت عبد الله بن جحش فمات بأرض الحبشة فزوّجها النجاشي النبيّ صلى الله عليه وسلم وأمهرها منه أربعة آلاف درهم وبعث بها إلى رسول الله مع شرحبيل بن حسنة» «1» حيث يمكن الاستئناس بهذا على ما قلناه والله سبحانه أعلم. [سورة النساء (4) : آية 22] وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22) . تعليق على الآية وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إلخ عبارة الآية واضحة. وهي في نهي المسلمين عن عادة بشعة جاهلية وتشنيعها وإبطالها. وقد روى المفسرون «2» أنه كان من عادة العرب قبل الإسلام- ومنهم من روى ذلك عن أهل المدينة خاصة- إذا مات رجل منهم عن زوجة وله ابن بالغ من غيرها وألقى عليها ثوبا فإن ذلك يكون بمثابة إعلان رغبته فيها فيصبح أحق بها من نفسها إن شاء تزوجها وإن شاء زوجها لغيره وإن شاء أمسكها في بيته وإن شاء سرحها مقابل فدية تفدي بها نفسها من مال تدفعه أو حق تتنازل عنه له. وقد رووا

_ (1) التاج ج 2 ص 270. (2) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والزمخشري والطبرسي.

هذا في سياق الآيات السابقة كما ذكرنا قبل. ورووا إلى هذا أن الآية نزلت في مناسبة مراجعة امرأة كانت زوجة لأبي قيس بن الأسلت الأنصاري، فلما مات خطبها ابنه فأتت رسول الله وأخبرته وقالت إني أعدّ ابنه ابنا لي فما لبثت الآية أن نزلت بالنهي. كذلك مما رووه أن الآية نزلت في مناسبة حالات متعددة من هذا الباب ذكروا أسماء أصحابها من قريش حيث خلف صفوان بن أمية والأسود بن خلف على زوجتي أبويهما. ويلحظ أولا أن الآية منصبة على النهي عن نكاح زوجات الآباء وتشنيعه فقط، وثانيا أنه جاء بعدها فصل فيه بيان المحرم على المسلمين من الأنكحة والحلال لهم حيث يسوغ القول إنها غير منقطعة عن السياق السابق واللاحق موضوعا وظرفا. وهذا لا يمنع أن يكون بعض الروايات أو جميعها وقعت أو مما كان يقع وإن امرأة شكت أمرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نزول الآية وما بعدها من ما فيه محرمات الأنكحة. وأسلوب الآية قوي في التشنيع حاسم في النهي. والمتبادر أن استثناء ما قد سلف قد استهدف تسوية نتائجه الطبيعية كالذرية التي نتجت من هذا النكاح تسوية شرعية وحقوقية. وفي هذا من الحكمة والحق ما هو ظاهر. ويستفاد من أقوال المفسرين «1» ورواياتهم عن أهل التأويل أن الاستثناء أي جملة إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ هو من أجل الأولاد الذين ولدوا من هذه الحالة قبل تحريمها ليعتبروا أولادا شرعيين لأنهم من نكاح كان سائغا وليس للسماح باستمرار الزوجية بين زوجة الأب وابن الزوج. وهو حق سديد، ولقد روى الترمذي حديثا عن فيروز الديلمي قال «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له إني أسلمت وتحتي أختان فقال اختر أيّتهما شئت وفي رواية طلّق أيّتهما شئت» «2» وقد حرمت آية تأتي بعد هذا جمع الأختين إلّا ما قد سلف حيث يدعم هذا ذلك القول.

_ (1) انظر بخاصة تفسير ابن كثير والطبرسي والخازن لهذه الآيات. (2) التاج ج 2 ص 324.

ولقد قال المفسر ابن كثير في سياق تفسير الآية إن من يتزوج زوجة أبيه بعد تحريم ذلك يكون مرتدا عن دينه فيقتل ويصير ماله فيئا لبيت المال. وأورد للتدليل على ذلك حديثا رواه أصحاب السنن والإمام أحمد عن البراء بن عازب قال «لقيت عمي ومعه راية فقلت أين تريد قال بعثني رسول الله إلى رجل نكح امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله» «1» حيث يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع هذه العقوبة لمثل هذا الجرم الفظيع حينما اقترف في الإسلام رغم التحريم والتسفيه الشديدين اللذين احتوتهما الآية. وهناك أقوال يوردها المفسرون ومنهم من يعزوها أو يعزو بعضها إلى أهل التأويل من أصحاب رسول الله وتابعيهم في مدى الآية «2» من ذلك أن لفظ الآباء يشمل الجد بحيث يكون التحريم شاملا لنكاح ما نكحه الجد من قبل حفيده ومنها أن زوجة الأب تحرم على الابن ولو لم يدخل بها أن كان طلقها أو مات عنها قبل الدخول. ومنها أن التحريم يشمل ما استفرشه الآباء من إمائهم وما باشروه مباشرة بدون جماع من إمائهم وزوجاتهم بل ومن يكونون خلوا بهن منهن أو رأوهن مجردات أي عاريات. ثمّ تخلوا عنهن بدون جماع، وهذه أقوال وجيهة. وهناك اختلاف في ما جامعه الآباء سفاحا وما باشروه مباشرة وقبلوه بشهوة بدون جماع من نساء حرائر وإماء ولم يكنّ زوجاتهم وملك يمينهم. فبعض المؤولين والفقهاء أخذوا جملة وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ على معنى الجماع بالزواج أو بالسفاح وألحق به المباشرة والتقبيل بشهوة. وقال إن ذلك يحرم المرأة المزني بها أو المباشرة أو المقبلة بشهوة على الأبناء. وعزا الخازن هذا القول إلى عمران بن الحصين وجابر بن زيد والحسن وفقهاء العراق. ورتب أصحاب هذا الرأي حرمة المصاهرة عليه بحيث تكون بنت الزنا محرمة على أخيها الشرعي وعلى والد أبيها. وبعضهم أخذوا الجملة على معنى عقد الزواج وقالوا بعدم حرمة من ليس زوجة

_ (1) التاج ج 3 ص 26. (2) انظر كتب تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن مثلا.

[سورة النساء (4) : الآيات 23 إلى 24]

بعقد يجب فيه الصداق على الزوج ويلحق به الولد وتجب فيه العدة على الزوجة، وعزا الخازن هذا القول إلى علي وابن عباس وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والزهري ومالك والشافعي وفقهاء الحجاز ومعنى هذا أن زواج الابن من امرأة زنى بها الأب غير محرم فضلا عن ما باشره أو خلا بها أو قبله بشهوة من نساء حراما. وهذا الرأي مستفاد من الجزء الثاني من موطأ مالك. وإذا لحظنا أن القرآن إنما استعمل كلمة (النكاح) ومشتقاتها في مقام الزواج وعقده دون استثناء. مما مثاله ما جاء في آية البقرة وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ [221] وفي آية الأحزاب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها [49] ومما سوف يأتي أمثلة له في هذه السورة وما بعدها يكون القول الثاني هو الأوجه. وإن كان ضمير المرء يشعر أن القول الأول لا يخلو من وجاهة أيضا باستثناء اللمس والتقبيل بشهوة والمباشرة بدون جماع للمرأة غير الزوجة لأن هذه الأفعال لا يمكن أن تدخل في وصف النكاح ولو حمل على محمل الجماع. والمتبادر أن الإماء يلحقن بالحرائر في كلا القولين والله تعالى أعلم. [سورة النساء (4) : الآيات 23 الى 24] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) .

(1) ربائبكم: جمع ربيبة وهي بنت الزوجة والمتبادر أن التسمية من معنى كون الزوج يرب أو يربي بنت زوجته في كنفه. (2) في حجوركم: بمعنى في كفالتكم مع أمهاتهن. (3) حلائل: جمع حليلة وهي الزوجة. (4) المحصنات من النساء: كلمة المحصنات جاءت في مقامات في القرآن في معان متنوعة. منها الحرائر ومنها العفيفات ومنها المتزوجات والجمهور على أنها هنا بالمعنى الأخير وهو الملموح من روح الآية. (5) أجورهن: بمعنى مهورهن. (6) فريضة: مفروضة متفقا عليها. الخطاب في الآيتين موجّه إلى المسلمين وقد أوذنوا فيه بما كتب الله لهم من الحلال والحرام في الأنكحة كما يلي: 1- حرم عليهم التزوج بأمهاتهم، وبناتهم، وأخواتهم، وعماتهم، وخالاتهم، وبنات إخوتهم، وبنات أخواتهم، ومرضعاتهم اللاتي يعتبرن أمهاتهم، وبنات مرضعاتهم اللاتي يعتبرن أخواتهم، وأمهات زوجاتهم، وبنات زوجاتهم من أزواج غيرهم إذا كانوا قد دخلوا بهن باستثناء اللاتي يطلقوهن قبل الدخول بهن، وزوجات أبنائهم الذين من أصلابهم، وجمع الأختين في آن واحد مع العفو عما كان من ذلك قبل نزول الآيات والنساء المتزوجات باستثناء ما ملكته أيمانهم. 2- وأبيح لهم أن يتزوجوا بغير هذه المحرمات مع تنبيههم إلى وجوب أن تكون غايتهم الإحصان والعفة عن الزنا والسفاح. وإلى وجوب أدائهم مهرا للمرأة التي يتزوجون بها كفرض متفق عليه مع إباحة التراضي في شأنه بعد تسميته وأدائه زيادة أو نقصا حسب التراضي. الجزء الثامن من التفسير الحديث 5

تعليق على الآية حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم ... إلخ والآية التالية لها وما يتصل بهما من أحكام

تعليق على الآية حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ ... إلخ والآية التالية لها وما يتصل بهما من أحكام ولم نطلع على مناسبة خاصة لنزول الآيتين. وما احتوتاه هو تشريعات رئيسية قد لا تحتاج إلى مناسبات خاصة. غير أن الّذي نرجحه أنهما نزلتا بسبب حوادث متنوعة في صدد حرام الأنكحة وحلالها كثرت في مناسباتها الاستفتاءات والمناقشات. وهو المتسق مع ما جرت عليه حكمة التنزيل في التشريع وغير التشريع في الأعمّ الأغلب. والتناسب الموضوعي الخاص بين الآيتين والآية السابقة لها أولا والتناسب الموضوعي العام بينهما وبين الآيات السابقة جملة واضح. فإما أن تكون الآيتان نزلتا بعد السياق السابق بدون فاصل فوضعتا في مكانهما للتناسب الموضوعي والظرفي وإما أن تكونا نزلتا لحدتهما بعد وقت ما فوضعتا في مكانهما للتناسب الموضوعي. ولم نطلع على روايات تفيد أن شيئا من المحرمات المذكورة وبخاصة الرئيسية منها مثل الأم والبنت والأخت والعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت وزوجة الابن من الصلب كان مباحا عند العرب قبل الإسلام وقد تكون جملة إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ في صدد نكاح زوجات الآباء والجمع بين الأختين قرينة على أن المحرمات المذكورة في الآيتين وبخاصة الرئيسية كانت محرمة قبل الإسلام. ولعلهم كانوا يتساهلون في غير هذه المحرمات الرئيسية كأمهات الرضاع وأخوات الرضاع والربائب مثل تساهلهم في نكاح زوجة الأب والجمع بين الأختين. وكانوا إلى هذا يتشددون في تحريم نكاح أرامل ومطلقات الأبناء حتى شمل ذلك مطلقات الأبناء بالتبني فاقتضت حكمة التنزيل إيحاء هذه الآيات لتكون أحكاما صريحة شاملة لجميع الحالات بأسلوب حاسم.

والنصّ على تحريم زوجة الابن من الصلب فقط وقيد تحريم الربائب بالدخول بأمهاتهن وما ورد من أحاديث حرمة الرضاع على ما سوف نورده بعد قد يكون قرائن على ما نقول. والنصّ على تحريم زوجة الابن من الصلب فقط الذي خرج به تحريم زوجة الابن بالتبني من المحرمات قد يدل على أن هذه الآيات قد نزلت بعد إبطال تقليد التبني وتوابعه في سورة الأحزاب. ولعل ذلك من أسباب تقديم سورة الأحزاب على هذه السورة في روايات ترتيب النزول. وقد نبّه المفسرون «1» والفقهاء ومنهم من عزا قوله إلى أهل التأويل من أصحاب رسول الله وتابعيهم على أن تعبير الأب في المحرمات يشمل الجد وتعبير الأم يشمل الجدة، وتعبير الابن يشمل ابن الابن وبنت الابن، وتعبير البنت يشمل ابن البنت وبنت البنت، وتعبير العمة يشمل عمة الأب وعمة الأم، وتعبير الخالة يشمل خالة الأب وخالة الأم. وهذا وجيه ومتسق مع روح الآيات وأساليب اللغة العربية، ونبهوا كذلك على حرمة الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها استنادا إلى حديث رواه الخمسة عن أبي هريرة جاء فيه «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها» «2» وهذا تشريع نبوي لحالة سكت القرآن عنها. ونبهوا كذلك على حرمة وطء الرجل والدة أمته التي يستفرشها ولا بناتها من غيره ولا بنات أبنائها وبناتهم أيضا ولو كن ملك يمينه. وهو قول سديد. ولم نقع على قول في عمات الأمة التي يستفرشها سيدها وخالاتها أو الجمع بينها وبينهن. ويتبادر لنا أن هذا ينسحب عليه ذلك الأصل لأن تعليله جنسي ولا يتبدل في حالة الحرية والرق. والله أعلم. ونبهوا أيضا على أن زوجات الكفار داخلات في مدى عبارة وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ محرمات على المسلمين على اعتبار أنهن ذوات أزواج سواء أكنّ مشركات أم كتابيات باستثناء ما يسبيه المسلمون من

_ (1) انظر تفسير الخازن وابن كثير والطبري والبغوي وغيرهم. (2) انظر أيضا التاج ج 2 ص 264.

أعدائهم الكفار نتيجة لحرب وقتال من نساء حيث أبيح لهم أن يستفرشوهن لأنهن غدون ملك يمين لهم على ما تفيده جملة إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مما سوف نزيده شرحا بعد. وفي موطأ مالك «1» حالات أخرى. منها عزوا إلى زيد بن ثابت (عدم صحة زواج رجل من أم زوجة عقد عليها ثم طلقها قبل أن يمسها لأنه صارت أم زوجته على كل حال) وهذا متسق مع إطلاق العبارة القرآنية. ومنها بدون عزو إلى أحد (حالة الرجل تكون تحته امرأة فيجامع أمها. حيث تحرم عليه زوجته وأمها معا) . وهذا اجتهاد تطبيقي للجملة القرآنية إذا أخذ بقول من يقول بحرمة المرأة التي يصيبها الرجل ولو سفاحا. وقد علقنا على هذا سابقا. ولم يذكر شيء في الآيات عن دين النساء اللاتي يحل للمسلم أن يتزوجهن. غير أن الآية التالية لهذه الآيات مباشرة ذكرت ذلك بأسلوب يفيد وجوب كونهن من المؤمنات. ولقد حرمت آية البقرة [220] نكاح المشركات على ما شرحناه قبل. ولقد أدخل تعديل على ذلك بإباحة الكتابيات في آية سورة المائدة [5] على ما سوف نشرحه بعد. وفي صدد حرمة الرضاع روى الخمسة عن عائشة رضي الله عنها حديثا جاء فيه «قال النبي صلى الله عليه وسلم يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة» «2» . وحديثا ثانيا رواه الشيخان جاء فيه «يحرم من الرضاعة ما يحرم من الرحم» «3» . وحديثا ثالثا رواه جميعهم عدا الترمذي عن أم حبيبة «قالت يا رسول الله إنا لنتحدث أنك تريد أن تنكح درة بنت أبي سلمة فقال: بنت أم سلمة، قلت نعم قال فو الله لو لم تكن في حجري ما حلّت لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وأبا سلمة ثويبة» «4»

_ (1) الموطأ ج 2 ص 23 و 24. (2) انظر التاج ج 4 ص 264- 265. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. [.....]

وحديثا رابعا رواه الخمسة إلّا البخاري عن أمّ الفضل جاء فيه «قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحرّم الرضعة أو الرضعتان أو المصّة أو المصتان» «1» . وحديثا خامسا رواه البخاري والترمذي عن عقبة بن الحارث قال: «تزوجت امرأة فجاءتنا امرأة سوداء فقالت أرضعتكما فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته وقلت إن المرأة كاذبة فأعرض، فأتيته من قبل وجهه وقلت إنها كاذبة، قال كيف بها وقد زعمت أنها أرضعتكما، دعها عنك» «2» . وحديثا سادسا رواه الترمذي جاء فيه «أن ابن عباس سئل عن امرأتين في عصمة رجل واحد أرضعت إحداهما جارية (بنتا) والأخرى غلاما أتحلّ الجارية للغلام فقال لا إن اللقاح واحد» «3» . وحديثا سابعا رواه الترمذي عن أم سلمة قالت «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحرم من الرضاع إلّا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام» «4» . وحديثا ثامنا عن ابن عباس رواه الدارقطني جاء فيه «قال رسول الله لا يحرم من الرضاع إلّا ما كان في الحولين» «5» . وفي موطأ مالك أحاديث أخرى. منها حديث عن عائشة قالت: «جاء عمي من الرضاعة يستأذن عليّ فأبيت أن آذن له حتى أسأل رسول الله فسألته فقال إنه عمك فأذني له قالت يا رسول الله إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل قال إنه عمك فليلج عليك» «6» وحديث عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أنه أخبره «أن عائشة زوج النبي كان يدخل عليها من أرضعته أخواتها وبنات أخيها. ولا يدخل عليها من أرضعته نساء أخواتها» «7» . وليس في الأحاديث ما ينقض الجملة الواردة في الآية الأولى في تحريم

_ (1) انظر التاج ج 4 ص 264- 265. (2) انظر أيضا التاج ج 2 ص 266. (3) المصدر نفسه. (4) ابن كثير. (5) المصدر نفسه. (6) الموطأ ج 2 ص 68- 70. (7) المصدر نفسه.

المرضعات وبناتهن وإنما فيها توضيح وتوسيع ومن الواجب الأخذ بها بحيث يصح القول على ضوئها وضوء الجملة القرآنية أن الرضاعة المشبعة في سن الرضاعة هي التي تحرم النكاح وأن الرضاعة بهذا الوصف تحرم من الأنكحة ما يحرمه الرحم والولادة حيث تغدو المرضعة بمثابة أم الطفل أو الطفلة التي رضعت منها فتحرم هي على الطفل كما يحرم عليه بناتها وأخواتها وعماتها وخالاتها وبنات أبنائها وبنات بناتها ويحرم على الطفلة أبو المرضعة وأبناؤها وإخوتها وأعمامها وأخوالها ويحرم على الطفل من رضع معه منها من بنات غير بناتها ويحرم على الطفلة من رضع معها منها من صبيان غير صبيان مرضعتها مع التنبيه على أن هناك بعض اختلافات مذهبية لا يتحمل منهج التفسير بسطها. ولقد روى الخمسة إلّا البخاري حديثا عن عائشة جاء فيه «كان فيما أنزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرّمن، ثم نسخن بخمس معلومات وتوفي رسول الله وهنّ فيما يقرأ من القرآن» «1» ، ونحن في حيرة من هذا الحديث. ففي عهد أبيها حرر مصحف رسمي ليكون الإمام والمرجع على ملأ من المسلمين ولا يعقل أن تسكت على عدم إثبات قرآن مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو قرآن في المصحف ولا يعقل أن ترد شهادتها في ذلك ونرجح أن في الأمر التباسا وقد ناقش رشيد رضا هذه المسألة وقال ما مفاده أن رواية الخمس عنها هي المعتمدة وبها يقول أهل الحديث ويرون أن العمل بها يجمع بين الأحاديث. ورواية القرآن كقرآن لا تثبت إلا بالتواتر وليس هناك تواتر يؤيد صحة ما روي في هذا عن عائشة رضي الله عنها. وعلى كل حال فإن قصارى الأمر تقرير كون حرمة الرضاع منوطة بالرضاعة الكثيرة المشبعة لا بالمصة والمصتين وهو ما تضمنت الأحاديث الأخرى تقريره. ولقد روى مالك قولا عن سعيد بن المسيب «2» (إن كل ما كان في الحولين وإن كانت قطرة واحدة يحرّم) وعن ابن شهاب (إن الرضاعة قليلها وكثيرها إذا

_ (1) التاج ج 2 ص 265. (2) الموطأ ج 2 ص 68.

كانت في الحولين تحرم) ولا يروي الإمام مالك ما رواه البخاري وغيره من أصحاب الكتب الخمسة وأوردناه آنفا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا ندري إذا كانت لم تبلغه أو لم تثبت عنده وعند سعيد وابن شهاب. وما دامت هذه الأحاديث واردة في كتب الصحاح فهي الأكثر وثاقة ولزوما وما فيها هو الأسدّ والأوجه في الوقت نفسه والله تعالى أعلم. وقد تعددت أقوال المفسرين ورواياتهم في تأويل جملة إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ بعد جملة وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ «1» منها أنها في صدد إباحة التزوج بسبايا الأعداء اللاتي يكون لهن أزواج أو وطئهن كإماء. حيث يكون السبي قد جعلهن ملك يمين المسلمين وأحلّ لهم وطئهن رغم كونهن ذوات أزواج، وقد رووا في صدد ذلك عن أبي سعيد الخدري «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشا إلى أوطاس فأصابوا سبيا لهن أزواج من المشركين فكرهوا غشيانهن فأنزل الله هذه الآية بإباحتهن» «2» ومنها أنها في صدد الأمة التي تكون مستفرشة من سيدها فيبيعها أو يهبها لغيره حيث تضمنت الجملة على رأي أصحاب هذا القول إباحة استفراشها من سيدها الجديد أيضا. ومنها أن الجملة في صدد إباحة استفراش الإماء من قبل مالكيهن بدون تحديد، بالإضافة إلى أربع زوجات شرعيات، واعتبار ذلك غير مقيد بما قيد به الزواج من عدد ومهر إلخ. وقد يكون القول الأول هو الأكثر اتساقا مع مقام الجملة. غير أن الجملة جزء من آية والآية جزء من سياق بحيث يسوغ التوقف في التسليم بنزول الجملة لحدتها حسب الرواية المروية عن أبي سعيد الخدري. ولعل حادث جيش أوطاس كان سابقا لنزول الآيات فأباح النبي صلى الله عليه وسلم للمجاهدين وطء سبايا المشركين ثم أيد القرآن ما أباحه النبي صلى الله عليه وسلم في سياق بيان الحلال والحرام من الأنكحة.

_ (1) انظر تفسيرها في ابن كثير والخازن والطبرسي والبغوي. (2) أورد هذا الحديث ابن كثير والخازن ورواه الترمذي وأبو داود أيضا. انظر التاج ج 4 ص 81 في فصل التفسير.

وننبه في هذه المناسبة على أن وطء المسبية والأمة التي يبيعها سيدها أو يهبها وتكون مستفرشة له قبل بيعها لا يجوز إلّا بعد استبراء رحمها. وقد روي أن المسلمين أخذوا يقعون على سبايا خيبر فأرسل النبي مناديا ينادي «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعن على امرأة من السبي حتى يستبرئها» «1» وهناك حديث رواه أبو داود والترمذي أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يحلّ لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها بحيضة» «2» . وواضح من إطلاق الآية والأحاديث أن المسلم يستطيع أن يستفرش أمته سواء أكانت مسلمة أم غير مسلمة إطلاقا وهو ما عليه الجمهور دون خلاف. أما آية البقرة [220] التي نهي فيها عن نكاح المشركات فهي في صدد التزوج بهن بعقد على ما نبهنا عليه في مناسبتها. ومما نبّه عليه المفسرون «3» وأهل التأويل في هذا الصدد أن سيد الأمة حينما يهبها أو يبيعها تخرج من نطاق ملك يمينه فلا تعود تحل له وهي في ملك غيره إلّا إذا اشتراها ثانية أو وهبت له. وإلّا إذا تزوجها بعقد مما أباحته آية تأتي بعد قليل. وهذا سديد وجيه. وننبه على أن بيع الأمة وهبتها يسوغان إذا لم تلد من سيدها فإذا ولدت صارت أم ولد ولم يعد يسوغ بيعها وهبتها وتصبح بعد موت سيدها حرة. ونذكر بهذه المناسبة بالتعليق الذي علقناه على هذا الموضوع في سياق الآيات الأولى من سورة المؤمنون لأن فيه بعض البيان الذي يحسن ملاحظته حين قراءة هذا الكلام. واستثناء ما قد سلف من حالة جمع الأختين هو مثل استثناء حالة زواج الابن من زوجة والده لتسوية النتائج الطبيعية تسوية حقوقية وشرعية كما قلنا في صدد استثناء الحالة الثانية.

_ (1) ابن سعد ج 3 ص 161. (2) التاج ج 2 ص 316. (3) انظر كتب التفسير السابقة الذكر. [.....]

ولقد أورد المفسرون «1» حديثا رواه أبو داود عن الضحاك بن فيروز عن أبيه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إني أسلمت وتحتي أختان فقال طلق أيتهما شئت. والمتبادر أن ذلك كان بعد نزول الآيات وكتطبيق لها. ولقد نبّه المفسرون إلى أن عقد نكاح الأخت مع الأخت باطل. فإن كان العقد على الأختين معا فالعقد عليهما باطل وإن كان العقد على واحدة بعد أخرى فعقد الثانية باطل. كذلك نبهوا إلى أن حرمة الجمع بين الأختين شاملة لملك اليمين أيضا بحيث قالوا عزوا إلى بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم أنه لا يجوز لسيد أن يستفرش أختين في آن واحد. وقد فرضوا حالة ثالثة وهي أن تكون واحدة ملك يمين وثانية حرة وقالوا إن هناك من جوز ذلك ولكن الأكثر على خلافه. ورووا بسبيل ذلك حديثا أخرجه الإمام مالك جاء فيه: أن رجلا سأل عثمان عن أختين مملوكتين لرجل هل يجمع بينهما فقال أحلتهما آية وحرمتهما آية، فأمّا أنا فلا أحب أن أصنع ذلك فخرج من عنده فلقي رجلا من أصحاب رسول الله هو في رواية علي بن أبي طالب وفي رواية الزبير بن العوام فسأله فقال: أما أنا فلو كان لي من الأمر شيء لم أجد أحدا فعل ذلك إلّا جعلته نكالا «2» . والنهي عن جمع الأختين في الآية مطلق بحيث يتبادر أنه شامل للأخوات مطلقا سواء أكن حرائر أو إماء أو بعضهن حرائر وبعضهن إماء والله أعلم. وهناك نقاط أخرى متصلة بمدى الآيات رأينا من المفيد الإلمام بها: إن الآيات تأمر بإيتاء النساء مهورهن وفرضها لهن فريضة. وآيات البقرة [236 و 237] تفيد سواغ عقد النكاح بدون تعيين المهر وأدائه مسبقا. فيكون الأمر في الآيات التي نحن في صددها مطلقا لإيجاب أداء المهر سواء كان قبل العقد أم بعده وهناك حديث رواه أصحاب السنن في صدد ذلك وفي صدد المهر الواجب في هذه الحالة جاء فيه «سئل ابن مسعود عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الخازن وابن كثير والطبرسي. (2) المصدر نفسه.

لها صداقا ولم يدخل بها حتى مات فقال لها صداق نسائها لا وكس ولا شطط ولها ميراثه وعليها العدّة فقام معقل بن سنان فقال قضى رسول الله في بروع بنت وأشق مثل الذي قضيت ففرح بها ابن مسعود» «1» . ويقاس على هذا جواز العقد والدخول قبل فرض الصداق وأدائه واستحقاق المرأة المدخول بها صداق أمثالها كما هو المتبادر. أما مهر المرأة المطلقة في مثل هذه الحالة فالحكم في آيات البقرة [236 و 237] وفي نطاق ما شرحناها. 2- وإيجاب إعطاء المرأة مهرها يمنع تزويج الرجل بنته أو أخته لرجل مقابل تزوج بنت الرجل أو أخته بدون مهر وهو ما عرف بالشغار الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم أيضا في أحاديث سبق إيرادها قبل قليل. 3- ولقد سبق تعليق على المهور والمغالاة فيها قبل قليل أيضا فنكتفي به في صدد مقادير المهور في الإسلام. وهناك أحاديث لم نوردها في التعليق رأينا أن نوردها هنا لأن فيها سننا للمسلمين في بعض الحالات. من ذلك حديث رواه الترمذي وصححه جاء فيه «تزوجت امرأة من بني فزارة على نعلين فقال رسول الله أرضيت نفسك بنعلين قالت نعم فأجازه» «2» . وحديث رواه الخمسة عن سهل بن سعد جاء فيه «إنّ امرأة جاءت إلى رسول الله فقالت جئت لأهب لك نفسي فنظر رسول الله إليها وصعّد نظره ثم طأطأ رأسه. فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست فقام رجل من أصحابه فقال يا رسول الله إن لم تكن لك حاجة بها فزوجنيها فقال هل عندك من شيء قال لا والله يا رسول الله قال فاذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا فذهب ثم رجع فقال لا والله يا رسول الله ما وجدت شيئا قال انظر ولو خاتما من حديد فذهب ثم رجع فقال لا والله يا رسول الله ولا خاتما من حديد ولكن هذا إزاري فلها نصفه فقال رسول الله ما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء فجلس الرجل حتى طال مجلسه ثم قام

_ (1) التاج ج 2 ص 273 صداق نسائها يعني صداق أمثالها. والعدة هي عدة حداد الزوجة المتوفى عنها زوجها. (2) التاج ج 2 ص 270.

فرآه رسول الله موليا فأمر به فدعي فقال ما معك من القرآن قال معي سورة كذا وسورة كذا عددها قال أتقرأهن عن ظهر قلبك قال نعم قال اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن وفي رواية زوجتكها بما معك من القرآن» «1» . 4- وغير المحرمات في الآية المسموح للمسلم التزوج بهن يجب أن يكون بموافقتهن على ما يستفاد من أحاديث نبوية عديدة منها حديث رواه الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن قالوا يا رسول الله وكيف إذنها قال أن تسكت» «2» . وفي رواية «الثيب أحقّ بنفسها من وليها والبكر تستأمر وإذنها سكوتها» «3» . وحديث رواه أصحاب السنن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «تستأمر اليتيمة في نفسها فإن سكتت فهو إذنها وإن أبت فلا جواز عليها» «4» . وحديث رواه البخاري وأبو داود عن خنساء بن خدام الأنصارية «أن أباها زوجها وهي ثيّب فكرهت ذلك فأتت رسول الله فردّ نكاحها» «5» وحديث رواه أبو داود وأحمد جاء فيه «جاءت جارية بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم» «6» . وجمهور الفقهاء على أن هذه الأحاديث هي بالنسبة للبالغات، وأن للولي أن يزوج غير البالغة بدون حاجة إلى استئمارها وإذنها لأنها غير راشدة. وليس هناك حديث صريح في إثبات ذلك ونفيه. والقول وجيه سديد بتعليله. 5- والأحاديث لا تنفي مع ذلك دور الولي للبالغات وإنما تحتم استئماره لمن هي تحت ولايته إن كانت بكرا وتمنعه من تزويجها وهي غير موافقة. وتجعل الثيب أكثر انطلاقا في حقها في التصرف في نفسها.

_ (1) التاج ج 2 ص 271 و 272. (2) المصدر نفسه ص 266 و 267. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه. (6) المصدر نفسه.

على أن هناك أحاديث تجعل دور الولي أقوى بروزا. منها حديث رواه أبو داود والترمذي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل. ثلاث مرات. فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها. فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» «1» . وصيغة الحديث تحتمل أن يكون في حق البكر والثيب معا. وهناك حديث يرويه أحمد والبيهقي جاء فيه «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» «2» وحديث رواه أصحاب السنن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أيما امرأة زوّجها وليّان فهي للأول منهما» «3» ، وليس في الأحاديث ما يخلّ في وجوب استئمار البكر والثيب وإذنهما مما قررته الأحاديث السابقة كما هو المتبادر. وننبه على أن آيات سورة البقرة [228- 231 و 234 و 240] تقرر بشيء من القوة والصراحة بأن للمرأة المطلقة والمترملة أن تتصرف بنفسها بدون تدخل وليها بل إن الآية [231] تنهى الولي عن ممانعتها من الرجوع إلى زوجها إذا تراضت معه. وبناء على ذلك ثم على نصوص الأحاديث فإن المذاهب الفقهية مع اتفاقها على حق الولي في تزويج من هي تحت ولايته إذا كانت بالغة بكرا كانت أم ثيبا مع الحصول على إذنها وموافقتها فإن منها من لا يرى ضرورة لموافقة ولي ولا لشهود ومنها من يرى ذلك ضروريا ومنها من لا يرى ذلك ضروريا بالنسبة للثيب دون البكر. ومنها من جعل للقاصرة حق الخيار والرفض حينما تبلغ إذا كرهت تزويج وليها لها. ويتبادر لنا على ضوء الآيات والأحاديث أن الصواب هو أن للثيب حق

_ (1) التاج ج 2 ص 266 و 267. (2) المصدر نفسه ص 267 و 268. (3) المصدر نفسه.

التصرف بنفسها دون ضرورة للولي. وإن موافقة الولي ضرورية بالنسبة للبكر بشرط موافقتها هي أيضا. وأن للقاصرة البكر التي يزوجها وليها الخيار حين بلوغها إذا لم يكن زوجها قد دخل بها. أما الشاهدان فنعتقد بضرورتهما لأن ذلك أحوط من الغش والخداع والضرر والله تعالى أعلم. 6- وفي صدد المرأة التي يظهر فيها عاهة روى الإمامان مالك والشافعي عن عمر قال «أيما رجل تزوّج امرأة بها جنون أو جذام أو برص فمسّها فلها صداقها كاملا ولزوجها غرم ذلك على وليها» «1» . 7- وفي صدد الوفاء بما يشرطه الزوج على نفسه من شروط روى الخمسة عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن أحق الشرط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج» «2» . وهذا الحديث واسع الآفاق بحيث يمكن أن يشمل كل شرط شرطه الزوج على نفسه لزوجته من لباس وسكن ومعاش وعدم قسمة للزوجة الثانية وعدم الزواج بأخرى وجعل الطلاق بيدها وعدم إخراجها من بلدها وعدم منعها من العمل وعدم إجبارها على الخدمة والعمل إلخ. وقد قال هذا غير واحد من المفسرين والمؤولين والفقهاء. وهناك من ساق حديثا رواه الخمسة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «كلّ شرط ليس في كتاب الله باطل» «3» وقالوا إن هذا الحديث ضابط للأمر فما كان من شرط لا يتناقض مع ما أباحه كتاب الله ورسوله أو منعاه وجب الوفاء به، ومن الأمثلة التي سيقت مسألة شرط عدم التزوج بأخرى وعدم القسمة للأخرى وعدم إخراج الزوجة من بلدها لأن كل هذا من حق الرجل شرعا وفاق كتاب الله وسنّة رسوله. ومع صواب القول إن الحديث يكون ضابطا فإن للمرأة أن ترفع أمرها للحاكم ليقدر مدى انطباق الشرط على شرع الله ورسوله فيلزم به الزوج والله أعلم.

_ (1) التاج ج 2 ص 299. [.....] (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه ص 271.

8- وفي صدد الحثّ على الزواج روى الخمسة حديثا عن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» «1» ومن المفسرين من أوّل (الباءة) بالقدرة المالية ومنهم من أولها بالقدرة الجنسية. والراجح أنها بالمعنى الأول. بقرينة نهاية الحديث. 9- وفي صدد إيجاب تزويج صاحب الخلق والدين ترجيحا على غيره ممن يكونون في حالة مالية أو اجتماعية أرقى ويكون دونه دينا وخلقا روى الترمذي وحسنه عن أبي حاتم المزني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلّا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد، قالوا يا رسول الله وإن كان فيه؟ قال إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ثلاث مرات» «2» . 10- وفي صدد المرأة الفضلى للزواج روى الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك» «3» . وللنسائي ومسلم «إن الدنيا كلّها متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة» «4» . وروى أبو داود والنسائي والحاكم وصححه عن معقل بن يسار قال «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أحببت امرأة ذات جمال وحسب وإنها لا تلد أفأتزوجها قال لا. ثم أتاه الثانية فنهاه. ثم أتاه الثالثة فقال تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم» «5» وروى أصحاب السنن «قيل يا رسول الله أي النساء خير قال التي تسرّه إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخالفه في

_ (1) التاج ج 2 ص 253 و 254 و 259. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه ص 257 و 258 والمتبادر أن مرد تفضيل ذات الدين إلى أن الوفاء وحسن الأخلاق والأمانة وحسن المعاشرة والاستقامة كل ذلك مضمون في حين لا يكون مضمونا بالصفات الثلاث الأخرى. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه.

تعليق وتمحيص في صدد نكاح المتعة

نفسها ولا مالها بما يكره» «1» . 11- وفي صدد نظر الرجل إلى من يريد أن يتزوجها روى مسلم والنسائي عن أبي هريرة قال «كنت عند النبي فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار فقال له أنظرت إليها قال لا. قال فاذهب فانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا» «2» وحديث رواه أبو داود والشافعي والحاكم وصححه عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل» «3» . وحديث رواه النسائي والترمذي وحسنه عن المغيرة قال إنه خطب امرأة فقال النبي له «انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما» «4» . 12- وفي صدد إعلان النكاح روى الترمذي وأحمد عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أعلنوا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليه بالدفوف» «5» . تعليق وتمحيص في صدد نكاح المتعة ولقد كانت جملة فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ موضوع تأويلات وروايات عديدة ومختلفة «6» منها أنها في معنى كون المهور الواجب إعطاؤها للنساء هي

_ (1) المصدر السابق نفسه. (2) التاج ج 2 ص 260- 275 وفي كتب الحديث أحاديث كثيرة أخرى فاكتفينا بما تقدم هنا وقد أوردنا منها طائفة في مناسبات سابقة وسنورد طائفة أخرى في مناسبات آتية إن شاء الله. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه. (6) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري وغيرهم وقد ألمّ بهذا الموضوع وما دار حوله وما ورد فيه جميع المفسرين ومنهم من تبسط ومنهم من أوجز ومنهم من أورد الروايات والأقوال والتأويلات المختلفة أيضا.

مقابل استمتاع الرجال بهن بالنكاح وكونها يجب أن تكون مقدارا معينا متفقا عليه مع رفع الحرج عن الزوجين فيما يتراضيان عليه بعد ذلك فيه إذا ما طرأت ظروف تدعو إلى تبديل من زيادة أو نقص أو تسامح ... إلخ وأن الاستمتاع هو كناية عن الوطء الذي يباح للرجال بعد العقد وأداء المهر. ومنها أن الجملة احتوت إباحة نكاح المتعة. وهو عقد بين امرأة ورجل على مدة معينة يستمتع بها فيها لقاء أجر معين فإذا انتهت المدة انفسخ العقد دون تطليق مع جواز التراضي على تمديد المدة لقاء أجر جديد. وكان هذا جاريا عند العرب قبل الإسلام. ومع أن في استنباط إباحة نكاح المتعة من العبارة تحميلا لا تتحمله هي وبقية الآية والآيات السابقة وأن التأويل الذي تقدم هو الأوجه حسب ما يتبادر لنا مع التنبيه إلى نقطة هامة وهي أن المهر ليس مقابل الوطء فحسب وإنما هو لتوطيد الميثاق الزوجي بصورة عامة فإن المفسرين جميعهم أداروا الكلام في سياق هذه الآية على نكاح المتعة. ولقد عزوا إلى ابن عباس أقوالا ليس منها شي واردا في الصحاح منها أن الآية محكمة في إباحة نكاح المتعة وأنه كان يزيد بعد عبارة فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ جملة إلى أجل مسمى وأن أبا نضرة قال له ما أقرؤها كذلك فقال له والله إن الله أنزلها كذلك ثلاث مرات. ومنها أن عمارا سأل ابن عباس عن المتعة فقال له هي متعة لا سفاح ولا نكاح ولا طلاق ولا توارث ومنها أنه قال لما كثر كلام الناس عن إباحته للمتعة وانتشارها أنا ما أفتيت بها على الإطلاق وإنما قلت تحل للمضطر كما تحل الميتة له. ومنها أنه رجع عن قوله وقال بتحريمها وأن الآية الأولى من سورة الطلاق نسختها. ولقد أوردوا أحاديث فيها إباحة للمتعة ثم تحريم لها. وفي بعضها تناقض في الوقت نفسه. حيث روي النهي في ظروف وقعة خيبر بينما رويت الإباحة في ظروف فتح مكة التي كانت بعد خيبر بسنتين. ومن هذه الأحاديث حديث رواه الشيخان عن جابر وسلمة قالا «كنا في جيش فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أذن لكم أن

تستمتعوا فاستمتعوا» «1» ومنها حديث عن سبرة الجهني رواه الإمام أحمد جاء فيه «أن سبرة غزا مع رسول الله في فتح مكة قال فأقمنا بها خمس عشرة فأذن لنا رسول الله في متعة النساء فخرجت أنا ورجل من قومي ولي عليه فضل في الجمال وهو قريب من الدمامة مع كل واحد منا برد، وبردي خلق وبرد ابن عمي جديد غض. حتى إذا كنا بأسفل مكة أو بأعلاها تلقتنا فتاة مثل البكرة العطنطة فقلنا هل لك أن يستمتع منك أحدنا فقالت وماذا تبذلان؟ فنشر كل منا برده فجعلت تنظر إلى الرجلين ويراها صاحبي تنظر إليّ بعطفها فقال إن برد هذا خلق وبردي جديد غض فتقول برد هذا لا بأس به ثلاث مرات أو مرتين ثم استمتعت منها» «2» . ومنها حديث رواه الخمسة عن علي بن أبي طالب «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية» «3» . ومنها حديث رواه مسلم عن سلمة قال «رخص النبيّ عام أوطاس في المتعة ثلاثا ثم نهى عنها» «4» . ومنها حديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن سبرة قال «رأيت رسول الله قائما بين الركن والباب وهو يقول يا أيها الناس إني قد أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وإن الله قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا» «5» . ومنها عن عمر بن الخطاب أنه قال «نهى النبي عن المتعة وأيّما رجل أو امرأة يأتوني بهما فسوف أرجمهما بالحجارة» . ومع أن الخمسة رووا عن علي بن أبي طالب أن النبي نهى عن المتعة يوم خيبر على ما أوردناه قبل فقد روى عنه قوله «لولا أن عمر نهى عن المتعة لما زنى إلّا شقيّ» «6» حيث توهم الرواية أن عمر نهى عنها اجتهادا. ويستبعد جدا صدور هذا القول من علي الذي روى أن النبي هو الذي نهى عنها. ولأن فيه اتهاما لعمر

_ (1) انظر أيضا التاج ج 2 ص 306. [.....] (2) انظر أيضا مجمع الزوائد ج 4 ص 364. (3) انظر أيضا التاج ج 2 ص 306. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه. (6) أورد هذه الروايات المفسر الطبرسي الشيعي. الجزء الثامن من التفسير الحديث 6

أنه نهى عن شيء كان سائغا في حياة النبي. والرواية المروية عن عمر التي تذكر أنه نهى عن المتعة استنادا إلى نهي النبي عنها هي الأكثر وجاهة وورودا. ومن باب الرواية الآنفة الذكر المروية عن علي ثلاث روايات أخرى. واحدة عن عمران بن الحصين أنه قال «إنّ آية المتعة نزلت في كتاب الله ولم ينزل بعدها آية تنسخها وإن رسول الله أذن لنا وتمتعنا ولم ينهنا عنها. فقال رجل بعده وبرأيه ما شاء» «1» والرجل المقصود هو عمر. وواحدة جاء فيها «سئل جابر بن عبد الله عن المتعة فقال نعم استمتعنا على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر» «2» وواحدة بدون راو عن عمر بن الخطاب أنه قال «متعتان كانتا على عهد رسول الله حلالا وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما وهما متعة النكاح ومتعة الحج» «3» . والروايات الأربع التي يرويها الطبرسي الشيعي لم ترد في الصحاح ولم يوردها الطبري ولا البغوي ولا ابن كثير ولا الخازن الذين اهتموا لاستيفاء الروايات والأحاديث المأثورة في سياق الآيات عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم باستثناء الأولى التي أوردها الطبري وحده. وإيراده لها لا يثبتها لأن الحديث الذي يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها والذي يرويه الخمسة هو الأوثق. ورواية الروايات الأربع مجتمعة في تفسير الطبرسي الشيعي والراجح أنها وردت في كتب تفسير شيعية قبله وبعده تثير الشبهة في صنعها من الشيعة الذين يحللون المتعة ويقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرمها وإنما حرمها عمر والذين يحاولون تشويه اسم عمر رضي الله عنه في كل مناسبة لهواهم الحزبي ولو كان ذلك في مناسبات وصيغ لا تتسق مع عقل ومنطق وتخرج عمر من ربقة الإسلام في نسبة تحريم ما أحله الله ورسوله والعياذ بالله كما جاء في الرواية الرابعة مما أوردنا منه أمثلة كثيرة. ولا يمكن أن يعقل صدور هذا من عمر وأن يسكت أصحاب رسول الله ويرضوا عنه ومن جملتهم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.

_ (1) أورد هذه الروايات المفسر الطبرسي الشيعي. (2) روى الروايتين الطبرسي أيضا. (3) المصدر نفسه.

وعلى كل حال فإن جل أئمة السنة وعلمائها انتهوا إلى القول بأن تحريم المتعة صار محكما. أما أئمة الشيعة فإنهم انتهوا إلى القول بأن إباحتها هي التي ظلت محكمة حيث يبدو أنهم لا يثبتون أحاديث تحريمها ويثبتون أحاديث حلها من جهة، وما روي عن ابن عباس في صدد تأويله للآية واعتباره إياها محكمة في حل المتعة من جهة ثم ما روي عن علي وعمران بن الحصين وعبد الله بن جابر من أن عمر هو الذي حرمها وأنها كانت حلالا ممارسا في عهد النبي ثم في عهد أبي بكر وشطر من عهد عمر من جهة. والنفس تطمئن بما انتهى إليه أئمة السنة أكثر ولا سيما إن الآية التي جاءت فيها العبارة والآيات السابقة لها منصبة على الزواج وتعظيم رابطته ووجوب الاحتفاظ بالزوجات وحسن معاشرتهن وتحمل ما يكره منهن والإحصان والأولاد والمواريث والمهور وما يحل التزوج به من النساء وإبطال بعض عادات الجاهلية منه مثل نكاح زوجة الأب والجمع بين الأختين. ثم ننبه على كون الزواج هو للإحصان وليس للشهوة فحسب وننهى عن قصد السفاح. والمتعة على كل حال ليست نكاحا ولا إحصانا في معناهما ومداهما الصحيحين ولا تخرج عن كونها نوعا من أنواع المخادنة وليس فيها قصد تأسيس علاقة زوجية ثابتة وإقامة كيان أسروي وإنجاب ذرية مما هو منطو في الآيات. ويتبادر لنا من كل ما روي وقيل أن مسألة المتعة وحلها وتحريمها متصلة بما روي من أحاديث أكثر مما هي منطوية في الجملة القرآنية. وإن من المحتمل أن تكون مما أباحها رسول الله في ظرف ثم نهى عنها. ولقد روي حديث أخرجه الإمام مالك في الموطأ عن عروة بن الزبير جاء فيه «إن خولة بنت حكيم دخلت على عمر بن الخطاب فقالت له إن ربيعة بن أمية استمتع بامرأة فحملت منه فخرج فزعا يجر رداءه فقال هذه المتعة لو كنت تقدمت فيها لرجمت» وحديث آخر أخرجه الإمام مسلم عن عروة أيضا جاء فيه «إن عبد الله بن الزبير قام بمكة فقال إن ناسا أعمى الله قلوبهم كما أعمى بصائرهم يفتون بالمتعة- يعرض بذلك بعبد الله بن عباس- فناداه عبد الله إنك لجلف جاف

[سورة النساء (4) : الآيات 25 إلى 28]

لعمري. لقد كانت المتعة على عهد إمام المتقين «يعني النبي صلى الله عليه وسلم» فقال له ابن الزبير فجرب بنفسك فو الله لئن فعلتها لأرجمنك بأحجاري» والحديثان يفيدان أن عبد الله بن الزبير يعتبر المتعة زنا يستحق حدّ الزنا. وأن عمر أوشك أن يعتبرها كذلك. غير أن الحديثين لم يردا في الصحاح وأن المستفاد من أقوال جمهور الفقهاء السنيين أنها وإن كانت محرمة فلا يوقع فيها حدّ الزنا للشبهة القائمة حول حلها وحرمتها عملا بالقاعدة الشرعية المشهورة (ادرأوا الحدود بالشبهات) «1» ونعتقد أن بين أئمة الشيعة الذين يقولون بإباحتها علماء مجتهدون وأتقياء ورعون يبعد أن يحرموا ويحللوا جزافا دون قناعة بقطع النظر عن احتمال الخطأ والصواب في ذلك. هذا إلى أنهم قد يرون في إباحة هذا النكاح حكمة وهي منع المسلم من الوقوع في إثم الزنا أو العنت الشديد بالحرمان. والله أعلم. [سورة النساء (4) : الآيات 25 الى 28] وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28) .

_ (1) هذه القاعدة مستمدة من أحاديث عديدة منها حديث رواه الترمذي والحاكم والبيهقي جاء فيه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام لأن يخطىء في العفو خير من أن يخطىء في العقوبة) التاج ج 3 ص 33 ومنها حديث رواه ابن ماجه عن أبي هريرة قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعا) ومنها حديث رواه عبد الله بن مسعود مرفوعا (ادرأوا الحدود بالشبهات. ادفعوا القتل عن المسلمين ما استطعتم) . نيل الأوطار للشوكاني ج 7 ص 271- 272 الطبعة المنيرية.

(1) طولا: سعة وقدرة مالية أو فضلا من مال. وفسّرها بعضهم بالإمكان والقدرة مطلقا ومنها (يد فلان طائلة) بمعنى قادرة مادّيّا ومعنويّا. (2) المحصنات: في المرتين اللتين وردت فيهما الكلمة بمعنى الحرائر. (3) فتياتكم: إمائكم. وكان العرب يسمون الصبيان من عبيدهم فتيانا والبنات فتيات. (4) محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخذان: الجملة على سبيل وصف ما ينبغي أن يكون حالهن بعد الزواج أو القصد من زواجهن وهو أن يكنّ متعففات لا يرتكسن في الزنا ولا في اتخاذ الأخدان. والخدن هو الخليل في السر. والمسافحة هي الزنا إطلاقا مع أي كان. (5) فإذا أحصن: فإذا تزوجن وصرن محصنات بالزواج. (6) فاحشة: هنا بمعنى الزنا. (7) العذاب: هنا بمعنى حد الزنا وعقوبته. (8) العنت: الشدة. وهنا كناية عن غلبة الشهوة وحملها صاحبها على الإثم. تضمنت الآية الأولى تشريعا في صدد تزوج الرجال الأحرار بالإماء المؤمنات كما تضمنت حكمة ذلك. ووجّه الخطاب فيها للمؤمنين لتقرر لهم: (1) أنه ليس من بأس على الذين لا قدرة مالية لهم على التزوج بامرأة حرة مؤمنة أن يتزوجوا بإماء مؤمنات. (2) وبأن الله أعلم بإيمانهم جميعا وبأن بعضهم من بعض أحرارا كانوا أم أرقاء. (3) وبأن على من أراد ذلك أن يحصل على إذن أهل الفتاة ويؤدي لها مهرها

بالحسنى وبالقدر المتعارف عليه بين الناس والأمثال. (4) وبأن الأمة حينما تتزوج من حرّ تكون قد تحصنت من السفاح والتخادن ويصبح من واجبها التعفف عن ذلك والحذر من الارتكاس فيه وغدت زوجة شرعية لزوجها فإذا اقترفت الفاحشة فيترتب عليها نصف الحدّ الذي يترتب على الحرة المتزوجة. وانتهت الآية بالتنبيه على أن التشريع والإذن الرباني قد جعل لمن يخشى على نفسه العنت والأذى والإثم وعلى أن الصبر والتحمل خير وأفضل وعلى أن الله غفور للمؤمنين رحيم بهم في كل حال. أما الآيات الثلاث الأخريات فهي معقبة على محتويات الآية والآيات السابقة لها معا كما هو المتبادر من نصها وروحها. وأسلوبها ونصّها رائعان قويا النفوذ. وقد وجّه الخطاب فيها كذلك للمؤمنين: (1) لتنبههم على أن الله فيما شرعه لهم قد أراد أن يبين لهم ما يحل لهم ويحرم عليهم ويهديهم إلى طريق الحق الذي بينه لمن قبلهم وهداهم إليه ويتوب عليهم فيحول بينهم وبين الإثم والطرق المعوجة المنحرفة ويخفف عنهم. فهو العليم بمقتضيات الأمور الحكيم الذي يأمر بما فيه الحكمة والصواب. (2) ولتهيب بهم إلى وجوب اتباع ما أنزله الله وعدم اتباع وساوس الذين يندفعون وراء الشهوات. فهؤلاء لا يريدون لهم إلّا الانحراف عن جادة الهدى والصواب. وقد أراد الله بما أنزل التسهيل لهم والتخفيف عليهم لما يعلمه من ضعف الطبيعة الإنسانية. وورود كلمتي (مسافحات ومتخذي أخدان) معا ينطوي على صورة من صور ما كان جاريا. حيث كان بعض الإماء أو النساء يتخذن المسافحة أي الزنا مع أي كان مهنة وبعضهن يتخذن الأخدان والأخلاء الحقيقيين في السرّ وحسب. ولقد روى الطبري عن ابن مسعود والسدي والشعبي أنهم كانوا يؤولون جملة

تعليق على الآية ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والآيات الثلاث التالية لها

فَإِذا أُحْصِنَّ بمعنى (فإذا أسلمن) ويقولون إحصانها إسلامها. غير أن جمهور المؤولين على أنها بمعنى (فإذا تزوجن) حيث يصرن بذلك محصنات. وهذا هو الأوجه المتسق مع روح الآية ومداها. تعليق على الآية وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ والآيات الثلاث التالية لها ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة مع سابقاتها موضوعا ومن المحتمل أن تكون نزلت معها أيضا وأن تكون سياقا واحدا منذ الآية [22] . وجملة فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ تدل على أنها نزلت بعد الآيات الأولى من سورة النور التي عين فيها حدّ الزنا. هذا في حين أن الآيات [15- 18] نزلت قبل آيات سورة النور المذكورة لأنها كانت الخطوة التشريعية الأولى في عقوبة الزنا بينما جاءت آيات النور خطوة ثانية على ما نبهنا عليه قبل. وفي هذا وذاك مثل آخر من وجود بعض فصول في السورة نزلت بعد فصول سورة أخرى متأخرة عنها في الترتيب وصورة من صور تأليف السورة معا على ما ذكرناه في مقدمة السورة. ويلحظ أن الفقرة الأولى من الآية الأولى تضمنت تقرير كون المؤمنات من حرائر وإماء هن اللائي يصح أن يتزوج بهن المؤمنون وحسب. وقد عدل هذا القيد بآية في سورة المائدة وهي الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [5] حيث أحل فيها للمؤمنين المحصنات من أهل الكتاب أيضا.

ونقول استطرادا لصلته بموضوع الآيات إن المفسرين «1» أوردوا روايات وأقوالا مختلفة معزوة إلى ابن عباس وبعض علماء التابعين ومفسريهم في تأويل كلمة الْمُحْصَناتُ في آية المائدة حيث قيل إنها بمعنى (الحرائر) كما قيل إنها بمعنى (العفائف) ثم بنوا على القول الأول عدم جواز تزوج المؤمن بالأمة الكتابية، وعلى القول الثاني جواز تزوج المؤمن بالكتابيات إطلاقا سواء أكن حرائر أم إماء إذا ما تيقن من عفافهن. والكلمة تتحمل المعنيين. غير أن الأكثر على القول الثاني. هذا مع التنبيه إلى أن هناك من يقول «2» إن الكتابيات إنما يحللن بعد إسلامهن وإن الوصف هو على اعتبار ما كن عليه قبل إسلامهن. غير أن الأكثر على خلاف ذلك. وظاهر الآية يؤيد هذا إذ ذكر فيها المحصنات من المؤمنات مع المحصنات من أهل الكتاب. وما نقوله هو في صدد التزوج بعقد. أما استفراش الإماء الكتابيات من قبل مالكهن فليس هناك خلاف على جوازه فيما اطلعنا عليه. وجملة فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مطلقة تتضمن إباحة ذلك بل إباحة استفراش غير المسلمات إطلاقا سواء أكن كتابيات أم مشركات على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة والله تعالى أعلم. وظاهر من نصّ الآية وروحها أن التزوج بالإماء يعني التزوج بهن بعقد. وأن الزوج هو غير مالكهن. إذ ليس على الملك قيد وشرط في استفراش ملك يمينه على ما ذكرناه قبل. ومن المؤولين من أوّل جملة بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ بمعنى بإذن مالكيهن. ومنهم من أولها بمعنى أوليائهن من أقاربهن كالآباء والأخوة والأعمام. والجملة تتحمل المعنيين وإن كان المعنى الأول هو الأكثر ورودا لأن إذن الأولياء الأقارب لا يحسم الأمر إذا لم يأذن المالك. وقد نبه أصحاب الرأي الأول على أن ذلك متصل باستمرار ملكية المالك عليهن بعد زواجهن وعلى أن تزوج الأمة بغير إذن

_ (1) انظر تفسير آية المائدة في الطبري والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري والقاسمي. (2) جاء ذلك في الكتب السابقة الذكر أيضا.

مالكها باطل «1» . وهناك حديث يرويه أبو داود والترمذي بسند حسن عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر وفي رواية فنكاحه باطل» «2» . وقد يكون أصحاب القول استلهموا هذا الحديث وقاسوا الأمة على العبد. وهو وجيه، والله أعلم. ومع ذلك فإن أمر الآية بإعطائهن أجورهن أي مهورهن قد يدل على أن حالة الأمة حينما تتزوج بإذن مالكها تتبدل بعض الشيء. ويكون لها الحق في أن تقبض مهرها وتتصرف فيه. وقد يكون لمالكها أن يبيعها أو يهبها لغيره وقد تنتقل ملكيتها لورثته بعد موته. ولكن ذلك لا يغير كما هو المتبادر حالتها الجديدة. وبكلمة أخرى إن مالك الأمة المتزوجة بإذنه لا يملك أن يسترجعها من زوجها أو أن يتصرف فيها تصرفا مطلقا كما كان له ذلك قبل زواجها فضلا عن أنه يحرم عليه جماعها لأنها صارت ذات زوج محصنة. وإن هذا هو شأن مالكها الجديد إذا باعها المالك الأول أو وهبها أو أورثها بعد موته، والله تعالى أعلم. ولقد ذكر القاسمي أن مالكا استدل بجملة وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ على أنهن أحق بمهورهن وإنه لا حقّ لمالكهن فيه، ثم قال وذهب الجمهور إلى أن المهر للمالك وإن إضافته إليهن لأن التأدية لهن هي تأدية لمالكهن لأنهن ماله. ونحن نرى رأي الإمام مالك هو الأوجه المتسق مع نص الآية وروحها. ويظل ما ذكرناه في محله إن شاء الله. ومما قالوه إن أولاد الإماء المتزوجات يلحقون بأمهاتهم فيكونون أرقاء ملكا لمالكي الأمهات «3» ولم نطلع على أثر نبوي أو راشدي في ذلك. ونحن نراه عجيبا ومحلّا للتوقف. فالأولاد عند العرب ينسبون إلى آبائهم ويلحقون بهم. وفي جملة ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ في آية الأحزاب [5] قرينة على ذلك. فما دام الزوج حرّا

_ (1) انظر كتب تفسير الخازن والطبرسي وابن كثير. (2) التاج ج 2 ص 307. (3) انظر الزمخشري. [.....]

فأحرى أن يكون ابنه حرا. وقد يصح أن يقاس هذا على أبناء مالكي الإماء من مستفرشاتهم منهن. فالعلماء والمفسرون متفقون على أنهم أحرار بل ويحررون أمهاتهم فلا يبقى لمالكيهم حق بيعهن ولا هبتهن ويتحررن بالمرة عند وفاة مالكيهن ويطلق عليهن اسم خاص للتمييز وهو (أم ولد) وقد جاء في حديث أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أيما امرأة ولدت من سيدها فهي معتقة عن دبر منه» «1» مع التنبيه على أن حالة ولد الأمة المتزوجة بعقد ومهر أقوى من حالة الأمة المستفرشة. ونصّ العبارة القرآنية وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ وروحها يلهمان أن ذلك رخصة للمؤمنين الأحرار في حال عدم استطاعتهم أن يتزوجوا من الحرائر. وفيها تقرير ضمني بعدم جواز تزوج الحر من أمة إذا كان قادرا على التزوج من حرة. وهو ما قاله غير واحد من المفسرين أيضا. وينطوي في جملة ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ حكمة الرخصة والتشريع كما هو المتبادر. ومع ذلك فإن جملة وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ تنطوي على الحث على عدم التسرع في التزوج بالإماء وتحمل عنت الشهوة ما أمكن ذلك. وما تقدم مضافا إليه ما انطوى في جملة مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ على ما شرحناه قبل أولا وجعل عقوبة الزنا على الأمة في الآية نصف عقوبة الحرة ثانيا وتعبير بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ الذي قد يلهم أنه أريد به التخفيف عن النفس ثالثا يلهم أن الإماء كن عرضة للتورط والارتكاس في الفاحشة ومظنة لها أكثر من الحرائر. وأن العرب كانوا يأنفون التزوج بهن بسبب ذلك أولا وبسبب عدم التكافؤ ثانيا. ثم بسبب ما كان جاريا على ما يستفاد من روايات المفسرين من استمرار ملكية مالكي الإماء لهن بعد زواجهن وإلحاق أولادهن بحالتهن وغدوهم مملوكين لمالكيهن دون آبائهم ثالثا. وفي هذا ما فيه من الثقل والغضاضة والمتاعب.

_ (1) انظر التاج ج 2 ص 250 والقاسمي.

ومع ما قلناه فيما تلهمه جملة بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فإنه ينطوي فيها تلقين قرآني جليل مستمر المدى في صدد الأخوة والمساواة في الإسلام وشمولهما لكل المسلمين الأحرار منهم والأرقاء على السواء. وقد استدللنا من جملة فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ على أن الآية قد نزلت بعد آيات سورة النور الأولى التي حددت عقوبة الزاني والزانية بمائة جلدة. وهذا يعني أن عقوبة الأمة المتزوجة خمسون جلدة. ولما كان هناك أحاديث شددت فيها عقوبة الزنا فغدت على غير المتزوجين مائة جلدة وتغريب سنة وعلى المتزوجين مائة جلدة ورجم بالحجارة حتى الموت «1» فقد قال المفسرون والفقهاء إن عقوبة الأمة المتزوجة تظل خمسين جلدة وتغريب نصف عام لأن عقوبة الرجم لا تنصف «2» ووجاهة هذا القول ظاهرة. وننبه على أن هناك من قال إنه لا تغريب على الأمة الزانية ولو كانت محصنه. والقياس يقضي أن يكون القول الأول هو الأوجه. ونصّ الآية يفيد أن إحصان الأمة هو حالة تزوجها بعقد ومهر. وقد يرد سؤال عما إذا كانت الأمة المستفرشة من مالكها تعد محصنة أم لا. ويتبادر لنا أنها تعد كذلك. لأن الحكمة من تشديد العقوبة على المحصنين هي كون رغباتهم الجنسية متوفرة بالزواج أو بالاستفراش. والله تعالى أعلم. وواضح من نص الآية أن نصف العذاب هو على الأمة التي أحصنت. أما عقوبة الأمة غير المحصنة فهناك حديث يرويه ابن كثير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ليس على أمة حدّ حتى تحصن» وروى ابن كثير أن ابن عباس كان يأخذ بهذا ويفتي بضرب الأمة إذا زنت ولم تكن محصنة ضربا تأديبيا دون حدّ معين من الجلدات. والحديث ليس من الصحاح. وهناك حديث رواه مسلم عن علي بن أبي طالب «أنه خطب يوما فقال أيها الناس أقيموا الحدّ على إمائكم من أحصن منهن ومن لم يحصن. فإن أمة لرسول الله زنت فأمرني أن أجلدها فإذا

_ (1) سوف نورد هذه الأحاديث ونمحص المسألة في سياق تفسير سورة النور إن شاء الله. (2) انظر تفسير الآية في الطبري وابن كثير وغيرهما.

هي حديثة عهد بنفاس فخشيت إن جلدتها قتلتها فذكرت ذلك للنبي فقال لي أحسنت» «1» وقد أورد ابن كثير هذا الحديث مع زيادة مهمة فيها توضيح جاء فيها «إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي اتركها حتى تتماثل فإذا تعافت فاجلدها خمسين» «2» وليس في حديث علي وضوح بما إذا كانت الأمة محصنة أم لا. بل إن قول عليّ «أقيموا الحدّ على إمائكم من أحصن منهن ومن لم يحصن، قد يفيد أن الأمة التي أمره النبي بجلدها لم تكن محصنة. وهناك حديث آخر رواه الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا زنت الأمة فتبين زناها فليجلدها ولا يثرّب. ثم إن زنت فليجلدها ولا يثرّب. ثم إن زنت الثالثة فليبعها ولو بحبل شعر» «3» . وروى ابن كثير هذا الحديث بزيادة في أوله وهي «سئل النبي عن الأمة إذا زنت ولم تحصن» «4» . ولو لم تصح الزيادة فإن صيغة الحديث تفيد ضمنا أن الأمر في صدد الأمة التي لم تحصن بزواج. فهو أمر موجه إلى مالكها. وليس في الحديث تعيين لعدد الجلدات، غير أن هناك حديثا يرويه الإمام مالك عن عياش بن ربيعة «أن عمر بن الخطاب أمره مع فتية من قريش بجلد ولائد الأمارة خمسين خمسين من الزنا» وولائد الأمارة هنّ إماء كان يملكهن بيت المال. والراجح أنهن لم يكن متزوجات. والمتبادر أن عمر لا بد من أن يكون أمر بذلك بناء على سنة نبوية. وهذا العدد قد ورد في الزيادة التي يرويها ابن كثير على حديث علي بن أبي طالب الذي يرويه مسلم. بحيث يمكن القول إن تعبير (فليجلدها) في حديث الخمسة عن أبي هريرة قد قصد جلدها بالحد المعين على الإماء المحصنات وهو خمسون. فيكون النبي صلى الله عليه وسلم والحالة هذه قد جعل حدّ الأمة غير المحصنة مثل حدّ الأمة المحصنة. وهذه الأحاديث أوثق من حديث ابن عباس الذي يرويه ابن كثير والذي ذكر فيه أنه ليس على الأمة حدّ حتى تحصن وإنما تأديب مهما بدا وجيها. والله تعالى أعلم.

_ (1) التاج ج 3 ص 24 و 25. (2) هذه الزيادة ليست واردة في حديث مسلم في التاج. (3) التاج ج 3 ص 24. (4) لم ترد الزيادة في التاج.

[سورة النساء (4) : الآيات 29 إلى 32]

وقد فسّر شارح الحديث الذي يرويه الخمسة عن أبي هريرة جملة (ولا يثرب) بعدم القسوة في الجلد. وهذا وجيه واجب الالتزام. والمتبادر أن ذلك متصل بحالة الإماء وقوة احتمال ارتكاسهن في البغاء أكثر من الحرائر. هذا، ولقد نبّه الإمام مالك على بعض أمور متصلة بنكاح العبيد نرى المناسبة قائمة للإلمام بها «1» . من ذلك عدم جواز تزوج العبد لسيدته الحرة. وعدم جواز تزوج الحرّ لأمته «2» . ومن ذلك جواز تزوج العبد للحرة بإذن مالكه أسوة بجواز تزوج الحر للأمة بإذن مالكها. ومن ذلك انفساخ النكاح في حالة تملك الحرة لزوجها العبد بعد تزوجها به وتملك الحر لزوجته الأمة بعد تزوجه بها. وإذا أعتقت الحرة زوجها بعد تملكها إياه وأعتق الحر أمته بعد تملكه إياها لا تعود حالة الزوجية بينهما إلّا بعقد جديد. ومن ذلك كراهية تزوج الحر أمة بعقد وعنده زوجة حرة ومن ذلك جواز جمع العبد لأربع زوجات أسوة بالحر ولا يورد الإمام أحاديث نبوية وصحابية على ما ساق. ونراها اجتهادات في محلها غير متعارضة مع النصوص القرآنية والنبوية بل ومستلهمة من هذه النصوص والله أعلم. [سورة النساء (4) : الآيات 29 الى 32] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31) وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32) .

_ (1) الموطأ ج 2 ص 30. (2) هناك حديث رواه الخمسة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه أن من الذين يؤتون أجرهم مرتين رجلا عنده جارية فأدبها فأحسن أدبها ثم أعتقها ثم تزوجها يبتغي بذلك وجه الله» التاج ج 2 ص 272.

تعليق على الآية يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ... إلخ والآيات الثلاث التالية لها

عبارة الآيات واضحة. والخطاب فيها موجّه للمسلمين وقد تضمن: (1) نهيا عن أكل بعضهم أموال بعض بالباطل مستثنيا ما يدخل على بعضهم من بعض من الربح عن طريق التجارة والتراضي. (2) ونهيا عن قتل أنفسهم. (3) وتعقيبا على ما نهوا عنه يتضمن تقرير كون الله بهم رحيما ييسر لهم الرزق الحلال ويشملهم بالرحمة والعناية فلا يجوز أن يتحايل بعضهم على بعض ويظلم بعضهم بعضا ويعتدي بعضهم على بعض. (4) وإنذارا لمن يفعل ذلك منهم بالنار مما هو يسير على الله عزّ وجلّ. (5) وتنبيها على وجوب اجتناب الكبائر التي ينهاهم الله عنها. ووعدا بتسامح الله مع من يجتنبها فيما يمكن أن يصدر منه من هفوات ثانوية حيث يغفرها له وييسر له الدخول في المدخل الكريم. (6) ونهيا عن التنافس والتحاسد وتشهي ما فضل الله به بعضهم على بعض في القسمة والأنصبة والربح والرزق. مع تقرير حق الرجال فيما أحرزوا وكسبوا وحق النساء فيما أحرزن وكسبن وتقرير كون الله عز وجل هو المتفضل عليهم جميعا وأن عليهم أن يسألوه من فضله فهو العليم بمقتضيات كل شيء. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ... إلخ والآيات الثلاث التالية لها ولم نطلع على مناسبة خاصة في نزول الآيات الثلاث الأولى. وقد روى المفسرون «1» أن الآية الرابعة نزلت في مناسبة قول أم سلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.

الرجال ولا يغزو النساء وجعل نصيب النساء نصف نصيب الرجال. وقد روى هذا الترمذي أيضا وهذا لفظه عن أم سلمة قالت يغزو الرجال ولا يغزو النساء وإنما لنا نصف الميراث فنزلت الآية. وشيء من هذا روي عن أم سلمة في سياق آيات سورة آل عمران [195] وسورة الأحزاب [35] على ما ذكرناه سابقا. والذي يتبادر لنا أن هذه الآية غير منفصلة عن الآيات الثلاث وأن النهي فيها متصل بالنهي عن أكل بعض الناس أموال بعضهم بالباطل وهذا ما جعلنا نعرض الآيات الأربع معا. ويجعلنا نميل إلى القول إن في رواية نزولها في مناسبة ما قالته أم سلمة التباسا. بل ويتبادر لنا من روحها وانسجامها مع الآيات الثلاث أن فيها نهيا عن أكل أموال النساء من حيث كون الرجال اعتادوا أن يتحايلوا على أموال النساء بشتى الطرق فاحتوت الآية بمناسبة النهي الوارد في الآية الأولى تثبيتا لحقوقهن ونهيا عن العدوان والتحايل عليها بأسلوب آخر جعلها تدخل في عموم النهي وفي مشمول الكبائر. وإذا صحّ هذا التوجيه كما نرجو فتكون الآية الرابعة قد انطوت على تنبيه حاسم على حق المرأة فيما يدخل إلى يدها من مال مشروع من مختلف الطرق وحرية تصرفها فيه وأهليتها الاستقلالية لهذا التصرف ثم على حقها في النشاط والاكتساب وأهليتها لهما. بل إن هذا منطو في الآية على كل حال على ما تلهمه روحها ومضمونها بالإضافة إلى الآيات العديدة الأخرى التي مرت في هذه السورة وفي سورة البقرة وشرحناها شرحا يغني عن التكرار. والآيات الأربع كما قلنا وحدة تامة. وفيما احتوته من أوامر ونواه وإنذار وتبشير ووعيد تلقينات جليلة مستمرة المدى في صدد المواضيع المتنوعة التي تضمنتها على ما شرحناه في تأويلها شرحا يغني عن التكرار. وقد تكرر مثل ذلك بمختلف الأساليب في فصول عديدة مكية ومدنية معا. لأن ما احتوته متصل بمختلف أعمال الناس وصلاتهم ببعضهم وحياتهم ومصالحهم فاقتضت حكمة التنزيل أن تتوالى الفصول فيه. ومع ما شرحناه لمدى الآية الأخيرة وقولنا باتصال مداها بمسائل أنصبة

الإرث التي عينها الله تعالى في آيات المواريث للرجال والنساء فإن فيها تلقينا عاما يجدر التنويه به. وهو عدم طمع الناس فيما عند غيرهم مما هو من كسبهم وجهدهم وحقهم الشرعي. مع التنبيه على أن هذا لا يعني عدم التمني بأن يكون لهم مثل ذلك أو عدم الجهد في الحصول عليه من طرقه الشرعية السائغة بل إن الفقرة الأخيرة من الآية تتضمن حثا على ذلك. وجملة لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ في الآية الأولى تأتي للمرة الثانية. وقد جاءت قبل في آية سورة البقرة [188] وشرحنا مداها بما يغني عن التكرار إلّا أن نقول إن تكرارها يفيد أن حكمة التنزيل قد توخت التوكيد على وجوب قيام التعامل بين المسلمين وبخاصة في الشؤون المالية على الحق والإنصاف واجتناب كل جنف وحيلة ووسيلة باطلة. وفي هذا ما فيه من تلقين جليل. ولقد وقف المفسرون «1» عند جملة إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وهذا لم يرد في آية سورة البقرة. وقد رووا عن أهل التأويل أن التراضي الذي يجب أخذ المسلمين أموال بعضهم به في التجارة هو منح الخيار للبائع والشاري في النقض والإمضاء بعد عقد الصفقة حتى لا يبقى في نفس أي من البائع والشاري أي شيء. وروى الطبري في صدد ذلك حديثا عن مهران بن ميمون جاء فيه «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم البيع عن تراض والخيار بعد الصفقة ولا يحل لمسلم أن يغشّ مسلما» وحديثا آخر عن أبي قلابة قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يفترقن بيعان إلّا عن رضا» وحديثا آخر عن ابن عباس جاء فيه «إن النبي صلى الله عليه وسلم بايع رجلا ثم قال له اختر فقال اخترت. فقال هكذا البيع» . وهذه الأحاديث لم ترد في الصحاح. وهذا لا يمنع صحتها، إن لم تكن نصا فروحا. وهناك أحاديث وردت في الصحاح من بابها. منها حديث رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر جاء فيه «إنّ رجلا ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع فقال إذا

_ (1) انظر كتب تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن.

بايعت فقل لا خلابة وفي رواية لا خيابة» «1» . وحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يفترقنّ اثنان إلّا عن تراض» «2» . وحديث رواه الخمسة عن حكيم بن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما» «3» وهناك أحاديث أخرى فاكتفينا بما تقدم «4» . وينطوي في الأحاديث تساوق مع التلقين القرآني وتعليم وتوضيح نبويان يجب الوقوف عندهما. وهناك من قال إن الخيار الممنوح في الأحاديث يجب أن يكون في مجلس البيع وهناك من لم ير ذلك ضروريا. وأصحاب هذا المذهب أوّلوا جملة «ما لم يتفرقا» في الحديث بأنها ما لم يتفرقا في القول «5» . وقد صوب الطبري القول الأول، إلا إذا تراضى المتبايعان على الخيار بعد الافتراق. ولعلّ هذا هو الأسدّ الأوجه. ولقد حمل بعض المفسرين جملة وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ على ظاهرها. ومنهم من حملها على النهي عن تعريض النفس للقتل بقتل الغير أو بأكل مال الغير بالباطل أو للهلاك بالموبقات «6» . ويتبادر لنا أن النهي متصل بموضوع الآيات ولا سيما أنه جزء من الآية الأولى التي تنهى الناس عن أكل أموال بعضهم بالباطل. فإما أن تكون الآية رمت إلى مفهوم معنوي وهو ما يكون في أكل الناس أموال بعضهم بالباطل الذي يكون قتل النفس في معنى من معانيه وفي تعريضها لعقوبة الله. وإما أن تكون رمت إلى النهي عن العدوان على النفس بسبيل الإرث ومشاكله

_ (1) التاج ج 2 ص 179 والراجح أن في الحديث تعليما بأنه إذا كان في البيع خلابة أو خيابة أي غش وتغرير فهو غير ملزم. (2) المصدر نفسه ص 185. (3) المصدر نفسه ص 185. [.....] (4) المصدر نفسه ص 179- 185. (5) انظر تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن وفيها بيان مذاهب أئمة الفقه في هذه المسائل. (6) المصدر نفسه. الجزء الثامن من التفسير الحديث 7

ولا سيما أن مشاكل الإرث كثيرا ما تبعث على البغي والجريمة. ولعل التشريع الإرثي الجديد قد أحدث بعض الأحقاد وساق بعض الناس إلى البغي والعدوان. ولعلّ الآية الرابعة رمت فيما رمت إليه إلى تهدئة النفوس في صدد ذلك وتوطينها على الامتثال لما شرع الله. وهذا الذي نقوله لا يقلل وجاهة حمل الجملة على ظاهرها من حيث كون قتل الإنسان نفسه مما يقدم عليه بعض الناس في كل ظرف ومكان بسبب ما يلمّ بهم من أزمات نفسية ومادية وجملة إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً التي جاءت بعد الجملة تنطوي في هذا المقام على تهدئة ومعالجة حيث تهتف بالمسلمين: إن الله يظل شاملا إياهم برحمته فيجب أن لا ييأسوا ويقدموا على قتل أنفسهم. ولقد أورد المفسرون في سياق ذلك بعض الأحاديث النبوية. منها حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا. ومن تحسّى سمّا فقتل نفسه فسمّه في يده يتحسّاه في نار جهنّم خالدا مخلدا فيها. ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنّم خالدا مخلّدا فيها» «1» وحديث رواه البخاري عن جندب بن عبد الله البجلي قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رجل ممن كان قبلكم وكان به جرح فأخذ سكينا فحزّ بها يده فما رقأ الدم حتى مات فقال الله عزّ وجل عبدي بادرني بنفسه حرّمت عليه الجنة» «2» حيث يفيد هذا أن قاتل نفسه مخلد في النار وحيث ينطوي فيه على كل حال تنبيه على أن قتل الإنسان نفسه ليس أمرا شخصيا، له الحرية فيه وإنما هو جريمة كبرى يعاقب الله عليها. ولقد روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي حديثا عن جابر بن سمرة قال «أتي النبيّ صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصلّ عليه» «3» .

_ (1) التاج ج 3 ص 4. (2) التاج ج 5 ص 22. (3) التاج ج 1 ص 328 والمشقص نصل أو حديدة عريضة.

ومما لا ريب فيه أن هذه الجريمة داخلة في جملة الكبائر المنهي عنها التي نبهت الآية الثالثة من الآيات على وجوب تجنبها ووعدت من يتجنبها بالمدخل الكريم. وبعض المفسرين أوّلوا المدخل الكريم بالجنة. ومع وجاهة هذا التأويل فإن إطلاق الجملة القرآنية يسوغ القول باحتمال أن يكون ذلك في الحياة أيضا. ولقد وعد المتقون بالحياة الحسنة في الدنيا بالإضافة إلى ما هو أحسن في الآخرة كما جاء في آية سورة النحل هذه وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) «1» . ولا شك في أن اجتناب الكبائر يضمن للمسلم حياة كريمة مطمئنة في الدنيا بالإضافة إلى ما يضمنه من نعيم ورضوان في الآخرة. ومع أن المتبادر أن جملة إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ راجعة إلى ما ذكرته الآية الأولى من الآيات لأنها متصلة بها مباشرة فإن الطبري روى عن عبد الله بن مسعود وغيره أن ذلك يشمل كل ما ورد من المنهيات في جميع الآيات من أول السورة. ومع ذلك فإن جمهور المفسرين أخذوها على إطلاقها أيضا واعتبروها شاملة على الحثّ على اجتناب كل ما نهى الله ورسوله عنه من كبائر. وليس في هذا بعد عن مفهوم الجملة ظاهر فيما نرى. ولقد أورد المفسرون أحاديث نبوية عديدة فيها بيان كبائر الذنوب وموبقاتها. ولقد أوردنا طائفة من هذه الأحاديث في سياق تفسير الآية [31] من سورة النجم فنكتفي بهذا التنبيه. مع تكرار القول إن ما جاء في الأحاديث ليس على سبيل الحصر وإن في القرآن كبائر لم تذكر بأعيانها بهذا الوصف في الأحاديث مثل الكذب والميسر والظلم والنفاق والفساد في الأرض إلخ. ولقد أولنا كلمة سَيِّئاتِكُمْ في الجملة التي جاءت بعد الجملة السابق

_ (1) هناك آيات أخرى من هذا الباب مثل آيتي النحل [41 و 97] والنور [54] مثلا.

[سورة النساء (4) : آية 33]

ذكرها بالذنوب الثانوية استلهاما من روح الجملة ونصها. وعلى هذا فيكون في جملة نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ بعد جملة إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ بشرى للمؤمنين وتخفيف عنهم ينطوي فيهما معالجة وحكمة ربانية جليلة. فالله سبحانه وتعالى يعلم ضعف الإنسان وعدم استطاعته التفلت من نزعات النفس وأهوائها بالمرة ويعلم أن هناك ما قد يدق عن فهم مداه بصورة عامة من هفوات قد تبدر منه عن حسن نية أو غفلة أو بغير تعمد للأذى والإثم والمخالفة أو ما يكون ضرره وأذاه محدودا فآذن المسلمين في هذه الجملة أن المهم هو اقتراف الموبقات والكبائر والفواحش فإذا ما اجتنبوها ودللوا بذلك على التزامهم حدود الله وقاموا بما عليهم من واجبات نحوه ونحو خلقه أسبغ عفوه وغفرانه على ما يلمون به من الأخطاء والهفوات الثانوية. وقد تضمنت هذا المعنى آيات سورة النجم هذه وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ [32] على ما شرحناه في سياق تفسيرها. [سورة النساء (4) : آية 33] وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33) . (1) موالي: جمع مولى في معنى الوارث على قول الجمهور. تعليق على الآية وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ... إلخ لم نطلع على رواية في مناسبة نزول هذه الآية. وقد يتبادر أنها استمرار للآيات السابقة وأن الضمير المخاطب فيها راجع إلى المؤمنين الذين وجه إليهم الخطاب في تلك الآيات. ولقد تعددت أقوال المفسرين في مفهوم الفقرة الأولى من الآية. فهناك من قال

إن الفقرة تقرر أن الله قد جعل لكل ميت ورثة يرثون ما تركه وهم الآباء والأقربون والمتعاقدون. وهناك من قال إن الله قد جعل لكل ما يتركه الآباء والأقربون والمتعاقدون ورّاثا. وكلمة لِكُلٍّ تجعل فيما يتبادر لنا المعنى الأول أوجه. وعلى هذا يكون تقدير الجملة ولكل ميت جعلنا ورثة مما ترك من آباء وأقربين ومتعاقدين. كذلك تعددت أقوالهم «1» في مدلول جملة وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ وهناك من قرأها عاقدت بدلا من عقدت. وقال بعضهم إنها تعني الحليف حيث كان من العادات الجارية عند العرب قبل الإسلام أن يلتحق شخص بآخر باسم الولاء أو الحلف فيتعاقدا على تحمل كل منهما تبعة الآخر العصبية. فإذا مات أحدهما ورث الآخر سدس تركته. وقال بعضهم «2» إنها تعني الأبناء بالتبني حيث كان التبني يتمّ بعقد وصيغة مماثلة لعقد الولاء والحلف. وقال بعضهم إنها تعني ما تمّ في أول عهد الهجرة من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار التي اعتبرت بمثابة عقد ولاء وحلف. وقال بعضهم إنها تعني حق الأزواج في الإرث على اعتبار أن الزوجية تمت بين الزوجين بالتعاقد فصار لكل منهما حق في إرث الآخر وتركته «3» وننبه على أن المفسرين الذين أوردوا هذه الأقوال عزوها إلى بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم.

_ (1) انظر الكتب السابقة الذكر. (2) مما رواه الخازن أنه كان يستعمل في التعاقد على الولاء والحلف والتبني هذه الصيغة، يقولها كل من المتعاقدين للآخر ماسكا كل منهما بيد صاحبه (دمي دمك وهدمي هدمك وثأري ثأرك وحربي حربك وسلمي سلمك ترثني وأرثك وتطلب لي وأطلب لك وتعقل عني وأعقل عنك) والجملة الأخيرة تعني أن يدفع الواحد منهما نصيبا من الديات التي تطلب من الآخر لأن الديات تدفع من ذوي العصبية حينما تطلب من واحد منهم لأناس آخرين. وقد روى ابن كثير حديثا عن النبي جاء فيه: (لا حلف في الإسلام وما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة) حيث يفيد أن النبي ألغى هذا التقليد مع إقرار ما كان من قبل. (3) هذا القول معزو إلى أبي مسلم الأصفهاني على ما جاء في تفسير القاسمي. ومما قاله المفسر لتدعيم القول إن النكاح يسمى عقدا اقتباسا من جملة وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ في آية سورة البقرة [235] .

ويلحظ أن تقليد التبني قد ألغي في آيات سورة الأحزاب وألغيت نتائجه ومنها التوارث على ما شرحناه في سياق تفسير هذه السورة. وتعيين حرمة حلائل الأبناء من الأصلاب فقط في الآية [23] من سورة النساء قد يدل على أن هذا الإلغاء قد تمّ قبل نزول الآية التي نحن في صددها. ورواية التوارث بين المتآخين من المهاجرين والأنصار ليست وثيقة على ما شرحناه في سياق تفسير آية الأنفال [72] ومع ذلك فآية الأنفال [75] ثم آية الأحزاب [6] وكلتاهما نزلتا على ما نرجحه قبل الآية التي نحن في صددها قد أكدتا أولوية التوارث بين ذوي الأرحام. وهذا يجعل القول إن الجملة في صدد ذلك في غير محله أيضا فضلا عن أنها لا يصح أن توصف بالوصف الذي جاء في الآية وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ ويبقى من الأقوال عقد الولاء أو الحلف وعقد الزوجية. وكل منهما وارد في دلالة الجملة. وقد أوردنا حديثا في ذيل سابق يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ألغى الحلف في الإسلام ولكنه أقرّ ما كان منه قبل ذلك «1» . ونحن نرجح أن الجملة قد قصدت عقد الزوجية. فقد جعل الله الإرث في آيات المواريث للوالدين والأقربين وهم الأولاد والأخوة وللزوجين. فحيث ذكر الوالدان والأقربون فيتعين أن تعني الجملة عقد الزوجية فيتسق ذلك مع آيات المواريث. وبناء على هذا فإن الآية فيما يتبادر لنا ونرجو أن يكون صوابا تقرر أن الله تعالى قد جعل لكل ميت ورثة يرثونه وهم والداه وأقاربه وزوجه. وأن لكل من هؤلاء حقا لا يصح لأحد منعه منه وأن من الواجب إعطاءه إياه. فيكون في هذا توطيد لتشريع الإرث من جهة وتدعيم للآية السابقة لهذه الآية التي نهت المسلمين عن أن يتمنوا ما فضل الله به بعضهم على بعض والتي قررت في الوقت نفسه أن

_ (1) إن الطبري أورد في سياق الآيات أحاديث عن أحلاف كانت قبل الإسلام تفيد أن الحلف المقصود هو حلف حربي تعقده عشائر أو قبائل عديدة للتناصر ضد عشائر وقبائل أخرى فيكون في هذا أيضا نفي لمدى الحلف والولاء في الآية والله تعالى أعلم.

[سورة النساء (4) : آية 34]

لكل من الرجال والنساء حقا فيما نالوا واكتسبوا. ولقد قال بعض المفسرين «1» - استنادا إلى أقوال مروية عن بعض الصحابة والتابعين- إن هذه الآية نسخت بآيات المواريث ولسنا نرى القول في محلّه بناء على ما تقدم من شرحها من جهة ولأن كل ما فيها هو تقرير مبدأ حق الورثة بالإرث مطلقا من جهة أخرى. [سورة النساء (4) : آية 34] الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34) . (1) قانتات: مطيعات. (2) تخافون: هنا بمعنى تتوقعون أو تتيقنون من وقوعه. (3) نشوزهن: عصيانهن وتمردهن. تعليق على الآية الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ إلخ وتمحيص مسألة قوامة الرجل على النساء وحدودها وتأديب الزوجة ومداه الخطاب في الآية موجّه إلى المسلمين. وقد تضمنت: (1) تقرير حق القوامة والإشراف للرجال على النساء مع تعليل ذلك بأنه بسبب ما فضل الله به الرجال على النساء من مزايا خاصة ثم بسبب ما ينفقونه من الأموال.

_ (1) انظر ابن كثير والخازن والطبري.

(2) تنويها بالمرأة الصالحة ووصفا لها. فهي المطيعة المسالمة الحافظة بما أمر الله حفظه من حقوق زوجها في غيبته. (3) إشارة إلى المرأة التي لا تتصف بهذا الوصف. ويبدر منها بوادر العصيان والانحراف عن واجبها. وإيجاب عظتها وردعها بالكلام أولا، فإذا لم تتعظ وترتدع فبالهجر، فإذا لم يجد فبالضرب. وإيجاب توقف الرجل عن ذلك حالما يبدو من زوجته طاعة وإذعان. وتقرير كون الله لم يجعل للرجل حق الاستمرار في الموقف الخشن من المرأة بدون حق وضرورة وهو العليّ فوق الجميع، الكبير الذي يجب أن يطاع ويخشى. ولقد روى المفسرون «1» أن الآية نزلت في مناسبة لطم أحد الأنصار لزوجته فأخذها أبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم شاكيا. فأمر النبي بالاقتصاص من الزوج فلما انصرفا استرجعهما وقال أتاني جبريل بهذه الآية، ولقد أردنا أمرا وأراد الله أمرا والذي أراد الله خير. والرواية لم ترد في الصحاح ولا نراها متسقة مع الآية وفحواها وهدفها. والذي يتبادر لنا أن الآية غير منقطعة عن سابقاتها. فالسابقات احتوت تثبيت حقوق المرأة المالية والزوجية وتعظيم شأنها ووصت بالاعتراف بها واحترامها فجاءت هذه الآية لتستدرك ذكر ما للرجال من حق على النساء. ويلحظ أن الآية مع جعلها الرجال قوامين على النساء وفي منحها لهم حق تأديب الناشزات منهن تظل كما هو ظاهر من فحواها وروحها في نطاق التلقين القرآني العام الذي يوجب على الرجال عدم اضطهاد النساء وإعناتهم ومخاشنتهم بدون مبرر مشروع معقول. وجملة الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ وإن كانت مطلقة فإن روح الآية التي وردت فيها ونصّها معا يسوغان القول إنها في صدد تقرير قوامة الزوج على الزوجة

_ (1) انظر الخازن وابن كثير والطبرسي والطبري والبغوي.

في الحياة الزوجية دون الشؤون الأخرى. والآية التي تأتي بعد هذه الآية من الأدلة الحاسمة على ذلك. لأنها تذكر احتمال الشقاق بينهما. وكلمة بَيْنِهِما لا يمكن أن تعني إلّا الزوجين والحياة الزوجية بالتالي. ويؤيد هذا تقريرات القرآن لحق المرأة في تزويج نفسها وقبض مهرها والتصرف فيه وحقها في التصرف في نفسها بعد الطلاق وبعد وفاة زوجها وحقها في ما يدخل في يدها من مال من طريق الإرث وغيره وأهليتها في التصرف فيه هبة ووصية وإدانة. وحقها في الاستدانة. وتملك العقار والمماليك والتصرف في كل ذلك مما سبق شرحه في سياق آيات سابقة. ويساق بعض الأحاديث الموهمة نقضا لما نقرره. منها حديث رواه الطبراني عن الأسقع بن واثلة جاء فيه «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لامرأة أن تنتهك من مالها شيئا إلّا بإذن زوجها إذا ملك عصمتها» وقد قال الطبري إن بين رواة هذا الحديث من لا يعرفهم مما يوجب التوقف فيه. ومنها حديث قد يكون أقوى سندا رواه أصحاب السنن جاء فيه «سئل النبي صلى الله عليه وسلم أيّ النساء خير قال التي تسرّه إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره» «1» . وواضح أنه ليس في هذا الحديث منع للزوجة عن التصرف بمالها وممارسة أي نشاط مشروع آخر. بل فيه إقرار لحقها في ذلك. وكل ما فيه تحذير بأن لا يكون في ذلك عصيان لأمره أو ما يكرهه. وفرق كبير بين هذا النص والنص السابق. ومع ذلك فإن الزوجة إذا رأت أن تفعل ما تراه حقا مشروعا في مالها ونفسها وكرهه زوجها ورأت في موقفه تعسفا وأدى ذلك إلى شقاق فيكون لها الرجوع إلى الحاكم لحل الأمر في نطاق الآية التالية على ما سوف نشرحه بعد. وهذا يكون للزوجة حتى في صحة الحديث الأول. وإذا كان القرآن سكت عن حريتها في النشاط الاجتماعي والسياسي فلا يعني ذلك أنها محرومة من حقها بذلك بدون قوامة الرجل أيضا بدليل أن القرآن خاطبها بكل ما خاطب الرجل ورتب عليها كل ما رتب على الرجل من إيمان وعمل وعلم وتدبر وتفكر وتذكر وجهاد وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر ودعوة إلى الخير وتواص بالحق والصبر وإنفاق في سبيل الله وهجرة في سبيله. وذكر مشاركتها في

_ (1) التاج ج 2 ص 258. [.....]

كل ذلك على ما أوردنا نصوصه في مناسبات سابقة وبخاصة في سياق تفسير آيات البقرة [9- 14] وآل عمران [195] والأحزاب [72 و 73] مما يدخل فيه ذلك النشاط وحقها فيه. وفي سورة التوبة آية تقرر واقع المؤمنات وممارستهن للشؤون العامة كالمؤمنين مما فيه تأييد لذلك أيضا وهي وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) . ومع ما قلناه من أن قوامة الرجال على النساء في الآية هي في صدد الحياة الزوجية فإننا نقول أيضا إن آيات عديدة مرّت في هذه السورة وفي سورتي البقرة والروم يمكن أن يكون فيها قيود وضوابط لهذه القوامة حيث تأمر برعاية الزوجية وتنوه بعظمة شأن الرابطة الزوجية وكونها قائمة على المودة والرحمة وتثبت للزوجة حقوقا على زوجها مثل الذي عليها مما يدخل فيه حسن المعاشرة والتحمل وعدم البغي عليها والطمع في مالها ومكايدتها ومضارتها والوفاء والأمانة والانسجام والتشاور في شؤون البيت والأسرة والتكريم والترفيه والمساعدة إلخ. وما ذكرته آية البقرة من الدرجة للزوج على الزوجة هي هذه القوامة الزوجية التي جعلت له للمزايا الطبيعية والاجتماعية التي امتاز بها وللأموال التي ينفقها ومما كان ولا يزال ولن يزال متسقا مع طبائع الأمور ومما ليس فيه ما يثقل على الطبيعة البشرية أو يتناقض معها مهما وصل الإنسان إليه من حضارة وثقافة. ولقد قال بعض الأئمة والمفسرين إن حق القوامة للزوج يزول إذا قصر أو امتنع عن النفقة وهذا وجيه متفق مع ما يلهمه روح ونصّ الآية التي جعلت الإنفاق من أسباب منحه هذا الحق. ولقد روى المفسرون أن جملة وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ عنت ما دفعوه من مهور. ومنهم من قال إنها المهور وما بعدها من نفقات الكساء والغذاء المستمرة. وهذا هو الأوجه. وهناك أحاديث نبوية وصحابية وتابعية في مدى العبارات الأخرى في الآية.

ففي صدد وصف فَالصَّالِحاتُ روى الطبري حديثا بصراحة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرّتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالها ثم قرأ الآية» وهذا الحديث مقارب لما رواه أصحاب السنن وأوردناه قبل. وهناك حديث رواه مسلم والنسائي عن أبي هريرة قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الدنيا كلّها متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة» «1» وحديث رواه الشيخان عن أبي هريرة أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «خير نساء ركبن الإبل صالحو نساء قريش. أحناه على ولد في صغره وأرعاه على زوج في ذات يده» «2» . والأحاديث رائعة في وصفها وتنويهها بالمرأة الصالحة ثم في حثها المرأة المسلمة على الاتصاف بالصفات المحببة التي تجعلها كذلك. وفي صدد جملة حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ روى الطبري وغيره أنها بمعنى (حافظات لما استودعهن الله من حقه ولغيب أزواجهن) أو (حافظات لفروجهن ومال أزواجهن) والأقوال سديدة متسقة مع روح الآية. وفي صدد (النشوز) رووا أنه الامتناع عن الاستجابة لطلب الزوج الجنسي أو عدم إطاعته في ما أوجب الله عليها إطاعته فيه أو جنوح الزوجة إلى المعصية والتمرد وكراهية زوجها وأهله. وكل هذا سديد كذلك. مع التنبيه على أن الطبري نبّه عزوا إلى عكرمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم على أن طاعة الزوجة لزوجها مشروطة بأن تكون في معروف. أي أن ما يأمرها به ويجب طاعتها له هو ما يكون فيه توافق مع كتاب الله وسنة رسوله ومكارم الأخلاق المتعارف أنها كذلك. وصحة ما يرويه الطبري عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم محتملة وهو متسق مع التلقينات القرآنية والنبوية الوثيقة. فالله حينما أمر النبي بأخذ البيعة من النساء كان من جملة ذلك وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ على ما جاء في آية سورة الممتحنة [12] التي سوف يأتي شرحها في

_ (1) التاج ج 2 ص 257. (2) المصدر نفسه.

مناسبتها. ومن باب أولى أن يكون ذلك في صدد ما نحن فيه. بحيث يمكن أن يقال بجزم إنه ليس للزوج في أي حال أن يسيء استعمال القوامة التي منحها الله له على زوجته. إذا ما أطاعته في ما هو حقّ ومعروف وغير معصية في ذات نفسها وفي نطاق الحياة الزوجية وكانت وفية أمينة له حافظة لما له وسمعته وعرضه في الحضور والغياب. وفي هذا تلقين مزدوج حيث يكون من جهة ضابطا تنتظم به الصلات الزوجية ومن جهة زاجرا لسيّئي الأخلاق من الأزواج الذين يحاولون قهر زوجاتهم بالعنف والشتائم بدون داع ولا مبرر، وإذا تجاوز الزوج النطاق المشروع فللزوجة أن لا تمتثل لأمره فإذا أصرّ فيكون الأمر حالة شقاق وللزوجة أن ترفع أمرها للقضاء لحلها وفاقا للآية [34] على ما سوف يأتي شرحه بعد قليل. وحق التأديب الذي منح للزوج على زوجته إنما يكون والحالة هذه في حالة نشوزها الموصوف مداه وعدم طاعتها في ما هو حقّ ومعروف وشذوذها في أخلاقها ومعاملتها له ولأهله بالسوء والأذى وعدم وفائها وأمانتها ولا يمكن لعاقل منصف أن يرى فيه حيفا أو جنفا وهو متدرج بحيث تكون العظة والنصيحة أولا فإذا استمر فالهجر في المضاجع الذي يقصد منه على ما عليه الجمهور الامتناع عن وطئها وتحويل وجهه عنها في الفراش الواحد إشعارا لها بعدم رضائه عنها. فإذا استمر النشوز جاز له ضربها. وإذا لاحظنا أن الضرب جاء كآخر وسيلة أولا وأنه على سبيل الإباحة لا الإيجاب ثانيا ولا يكون إلا بعد استنفاد وسيلتي العظة والنصح والهجران ثالثا. وبعبارة أخرى إلا في حالة التمرد الشديد. والإصرار على النشوز والشذوذ وسوء الخلق والتصرف بدا لنا أن ما قد يبدو غريبا ليس هو كذلك في حقيقة الأمر بل هو احتياط حكيم في شريعة مرشحة لكل ظرف وفئة من حيث إن ظروف الناس وحالاتهم لا تدخل تحت حصر. فقد يكون هناك ظروف وحالات خاصة من حيث الوقائع وطبقات الناس يكون الضرب فيها وسيلة لا بد منها وليس من وسيلة غيرها للردع والتأديب أو وسيلة يتفادى بها كارثة الطلاق وغيرها من كوارث الزوجية مما هو جائز الوقوع وسائغ في العقول وممارس فعلا في كل ظرف ومكان.

وهناك مأثورات نبوية في صدد الضرب إذا ما أتت الزوجة ما يستحق حيث جاء في خطبة حجة وداع النبي التي يرويها مسلم وأبو داود أن تضرب ضربا غير مبرح «1» . وفي حديث آخر نهى عن الضرب على الوجه والتقبيح والهجر «2» . ويروي الطبري عن ابن عباس أن الضرب غير المبرح هو أن يكون غير مؤثر أو بالسواك، ويروي الخازن عن الشافعي أن الضرب مباح وتركه أفضل. وهناك أحاديث نبوية تنهى بشدّة عن الضرب بدون مبرر مشروع منها حديث رواه البخاري والترمذي عن عبد الله بن زمعة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يجامعها في آخر اليوم» «3» وحديث رواه أبو داود والنسائي والحاكم وصححه عن إياس بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا تضربوا إماء الله. فجاء عمر فقال يا رسول الله ذئر النساء على أزواجهن فأذن بضربهنّ فأطاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد طاف بآل محمد سبعون امرأة كلّهن يشتكين أزواجهن ولا تجدون أولئك خياركم» «4» . وتلخيصا لما تقدم واستنادا إلى ما في الآيات القرآنية عامة وآيات سورة البقرة [231- 236] وآيات هذه السورة [14- 19] والآية التي نحن في صددها ثم إلى ما في الأحاديث النبوية من تلقينات وحدود يصح أن يقال إن قوامة الرجل على زوجته محصورة في مجال الحياة الزوجية غير ممتدة إلى غيره من المجالات المالية والمدنية والاجتماعية والسياسية وأن واجب الطاعة على الزوجة لزوجها وعدم مخالفتها له في نفسها ومالها بما يكره مشروطان بأن يكون ما يطلبه منها مشروعا في غير معصية وغير معطل لما قرره لها القرآن من حقوق متنوعة. وأن حقّ التأديب الممنوح له مشروط بشذوذ الزوجة وانحرافها وتمردها وسوء خلقها وعدم وفائها وأمانتها، مع التدرج في التأديب وتقديره بقدره واستهداف الإصلاح والصلاح منه.

_ (1) التاج ج 2 ص 143 و 144. (2) المصدر نفسه ص 288 والراجح أن الهجر والتقبيح هناك في معنى الشتائم والفظاظة. (3) المصدر نفسه ص 298. (4) المصدر نفسه.

وعدم الاندفاع فيه أكثر مما تقتضيه الحالات الداعية له وبخاصة في الضرب ومداه. وأن على الرجل في غير ذلك مراعاة حقوق زوجته ومعاملتها بالوفاء والأمانة والحفظ والرعاية والإنفاق وحسن المعاشرة والمودة وتجنب العنف والقهر والغلظة والتسرع في مؤاخذتها وضربها على ما ليس فيه شذوذ ونشوز خطيران وتحمل ما يمكن تحمله منها مما ليس فيه ذلك. وفي هذا كل الحق والخير والمصلحة للزوجين والرابطة الزوجية وللمجتمع الإنساني الذي تكون هذه الرابطة نواته الرئيسية. هذا ويلحظ أنه ليس في القرآن إشارة صريحة في امتداد قوامة الرجل إلى أخواته وبناته. وقد يصح أن يقال إن كتاب الله قد اهتم للمسألة الأكثر ورودا وحدوثا. والألزم للتوضيح والتنبيه وهي العلاقة الزوجية التي هي أصل كيان الأسرة وتفرعاتها. وهناك حديث مشهور رواه الخمسة عن عمر جاء فيه «والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته» فيمكن أن يقال إن هذا الحديث قد يجعل للرجل على غير زوجته وبخاصة من هم في كنفه من أفراد أسرته من النساء قوامة ما بحيث يكون له بذلك حق مراقبتهن والإشراف على سلوكهن وتقويم ما قد يبدو منهن من انحراف وشذوذ وتمرد وسوء خلق في نطاق ما احتوته الآية التي نحن في صددها. وقياسا على مدى هذه الآية وعلى ضوء شروحنا المتقدمة يمكن القول إن الأهلية المالية والمدنية والاجتماعية والسياسية للبالغات منهن تظل محفوظة لهن دون أن تمتد قوامة الرجل إليها لتعطلها بدون سبب مشروع من كتاب الله وسنّة رسوله ومكارم الأخلاق المتعارفة. كما هو الشأن بالنسبة لزوجته، والله تعالى أعلم. ونرى المناسبة للاستطراد إلى ما يسمى بيت الطاعة. فقد يحصل شقاق بين الزوجين في أمر السكنى وتذهب الزوجة مغاضبة لبيت أهلها فيرفع الزوج الأمر للقضاء ويثبت أنه هيأ لزوجته مسكنا شرعيا ويصدر القاضي حكما على الزوجة

[سورة النساء (4) : آية 35]

بطاعة زوجها والسكن في البيت الذي هيأه لها. ويناط تنفيذ ذلك بواسطة الشرطة إذا رفضت الزوجة الامتثال وتجبر على ذلك بالقوة! وليس لهذا الإجراء سند قرآني. ولم نطلع فيه على أثر نبوي صحيح. والزوجية وفاق وتراض وإمساك بالمعروف أو تسريح بالمعروف مما يسوغ القول إن هذا الإجراء مخالف لروح التلقينات القرآنية والنبوية ومؤذ للكرامة الإنسانية. ومذهب لمعنى المودة والرحمة اللتين يجب أن تقوم عليهما العلاقة الزوجية. وكل ما يصح للزوج هو الامتناع عن الإنفاق على الزوجة إذا أبت تنفيذ رغبته والسكن حيث يطلب منها. ثم تطبيق أحكام الآية التي نحن في صددها من حيث الصلح والتوفيق والتراضي أو التسريح بالإحسان. والله تعالى أعلم. [سورة النساء (4) : آية 35] وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) . (1) إن خفتم: بمعنى إن توقعتم أو غلب ظنكم. عبارة الآية واضحة. ولم نطلع على رواية في مناسبة نزولها. والمتبادر أنها استمرار للآية السابقة التي احتوت تقرير قوامة الرجل على الزوجة ومعالجة حالة نشوز الزوجة حيث جاءت هذه معها أو بعدها تباعا لمعالجة حالة احتمال الشقاق بين الزوجين. فأمرت المسلمين المخاطبين بالمداخلة والنظر في الأمر من قبل حكم من جانب الزوج وأهله وحكم من جانب الزوجة وأهلها فيما ينبغي عمله في سبيل الإصلاح بينهما الذي قد يوفق الله إليه إن أراده الفريقان. ويتبادر لنا أن الفقرة الأخيرة من الآية أسلوبية وأن فيها معنى الحثّ على الإصلاح والتأميل في توفيق الله إليه مع عدم إغفال إرادة الزوجين مما هو متسق مع التقريرات القرآنية في أهلية المرء للإرادة والاختيار التي أودعها الله فيه.

تعليق على الآية وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ... إلخ

تعليق على الآية وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها ... إلخ لقد تعددت الأقوال التي يوردها المفسرون «1» لأنفسهم أو لأهل التأويل وأئمة الفقه في مدى الإجراءات التي تضمنتها الآية نوجزها ونعلق عليها بما يلي، مع التنبيه على أننا لم نطلع على أثر نبوي وثيق في ذلك وأن الراجح أن الأقوال المساقة هي من قبيل الاجتهاد: 1- قال المفسرون إن المخاطبين في الآية يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أو أهل الزوجين أو ذوي الشأن والعلاقة من المسلمين. ونقول إن من المحتمل أن يكون كل من الجهات الثلاث معا مخاطبة. فكل منها يصح أن تتدخل وتتوسط في الإصلاح بين الزوجين. ولما كانت صيغة الآية تشريعية مطلقة لتكون محل تطبيق وتنفيذ في كل ظرف فيكون ولي أمر المؤمنين أو نائبه يقوم مقام النبي صلى الله عليه وسلم بعده. ومع ذلك فإن من المتبادر أنه الأقوى هو أن الخطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان المرجع فيما كان ينشب بين المسلمين من خلافات والقادر على التنفيذ المطاع فيه. وإذا صح هذا فيكون الخطاب بعد النبي موجها لولي أمر المؤمنين في الدرجة الأولى. وإن كان هذا لا يقلل من احتمال توجيهه لذوي الشأن في أسرة الزوجين ومجتمعهما. 2- هناك من قال إن الزوجين المتشاقين هما اللذان يختاران حكميهما. فيخبر كل منهما حكمه المختار بما يطلب ويشكو. وهناك من قال إن هذا شأن ذوي الشأن من الأسرة أو المجتمع أو السلطان على اختلاف تحمل مدى العبارة القرآنية ويكون للطرف المتضرر من موقف الآخر أن يرفع أمره وحسب. والآية تخاطب المخاطبين ببعث الحكمين وهذا يجعل الرجحان للقول الثاني. ويوجهه كون كل من الطرفين قد يختار حكما متعصبا له فيتعسر إيجاد الحل الوسط.

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي.

3- هناك من قال إن للحكمين أن يجدا الحلول المناسبة ويلزما بها الطرفين عدا التفريق الذي لا يتم إلا بتفويض وموافقة الفريقين. وهناك من قال إن الحكمين يرفعان ما يريانه من حلول إلى من عينهما. وأن هؤلاء هم الذين يلزمون الزوجين بما يرونه موافقا منها مع الاختلاف فيما إذا كان هؤلاء أيضا يستطيعون أن يقرروا التفريق ويلزموا به الزوجين بدون موافقتهما أم لا بد من موافقتهما حيث قال فريق بحقهم في الإلزام بالتفريق. وقال آخر إنه لا بدّ من موافقة الزوجين على ذلك. وجميع هذه الأقوال واردة ووجيهة. ومهما يكن من أمر هذه الاجتهادات فالذي يتبادر لنا بصورة عامة ومبدئية أن الآية هدفت إلى إزالة الشقاق وتوطيد الوفاق بين الزوجين في حالة حدوث نزاع بينهما أو احتمال ذلك اتساقا مع هدف القرآن العام في تعظيم الرابطة الزوجية والإبقاء عليها ما أستطيع إلى ذلك. وخاطبت ذوي الشأن في سبيل تحقيق ذلك. والاختلاف في التفريق هو كما يبدو بسبب كون الآية هدفت إلى التوفيق والإصلاح وحسب. ويتبادر لنا أن التفريق يصح أن يرد في مجال الحلول استلهاما من المبدأ القرآني العام للحياة الزوجية الذي شرحناه في سياق آيات الطلاق في سورة البقرة وهو الإمساك بالمعروف أو التسريح بالمعروف والإحسان وعدم الإمساك للضرر والعدوان. ويكون التفريق وفق الخطط القرآنية المشروحة في تلك الآيات أيضا وهو الخلع والفداء أو الطلاق الرجعي والبائن أو البات. هذا مع توكيد القول إن الآية هدفت إلى إزالة الشقاق وتوطيد الوفاق وإن على الحكمين أو من يتدخل بذل كل جهد في سبيل ذلك في الدرجة الأولى. ومع صحته واحتمال أن يكون التدخل من ذوي الأسرة والشأن في المجتمع والسلطان فالذي يتبادر لنا أن هذا متروك للظروف. فما أمكن حلّه بدون تدخل السلطان حلّ. وما كان يحتاج إلى سلطان رفع إليه. وإن كان رفع الأمر إلى السلطان يظل هو الأضمن للحسم والتنفيذ. وقد يصح القول بالإضافة إلى ما تقدم واستلهاما من فحوى الآية أن الجزء الثامن من التفسير الحديث 8

حكمة تفصيل القرآن لشؤون الأسرة

المخاطبين فيها مدعوون إلى التدخل للإصلاح والتوفيق إذا ما خيف من تسوية نزاع وشقاق بين الزوجين ولو لم يرفع الزوجان أمرهما إليهم. والله تعالى أعلم. ولم نقع على قول بما يجب عمله إذا اختلف الحكمان، والمتبادر أن للذي عينهما أن ينتدب آخرين مكانهما أو يمحص الأمر بوسائله الأخرى أو يرجح رأي أحد الحكمين على الآخر أو يفرض الحل المناسب. وهذا ما يوحيه ما قلناه أن السلطان يظل هو الأضمن للحسم والتنفيذ والأكثر ورودا في الخطاب والله تعالى أعلم. حكمة تفصيل القرآن لشؤون الأسرة هذا، وهذه الآية هي خاتمة فصل طويل في شؤون الأسرة المتنوعة. ومن المحتمل أن يكون بعض آياته نزلت متتابعة فوضعت في مكانها للمناسبة الظرفية والموضوعية. ومن المحتمل أن يكون بعض آياته الأخرى نزلت في غير ظرف نزول الباقي فوضعت في مكانها للمناسبة الموضوعية. ويلحظ من هذا الفصل الطويل أن حكمة التنزيل قد أعارت هذه الشؤون عناية كبيرة واقتضت نتيجة لذلك أن يحتوي القرآن بيانات وتشريعات كثيرة حولها. وهذا يلحظ كذلك في الفصل الطويل الذي احتوته آيات سورة البقرة [220- 241] والذي هو من هذا الباب لأنه متصل بالطلاق والعدة والمهر وحالة الزوجة التي يتوفى عنها زوجها وحالة الزوجة التي يطلقها زوجها قبل الدخول ومسألة الرضاع إلخ إلخ. وليس هذان الفصلان كل ما جاء في هذا الباب في القرآن. ففي سورة الأحزاب التي مرّ تفسيرها فصل منه، ومعظم سورة الطلاق من الباب نفسه، وفي سورة النور فصول عديدة منه أيضا. والمتبادر أن من حكمة ذلك كون هذه الشؤون متصلة بحياة جميع الأفراد من آباء وأمهات وزوجات وأولاد، وبعبارة أخرى أن لكل إنسان صلة بها بشكل من الأشكال، واحتمال أن تكون مثار خلاف ونزاع وشقاق وبلبلة وضغائن بل وجرائم

[سورة النساء (4) : الآيات 36 إلى 42]

واردة باستمرار في كل ظرف ومكان وكل هذا مما يؤدي إلى اضطراب أسروي واجتماعي واقتصادي ومعاشي وسلوكي فإذا ما حددت وأوضحت انتفت أسباب ذلك وضمنت الطمأنينة والهدوء والتراضي للأسرة الإسلامية ثم للمجتمع الإسلامي والله أعلم. [سورة النساء (4) : الآيات 36 الى 42] وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42) . (1) الجار ذي القربى. قيل إنه القريب رحما وقيل إنه القريب دينا. (2) الجار الجنب: قيل إنه الأجنبي رحما وقيل إنه الأجنبي دينا. (3) الصاحب بالجنب: الذي بينه وبين الآخر رفقة وصحبة. وبعضهم قال إن الجملة تعني زوجة الرجل. (4) ابن السبيل: الغريب. (5) من المؤولين من قال إن هذه الآية عنت اليهود الذين وصفوا بمثل ذلك في آيات أخرى. ومن قال إنها عنت من يبخل بعلمه ويكتمه من العلماء مطلقا. ومن قال إنها على المعنى الظاهر وهو الشحّ بالمال وكتمانه وأمر الناس بذلك.

تعليق على الآية واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا والآيات الخمس التالية لها وما فيها من تلقينات في صدد سلوك المسلم تجاه غيره على اختلاف الفئات

والقول الأخير هو الأوجه بقرينة في الآية التالية. (6) لو تسوّى بهم الأرض: الجملة كما يتبادر لنا أنها في معنى (لو تنشق الأرض وتبلعهم ثم تعود إلى حالها مسواة ويبقون في بطنها) . تعليق على الآية وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً والآيات الخمس التالية لها وما فيها من تلقينات في صدد سلوك المسلم تجاه غيره على اختلاف الفئات الخطاب في الآيات موجه للمؤمنين السامعين كالآيات السابقة. وقد تضمنت: (1) أمرا لهم بعبادة الله وحده وعدم إشراك شيء بأي هدف وشكل وبحسن معاملة الوالدين والأقارب واليتامى والمساكين والجيران والأقارب والغرباء والأصحاب والمعارف وأبناء السبيل والأرقاء والبرّ بهم ومعاونتهم. (2) وتشنيعا على المتكبرين المتفاخرين الذين لا يعاملون الناس بالبرّ والحسنى ويبخلون بأموالهم في سبيل الخير ويكتمون ما آتاهم الله من فضله ولا يكتفون بما في ذلك من إثم عليهم بل يأمرون غيرهم بمثل عملهم. وتشنيعا كذلك بالمرائين الذين إذا أنفقوا شيئا أنفقوه مراءاة للناس وطلبا للثناء وتفاخرا لا عن إيمان بالله ورغبة في رضائه ولا عن إيمان باليوم الآخر ورغبة في تقديم العمل الصالح بين أيديهم. وهؤلاء وأولئك هم قرناء الشيطان. ومن كان الشيطان قرينه فقد ساء قرينه وتعس وشقي. (3) وتنديدا بهؤلاء بأسلوب السؤال التعجبي عما دهاهم حتى جعلهم ينحرفون هذا الانحراف في حين أن العقل والمنطق يقضيان بالبداهة أن يؤمنوا بالله واليوم الآخر وينفقوا مما رزقهم الله وهم يعترفون بوجوده ويعرفون أنه عليم بجميع أحوالهم وأعمالهم.

(4) وتقريرا بأن الله لا يظلم أحدا ولا يبخس حق أحد وعمله ولو كان مثقال ذرة واحدة. وإذا كان هذا العمل خيرا ضاعفه وآتاه عليه أجرا عظيما. (5) وسؤالا موجها للنبي صلى الله عليه وسلم فيه تنديد وإنذار لهم عما يكون حالهم حينما يجمع الله الناس ويأتي بشهيد من كل أمة عليها ويأتي به شهيدا عليهم. (6) وجوابا عما يكون حال الذين كفروا وعصوا الرسول حيث يتولاهم الندم والحسرة ويتمنون لو انشقت الأرض وبلعتهم حتى لا يقفوا أمام الله هذا الموقف العصيب، أو حتى لا يضطروا إلى كتمان حقيقة ما كانوا عليه في الدنيا وإنكار شركهم بسبيل الدفاع عن أنفسهم. ولم نطلع على مناسبة في نزول الآيات. ويتبادر لنا أنها غير منقطعة عن الآيات السابقة ولو من قبيل الصلة التعقيبية أو الاستطرادية. فالآيات السابقة احتوت بيان الحقوق والواجبات بين الأزواج والرجال والنساء فاقتضت حكمة التنزيل بوحي هذه الآيات تعقيبا أو استطرادا لتنبيه المسلمين على ما يجب عليهم من حسن المعاملة والبرّ نحو جميع الطبقات عامة من آباء وأقارب وأباعد وجيران وأصحاب وغرباء ومساكين وأيتام وأرقاء، وللتشنيع على من يقصر في ذلك ويتعاظم ويختال على الناس اغترارا بماله وجاهه ومركزه ليتم الاتساق بين التلقينات القرآنية الخاصة بالأسرة وبغير الأسرة معا. وأسلوب الآيات قوي نافذ وبعض ما احتوته من أوامر ونواه ورد في سور مكية ومدنية سبق تفسيرها. غير أنها جاءت هنا مجموعة بحيث يصح وصفها بأنها من جوامع الآيات في بابها. وقد انطوت على تلقينات جليلة فياضة بواجب الإحسان والبر بالناس على اختلاف طبقاتهم وجعلت للطبقات الضعيفة والمحتاجة خاصة نصيبا واضحا في ذلك وبتقبيح إهمال هذا الواجب والتقصير فيه والتكبر على الناس وأذيتهم وحرمان المحتاجين والتحريض على ذلك وإنكار فضل الله ورزقه بسبيل ذلك وبكون القيام بهذا الواجب لا يؤدي على وجهه الصحيح إلّا بالإخلاص فيه والصدور فيه عن إيمان بالله واليوم الآخر وعن رغبة صادقة في أدائه

كواجب أوجبه الله عليه ابتغاء مرضاته مجردا عن مراءاة الناس وقصد اكتساب ثنائهم أو نيل جزائهم وكل هذا متسق مع وصايا القرآن على ما شرحناه في مناسبات عديدة سابقة. ولقد أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في صدد ما احتوته هذه الآيات فيها الأمر وفيها النهي. ومنها ما ورد في الكتب الخمسة ومنها ما أخرجه الإمام أحمد أو روي من طرق أخرى. منها في صدد حق الجار عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» «1» . وعنها «قالت يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال إلى أقربهما منك بابا» «2» . وحديث آخر جاء فيه «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه» «3» . وحديث رابع أخرجه الإمام أحمد جاء فيه «لا يشبع الرجل دون جاره» «4» . وحديث خامس جاء فيه «لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بحليلة جاره، ولأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره» «5» . وحديث سادس جاء فيه «الجيران ثلاثة: جار له حقّ واحد وجار له حقان وجار له ثلاثة حقوق. فالأول جار مشرك فله حقّ الجوار، والثاني جار مسلم فله حقّ الإسلام والجوار والثالث جار مسلم ذو رحم فله حق الجوار والإسلام والرحم» «6» . وحديث سابع جاء فيه «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره» «7» . ومنها في صدد حق الجار والصاحب معا حديث جاء فيه «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره» «8» . ومنها في صدد الأقارب وذوي الرحم حديث

_ (1) التاج ج 5 ص 14 الحديث رواه الأربعة. (2) التاج ج 5 ص 14 الحديث رواه البخاري وأبو داود. (3) التاج ج 5 ص 14 الحديث رواه الشيخان. (4) من تفسير ابن كثير للآيات. (5) المصدر نفسه. (6) المصدر نفسه. (7) من تفسير الخازن. [.....] (8) التاج ج 5 ص 9 و 15 والحديث رواه الترمذي.

عن أبي هريرة جاء فيه «من سرّه أن يبسط الله في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه» «1» وحديث عنه أيضا «إنّ رجلا قال يا رسول الله إنّ لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيئون إليّ وأحلم عنهم ويجهلون عليّ فقال لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم الملّ ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك» «2» . ومنها في حق الخدم والمماليك حديث رواه عبادة بن الصامت جاء فيه «سمع رسول الله يقول أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون» «3» . وثان عن أبي مسعود قال «كنت أضرب غلاما لي فسمعت صوتا من خلفي يقول: اعلم أبا مسعود- مرتين- أن الله أقدر عليك منك عليه فالتفتّ فإذا هو النبي فقلت يا رسول الله هو حرّ لوجه الله قال أما لو لم تفعل للفحتك النار» «4» . وثالث عن أبي هريرة عن النبي قال «من قذف مملوكه وهو بريء مما قال جلد له يوم القيامة حدا» «5» . ورابع عن ابن عمر جاء فيه «جاء رجل إلى النبي فقال يا رسول الله كم نعفو عن الخادم فصمت فأعاد الكلام فصمت فلما كان في الثالثة قال في كل يوم سبعين مرة» «6» . وخامس عن أبي ذرّ جاء فيه «قال رسول الله من لاءمكم من مملوككم فأطعموه مما تأكلون واكسوه مما تكتسون ومن لم يلائمكم منهم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله» «7» وسادس عن رافع جاء فيه «أن النبي قال حسن الملكة يمن وسوء الخلق شؤم» «8» . وسابع عن جابر جاء فيه «ثلاث من كنّ فيه ستر الله عليه كنفه وأدخله الجنة: رفق بالضعيف وشفقة على الوالدين وإحسان إلى المملوك» «9»

_ (1) التاج ج 5 ص 9 و 15 والحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود. (2) المصدر نفسه ص 9 رواه الأربعة. (3) المصدر نفسه ص 10- 12. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه. (6) المصدر نفسه. (7) المصدر نفسه. (8) المصدر نفسه. والملكة في معنى الذي يملك شيئا. (9) المصدر نفسه.

وثامن عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله «كفى المرء إثما أن يحبس عمن يملك قوتهم» «1» . وتاسع عن أبي ذرّ جاء فيه «خولكم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم وإن كلفتموهم فأعينوهم» «2» . وعاشر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوصي أمته في مرض الموت فيقول «الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم، ويردّد ذلك حتى ما يفيض بها لسانه» «3» . وحادي عشر عن أبي هريرة قال قال رسول الله «للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلّف من العمل إلّا ما يطيق» «4» . ومنها في صدد الخيلاء حديث رواه مسلم والترمذي جاء فيه «لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة خردل من كبرياء» «5» . وحديث ثان رواه الترمذي جاء فيه «لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين» «6» . وحديث ثالث رواه الترمذي جاء فيه «يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذلّ من كل مكان» «7» . وفي صدد البخل والشحّ حديث عن أبي بكر رواه الترمذي جاء فيه «لا يدخل الجنة خبّ ولا منّان ولا بخيل» «8» وحديث عن أبي سعيد رواه الترمذي كذلك جاء فيه «خصلتان لا تجتمعان في مؤمن البخل وسوء الخلق» «9» . وفي صدد الإنفاق مرآة للناس روى مسلم والترمذي والنسائي حديثا عن أبي هريرة «في من يقضى عليهم أول ما يقضى يوم القيامة رجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه

_ (1) من تفسير ابن كثير. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. [.....] (5) التاج ج 5 ص 29- 30. (6) المصدر نفسه. (7) المصدر نفسه. (8) المصدر نفسه ص 38. (9) المصدر نفسه.

فعرفها قال ما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحبّ أن ينفق فيها المال إلّا أنفقت فيها لك. قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار» «1» وروى البغوي بطرقه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله قال الرياء» «2» . ونختم هذه السلسلة بحديث جامع لما يجب على المسلم تجاه أخيه رواه الأربعة عن أبي هريرة جاء فيه «لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم. لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ويكررها ثلاث مرات. بحسب امرئ من الشرّ أن يحقر أخاه المسلم. كلّ المسلم على المسلم حرام. دمه وماله وعرضه» «3» . وهكذا تتسق التلقينات النبوية بهذه السعة مع التلقينات القرآنية في هذا الموضوع المهم في صلات الناس ومعاملاتهم وسلوكهم مع بعضهم على اختلاف فئاتهم وبقطع النظر عن أي اعتبار طبقي أو مالي بل أو ديني كما هو الشأن في كل موضوع آخر. هذا، ولقد روي عن عبد الله قال «قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: اقرأ عليّ. قلت أقرأ

_ (1) التاج ج 1 ص 51. (2) هناك أحاديث أخرى في الرياء فاكتفينا بما تقدم وننبه على أن هناك أحاديث فيها استدراكات يحسن أن يساق بعضها للتوضيح من ذلك حديث رواه الترمذي جاء فيه «قال رجل يا رسول الله الرجل يعمل العمل فيسرّه فإذا اطلع عليه أعجبه ذلك. قال رسول الله له أجران أجر السر وأجر العلانية» التاج ج 1 ص 51. وحديث رواه أبو داود جاء فيه «وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني رجل حبّب إليّ الجمال وأعطيت منه ما ترى حتى ما أحبّ أن يفوقني أحد بشراك نعلي أفمن الكبر من ذلك قال لا ولكن الكبر بطر الحق وغمط الناس» التاج ج 5 ص 31 حيث يفيد الحديثان أن الإنسان لا يؤاخذ إلّا إذا أراد بما يفعل مراءاة الناس أو إظهار الكبر والخيلاء. (3) انظر التاج ج 5 ص 35.

[سورة النساء (4) : آية 43]

عليك وعليك نزل. قال فإني أحبّ أن أسمعه من غيري. فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [4] قال: أمسك. فإذا عيناه تذرفان» «1» حيث ينطوي في الحديث صورة رائعة لعمق شعور النبي صلى الله عليه وسلم بخطورة مهمته العظمى ومسؤوليتها. وقد يكون في هذا قرينة على أن سورة النساء كانت قد ألفت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وعرفت شخصيتها التامة. وهذا مؤيد فيما نرى بآية إرث الكلالة التي في آخر السورة أيضا على ما سوف ننبه عليه في مناسبتها. هذا، وللمفسر التستري تفسير لبعض عبارات الآية الأولى في السلسلة ينحو به نحو التفسير الرمزي أو الصوفي ويبتعد به عن معنى العبارة الصريح وهدفها الذي لا يتحمل مثل هذا التفسير قطعا وهو «الجار ذو القربى هو القلب والجار الجنب هو الطبيعة والصاحب بالجنب هو العقل المقتدي بالشريعة وابن السبيل هو الجوارح المطيعة» «2» . [سورة النساء (4) : آية 43] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43) . (1) الغائط: المحل المنخفض ولعلّه أريد بالكلمة «الحفرة» أو «الجورة» العميقة في الأرض التي كانوا يقضون حاجاتهم فيها. وقد ذكرت بعض الروايات أن الناس كانوا يذهبون إلى البراري ويقضون حاجاتهم في منخفضاتها. وهناك روايات تذكر أنه كان في جانب المساكن أماكن تسمى كنفا «مفردها كنيف» لقضاء

_ (1) التاج ج 4 ص 82. (2) انظر التفسير والمفسرون للذهبي ج 3 ص 30.

تعليق على الآية يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ... وما فيها من أحكام التيمم والجنابة والوضوء والاغتسال

الحاجة وهو ما نسميه بيت الماء أو بيت الخلاء. وهذا أو ذاك بمثابته هو المعقول لأن خروج الناس إلى البراري لقضاء الحاجة من أهل المدن غير معقول. ولا بد من أن يكون لهم أماكن لذلك «حفرا أو جورا» قريبة من المساكن. (2) تيمموا: معناها اللغوي اتجهوا نحو الشيء أو تحروا أو اختاروا. وكلمة «التيمم» التي هي اصطلاح إسلامي والتي صارت تطلق على عملية المسح من الصعيد الطاهر بدلا من الماء مشتقة منها. (3) صعيدا: قيل إنه بمعنى الأرض الملساء أو بمعنى الأرض المستوية أو الأرض المرتفعة. وقيل إنها بمعنى وجه الأرض مطلقا ترابا كان أم حجرا أو صخرا. (4) طيبا: طاهرا. الخطاب في الآية موجّه إلى المسلمين وقد تضمنت: (1) نهيا عن الصلاة وهم في حالة السكر حتى يعلموا ما يقولون لأن السكران لا يدري ما يقول أو يفعل. (2) ونهيا آخر عن الصلاة وهم على جنابة حتى يغتسلوا مع الترخيص لعابري السبيل «1» . (3) وترخيصا لهم إذا كانوا مرضى. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ... وما فيها من أحكام التيمم والجنابة والوضوء والاغتسال أولا: روى المفسرون «2» روايات عديدة متقاربة المدى مختلفة الصيغ في سبب نزول الشطر الأول من هذه الآية. وقد روى أبو داود والترمذي عن علي

_ (1) سيأتي شرح لمدى جملة عابِرِي سَبِيلٍ. (2) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والقاسمي ورشيد رضا إلخ.

صيغة نكتفي بإيرادها لأنها الأوثق سندا جاء فيها «صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منّا وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون فأنزل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ «1» وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» «2» وروى المفسرون روايات عديدة متقاربة المدى مختلفة الصيغ في سبب نزول الشطر الثاني من الآية. من ذلك حديث رواه البخاري عن عائشة قالت «هلكت قلادة لأسماء فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبها رجالا فحضرت الصلاة وليسوا على وضوء ولم يجدوا ماء فصلّوا على غير وضوء. فأنزل الله آية التيمم» «3» . ومن ذلك رواية يرويها الطبري تذكر أنه نال أصحاب رسول الله جراحة ففشت فيهم ثم ابتلوا بالجنابة فشكوا إلى رسول الله فنزلت وإن كنتم مرضى. ورواية أخرى يرويها الطبري أيضا أنه كان للنبي خادم اسمه الأسلع فناداه ليلة يا أسلع قم فارحل لي فقال له يا رسول الله أصابتني جنابة فأتاه جبريل بآية الصعيد فناداه أن قم فتيمم ووصف له ضربتين للتيمم واحدة للوجه وواحدة لليدين إلى المرفقين ثم مروا على ماء فأمره أن يغتسل. وهذه الرواية تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر أيضا. والأحاديث والروايات تفيد أن الآية نزلت مجزأة وفي مناسبات متعددة مع أنها وحدة تامة كما تبدو. وفيها نقاط أخرى لم ترد في الروايات والأحاديث مثل ملامسة النساء وعبور المساجد. وهذا يسوغ القول إن الآية نزلت مرة واحدة واحتوت مواضيع عديدة متناسبة. ولا يمنع هذا بطبيعة الحال أن تكون المناسبات المروية صحيحة فكانت سببا لنزول الآية جامعة لما كان ولما يفرض أن يكون ليكون الموضوع تاما. ثانيا: والآية بعد فصل جديد وتام. وهذا النوع من الآيات التشريعية غير نادر

_ (1) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن. (2) التاج ج 4 ص 82 و 83. [.....] (3) المصدر نفسه.

في النظم القرآني. وقد مرّ منه أمثلة في سورة البقرة. وفي هذه السورة. والتناسب قائم بين الآية والآيات السابقة من ناحية كون الجميع فصولا تشريعية. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الفصل السابق لها فوضعت بعده للمناسبة الظرفية والموضوعية. ومن المحتمل أن تكون نزلت في ظرف آخر فوضعت بعده للمناسبة الموضوعية. ثالثا: إن النهي عن الصلاة في حالة السكر في الآية يأتي كخطوة تشريعية ثانية في الخمر. والخطوة الأولى جاء في آية سورة البقرة [219] التي ذكرت أن إثم الخمر أكبر من نفعها. وقد عرض القرآن المكي بآثار خمر الدنيا وما تحدثه من أعراض كريهة ضارة أكثر من مرة في سياق وصفه خمر الآخرة وكونها مبرأة من ذلك. وهذه الخطوة الثانية ليست حاسمة أيضا لأنها إنما تنهى عن الصلاة في حالة السكر التي تنجم عن شرب الخمر. وقد نزل التشريع الحاسم الأمر بالانتهاء من شربها والجامع في الإثم بينها وبين الميسر والأنصاب والأزلام بعد مدة ما من هذه الآية في سورة المائدة. وفي هذا مشهد من مشاهد التطور التشريعي، ودليل على تأصل تعاطي الخمر وشيوعه والانتفاع به اقتصاديا حتى اقتضت حكمة التنزيل هذا التدرج. رابعا: إن الأمر بالاغتسال من الجنابة يأتي هنا لأول مرة. وقد تكرر مرة ثانية في سورة المائدة في صيغة وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا [6] وهذه وتلك من الآيات المدنية. وليس هناك حديث يمكن وصفه بأنه مكي الصدور عن النبي يوجب الاغتسال من الجنابة. غير أن المفسر القاسمي ينقل عن ابن عبد البرّ قوله إن أهل السير متفقون على أن الغسل من الجنابة قد فرض في مكة وإن هذا مما لا يجهله عالم. وهناك حديث يرويه أبو داود والترمذي عن أبي بن كعب جاء فيه «إن الفتيا التي يفتون بها إنما الماء من الماء كانت رخصة رخصها النبي صلى الله عليه وسلم في بدء الإسلام ثم أمر بالاغتسال بعد» . وجملة إنما الماء من الماء تفيد أن نزول المني هو الذي يكون به الجنابة ويوجب الاغتسال. والحديث يفيد أن هذا تشريع نبوي مكي. ولعل العلماء الذين يحكي ابن عبد البر اتفاقهم استندوا إلى هذا الحديث. وشراح الحديث يذكرون أن الحديث يعني أن النبي أوجب في بدء الإسلام

الاغتسال إذا ما حدث إنزال في جماع ثم أوجبه في حالة الجماع مطلقا ولو بدون إنزال. وليس هناك ما يمكن الاستناد إليه فيما اطلعنا عليه في ما إذا كان أمر النبي بالاغتسال من الجماع ولو لم يكن إنزال مكيا. وهناك حديث في ذلك رواه مسلم عن عائشة قالت «إن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل هل عليهما الغسل وعائشة جالسة فقال رسول الله إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل» «1» . وهذا الحديث مدني يقينا. وصار الاغتسال من الجماع بدون إنزال على كل حال تشريعا. على أن قول الشراح إن معنى إنما الماء من الماء هو إيجاب الغسل إذا نزل مني في الجماع محل نظر في ما نرى. ونرى الأوجه والله أعلم أن يؤخذ الكلام على ظاهره فيكون نزول المني في غير حالة الجماع أيضا موجبا للاغتسال. وإذا صحّ هذا فيكون هذا أيضا تشريعا مكيا تبعا لأصل الحديث الذي يذكر أن الفتيا بأن الماء من الماء كان في بدء الإسلام. وننبه على أن هناك أحاديث صريحة باعتبار نزول الماء في الاحتلام حالة جنابة وبإيجاب الاغتسال من ذلك حديث رواه البخاري ومسلم جاء فيه «إنّ أم سليم جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إنّ الله لا يستحي من الحقّ. فهل على المرأة غسل إذا احتلمت قال نعم إذا رأت الماء» «2» وحديث رواه أبو داود والترمذي عن عائشة قالت «سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما قال يغتسل وعن الرجل أنه حلم ولا يجد ماء قال لا غسل عليه. فقالت أم سليم المرأة ترى ذلك أعليها غسل قال نعم. إنما النساء شقائق الرجال» «3» والأحاديث مدنية الصدور. ولكنها لا تفيد أن التشريع النبوي جديد لأمر لم يكن ويجوز أن يكون استمرارا للجاري منذ بدء الإسلام الذي أساسه «إنما الماء من الماء» . ولم نطلع على حديث نبوي في صدد الإنزال في اليقظة نتيجة للتهيج الجنسي. ويقاس

_ (1) التاج ج 1 ص 96 و 97. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه ص 96 و 97.

هذا على نزول الماء في الاحتلام بل يكون الأوجب للاغتسال. والله تعالى أعلم. وهناك أحاديث نبوية توجب الغسل ولو لم يكن إنزال إذا التقى الختانان. من ذلك حديث رواه الخمسة إلّا الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها وجب الغسل وفي رواية وإن لم ينزل وفي رواية ومسّ الختان بالختان» «1» . وحديث رواه الترمذي عن عائشة قالت «إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل. فعلته أنا ورسول الله فاغتسلنا» «2» فصار هذا بدوره تشريعا وفي حكم الجنابة. والأحاديث مدنية الصدور ولا يمكن الجزم بما إذا كان الأمر استمرارا لما كان جاريا في العهد المكي. وهناك أحاديث عن المذي الذي يخرج من ذكر الرجل حين يدنو من أهله. وهو غير المني الذي ينقذف في الجماع أو الاحتلام أو اشتداد الشهوة تسوغ المناسبة إيرادها. منها حديث يرويه الإمام مالك عن المقداد بن الأسود قال «سئل رسول الله عنه فقال إذا وجد ذلك أحدكم فلينضح فرجه وليتوضأ وضوءه للصلاة» «3» وحديث آخر يرويه نفس الإمام عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال «إني لأجده ينحدر مني مثل الحريرة فإذا وجد ذلك أحدكم فليغسل ذكره وليتوضأ وضوءه للصلاة يعني المذي» «4» . ولقد تكفلت السنّة النبوية في بيان كيفية الاغتسال من الجنابة. من ذلك حديث رواه الخمسة عن ميمونة قالت «وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم ماء للغسل فغسل يديه مرتين أو ثلاثا ثم أفرغ على شماله فغسل مذاكيره ثم مسح يده بالأرض ثم مضمض واستنشق وغسل وجهه ويديه ثم أفاض على جسده ثم تحول عن مكانه فغسل قدميه وفي رواية ثم غسل رأسه ثلاثا وفي رواية فأتيته بخرقة فلم يردها فجعل

_ (1) التاج ج 1 ص 96 (2) المصدر نفسه. (3) الموطأ ج 1 ص 21. (4) المصدر نفسه.

ينفض الماء بيده» «1» وحديث رواه الخمسة عن عائشة قالت «كان رسول الله إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر حتى إذا رأى أن قد استبرأ حفن على رأسه ثلاث حفنات ثم أفاض على سائر جسده ثم غسل رجليه» «2» وحديث رواه الخمسة عن أم سلمة إلّا البخاري قالت «قلت يا رسول الله إني امرأة أشدّ ضفر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة. قال لا. إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين» «3» . وهناك أحاديث مهمة في صدد السلوك في حالة الجنابة من المفيد إيرادها. منها حديث رواه الخمسة عن أبي هريرة قال «لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة في طريق من طرق المدينة وأنا جنب فاختنست وفي رواية فانسللت فذهبت فاغتسلت ثم جئت فقال أين كنت يا أبا هريرة قلت إني كنت جنبا فكرهت أن أجالسك على غير طهارة قال سبحان الله إن المسلم لا ينجس» «4» وحديث رواه الخمسة أيضا عن عائشة قالت «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان جنبا فأراد أن يأكل أو ينام توضأ وضوءه للصلاة» «5» وحديث رواه الخمسة لذلك عن أنس «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة وله يومئذ تسع نسوة وفي رواية كان يطوف على نسائه بغسل واحد» «6» وروى أصحاب السنن عن عليّ قال «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن على كل حال ما لم يكن جنبا» «7» . والحديث الثاني يسوغ قراءة القرآن للمسلم إذا لم يكن على وضوء. والقراءة غيبا غير الإمساك بالمصحف الذي يشترط الجمهور على أن يكون الممسك على وضوء. ويرد على البال سؤال عما إذا كان يجوز للجنب قراءة القرآن

_ (1) التاج ج 1 ص 101. (2) المصدر نفسه (3) المصدر نفسه ص 102 و 103.. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه. (6) المصدر نفسه ص 103. [.....] (7) المصدر نفسه.

في نفسه والقراءة هي تلاوة بالألفاظ جهرا أو تخافتا. وقراءة النفس ليست كذلك. ولم نطلع على أثر في منع هذا. والله تعالى أعلم. خامسا: لقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون في تأويل إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ منها أنها لتجويز الصلاة للجنب في حالة السفر وعدم وجود ماء. ومنها أنها لتجويز دخول المسجد للجنب إذا كان طريقه منه. وقد رووا في صدد المعنى الثاني أنه كان لبعض أصحاب رسول الله منازل أبوابها شارعة على مسجد رسول الله فكانوا يضطرون إلى العبور منها فرخص لهم ذلك إذا كانوا في حالة الجنب. وهناك أحاديث عديدة منها ما ورد في الكتب الخمسة ومنها ما رواه أئمة حديث آخرون تذكر أنه كان لبيتي أبي بكر وعلي رضي الله عنهما أبواب على المسجد «1» . ومن الثابت اليقيني أن بيوت النبي صلى الله عليه وسلم كانت في جانب من ساحة المسجد. وليس لأهلها طريق إلّا المسجد وليس لمن يقصدها طريق إلّا المسجد. ولقد كان المسجد في الوقت نفسه مكان جلوس النبي صلى الله عليه وسلم للناس والوفود الذين يقصدونه لغير الصلاة وفي غير أوقات الصلاة. فكانت الرخصة لعبورهم المسجد في حالة الجنابة بما تقتضيه ظروف السيرة النبوية فكان ذلك من حكمة تنزيلها ويمكن أن يكون هذا محل قياس في الحالات المشابهة لطبيعة الحال. والله تعالى أعلم. ومن الأمور الممارسة في معظم المساجد منذ زمن قديم وجود غرف ومخادع فيها للأئمة والخطباء والمدرسين والسدنة. ودخولها والخروج منها من أرض المسجد. وقد ينامون ويحتلمون فيها. بل كثيرا ما يحدث أن ينام بعضهم في صحن المسجد في فترات الصلوات وقد يحتلمون. وحكمة الرخصة القرآنية والحالة هذه مستمرة. سادسا: قد يلحظ أن الوضوء لم يذكر هنا. ولم يذكر فيما سبق من القرآن وإنما ذكر في آية في سورة المائدة المتأخرة في النزول. مع أن المتواتر المؤيد

_ (1) انظر التاج ج 2 ص 273 ومجمع الزوائد ج 9 ص 114 و 115. الجزء الثامن من التفسير الحديث 9

بالأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين كانوا يتوضؤون للصلاة منذ بدء الإسلام في مكة. وفي الآية نواقض للوضوء وإيجاب التيمم في حالة حدوثها وهي التبرز والتبول اللذان عبر عنهما بجملة أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ وهذا يعني أن الوضوء للصلاة كان أمرا جاريا ممارسا فاقتضت الحكمة ذكر بديله إذا تعذر الماء أو تعذر استعماله. أما الأمر به في سورة المائدة فهو على ما يتبادر للتذكر والتوكيد على ما سوف نشرحه في مناسبتها. سابعا: في جملة ما جعلته الآية سببا للتيمم إذا فقد الماء لامَسْتُمُ النِّساءَ. وقد اختلفت أقوال المؤولين في مدى الجملة. فمنهم من أوّلها بمعنى مسّ الرجل لبشرة المرأة أو تقبيلها وعلى مذهب هؤلاء فإن هذا العمل يكون ناقضا للوضوء أيضا بنص قرآني. ومن هؤلاء من قال النقض بالمسّ أو القبلة بشهوة. ومنهم من قيّد بالمرأة الأجنبية دون المحارم. وقد أوّلها آخرون بمعنى الجماع. وليس هناك فيما اطلعنا عليه حديث نبويّ صحيح في ذلك. والملامسة قد ذكرت في آية أخرى في سورة المائدة في نفس الصيغة والمقام اللذين ذكرت فيهما الملامسة في آية النساء التي نحن في صددها. ولقد ورد في القرآن الكريم آيات عديدة غير الجماع فيها بكلمة «المس» لا «الملامسة» من ذلك آية سورة البقرة هذه لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) . ومنها آية سورة الأحزاب هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا (49) وفي آية سورة آل عمران هذه الآية: قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ [47] ، ومنها آية [20] في سورة مريم قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا وفي سورة المجادلة هذه الآية وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [3] .

والمتبادر أن هذه الآيات هي التي جعلت الذي يقول إن الجماع هو المس وإن الملامسة هي ملامسة بدنية تنقض الوضوء فقط. وهكذا قام بين مذاهب الفقه لأهل السنة والجماعة مذهبان في هذا الأمر لكل منهما اجتهاد سائغ مستند إلى قرآن وحديث. واحد يقول إن الملامسة في الآية هي ملامسة بدنية وهي تنقض الوضوء، وواحد يقول إن الملامسة في الآية هي بمعنى الجماع وإن الملامسة البدنية لا تنقض الوضوء ونحن نحترم الرأيين ولا نرى حرجا على المسلم أن يعمل بأحدهما والله تعالى أعلم. هذا، وفي كتب التفسير أحاديث وروايات أخرى في صدد التيمم من ذلك حديث رواه البخاري ومسلم عن عمران بن الحصين «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا معتزلا لم يصل في القوم فقال يا فلان ما منعك أن تصلي في القوم فقال يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء فقال عليك بالصعيد فإنه يكفيك» . وعلى ترجيحنا استنادا إلى النصوص القرآنية بأن الملامسة لا تعني الجماع فتكون الجملة القرآنية خالية من حكم التيمم بالنسبة لمن يصيبهم جنابة ولا يجدون ماء فكان هذا الحديث مبيّنا لهذا الحكم الذي سكت عنه القرآن. وهناك أحاديث نبوية عديدة تذكر نواقض أخرى للوضوء غير التبرز والتبول المكنى عنهما في الآية في جملة أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ. وغير الملامسة المذكورة في الآية على رأي من أوّلها بمس بشرة المرأة مطلقا. من ذلك خروج المذي من ذكر الرجل الذي ذكر في أحاديث سابقة. ويقاس عليها خروج نزيف دموي من أحد السبيلين ومن ذلك الفساء والضراط والنوم في حالة الإضجاع والقيء ورعاف الدم ومسّ الفرج وأكل لحوم الإبل وما غير شيه على النار مع اختلافات فقهية في بعض ذلك بسبب اختلاف الأحاديث وتضاربها «1» .

_ (1) انظر التاج ج 1 صفحة 85- 88 ومجمع الزوائد ج (1) ص 241- 255 وفي صدد الفساء والضراط حديث من الصحاح أن الوضوء ينتقض إذا سمع صوت أو وجدت رائحة.

وحكمة الوضوء والاغتسال لا تحتاج إلى شرح طويل. ففي غسل الأطراف المكشوفة أكثر من مرة كل يوم نظافة مستمرة ذات فوائد عظمى صحية ومظهرية. والمباشرة الجنسية وما بسبيلها تثير هياجا يذهل المرء بعض اللحظات عن كل شيء والاغتسال يهدىء هياج الجسم ويعيد إلى النفس سكونها. وهو وسيلة إلى تطهير الجسم جميعه وتنظيفه من آن لآخر مما فيه كذلك فوائد صحية ومظهرية عظمى. ولعل جعلهما واجبا دينيا ينطوي فيه إلزام المسلمين به دون أي إهمال وتقصير. بل هذا ما تلهمه جملة ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ في الآية [6] من سورة المائدة التي أمر فيها بالوضوء. ويضاف إلى هذا ما في الوضوء والاغتسال من مظهر الاحتفال بالصلاة والوقوف بين يدي الله عز وجل في حالة تامة من النظافة والطهارة متوافقة مع ما تنطوي عليه الصلاة من مظهر إيمان المسلم بربّه وإسلام نفسه إليه. ثامنا: وقد يوهم نظم الآية أن جملة فَلَمْ تَجِدُوا ماءً شاملة لجمله وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى غير أن الجمهور متفقون على أن المرض يجيز للمريض التيمم في حالتي الحدثين الأصغر والأكبر مع وجود الماء. وهذا وجيه سديد مستفاد من حكمة التشريع الذي تضمنته الآية. وفي بعض الأحاديث التي سوف نوردها بعد قليل صراحة بذلك. تاسعا: ليس هناك أثر نبوي وصحابي وثيق بل ولا غير وثيق يفيد أن التيمم كان في العهد المكي حيث يمكن القول إنه تشريع قرآني مدني اقتضته ظروف المسلمين المستجدة. والمتبادر أن الحكمة من هذه العملية هي تعظيم شأن الصلاة ومواضع الصلاة وأوقات الصلاة فواجب الصلاة على المسلم مكرر في اليوم الواحد خمس مرات. وهي ركن من أركان الإسلام يجب أداؤه في أوقاته. فإذا تعذر الماء الذي يتطهر به المسلم ويستعد للوقوف أمام ربّه متعبّدا خاشعا فبالمسح يظهر نيته للتطهر

واحتفاله بالصلاة وأدائها في أوقاتها إظهارا رمزيا فلا تفوته عبادة الله في الأوقات المعينة لها. والمتبادر أن جملة وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى ليست من مشمول جملة فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فهذه الجملة هي والله أعلم بالنسبة لمن لم يجد ماء فعلا في حين أن في الجملة الأولى ترخيصا بالتيمم للمريض مع وجود الماء إذا تيقن أن استعمال الماء في الاغتسال من الجنابة أو لأجل الوضوء يسبب ضررا أو خطرا على حياته وصحته. عاشرا: إن جمهور المفسرين والمؤولين والفقهاء على وجوب البحث عن الماء. وعدم جواز التيمم إلّا بعد اليأس من وجوده وهذا وجيه. أما كيفية التيمم فهناك أحاديث عديدة فيها منها ما ورد في الصحاح. ومن ذلك حديث رواه الخمسة جاء فيه «جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال إني أجنبت فلم أصب الماء فقال عمار بن ياسر لعمر أما تذكر إذ كنا في سفر أنا وأنت فأما أنت فلم تصلّ وأما أنا فتمكنت وصلّيت فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنما كان يكفيك هكذا فضرب بكفّيه على الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه» «1» وحديث رواه الخمسة والشافعي عن أبي الجهم قال «أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلّم عليه فلم يردّ عليه النبي حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم ردّ عليه السلام. ولفظ الشافعي فمسح وجهه وذراعيه» «2» . ولأبي داود عن ابن عمر «فضرب يديه على الحائط ومسح بهما وجهه ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه ثم ردّ على الرجل السلام وقال لم يمنعني أن أردّ عليك السلام إلّا أني لم أكن على طهر» «3» . أما مدة التيمم فلم نطلع على حديث صحيح فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روى

_ (1) التاج ج 1 ص 114 ونفخ فيهما أي أزال الغبار الكثير على ما قاله الشراح. (2) التاج ج 1 ص 114 و 115 والجمهور على أن عدم ردّ السلام بسبب عدم الطهر منسوخ بآيات وأحاديث عديدة أجازت ذكر الله تعالى في جميع الحالات. وهذا سديد وجيه. (3) المصدر نفسه.

الطبري عن علي وابن عمر والشعبي والنخعي أن التيمم يجب لكل صلاة وعن عطاء والحسن أنه كالوضوء يصلى به أكثر من صلاة ما دامت أسبابه قائمة. وقد صوب الطبري القول الأول وعلل تصويبه بأن الأصل القرآني هو الوضوء أو التيمم حين القيام للصلاة، والسنّة أجازت أكثر من صلاة بوضوء واحد ولم يرد ذلك بالنسبة للتيمم. ونرى في هذا وجاهة أكثر. وننبه على أن المستفاد من أقوال المؤولين والمفسرين والفقهاء على أن هناك اتفاقا على جواز الصلاة النافلة بين وقتي صلاتين مكتوبتين متواليتين بتيمم واحد. وهناك مسألة، وهي وجوب قضاء الصلاة بالتيمم وعدمه عند وجود الماء. وقد روى البخاري ومالك والشافعي عن ابن عمر أنه أقبل من الجرف حتى إذا كان بالمربد تيمم وصلى العصر ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة فلم يعد الصلاة «1» وروى أبو داود والنسائي عن أبي سعيد قال «خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمّما وصلّيا. ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الصلاة بالوضوء ولم يعد الآخر ثم أتيا رسول الله فذكرا ذلك له فقال للذي لم يعد أصبت وأجزأتك صلاتك وقال للذي توضأ وأعاد لك الأجر مرتين» «2» . وهذا يعني أن المسلم بالخيار إن شاء أعاد الصلاة التي يصليها بالتيمم حين وجود الماء وإن شاء لم يعد وإن كانت الإعادة أكثر أجرا. وننبه على كلمة «وجدا الماء في الوقت» حيث يمكن أن يعني هذا أنه إذا وجد الماء بعد فوات وقت الصلاة فلا يكون محل للخيار حيث يكون قد صلى المسلم المكتوبة عليه بالتيمم في وقتها وبذلك أتم واجبه والله أعلم. والمستفاد مما يسوقه المفسرون من أقوال لهم وللمؤولين والفقهاء في صدد المرض الذي يبيح التيمم أنه الجروح والقروح التي يؤذيها الماء ولا يمكن عصبها

_ (1) التاج ج 1 ص 115 ومعنى والشمس مرتفعة أي قبل انقضاء وقت صلاة العصر. (2) التاج ج 1 ص 115 و 116.

والمسح على العصابة، ثم المريض الواهن والشيخ الواهن اللذين يؤذيهما الماء. وعلى كل حال إن المسألة دينية إيمانية موكولة للمؤمن المفروض أنه لا يبحث عن فتوى بدون مبرر ليخلص نفسه من مؤونة استعمال الماء للوضوء والاغتسال. والذي لا يفعل ذلك إذا اعتقد هو أو قال له الخبراء إن استعمال الماء يؤذيه أو يزيد مرضه حقا والله تعالى أعلم. وهناك حديثان فيهما ما يصح الاستئناس بهما على ذلك يروي أحدهما البخاري وأبو داود عن عمرو بن العاص قال «احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت أن اغتسل فأهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح. فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت إني سمعت الله يقول وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً فضحك رسول الله ولم يقل شيئا» «1» ويروي ثانيهما أبو داود عن جابر قال «خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجّه في رأسه. ثم احتلم فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم قالوا ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته بذلك فقال قتلوه قتلهم الله. ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العيّ السؤال. إنما كان يكفيه أن يتيمم أو يعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده» «2» ولقد روى الخازن عن أبي حنيفة أن من مذهبه جواز التيمم إذا تعذر الماء الموجود بسبب قوة قاهرة حيث يكون ذلك بمثابة عدم وجوده بحيث لو كان هناك بئر ليس عنده أداة لاستخراج الماء بها أو كان عنده خطر بوجود عدو أو سبع جاز للمسلم أن يتيمم. ووجاهة القول ظاهرة فيما نرى والله أعلم. وهناك احتمال لم نطلع على قول أو أثر فيه وهو أن يكون مع المسافر ماء قليل لا يكفي لشربه ووضوئه واغتساله ولا يجد ماء في طريق سفره. ويتبادر لنا أن هذا يكون في حكم انفقاد الماء للوضوء والاغتسال ويبرر التيمم والله تعالى أعلم.

_ (1) التاج ج 1 ص 113- 116. (2) المصدر نفسه.

[سورة النساء (4) : الآيات 44 إلى 57]

[سورة النساء (4) : الآيات 44 الى 57] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46) يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57) . (1) يشترون الضلالة: أوّل المؤولون الجملة بمعنى يختارون الضلالة ويتعمدونها ويستبدلونها بالهدى. وهو وجيه ومتسق مع ما جاء في آيات عديدة مثل آيات البقرة [16 و 41] وآل عمران [77] . (2) اسمع غير مسمع: قيل إنها كلمة هجو بمعنى اسمع لا سمعت. وقيل إنها كلمة تمرد بمعنى اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه.

تعليق على الآية ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل إلخ وما بعدها لآخر الآية [57]

(3) راعنا ليّا بألسنتهم: كانوا يلوون ألسنتهم بكلمة راعنا لتكون بمعنى الرعونة استهزاء بالنبي. وفي سورة البقرة آية من هذا الباب نهى المسلمون فيها عن ترديد هذه الكلمة تقليدا لليهود وهي الآية [104] . (4) لا يظلمون فتيلا: لا ينقص من أجرهم وحقهم مقدار فتلة من خيط والعبارة لأجل التقليل وتمثيل الضالة. (5) الجبت والطاغوت: أول المؤولون الجبت بالأصنام والطاغوت بما يشرك به الله عموما. وهناك من أول الجبت بالسحر والطاغوت بالسحرة والكهان أو بسدنة الأصنام. والتأويل الأول هو الأوجه المتساوق مع مدى الآية. (6) نقيرا: قشرة النواة أو شقها أو نقرتها التي تكون في ظهرها. والقصد أقل شيء مهما كان تافها. تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ إلخ وما بعدها لآخر الآية [57] عبارة الآيات واضحة. وفيها إشارات تنديدية إلى مواقف عداء وكيد وكفر وهزء وتمرد وتآمر بدرت من اليهود، وحملة شديدة عليهم بسببها وكشف عن أخلاقهم وطبائعهم الكريهة ودعوة مجددة لهم إلى الإيمان بالرسالة المحمدية التي جاءت مصدقة لما معهم والسير في طريق الإخلاص والصلاح، وتذكير بما كان من نكال الله لأهل السبت منهم، وإنذار بنكال مماثل إذا لم يستجيبوا، بالإضافة إلى النار الأخروية الدائمة الرهيبة. وهي فصل جديد لا يبدو أن له صلة بالفصول السابقة. وقد روى المفسرون روايات عديدة في مناسبة نزولها «1» من ذلك أن الآيات الثلاث الأولى نزلت في

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري. ومنهم من أورد جميع الروايات ومنهم من أورد بعضها. ومنهم من أورد روايات أخرى أو الروايات بصيغة أخرى.

صدد ما كان اليهود يستعملونه من أساليب الخطاب التي كانوا يقصدون بها السخرية بالنبي والطعن في دينه ويقولون إنه لو كان نبيا لعرف ذلك، وقد ذكروا في سياق ذلك اسم رفاعه بن التابوت من زعمائهم وقالوا إنه كان يلوي لسانه سخرية بالنبي ويطعن في الإسلام. وأن الآية الرابعة نزلت في صدد دعوة بعض أحبار اليهود أو يهود بني قينقاع إلى الإيمان وإبائهم. وأن الآية الخامسة نزلت في وحشي الحبشي قاتل حمزة ورفاق له كتبوا للنبي من مكة أنهم يريدون أن يتبعوه إذا كانت رحمة الله تتسع لذنوبهم، وفي رواية أنها نزلت جوابا على سؤال رجل من المسلمين عن احتمال غفران الله للشرك حينما نزلت الآية يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [53] من سورة الزمر حيث سكت النبي عن الجواب فأعاد الرجل سؤاله مرتين ثانيتين فنزلت. وأن الآيتين السادسة والسابعة نزلتا في رجال من اليهود أتوا بأطفالهم إلى النبي فسألوه هل على هؤلاء من ذنب فقال لا فقالوا ما نحن إلّا كهيئتهم ما عملناه بالنهار يكفر عنا بالليل وما عملناه بالليل يكفر عنا بالنهار. لأننا أحباء الله. وأن الآيتين الثامنة والتاسعة نزلتا في وفد زعماء من اليهود ذهبوا إلى مكة برئاسة زعماء بني النضير الذين تزعموا يهود خيبر بعد إجلائهم من المدينة ليحرضوا قريشا على النبي والمسلمين ويتحالفوا معهم، فطلب القرشيون أن يسجدوا لأصنامهم فأجابوهم وسألوهم بصفتهم أهل علم وكتاب عمن هو الأهدى أهم أم محمد؟ فقالوا لهم إنهم هم الأهدى وحلفوا لهم عند أصنامهم على وعدهم بنصرتهم عليه. وألصقوا أكبادهم بالأصنام كالمشركين. وأن الآية العاشرة نزلت بمناسبة انتقاد اليهود النبي على ما صار من تبدل حاله من ضعف إلى قوة وما صار يسير فيه من مظاهر السلطان أو بمناسبة ما ظهر منهم من حسد وغيظ مما آتى الله نبيه وأصحابه من نصر وفضل وهدى. وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح من جهة ومنها ما لا يستقيم مع موضوع الآيات وروحها وظروف نزولها من جهة أخرى وإن كان بعضها يتسق إجمالا مع مضمون الآيات ورواية نزول الآية في وحشي ورفاقه

أوردت في سياق آيات الزمر [54- 59] وقد فنّدناها ونبهنا على عدم اتساقها مع روح الآية وظروفها. والذي يتبادر لنا ويلهمه أسلوب الآيات ونظمها وانسجامها أنها سلسلة تامة نزلت فصلا واحدا في حق اليهود. وهذا لا يمنع أن يكون قد بدر من اليهود بوادر عديدة في مناسبات مختلفة مما روته الروايات وما لم تروه. فجاءت الآيات تنعى عليهم وتندد بهم وتفضحهم وتنذرهم في سياق مناسبة من المناسبات لا نستطيع أن نعينها بجزم وإن كنا نظن أنها مناسبة ذهاب وفد اليهود إلى مكة لتحريض القرشيين على النبي والمسلمين وما فعلوه في مكة وما قالوه لقريش على ما ذكرته الروايات، وفيه اتساق لمضمون الآية [51] وهي أشد المناسبات استدعاء للحملة عليهم والتنديد بهم وإنذارهم بهذا الأسلوب القارع الذي جاء في الآيات. وقد يبدو لأول وهلة أن الآية [48] لا صلة لها باليهود. غير أن المناسبة المذكورة تجعل صلتها بهم قائمة بل شديدة. فقد أعلنوا أيمانهم بالأصنام وحلفوا عندها وتبركوا بها أو سجدوا لها وقالوا لقريش المشركين إنهم أهدى من محمد وهو الداعي إلى وحدة الله ومكارم الأخلاق. فجاءت الآية لتعظم جريمة الشرك ولتشير إلى هذا الموقف الشركي البشع ولتقول إن الله وإن كان غفورا يغفر كل ذنب فهو لا يمكن أن يغفر ذنب الشرك به. وننبه على أن في هذه السورة آية أخرى قريبة للآية [48] وهي الآية [116] غير أن هذه جاءت في سياق آخر ومدى آخر متصلين بالشرك العربي فكان أن اقتضت حكمة التنزيل التكرار. وبينما وصف مشركو العرب في الآية [116] بأنهم ضلوا ضلالا بعيدا وصف اليهود في الآية [48] بأنهم افتروا إثما عظيما فتناسق الوصف مع كل من الفريقين. وجملة انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بعد التنديد بالذين يزكون أنفسهم بدون تعيين هويتهم تعيين هذه الهوية وكونهم اليهود. لأنهم كانوا يقولون نحن أحباء الله وأبناؤه وشعبه المختار الذين يرعاهم وهو ربّ

إسرائيل «1» فكذبتهم الآية وأعلنت أن هذا افتراء على الله تعالى. وهذا الفصل يدل على استمرار اليهود في مواقفهم التي وقفوها منذ قدوم النبي صلى الله عليه وسلم من مكة صدا عن سبيل الله ومكايدة وتشكيكا ووسوسة وتآمرا وسوء أدب وهزء مع الزهو والتبجح وعريض الدعوى مما احتوته الفصول العديدة الطويلة في سورتي البقرة وآل عمران بتفصيل أكثره وتدل على أن هذا الاستمرار إنما كان ينشأ عن الغيظ الذي أكل صدورهم من انتشار دعوة النبي وتوطد أمره وسلطانه وعلى أن هذه المواقف كانت تحدث بعض النتائج المؤذية نفسيّا وظرفيّا للنبي والمسلمين. ولعل أشنع ما حكته عنهم الآيات وأبشعه أن يدفعهم الحقد والحسد والعداء إلى الإيمان بالأصنام والسجود لها وعدم التورع عن الشهادة الفاجرة بأن المشركين هم أهدى من المسلمين الموحدين. وهو موقف يدمغهم بطابع من العار لا يمكن أن يمحى. ومن المعلوم أن اليهود في المدينة كانوا ثلاث قبائل أو كتل وهي بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة. وقد أجلي بنو قينقاع في السنة الثانية وبنو النضير في السنة الثالثة ونكل ببني قريظة في السنة الخامسة للهجرة على ما شرحناه في سياق تفسير سور الأنفال والحشر والأحزاب. ولا بد من أن يكون هذا الفصل قد نزل وبعض هؤلاء موجود في المدينة يواجه النبي والمسلمين ويقف منهم هذه المواقف التي ذكرتها الآيات لأن الحملة لا يكون لها مكان لو كان نزل بعد جلاء جميع اليهود عن المدينة. ورواية ذهاب وفد اليهود إلى مكة تذكر أنهم كانوا زعماء بني النضير الذين حلّوا بعد جلائهم عن المدينة في خيبر وتزعموا يهودها، وقد نتج عن ذلك زحف

_ (1) في الأسفار المتداولة اليوم في أيدي اليهود عبارات كثيرة تذكر أنهم شعب الله وأنه يرعاهم وأنه رب إسرائيل. وفي القرآن آيات عديدة تحكي قولهم أنهم أولياء الله وأبناؤه وأحباؤه وأن الآخرة لهم خالصة وأنهم هم الذين يدخلون الجنة وحدهم مثل آيات البقرة [94 و 111] والمائدة [18] والجمعة [6] وهكذا ينطوي في الآيات كون ما جاء في أسفارهم تحريفا وافتراء.

الأحزاب على المدينة ومظاهرة بني قريظة لها على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأحزاب. وهكذا يمكن أن يقال إن هذا الفصل نزل قبل التنكيل ببني قريظة وأنه قد يكون شاملا في إنذاره وتنديده ليهود خيبر وزعماء بني النضير الذين تزعموهم أيضا. بل ليس هناك ما يمنع أن يكون نزل قبل جلاء بني النضير وأن ما روي من مواقف الوفد اليهودي وأقواله في مكة كان في مناسبة أخرى والله أعلم. وروايات السيرة «1» تذكر أن زعماء بني النضير جاؤوا من خيبر إلى المدينة وألحوا على بني قريظة الذين بقوا فيها حتى نقضوا عهدهم مع النبي والمسلمين وأن النبي زحف عليهم ونكل بهم عقب ارتداد الأحزاب عن المدينة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأحزاب. وحكمة وضع هذا الفصل في مكانه من السورة خافية علينا لأنه لا يبدو له صلة بما سبقه وبما لحقه من آيات إلّا أن يكون نزل بعد الآية السابقة له مباشرة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعه بعدها للمناسبة الظرفية. وعلى كل حال فهو مثال آخر مما ذكرناه في مقدمة السورة عن كيفية تأليفها حيث يرجح أنه نزل قبل فصل وقعتي الأحزاب وبني قريظة اللتين ذكرتا في سورة الأحزاب المتقدمة على هذه السورة في روايات النزول. وآيات الفصل تحتوي وصفا قويا لأخلاق اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم من خبث ومكر وكيد ودسّ وتحريف كلام وليّ لسان وتبجح وزهو وغرور وتزكية نفس وسوء أدب وبخل بأي شيء مهما تفه على أي غريب وحسد لأية نعمة وخير وفضل يصيب غيرهم وطمع بما في أيدي غيرهم مع ما تفضل الله عليهم وعلى آبائهم من خيرات وبركات وملك عظيم، وعدم تورع عن أي تناقض مهما كان شديد البشاعة قوي الخزي بسبيل أحقادهم ومآربهم. ولقد حكيت هذه الأخلاق عن أسلافهم وظلت متحققة في أخلاقهم إجمالا دون تبديل من لدن نزول أسفار العهد القديم إلى الآن ولعلهم في ذلك شاذون عن كل ما سواهم في الدنيا منذ الأزمنة القديمة

_ (1) طبقات ابن سعد ج 3 ص 108- 120.

إلى الآن وصاروا به أسوأ البشر من حيث الأخلاق والسلوك نحو سائر البشر. والآيتان [46 و 55] احتوتا استثناء تكرر في آيات عديدة لفئة قليلة من اليهود ظهر منها نية حسنة فأذعنت للحق وصدقت برسالة النبي ودعوته وآمنت وحسن إسلامها. وقد أشير إلى ذلك في آيات سورة الأعراف [157] وآل عمران [113 و 119] وفي الآية [162] من سورة النساء هذه. وتتجلى في هذا صورة رائعة من الإنصاف لا تدع أية شبهة لأي منصف من غير المسلمين في صدق الحملات والنعوت والوقائع القرآنية بالنسبة لليهود. وإذ نقول هذا بهذا الأسلوب إنما نقوله للمساجلة. ونحن نؤمن به أعمق الإيمان. ولقد ورد في آيات سورة الأعراف [163- 168] حملة شديدة على اليهود وإشارة إلى الذين اعتدوا منهم في السبت وما حلّ فيهم من نكال الله ولعنته بسبب ذلك كما وردت إشارة إلى ذلك في آيات سورة البقرة [65، 66] . فالإنذار والإشارة الواردان في الآية [47] من الآيات التي نحن في صددها إنما يمتان إلى هذه الحادثة. ولقد علقنا عليها بما فيه الكفاية في المناسبات السابقة فلا نرى ضرورة للإعادة إلّا القول بأن أسلوب الإنذار هنا قارع رهيب. ولعله آخر إنذار يوجه لليهود مع تجديد الدعوة إلى الإيمان بالرسالة المحمدية التي جاءت مصدقة لما معهم لأن النبي كان قد أجلى بني قينقاع ثم بني النضير ولم يلبث إلا قليلا حتى نكل ببني قريظة وطهر المدينة من رجسهم. ولقد تعددت تأويلات المؤولين التي يرويها المفسرون لجملة مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها منها أن نجعل وجوههم في أقفيتهم فيمشوا القهقرى ومنها أن نطمس عنهم الهدى فيرتدوا إلى الضلال ولا يكون لهم فلاح أبدا. ومنها أن نطمس على وجوههم ونجعلها مكان إستاتهم. وعلى كل حال فإن فيها إنذارا بمسخ مادي أو معنوي. وتعددت التأويلات كذلك لجملة كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ منها أن الله يجدد جلودهم كلما احترقت الجلود الأولى ومنها أن

الله يزيل من الجلود السابقة أثر الاحتراق ويعيد شعورها السابق بألم العذاب. ومع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي الذي انطوى في الجملة فإن الإنذار الرهيب من حكمته كما هو المتبادر. ومن التأويلات المروية لجملة أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أنها عنت ما أحلّه الله للنبي من زوجات عديدة. ومن التأويلات المروية لجملة فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً أنها عنت ملك داود وسليمان وما كان لهما من مئات الزوجات. وقد فند الطبري هذين التأويلين وأكد أن الجملة الأولى في صدد حسدهم العرب والنبي وأصحابه على ما آتاهم الله من نبوة وهدى وعزة وفضل. وأن الجملة الثانية في صدد ما كان آل إبراهيم السابقين من مثل ذلك وهو الصواب الأسدّ. والآية انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً التي جاءت بعد التنديد باليهود لتزكيتهم أنفسهم بليغة المدى حيث انطوى فيها تكذيب لزعمهم أنهم أحباء الله وأصفياؤه والحظوة لديه وتزكيتهم لأنفسهم نتيجة لهذا الزعم. وتقرير لكون ذلك منهم افتراء على الله تعالى. وفي سورة البقرة حكاية لزعم زعمه اليهود بأنه لن يدخل الجنة إلّا من كان هودا وتكذيب له. وتقرير للأمر في نصابه الحق بأن الذي يسلم وجهه لله وهو محسن هو الذي ينال حظوة عند الله. ويأمن الخوف والحزن. وذلك في الآيتين [111 و 112] وفي هذا تلقين عام مستمر المدى كما هو المتبادر. ومع أن الآية [48] هي في صدد تعظيم جريمة الشرك وتقرير كون الله لا يمكن أن يغفره فإنها تتحمل النظر موضوعيا من حيث ما احتوته من إيذان رباني بغفران غير الشرك من الذنوب ومن أن هذا الغفران يكون لمن يشاء الله. ولقد وقف المفسرون عند الأمر الأول وأوردوا بعض الأحاديث النبوية. منها ما رواه أصحاب الكتب الخمسة ومنها ما رواه أئمة آخرون. ومن ذلك حديث رواه الإمام أحمد وأورده ابن كثير عن أنس بن مالك قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم الظلم ثلاثة. ظلم لا يغفره

الله وظلم يغفره وظلم لا يترك الله منه شيئا. فأما الظلم الذي لا يغفره فالشرك. وأما الظلم الذي يغفره فظلم العباد لأنفسهم فيما بينهم وبين ربهم وأما الظلم الذي لا يتركه فظلم العباد بعضهم بعضا حتى يدين لبعضهم من بعض» وفي الحديث تساوق مع التلقين القرآني في صدد الشرك. وتأميل للمؤمن بغفران الله في ما يكون بينه وبين ربّه وتشديد على حقوق العباد.. ومن ذلك حديث ورد في فصل التفسير في التاج رواه مسلم والإمام أحمد جاء فيه «من لقي ربّه لا يشرك به شيئا دخل الجنة ومن لقيه يشرك به دخل النار» «1» وهذا الحديث يفيد مع الحديث السابق أن الشرك وحده هو الذي يخلد صاحبه في النار. وقد يعني هذا من ناحية العقيدة الإسلامية الإيمانية أن المؤمن إذا اقترف آثاما وهو مؤمن لا يخلد في النار وكل أمره أن يعذبه الله على آثامه إذا شاء ثم يخرجه من النار ويدخله الجنة. ومن ذلك حديث مشهور رواه الشيخان والترمذي عن أبي ذرّ الغفاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أتاني جبريل عليه السلام فبشّرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. قلت وإن زنى وإن سرق. قال وإن زنى وإن سرق. قلت وإن زنى وإن سرق. قال وإن زنى وإن سرق. ثم قال في الرابعة على رغم أنف أبي ذرّ» «2» . والمتبادر أن هذا الحديث يفهم على ضوء ما شرحناه آنفا. أي أن الله يعذب الآثم إذا لم يكن مشركا أو مستحلا لإثمه ما شاء ثم يدخله الجنة. وعلى كل حال ففي الأحاديث تساوق مع مدى الآية من هذه الناحية من حيث تأميل المؤمنين بعفو الله ورحمته وهذا مع تنبيهنا على أن عذاب الله للآثم المؤمن يستحق إذا مات دون توبة وأن غفران الله له متاح إذا مات وأصلح وعمل صالحا على ما شرحناه في مناسبات سابقة. وللمفسر الخازن كلام سديد فيه توافق لما تقدم أورده في سياق تفسير الآية [116] من هذه السورة المماثلة في عبارتها للآية التي نحن في صددها. وبالنسبة إلى النقطة الثانية الموضوعية أي (إن الله يغفر ما دون الشرك لمن يشاء) نقول إنه مع واجب التسليم لله بمطلق المشيئة. فإن الذي يتبادر لنا أن العبارة

_ (1) التاج ج 4 ص 83. [.....] (2) التاج ج 1 ص 26.

أسلوبية على ما جرى عليه النظم القرآني. وأن في القرآن ضوابط تجعل غفران الله ورحمته وهدايته للذين علم أنهم يستحقونها بعقائدهم ونياتهم وسلوكهم على ما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة «1» وإنه ما دامت حكمة التنزيل اقتضت أن يكون في القرآن مثل هذه الضوابط فمن الواجب الوقوف عندها دون جدل كلامي لا طائل من ورائه ولا ضرورة إليه. وفي كلام المفسر الخازن ما يتوافق كذلك مع هذا. والله تعالى أعلم. ولقد عقد المفسر القاسمي نبذة طويلة في سياق الآية [48] استقاها من كتب الإمامين ابن تيمية وابن القيم في مدى الشرك الذي لا يغفره الله ويخلد صاحبها في النار، خلاصتها أن الشرك نوعان: شرك بالله في أسمائه وصفاته وأفعاله واتخاذ آلهة أخرى معه. وشرك به في المعاملة. ويدخل في الأول كل أنواع الشرك بما في ذلك إسناد الحوادث والتأثير لغير الله أو عبادة غير الله ولو للشفاعة ونيل الحظوة والقربى عند الله وتعطيل أسماء الله وصفاته. ويدخل في الثاني الحلف بغير الله والتوكل على غير الله والتوسل لغير الله والنذر لغير الله والتوبة لغير الله والخشية والرجاء من غير الله والاستنصار بغير الله إن كان يفعل ذلك باعتقاد تأثير هذا الغير. وفي هذا وذاك وجاهة متساوقة مع التقريرات القرآنية التي تتميز بها العقيدة الإسلامية على غيرها في توحيد الله جل جلاله توحيدا كلّه صفاء ونقاء وبعد عن كل شائبة وتأويل مهما كان، وبأي اعتبار كان على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. هذا، ومع خصوصية الآيات الموضوعية والظرفية فإن فيها تلقينات أخلاقية مستمرة المدى في تقبيح التبجح والزهو بالنفس وحسد الناس ولا سيما حينما يكون الحاسد متمتعا بفضل الله بالسعة والرخاء. وسوء الأدب في الخطاب وغمز الناس والسخرية منهم والمكابرة في الحق رغم ظهور أعلامه وقيام حجته والارتكاس في شهادة الزور والتخلي عن المبادئ الإيمانية والدينية بسبيل كيد الخصم وأذيته والتآمر عليه.

_ (1) انظر تعليقنا في تفسير آيات الأعراف [156] والمدثر [33] والإنسان [31] بنوع خاص. الجزء الثامن من التفسير الحديث 10

[سورة النساء (4) : آية 58]

[سورة النساء (4) : آية 58] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) . في الآية خطاب للسامعين الذين تلهم أنهم المسلمون بأن الله تعالى يأمرهم بحفظ الأمانات وردها إلى أصحابها. وبالعدل بين الناس إذا حكّموهم في مشاكلهم وحكموا بينهم. وأعقب الأمرين تعقيب تنويه بهذه الأوامر وخطورة شأنها، وتنبيه على أن الله سميع بصير تجب مراقبته في كل موقف وعمل وحال. تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ... إلخ روى المفسرون روايات عديدة متفقة المدى مختلفة الصيغة في نزول الآية خلاصتها أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ يوم فتح مكة مفتاح الكعبة من سادنها عثمان بن طلحة ودخل إلى الكعبة ثم خرج منها فسأله عمّه العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له بذلك السقاية والسدانة فأنزل الله الآية فردّ المفتاح إلى عثمان قائلا له خذوها يا بني طلحة خالدة مخلدة لا ينزعها منكم إلّا ظالم وقال له إن الله قد أنزل في شأنه قرآنا وتلا الآية فكان هذا سبب إسلامه. والروايات لم ترد في الصحاح إلّا حديث رواه الخمسة عن ابن عمر ذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ المفتاح من عثمان ودخل الكعبة وصلى فيها دون ذكر لنزول الآية وردّ المفتاح إلى عثمان «1» . ويلحظ أن الآية جاءت في سياق نرجح أنه نزل قبل فتح مكة بمدة غير قصيرة ولقد جاء بعد هذه الآية آية فيها أمر للمسلمين بإطاعة الله ورسوله وأولي الأمر وردّ ما يتنازعون فيه إلى الله ورسوله ثم آيات بعدها فيها حكاية لموقف وقفه المنافقون فيه صدّ عن التقاضي عند رسول الله حيث يجعل كل هذا صلة وثيقة بين الآية والآيات التي بعدها فضلا عن أنه لا تفهم أية حكمة في وضع آية في شأن وقع يوم

_ (1) انظر التاج ج 3 ص 387.

الفتح المكي في هذا السياق. والذي يتبادر لنا نظرا للروايات العديدة التي تروى في مسألة مفتاح الكعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم ردّ هذا المفتاح إلى سادن الكعبة بتلقين هذه الآية التي روي أنه تلاها حينئذ، وأن الأمر التبس مع الرواة فظنوا أن الآية نزلت حينئذ والله أعلم. والآية وما بعدها فصل جديد كما هو المتبادر ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت بعدها للتناسب الظرفي والله أعلم. والآية فصل تام لذاتها، ومن الآيات المحكمة، وهذا ما جعلنا نوردها لحدتها. ولقد روى الطبري عن ابن عباس وغيره أنها في صدد تشريع عام بوجوب رد الأمانات والحقوق إلى أصحابها والحكم بين الناس بالعدل والحق وأن الخطاب فيها موجه لأولي الأمر من المسلمين وهذا سديد وجيه. غير أن إطلاق العبارة في الآية وتوجيه الخطاب بصيغة الجمع أولا وموضوعه العام ثانيا يجعلان الآية عامة التوجيه والشمول للمسلمين جميعهم عامتهم وحكامهم وأولي الأمر منهم في كل ظرف ومكان على ما هو المتبادر ولا سيما إنه يكون أحيانا كثيرة عند الناس أمانات لبعضهم وينتدب أناس أحيانا كمحكمين بين غيرهم حيث يكون في هذا الإطلاق أولا وفي تعبير النَّاسِ ثانيا تلقينات جليلة مستمرة المدى من حيث إيجاب العدل وتقريره وحفظ الأمانات والحقوق وردها إلى المسلمين وأولياء أمرهم معا في كل وقت وبقطع النظر عن أي اعتبار وصفة وطبقة ونحلة وملة وجنس. وهذا من طوابع الشرع الإسلامي الخالدة. قد تكرر وروده بهذا الإطلاق في مواضع كثيرة من القرآن منها ما مرّ ومنها ما يأتي ومما يأتي آيتان في سورة المائدة إحداهما تأمر المسلمين بأن لا يمنعهم أي عداء وبغضاء بينهم وبين الغير من العدل وبأن يكونوا قوامين لله شهداء بالقسط في كل حال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [8] وثانيتهما تأمر النبي بالحكم بين اليهود بالقسط إذا حكّموه مهما بدا منهم من مواقف الدسّ والتحريض سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ

بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [42] حيث ينطوي في الآيتين ما قلناه من انطواء الآية التي نحن في صددها على وجوب العدل بين الناس بقطع النظر عن أي اعتبار. ولقد أورد المفسرون بعض الأحاديث النبوية في سياق هذه الآية في صدد العدل في القضاء والأئمة العادلين والجائرين منها ما رواه أصحاب الكتب الخمسة. ومن ذلك حديث رواه مسلم والنسائي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إنّ المقسطين عند الله على منائر من نور عن يمين الرحمن عزّ وجل وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا» «1» . وحديث رواه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه «إنّ أحبّ الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم منه مجلسا إمام عادل. وأبغض الناس إلى الله وأبعدهم منه مجلسا إمام جائر» «2» . وحديث رواه الترمذي كذلك عن رسول الله قال «إنّ الله تعالى مع القاضي ما لم يجر فإذا جار تبرّأ الله منه وألزمه الشيطان» «3» وهناك أحاديث أخرى من هذا الباب منها حديث رواه أبو داود بسند صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله على جوره فله الجنة ومن غلب جوره على عدله فله النار» «4» وحديث رواه أبو داود والترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار. فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحقّ فقضى به. ورجل عرف الحقّ فجار في الحكم فهو في النار. ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار» «5» وحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه تعظيم لخطورة مهمة القضاء جاء فيه «من جعل قاضيا بين الناس فقد ذبح بغير سكين» «6» .

_ (1) التاج ج 3 ص 45. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه ص 52. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه ص 53. (6) المصدر نفسه.

وينطوي في الأحاديث تلقين نبوي متساوق مع التلقين القرآني في واجب العدل بين الناس كما ينطوي في الآية والأحاديث تقرير كون ذلك مبدأ محكما من مبادئ الدين الإسلامي الذي يجب على المسلمين وقضاتهم وأمرائهم الالتزام به. والآية احتوت أمرا آخر وهو أداء الأمانات إلى أهلها. ولقد علقنا على موضوع الأمانة وخطورتها في كتاب الله وسنة رسوله وأوردنا طائفة من الآيات والأحاديث في ذلك في سياق تفسير الآيات الأولى من سورة (المؤمنون) فلا نرى ضرورة للتكرار ويحسن مراجعة ذلك حين قراءة هذا التعليق لتكون الصورة بارزة للقارىء. على أن بعض الأئمة نبهوا على معان خاصة في الجملة الواردة في الآية في ذلك. وفي تفسير القاسمي نبذة عن الإمام ابن تيمية خلاصتها أن أداء الأمانات نوعان أحدهما تولية أمور المسلمين إلى أهلها الأصلح لها فإن ذلك أمانة في عنق المسلمين وأولياء أمورهم. وأورد حديثا وصفه بالصحيح أخرجه الحاكم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من ولي من أمر المسلمين شيئا فولّى رجلا يجد من هو أصلح منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين» وحديثا آخر رواه البخاري أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا ضيعت الأمانة فانتظر قيام الساعة. قيل يا رسول الله وما إضاعتها قال إذا وسّد الأمر إلى غير أهله» وأما ثاني نوعي أداء الأمانات فهو أداء المسلم ما اؤتمن عليه من مال وودائع ورهن إلخ. وأورد في صدد ذلك أحاديث أوردناها في تعليقنا على آيات سورة (المؤمنون) . وفي تفسير رشيد رضا نبذة طويلة أيضا في صدد هذه الجملة جاء فيها فيما جاء أن أداء الأمانة يشمل بالإضافة إلى أداء المسلم ما اؤتمن عليه العلماء الذين يكون العلم فيهم بمثابة أمانة يجب عليهم أداؤها بما يفيد الناس. وبالأسلوب المفيد بحيث يكون مخالفة هذا وذاك خيانة للأمانة. وأورد في صدد ذلك الآية [187] من سورة آل عمران التي تندد بالذين يكتمون ما أوتوا من علم وينبذونه وراء ظهورهم ويشترون به ثمنا قليلا. ويشمل كذلك حفظ الأسرار التي يؤتمن المسلم عليها. ويشمل أمانة المسلم في معاملته مع غيره بصدق وإخلاص وحسن

[سورة النساء (4) : آية 59]

نية وبعد عن المكر والغش والاحتيال. وكل هذه الأقوال وجيه سديد. وفي الأحاديث النبوية تعليم وتلقين وتحذير واجب الالتزام. ولم يترك مفسرو الشيعة هذه الآية حيث رووا عن بعض الأئمة أنها تعني أمانة الحكم والولاية للأئمة وأمر الله بتسليمها إليهم لأنهم أهلها. والتكلف والتعسف والهوى يطبع هذه الرواية كما هو ظاهر «1» . [سورة النساء (4) : آية 59] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) . (1) تأويلا: هنا بمعنى مخرجا وعاقبة ونتيجة ومصيرا. وهذه المعاني لا تخرج عن نطاق معنى الكلمة اللغوي الذي هو من آل بمعنى صار. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وشرح ما في صددها من مبادئ وأحكام عبارة الآية واضحة. وقد تضمنت أمرا للمسلمين بطاعة الله ورسوله وأولي الأمر منهم. وبردّ كل خلاف ونزاع بينهم في أي شيء إلى الله ورسوله. وقد جعلت الآية هذا دليلا أو شرطا لصحة إيمان المسلمين بالله واليوم الآخر. وقررت أن في ذلك الخير وأحسن الحلول والمخارج والأحكام. ولقد روى المفسرون روايات عديدة في سبب نزول هذه الآية. منها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمّر أميرا على سرية اختلف في اسمه حيث روت رواية أنه عبد الله بن حذافة ورواية أنه خالد بن الوليد وأن أحد رجال السرية أجار شخصا من الذين

_ (1) انظر الجزء الثاني من كتاب التفسير والمفسرون للذهبي ص 173 و 189.

أرادت السرية الإغارة عليهم أعلن إسلامه بدون الرجوع إلى أميره فاعترض الأمير ورفع الأمر إلى النبي فأجاز الإجارة مع التنبيه على أن لا يتكرر ذلك بدون علم الأمير. فنزلت الآية لتوطيد طاعة الأمير. ومن الروايات أن تمردا وقع من أفراد سرية على أميرها فشكى القائد إلى النبي فنزلت الآية بسبيل ذلك وبعض المفسرين «1» يعزون بعض هذه الروايات باستثناء رواية خالد بن الوليد إلى البخاري ومسلم والترمذي. ولم نجدها في الكتب التي بين أيدينا وخالد بن الوليد لم يكن أسلم في ظروف نزول الآية على ما نرجح ونخشى أن يكون اسمه قد أقحم لغرض دعائي لأن الرواية تذكر أنه اختلف مع عمار وصار بينهما تشاد وتشاتم وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أبغض عمارا أبغضه الله ... والذي يتبادر لنا أن الآية في صدد أعم مما جاء في الروايات. وأنها هدفت إلى توطيد طاعة الله ورسوله وأولي الأمر على المسلمين بصورة عامة في مناسبة ما مما كانت حكمة التنزيل تقتضيه في العهد المدني بسبب تركيب المجتمع الإسلامي فيه على ما نبهنا عليه في سياق تفسير الآيات الأولى من سورة الأنفال. ونرجح أن المناسبة التي نزلت فيها هي المذكورة في الآيات التالية لها على ما سوف نشرحه بعد بحيث يمكن أن يقال إن السياق واحد بل وإنه بدأ بالآية [58] واستمر إلى الآية [65] وهذا يبدو قوي الوضوح إذا ما أنعم النظر فيه. وبقطع النظر عن تعدد الروايات فإن ترجيحنا لا يمنع أن يكون وقع حادث اختلاف بين أمير سرية وأحد أفرادها أو جماعة منهم فرفع الأمر إلى رسول الله فتلا الآية بسبيل توطيد طاعة الأمير فالتبس الأمر على الرواة. والله تعالى أعلم. والآية على كل حال جملة تشريعية تامة مثل سابقتها. وهذا ما جعلنا نفردها عن السياق أيضا. وإطلاقها يفيد كما هو المتبادر أن ما احتوته هو تشريع مستمر للمسلمين في كل ظرف ومكان. والجمهور متفقون على أن طاعة الله تتمثل في طاعة القرآن والتزام ما فيه من

_ (1) انظر تفسير ابن كثير والقاسمي.

حدود وأحكام ومبادئ وأوامر ونواه. وأن طاعة الرسول تتمثل في السير وفق أوامره ونواهيه وتعليماته وإرشاداته في حياته ووفق سننه القولية والفعلية بعد مماته. وينطوي في الآية في الوقت نفسه تقرير كون القرآن والسنة هما المرجعان الرئيسيان اللذان يجب الرجوع إليهما في كل نزاع بين المسلمين والوقوف عند ما فيهما من حدود ورسوم. وهذا الواجب يترتب على المسلمين وعلى أولي الأمر منهم. وسواء أكان النزاع فيما بين المسلمين أو فيما بينهم وبين أولي الأمر منهم. ويتبادر لنا أن جملة فَإِنْ تَنازَعْتُمْ تعني أيضا الاختلاف في الاجتهاد والمواقف جدلا نظريا أو مواقف فعلية. ويلفت النظر بخاصة إلى نقطة هامة. وهي أمر الآية برد الأمور المتنازع فيها إلى الله ورسوله حصرا. حيث ينطوي في هذا أنه ليس للمسلمين أن يردوا ذلك إلى أولي الأمر الذين أمرت الآية بطاعتهم بالإضافة إلى الله ورسوله. بل يكون كتاب الله وسنة رسوله هما الحكم في ذلك وأنه ليس لأولي الأمر أن يصدروا في ذلك أوامر غير ما ورد في كتاب الله وسنّة رسوله وأن يحملوا المسلمين على طاعتهم فيما يصدرون. على أن هناك ما يمكن قوله ففي القرآن والسنّة تشريعات وأوامر ونواه محددة كما فيهما مبادئ وتلقينات وتوجيهات وخطوط عامة. وهذه بخاصة شاملة واسعة بحيث يسوغ القول إن من الممكن على ضوئها حل كل نزاع أو مشكلة أو مسألة ليس فيها تحديد صريح وقطعي في كتاب الله وسنّة رسوله. وهذا من أسرار ترشح الشريعة الإسلامية للخلود والشمول فيما يتبادر لنا. ومرجعية كتاب الله وسنّة رسوله تصدق على هذه كما تصدق على تلك بطبيعة الحال. والأمور المحددة القطعية في كتاب الله وسنّة رسوله تظل محكمة لا يجوز فيها اجتهاد ولا تحوير ولا تبديل. أما عدا ذلك فيصح أن يجتهد في حله في نطاق

المبادئ والتلقينات والتوجيهات والخطوط العامة في كتاب الله وسنّة رسوله التي ذكرنا شمولها وسعتها. وفي هذه السورة هذه الآية وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ... [83] التي يمكن على ما يتبادر لنا أن يقال على ضوئها إن حل الأمور المتنازع فيها والتي يحتاج حلّها إلى اجتهاد لعدم ورودها محددة وقطعية في كتاب الله وسنّة رسوله يناط بأولي الأمر من المسلمين وأهل الحل والعقد والعلم منهم الذين يؤهلهم علمهم وعقلهم وتجربتهم وممارستهم لاستنباط الأحكام من مآخذها. واستلهام تلك المبادئ والتوجيهات والتلقينات والخطوط العامة في كتاب الله وسنة رسوله. وقد يصح أن نذكر جملة وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ في الآية [159] من سورة آل عمران وجملة وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ في الآية [38] من سورة الشورى في هذا السياق. وهذا شامل لكل ظرف ومكان وشأن كما هو المتبادر. وننبّه في هذه المناسبة على أن لعلماء الأصول في العصور الإسلامية الأولى تقريرات في الخطة التي ينبغي أن يسار عليها في حل ما ليس فيه في القرآن والسنة شيء صريح ومحدد يقوم على أساس حل ذلك وفقا لإجماع علماء المسلمين. وما لا يكون وما لا يمكن أن يكون فيه إجماع يسار فيه على مقتضى القياس على أمثال جرت في عهد النبي وخلفائه الراشدين. وما لا يكون فيه أمثال يسار فيه على الاستحسان أو الاستصلاح حسب الترتيب. مع واجب التنبيه على أن هذه التقريرات ليست مجمعا عليها حيث اختلف الأصوليون في إمكانية وواقعية الإجماع وحجيته. وفي الاعتماد على القياس وتعيين مداه أو التوسع فيه. وفي الاستحسان والاستصلاح وظروفهما ومبرراتهما. وهناك من قال بإمكانية وواقعية حجية إجماع صدر الإسلام أو أصحاب رسول الله فقط لأن مجتهدي هذا العهد وعلماءه قليلون والرقعة غير منبسطة في حين أن المسلمين تفرقوا في أبعاد شاسعة. وصارت واقعية الإجماع وإمكانيته متعذرتين. وهذا الخلاف من جهة وما هناك من خلافات اجتهادية فما ليس فيه نصّ

محدد وقطعي ورتب الأحاديث والأخذ بالاستحسان والقياس والمصالح وعدمه من جهة أخرى من أسباب تعدد المذاهب الفقهية في ذلك. وهناك خلاف بين العلماء المتأخرين في وجوب الوقوف عند أقوال واجتهادات أئمة الفقه المشهورين وفي جواز الاجتهاد لمن يؤهله علمه وخبرته وممارسته وعقله لاستنباط الأحكام من مآخذها فيما ليس فيه نصّ صريح أو محدد من قرآن وسنة. ونحن مع الجواز. ففضل الله لا يجوز حصره وتحريمه على أحد ولا زمن ولا جيل. وكتاب الله وسنن رسوله موجهة للمؤمنين في كل ظرف ومكان. وفي كتاب الله آيات كثيرة تهتف بالمؤمنين إطلاقا ليتدبروا كتاب الله ويتفكروا فيه ويعقلوه مع واجب القول إن أقوال واجتهادات أئمة الفقه وعلمائه في القرون الإسلامية الأولى كنوز ثمينة يجب أن تكون ملهمات ومآخذ لمن يتصدون للاجتهاد والنظر من المتأخرين. وبديهي أن الأمر الذي تتضمنه الآية من جهة والإيمان بالله ورسوله من جهة أخرى موجبات لإطاعة الله ورسوله وما يمثلهما من القرآن والسنن بدون قيد وشرط. أما أولو الأمر فقد رويت أحاديث عديدة تفيد أن طاعتهم منوطة بما فيه مصلحة المسلمين وما لا يتناقض مع ما في كتاب الله وسنن رسوله من أوامر ونواه وحدود وأنه لا طاعة لهم في معصية ولا فيما ليس فيه مصلحة للمسلمين ولا فيما يتناقض مع القرآن والسنّة. من ذلك حديث رواه الخمسة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحبّ أو كره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» «1» وحديث رواه مسلم عن أبي ذرّ قال «أوصاني خليلي أن أسمع وأطيع وإن كان عبدا مجدّع الأطراف. وفي رواية إن أمّر عليكم عبد مجدّع أسود يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا» «2» وحديث رواه الشيخان عن عبادة بن الصامت قال «بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في العسر واليسر

_ (1) التاج ج 3 ص 40 ومعنى (فيما أحب أو كره) في الحديث الأول هو أن السمع والطاعة واجبة في غير المعصية سواء أحب المسلم ما أمر به أو كرهه. (2) المصدر نفسه.

والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وعلى أن لا ننازع الأمر أهله وعلى أن نقول الحقّ أينما كنّا لا نخاف في الله لومة لائم وفي رواية أن لا ننازع الأمر أهله إلّا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان» «1» وحديث رواه الطبري بطرقه عن أبي هريرة قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم سيليكم بعدي ولاة فيليكم البرّ ببرّه والفاجر بفجوره فاسمعوا لهم وأطيعوا في كلّ ما وافق الحقّ وصلّوا وراءهم فإن أحسنوا فلكم وإن أساؤوا فعليهم» وهذا الحديث لم يرد في الصحاح. ولكن هذا لا يمنع صحته. وقد ورد في الصحاح أحاديث من بابه. منها حديث رواه الشيخان عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات مات ميتة جاهلية» «2» وحديث رواه مسلم وأبو داود جاء فيه «إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون. فمن كره فقد برىء. ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع قيل يا رسول الله ألا نقاتلهم قال لا ما صلّوا» «3» وحديث رواه مسلم عن عرفجة قال «سمعت رسول الله يقول ستكون هناك هنات وهنات فمن أراد أن يفرّق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان» «4» وحديث رواه مسلم عن عوف بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «خيار أئمتكم الذين تحبّونهم ويحبّونكم ويصلّون عليكم وتصلّون عليهم. وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم. قيل يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف فقال لا ما أقاموا الصلاة فيكم وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يدا من طاعة» » . وكلمة مِنْكُمْ في الآية تعني أن أولي الأمر الذين تجب على المسلمين طاعتهم هم الذين يكونون منهم أي (مسلمين) وينطوي في هذا عدم جواز طاعة المسلم لحاكم أو سلطان أو أمير غير مسلم كما هو المتبادر.

_ (1) التاج ج 3 ص 40- 42. [.....] (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه.

وفي هذا ما فيه من تلقين جليل مستمر المدى بعدم الرضا لحكم الأجنبي والخضوع والاستسلام له وحفز المسلم على التمرّد عليه والتخلّص من سيطرته وبذل ما يستطيع من جهد في هذا السبيل. وفي هذه السورة آيات مؤيدة لهذا التلقين وهي الآيات [76 و 97- 100] على ما سوف نشرحه بعد. ولقد روى المفسرون أقوالا عن ابن عباس وبعض التابعين أن وَأُولِي الْأَمْرِ الذين تجب طاعتهم هم أولو العلم والفقه كما رووا عن بعض التابعين أنهم الولاة والحكام. وقد صوب الطبري القول الثاني دون الأول استئناسا بالأحاديث النبوية التي رويناها قبل واستنادا إليها وهو الحقّ والصواب فيما يتبادر لنا مع القول إن المقصود بهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم- لأن الآية تشمل ذلك- هم الذين كان النبي ينتدبهم لقيادة الجيوش والمهمات الأخرى التي يكون لهم فيها حق الأمر على من معهم من المسلمين كما هو المتبادر. وهناك حديث رواه الشيخان والنسائي عن أبي هريرة فيه تأييد لذلك جاء فيه «قال النبي صلى الله عليه وسلم من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني» «1» . ومن المعروف اليقيني أنه لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعده بمدة ما طبقة يمكن أن توصف بأولي العلم والفقه يمكن أن يراجعها الناس أو تتصدى للأمر والنهي فيهم بهذه الصفة وهذا مما يوجه ويقوي ترجيح الطبري والله أعلم. وننبّه على أننا لا نريد بهذا أن نضعف حق العلماء بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى ما فيه الخير والسداد والحقّ من شؤون دينية وغير دينية ولا واجب عامة المسلمين بطاعتهم في ذلك. وفي سورة المائدة آية تندد بالأحبار والربانيين لأنهم لا ينهون عامة اليهود عن قول الإثم وأكل السحت وهي الآية [63] حيث يمكن أن تلهم أن من واجب العلماء أن يأمروا العامة بالمعروف وينهوهم عن المنكر. وهناك آية أخرى في سورة الأنبياء تأمر السامعين بسؤال أهل العلم وهي الآية المنكر. وفي سورتي النحل والأنبياء آيتان تأمران السامعين بسؤال أهل العلم

_ (1) التاج ج 3 ص 40.

[سورة النساء (4) : الآيات 60 إلى 65]

وهما [43] و [7] . وهناك آيات أخرى مرّ شرحها والتعليق عليها فيها تقرير واجب أهل العلم في بيان ما آتاهم الله من العلم والكتاب وتندد بمن يكتمون ذلك وتنذرهم بل وتلعنهم مثل آيات البقرة [159 و 174] وآل عمران [182] وعلى عامة المسلمين بالمقابل إطاعة أوامر العلماء واتباع توضيحاتهم على شرط أن يكونوا ملتزمين بكتاب الله وسنن رسوله وللعامة أن يطلبوا منهم سندا إذا لم يكن الأمر واضحا لهم وليس عليهم طاعتهم طاعة عمياء. والله تعالى أعلم. ولقد روى الطبرسي الشيعي عن الإمامين الباقر والصادق أن أولي الأمر في الآية هم الأئمة من آل محمد. لأن الأمر بطاعة أولي الأمر مطلق مثل الأمر بطاعة الله ورسوله ولا يصح إيجاب إطاعة أحد بإطلاق إلّا من ثبتت عصمته وهذه صفة أئمة الهدى من آل محمد. وروى الكاشي «1» حديثا طويلا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر له جملة وَأُولِي الْأَمْرِ بأنه هو والأئمة من نسله إلى الثاني عشر المهدي المنتظر وسماهم له واحدا واحدا. والتعسف ظاهر في هذا. ونحن ننزه عليا رضي الله عنه عن الحديث المنسوب إليه. هذا فضلا عن ما في الأحاديث من مناقضته لتعبير وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ الذي يفيد شمولا ولا يمكن أن يفيد حصرا في فرد بعد وفاة فرد من أسرة واحدة ويقف عند الثاني عشر في القرن الثالث الهجري.. ثم فضلا عن ما فيها من تعطيل للحكم القرآني المتصل بمصلحة المجتمع الإسلامي المستمرة الذي ظل وسيظل يقوم على رأسه أولو أمر يحتاج المسلمون إلى ضابط إزاءهم وهذا الضابط هو هذه الآية وما ورد في الأحاديث النبوية من حدود وقيود. [سورة النساء (4) : الآيات 60 الى 65] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) .

_ (1) انظر كتاب التفسير والمفسرون للذهبي ج 2 ص 150

(1) الطاغوت: قال الجمهور إن الكلمة هنا عنت أحد حكام اليهود أو أحد كهان العرب. (2) شجر بينهم: نشب بينهم. وجّه الخطاب في الآيات إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد تضمنت: (1) سؤالا فيه معنى التنديد بفريق من المسلمين يدعون الإيمان بما أنزل الله على النبي والأنبياء من قبله ثم يناقضون أنفسهم فيريدون أن يتحاكموا إلى طاغية أمروا أن يكفروا بحكمه لأنه ليس من عند الله وبذلك يستسلمون لوساوس الشيطان التي تبعدهم عن جادة الحق والهدى وتورطهم في مهاوي الضلال العميقة. وإذا ما نبهوا إلى تصرفهم المنحرف ودعوا إلى التحاكم أمام النبي بما أنزل الله أبى المنافقون وصدّوا عن ذلك. (2) وتساؤلا آخر فيه معنى الإنذار والفضيحة لهم عما يكون أمرهم إذا حلت فيهم مصيبة من جراء انحرافهم عن الحق حيث كانوا يشعرون بالخزي ويتراجعون خوفا- لا إيمانا- ويأتون إلى الرسول ليحلفوا له أنهم لم يريدوا صدّا عنه ولا جحودا بما أنزل الله وأن نيتهم حسنة وأن كل ما أرادوه هو التوفيق في الخصومة وحلّها بالمعروف والحسنى.

تعليق على الآية ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ... إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [65]

(3) وإشارة تقريعية إليهم: فالله يعلم ما في قلوبهم من سوء قصد وطوية. وعلى النبي أن لا ينزعج من موقفهم من جهة وأن يعظهم من جهة ثانية. ويؤنبهم بأسلوب قوي بليغ يؤثر فيهم ويجعلهم يدركون بشاعة تصرفهم. (4) وتقريرا ربانيا فيه توطيد لواجب الطاعة للنبي والاحتكام إليه بأن الله تعالى لم يرسل رسولا للناس إلّا أوجب عليهم طاعته وقيض له من يطيعه فعلا وبأن هؤلاء الذين يدعون الإسلام لن يصدقوا في إيمانهم إلّا إذا تحاكموا لدى النبي في كل ما يقع بينهم من خلاف، ثم ارتضوا بحكمه رضاء تامّا ظاهرا وباطنا وسلموا به ونفذوه بدون لجاجة وتردد. (5) والتفاتا تأنيبيّا إلى المحكي عنهم: فلقد كان من واجبهم لو كانوا صادقين في اعتذارهم وحسن نيتهم أن يشعروا بشناعة موقفهم وظلم أنفسهم به وأن يسرعوا إلى النبي نادمين مستغفرين الله على ما بدا منهم وملتمسين من النبي أن يستغفر لهم الله. ولو فعلوا هذا لوجدوا الله توابا رحيما فيقبل توبتهم ويصفح عن زلتهم ويشملهم بعفوه. تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ ... إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [65] ولقد روى المفسرون «1» في صدد هذه الآيات عدة روايات. منها أنها نزلت في يهودي ومنافق بينهما خصومة فطلب اليهودي الاحتكام إلى النبي وأبى المنافق ذلك وطلب الاحتكام إلى أحد طواغيت اليهود: كعب بن الأشرف وكان شاعرا وعرف بشدة عدائه للنبي والمسلمين وكانوا يسمونه الطاغوت. ومنها أنها نزلت في جماعة من اليهود كانوا يظهرون الإسلام نفاقا واختلفوا مع جماعة من مسلمي

_ (1) انظر تفسير الطبري والخازن وابن كثير والبغوي.

الخزرج على مسألة قصاص ودية قتلى فقال المسلمون ننطلق إلى النبي فنحكمه فأبى المنافقون اليهود وطلبوا الاحتكام إلى كاهن اسمه أبو برزة الأسلمي. ومنها أن الخلاف على الدية كان بين فريقين من اليهود فطلب فريق الاحتكام إلى النبي ورفض الآخر وطلب الاحتكام إلى الكاهن المذكور. ومنها أن الآية الأخيرة نزلت في مناسبة خصومة على ماء بين الزبير بن العوام وجار لأرضه من الأنصار حكم فيها النبي للزبير فطعن الأنصاري في حكمه واتهمه بمحاباة الزبير لأنه ابن عمته حتى تغير وجه النبي من ذلك «1» . ومنها «2» أن هذه الآية نزلت في مناسبة احتكام شخصين إلى النبي في أمر فلم يرض المحكوم عليه بالحكم وطلب الاحتكام إلى أبي بكر فذهبا إليه فقال لهما أنتما على ما قضى رسول الله فطلب الاحتكام إلى عمر فلما سمع عمر كلامهما دخل بيته فتقلد سيفه ثم خرج فضرب به رأس الذي أبى حكم النبي فقتله فاشتكى أهله إلى النبي فقال ما كنت أظن أن عمر يجترىء على قتل مؤمن فنزلت الآية تنفي عن القتيل صدق إيمانه. وباستثناء الرواية التي فيها خصومة بين الزبير والأنصاري ليس شيء من الروايات واردا في الصحاح. وليس في حديث هذه الخصومة ما يفيد أن الآية نزلت في مناسبتها بأسلوب صريح. وهذا بالإضافة إلى أن الآية المذكورة تبدو كنتيجة للآيات السابقة. وهذا لا ينفي تلك الخصومة. ومن المحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تلا الآية فالتبس الأمر على الرواة. وباستثناء رواية نزول الآيات في جماعة من اليهود المنافقين فإن الروايات الأخرى لا تتطابق مع الآيات. وجملة أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ قد تعني اليهود وبالتالي قد تجعل الرواية التي استثنيناها أكثر ورودا كما هو المتبادر كمناسبة لنزول الآيات التي تبدو وحدة منسجمة لتحتوي تنديدا باليهود المنافقين ثم لتوطد سلطة النبي صلى الله عليه وسلم القضائية. وما زلنا عند ترجيحنا بأن تكون الآيتان السابقتان لهذه الآيات نزلتا مع هذه الآيات لتكونا تمهيدا تشريعيّا

_ (1) هذه الرواية وردت في كتابي البخاري والترمذي أيضا. التاج ج 4 ص 82 مروية عن عبد الله ابن الزبير. (2) هذه الرواية رواها ابن كثير والقاسمي.

عاما في توطيد طاعة الله ورسوله وردّ الأمور إليهما والحكم بين الناس بالعدل وأداء الأمانات إلى أهلها. ولعل جملة وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ في الآية [64] ثم الآية [65] من القرائن على ذلك حيث ينطوي فيهما توكيد بوجوب طاعة رسول الله وتحكيمه والرضاء بحكمه وهو تكرار بأسلوب آخر للأمر الوارد في الآية [59] والله أعلم. والآيات قوية حاسمة في صدد الهدف الذي استهدفته. وفيها صورة من صور السيرة النبوية في العهد المدني وما كان يلقاه النبي من مواقف ومشاكل مزعجة ممضة وبخاصة من المنافقين ومرضى القلوب. وقد انطوى فيها معالجة بأسلوب في منتهى الروعة والبلاغة امتزجت فيه الشدة والتنديد والتكذيب والإنذار بالعظة والرفق والتأميل والرغبة في الارعواء. وفي هذا ما فيه من تلقين جليل أخلاقي واجتماعي. وبخاصة سياسة الرعية والحكم الصالح. بالإضافة إلى ما في الآيات من مثل ذلك في تقبيح مواقف الكيد والدسّ والتمرد واللحاح التي يقفها مرضى القلوب تجاه الحق والعدل مما يمكن أن يحدث في كل ظرف ومكان. ولقد وقف المفسر القاسمي عند الآية [65] وقال إن كل حديث صحّ عن رسول الله يدخل فيها بحيث إنه يتعين على كل مسلم أن يلتزم به في أي شأن كان وأن الذي لا يفعل ذلك يدخل في وعيد الآية الشديد وأورد أقوالا للشافعي وابن تيمية في سبيل توكيد ذلك في سياق طويل. ولقد وقف عندها رشيد رضا أيضا. وقال فيما قاله إن العلماء استدلوا بالآية على أن النصّ لا يعارض ولا يخصص بالقياس وأن من بلغه حديث للرسول ورده بمخالفة قياسية فهو غير مطيع للرسول ولا ممن تصدق عليه الخصال الثلاث المشروطة في صحة الإيمان في نصّ الآية. ثم قال والآية تدل من باب أولى على بطلان التقليد. فمن ظهر له حكم الله أو حكم رسوله في شيء وتركه إلى قول الفقهاء الذين يقلد مذهبهم كان غير مطيع لله ورسوله. وإذا كان للعامي أن يتبع الجزء الثامن من التفسير الحديث 11

[سورة النساء (4) : الآيات 66 إلى 70]

العلماء فليس معنى ذلك أن يتخذهم شارعين ويقدم أقوالهم على أحكام الله ورسوله المنصوصة. وإنما يتبعهم بتلقي هذه النصوص عنهم والاستعانة بهم على فهمها لا على آرائهم وأقيستهم المعارضة للنصّ. والأقوال سديدة وجيهة وفي القرآن آيات أخرى مؤيدة لذلك مثل آيات آل عمران [21 و 22] والنساء [80] والحشر [7] وواضح أن هذا يقتضي التحري الشديد في سند الحديث ومتنه معا حتى تصبح صحته يقينية. ومع أن أئمة الحديث رحمهم الله قد بذلوا جهدا عظيما شكره الله لهم في تصنيف الأحاديث النبوية ونقد رواتها وأنه صار هناك نتيجة لذلك مجموعة كبيرة من الأحاديث الصحيحة التي يجب تلقيها بالقبول والوقوف عندها فإنّ اهتمامهم لتدقيق المتون لم يكن بقدر اهتمامهم لتدقيق الرواة مما أدى إلى إشكالات كثيرة. وهناك أحاديث توصف بالصحاح فيها أحكام متغايرة يمكن أن يكون بعضها متقدما على بعض وبعضها ناسخا لبعض أو بعضها أقوى من بعض أو بعضها يثير الحيرة لأنه يتعارض مع نصوص قرآنية ووقائع تعيينية. ولعل ما بين المذاهب الفقهية من خلافات ومناقضات ناتج عن ذلك والله تعالى أعلم. [سورة النساء (4) : الآيات 66 الى 70] وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70) . في الفقرة الأولى من الآية الأولى تقرير تنديدي بأن الله لو كتب على الذين هم موضوع الكلام السابق أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما استجاب إلى ذلك إلّا قليل منهم. أما بقية الآية والآيات التالية لها فقد احتوت حثّا وتدعيما لطاعة الله ورسوله والاستجابة لما يأمران به:

تعليق على الآية ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ... إلخ والآيات الثلاث بعدها

(1) فإن الواجب والإيمان يقضيان بذلك. (2) ولو فعل الذين وقفوا ذلك الموقف ما يؤمرون به لكان أكثر نفعا وخيرا لهم وأشد تثبيتا لإيمانهم، ولنالوا رضاء الله وأجره العظيم. ولشملهم بتوفيقه وهدايته إلى كل ما فيه خيرهم وصلاحهم. لأن الذين يطيعون الله ورسوله هم رفقاء النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. ونعمت هذه الرفقة. وهذا هو فضل الله الذي يجب أن يتسابق إليه المسلمون. تعليق على الآية وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ... إلخ والآيات الثلاث بعدها وقد روى المفسرون «1» أن مسلما ويهوديّا تفاخرا فقال اليهودي: لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم فقتلنا أنفسنا، فقال المسلم: والله لو كتب الله علينا ذلك لفعلنا، فأنزل الله الآية الأولى أو الفقرة الثانية منها. ورووا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أنصاريّا محزونا فسأله عن سبب حزنه فقال له: نحن نغدو عليك ونروح وننظر في وجهك ونجالسك وغدا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك فأحزنني ذلك، فأنزل الله الآية الثالثة من الآيات، فأرسل النبي إلى الأنصاري فبشره. وهناك رواية تذكر أن هذا المروي عن الأنصاري أو شيء مثله قد وقع من جماعة من أصحاب رسول الله. وهناك روايات في صيغ أخرى من باب هذه الروايات. والروايات لم ترد في الصحاح. والآيات كما يبدو وحدة منسجمة. وقد قال المفسرون إن ضمير الجمع الغائب فيها عائد إلى المنافقين موضوع الكلام في الآيات السابقة. وهذا حق ووجيه ويسوغ الترجيح بأن الآيات جاءت معقبة على الآيات السابقة وداعمة لما أوجبته من طاعة الله والرسول والتحاكم إلى الرسول

_ (1) انظر الطبري وابن كثير والخازن.

والتسليم بأحكامه وبسبيل التنويه بمن يفعل ذلك والتنديد الشديد بالذين لم يفعلوا ذلك ووقفوا ويقفون مثل ذلك الموقف المكروه. وهذا لا يمنع أن يكون للروايات أصل ما وأن تكون كل من الآيتين قد تليت في المناسبة المروية على سبيل الاستشهاد والتطبيق. والله أعلم. هذا، والتنويه بالذين يطيعون الله ورسوله في الآية الأخيرة بليغ المدى حيث يتضمن بشرى بأنهم سيكونون مع تلك الطبقة المصطفاة من عباد الله. وهذا أمر مفهوم لأن طاعة الله ورسوله تعني التزام كل أمر وكل رسم وكل حدّ وكل حثّ وكل نهي. وحينما يكون المرء على هذا القدر من الاستغراق يكون أهلا لتلك المرتبة. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا نبويا فيه تقرير لهذا المعنى رواه الإمام أحمد عن عمرو بن مرة قال «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله شهدت أن لا إله إلّا الله وأنك رسول الله. وصليت الخمس. وأديت زكاة مالي وصمت شهر رمضان، فقال رسول الله من مات على ذلك كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا- ونصب أصبعيه- ما لم يعقّ والديه» . ولقد وقف المفسرون عند كلمة وَالشُّهَداءِ في الآية وأوردوا بعض الأحاديث التي فيها طوائف عديدة تحسب في عداد الشهداء منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الشهداء خمسة المطعون والمبطون والغرق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله» «1» . ومع ذلك فالمتبادر لنا أن الكلمة تعني الشهيد في سبيل الله في الدرجة الأولى. ويجيء بعد هذه الآيات فصل في الجهاد وحضّ على القتال في سبيل الله حيث يمكن أن يكون مناسبة أو تأييد ما لهذا الترجيح. والله أعلم. ولقد وقفوا عند كلمة وَالصِّدِّيقِينَ وروى الطبري معنيين لها أحدهما أنها تعني اتباع الأنبياء الذين صدقوهم واتبعوا منهاجهم بعدهم حتى لحقوا بهم.

_ (1) التاج ج 4 ص 296 والمطعون الذي يموت في الطاعون والمبطون الذي يموت بوباء البطن والهدم الذي يموت بانهدام سقف عليه على ما جاء في شرح الشراح.

[سورة النساء (4) : الآيات 71 إلى 76]

وثانيهما أنها بمعنى المتصدقين. وقد رجح الطبري أن الكلمة من الصدق لا من الصدقة وأنها مبالغة بمعنى الذي يكثر تصديق قوله بفعله. ونحن نرجح القول الأول. ومع هذا فإن هناك حديثا رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «عليكم بالصدق فإنّ الصدق يهدي إلى البرّ وإن البرّ يهدي إلى الجنّة. وما يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقا» «1» . ومعلوم أن أبا بكر رضي الله عنه كان يلقب بالصديق. وقد علل ذلك بأنه كان شديد التصديق وسريع التصديق لكل ما كان يقوله النبي ويخبر به ويفعله. فيجوز أن تكون هذه المعاني واردة بالنسبة للكلمة. وأكثر المؤولين على أن الصالحين هم الذين صلحت سيرتهم أو سريرتهم وعلانيتهم. وهم على ما يستلهم من روح الآية وترتيب الصفات في مرتبة دون المراتب الثلاث السابقة. والصفات وترتيبها مما هو متساوق مع طبيعة الأشياء من حيث تفاوت عباد الله في الفضل بحسب سيرتهم وفضل الله عليهم. ولمفسري الشيعة تفسير يرويه الطبرسي عن أبي عبد الله جاء فيه «إن كلمتي الصدّيق والشهيد تعنيان الأئمة من آل محمد. وإن الصالحين ما عداهم من صالحي هذه الأمة» وفي هذا تعسف ظاهر وحجر لفضل الله كما هو المتبادر. [سورة النساء (4) : الآيات 71 الى 76] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76) .

_ (1) التاج ج 5 ص 50.

(1) ثبات: جماعة بعد جماعة أو سرية بعد سرية. (2) ليبطئن: بمعنى التثبيط والتعويق عن القتال والتخويف منه. (3) يشرون: هنا بمعنى يبيعون على ما قاله المؤولون. وليس من مانع أن تكون في معناها اللغوي المعروف فيكون معنى الجملة (الذين يشترون الحياة الآخرة بالدنيا) ولقد كان الخوارج يسمون أنفسهم (الشراة) على هذا المعنى على الأرجح واقتباسا من الكلمة ومداها على كل حال. (4) والمستضعفين: الذين استضعفهم الكفار فتسلطوا عليهم أو ضعفوا عن نضالهم. والجملة معطوفة على سبيل الله أي وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله وفي سبيل إنقاذ المستضعفين ونصرتهم. (5) القرية الظالم أهلها: جمهور المفسرين على أن الجملة تعني مكة. (6- 7) الطاغوت والشيطان: هنا مترادفان بمعنى الشيطان. وفي هذه الآيات: (1) نداء موجه للمسلمين يؤمرون فيه بالحذر والاستعداد للعدو والنفرة إلى الجهاد جماعة بعد جماعة أو جمعا واحدا. (2) وإشارة تنديدية إلى فريق منهم يثبط همم المسلمين عن الجهاد ويبطئهم فيه، ويظهر ارتياحه وغبطته إذا أصاب سرية من المجاهدين مصيبة وهزيمة لأنه لم يخرج فيها، ويعد ذلك من مظاهر نعمة الله عليه وعنايته به. ثم هو لا يخجل من حسد سرية يفتح الله عليها بنصر وغنيمة ولا يمنع نفسه من التمني أن لو كان فيها فيكون له نصيب فيما نالته كأنه لم يكن بينه وبين أفرادها مودة توجب عليه أن يفرح لما تناله من نصر وغنيمة ويحزن لما يصيبها من مصيبة وهزيمة.

تعليق على الآية يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا وما بعدها لآخر الآية [76]

(3) وتحريض للمؤمنين المخلصين، فعلى الذين يفضلون الآخرة على الدنيا وما عند الله على ما في الحياة أن يقاتلوا في سبيل الله. ووعد لهم بعظيم الأجر عند الله سواء اقتلوا وماتوا شهداء أم انتصروا وفازوا على الأعداء. (4) وسؤال إنكاري فيه معنى التنديد والحثّ عن سبب قعود القاعدين من المسلمين عن الجهاد في سبيل الله وفي سبيل المستضعفين من المسلمين الذين تسلط عليهم الكفار في مكة وأرهقوهم بالأذى والظلم مما جعلهم يجأرون إلى الله مبتهلين أن يهيىء لهم أسباب النجاة من الظالمين وبلدهم وأن يقيض لهم نصيرا ينصرهم وينقذهم. (5) وبيان لحالة المسلمين والكفار من القتال على سبيل التحريض والحث أيضا. فالمؤمنون إذا قاتلوا فإنما يقاتلون في سبيل الله ولهم منه التأييد والأجر في حين أن الكفار إنما يقاتلون في سبيل الشيطان. فعلى المؤمنين أن لا يهابوا الكفار فإنما هم يقاتلون أولياء الشيطان وإن كيد الشيطان ضعيف لن يقف أمام تأييد الله ونصره. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً وما بعدها لآخر الآية [76] والآيات فصل جديد أو بالأحرى جزء من فصل جديد لأن الآيات التالية لها استمرار لها موضوعا وسياقا. وليس بينها وبين السياق السابق وموضوعه صلة. وإن كان يلمح شيء من التناسب بينها وبين سابقاتها من حيث إنها تحتوي تنديدا بفريق من المسلمين يقف موقفا غير مستحب من الجهاد في سبيل الله ودعوته والمجاهدين مشابها للتنديد الذي احتوته الآيات السابقة بفريق من المسلمين يقف موقفا غير مستحب من الاحتكام لرسول الله والتسليم بحكمه. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت بعدها بسبب اتصال ظرف النزول أو تكون نزلت لحدتها في وقت آخر ووضعت بعد الفصل السابق بسبب ذلك التناسب.

ولم يرو المفسرون على ما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. والذي يتبادر لنا ويلهمه مضمونها وروحها أنها نزلت في ظرف أخذ يصل فيه إلى النبي أخبار عن اشتداد الأذى والضغط على المسلمين المستضعفين الذين تسلط عليهم أقاربهم في مكة ومنعوهم من الالتحاق بالنبي، وقد ذكرت ذلك الروايات وذكرت أسماء بعضهم معا «1» ، فأخذ النبي يستثير حمية المسلمين إلى الجهاد في سبيل الله وسبيل إنقاذهم وإزعاج الكفار في مكة من أجل ذلك. ويظهر- وهو ما يلهمه مضمون الآيات- أن فريقا من المسلمين والمرجح أنهم من المنافقين ومرضى القلوب كانوا يقفون من ذلك موقف المعارض المثبط. فكان ذلك كله سبب نزول الآيات داعية حاثة مهونة منددة. وفي كل هذا صور من صور السيرة النبوية في العهد المدني. وليس في الآيات ما يساعد على تعيين الظروف التي نزلت فيها الآيات وإن كان من الممكن أن يلمح فيها وفي الآيات التالية لها قرينة على أنها نزلت في وقت مبكر. ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها انطوت على تلقينات جليلة مستمرة وشاملة. وأوجبت على المسلمين واجبات دائمة واحتوت علاجا روحيا يمدهم بالقوة. فالجهاد ضد من يناصبهم العداء ويتربص بهم الدوائر واجب. والاستعداد له والحذر منه وعدم الاطمئنان بما يبدو منه أحيانا من سكون واجب. ومساعدة المسلمين لإخوانهم المستضعفين الذين توقعهم الظروف في أيدي الأعداء وتحكم البغاة والطغاة لتحريرهم منهم واجب. والتكاسل عن هذه الواجبات تقصير يسخط الله والتثبيط عنها إثم منكر عنده. والإقبال عليها عنوان على الإيمان والإخلاص والمقبلون عليها مؤيدون بنصر الله ونائلون للأجر العظيم عنده. وليس لأعدائهم قوة روحية تساعدهم على الصبر الدائم لأنهم يسيرون بوساوس الشيطان. وهذه

_ (1) مثل عياش بن ربيعة وسلمة بن هشام والوليد بن الوليد وأبو جندب بن سهيل. انظر تفسير الطبرسي لهذه الآيات وانظر تفسير ابن كثير للآيات [97- 100] من هذه السورة.

القوة متوفرة للمسلمين لأنهم يجاهدون في سبيل الله. ولهم الفوز والأجر العظيم على كل حال سواء غلبوا أو غلبوا وقتلوا. يضاف إلى هذا ما في الصورة التي رسمتها الآيات للمنافقين ومرضى القلوب والجبناء من تلقين مستمر لأنها من الصور التي تظهر في كل ظرف من ظروف الجهاد والنضال حيث تعمد هذه الفئات إلى التثبيط والتعويق والتخويف ولا تتورع عن إظهار الحسد والغيظ إذا كان فوز ونصر، والشماتة والفرح إذا كانت هزيمة ومصيبة. والجملة القرآنية تنطوي على تقبيح هذه الفئات والتشنيع عليهم والإهابة بالمسلمين إلى اجتناب أخلاقهم وحضهم على الوقوف منهم موقف الشدة والزراية. والآية [74] بخاصة جديرة بالتنويه والتنبيه من حيث انطواؤها على أمر رباني حاسم لكل مسلم بأن يقاتل في سبيل الله دون حساب للعاقبة والنتيجة في الدنيا ودون أن يكون قلة المقاتلين وكثرة الأعداء مانعتين لهم من القتال ودون مبالاة بالتثبيط والتبطيء اللذين يحاولهما مرضى القلوب إذا كان هذا القتال هو السبيل الوحيد للدفاع عن الإسلام والمسلمين ولمكافحة الظلم والظالمين. ولقد أورد الخازن في سياق هذه الآية حديثا ورد في صحيحي البخاري ومسلم بصيغة أوفى وهي «تضمّن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهادا في سبيلي وإيمانا بي وتصديقا برسلي فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة. والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة حين كلم لونه لون دم وريحه مسك. والذي نفس محمد بيده لولا أن يشقّ على المسلمين ما قعدت خلاف سريّة تغزو في سبيل الله أبدا ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة ويشقّ عليهم أن يتخلّفوا عنّي والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل. ولفظ البخاري لوددت أني أقتل في سبيل الله فأحيا ثم أقتل فأحيا ثم أقتل فأحيا ثم أقتل» «1» حيث ينطوي في الحديث تلقين متساوق مع التلقين القرآني من

_ (1) التاج ج 4 ص 327. [.....]

[سورة النساء (4) : الآيات 77 إلى 80]

حثّ وتشويق وترغيب بأسلوب نافذ. وهناك حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم يحسن أن يورد في هذا المقام جاء فيه «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة. ولفظ أبي داود ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال. وفي لفظ مسلم لن يبرح هذا الدين قائما يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة» «1» حيث ينطوي في الحديث بشرى وتطمين نبويان رائعان في مداهما بأن أمر الله تعالى وهتافه في الآية سوف يظل متحققا مطاعا. [سورة النساء (4) : الآيات 77 الى 80] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) . (1) بروج مشيّدة: البروج هنا بمعنى الحصون العالية. وهناك من قرأ (مشيدة) بضم الميم وتشديد الياء بمعنى المبنية بالجصّ الأبيض الذي كان من أسباب متانة البناء. وهناك من قرأها بفتح الميم وكسر الشين بمعنى مزينة أو حصينة. في هذه الآيات: (1) تساؤل إنكاري وتعجبي في مقام التنديد بفريق من المسلمين بسبب

_ (1) التاج ج 4 ص 304 و 305.

تعليق على الآية ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال.. إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [80]

ارتياعهم من فرض الله القتال عليهم وإظهارهم الخوف من الناس كخوفهم من الله أو أشدّ وتساؤلهم تساؤل الفزع المستنكر عن سبب فرض ربهم القتال عليهم وتمنيهم أن لو أخره مدة أخرى مع أن منهم من كانوا يستعجلونه ولم يؤذن لهم به، واكتفى منهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأمروا بكفّ أيديهم عن القتال. (2) وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم مطمئنا مهونا: فمدة الدنيا قصيرة ومتاعها تافه ضئيل. والآخرة خير وأبقى لمن يتقي الله ويستجيب لأوامره. ولن ينقص من أجرهم عنده شيء إذا ساروا في طريق واجبهم وماتوا قبل إتمامه. والموت عليهم محتم حينما يأتي أجلهم وهو مدركهم سواء أكانوا في ساحات القتال أم في حصون عالية منيعة. (3) وحكاية تنطوي على التقريع لما كان يقوله هذا الفريق فإذا أصابتهم حسنة قالوا إنها من الله وإذا أصابتهم سيئة قالوا إنها من النبي بسبب أوامره وحركته. وأمر للنبي بالردّ عليهم بأن كل ذلك من الله وأن قولهم هذا لا يصدر إلا عن أناس لا يكادون يفهمون معنى الكلام ومرماه ومداه. (4) وتقرير قرآني مباشر وجّه الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ما أصابه من حسنة فمن الله وما أصابه من سيئة فمن نفسه، وبأن الله تعالى إنما أرسله رسولا مبلغا والله شهيد على كل شيء وكفى به شهيدا. وبأن الرسول إنما يبلغ أمر الله فمن أطاعه فإنما يطيع الله ومن أعرض عن الاستجابة إلى ما يدعو إليه ويأمر به فليس عليه تبعة فإن الله لم يرسله ليكون مسؤولا عن أعمال الناس ومكلفا بحفظهم من الانحراف والإعراض. تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ.. إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [80] ولقد روى المفسرون عن بعض أهل التأويل من التابعين «1» في صدد الآية

_ (1) انظر تفسيرها في الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي.

الأولى رواية تفيد أن بعض كبار المسلمين وأقويائهم مثل عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص والمقداد بن الأسود استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في مكة بمقابلة أذية المشركين لهم وللمسلمين بالمثل وقالوا له لقد كنّا ونحن مشركون في عزّ ونكون الآن في ذلّ إذا رضينا بما يفعله فينا المشركون ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن لهم لأن الله لم يكن قد أذن بذلك وأمرهم بالصبر والمثابرة على ما كتب الله عليهم من صلاة وزكاة. فلما فرض القتال على المسلمين بعد الهجرة وأذن لهم بقتال أعدائهم وأخذ النبي يدعوهم إلى ذلك ارتاع بعض المستأذنين وبدا منهم ما حكته الآيات. ومن الذين رووا هذه الرواية من روى أن الاستئذان وقع من أصحاب رسول الله الأولين وأن الاعتراض بدا من المنافقين. ومنهم من روى أن الاعتراض وقع حين نزول فرض الجهاد ثم تاب المعترضون وصاروا يستجيبون لدعوة النبي إلى الجهاد بإخلاص باستثناء المنافقين. وهناك رواية يرويها المفسرون تذكر أن الآية نزلت في اليهود الذين فعلوا في سابق تاريخهم ما حكته الآيات تحذيرا للمسلمين من أن يصنعوا صنيعهم. وقد رووا «1» في صدد الآية الثانية أن الفقرة الأولى منها نزلت ردا على المنافقين الذين قالوا إنه لو لم يخرج الذين قتلوا في وقعة أحد إلى القتال لما قتلوا وأن الفقرة الثانية منها حكاية لقول اليهود والمنافقين بأن النبي منذ قدم إلى المدينة جلب عليها وعلى أهلها المصائب لما كان من سوء المواسم وقلة الخصب ثم حكاية لقولهم إن نصر بدر كان من تيسير الله وفضله وإن هزيمة أحد كانت بسبب سوء تدبير النبي صلى الله عليه وسلم. وليس شيئا من هذه الروايات واردا في الصحاح. والذي يتبادر لنا وتلهمه الآيات مضمونا وروحا أنها وحدة منسجمة لا تتحمل هذا التقطيع والتفاوت في الفترات الذي يفيده تعدد الروايات وتباعد ظروفها وأن الآيات مع سابقاتها ولا حقاتها سياق واحد. وأن ما فيها من حكاية الفزع والارتياع من فرض الجهاد متصلة بالدعوة الواردة في الآيات السابقة. وأن ذلك إنما كان من المنافقين

_ (1) انظر الشرح السابق.

ومرضى القلوب الذين حكت الآيات السابقة موقفهم وأقوالهم. وأن الآيات استهدفت فيما استهدفته توكيد الحث على الجهاد وتوكيد واجب طاعة النبي وتسليته في هذا الموقف الممض الذي يقفه بعض المتظاهرين بالإسلام من الدعوة إلى الجهاد ومن التبرم به والتشاؤم منه. ولقد روت الروايات أن الحركات الجهادية الأولى بعد الهجرة وقبل وقعة بدر كانت من قبل المهاجرين فقط لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخذ عهدا من الأنصار بالدفاع عنه ومن أجل هذا استشارهم قبل نشوب القتال في وقعة بدر فكان منهم ذلك الموقف الرائع على ما شرحناه في سياق تفسير آيات البقرة [190- 194 و 215- 218] وفي سياق تفسير سورة الأنفال. وعلى ضوء هذا يمكن القول إن المعنيين في الفقرة الأولى هم أهل المدينة الذين لم يكلفوا في بدء الأمر بحرب وقتال هجومي واكتفى منهم بالدفاع والقيام بواجب الصلاة والزكاة. فلما كتب القتال وقف المنافقون هذا الموقف الذي حكته الآيات فنزلت الآيات تندد بهم. وفي سورة محمد آية تؤيد كون المنافقين هم أصحاب هذا الموقف وهي وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ ... [20- 21] حيث تفيد أن المؤمنين المخلصين كانوا ينتظرون منذ أوائل عهد المدينة أن يأذن الله لهم بالقتال وأن المنافقين وقفوا نفس الموقف الذي حكته الآيات التي نحن في صددها حينما أنزلت آية محكمة فرض فيها القتال أو ذكر فيها القتال وظهر عليهم الفزع الشديد كالذين يغشى عليهم من الموت.. وبناء على هذا نستطيع القول بشيء من الجزم إن ما تفيده الرواية من كون بعض المسلمين الأولين الذين كانوا يستأذنون النبي بمقابلة المشركين على أذاهم وعدوانهم في مكة فلا يؤذن لهم أو بعضهم والذين حكت الروايات ذلك عنهم في سياق تفسير بعض الآيات المكية ومنها آية سورة الجاثية [14] على ما شرحناه في سياقها هم أو بعضهم الذين خافوا واعترضوا حينما كتب الله على المسلمين الجهاد لا يمكن أن يكون صحيحا لا سيما والروايات مجمعة على أن السرايا والحركات الجهادية التي جرت قبل وقعة بدر إنما كانت منهم ومن أمثالهم حالما أذن الله لهم

تعليق على جملة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله وعلى جملة ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك

بمقابلة العدوان بمثله وبمقابلة أعدائهم المشركين الذين كانوا يقاتلونهم ويؤذونهم في آيات سورة الحج [39- 41] وسورة البقرة [215] على ما شرحناه في سياق تفسيرها. ويمكن القول والحالة هذه إن هذه الآيات قد نزلت كذلك مبكرة كسابقاتها. وربما نزلت بعد وقعة بدر أو وقعة أحد. ولعل هذا من أسباب جعل هذه السورة في ترتيبها المتقدم بعض الشيء. وهذا الفصل مثل آخر مما قلناه في مقدمة السورة من وجود فصول فيها متقدمة في النزول على فصول في سور أخرى متقدمة عليها في الترتيب. تعليق على جملة وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وعلى جملة ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ولقد كانت هاتان الجملتان موضوع بحوث كلامية «1» وقد توهم بعضهم أن بينهما تناقضا وقد تصدى المفسر الخازن للتوفيق بينهما فقال إن إضافة كل شيء إلى الله هي على الحقيقة وإن إضافة السيئة للإنسان هي على المجاز لبيان كون ذلك بسبب ذنب اقترفه أو تقصير وقع فيه ومن قبيل وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ في الآية [80] من سورة الشعراء حيث احتوت الجملة حكاية قول إبراهيم الذي نسب المرض وأسبابه لنفسه والشفاء لله تعالى. ولقد تصدى السيد رشيد رضا في تفسيره للمسألة فقال إن فيها حقيقتين الأولى كون الله تعالى خالق الأشياء التي هي مواد المنافع والمضار وواضع النظام والسنن لأسباب الوصول إلى هذه الأشياء بسعي الإنسان. والثانية كون الإنسان لا يقع في شيء يسوءه إلا بتقصير منه في استبانة الأسباب وتعرف السنن. ومهما يكن من أمر فإنه يتبادر لنا من سياق الآيات وروحها أنها لا تتحمل حيرة ولا جدلا. ولم تستهدف تقرير أصول كلامية. وأن التقريرات التي احتوتها هي ما اقتضاه سياق الكلام وظروفه. ففي الجملة الأولى

_ (1) انظر الآيات في تفسير الكشاف للزمخشري وذيله لابن المنير.

حكاية لأقوال المنافقين الذين كانوا ينكرون أن ما نالهم من خير هو من بركة هجرة النبي إليهم وينسبونه إلى الله حتى لا يعترفوا بفضل هذه الهجرة وليس عن إيمان صادق. وكانوا في نفس الوقت ينسبون ما يصيبهم من كوارث حربية وغير حربية إلى النبي وهجرته إليهم. فنددت الآية الأولى بأقوالهم وردت عليهم. ثم احتوت الآية الثانية تقريرا توضيحيّا وتعقيبيّا على ذلك. فما يصيب النبي أو الإنسان من خير وتوفيق فهو من فضل الله حيث يكون قد سار وفق توجيهه. وما يصيبه من شرّ فهو من نفسه حيث يكون انحرف عن هذا التوجه. وعلى هذا فلا يكون في الجملتين ما يفيد عدم مسؤولية الإنسان عن عمله وعدم تأثير تقصير الإنسان فيما يقع عليه أحيانا من مصائب ونوائب. وهذه النقطة بخاصة أكثر ما دار حولها الجدل. مع أن في القرآن المكي والمدني تقريرات عديدة صريحة ومحكمة في ذلك. وهي التي ينبغي أن تكون الضابط في ما تحتويه العبارة القرآنية في بعض الآيات من إطلاق وعدم حسم مما تكون اقتضته حكمة التنزيل وسياق الكلام وظروفه على ما نبهنا عليه في مناسبات كثيرة سابقة. ولقد روى الطبري عن أهل التأويل أن كلمة حَسَنَةٍ في الجملة الأولى عنت ما كان يناله المقاتلون من غنائم ونصر ورخاء وأن كلمة سَيِّئَةٍ فيما عنت ما كان ينالهم من شظف وهزيمة وجراح. وكانوا يقولون إن ما ينالهم من هذا هو من سوء تدبير النبي ومن ذاك هو من فضل الله ولا أثر للنبي فيه. وأن الآية بسبيل الرد عليهم وتسفيههم. كما روى قولهم أن الجملة الثانية إما أن تكون موجهة للسامع مطلقا أو للنبي صلى الله عليه وسلم لتؤذنه بأن ما يصيبه من خير هو من فضل الله وما يصيبه من شرّ هو عقوبة على ما اجترحت يداه. وهذا التأويل يدعم ما قلناه من أنه ليس في الآيات تناقض ولا تتحمل في مقامها جدلا مع التنبيه على أن جملة وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً تجعل الخطاب للنبي في الجملة الثانية هو الوارد. وقد جاء في آية آتية بعد هذه الآيات بيان تنديدي بالمنافقين فيه تنبيه على أنه

[سورة النساء (4) : الآيات 81 إلى 82]

لو كان القرآن من عند غير الله لكان فيه اختلاف كثير حيث ينطوي في هذا تقرير لكون ما في الآيات لا يمكن أن يتناقض. هذا، ومع خصوصية الآيات الزمنية من حيث احتواؤها على صورة من السيرة النبوية في العهد المدني فهي كسابقاتها تحتوي تلقينا عاما مستمر المدى والمدد بوجوب القتال في سبيل الله والإقدام عليه دون حساب للموت المحتوم على جميع الناس. والمحدد الأجل وإسلام الأمور إلى الله عز وجل الذي هو وحده مرجع جميع الأمور ونتائجها. وبتقبيح الصورة التي ترسمها الآيات لمرضى القلوب والتي تظهر في كل ظروف القتال ووجوب اجتنابها أيضا. والآية الأخيرة جديرة بالتنويه لما فيها من تقرير حاسم لكون طاعة الرسول هي عنوان أو دليل على طاعة الله الذي أرسله حيث ينطوي فيها أولا توكيد سلطان النبي على المسلمين وواجب طاعتهم له مما فتئت الآيات المدنية تكرره. وثانيا تقرير لعصمة النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربّه. فلا يمكن أن يؤذن الله المسلمين بأن طاعة رسوله عنوان ودليل على طاعته إلّا وهو يعلم أنه معصوم فيما يبلغه عن الله وفيما يأمرهم به بأمر الله وإلهامه. وأنه معصوم عن الأمر بما فيه شرّ وضرر على الإطلاق. وواضح أن طاعة الرسول التي هي عنوان طاعة الله بعد وفاته هي في اتباع ما صحّ عنه من سنن قولية وفعلية على ما شرحناه في مناسبة قريبة سابقة. [سورة النساء (4) : الآيات 81 الى 82] وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) . (1) ويقولون طاعة: ويقولون سمعا وطاعة لما تقول. (2) فإذا برزوا: فإذا خرجوا.

(3) بيّت: نوى في نفسه. وأصل التبييت ما يقرر في الليل من أمور وهجوم العدو على عدوّه ليلا مفاجأة وهو غار في ليله ونومه وبيوته. ومنه جملة أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً في آية سورة يونس [50] . وفي الآيتين: (1) إشارة تنطوي على التنديد بالفريق الذي هو موضوع التقريع في الكلام السابق حيث كانوا يقولون سمعا وطاعة لما كان النبي يأمرهم به ثم لا يلبثون حينما يخرجون عنده أن يقرروا فيما بينهم خطة مخالفة لما أبرموه ووافقوا عليه. (2) وتنديد رباني لهم فالله مراقبهم ومحص عليهم أعمالهم ونياتهم ومجزيهم بما يستحقون. (3) وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتهوين لأمرهم: فلا ينبغي أن يعبأ أو ينزعج من مواقفهم وليجعل اتكاله على الله ونعم هو الوكيل والمعتمد. (4) وتساؤل إنكاري ينطوي على التقريع لهم والتعجب من أمرهم: فالنبي إنما يتلو عليهم القرآن الذي يوحي به الله إليه. وإنما يأمرهم بالسير بمقتضى أمر الله فيه. ولو تدبروا فيه لما وجدوا فيما يتلوه عليهم ويأمرهم به أي اختلاف وتناقض. وهذا دليل على أنه من عند الله عز وجل. ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا. لم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة نزول الآيتين والمتبادر أنهما متصلتان بالآيات السابقة سياقا وموضوعا واستمرارا لها. وفيها صورة أخرى من صور مواقف المنافقين الذين هم موضوع الكلام والتنديد في الآيات السابقة. وهي صورة خبيثة ممضة. ولذلك انطوى في الآيتين جواب وتحدّ قويان وتسلية وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وقد تلهم الآية الثانية أن المنافقين كانوا يظنون أن ما كان يأمر به النبي هو من عنده أو أنهم كانوا يشكون فيما يتلو من الفصول القرآنية بسبب ما كانوا يرونه من تنوع الأساليب. وقد نددت الآية بهم لأنهم يظنون أو يشكون بغير نظر وتدبر. وقررت أنهم لو نظروا فيه وتدبروا لما وجدوا أي اختلاف الجزء الثامن من التفسير الحديث 12

تعليق على الآية أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا

في حين لو كان من عند غير الله لوجدوا من ذلك الشيء الكثير. تعليق على الآية أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ولقد تعددت روايات المفسرين عن أهل التأويل في صدد الاختلاف الذي كان يمكن أن يجدوه في القرآن لو كان من عند غير الله. من ذلك: الخلط والتناقض فيما هو حق وما هو باطل، وما هو خير وما هو شرّ، وما هو صواب وما هو خطأ. ومن ذلك أنه التفاوت البياني حيث لا يأتي القرآن على وتيرة واحدة أو طبقة واحدة من البلاغة والفصاحة. ومن ذلك أنه التناقض في الأخبار والتقريرات الغيبية والكونية. ومن ذلك أنه التناقض في التحليل والتحريم والحل والإباحة. ومن ذلك أنه التناقض في المبادئ والمقاصد. وأكثر هذه الأقوال معزوة إلى ابن عباس وغيره من أصحاب رسول الله وتابعيهم. ومع أن جميع هذه الأقوال واردة في صدد مدى الآية العام فإن الذي يتبادر لنا ونراه متسقا مع سياق الآيات السابقة- والآيتان جزء من السياق كما قلنا- أن المنافقين اتخذوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكفّ الأيدي عن القتال ثم فرضه والدعوة إليه- وهذا ما أشير إليه في بعض الآيات السابقة- حجة للقول بأن النبي متناقض في أوامره ونواهيه. فاحتوت الآية ما احتوته من ردّ وتحدّ على النحو الذي شرحناه بأسلوب قوي التقرير بأن ذلك هو الحقّ الذي لا يتحمل مراء. ومع أن المتبادر أن ذلك التقرير متصل مباشرة بموضوع الكلام السابق على ما نبهنا عليه فإنّ الردّ والتحدي جاءا بأسلوب عام ومطلق ينطبقان ويشملان كل ما جاء في القرآن المكي والمدني على السواء إذا ما نظر فيه بتدبر وتفكر مرتفعين إلى مستوى سموّ الهدف القرآني ومجردين عن الغرض والتعنت والرغبة في المراء واللعب بالألفاظ والتمحل في المسائل الوسائلية والمتشابهات حيث يجد المتدبر فيه بهذه الروح أن الأسس والمبادئ والأهداف والتقريرات والآيات المحكمات

[سورة النساء (4) : آية 83]

الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية متساوقة متطابقة تامة الانسجام والأحكام، ليس بينها اختلاف وتناقض. وما قد يراه من تنوع وتبدل لا يعدو أن يكون أسلوبيا وصورا تطورية وخطوات تشريعية اقتضتها ظروف الدعوة وسيرها وظروف المجتمع الذي نزلت فيه لأول مرة واقتضتها كذلك أهداف التدعيم. وليست هذه مع ذلك متناقضة أو جامدة لتكون محل تطبيق في الظرف الذي نزلت فيه فقط، وهي في الوقت نفسه متساوقة مع الأسس والأهداف والمبادئ. ومن الأمور الهامة في هذا الأمر وجوب اعتبار القرآن كلا متكاملا يوضح بعضه بعضا ويتمم بعضه بعضا ويعطف بعضه على بعض. والناظر فيه إذا استوعب كل ما فيه واجد لكل ما قد يبدو له موهما تفسيرا ولكل ما قد يبدو له ناقصا تتمة ولكل ما قد يثير الحيرة تأويلا ويلمس بالتالي المعجزة الكبرى التي فيها مصداق الآية الكريمة ولقد اهتممنا بهذه المسألة في مناسبات كثيرة مرّت في السور التي سبق تفسيرها ففسرنا بعض الآيات ببعض وعطفنا بعضها على بعض وأتممنا بعضها ببعض فأثبتنا بالنصوص ما قررته الآية. ومن واجب المسلم على كل حال أن يؤمن بالآية. فإذا لم يستطع أن يستوعب القرآن ولم يتبين له تأويل لما قد يتوهمه أو ما يظنه مشكلا في إحدى الآيات فعليه أن يسأل أهل العلم المستوعبين أو يكل الأمر إلى الله تعالى ولا يجوز له أن يظن أن في القرآن اختلافا وتناقضا. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية أحاديث نبوية عديدة أوردناها في سياق تفسير آية المحكمات والمتشابهات في سورة آل عمران تذكر غضب رسول الله من الجدل في القرآن وتنهى عن ضرب بعضه ببعض وتقرر أن الله إنما أنزله ليصدق بعضه بعضا وتأمر بإيكال ما لم يتبين لناظره الوجه الحق لتأويله وحكمته إلى الله تعالى. حيث ينطوي فيها تلقين نبوي يجب الالتزام به وتأييد لما قررناه آنفا. [سورة النساء (4) : آية 83] وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83) .

تعليق على الآية وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ...

(1) أذاعوا به: أفشوه بين الناس. (2) الذين يستنبطونه: الذين يستطيعون معرفة الحقيقة فيه. والاستنباط في اللغة استخراج ما في الباطن وأكثر ما كان يطلق على استخراج الماء من جوف الأرض. في هذه الآية: (1) تنديد بالمنافقين الذين هم موضوع الكلام في السياق السابق لأنهم كانوا مما يفعلونه حينما يصل إليهم خبر من أخبار الحرب والسياسة وسواء أكان سارّا أو مسيئا ومطمئنا أو مثيرا للخوف أن يذيعوه بين الناس. (2) وبيان لما كان يوجبه عليهم الإخلاص والطاعة والإيمان وهو إبلاغه لرسول الله ولأولي الأمر منهم والوقوف عند هذا الحدّ حيث ينظر النبي وأولو الأمر في الأمر ويستعينوا بأهل الخبرة في معرفة الحقيقة ويتم التصرف في الأمر وفقا لما تقضي به المصلحة. (3) وتذكير للمسلمين بفضل الله تعالى ورحمته وعنايته وهدايته. وأنهم لولا ذلك لكان أكثرهم متبعين للشيطان. تعليق على الآية وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ... لم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة نزول الآية. والمتبادر أنها متصلة سياقا وموضوعا بالآيات السابقة أيضا. وفيها صورة خبيثة ممضة أخرى من مواقف المنافقين. وتوطيد لسلطان النبي صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر والعلم.

وتأديب للمسلمين فيما يجب أن يسيروا عليه في مثل هذا الموقف وتقريع للذين يخالفون ذلك. والمقصد من ذكر أولي الأمر مع الرسول يحتمل أن يكون كما هو المتبادر إيجاب ردّ الأمر إلى أولي الأمر أو الرؤساء في حال غيبة الرسول عنهم أو غيبتهم عنه أو في حالة وجودهم في سرية جهادية حيث كان قواد السرايا يلقبون بالأمراء وبأمراء المؤمنين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم «1» . ومع خصوصية الآية الزمنية فإن فيها تلقينات جليلة مستمرة المدى سواء أفي صدد ما يجب على أفراد المسلمين أم على أولي الأمر منهم: فليس للأفراد أن يقوموا بأعمال منفردة مما هو متصل بشؤون الدولة وأمنها وسلامتها. وعليهم حينما يتصل بعلمهم خبر متعلق بمثل ذلك أن يرفعوه إلى أولي الأمر فيهم. وعلى أولي الأمر أن يوكلوا أمور الدولة ومسائل سلامتها وأمنها إلى الخبراء المختصين أو يستشيروا فيها الخبراء المختصين أو يفعلوا الأمرين معا لأنهم هم القادرون على فهم الأمور واستنباط الحقائق من الوقائع وتحديد ما هو الأفضل والأصلح والأقوم. وقد يتفرع عن هذا أنه ليس للأفراد أن ينفردوا في تنفيذ ما قد يتراءى لهم من أعمال متصلة بشؤون الدولة. فهذا من شأن أولي الأمر والحل والعقد والعلم والخبرة. وعلى الأفراد أن يرفعوا ما يتراءى لهم أن فيه مصلحة إلى هؤلاء وأن يسمعوا ويطيعوا لهم. فإن الانفراد في ذلك مؤدّ إلى الفتنة والفوضى فضلا عن أنه غير مضمون الصواب. والآية وإن كانت للتنديد بمن يتسرع في إذاعة ما يبلغه من أمر متصل بالأمن والخوف فإنه يتبادر لنا أن تلقينها شامل لكل من يتسرع في الكلام على عواهنه ويندمج في إشاعة الشائعات بغير تثبت وبكثير من الخوض فيما ليس فيه خير ومصلحة. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية بعض الأحاديث النبوية التي تنهى عن ذلك حيث يكون هذا المفسر قد استلهم منها ما استلهمناه من التلقين العام. ومما

_ (1) انظر طبقات ابن سعد ج 3 ص 48- 49.

أورده حديث رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع» «1» وحديث رواه الشيخان عن المغيرة بن شعبة قال «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال» . وحديث رواه أبو داود جاء فيه: «بئس مطية الرجل زعموا» . وهناك أحاديث أخرى يمكن أن تساق في هذا المساق منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن العبد ليتكلّم بالكلمة ما يتبيّن ما فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب وفي رواية إنّ العبد ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في النار» «2» وحديث رواه الشيخان والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت» «3» وحديث رواه الترمذي والحاكم وأحمد عن علي بن الحسين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» «4» . وفي الأحاديث تلقين وتأديب نبويان رائعان استلهمناهما من الآية من الشمول والله أعلم. وكما أوّل بعض المفسرين جملة وَأُولِي الْأَمْرِ في الآية [59] من هذه السورة بعلماء الدين وفقهائه أوّلوا الجملة هنا بذلك أيضا. وقالوا إن على الأفراد أن يردوا كل أمر من أمور الدين إليهم ويسيروا وفق ما يستنبطونه من قواعد وأحكام «5» . ولقد علقنا على ذلك ورجحنا أن المقصود بأولي الأمر هم أولو الأمر السياسيون والعسكريون في الدرجة الأولى. والعبارة القرآنية هنا أكثر صراحة ودلالة على كون المقصود بأولي الأمر هم

_ (1) التاج ج 5 ص 42. (2) المصدر نفسه ص 183. (3) المصدر نفسه ص 186. (4) المصدر نفسه ص 186. (5) انظر تفسير الآية في المنار حيث عزي القول إلى الرازي وردّ السيد رشيد رضا عليه ردا قويا محكما.

[سورة النساء (4) : آية 84]

أصحاب الحكم والسلطان والقيادة لأن الأمر الذي يجب على الناس ردّه إليهم هو مسائل الأمن والخوف وبعبارة ثانية مسائل الحرب والسياسة. على أن محتوى الآية يمكن أن يكون موضع قياس من حيث إيجاب ردّ كل شيء إلى أولي العلم والخبرة والشأن فيه والسير فيه وفق ما يستنبطونه من مآخذه القرآنية والنبوية والأمثلة والعرف والمصلحة وحيث يدخل في ذلك الشؤون الفقهية والشؤون الاجتماعية والسياسية والحربية. ومن تحصيل الحاصل أن نقول إن ذلك منوط بقدرة هؤلاء على الاستنباط علما وعقلا وخبرة وأنه شامل لكل ظرف ودور. ولقد روى الطبري أقوالا عديدة في مدى جملة إِلَّا قَلِيلًا منها أنهم أكابر أصحاب رسول الله. ومنها أنهم القادرون على الاستنباط ومعرفة الحقائق منهم. ومنها أنهم الذين لا يذيعون ما يصل إليهم ويرفعونه إلى الرسول وأولي الأمر والعلم. وجميع هذه الأقوال واردة. مع القول إن روح العبارة تسوغ القول بأنها هدفت إلى تحذير الجمهور من التصرف الفردي الاعتباطي ورفعها إلى القادرين على التصرف فيها وهم عادة الأقل. والله تعالى أعلم. [سورة النساء (4) : آية 84] فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84) . الخطاب في الآية موجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويتضمن: (1) تقرير ما يجب عليه: فعليه أن يقاتل في سبيل الله. وهو في هذا الأمر مسؤول عن نفسه غير ملزم بإجبار غيره. وعليه كذلك أن يحرّض المؤمنين على القتال. (2) وتأميلا للنبي والمؤمنين فعسى الله إذا ما وقفوا من الأعداء موقف الاستعداد والجهاد والتضامن أن يكفّ عنهم بأسهم وضررهم ويعينهم. وهو القادر على ذلك لأنه الأشدّ بأسا والأشدّ تنكيلا.

تعليق على الآية فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك ومسألة الإجبار على الجهاد والجندية

تعليق على الآية فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ومسألة الإجبار على الجهاد والجندية وقد روى المفسرون أن الآية نزلت في مناسبة دعوة النبي المسلمين إلى الخروج إلى موعد أبي سفيان الذي واعده بعد وقعة أحد من سنتها القابلة، حيث تثاقل الناس. فأعلن النبي بناء على هذه الآية أنه ذاهب إلى الموعد ولو بنفسه فانضمّ إليه من أصحابه سبعون ووصلوا المكان المتفق عليه وهو بدر فلم يجدوا أعداءهم لأن أبا سفيان أخلف الوعد بحجة الجدب «1» . والرواية لم ترد في كتب الصحاح. ولم يروها الطبري. ولكنّا نرى صحتها محتملة بل إنه يرد على الخاطر أن السياق السابق منذ الآية [71] قد نزل والله أعلم في هذه المناسبة. فمن المحتمل أن يكون فريق من المسلمين المستجدين أو الذين في قلوبهم مرض ولم يرسخ إيمانهم قد ترددوا في الاستجابة إلى دعوة النبي إلى الخروج للقاء المشركين القرشيين بناء على موعد أبي سفيان وتذمروا بعد أن وقع عليهم ما وقع من هزيمة وخسائر في وقعة أحد فنزلت الآيات منددة مذكرة منذرة واعظة ثم جاءت الأخيرة التي نحن في صددها لحسم الموقف فأوجبت على النبي القتال بنفسه على كل حال وأعفته من المسئولية عن غيره والاكتفاء بتحريض المسلمين على القتال. وفي الآية ثم في الآيات السابقة لها من الآية [70] وما بعد صورة لما كان عليه الحال حين نزولها في أمر الجهاد كما هو المتبادر. حيث كان سلطان النبي صلى الله عليه وسلم لم يتوطد توطيدا يجعله قادرا على التجنيد الإجباري إن صح التعبير. وقد استمر هذا طيلة حياته أيضا على ما تفيده آيات عديدة منها فصل طويل في سورة التوبة، نزل في مناسبة غزوة تبوك التي كانت في السنة التاسعة للهجرة. ولعل ذلك متصل بحياة العرب الاجتماعية والمعاشية. غير أن المنافقين وبعض المسلمين في

_ (1) انظر تفسير الآيات في الخازن والطبرسي وانظر طبقات ابن سعد ج 3 ص 100- 102.

المدينة والبادية كانوا يقفون نتيجة لذلك مواقف سلبية من دعوة النبي إلى الجهاد ويتثاقلون ويترددون فكان ذلك مما يؤلم النبي ويحزنه ويثيره وقد نزل في ذلك آيات قوية منددة منذرة، ومن أقوى ما نزل في هذا الباب آيات التوبة هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) وآيات سورة الصف هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4) . وفي الآية معنى قوي حيث تأمر النبي بقتال من يجب قتاله في سبيل الله ولو كان وحده. لأن عليه أن يقوم بهذا الواجب على كل حال. والفرق بين هذه الآية والآية [74] هو أن الآية [74] هتفت بكل من يشري الحياة الدنيا بالآخرة أن يقاتل ويدخل في الهتاف النبي صلى الله عليه وسلم وغيره وجماعات المسلمين وأفرادهم بعده في حين أن هذه الآية توجب ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم شخصيا ولو كان لوحده ولقد قال بعضهم «1» إن الله لم يأمره بذلك إلّا لما عرف من شجاعته وقدرته على مواجهة أعدائه مهما كثروا. ويتبادر لنا أن ما ذكرناه هو الأكثر وجاهة وورودا. وفي الآية [74] دعم لذلك حيث تأمر كل مسلم ولو كان فردا بالقيام بهذا الواجب. ولقد أورد ابن كثير «2» حديثا رواه ابن أبي حاتم عن أبي إسحاق قال «سألت البراء بن عازب عن الرجل يلقى المائة من العدو فيقاتل فيكون ممن قال الله وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ. قال لا. لقد قال الله تعالى لنبيه فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ» . والحديث ليس من الصحاح، ولكن صحته محتملة. وهو تفسير لأحد كبار أصحاب رسول الله للآية متطابق مع مداها نصا

_ (1) انظر تفسير الآية في كتب تفسير الخازن ورشيد رضا. (2) أورد ابن كثير صيغة أخرى مقاربة برواية للإمام أحمد أيضا.

وروحا وفي النطاق الذي تبادر لنا أنه الأوجه والله تعالى أعلم. ونستطرد إلى القول إنه ليس في هذا- فيما نعتقد- ما يمنع السلطان في الإسلام على إجبار القادرين من المسلمين على التجنيد والقتال ضدّ البغي والعدوان إذا قدر على ذلك. فالجهاد فرض من فروض الإسلام كالزكاة. وكونه فرض كفاية لا يضعف من فرضيته. ولقد ظلت أساليب الدعوة إلى أداء الزكاة هي الأخرى في نطاق الترغيب والترهيب والتشويق في زمن النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان هذا هو المتسق مع الحياة الاجتماعية والمعاشية القائمة، ثم صار السلطان الإسلامي آمرا مجبرا عليها وصار هذا الإجبار نظاما محكما من أنظمة الدولة في عهد أبي بكر ومن بعده حتى إن أبا بكر قاتل الممتنعين عن أداء الزكاة واعتبرهم مرتدين عن الإسلام. فليس ما يمنع أن يقاس الجهاد على الزكاة وأن يكون للسلطان الإسلامي حق إجبار القادرين عليه في نطاق ما تتطلبه المصلحة من ضمان سلامة المسلمين وكيانهم وحريتهم ودفع الأذى والبغي عنهم. وفي سورة التوبة آية تأمر بالمناوبة في النفرة إلى الجهاد وتجعل ذلك كفرض على مختلف فئات المسلمين وهي هذه وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) والله سبحانه وتعالى أعلم. هذا، ومع خصوصية الآية الزمنية من حيث صلتها بالسيرة النبوية وبشخص النبي الكريم فإنّ فيها تلقينا جليلا شاملا وهو أن على كل مسلم أن يعتبر نفسه مخاطبا بالآية لأن له الأسوة الحسنة برسول الله. وأن على كل مسلم حينما يدعو داعي القتال في سبيل الله والقيام بواجب من الواجبات التي تتصل بمصلحة المسلمين العامة وأمنهم وسلامتهم أن يسارع إلى ذلك ويقدم عليه دون أن يعتذر بغيره أو يبالي بكثرة عدوه وصعوبة العمل المدعو إليه. وأن هذا مما يجب كذلك ومن باب أولى على أولي الأمر وأصحاب الشأن في المسلمين مع واجب آخر هو أن يكونوا في الطليعة في الإقدام على القيام بذلك الواجب ليكونوا الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة لغيرهم.

[سورة النساء (4) : آية 85]

ولقد ضرب الخليفة الأول أبو بكر رضي الله عنه المثل العظيم في ذلك بعد رسول الله حينما نشبت حركة الردة، واتسع نطاقها حيث أبى أن يتراجع أو يتساهل حينما طلب إليه بعض كبار أصحابه ذلك بسبب الظروف الصعبة وخوفا من تفاقم الخطب فقال قولته الشهيرة بأنه لو لم يبق إلّا وحده لقاتلهم «1» . [سورة النساء (4) : آية 85] مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85) . (1) من يشفع: قيل في تأويلها في مقامها إنها من شفاعة الناس بعضهم ببعض أو بعضهم لبعض وقيل إنها بمعنى التأييد والمساندة والموالاة. ولعل هذا المعنى أكثر ورودا في مقامها مع سياق الآيات. (2) كفل: هنا بمعنى نصيب أو قسم أو تبعة. (3) مقيتا: قادرا أو مراقبا أو حسيبا. في الآية تقرير عام يتضمن كون الذي يدعو إلى الخير ويشجع عليه ويعضده له نصيب من عواقبه الحسنة. وكون الذي يدعو إلى شرّ ويشجع عليه ويعضده له نصيب من عواقبه السيئة والله قادر على كل شيء مجز كلا بما يستحق. تعليق على الآية مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها ... إلخ ولم يرو المفسرون رواية خاصة في نزول الآية. ولكنهم رووا عن بعض التابعين أنها نزلت في شفاعات الناس في بعضهم أو لبعضهم «2» . وقد صرف

_ (1) انظر تاريخ الطبري ج 2 ص 476 وبعدها. [.....] (2) انظر تفسير الطبري والطبرسي والخازن وابن كثير.

الطبري الشفاعة الحسنة إلى الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله ضد الكفار الأعداء، والشفاعة السيئة إلى موالاة الكفار ضد المسلمين. والذي يتبادر لنا أن الآية قد جاءت معقبة على الآيات السابقة. وأن القصد من الشفاعة الحسنة هو الدعوة إلى الجهاد وتعضيده والإقدام عليه، ومن الشفاعة السيئة التثبيط عنه والمعارضة فيه. وهذا وذاك كان من متناول الآيات السابقة تنويها وتنديدا. ويأتي بعد الآية التالية لهذه الآية آيات فيها حملة وتحريض على المنافقين موضوع الكلام السابق حيث يؤيد هذا ما قلناه من صلة الآية بالسياق السابق وكونها استمرارا له. ولقد رأينا رشيد رضا يذكر وجها آخر لتأويل الآية وهو أن من المحتمل أن يكون بعضهم اعتذر عن المنافقين الذين يقفون من الدعوة إلى الجهاد موقف المثبط والمتثاقل. أو يكون بعضهم تشفعوا فيهم فنزلت الآية لتنبههم إلى أن لكل صاحب شفاعة نصيبا من مدى شفاعته. من يشفع في مقام فيه خير ومصلحة يكن مصيبا وله الحسنى. ومن يشفع في مقام فيه شرّ وضرر لمصلحة المسلمين يكن مخطئا وعليه وزر ذلك. ولا يخلو هذا من وجاهة. وهو متصل بمدى الآية وشرحنا لها. ويجعل الاتصال بينها وبين ما قبلها قائما أيضا. وينطوي في الآية تلقين مستمر المدى بتجنيد كل دعوة إلى الخير والسعي فيه وتقبيح كل دعوة إلى الضرر والسعي فيه، وتبشير لفاعلي الخير والساعين فيه والداعين إليه وإنذار لفاعلي الضرر والساعين فيه والداعين إليه. ولقد اعتبر المفسرون الآية كما قلنا في صدد الشفاعة أي الوساطة بين الناس في قضاء مصالحهم وتجنيبهم ضرر بعضهم. والعبارة القرآنية بإطلاقها تتحمل هذا أيضا. ولقد أوردوا في سياق ذلك حديثا نبويا فيه حثّ على الشفاعة بين الناس جاء فيه عن أبي موسى قال «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأل فأقبل علينا بوجهه وقال: اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء» «1» .

_ (1) انظر تفسير الآيات في الخازن وابن كثير وقد روى هذا الحديث البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي بزيادة مهمة وهذا هو نصه «عن أبي موسى عن النبي قال المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا ثم شبك بين أصابعه، وكان جالسا إذ جاء رجل يسأل، أو صاحب حاجة أقبل علينا بوجهه فقال: اشفعوا تؤجروا وليقض الله على لسان نبيه ما شاء» انظر التاج ج 5 ص 49- 50.

[سورة النساء (4) : آية 86]

[سورة النساء (4) : آية 86] وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86) . في الآية خطاب موجّه للمسلمين فيه تنبيه على أنهم إذا ما حيّاهم أحد بتحية فواجبهم أن يجيبوا عليها بأحسن منها أو بمثلها على الأقل. وأن الله محص على الناس أعمالهم ومحاسبهم عليها. تعليق على الآية وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها ... إلخ ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة نزول الآية. وكلام المفسرين فيها كلام عن آية مستقلة فيها تأديب وتعليم للمسلمين في صدد السلام. والذي يتبادر لنا أنها هي الأخرى متصلة بالآيات السابقة كسابقاتها اتصال تعقيب وعظة وتأديب وتمثيل. فالمسلمون قد دعوا إلى الجهاد وهي دعوة إلى الخير. والمنافقون يقفون من هذه الدعوة موقف المعارضة والتثبيط. وواجب المسلمين الإجابة على الدعوة وأن لا يقصروا في ذلك أو يثبطوا عنها كما هو الأمر في حالة ما إذا حيّوا بتحية. حيث يجب عليهم أن يقابلوها بما هو أحسن منها أو بمثلها. والآية بحدّ ذاتها فصل تام المعنى تحتوي تلقينا تأديبيا رفيعا للمسلمين في كل ظرف بوجوب مقابلة التحية بأحسن منها أو بمثلها على الأقل. وروحها تلهم أن التلقين التأديبي شامل للتحية أو الكلمة الطيبة أو الدعوة الطيبة أو العمل الطيب على السواء. وتوجب على المسلم حسن المقابلة على أي قول وعمل فيه خير وأدب وعطف وبرّ ونفع.

وإطلاق الجملة القرآنية، وصيغة المجهول في جملة وَإِذا حُيِّيتُمْ تسوغان القول إن الأمر فيها عام يشمل كل فئة من الناس بقطع النظر عن الجنس والدين والعمر. ولقد روى المفسرون أحاديث نبوية عديدة في السلام وآدابه، ومنها ما رواه أصحاب كتب الأحاديث الصحيحة. وفيها تأييد للشمول الذي ذكرناه آنفا. من ذلك حديث رواه أبو داود والترمذي ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابّوا. أفلا أدلّكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم» «1» ، وحديث عن أبي هريرة رواه الترمذي «قال النبي صلى الله عليه وسلم: اعبدوا الرحمن وأطعموا الطعام وأفشوا السلام» «2» وحديث عن أبي هريرة رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن النبي «يسلّم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير» وحديث عن أنس رواه الترمذي قال «قال لي النبيّ: يا بني إذا دخلت على أهلك فسلّم يكون بركة عليك وعلى أهل بيتك» «3» وحديث عن سيار رواه الخمسة قال «كنت أمشي مع ثابت البناني فمرّ بصبيان فسلّم عليهم وقال كنت أمشي مع أنس فمرّ بصبيان فسلّم عليهم، وحدّث أنس أنه كان يمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم فمرّ بصبيان فسلّم عليهم» «4» وحديث رواه أبو داود وابن ماجه عن أنس جاء فيه «انتهى إلينا رسول الله وأنا غلام في الغلمان فسلّم علينا» «5» وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن أسماء بنت زيد قالت «مرّ علينا النبي في المسجد يوما وعصبة من النساء قعود فألوى بيده بالتسليم» » وحديث رواه البخاري والترمذي عن أسامة بن زيد جاء

_ (1) التاج ج 5 ص 223. (2) المصدر نفسه ص 222- 228. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه. (6) المصدر نفسه.

فيه «إن النبيّ مرّ بمجلس وفيه أخلاط من المسلمين واليهود فسلّم عليهم» «1» وحديث رواه أبو داود عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «يجزىء عن الجماعة إذا مرّوا أن يسلّم أحدهم، ويجزىء عن الجلوس أن يردّ أحدهم» «2» وحديث رواه أصحاب السنن عن أبي هريرة قال «قال النبي إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم فإذا أراد أن يقوم فليسلّم فليست الأولى بأحقّ من الآخرة» «3» وحديث رواه الترمذي عن أبي جريّ أن النبي قال «إذا لقي الرجل أخاه المسلم فليقل السلام عليكم ورحمة الله» «4» وحديث عن جابر أن النبي قال «السلام قبل الكلام» «5» وعنه قال «لا تدعوا أحدا إلى الطعام حتى يسلّم» . وكلا الحديثين رواهما الترمذي بسند واحد. وحديث رواه الترمذي وأبو داود جاء فيه «قيل يا رسول الله: الرجلان يلتقيان أيهما يبدأ بالسلام قال أولاهما بالله» «6» . ولقد أثر عن ابن عباس أنه قال «من سلّم عليك من خلق الله فاردد عليه وإن كان مجوسيا» «7» . وجمهور العلماء متفقون على أن البدء بالسلام سنة مستحبة والردّ عليه واجب والممتنع عن الردّ آثم «8» . وهذا متسق مع روح الآية ومضمونها. ولقد روى مسلم وأبو داود حديثا جاء فيه «إنّ بعض أصحاب رسول الله قالوا له إنّ أهل الكتاب يسلّمون علينا فكيف نردّ عليهم فقال: قولوا وعليكم» «9» . ومع هذا الحديث أحاديث مفسّرة ومعلّلة منها حديث عن ابن عمر عن النبي رواه البخاري ومسلم وأبو داود جاء فيه «إذا سلّم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم السام

_ (1) التاج ج 5 ص 222- 228. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه. (6) انظر تفسير الخازن وابن كثير. [.....] (7) المصدر نفسه. (8) المصدر نفسه. (9) انظر التاج ج 5 ص 227.

[سورة النساء (4) : آية 87]

عليك فقولوا وعليك» «1» ومنها حديث رواه الشيخان والترمذي عن عائشة قالت «دخل رهط من اليهود على رسول الله فقالوا: السام عليك، ففهمتها فقلت: عليكم السام واللعنة، فقال رسول الله، مهلا يا عائشة فإنّ الله يحبّ الرفق في الأمر كله. فقلت يا رسول الله أو لم تسمع ما قالوا؟! قال فقد قلت وعليكم» وفي رواية لمسلم «فسمعت عائشة فسبّتهم فقال رسول الله: مه يا عائشة فإنّ الله لا يحبّ الفحش ولا التفحّش» «2» . وواضح من هذا أن التعليم النبوي متصل بما كان من مواقف اليهود الكيدية والعدائية والمؤذية، بحيث يسوغ القول إنه ليس من شأنه أن يمنع المسلم من ردّ التحية على غير المسلم بأحسن منها أو بمثلها إذا كانت بريئة من الكيد واللمز صادرة عن رغبة المسالمة والموادة عملا بنصّ الآية وبنص آية سورة الممتحنة هذه لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) بل وليس من شأنه أن يمنع المسلم من التسليم على جماعة من أهل الكتاب أو فيهم أهل كتاب استنادا إلى الحديث الذي رواه البخاري والترمذي الذي أوردناه آنفا. والله أعلم. ويلحظ أن بعض الأحاديث لا تقتصر في تلقينها على التساوق مع الآية في إيجاب ردّ التحية بالأحسن أو بالمثل بل احتوت تأديبا ببدء الغير بالتحية أيضا. وليس في هذا تناقض مع الآية وإنما هو توضيح وتتمة نبويان واجب الالتزام بهما أيضا. ولقد علقنا في سورة الزخرف على موضوع السلام في القرآن والحديث ومداه فننبّه على ذلك في هذه المناسبة. [سورة النساء (4) : آية 87] اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) .

_ (1) انظر التاج ج 5 ص 227. وقد فسّر الشراح كلمة السام بالموت. (2) انظر المصدر نفسه.

[سورة النساء (4) : الآيات 88 إلى 89]

في الآية خطاب موجّه إلى السامعين يؤكد لهم بأن الله تعالى جامعهم إلى يوم القيامة وأن هذا أمر حتم لا يحتمل أي شكّ. فالله متنزه عن الإخلاف بوعده ووعيده ولا يمكن أن يقول إلّا صدقا. ولم يرو المفسرون كذلك في ما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة نزول هذه الآية. والمتبادر أنها هي الأخرى متصلة بالسياق اتصالا تعقيبيا كسابقاتها. فقد احتوت الآيات السابقة وعدا ووعيدا وتقرير كون الله تعالى حسيبا وقادرا على كل شيء ومحصيا أعمال الناس ومجزيا عليها بما تستحق فجاءت هذه الآية لتؤكد هذا بتوكيد جمع الناس إلى القيامة الذي يكون فيه الحساب والجزاء. [سورة النساء (4) : الآيات 88 الى 89] فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (89) . (1) أركسهم: أخزاهم وردّهم وأهلكهم. (2) من أضلّ الله: في بعض الأقوال أنها هنا في معنى من خذله الله وأخزاه وأشقاه. وعلى كل حال فجملة بِما كَسَبُوا تجعل جملة مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ من باب وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ [البقرة: 26] . في هاتين الآيتين: (1) سؤال موجّه إلى المؤمنين على سبيل الإنكار والتعجب عن سبب انقسامهم فرقتين في أمر المنافقين في حين أن أمرهم لا يتحمل ذلك لأن ما بدا منهم من نفاق ومواقف أظهر حالتهم التي ارتدوا بها إلى الكفر واستحقوا بها خزي الله وخذلانه وإضلاله. (2) وسؤال استنكاري عما إذا كان المؤمنون يريدون أو يظنون أنهم الجزء الثامن من التفسير الحديث 13

تعليق على الآية فما لكم في المنافقين فئتين إلخ والآية التالية لها

يستطيعون أن يهدوا من أضلّه الله وأخزاه في حين أن من يخذله الله ويخزيه لن يكون له سبيل للخلاص من خزيه وخذلانه. (3) وتقرير لواقع نية المنافقين نحو المؤمنين. فهم يودون أن يكفروا كما كفروا ويرتكسوا في الخزي والضلال والكفر كما ارتكسوا حتى يكونوا وإياهم سواء. (4) ونهي للمؤمنين عن اتخاذ أولياء ونصراء منهم إلّا إذا هاجروا في سبيل الله وأخلصوا وقاموا بما عليهم من واجبات. (5) وإهدار لدمائهم إذا لم يرجعوا عن غيّهم ولم يتعظوا من هذا الإنذار حيث يجب على المسلمين في هذه الحالة أن يقتلوهم حيث وجدوهم وأن لا يتخذوا منهم وليا ولا نصيرا في أي حال. تعليق على الآية فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ إلخ والآية التالية لها وقد روى المفسرون «1» في سبب نزول هذه الآيات ثلاث روايات: منها أنها نزلت بحق أناس أسلموا وهاجروا إلى المدينة ثم احتالوا ولحقوا بدار الكفر زاعمين أنهم استوبؤوا المدينة واستثقلوا المقام فيها. ومنها أنها بحق أناس أسلموا ولم يهاجروا إلى المدينة مع قدرتهم على الهجرة. ومنها أنها بحق منافقي المدينة الذين خذلوا المسلمين في وقعة أحد حيث اختلف المخلصون في أمرهم فقالت فرقة بقتلهم وقالت فرقة بعدم قتلهم. والروايتان الأوليان لم تردا في الصحاح وقد ورد في معنى الرواية الثالثة حديث رواه البخاري والترمذي عن زيد بن ثابت جاء فيه «رجع ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أحد. وكان الناس فيهم فرقتين. فريق يقول اقتلهم وفريق يقول لا فنزلت فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ» «2» .

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي وابن كثير والبغوي والخازن. (2) التاج ج 4 ص 93..

ولقد تعددت التأويلات التي يرويها المفسرون لمعنى جملة حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ منها «1» أنها بمعنى الهجرة والانتقال إل المدينة والالتحاق بالنبي صلى الله عليه وسلم. ومنها أنها تعني طاعة الله ورسوله والإخلاص لهما. والتضامن مع النبي والمسلمين. وروح الآية تتحمل هذه التأويلات. غير أن ظروف السيرة النبوية وانصباب الكلام والتنديد على المنافقين يجعل المعنى الأخير هو الأكثر ورودا، والله أعلم. وبدء الآيات بحرف الفاء الذي فيه معنى التعقيب على ما سبق وذكر مواقف التثبيط والتبطيء والمراوغة والاعتراض على القتال في السياق السابق يجعل الصلة قائمة بين هذه الآيات والآيات السابقة. وأصحاب تلك المواقف هم منافقو المدينة بحيث يمكن أن يكون في هذا تأييد لحديث زيد. غير أننا مع ذلك نتوقف أن تكون الآيات نزلت في أمر وقعة أحد لأننا لا نرى مناسبة لذلك في هذا السياق. وقد ورد تفصيل ما جرى في هذه الوقعة في سورة آل عمران وندد فيها بالمنافقين تنديدا شديدا. ونرجح أنها في صدد مواقفهم المحكية في السياق السابق، وإن في الحديث التباسا أو تطبيقا والله أعلم. ولقد رأينا القاسمي يستشكل أن يكون المقصودون منافقي المدينة من ناحية أنهم كانوا بين المسلمين فلا يكون محل للقول فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ولسنا نرى إشكالا ونرى أن العبارة يمكن أن تصدق على منافقي المدينة ولا سيما إذا أخذ بتأويل جملة حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بمعنى حتى يطيعوا الله ورسوله ويتضامنوا مع المسلمين. والله تعالى أعلم. لقد جاءت الآيات حاسمة لاختلاف المسلمين في منافقي المدينة حيث أمرتهم إذا ظلوا على موقفهم وإعراضهم عن الجهاد في سبيل الله والإخلاص في طاعة الله ورسوله بأن يقتلوهم حيث وجدوهم ولا يتخذوا منهم وليا ولا نصيرا.

_ (1) انظر كتب التفسير السابقة.

[سورة النساء (4) : آية 90]

وهذه هي المرة الثانية التي يأمر القرآن المسلمين فيها بقتل المنافقين حيث وجدوهم. والمرة الأولى جاءت في آية سورة الأحزاب [60] باختلاف في الشرط والتعبير حيث ذكر في آية الأحزاب جملة لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ ... وذكر في هذه الآيات جملة فَإِنْ تَوَلَّوْا.... ولقد علقنا على هذه المسألة في سياق آية الأحزاب بما فيه الكفاية فلا نرى حاجة للإعادة أو الزيادة. هذا، ولقد انطوى في الآيات تلقين جليل المدى بتحريم كل من يدعي الإسلام ثم لا يتضامن مع المسلمين في الأزمات والمواقف العصيبة التي تلمّ بهم ولا يقيم البرهان بذلك على صحة إسلامه وإخلاصه بل ويرتكس في الخزي أكثر فيودّ أن يكون المسلمون مثله في التخاذل. وهذه الصورة تظهر في كل ظرف ومكان في الأزمات والمواقف العصيبة والنضالية. وقد أمرت الآيات هنا وهناك بوجوب الوقوف منهم موقف الشدة والمطاردة والتنكيل. فضلا عن عدم التناصر والتضامن والتسامح معهم. [سورة النساء (4) : آية 90] إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) . (1) حصرت صدورهم: بمعنى ضاق عليهم الأمر أو تضايقوا من قتالكم أو قتال قومهم. (2) السلم: بمعنى الانقياد أو المسالمة. في الآية استدراك استثنائي من حكم الآيتين السابقتين لمن ينتسبون إلى قوم بينهم وبين المسلمين ميثاق سلم ولمن جاءوا إلى المسلمين يعتذرون عن قتالهم

تعليق على الآية إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق ... إلخ وحكم علاقة المسالمين بالمسلمين

وقتال قومهم ويعلنون لهم أنهم لا يريدون أن يقاتلوهم مع قومهم ولا يريدون أن يقاتلوا قومهم معهم. فهؤلاء وأولئك إذا وقفوا فعلا موقف الكافّ عن قتال المسلمين وأظهروا لهم المسالمة الصادقة فليس للمسلمين عليهم سبيل لعداء وقتال. وجملة وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ جاءت معترضة لبيان فضل الله على المسلمين بإلهام هؤلاء المسالمة وتعليل أو تدعيم عدم جعل الله للمسلمين عليهم سبيلا. تعليق على الآية إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ ... إلخ وحكم علاقة المسالمين بالمسلمين وقد روى المفسرون «1» أن المعني بالفريق الأول إما هو هلال بن عويمر السلمي الذي واثق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قومه على أن لا يحيف على من أتاه منهم ولا يحيفون على من أتاهم منه، وإما سراقة بن مالك المدلجي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ منه ميثاقا بأن لا يغزو قومه فإن أسلمت قريش أسلموا لأنهم كانوا في عقد مع قريش. ورووا أن المعنّى بالفريق الثاني هم قبيلة أشجع التي قدم منها إلى المدينة نحو سبعمائة فحلوا في ضواحيها فأرسل النبي إليهم أحمالا من التمر ضيافة ثم سألهم ما الذي جاء بكم قالوا قرب دارنا منك وكراهيتنا حربك وحرب قومنا يعنون بني ضمرة الذين بينهم وبينهم عهد فجئنا لنوادعك فقبل النبي ووادعهم. وإلى هذه الروايات رووا أيضا أن الآية في صدد بني بكر الذين دخلوا في عهد قريش وبني خزاعة الذين دخلوا في عهد النبي- وهما قبيلتان في ناحية مكة متعاديتان- حينما عقد النبي مع قريش الصلح المعروف بصلح الحديبية حيث خيروا القبيلتين فاختار بنو بكر أن يكونوا مع قريش واختار بنو خزاعة أن يكونوا مع النبي. فصار بين بني خزاعة وبين النبي والمسلمين ميثاق وصار بنو بكر يصلون إلى قريش الذين صار بينهم وبين النبي والمسلمين ميثاق. وليس شيء من هذه

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي والطبرسي والخازن وابن كثير.

الروايات واردا في الصحاح. والآية متصلة بالآيات السابقة وقد رجحنا نزول هذه الآيات في وقت مبكر. ولهذا فإننا نستبعد احتمال كون الآية في صدد بني بكر وبني خزاعة لأن صلح الحديبية كان متأخرا نوعا أي في السنة الهجرية السادسة. وروح الآية تلهم أن الاستثناء عائد إلى أناس معاهدين وإلى أناس يريدون الموادعة والوقوف موقف الحياد. وهذا وذاك ينطبقان على الروايات الأولى والثانية أكثر. غير أن الذي يشكل علينا في الآية هو ما إذا كان المستثنون فيها ممن يدعي الإسلام أو ممن يصح عليه نعت المنافقين أو من الكفار. فصيغة الاستثناء تفيد أن المستثنين من نوع الفريق الذي هو موضوع الحديث في الآيات السابقة وهم المنافقون أو الذين اعتبروا كذلك لأنهم لم يقيموا الدليل على إيمانهم بالتضامن والقتال مع المسلمين والإخلاص في الطاعة لله ولرسوله. غير أن فحوى الآية يحتمل كثيرا معنى كون المستثنين غير مسلمين. فالمعاهدون والذين تنقبض صدورهم عن قتال المسلمين والذين لو شاء الله لسلطهم على المسلمين فقاتلوهم لا يكونون مسلمين بطبيعة الحال. وتعبير أَوْ جاؤُكُمْ مما يزيد الإشكال أيضا. فإنه قد يفيد أن يكونوا جاءوا مسلمين وأرادوا أن يقفوا في قتال المسلمين مع قومهم موقف الحياد. كما يفيد أنهم جاءوا معتذرين معلنين حيادهم. وفحوى الآية يفيد أن حكمة التنزيل تعذرهم على هذا الموقف. ولم يشف صدرنا ما اطلعنا عليه من أقوال المفسرين في هذا الصدد. على أننا مع كل هذا نرى النفس تطمئن إلى ترجيح كون الفريقين موضوع الحديث غير مسلمين. وهو ما تفيده الروايات أيضا. ولعل الاستثناء عائد إلى الفقرة الأخيرة من الآية السابقة التي تنهى عن الأمر بالقتل. وإذا صحّ هذا كما نرجو، تكون الآية استطرادية ويزول الإشكال. ومهما يكن من أمر فالآية تنهى المسلمين عن قتال وقتل من ينتسب إلى معاهديهم، أو من يدخل في عهد معاهديهم، أو من يقف منهم موقف الحياد والسلم ولو كان منتسبا إلى قوم محاربين للمسلمين. وهكذا تكون قد احتوت

تنظيما للعلاقات السياسية بين المسلمين وغير المسلمين. ووصفا لثلاث فئات من غير المسلمين وهي: (1) المعاهدون. (2) ومن يدخل في جوارهم وميثاقهم. (3) والحياديون الذين يعلنون موقفا مسالما نحو المسلمين ويعتزلون قتالهم مع قومهم المحاربين للمسلمين. وقد قررت أنه ليس للمسلمين أن يقاتلوا أية فئة من هذه الفئات. وفي هذا من الحكمة ما يظل في أعلى مرتبة من أصول تنظيم العلاقات السياسية بين المسلمين وغير المسلمين على مدى الدهر. ويقوم على أسمى أسس الحق والعدل والإنصاف. ولقد روى المفسرون «1» أن هذه الآية قد نسخت بآية في سورة التوبة تأمر بقتل المشركين إلى أن يتوبوا عن الشرك ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وهي الآية [5] ونصّها فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ والآيات التي جاءت قبل آية سورة التوبة هذه وبعدها تستثني الذين بينهم وبين المسلمين عهد وتأمر بإتمام عهدهم إلى مدته بالنسبة لمن بينهم وبين المسلمين مدة محددة وبالاستقامة معهم على العهد ما استقاموا لمن لم يكن بينهم مدة محددة. وبالتالي تجعل القول بنسخها وبخاصة بالنسبة للمعاهدين غريبا بل في غير محله. وقد لا حظ ذلك بعضهم «2» وتساءل تساؤل المستنكر عما إذا كان يصح أن تكون منسوخة بشأن المعاهدين لأن ذلك يعني نقضا للعهد. وهي ملاحظة حق. ولقد علقنا على هذه المسألة بما فيه الكفاية في مناسبات سابقة «3» . وإن كان

_ (1) انظر تفسير الطبري والخازن والطبرسي. ويعزو المفسرون الأقوال إلى ابن عباس وغيره من أصحاب رسول الله وتابعيهم. (2) انظر تفسير الخازن. (3) انظر تفسيرنا لسورة (الكافرون) ولآيات البقرة [190- 194] .

[سورة النساء (4) : آية 91]

من شيء نقوله هنا زيادة على ذلك فهو كون ما تقدم هنا وفي المناسبات السابقة يسوغ التوكيد بمحكمية الآية. وهناك آثار نبوية وراشدية يستند إليها أئمة الفقه في إيجاب الدية على قاتل الذمي خطأ وفي إيجاب الدية المغلظة أي المضاعفة في قول وإيجاب القصاص في قول على قاتل الذمي عمدا «1» . وفي هذا توكيد بمحكمية حكم الآية. وتعبير الذمي مرادف للمعاهد. والتسمية آتية من كون المعاهدين يعطون العهد على ذمة الله ورسوله والمؤمنين أي كفالتهم وضمانهم. ولقد روى البخاري والترمذي عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «من قتل نفسا معاهدا لم يرح رائحة الجنة وإنّ ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما» «2» حيث ينطوي في هذا توثيق لما قررناه. وليس في الآثار ما يمنع أن يقاس على هذا المسالم والحيادي بحيث يصح أن يقال إن حكم الآية شامل للمعاهدين والمسالمين والحياديين والله أعلم. ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن حكم الآية ينطبق على الفئات الثلاث المستثناة سواء أكانوا أفرادا أم جماعة. فلا يجوز قتال أحد منهم ولا قتله. وهذا مثلهم من الآية بالإضافة إلى أنه المتسق مع المبدأ القرآني العام وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: 164] . [سورة النساء (4) : آية 91] سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91) . في هذه الآية إشارة إلى فريق آخر ينتسبون إلى قوم أعداء للمسلمين يريدون أن يأمنوا جانب المسلمين وجانب قومهم معا. ولكنهم مذبذبون لا يستقرون على

_ (1) انظر تفسير الآية التي نحن في صددها والآية [92] من سورة النساء في تفسير الخازن والطبرسي وانظر التاج ج 3 ص 9- 10. (2) انظر التاج ج 3 ص 6. [.....]

تعليق على الآية ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم ... إلخ وحكم المذبذبين في علاقاتهم بالمسلمين

حال ولا يمتنعون من الانسياق مع الفتنة إذا واجهوها. فهؤلاء لا يصحّ الاطمئنان بدعواهم الحياد وبتظاهرهم بالمودة إلّا إذا أقاموا الدليل على ذلك فعلا باعتزال المسلمين وإعلان المسالمة لهم بصراحة وكفّ أيديهم عنهم بصدق وإخلاص. فإذا لم يفعلوا هذا فحكمهم حكم قومهم. وللمسلمين أن يقاتلوهم ويقتلوهم أنّى وجدوهم. وقد جعل الله لهم عليهم الحجة البالغة. تعليق على الآية سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ ... إلخ وحكم المذبذبين في علاقاتهم بالمسلمين وقد روى المفسرون أن الفريق المعني في الآية هو بعض جماعات من قبيلتي أسد وغطفان حيث كانوا يأتون إلى المدينة فيتظاهرون بالإسلام والولاء ليأمنوا المسلمين، فإذا ما رجعوا إلى قومهم أظهروا الشرك والعداء للمسلمين مثلهم بحجة أنهم يريدون بذلك أن يأمنوا قومهم وهناك روايات تذكر أنهم جماعة من قريش أو من قبائل أخرى كانوا يفعلون ذلك «1» . والروايات لم ترد في الصحاح وفحوى الآية وروحها يسوغان القول إنها متصلة بالآيات السابقة موضوعا وسياقا. وهذا لا يمنع صحة ما روي في الروايات وأن يكون الوصف الذي وصفت به الفريق الموصوف فيها متحققا في جماعة من أسد وغطفان أو جماعة من مشركي قريش أو غيرهم فكان ذلك مناسبة لنزولها محتوية للحكم التشريعي في حق هذه الفئة لتتم بذلك السلسلة التشريعية في حق المنافقين والمعاهدين والمسالمين والمذبذبين. والحجة التي يقوم عليها الحكم في الآية قوية مستقيمة متمشية مع الحق والإنصاف كما هو واضح. ويظل تلقينها قائما مستمرا ينطبق على كل حالة

_ (1) انظر تفسير الآية في الطبري والخازن وابن كثير والطبرسي.

[سورة النساء (4) : الآيات 92 إلى 93]

مماثلة بطبيعة الحال. والأساس الذي تلقنه هو أن يدع المسلمون من يطمئنون بصدق حياده وكفّ يده وبموقفه السلمي وشأنه ولا يبادئوه بعداء وقتال. ولو كان من قوم عدوّ محارب. وأن لا يقاتلوا إلّا الذين لا يثبتون لهم صدق دعواهم بالحياد والمسالمة فعلا باعتزال قتالهم وكفّ أيديهم ويرون فيهم تذبذبا ودورانا مع الظروف سواء أكانت مع المسلمين أو مع أعدائهم من قومهم لنجاة أنفسهم وأمنهم وحسب. [سورة النساء (4) : الآيات 92 الى 93] وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93) . تعليق على الآية وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً ... إلخ والآية التالية لها وأحكام القتل الخطأ والعمد بالنسبة للمسلمين والمعاهدين عبارة الآيتين واضحة. وفيها: (1) تقرير بعدم جواز قتل مؤمن لمؤمن البتة بأسلوب فيه استبعاد احتمال وقوع ذلك إلّا أن يكون خطأ. (2) وإنذار قاصم لمن يقتل مؤمنا عمدا. (3) وتشريع في صدد قتل المؤمن خطأ في نطاق الأسس التالية:

(1) إذا قتل مؤمن مؤمنا خطأ وكان أهل القتيل مؤمنين فعلى القاتل أن يعتق رقبة مؤمنة كفارة عن عمله وتوبة لله. وأن يدفع الدية لأهله إلّا إذا عفوا وتنازلوا عنها صدقة لوجه الله تعالى. (2) إذا قتل مؤمن مؤمنا خطأ وكان أهل القتيل كفارا وأعداء للمسلمين فعلى القاتل أن يعتق رقبة كفارة عن عمله وتوبة لله وكفى. (3) إذا قتل مؤمن مؤمنا خطأ وكان أهل القتيل كفارا ومعاهدين للمسلمين فالحكم في ذلك حكم الأول. أي تحرير رقبة مؤمنة ودية مؤداة إلى أهله. (4) إذا لم يمكن للقاتل أن يجد أو يعتق رقبة مؤمنة فتكون الكفارة والتوبة بدلا من ذلك صيام شهرين متتابعين. ولقد روى المفسرون روايات في مناسبة نزول كل من الآيتين. فرووا في نزول الأولى أنها نزلت في مسلم اسمه عياش بن أبي ربيعة قتل شخصا اسمه الحرث بن يزيد العامري كان احتال عليه وخطفه من المدينة ثم عذبه وجلده فحلف أن يقتله إذا تمكن منه ثم لقيه في حرة المدينة وكان جاء من مكة مسلما مهاجرا فقتله دون أن يعلم أنه أسلم. كما رووا أنها نزلت في أبي الدرداء وكان في سرية جهاد فلقي رجلا معه غنم فبادره هذا بكلمة التوحيد فلم يصدقه وقتله وسلب الغنم. فلما رجعوا إلى النبي أنّبه وغضب لعدم تصديقه وقال له فيما قال «هلّا شققت قلبه» . ورووا في نزول الآية الثانية أنها نزلت في شخص مسلم اسمه مقبس وجد أخاه مقتولا في محلة بني النجار في المدينة فراجع النبي فأرسل معه رجلا من بني النجار يبلغهم عن لسانه أن يسلموا القاتل للقصاص منه إذا كانوا يعرفونه أو يدفعوا الدية لأخيه إذا لم يكونوا يعرفونه فأنكروا معرفة القاتل ودفعوا الدية ولكن الأخ بعد قبضه الدية غدر بالنجاري الذي أرسله معه رسول الله فقتله بدم أخيه ثم رحل إلى مكة حيث كان قومه مرتدا كافرا. وتأثر النبي صلى الله عليه وسلم منه وقال «لن أؤمنه في حل أو حرم ولا سلم ولا حرب» فقتل يوم الفتح. ولم يرد شيء من هذه الروايات في الصحاح. وقد رويت رواية مماثلة

للرواية التي ذكر فيها أبو الدرداء في مناسبة نزول الآية التي تأتي بعد هذه الآيات. ويلحظ أن الروايات تجعل الآيتين منفصلتين وتفيد نزول كل منهما في مناسبة وظرف غير مناسبة وظرف نزول الأخرى. في حين أنهما كما يبدو من أسلوبهما وحدة منسجمة تسوغ القول إنهما نزلتا معا. ولقد بينت الآيات السابقة حكم غير المسلمين في مواقفهم من المسلمين ومواقف المسلمين منهم، وبينت هاتان الآيتان حكم قتل المؤمن للمؤمن مما فيه تناسب ما. وقد تكون الآيتان نزلتا بعد سابقاتهما فوضعتا في مكانهما بسبب التناسب الموضوعي والظرفي أو تكونان نزلتا في ظرف آخر فوضعتا مكانهما بسبب التناسب الموضوعي. وهذا لا يمنع بطبيعة الحال أن يكون وقع أحداث مماثلة لبعض ما روي في الروايات فتليت الآيات لبيان الحكم، فالتبس الأمر على الرواة والله تعالى أعلم. ويلحظ أن الآية [92] اقتصرت على الإنذار القاصم الأخروي للمؤمن الذي يقتل مؤمنا عمدا دون تعيين عقاب دنيوي. ويمكن أن يقال إن روح الآيتين تلهم أن هدفهما الرئيسي هو تعظيم دم المؤمن على المؤمن والتشديد فيه حتى ولو كان خطأ ثم تغليظ إثمه وجريمته بالإنذار الرهيب إذا كان عمدا والذي هو على سمع المؤمن ونفسه أشدّ وقعا وأكثر هولا فاقتضت حكمة التنزيل الاقتصار عليه في هذا المقام توكيدا لذلك الهدف والاكتفاء بتشريع قتل الخطأ الذي يعفو الله عنه إذا أدى فاعله الدية وتقدم إلى الله بالتوبة والكفارة. وواضح أن هذا يظل تلقينا مستمر المدى بوجوب احترام المؤمن لدم أخيه وشدة احترازه من سفكه ولو خطأ فضلا عن العمد. ولقد رويت أحاديث نبوية عديدة في تعظيم دم المؤمن على المؤمن وعظم إثم قتله. منها حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن عبد الله جاء فيه «قال النبي صلى الله عليه وسلم: أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء وفي رواية أول ما يحاسب به العبد الصلاة وأول ما يقضى بين الناس في الدماء» «1» . وحديث ثان

_ (1) التاج ج 3 ص 3.

رواه البخاري وأبو داود عن ابن عمر جاء فيه «قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما» «1» . وحديث ثالث رواه أبو داود والنسائي جاء فيه «كلّ ذنب عسى الله أن يغفره إلّا من مات مشركا أو مؤمن قتل مؤمنا متعمدا» «2» . وحديث رابع رواه الترمذي والنسائي جاء فيه «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم» «3» وحديث خامس رواه الترمذي جاء فيه «لو أنّ أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبّهم الله في النار» «4» ، حيث يتساوق التلقين القرآني مع التلقين النبوي في هذا الأمر شأنهما في كل أمر. ولقد روى أبو داود والنسائي عن ابن عياش عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا جاء فيه «من قتل في عميّا في رمي يكون بينهم بحجارة أو بالسياط أو ضرب بعصا فهو خطأ وعقله عقل الخطأ ومن قتل عمدا فهو قود ومن حال دونه فعليه لعنة الله وغضبه لا يقبل منه صرف ولا عدل» «5» . والمتبادر من روح الحديث وفحواه أنه لم يرد به حصر قتل الخطأ في الكيفية التي ذكرت فيه. فمن السائغ توسيع النطاق ليشمل كل قتل لم يكن القتل فيه مقصودا بأية آلة وفي أية حالة. ومن تحصيل الحاصل أن يعدّ من قبيل الخطأ قتل مؤمن لشخص يظنّه المؤمن خطأ أنه كافر محارب مما ذكرته الروايات كسبب لنزول الآيات. ولقد روى المفسرون عن بعض المؤولين القدماء أن جملة وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ تعني أن يكون القتيل غير مؤمن من قوم معاهدين كما رووا عن بعض آخر أنها تعني مؤمنا من معاهدين غير مؤمنين. وحجة الأولين ومنهم ابن عباس أن الجملة لم تقل وَهُوَ مُؤْمِنٌ كما قالت عن الذي ذكر قبلها. والآية في صدد قتل المؤمن للمؤمن خطأ. وهذا يجعل القول الثاني هو

_ (1) التاج ج 3 ص 4. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. (5) التاج ج 3 ص 11 و 12 والعميّا تعني حالة الهياج والشجار العامة التي تؤدي إلى المضاربة والتقاتل بين جماعتين.

الوارد. والمتبادر أن حكمة التنزيل اكتفت بالوصف الأول ولم تكرره والله أعلم. ولقد وقف المؤولون الذين يروي المفسرون أقوالهم عند صفة رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فقال بعضهم إن هذه الصفة لا يمكن أن تتحقق إلّا في مملوك راشد مؤمن يقوم بواجباته. وقال آخرون إن كل من يولد من أبوين مسلمين يصح أن يكون ممن عنتهم الآية ولو لم يكن بالغا إذا كان في حالة رقّ. وروى الطبري القول الثاني. ونرى في ذلك وجاهة وسدادا. ولقد نبّه المفسرون على أن التتابع في صيام شهرين شرط في صحة الكفارة بحيث لو تعمد الإفطار في آخر يوم وجب إعادة الصوم كله. وهذا مستلهم من نصّ الآية. ولم نر أحدا ذكر الحالات التي يسوغ لصائم رمضان أن يفطر فيها ويقضي ما أفطره أو التي ينسى فيها الصائم أنه صائم فيأكل ويشرب. وقد يكون من السائغ أن يقاس ذاك على هذا. والله تعالى أعلم. ولقد أورد المفسرون في سياق الآيات طائفة من الأحاديث في مقادير دية قتلى الرجال والنساء والعبيد والكفار. ولقد أوردناها في سياق تفسير آية البقرة [178] فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار. وننبّه على أن القتل العمد لم يبق بدون عقوبة دنيوية وقاصرا على الإنذار الأخروي الرهيب كما يبدو من الآية الثانية حيث رويت أحاديث نبوية عديدة فيها بيان لذلك. ولقد شرحنا هذه النقطة وأوردنا ما ورد فيها من أحاديث مع بيان ما هو القتل العمد وما هو شبه العمد وما هي عقوبة كل منهما في سياق تفسير الآية [178] من سورة البقرة. فنكتفي كذلك بهذا التنبيه دون التكرار. ولقد كان الأسلوب القاصم الذي جاءت به الآية الثانية موضوع بحوث من ناحية إمكان قبول توبة القاتل العمد وعدمه ومن ناحية خلوده في النار مع كونه مؤمنا حيث قال بعضهم «1» استنادا إلى أحاديث نبوية وصحابية إن الآية محكمة وإن

_ (1) انظر تفسير الآية في الطبري والخازن وابن كثير والزمخشري والطبرسي.

القاتل العمد مخلّد في النار ولا توبة له. وحيث قال بعضهم «1» استنادا إلى أحاديث نبوية وآيات قرآنية إن الله يقبل توبته إذا شاء وإنه لا يخلد في النار إذا مات وهو يشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول الله. ومما يورد في صدد القول الأول حديث رواه أبو داود والنسائي جاء فيه «كلّ ذنب عسى الله أن يغفره إلّا من مات مشركا أو مؤمن قتل مؤمنا متعمدا» «2» . وحديث رواه الشيخان عن سعيد بن جبير قال «قلت لابن عباس هل لمن قتل مؤمنا متعمدا توبة. قال لا. فقرأت عليه آية الفرقان إلى إِلَّا مَنْ تابَ [70] قال هذه مكية نسختها آية مدنية وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها» «3» . ومما يورد في صدد القول الثاني إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ... ويا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ... [الزمر: 53] وحديث رواه الشيخان ولترمذي عن أبي ذرّ قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم أتاني جبريل عليه السلام فبشّرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. قلت وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق وكررتها فكررها ثم قال في الرابعة على رغم أنف أبي ذر» » وحديث ثان رواه كذلك الشيخان والترمذي عن معاذ عن النبي «ما من أحد يشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلّا حرّمه الله على النار» «5» . وحديث ثالث رواه مسلم عن أنس عن النبي قال «يخرج من النار من قال لا إله إلّا الله وفي قلبه وزن شعيرة من إيمان. ويخرج من النار من قال لا إله إلّا الله وفي قلبه وزن برّة من إيمان. ويخرج من النار من قال لا إله إلّا الله وفي قلبه وزن ذرّة من إيمان» «6»

_ (1) انظر تفسير الآية في الطبري والخازن وابن كثير والزمخشري والطبرسي. (2) انظر التاج ج 3 ص 4- 6. (3) المصدر نفسه. (4) التاج ج 1 ص 26. (5) المصدر نفسه ص 26- 28. (6) المصدر نفسه. [.....]

وحديث رابع رواه مسلم عن جابر قال «أتى النبيّ رجل فقال يا رسول الله ما الموجبتان فقال من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار» «1» ولقد أورد الشيخان تتمة للحديث الذي روياه عن سعيد بن جبير جاء فيه أن هذا ذكر لمجاهد وهو من كبار التابعين ومفسريهم ما سمعه من ابن عباس فقال «إلّا من ندم» «2» . ومع ما لكل من القولين من وجاهة على ضوء الأحاديث التي يستند إليها أصحابها فإنه يتبادر لنا على ضوء ما أوردناه في تعليقنا على موضوع التوبة في سورة البروج أن القول الثاني أكثر وجاهة. وبخاصة إذا تاب القاتل ونفذت فيه عقوبة القصاص أو عفى عنه أولياء القتيل أو قبلوا الدية منه. وهذا نراه أمرا جوهريا وأساسيا لأن آيات عديدة من آيات التوبة شرطت الإصلاح مع التوبة. وهذا من هذا الباب. مع التنبيه إلى ما قلناه قبل من أن هدف الآية الرئيسي هو تغليظ جريمة قتل المؤمن عمدا وإثمها عند الله. ولقد روى أصحاب المساند الخمسة حديثا نبويا عن ابن عباس جاء فيه «لا يزني العبد حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب حين يشرب وهو مؤمن ولا يقتل وهو مؤمن» وزاد أبو هريرة في روايته لهذا الحديث «والتوبة معروضة بعد» «3» فلعلّ في هذا الحديث وتتمته المروية عن أبي هريرة توفيقا بين القولين. فمن استحلّ القتل صار كافرا وخلّد في النار. ومن لم يستحلّه ثم ندم وتاب وأصلح فلا يخلّد في النار. والله أعلم. بل ولعل الله لا يعاقبه بالنار إذا نفذ فيه القصاص أو عفى عنه ولي القتيل أو قبل منه الدية وتاب إلى الله. ولقد روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والدارقطني حديثا عن علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من أذنب ذنبا في الدنيا فعوقب عليه فالله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده ومن أذنب ذنبا في الدنيا فستره الله عليه وعفا عنه فالله أكرم من أن يعود عليه في شيء عفا

_ (1) التاج ج 1 ص 26- 28. (2) التاج ج 4 ص 84. (3) التاج ج 1 ص 5.

[سورة النساء (4) : آية 94]

عنه» «1» وأخرج البزار حديثا بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح غير واحد وهو ثقة عن خزيمة بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيما عبد أصاب ذنبا ما نهى الله عنه ثم أقيم عليه حده كفر عنه ذلك الذنب» «2» . [سورة النساء (4) : آية 94] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94) . (1) إذا ضربتم في سبيل الله: هنا بمعنى إذا خرجتم للجهاد في سبيل الله. (2) تبينوا: بمعنى تثبتوا. وقد قرئت (تثبتوا) أيضا. (3) السلام: قرئت (السلم) أيضا واختلفت الأقوال في معناها حيث قيل إنها المسالمة. وقيل إنها تحية الإسلام. وقيل إنها إعلان الإسلام. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا إلخ وجّه الخطاب في الآية للمسلمين. وقد تضمنت: (1) أمرا لهم بالتثبت من حقائق الناس الذين يلقونهم إذا ما خرجوا للجهاد في سبيل الله فلا يقاتلون ولا يقتلون إلّا العدو الكافر ولا يقولون لمن ألقى إليهم السلام أو أعلن المسالمة أو الإسلام لست مؤمنا اجتهادا منهم بأنه غير

_ (1) أورد هذا الحديث ابن كثير في سياق الآية [39] من سورة المائدة. وروى الطبراني حديثا من بابه عن أبي تميمة الهيثمي عن رسول الله قال «إنّ الله عزّ وجلّ إذا أراد بعبد خيرا عجل عقوبة ذنبه في الدنيا وربّنا تبارك وتعالى أكرم من أن يعاقب على ذنب مرتين» مجمع الزوائد ج 6 ص 265. (2) المصدر السابق نفسه والصفحة نفسها. الجزء الثامن من التفسير الحديث 14

صادق فيما ألقاه وطمعا في المغانم التي ينالونها منه. (2) وتنبيها تأديبيا وتذكيريا لهم: فعند الله مغانم كثيرة دنيوية وأخروية للمخلصين فلا ينبغي أن يكون عرض الحياة الدنيا باعثا فيهم الطمع ومذهلا لهم عن الحق وصارفا إياهم عن التثبت. وعليهم أن يذكروا أنهم كانوا غير مسلمين فمنّ الله عليهم بفضله وهداهم وأن من الممكن أن يمنّ على غيرهم ويهديهم أيضا. (3) وتوكيدا ثانيا بوجوب التثبت وتنبيها فيه معنى الإنذار بأن الله خبير بما يعملون وبنواياهم التي يضمرونها وراء أعمالهم. ولقد أوّل بعض المؤولين «1» جملة: كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بمعنى أنكم كنتم أيضا تخفون إسلامكم في مكة فمنّ الله عليكم بالنصر والعزة ولا يخلو هذا من وجاهة وإن كنا نرى التأويل أوّلنا به الجملة والذي روي عن مؤولين آخرين «2» هو الأوجه والله أعلم. وقد روى المفسرون «3» في سبب نزول الآية روايات متعددة ومختلفة الأشخاص والوقائع متحدة الموضوع ملخصها أن بعض المسلمين خرجوا في سرية جهادية فلقوا شخصا معه غنم أو عنده مال فحياهم بالسلام أو بادرهم بكلمة التوحيد فلم يصدقوه وظنوا أن ذلك منه تقية وخداع فقتلوه واستولوا على غنمه أو ماله. وبعض الروايات تذكر أنه كان بين القتيل والقاتل إحنة في الجاهلية. وقد كان الحادث باعثا لغضب النبي صلى الله عليه وسلم ولاتهامه إياهم بالطمع في ماله حتى قال لهم على سبيل التثريب «هلّا شققتم عن قلبه» حينما اعتذروا له فلم تلبث أن نزلت الآية فأمر النبي بأداء ديّة القتيل وردّ ماله أو غنمه إلى أهله واعتبر القتل من نوع الخطأ وأمر القاتل بعتق رقبة. ومن جملة الروايات المروية الرواية التي أوردناها عن أبي الدرداء في سياق الآيات السابقة. ومن جملة أسماء قواد السرية الذين ذكروا في الروايات أسامة بن زيد والمقداد بن الأسود ومحلم بن جثامة وهذا هو الذي روى

_ (1) انظر الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه.

[سورة النساء (4) : الآيات 95 إلى 96]

أنه كان بينه وبين القتيل إحنة في الجاهلية. وإحدى الروايات فقط رواها الشيخان والترمذي وأبو داود عن ابن عباس بهذا النصّ «مرّ رجل من بني سليم على نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومعه غنم فسلّم عليهم فقالوا ما سلّم عليكم إلّا ليتعوّذ منكم فقاموا فقتلوه وأخذوا غنمه فأتوا بها رسول الله فنزلت الآية» «1» . وهناك حديث يرويه مسلم وأبو داود عن أسامة فيه حادث مشابه ولكن لا يذكر أن الآية نزلت فيه جاء فيه «قال أسامة بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سريّة إلى الحرقات فنذروا بنا فهربوا فأدركنا رجلا فلما غشيناه قال لا إله إلّا الله فضربناه حتى قتلناه فذكرت ذلك للنبي فقال من لك بلا إله إلّا الله يوم القيامة فقلت يا رسول الله إنما قالها مخافة السلاح. قال أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك قالها أم لا. من لك بلا إله إلّا الله يوم القيامة. فما زال يقولها حتى وددت أني لم أسلم إلّا يومئذ «2» » وبقطع النظر عن التعدد والتباين في الروايات فإن الآية متسقة مع ما جاء فيها بحيث يسوغ القول إن حادثا مما ذكر فيها كان سبب نزول الآية. ويبدو شيء من التناسب الموضوعي بينها وبين الآيات السابقة لها. فإما أن تكون نزلت بعدها فوصفت في ترتيبها وإما أن تكون نزلت لحدتها فوصفت في ترتيبها للتناسب الموضوعي. والآية في حدّ ذاتها جملة تشريعية تامة. وقد احتوت حكما محكما رائعا وتلقينا جليلا ودرسا وتوجيها بليغين مستمري المدى في كل ظرف ومكان من مداهما أنه لا ينبغي أن تكون الغنائم هدفا جوهريا من أهداف الجهاد أولا ويجب أن يقبل من الناس ثانيا ظواهرهم إذا لم يكن هناك ما يكذبها فعلا وبخاصة دعوى السلام والإسلام والمسالمة. وإيذان بأن الإسلام أو المسالمة ثالثا هما المطلوبان من كل كافر فإن تحققا امتنع سواغ القتل والقتال. ويظل كل هذا متلألئا في غرة الشريعة الإسلامية على مدى الدهر. [سورة النساء (4) : الآيات 95 الى 96] لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96) .

_ (1) التاج ج 4 ص 84 و 85. (2) انظر المصدر نفسه ص 321.

تعليق على الآية لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله ... إلخ والتي بعدها

(1) غير أولي الضرر: غير ذوي الضرر أي الذين فيهم ضرر يمنعهم من الجهاد كالمرضى وذوي العاهات. وهناك أحاديث تفيد أن ذوي الأعذار المشروعة يدخلون في الجملة. تعليق على الآية لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... إلخ والتي بعدها عبارة الآيتين واضحة. وقد تضمنتا تنويها عظيما بزيادة فضل وأجر المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين عن الجهاد من المؤمنين من غير ذوي الضرر والأعذار المشروعة مع استحقاقهم الحسنى الموعودة للمؤمنين جميعا مجاهدين وقاعدين. ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن المقصود من القاعدين والمجاهدين هم الذين خرجوا مع رسول الله إلى بدر والذين قعدوا عنها. فإنه لما نزل الأمر بغزوة بدر قال عبد الله بن أمّ مكتوم وأبو أحمد بن جحش بن قيس الأسدي يا رسول الله إننا أعميان فهل لنا رخصة فنزلت الآية. وهناك حديث يرويه البخاري والترمذي عن زيد بن ثابت جاء فيه «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله فجاءه ابن أمّ مكتوم وهو يمليها عليّ فقال يا رسول الله والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت وكان أعمى فأنزل الله على رسوله وفخذه على فخذي فثقلت عليّ حتى خفت أن ترضّ فخذي ثم سرّي عنه فأنزل الله

غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ» «1» وليس في الحديث الصحيح هذا ذكر لغزوة بدر بل وليس فيه أن الآيات نزلت في صدد ابن أم مكتوم وكل ما فيه أن حكمة التنزيل استجابت لهتافه فأنزلت الجملة الاستثنائية ليدخل هو ومن في بابه في الاستثناء وليكون ذلك تشريعا عاما. ووقائع غزوة بدر نزلت متصلة في سورة الأنفال وقد نزلت بعد الغزوة وليس قبلها. وليس من حكمة لوضع آية يقال إنها نزلت في ظرف وقعة بدر في هذه السورة. ولما كانت الآيات [71- 89] قد احتوت حملة على مرضى القلوب والمنافقين الذين يبطئون عن الجهاد ويخلفون وعدهم بذلك وأهدرت دم المنافقين إذا ظلوا على موقفهم ولم يتضامنوا في الجهاد مع المؤمنين على ما شرحناه في سياقها فالذي يتبادر لنا أن فريقا من المخلصين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم الذي يقعد عن الجهاد أحيانا لسبب ما وهو مخلص في إيمانه عقب نزول الآيات المذكورة فأوحي بالآيتين جوابا على ذلك مؤذنين بتسامح الله عزّ وجلّ للمخلصين الذين لا يعتذرون كذبا ولا تهربا ولو لم تكن أعذارهم قوية ظاهرة. هذا، وما جاء في النص باستثناء ذوي الضرر فالحكمة فيه جلية. وقد تكرر هذا في آيات سورة الفتح في سياق الحضّ على الجهاد حيث جاء فيه لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [17] وفي سياق آيات تندد بالممترين في سورة التوبة حيث جاء فيه لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ [91] . ولا يبعد أن تكون الآيتان قد نزلتا بعد الآيات التي سبقتها فوضعتا مكانهما للتناسب الظرفي والموضوعي وإلا فتكونان قد وضعتا في مكانهما للتناسب الموضوعي. ويلفت النظر إلى ما في جملة وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى من لفتة ربانية كريمة

_ (1) التاج ج 4 ص 85.

[سورة النساء (4) : الآيات 97 إلى 100]

إلى القاعدين من المؤمنين لأسباب مقبولة فيها تطمين لهم بسبب ما يعرف من إخلاصهم. وفي هذا كذلك تلقين مستمر المدى في صدد من يعرف منه الإخلاص وحسن النية وصدق الطوية ولو لم يشترك اشتراكا فعليا في الحركات الجهادية لأسباب مقبولة. ولقد روى البخاري ومسلم والترمذي عن أنس حديثا جاء فيه «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزاة فقال إنّ أقواما بالمدينة خلفنا ما سلكنا شعبا ولا واديا إلّا وهم معنا فيه حبسهم العذر» «1» حيث ينطوي في الحديث توضيح وتدعيم. ومع ذلك فإنه يتبادر لنا أنه يصحّ أن يضاف إلى ما قلناه أن تكون الآيتان احتوتا أيضا بيانا في حالة المؤمنين المخلصين إزاء الجهاد إذا كان الظرف لا يقتضي أن ينفروا جميعهم فيندب بعضهم أو ينفر بعضهم دون بعض فغير المنتدبين أو غير النافرين في هذه الحالة ليسوا موضع تثريب وسخط ربانيين بل هم والمنتدبون أو النافرون معا موضع وعد الله الحسنى الذي وعد به كل مؤمن مخلص. غير أن المنتدبين والنافرين يظلون على كل حال أفضل عند الله وأعظم أجرا، وفي هذا ما فيه من حثّ قوي على النفرة إلى الجهاد والتسابق إليه. هذا ونرى أن نلفت النظر إلى حديث ابن أم مكتوم من حيث انطواؤه على مشهد من مشاهد التنزيل القرآني من جهة وعلى دليل على تدوين القرآن فورا حين نزوله من جهة أخرى. [سورة النساء (4) : الآيات 97 الى 100] إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100) .

_ (1) التاج ج 4 ص 305.

تعليق على الآية إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ... إلخ والآيتين التاليتين لها وواجب المسلمين في مكافحة الظلم والظالمين والهجرة من بلادهم بسبيل ذلك

(1) توفّاهم: تتوفاهم. (2) يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة: قيل إن معناها يجد في الأرض التي يهاجر إليها مضطربا فسيحا ومتحولا عما يكره. وراغم قومه مراغمة قاطعهم ونابذهم. ويرد بالبال أن يكون للكلمة صلة بالإرغام وهو الإذلال والقهر وأن يكون معنى الجملة (يجد في الأرض وسائل كثيرة لمراغمة ظالمه وقهره أو جعل أنفه في الرغام وهو التراب) تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ... إلخ والآيتين التاليتين لها وواجب المسلمين في مكافحة الظلم والظالمين والهجرة من بلادهم بسبيل ذلك عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت: (1) تنديدا بفريق من المسلمين آثروا الرضوخ في دار العدو وكانوا يعتذرون بأنهم كانوا مستضعفين. وكان اعتذارهم غير صادق. وإفحاما لهم وإنذارا بسوء المصير الأخروي لأنهم بذلك ظلموا أنفسهم. (2) واستثناء من هذا التنديد والإنذار لفريق آخر من رجال ونساء وولدان كانوا حقا مستضعفين مغلوبين على أمرهم ولم يكن لهم سبيل حقا. وتطمينا بأن الله قد يشملهم بعفوه وغفرانه. (3) وتنويها بفائدة الهجرة في سبيل الله وإيجابا لها وحثّا عليها: فالذين يهاجرون في سبيل الله يجدون أسبابا كثيرة لمراغمة عدوهم وقهره وإزعاجه. وأبوابا واسعة للرزق. والذي يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله فيموت في هذا

السبيل فيكون قد حقّ على الله أجره وهو الغفور الرحيم. ومع واجب الإيمان بما حكته الآية الأولى مما سوف يكون من حوار بين الملائكة والمتخلفين عن الهجرة بدون عذر فإن قصد التثريب والإنذار من الحكمة الملموحة فيها. والآيات فصل جديد. والتناسب مع ذلك ملموح بينها وبين السياق السابق. فإما أن تكون نزلت بعد الآيات السابقة لها فوضعت في ترتيبها للتناسب الموضوعي والظرفي وإلّا فتكون وضعت فيه للتناسب الموضوعي. وقد روى المفسرون «1» روايات عديدة في صدد الآيات. فرووا أن الآية الأولى نزلت في حق أشخاص كانوا أسلموا وبقوا في مكة وكانوا يكتمون إسلامهم وقد اشتركوا مع المشركين في وقعة بدر ومنهم من قتل ومنهم من أسر في هذه الوقعة. ورووا في سياق ذلك أن العباس عمّ النبي وعقيلا ابن عمه كانوا ممن خرجوا مع المشركين وأسروا، ولم يقبل الله عذرهم حين اعتذروا بأنهم مستضعفون ومغلوبون على أمرهم. وأن العباس قال لرسول الله لما طلب منه الفداء عنه وعن عقيل: كيف ذلك ونحن نصلي قبلتك ونشهد بشهادتك، فقال له: إنكم خاصمتم فخصمتم ثم تلا الآية. وهذا يعني أن الآية نزلت قبل وقعة بدر، وهو في اعتقادنا بعيد الاحتمال. وهناك رواية أخرى يرويها المفسرون في صدد الآية وهي أنها في حق الذين تخلفوا عن الهجرة إلى المدينة من مكة بدون عذر وبقوا وماتوا فيها. وفي فصل التفسير من صحيح البخاري حديث عن ابن عباس جاء فيه «إن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سوادهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي السهم أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل فأنزل الله إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ الآية. ثم خفف الله تعالى عن الضعفاء، الذين مع المشركين فقال إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) وقال ابن عباس: كنت أنا وأمي من

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير.

المستضعفين، وفي رواية كنت أنا وأمي ممن عذر الله» «1» . وروى المفسرون «2» كذلك أن الآية الثانية نزلت في حق جماعة كانوا فعلا مغلوبين على أمرهم ومنهم الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة. وأن جملة وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى آخر الآية الثالثة نزلت في مسلم طاعن في السن كان يقيم في مكة بادر إلى الهجرة حينما بلغته الآية الأولى رغم ممانعة أهله وسخرية قومه به فمات في الطريق. وقد اختلفت الروايات فيه فمنها من ذكر أنه جندب بن ضمرة أو رجل من بني الليث أو رجل من بني كنانة أو من خزاعة. وهناك رواية تذكر أن الجملة في صدد جماعة من المسلمين كانوا في مكة فكتب إليهم المهاجرون حينما نزلت الآية الأولى بأنهم لم يبق لهم عذر فخرجوا فلحق بهم المشركون فقتلوا من قدروا عليه ونجا من نجا. ورواية تذكر أنها نزلت في خالد بن حرام حين هاجر إلى الحبشة فنهشته حية فمات في الطريق. وباستثناء حديث البخاري عن ابن عباس فإنه ليس شيء من الروايات الأخرى واردا في الصحاح. وبعض الروايات يقتضي أن تكون بعض الآيات أو جملة منها مكية لأن الهجرة إلى الحبشة إنما كانت أثناء العهد المكي. وبعضها يقتضي أن تكون الآيات نزلت متفرقة بل أن يكون بعض جمل من الآيات نزلت لحدتها في حين أنها وحدة تامة منسجمة، ويلحظ- بالإضافة إلى هذا ثم بالإضافة إلى ما لحظناه من بعد احتمال نزول الآيات قبل أو عقب وقعة بدر- أنه ليس فيها ما يساعد على التسليم بصحة ما جاء في الروايات من اشتراك المسلمين المتخلفين في وقعة بدر إلى جانب المشركين. وكل ما تفيده أنهم كانوا يعتذرون بكونهم مستضعفين فقط. ولقد أهدرت الآيات [88- 89] من هذه السورة دم المنافقين لأنهم لم يتضامنوا في الجهاد مع المسلمين واعتبرتهم كفارا على ما شرحناه قبل. وما روته الروايات عن المسلمين المتخلفين أشد وأبشع من ذلك. ولو كان هذا صحيحا لما كان أي معنى للاحتجاج الذي حكته الآيات عن لسانهم.

_ (1) انظر التاج ج 4 ص 85. [.....] (2) انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير.

يضاف إلى هذا كله أن أسلوب الآيات التي هي كما قلنا وحدة تامة منسجمة مطلق وشامل. والذي يتبادر لنا أن بعض أصحاب رسول الله من المهاجرين ذكروا الذين تخلفوا من المسلمين في مكة أو تذاكروا في أمرهم ومصيرهم في مناسبة ما. ولعلها كانت الآيات [88- 89] من السورة التي تهدر دم المنافقين لعدم هجرتهم في سبيل الله وتضامنهم مع المسلمين في الجهاد في هذا السبيل فاقتضت حكمة التنزيل وحي الآيات بالأسلوب الذي جاءت به. ونميل إلى القول بأن الروايات التي قد يكون بعض ما جاء فيها صحيحا من حيث الوقائع قد سيقت على هامش الآيات على سبيل التطبيق وفيها صور من السيرة النبوية في عهدها المدني. وقولنا ينطبق على حديث البخاري عن ابن عباس. وأسلوبه وفحواه يدلان بقوة على أن كلامه كان من قبيل التطبيق والاجتهاد. والله أعلم. وعلى كل حال فالآية الأولى تدل على رضوخ أناس من المسلمين وعدم هجرتهم والالتحاق بالنبي والمسلمين مع قدرتهم على ذلك إما جبنا أو تكاسلا أو إيثارا للاستمتاع بما لهم من أموال وهنيء العيش. والآية الثانية تدل على أنه كان إلى جانب هؤلاء فريق من رجال ونساء وولدان مسلمين- وهذا يعني أسر إسلامية- مغلوبين على أمرهم فعلا ولا يستطيعون عمل شيء ما. وهناك آيات أخرى تؤيد ذلك منها آية سورة الأنفال [72] التي جاء فيها هذه الجملة وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ. ومنها آية سورة الفتح هذه هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ... ومنها آية سورة الممتحنة هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ [10] وآية الفتح بخاصة صريحة بأن الذين أشير إليهم فيها هم في مكة. والآيات تنطوي كما قلنا على ما كان من واقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى

تنديد بالمسلمين الذين آثروا الرضوخ والبقاء في كنف الأعداء وعدم الهجرة مع قدرتهم عليها. بل إيجاب وتأثيم لمن لا يناضل العدو أو يهاجر لأجل التوسل لمناضلته. ولقد روى أبو داود والترمذي عن جرير بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أنا بريء من كلّ مسلم مقيم بين أظهر المشركين» «1» وفي هذا تطور تشريعي بالنسبة لظروف السيرة النبوية لأن آية الأنفال التي أوردنا نصّها آنفا والتي أشارت إلى هذا الفريق لم تتضمن التأثيم والإنذار والإلزام والإيجاب بل تضمنت إيجاب نصرتهم على المسلمين إذا استنصروهم في الدين. وكل ما تضمنته تقرير كون المهاجرين لا يتحملون تبعتهم. ولقد ظل ما انطوى في الآية الأولى محكما إلى فتح مكة الذي تمّ في السنة الثامنة للهجرة حيث روى الخمسة حديثا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه «لا هجرة بعد الفتح وإنما جهاد ونية. وإذا استنفرتم فانفروا» «2» فغدت الهجرة بعد ذلك اختيارية. وظاهر أن رفع واجب الهجرة عن المسلمين بعد الفتح متصل بظروف السيرة النبوية. لأن مكة أيضا بل معظم جزيرة العرب غدت دار إسلام خاضعة لسلطان النبي والمسلمين «3» . ويلحظ أن آيات سورة النساء [74 و 75] التي مرّ تفسيرها احتوت أمرا المتبادر أنه للمؤمنين الذين هم خارج بلد الظالمين بالقتال في سبيل الله والمستضعفين من جهة أن هذه الآيات التي نحن في صددها هي في الذين هم في بلد الظالمين. وكلتا الصورتين مما كان واقعا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الفتح.

_ (1) التاج ج 4 ص 309. (2) المصدر نفسه ص 304. (3) ننبه على أن هناك أحاديث قد توهم التناقض مع هذا الحديث منها حديثان يرويهما أبو داود أحدهما عن معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» وثانيهما عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم. ويبقى في الأرض شرارها» ومنها حديث يرويه النسائي عن النبي جاء فيه «لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار» التاج ج 4 ص 308 ولا نرى تعارضا بين هذه الأحاديث وحديث الخمسة فهي بالنسبة لمستقبل يعقد وظروف قاهرة أخرى كما هو واضح من فحواها.

ومحتوى الآيتين الثانية والثالثة متسق مع المبادئ القرآنية من عدم تحميل المسلم ما لا طاقة له به وعذره وعدم مسؤوليته وإثمه فيما لا حيلة له فيه ولا حول له عليه. ومع ذلك فإن كلمة عَسَى في مقامها ذات دلالة هامة حيث يمكن أن تفيد أن عفو الله عن المقيم في أرض الكفر والظلم بعذر ليس أكيدا وأنّ على هذا المقيم أن يبذل جهده في الخروج منها وعدم الاحتماء وراء الأعذار الخفيفة. وصيغة الآيات تشريعيّة مطلقة مثل صيغة الآيات [74 و 75] وهي مثلها مستمرة المدى والتلقين لكل ظرف مماثل بحيث توجب على المسلمين المستطيعين أن لا يقيموا في دار عدو وتحت ظلمه مستكينين إذا عجزوا عن مكافحته وإرغامه وأن يهجروها إلى دار إسلام وعدل ليتوسلوا بأسباب مكافحته وإرغامه مهما تحملوا في سبيل ذلك من مشاق وأخطار مطمئنين بوعد الله لهم بالنصر والمغفرة والأجر العظيم. وحديث أبي داود والترمذي عن جرير بصيغته المطلقة يحتوي تلقينا مستمر المدى. والأحاديث الثلاثة التي أوردناها في الذيل السابق تجعل احتمالات ذلك وواجباته مستمرة. وهناك حالات قد تحدث مما يتصل بمدى الآيات وتلقيناتها: (1) فقد يغزو عدو بلاد المسلمين ويسيطر عليها. (2) وقد يقوم ظالم طاغية يزعم الإسلام ويتصرف بما يخالفه مخالفة صريحة وشديدة فيكون ظلمه على الناس قويا ويكون حكم الإسلام وطابعه منتفيين. (3) وهناك بلاد غير مسلمة وليس بينها وبين المسلمين حالة حرب وعداء ويكون فيها مسلمون مقيمون دائما أو مؤقتا من أهلها أو طارئون. والمتبادر بالنسبة للحالة الأولى أن من واجب المسلمين أهل البلاد النضال والمقاومة بكل استطاعتهم ومهما تحملوا وعدم الهجرة منها إلّا في حالة العجز والخطر التامين ولأجل التوسل بأسباب النضال والمقاومة ضد الغزاة. وهذا كذلك يكون بالنسبة للحالة الثانية أيضا «1» . أما الحالة الثالثة فلسنا نراها مما تشمله الآيات وتلقينها من

_ (1) في تفسير القاسمي فرضت هذه الحالة وكلام للعلماء في صددها مفاده أن على المسلمين واجب الهجرة إذا لم يتمكنوا من إقامة شعائر دينهم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو إذا أراد الحاكم الظالم حمل الناس على المعاصي وترك الواجبات.

[سورة النساء (4) : الآيات 101 إلى 103]

حيث إن روح الآيات وفحواها هما في صدد الإقامة في دار كفار أعداء وظالمين بغاة. ولا سيما إذا كان المسلمون في هذه الحالة قادرين على ممارسة شعائرهم وغير راضخين لأنظمة وحالات تخالف دينهم. والله تعالى أعلم. [سورة النساء (4) : الآيات 101 الى 103] وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103) . (1) أن تقصروا: بمعنى أن تختصروا. (2) إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا: قيل في تأويلها: إن خفتم أن يأخذكم الكافرون على غرة أو يلهوكم عنهم أو يأسروكم ويردوكم عن دينكم. والجملة تتحمل كل ذلك. (3) وليأخذوا أسلحتهم: بمعنى وليحملوا أسلحتهم وهم يصلون. (4) فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلّوا فليصلّوا معك: فليتأخروا إلى الوراء حتى تأتي الطائفة التي كانت وراءكم للحراسة فتأخذ مكانهم وتصلي بدورها.

تعليق على الآية وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ... إلخ والآيتين اللتين بعدها وسنة قصر الصلاة في حالة السفر بدون خوف

(5) أن تضعوا أسلحتكم: أن لا تحملوها. (6) فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة: إذا ذهب الخوف وأمنتم فأقيموا الصلاة تامة بدون اختصار. (7) كتابا موقوتا: مكتوبة عليكم في أوقات معينة. تعليق على الآية وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ... إلخ والآيتين اللتين بعدها وسنّة قصر الصلاة في حالة السفر بدون خوف عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت: (1) إباحة اختصار الصلاة للمسلمين إذا خرجوا إلى قتال أعدائهم الكفار وخافوا أن يتعرضوا لكيدهم وعدوانهم حين انشغالهم بالصلاة. (2) وتعليما للنبي لبعض كيفيات الصلاة في حالة الخوف. (3) وتنبيها للمسلمين إلى وجوب الاحتفاظ بأسلحتهم وهم في الصلاة مع رفع الحرج عنهم في حالة المطر والمرض وإلى وجوب أخذ الحذر على كل حال حتى لا يميل عليهم الكفار ويأخذوا أسلحتهم وأمتعتهم. (4) وأمرا لهم بذكر الله على كل حال وبإقامة الصلاة في أوقاتها تامة حين الاطمئنان والأمن. والآيات فصل جديد. ولكن التناسب ملموح بينها وبين الآيات السابقة. فإما أن تكون نزلت بعدها فوضعت في مكانها للتناسب الظرفي والموضوعي وإلّا فتكون وضعت فيه للتناسب الموضوعي. ولقد روى المفسرون في سبب نزول الآيات عدة روايات منها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على رأس المسلمين في عسفان وأمامهم المشركون وعليهم خالد بن الوليد، فصلى بهم الظهر فقال المشركون: لقد أصبنا غرة أو غفلة فلو حملنا عليهم وهم في الصلاة، فنزلت الآيات بين الظهر والعصر فصلى النبي بالمسلمين العصر صلاة

الخوف على النحو الذي علّمته الآية الثانية. ومنها أن سليمان اليشكري سأل جابرا عن أي يوم نزل فيه قصر الصلاة فقال له كنّا مع رسول الله وراء عير لقريش فنزل بنخل فجاءه رجل فقال يا محمد ألا تخاف مني؟ قال: لا. قال: ما يمنعك مني؟ قال الله يمنعني منك. قال: فسلّ السيف فهدده وأوعده، ثم نادى بالترحل وأخذ السلاح، ثم نودي بالصلاة فصلّى النبي بالناس صلاة الخوف. وقد روى الترمذي الرواية الأولى بخلاف يسير عن أبي هريرة دون أن يذكر بصراحة أنه سبب نزول الآيات حيث قال «نزل النبي بين ضجنان وعسفان فقال المشركون: إن لهؤلاء صلاة هي أحبّ إليهم من آبائهم وأبنائهم وهي العصر فأجمعوا أمركم فميلوا عليهم ميلة واحدة، فأتى جبريل النبي فأمره أن يقسم أصحابه شطرين فيصلي بهم وتقوم طائفة أخرى وراءهم وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ثم يأتي الآخرون ويصلّون معه ركعة واحدة ثم يأخذ هؤلاء حذرهم وأسلحتهم فتكون لهم ركعة ركعة ولرسول الله ركعتان» «1» وهناك رواية أخرى تذكر أن قوما من التجار سألوا النبي كيف يصلّون وهم يضربون في الأرض فأنزل الله وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ فقط وانقطع الوحي حتى مرّت سنة على ذلك فغزا النبي غزوة فصلى بالمسلمين الظهر فقال المشركون لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم فشدوا عليهم فقالوا إن لهم صلاة أخرى بعدها فأنزل الله بقية الآية بين الصلاتين فصلى العصر ركعتين. وقد صف المسلمين صفين فوقف جميعهم معه وسجد الصف الأول معه وظل الثاني حارسا ثم تأخر الصف الأول وحل محله الثاني وسجد مع النبي في الركعة الثانية ولما جلس جلسوا جميعا معه وأتموا الصلاة. ورواية سؤال التجار غريبة لأنها تقسم الآية الأولى إلى فترتين مع أنها هي والآيتين التاليتين لها وحدة تامة منسجمة. ورواية عسفان متصلة بوقعة الحديبية ونرجح أن الآيات نزلت قبلها. وقد ذكرت هذه الوقعة في سور متأخرة عن هذه السورة. ولقد كانت الغزوات بقيادة النبي والسرايا بقيادة أصحابه متواصلة في العهد

_ (1) التاج فصل التفسير ج 4 ص 86.

المدني. فالمتبادر أن حادثا ما وقع في وقت مبكر نوعا ما فكان سببا لنزول الآيات جملة تامة لتكون تشريعا مستمرا. وينطوي في مضمون الآيات وروحها توكيد على عدم التهاون في أداء الصلاة في أوقاتها حتى في ظروف الخوف والخطر مع إباحة اختصارها في هذه الظروف. وفي هذا ما فيه من تلقين عظيم بما للصلاة عند الله من خطورة عظمى مما نبهنا عليه في سياق تفسير سورة العلق. ولقد روى الخمسة عن ابن عمر حديثا جاء فيه فيما جاء «فإذا كان خوف أكثر من ذلك فصلّ راكبا أو قائما تومىء إيماء» «1» . وهناك حديث رواه أصحاب السنن عن جابر قال «بعثني رسول الله في حاجة فجئت وهو يصلّي على راحلته نحو المشرق والسجود أخفض من الركوع» «2» حيث ينطوي في الحديثين توكيد واجب أداء الصلاة في أوقاتها على كل حال. ولقد روى المفسرون «3» بدون عزو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤخر الصلاة لوقت آخر إذا كان في حالة حرب أو خوف ويسمح للمسلمين بذلك إلى أن نزلت هذه الآيات. وفي هذا إن صحّ ولا مانع من صحته توكيد لخطورة ذلك الواجب. وهناك أحاديث صحيحة في كيفية صلاة الخوف التي صلاها النبي بأصحابه. منها حديث رواه الخمسة عن ابن عمر قال «صلّى رسول الله صلاة الخوف في بعض أيامه فقامت طائفة معه وطائفة بإزاء العدو فصلّى بالذين معه ركعة ثم ذهبوا وجاء الآخرون فصلّى بهم ركعة. ثم قضت الطائفتان ركعة ركعة» «4» . ومنها حديث رواه مسلم وأبو داود عن أبي بكرة قال «صلّى النبي في خوف الظهر فصفّ بعضهم خلفه وبعضهم إزاء العدو فصلّى بمن خلفه ركعتين ثم سلّم فانطلق الذين صلّوا معه فوقفوا موقف أصحابهم ثم جاء أولئك فصلّوا خلفه فصلّى بهم ركعتين ثم سلّم.

_ (1) التاج ج 1 ص 263 و 237. (2) المصدر نفسه. (3) انظر ابن كثير وغيره. (4) التاج ج 1 ص 263 و 264.

فكانت لرسول الله أربعا ولأصحابه ركعتين ركعتين» «1» والجمهور والتواتر على الكيفية الأولى وعلى أن صلاة الخوف مقصورة على ركعتين. ولقد قال بعض العلماء إن جملة وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ تفيد أن صلاة الخوف خاصة بالنبي وحياته. غير أن الجمهور والتواتر على أنها مستمرة الحكم بعده. وكلام المفسرين والأحاديث في صدد صلاة الخوف جماعة. وفي ظروف مواجهة عدو محارب. وهو المستفاد من الآيات أيضا. غير أنه يرد على البال أمران الأول أن يكون الذي يواجه الخطر واحدا وأن يكون الخطر غير خطر عدو محارب مثل لصوص وقطاع طرق إلخ ويتبادر لنا أن للمسلم أن يقصر ويصلي صلاة الخوف منفردا في أي حالات الخطر والخوف والله تعالى أعلم. ومع أن نصّ الآيات صريح بأن قصر الصلاة قاصر على ظروف الخوف من الأعداء فإن هناك آثارا تفيد أن السنة النبوية جعلته شاملا للسفر في حالة الأمن أيضا. فمن ذلك حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي عن يعلى بن أمية قال «قلت لعمر بن الخطاب ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا. وقد أمن الناس. فقال عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله عن ذلك فقال صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» «2» . والحديث يفيد أن تعميم القصر على السفر في حالة الأمن إلهام رباني وهذا هو المتواتر الذي عليه الجمهور. وهناك أحاديث نبوية تؤيد ذلك يأتي بعضها بعد هذا. وفي مدة السفر التي يصح قصر الصلاة فيها روى الخمسة عن أنس قال «خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلّي ركعتين ركعتين حتى رجعنا قال راوي الحديث عن أنس قلت ماذا أقمتم في مكة قال أقمنا عشرا» «3» وروى

_ (1) التاج ج 1 ص 263 و 264. (2) المصدر نفسه ص 265. (3) المصدر نفسه ص 265 و 266. وهناك أحاديث أخرى فيها خبر قصر النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة في السفر الأمن فاكتفينا بما أوردناه. وقد قال الشارح إن الفرسخ ثلاثة أميال والميل ألف باع. الجزء الثامن من التفسير الحديث 15

[سورة النساء (4) : آية 104]

البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عباس قال «أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يقصر. فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا وإن زدنا أتممنا» «1» وفي مسافة السفر روى البخاري «أنّ ابن عمر وابن عباس كانا يقصران ويفطران في أربعة برد وهي ستة عشر فرسخا» «2» وروى مسلم وأبو داود وأحمد عن يحيى بن يزيد قال «سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة فقال كان رسول الله إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلّى ركعتين» » وبسبب التباين في المسافة في الأحاديث اختلف الفقهاء في المسافة التي يصحّ القصر فيها فمنهم من أخذ بالمسافة الطويلة ومنهم من أخذ بالمسافة القصيرة. ويرد لبالنا أن نقول إن ما ورد في الأحاديث اختلاف وفرق كبير قد يكون كلّه صحيحا ووقع في ظروف اختلفت فيها درجة الجهد والمشقة والتعب وحالة الطريق والموسم والماء والطعام إلخ. وقد يتبادر أن هذا يظل المقياس في الأمر. وإن المسلم يوكل فيه إلى إيمانه وتقواه. فإذا شق عليه السفر وجهد في المسافة القصيرة جاز له أن يقصر والله تعالى أعلم. وهناك حديث يرويه الإمام مالك عن عائشة أنها قالت «فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في السفر والحضر فأقرّت في السفر وزيدت في الحضر» . وجملة فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ تفيد كما هو المتبادر أن القصر طارئ وليس أصيلا حيث يسوغ ذلك التوقف في الحديث. هذا والجمهور على أن القصر هو للصلوات الرباعية فقط. أي الظهر والعصر والعشاء. فتقصر على ركعتين. وإن صلاتي الفجر والمغرب تبقيان على حالهما. وهذا مستفاد من الأحاديث التي اقتصر الكلام فيها على الركعتين بدلا من الأربع. [سورة النساء (4) : آية 104] وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104) .

_ (1) المصدر السابق نفسه. [.....] (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه.

[سورة النساء (4) : الآيات 105 إلى 113]

عبارة الآية واضحة. وهي تأمر المسلمين بعدم التهاون والضعف في طلب أعدائهم وملاحقتهم وقتالهم. وتبثّ فيهم بسبيل ذلك الروح: فإذا كان ينالهم نصب وألم من ذلك فأعداؤهم ينالهم مثل ذلك مع فارق عظيم هو أنهم يرجون من نصر الله وتأييده وأجره ما لا رجاء لأعدائهم فيه. والله عليم حكيم يعلم مقتضيات كل أمر ويأمر بما فيه الحكمة والسداد. وقد روى المفسرون أن الآية نزلت في مناسبة انتداب النبي للمسلمين عقب وقعة أحد وحينما بلغة أن قريشا تفكر في الكرة عليهم للخروج إليهم ليثبتوا لهم أنهم غير هائبين منهم أو في مناسبة انتداب النبي المسلمين للخروج إلى بدر حيث واعدهم أبو سفيان باللقاء في العام القابل بعد الوقعة المذكورة. وقد تلكأ بعض المسلمين بسبب ما كان يشعر به من ألم وتعب «1» . وهذه الروايات لم ترد في الصحاح ولسنا نرى لها مناسبة في مقام الآية. ويتبادر لنا أنها ليست منقطعة عن السياق السابق الذي فيه دعوة إلى الجهاد والهجرة ومراغمة العدو والحذر منه وتنديد بالمثبطين والمترددين وأنها جاءت معقبة وداعمة لذلك. والله أعلم. ومع اتصال الآية بظروف السيرة النبوية فإنّ فيها تلقينا مستمر المدى في إطلاق عبارتها حيث تظل تهتف بالمؤمنين في كل ظرف ومكان بأن لا يتوانوا في مكافحة أعدائهم الذين يظل التفوق لهم عليهم بإيمانهم بنصر الله وأعداؤهم يفقدون هذا الإيمان الذي يمدّ صاحبه بقوة عظمى. [سورة النساء (4) : الآيات 105 الى 113] إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113) .

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن والطبرسي.

(1) خصيما: مخاصما ومدافعا ومجادلا عنهم. (2) يختانون أنفسهم: يخونون أنفسهم ويضرونها بما يفعلون من أفعال سيئة. (3) خطيئة أو إثما: قال بعضهم إن الأولى تعني السيئة الصغيرة، والثاني يعني السيئة الكبيرة. وهو وجيه لأنه لا بدّ من أن يكون بينهما فرق. في هذه الآيات: (1) خطاب موجّه للنبي صلى الله عليه وسلم ينبه فيه إلى أن الله إنما اختاره وأنزل عليه الكتاب بالحق والصدق ليحكم بين الناس بما علمه الله وينهاه فيه عن الدفاع عن الخائنين المذنبين والمجادلة عن الذين يورطون أنفسهم ويظلمونها بالخيانة. فالله لا يحبّ الخوان الأثيم. وعليه أن يستغفر الله مما كاد أن يقع فيه. (2) ونعي على الخائنين الذين يرتكبون الإثم والخيانة ثم يستترون من الناس ويحاولون التلبيس عليهم خشية منهم وحياء في حين أنهم أولى أن يخشوا الله ويستحيوا منه لأنهم لا يستطيعون أن يستتروا منه ويخفوا إثمهم عنه. وعليهم أن يذكروا أنه معهم ومحيط بأعمالهم وأقوالهم حينما يتآمرون بالسرّ في الطريقة التي يخفون بها جرائمهم وأنه لا يمكن أن يرضى عنها.

تعليق على الآية إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ... إلخ والتي بعدها لآخر الآية [113]

(3) والتفات إلى النبي والمسلمين التفاتا ينطوي على التنديد والتثريب: فعلى فرض أنهم جادلوا عن الخائنين في الدنيا فنجحوا ونجوا من العقوبة الدنيوية فمن الذي يجادل عنهم يوم القيامة ويكون وكيلا عليهم أمام الله وينقذهم من العقوبة الأخروية. وهو محيط بحقائق ما فعلوا ولا تخفى عليه صغيرة ولا كبيرة. (4) وتقريرات في الموقف تنطوي على التعقيب على ما احتوته الآيات الثلاث الأولى: (1) فمن يعمل سوءا أو يورط نفسه ويظلمها باقتراف الإثم ثم يستشعر بخطئه ويندم ويستغفر الله فإن الله يشمله بغفرانه ورحمته. (2) ومن يرتكب إثما فإنه لا يضرّ به في الحقيقة إلّا نفسه. لأن الله عليم بكل شيء حكيم، لا يمكن أن يكون منه إلّا الحق والحكمة. (3) ومن يرتكب ذنبا كبيرا كان أو صغيرا ثم يرمي به الأبرياء فإنه يكون قد ارتكب بهتانا عظيما وإثما مبينا حيث يكون قد اقترف جريمتين معا وهما جريمة الذنب وجريمة إلصاقه بالأبرياء. ثم احتوت الآية الأخيرة التفاتا تعقيبيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: فالله قد شمله بفضله ورحمته. وبصّره بالأمور. ولولا ذلك لحاول بعض الذين هم موضوع الكلام السابق أن يلبسوا عليه ويضللوه بأقوالهم ومزاعمهم. ولكنهم لن يستطيعوا ذلك ولن يخدعوا إلّا أنفسهم ولن يضروه في شيء. وكل ذلك بفضل الله العظيم عليه ورحمته به وما آتاه من الكتاب ووهبه من الحكمة وعلمه ما لم يكن يعلمه. تعليق على الآية إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ ... إلخ والتي بعدها لآخر الآية [113] والآيات فصل جديد. ومع ذلك فإنه يلمح شيء من التناسب بينها وبين

بعض الفصول السابقة التي احتوت حكاية مواقف مكروهة لبعض الفئات. وإذا لم تكن قد نزلت بعد الآيات السابقة ووضعت في ترتيبها بسبب ذلك فتكون قد وضعت فيه بسبب هذا التناسب على ما هو المتبادر. روى المفسرون في سبب نزول هذه الآيات رواية رواها الترمذي عن قتادة بن النعمان وهذا نصّها «قال قتادة سرق طعام وسلاح لعمّي رفاعة بن زيد فأخبرني بذلك فسألنا وتحسّسنا في الدار فقيل لنا إنهم بنو أبيرق وهم بشير وبشر ومبشّر وكان بشير منافقا يهجو أصحاب النبيّ بالشعر وينسبه إلى غيره. وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام فأتيت النبي فأخبرته والتمست منه ردّ السلاح فقط فقال سآمر في ذلك. فسمع بنو أبيرق بهذا فأوفدوا إلى النبي أسيد بن عروة فقال يا رسول الله بنو أبيرق منّا أهل صلاح وإسلام يرمون بالسرقة من غير بيّنة. قال قتادة فكلمت النبي ثانيا فقال رميت بالسرقة أهل بيت فيهم إسلام وصلاح من غير بيّنة ولا ثبت. فرجعت وتمنيت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلّم رسول الله فجاءني عمي فأخبرته بما قال لي رسول الله فقال الله المستعان. فلم يلبث أن نزل القرآن إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ إلى آخر الآيات. فلما نزلت أتي رسول الله بالسلاح. قال قتادة وكنت أشكّ في إسلام عمّي رفاعة لأنه كان شيخا قد عصى في الجاهلية فلما أتيته بالسلاح قال يا ابن أخي هو في سبيل الله فعرفت أن إسلامه كان صحيحا» «1» . وقد روى الطبري الذي روى هذا الحديث روايات أخرى في نزول الآيات. منها أن درعا سرقت لجماعة من الأنصار كانوا في غزاة فاتهموا بها طعمة بن أبيرق وكان هو سارقها فلما رأى أنه سيفتضح عمد إلى الدرع فألقاها في بيت رجل بريء من الأنصار أو من اليهود وأخبر قومه فجاؤوا إلى النبي وقالوا له إن صاحبنا بريء وطلبوا أن يجادل عنه فأنزل الله الآيات. ومنها أن يهوديا استودع طعمة درعا فدفنها في الأرض وجاء اليهودي فطلبها فأنكرها طعمة وكان بعض عشيرة اليهودي يعرفون مخبأها فخشي طعمة من الفضيحة فأخرجها وألقاها في دار

_ (1) التاج ج 4 ص 86- 87

أنصاري آخر. ورفع اليهودي الأمر إلى النبي فجاء قوم طعمة يبرئونه ويطلبون الجدال عنه فأنزل الله الآيات. ومنها أن رجلا استودع طعمة مشربة فيها درع فلما عاد لم يجد الدرع ورمى طعمة بها رجلا من اليهود وجاء قوم طعمة فكلموا النبي في براءة صاحبهم وكادوا أن يقنعوا النبي بأيمانهم وتزويقهم الكلام وتنويههم بإسلامهم حتى كاد يحكم بقطع يد اليهودي ثم عصمه الله ولم تلبث الحقيقة أن ظهرت ببراءة اليهودي وخيانة طعمة وتضليل قومه وأنزل الله الآيات في ذلك. والروايات متسقة مع فحوى الآيات. وصحتها محتملة. وإن كان ينبغي القول إن الرواية التي يرويها الترمذي هي التي ينبغي أن تكون الأقوى احتمالا. وفي الروايات صور عن المجتمع الإسلامي في العهد النبوي المدني، وقد تضمنت الآيات إشارات إليها. وواضح أن الآيات لم ترد لحكاية الحادث وإنما اتخذت حكمة التنزيل وسيلة مناسبة للتأديب والتعليم والتحذير والعظة والإنذار وإيقاظ الضمير وبعث الشعور بخشية الله ومراقبته وتقواه في القلوب. وهو الأسلوب القرآني المتميز على ما نبهنا عليه مرارا عديدة. وقد تجلّت فيها صورة رائعة من العصمة النبوية في إعلان ما أوحي إليه من عتاب. وانطوت على تلقينات جليلة ومبادئ قضائية وأخلاقية سامية مستمرة المدى من ذلك: (1) إن على القاضي أن يجعل الحق والصدق هدفه في جميع مواقفه وأن يدقق فيما يعرض عليه فلا يأخذ بظواهر الأمور ولا ينخدع بتزويق الخصوم وعليه أن يحذر تلبيسهم ولا ينساق بأي اعتبار غير اعتبار الحق والعدل والحقيقة. ولا يتسرع في تصديق فريق وتبرئته والدفاع عنه. وأن يرجع عن الخطأ إذا ما ظهر له. (2) إن على المسلم أن يذكر دائما أن الله تعالى مطلع على حقائق الأمور ولا يخفى عليه خافية. وأنه لا يجديه أن يلبس على الحق والحقيقة ويخدع الناس عنهما فإنه إنما يزداد بذلك إثما عند الله. وعليه أن يذكر أن له بين يدي الله موقفا لا يستطيع أحد أن يجادل عنه فيه.

(3) إن من يرتكب ذنبا فإنه في الحقيقة إنما يضرّ به نفسه. (4) إن الأجدر بمن يتورط في إثم أن يبادر إلى الاعتراف والندم واستغفار الله. وهو واجد عند الله حينئذ الرحمة والغفران. (5) إن الذي يرتكب إثما ثم يرمي به بريئا يجمع بين كبيرتين فيكون قد ارتكب إثم الذنب وإثم البهتان. (6) إن على المسلمين أن يستنكروا الجرائم والخيانات وأن لا يساعدوا المجرمين والخائنين بأي شكل إخفاء وتستيرا أو دفاعا وتبريرا مهما كانت الأسباب والصلاة التي تصل بينهم وبين المذنب. ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا قال إن البخاري ومسلم روياه عن أم سلمة قالت «سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم جلبة خصم بباب حجرته فخرج إليهم فقال ألا إنما أنا بشر وإنما أقضي بنحو مما أسمع ولعلّ أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له فمن قضيت له بحقّ مسلم فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو يذرها» «1» وحديثا قريبا من هذا رواه الإمام أحمد عن أم سلمة كان المخاطب به رجلان من الأنصار اختصما إلى رسول الله في مواريث بينهما. ومما جاء فيه «أنهما لما سمعا ما قاله رسول الله بكيا وقال كلّ منهما: حقي لأخي، فقال رسول الله أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما ثم توخّيا الحقّ بينكما ثم استهما ثم ليحلل كلّ منكما صاحبه» «2» . وقد انطوى في الحديثين تلقين جليل مستمر المدى وصورة

_ (1) ورد هذا الحديث في التاج برواية الخمسة عن أم سلمة بهذه الصيغة «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن من بعض فأقضي له على ما أسمع فمن قضيت له بحق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار» التاج ج 3 ص 61. (2) في التاج حديث رواه أبو داود عن أم سلمة مقارب لهذا الحديث وهذا نصّه «أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجلان يختصمان في مواريث لهما ليست لهما بينة إلّا دعواهما فقال النبي من قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار فبكى الرجلان وقال كل منهما حقي لك. فقال لهما النبي أما إذا فعلتما ما فعلتما فاقتسما وتوخّيا الحق ثم استهما ثم تحالّا وفي رواية إنما أقضي بينكما برأيي فيما لم ينزل عليّ فيه» التاج ج 3 ص 59.

من صور أخلاق أصحاب رسول الله ودلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحكم فيما يرفع إليه من خلاف بالاجتهاد بعد أن يسمع لقول الطرفين. ولقد وقف بعض المتكلمين عند أمر الله تعالى النبي بالاستغفار في الآية [106] وقالوا بجواز وقوع الذنب منه. لأن الاستغفار إنما يكون عن ذنب. ورد عليهم مخالفوهم فقالوا إن النبي لم يقع منه ذنب وإن موقفه في الحادث إنما كان موقف القاضي الذي قد يخدع بالأيمان وتزويق الكلام وشهادة الزور وإن أمر الله إياه بالاستغفار هو لأنه أوشك أن يقع منه خطأ في القضاء فيحكم على البريء ويبرىء المتهم نتيجة لذلك. وأن هذا ليس ذنبا «1» . وفي هذا ما هو ظاهر من صواب ووجاهة وحق. فقد عصم الله تعالى نبيه من الذنب والمعصية وكل ما يجوز أن يصدر منه اجتهاد في أمر لا يكون هو الأولى والأصح في علم الله فيعاتب عليه وينبه إلى ما هو الأولى. وقد مرّ من ذلك بعض الأمثلة في سور عبس والأحزاب والأنفال. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستغفار لا يأتي هنا لأول مرة. فقد جاء في سور عديدة سبق تفسيرها وعلقنا على الموضوع بصورة عامة في سياق آية سورة غافر [55] التي هي أولى الآيات التي ورد فيها وأوردنا من بعض الأحاديث المروية في ذلك فنكتفي بهذا التنبيه. ونصّ الآية [110] جدير بالتنويه لما فيه من دعوة المذنبين المسيئين إلى الاستغفار وتأميل لهم بغفران الله إذا استغفروا أي تابوا وطلبوا الغفران من الله. وينطوي في هذا هدف سام من أهداف الإسلام وهو استغفار الإنسان وصلاحه. وقد شرحنا هذا في سياق شرحنا مدى الاستغفار والتوبة. في سورتي المزّمل والبروج فنكتفي بهذا التنبيه أيضا. ولقد توقف بعض المفسرين والأصوليين عند الفقرة الأولى من الآية الأولى لأنه ليس في القرآن شيء صريح محدد في الحادث الذي نزلت فيه الآيات. فهناك

_ (1) انظر تفسير الخازن.

[سورة النساء (4) : الآيات 114 إلى 115]

من قال إن فيها تفويضا للنبي بالاجتهاد بعد أن صار أهلا لذلك بنزول كتاب الله عليه. وإن هذا أمر خاص به. وإن للنبي أن يجتهد فيما يعرض له من أحكام ويحكم بما يلهمه الله بناء على ذلك. وهناك من رأى فيها دليلا على جواز الرأي والقياس والاجتهاد مطلقا «1» . والذي يتبادر لنا أن الآية بسبيل أمر النبي بالحكم بما يلهمه الله في نطاق الكتاب المنزل عليه الذي يأمر بالحق والعدل وتحرّيهما. ويمكن أن يفسر هذا بمعنى التفويض في الاجتهاد في هذا النطاق. وأن الخطاب وإن كان موجها للنبي صلى الله عليه وسلم فلسنا نرى أئمة المسلمين وحكامهم وقضاتهم خارجين عن شموله. حيث يكون لهم الاجتهاد فيها يعرض عليهم من قضايا ليس فيها نصوص صريحة قطعية ومحددة. وحيث يكونون ملزمين بأن يكون اجتهادهم في نطاق ميادين كتاب الله وسنة رسوله وتلقيناتهما. والله تعالى أعلم. [سورة النساء (4) : الآيات 114 الى 115] لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115) . (1) النجوى: التسارر والاجتماعات السرية وأصلها الاجتماع والكلام بين اثنين أو أكثر في نجوة عن الناس. (2) معروف: هنا بمعنى كل ما تعارف عليه جمهور المسلمين أنه خير ونافع وليس فيه معصية ومنكر. (3) سبيل المؤمنين: يمكن أن يكون القصد من التعبير الإيمان بالله ورسوله والتزام أوامرهما ونواهيهما ويمكن أن يكون القصد هو ما يكون عليه جمهور

_ (1) انظر تفسير الآيات في تفسير رشيد رضا والقاسمي.

تعليق على الآية لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ... إلخ والآية التالية لها واستطراد إلى مسألة إجماع المسلمين وسبيلهم

المسلمين من أمور موافقة لكتاب الله وسنّة رسوله. في الآيتين بيان على سبيل التحذير والعظة بأنه لا خير في كثير مما يدور في الاجتماعات السرية التي يجتمع فيها الناس بعيدين عن أعين الرقباء إلا إذا كان الهدف صدقة تعطى. أو معونة تبذل. أو معروفا يؤمر به. أو إصلاحا بين الناس. وبأن الذين يستهدفون مثل هذه الأهداف في اجتماعاتهم ابتغاء وجه الله ورضائه لهم الأجر العظيم عند الله. أما الذين يستهدفون مكايدة النبي ومشاققته بعد ما ظهر لهم ما ظهر من الحق والهدى ويسيرون في غير الطريق القويم الذي يسير فيه المؤمنون الصالحون والذي هو التزام ما أمر الله ورسوله به واجتناب ما نهيا عنه فإن الله يجعل أعمالهم السيئة ونياتهم الخبيثة تحيق بهم كما يجعل مصيرهم في الآخرة جهنّم وساءت هي من مصير. تعليق على الآية لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ... إلخ والآية التالية لها واستطراد إلى مسألة إجماع المسلمين وسبيلهم قال بعض المفسرين «1» إن الآيتين تتمة للسياق السابق ولقد جاء في حديث الترمذي الذي أشرنا إليه قبل هذه العبارة «فلما نزلت الآيات لحق بشير بن أبيرق بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد بن سمية فنزلت وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى الآية فرمى حسان بن ثابت سلافة بأبيات من الشعر فلما بلغتها أخذت رحل بشير ورمت به وقالت أهديت لي شعر حسان. ما كنت تأتيني بخير» . وعلى هذا فتكون الآيتان متصلتين بالآيات السابقة ومنطويتين على تعقيب على الحادث. غير أننا نلمح من الآية الثانية أن الآيتين في صدد أمر أعمّ من الحادث. وقد

_ (1) انظر تفسير الخازن والطبرسي والطبري.

يكونان فصلا جديدا متصلا بالآيات التالية لهما. وفيهما على كل حال صورة من صور العهد النبوي في المدينة من حيث إنه كان هناك مرضى نفوس ومخامرون يعقدون المجالس السرية للمكايدة والمشاقّة. ومن هنا يكون بين الآيتين والآيات السابقة تناسب قد يكون سبب وضعهما في مكانهما إذا لم يصح ما ذكره المفسرون من صلتهما بحادث ابن أبيرق وصحّ ما ذكرناه من صلتهما بالآيات التالية. وفي الآيتين تلقينات جليلة مستمرة المدى حيث انطوى فيهما قصد تهذيب أخلاق المسلمين وتنقية قلوبهم وتوجيههم في وجهة الحق والبرّ والمعروف والإصلاح في سرّهم وعلنهم وفي اجتماعاتهم الخاصة والعامة. وتجنيبهم مواقف المكايدة والانشقاق والانحراف التي لا يجوز للمسلم أن يتورط فيها. وتنبيههم إلى ما في الاجتماعات السرية من شبهة التآمر والكيد ووجوب مراقبة الله فيها. وتقبيح الشذوذ عن السبيل القويم والرأي الحقّ الذي يكون عليه المسلمون والذي يكون في نطاق أوامر الله ورسوله ونواهيهما وتلقيناتهما. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأولى بعض أحاديث نبوية. منها حديث رواه ابن مردويه والترمذي وابن ماجه عن محمد بن يزيد قال: دخلنا على سفيان الثوري نعوده فدخل علينا سعيد بن حسان فقال له الثوري الحديث الذي كنت حدثتنيه عن أم صالح ردّده عليّ فقال حدثتني أم صالح عن صفية بنت شيبة عن أم حبيبة قالت «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام ابن آدم كلّه عليه إلّا ذكر الله عزّ وجلّ أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، فقال سفيان أو ما سمعت الله في كتابه يقول لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ فهذا هو» «1» ومنها حديث أخرجه الحافظ البزار عن أنس قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي أيوب ألا أدلّك على تجارة قال بلى يا رسول الله قال تسعى في إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا وتقارب بينهم إذا تباعدوا» وفي الأحاديث تساوق تلقيني مع الآية كما هو واضح. وهناك أحاديث يصحّ أن تساق أيضا في صدد ما انطوى في الآية الثانية من

_ (1) الشطر الأول من الحديث ورد في التاج برواية الترمذي، انظر ج 5 ص 167.

لزوم سبيل المسلمين وعدم الشذوذ عنها. من ذلك حديث رواه أبو داود عن أبي ذرّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» «1» ومن ذلك ثلاثة أحاديث رواها الطبراني أحدها عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لن تجتمع أمتي على ضلالة فعليكم بالجماعة فإنّ يد الله على الجماعة» «2» وثانيها عن أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «يد الله على الجماعة فإذا شذّ الشاذّ منهم اختطفه الشيطان كما تختطف الذئب الشاة من الغنم» وثالثها عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «عليك بتقوى الله والجماعة وإياك والفرقة فإنها هي الضلالة وإنّ الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة» «3» . والآية الثانية جديرة بالتأمل من وجهة أخرى أي من وجهة كون الإنذار فيها موجها إلى الذين يشاقون الرسول ويشذون عن سبيل المسلمين عن عمد وبينة. بحيث يرد على البال أنه لا يشمل من يفعل عن جهالة وعماء. على أن من الحق أن يقال إن على الذين لا يعرفون وجه الحق والهدى في أمر ما يجب عليهم للنجاة من الإنذار أن يسألوا أهل العلم فيه. ولهم أن يطلبوا البرهان على ما يقولونه لهم وإن الذين لا يفعلون ذلك ويفضلون البقاء على ما هم عليه من جهالة وعماء وعدم تبين وجه الحق والهدى يدخلون في شمول الإنذار أيضا. ولقد أوّل بعضهم تعبير سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ في الآية الثانية بأنه الإيمان بالله ورسوله والتزام أوامرهما ونواهيهما. وأوله بعضهم بأنه ما اتفق عليه جمهور المسلمين من حق ومصلحة. والتعبير يتحمل التأويلين بل ليس بينهما تعارض. والآية التي جاء فيها التعبير وإن كانت متصلة بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته فإنها مستمرة التلقين للمسلمين بعده، شأن أمثالها الكثيرة بحيث تكون قد انطوت على الإنذار الرهيب لمن يشذ ويسير في طريق غير طريق كتاب الله وسنة رسوله وصالح المسلمين.

_ (1) التاج ج 5 ص 280. (2) مجمع الزوائد ج 5 ص 218 و 219. (3) المصدر نفسه.

ولقد قال بعض المفسرين إن في الآية حجة لوجوب اتباع (الإجماع) وعدم جواز مخالفته. وعزا بعضهم ذلك إلى الإمام الشافعي. وليس المقصود بهذا الإجماع معناه اللغوي. بل ذلك الاصطلاح الفقهي الذي يجعله الأصل الثالث من أصول التشريع الإسلامي. فالأصل الأول هو القرآن والثاني هو سنّة رسول الله والثالث هو إجماع علماء المسلمين أو مجتهديهم أو من وصفوا (بالقادرين على استنباط الأحكام من مآخذها) على ما ليس فيه نصوص محكمة ومحددة في القرآن والسنّة من مختلف الشؤون حيث تكون مخالفة ما يجمعون عليه حراما ويدخل في نطاق الإنذار الذي احتوته الآية. وهذا وجيه من دون ريب لأنه يصحّ أن يدخل في متناول تعبير سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ حسب التأويل الثاني لهذا التعبير مع التنبيه إلى أن هذا التعبير بالتأويل المذكور واسع الشمول ويتناول فيما يتناوله ما يتفق عليه علماء المسلمين ومجتهدوهم من شؤون سياسية وعسكرية وتنظيمية فيها مصلحتهم. ومن الجدير بالذكر في هذه المناسبة أن المستفاد من بحوث العلماء أنه ليس هناك اتفاق على شروط الإجماع وعلى أوصاف الجماعة التي يحصل الإجماع باتفاقها. وأن الإجماع الاصطلاحي المذكور ظلّ وسيظل نظريا وأنه لم يتحقق عمليا وليس من سبيل إلى ذلك وأنه لم يكد يوجد مسألة فقهية إلّا وفيها خلاف وأنه نتيجة لذلك انقسم المسلمون في عباداتهم وفي معاملاتهم إلى مذاهب عديدة منها ما يجمعه جامعة السنيّة ومنها ما يجمعه جامعة الشيعية بل ومنها ما يجمعه جامعة الخوارج الذين لا يزال منهم فرقة إلى اليوم تعمل به، وبعضها يوجب ما لا يوجبه بعضها وبعضها يجيز ما لا يجيزه بعضها، وبعضها يستكره ما يستحبه بعضها، وبعضها يحرّم ما يحلّه بعضها، وبعضها يحلّ ما يحرّمه بعضها، وبعضها يفسق بعضها بل يكفره «1» .

_ (1) انظر رسالة الإجماع في الشريعة الإسلامية لعلي عبد الرزاق وننبه على أننا لا نقول ما قلناه على سبيل التجريح والتثريب إطلاقا. فنحن نعرف ونعترف أن اختلافات أئمة الفقه ومجتهديه مستندة إلى النصوص القرآنية والنبوية والراشدية والصحابية التي ليست صريحة قطعية وقياسا على الأمثال والأعراف واستنباطا منها. وهذا مما يؤجر عليه المصيب والمخطئ منهم إذا كان مقصده الحق وخدمة الشريعة الإسلامية دون الهوى ونصرته، وقد تكون نتيجة ذلك علم الفقه الإسلامي الذي يصح أن يكون مثلا جليلا عالميا بما نبغ فيه من علماء وبما احتواه من بحوث واستنباطات دقيقة وفروض وحلول لمختلف المشاكل. وإنما نقوله تقريرا للواقع. [.....]

ومن جهة أخرى فإن الباحثين لا يدخلون أهل الحلّ والعقد والعلم الدنيوي في عداد الجماعة التي ينيطون بها ملكة القدرة على استنباط الأحكام من مأخذها ويجعلون إجماعها أصلا من أصول التشريع حيث يحصرون ذلك في المشتغلين بالعلوم الدينية مع أن تعبير سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ يتناول كما قلنا قبل الشؤون السياسية والعسكرية والتنظيمية التي يكون لرأي أهل الحل والعقد والعلم الدنيوي أثر مهم فيها. وبناء على ذلك كلّه تظل ضرورة تعيين السبيل التي يجب على المسلمين اتباعها والتي تنذر الآية الشاذين عنها ملحة في كل وقت وقطر بالنسبة لما لم يرد فيه شيء صريح أو قطعي أو محدد في القرآن والسنن النبوية من مختلف الشؤون التعاملية والسياسية والعسكرية والتنظيمية. ولما كان الإجماع على ذلك غير ممكن، وبقاء المسلمين مختلفين مذاهب وشيعا في ذلك على النحو الذي ذكرناه ضارا كل الضرر ومخالفا لتقريرات القرآن والسنّة النبوية ومعطلا لتعيين سبيل المسلمين الواجب على المسلمين اتباعها فلا بدّ من الأخذ بما يتفق عليه الأكثرية. وسبيل ذلك الشورى التي وصف الله المسلمين بأنها من خصائصهم في آية سورة الشورى [38] حيث جاء فيها وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ. وهذا المقام هو أوسع المقامات لتحقيق هذا الوصف حيث يجتمع ممثلو المذاهب الفقهية في مجالس خاصة فيبحثون المسائل الخلافية في العبادات والمعاملات فما اتفق عليه أكثرهم مما ليس فيه مناقضة لصريح القرآن والسنّة صار سبيل المسلمين في هذه المسائل

[سورة النساء (4) : الآيات 116 إلى 122]

ووجب اتباعه وحيث يجتمع ممثلو العلوم والشؤون الدنيوية في مجالس خاصة فيبحثون المسائل الدنيوية السياسية والعسكرية والتنظيمية فما اتفق عليه أكثرهم مما ليس فيه كذلك مناقضة لصريح القرآن والسنة صار سبيل المسلمين في هذه المسائل ووجب اتباعه. وقد يفيد أن يكون في مجالس شورى الفقهاء بعض ذوي العلم الدنيوي وقد يفيد أن يكون في مجالس شورى العلماء الدنيويين بعض ذوي العلم الديني لأنّ الإسلام دين متكامل يجمع بين الشؤون الدينية والدنيوية. والله تعالى أعلم. [سورة النساء (4) : الآيات 116 الى 122] إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122) . (1) إناثا: قيل إنها تعني الأوثان عامة حيث كان العرب يسمون أوثانهم إناثا. وقيل إنها تعني أوثانهم المؤنثة الأسماء بخاصة كاللات والعزى ومناة ونائلة. وقيل إنها تعني الأموات لأن العرب كانوا يسمون الأموات وما لا روح فيه من حجر وخشب ومعدن إناثا. وقيل إنها كناية عن الملائكة الذين كانوا يشركونهم مع الله لأنهم بنات الله في زعمهم سبحانه وتعالى عن ذلك. والعبارة في

تعليق على الآية إن الله لا يغفر أن يشرك به ... إلخ. والآيات التالية لها إلى آخر الآية [122] ومدى المراد من تغيير خلق الله

مقامها تتحمل كل هذا «1» . (2) مريدا: متمردا. (3) فليبتكن: من البتك وهو الشقّ أو الخرق. (4) فليغيرن خلق الله: القصد من الجملة ما كان يفعله العرب في الحيوانات والأرقاء من خصي وكي ووشم إلخ. وقيل إن القصد منها تغيير فطرة الله ودينه. والقول الأول هو الأوجه في مقام الجملة وهو متناسب مع البتك. (5) محيصا: مهربا ومخلصا. (6) قيلا: قولا. تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ... إلخ. والآيات التالية لها إلى آخر الآية [122] ومدى المراد من تغيير خلق الله عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تقريرا بعدم إمكان غفران الله للمشرك به مع ما هناك من أمل في هذا الغفران لغير المشرك. وتقريرا بشدة خسران المشرك وضلاله البعيد وسخفه. لأنه إنما يدعو من لا قدرة له على نفع وضرر، بل لأنه في الحقيقة إنما يدعو الشيطان المتمرد على الله الذي آلى على نفسه أن يضلّ من قدر عليه من عباد الله بالأماني الباطلة والتغريرات الخادعة. وأن يجعلهم- فيما يجعلهم- أن يشقوا آذان الأنعام وأن يغيروا خلق الله ويشوهوه. وتقريرا بكون مصير الذين ينخدعون به فيدعون غير الله ويغيرون خلق الله جهنّم بينما يكون مصير الذين لا ينخدعون به ويؤمنون بالله ويعملون الأعمال الصالحة الجنات التي وعدهم الله بها وليس من أحد أصدق قولا وأوفى وعدا من الله. ولقد روى المفسرون روايتين في نزول الآية الأولى. إحداهما تذكر أنها

_ (1) انظر تفسير الطبري الذي ورد فيه جميع هذه الأقوال وقد أوردها مفسرون آخرون بعده انظر ابن كثير والطبرسي والخازن مثلا. الجزء الثامن من التفسير الحديث 16

نزلت في ابن أبيرق بشير أو طعمة الذي نزلت فيه الآيات السابقة والذي ارتدّ ولحق بالمشركين لتؤذن أنه لن يكون له مغفرة من الله. وثانيتهما تذكر أنها نزلت في شيخ أعرابي جاء إلى رسول الله يقول إني منهمك في ذنوب كثيرة ولكن لم أشرك بالله شيئا منذ عرفة وإني تائب فما حالي فنزلت بالبشرى له. والروايتان لم تردا في الصحاح. وتقتضيان أن تكون الآية الأولى نزلت منفردة في حين أنها مع الآيات التالية لها وحدة تامة مستقلة، وبتك آذان الأنعام وتغيير خلق الله بالكي والخصي والوشم من عادات الجاهلية بحيث يرد على البال أن حديثا جرى في صدد ذلك أو حادثا وقع من ذلك أو سؤالا ورد على ذلك في الظرف الذي سبق نزول الآيات فأوحى الله بالآيات لتعلن أن كلّ ذلك من وساوس الشيطان الذي يوحي بها إلى المشركين. ولتشنّع على الشرك وتنذر المشركين وتنوه بالمؤمنين الذين يعملون الصالحات بالمقابلة وتبشرهم بالجنة. وقد وضعت في مكانها لأنها نزلت بعدها. وقد يكون ذكر ارتداد ابن أبيرق أو جاء الأعرابي ليسأل عن حاله فتليت الآية الأولى فالتبس على الرواة الذين رووا الروايتين. والله أعلم. ولقد ورد في سياق سابق صيغة قريبة لصيغة الآية الأولى وهي الآية [48] حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت التكرار لتكرار المناسبة مما جرى عليه التنزيل القرآني. على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. ولقد جاءت الآية [48] في سلسلة في حق اليهود لتلبسهم بموقف شرك شديد البشاعة. وجاءت هنا في حقّ مشركي العرب. ولقد علّقنا على الآية [48] وأوردنا طائفة من الأحاديث في صدد غفران الله لغير المشركين وأوردنا تعليقا لبعض المفسرين على ذلك فلم يعد محلّ للإعادة والزيادة في صدد مدى الآية. ولقد أوردنا معاني كلمة إِناثاً التي رواها المفسرون في مكان شرح كلمات الآيات وقلنا إن الكلمة قد تتحمل كل هذه المعاني فنكتفي بهذا التنبيه. وقد يكون استعمال الكلمة في مقامها قد قصدت زيادة التشنيع والإفحام من حيث إنه

كان يقوم في أذهان المخاطبين لأول مرة وهم العرب قناعة بعجز الإناث عن أي عون مجد. وهذا المعنى ملموح في آيات أخرى جاءت في صدد مثل هذا الصدد. مثل آيات الزخرف هذه أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) [16- 18] . وحكاية أقوال الشيطان في الآيتين [118 و 119] التي تفيد أن الشيطان يزعم أنه سوف يؤثر على فريق من الناس ويزين لهم ويغويهم قد تكررت في آيات سابقة وبخاصة في سياق حكاية قصة آدم وإبليس. وقد علقنا على ذلك في سياق هذه القصة في سورة ص وغيرها بما يغني عن التكرار. والإيمان بكل ما يخبر به القرآن من مثل هذه الأمور الغيبية واجب على ما نبّهنا عليه في مناسبات مماثلة مع واجب الإيمان بأن لذكرها بالأسلوب الذي جاءت به حكمة. وقد تكون حكمتها في مقام الآيات التي نحن في صددها إيذان المشركين بأنّ ما هم عليه من هذه العادات الفاسدة هي من وساوس الشيطان وتغريراته ولقد كانوا يعرفون ماهية الشيطان وكونه متمردا على الله وكونه ملعونا من الله وكون الذين يستمعون لوساوسه وتغريراته مدموغين بالفساد والانحراف عن الحقّ والهدى فاستحكم فيهم التنديد القرآني. وواضح أن الآيات قد تضمنت إعلان بطلان هذه العادات الجاهلية وفسادها وتحذيرا للمسلمين منها في الوقت نفسه. والعادات التي حكت الآيات أنها من وساوس الشيطان وتغريراته نوعان: نوع متصل بالأنعام ومتمثل هنا ببتك آذانها. ونوع عام هو ما عبر عنه بجملة فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ولقد أشار القرآن في آيات سورة الأنعام [135- 144] التي مرّ تفسيرها إلى بعض عادات متصلة بالأنعام كان ينسبها المشركون إلى الله افتراء وشرحناها وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار، وفي سورة المائدة هذه الآية ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103) حيث احتوت إشارة إلى عادات عديدة أخرى

للمشركين في الأنعام وينسبونها إلى الله ومنها البحيرة التي تعنيها جملة فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ في الآية التي نحن في صددها حيث كانوا يثقبون أو يبتكون أو يبحرون آذان النوق التي تنتج خمسة بطون ويخلون سبيلها على ما شرحناه أيضا في سياق تفسير آيات الأنعام. وقد روى المفسرون أحاديث تفيد أن أول من سنّ هذه العادات ومنها بتك آذان الأنعام أبو خزاعة عمرو بن عامر وأن رسول الله قال إنه يجر قصبته في النار ويتأذى أهل النار بنتن رائحته بسبب ذلك. ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن ابن عباس وغيره في مدى جملة وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ منها أنها عنت تغيير دين الله وتبديل فطرة التوحيد. وأيد القائلون قولهم استنادا إلى آية الروم هذه فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [30] ومنها أنها عنت الخصي والوشم والوشر وتفليج الأسنان ووصل الشعر. وأورد القائلون حديثا رواه البخاري عن عبد الله أنه قال «لعن الله الواشمات والموتشمات والنامصات والمتنمّصات والمتفلّجات للحسن المغيّرات خلق الله. فبلغ ذلك امرأة من بني أسد تسمّى أمّ يعقوب فجاءت فقالت بلغني أنك لعنت كيت وكيت فقال ومالي لا ألعن من لعن رسول الله. ومن هو في كتاب الله. فقالت لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول قال لو قرأتيه لوجدتيه أما قرأت وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] . قالت بلى. قال فإنه قد نهى عنه. قالت فإني أرى أهلك يفعلونه قال فاذهبي فانظري فذهبت فنظرت فلم تر من حاجتها شيئا» «1» . ومنها أنه التخنّث وهو أن يتشبه الرجل بالنساء في حركاتهن وكلامهن ولباسهن. وقد رجح الطبري القول الأول. غير أن العادات الأخرى ألصق بمعنى تغيير خلق الله وأكثر تناسبا مع جملة فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ فيما هو المتبادر. ولقد أورد المفسرون في سياق الآيات أحاديث أخرى. فمما أورده القاسمي

_ (1) التاج ج 4 ص 230 و 231.

منها حديث رواه الإمام أحمد وابن عساكر عن ابن عمر قال «نهى رسول الله عن الإخصاء وفي رواية عن خصاء الخيل والبهائم» وحديث رواه الطبراني عن ابن مسعود قال «نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يخصى أحد من ولد آدم» وحديث رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوشم» ومما أورده الخازن حديث عن أسماء قالت «لعن النبي صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة» . ومما أورده الطبري حديث عبد الله جاء فيه «لعن رسول الله الواشرات بالإضافة إلى المستوشمات المتنمصات المتفلجات» . وباستثناء الحديث الذي رواه البخاري ليس شيء من هذه الأحاديث واردا في الصحاح. وأكثرها مع ذلك من باب ما رواه البخاري. وتعليقا على ذلك نقول إن موضوع الآيات الأصلي هو تعظيم الشرك ثم تقرير كون المشركين إنما يدعون الشيطان الذي يجعلهم يعملون هذه العادات وإن الأولى أن يبقى الأمر مربوطا بعضه ببعض. وأن تؤخذ الأحاديث كتعليمات نبوية للمسلمين منفصلة عن مدى الآيات. وإن على المسلمين أن يلتزموا بما ثبت منها. وعلى احتمال أن يكون النهي عن الخصاء صادرا عن النبي صلى الله عليه وسلم نقول إن الحكمة فيه ظاهرة لأن فيه تشويها وتعطيلا لمهمة الإخصاب التي أودعها الله في الإنسان وجعلها وسيلة لحفظ النوع. أما عدا ذلك مما كانت تفعله المرأة للتزين من وشم وتنمّص ووصل شعر وتطويله وتفلّج «1» فلا تبدو حكمة النهي عنه لنا ظاهرة. والتنمّص يقرب من تقليم الأظفار حينما تطول ومن حلق شعر الرأس والعانة ونتف شعر الإبط. وكان هذا مع التمشط والتدهن بالطيب والتكحل مما كان يمارسه النساء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بدون حرج في غير وقت الحداد على ما تفيده الآثار التي منها حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أم عطية قالت «كنا ننهى أن نحدّ على ميت فوق ثلاث إلّا على زوج أربعة أشهر وعشرا ولا نكتحل أثناء ذلك

_ (1) التنمّص: هو نتف شعر اليدين والساق. والتفلّج: هو تفريق الأسنان عن بعضها للتحسين.

ولا نتطيب ولا نلبس ثوبا مصبوغا» «1» وهناك أحاديث نبوية تحثّ المرأة على التزين. منها حديث رواه النسائي وأبو داود عن عائشة قالت «إنّ امرأة أومأت من وراء ستر، بيدها كتاب إلى رسول الله فقبض يده وقال ما أدري أيد رجل أم امرأة. قالت بل يد امرأة قال لو كنت امرأة لغيّرت أظفارك بالحنّاء» «2» وحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن جابر قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم أمهلوا حتى تدخلوا لكي تمتشط الشعثة وتستحدّ المغيبة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره أن يأتي الرجل أهله طروقا» «3» . وهذا ما يجعلنا نتوقف أمام الحديث المروي عن عبد الله والذي عزي فيه لعن الواشمات والمتنمصات والمتفلّجات إلا إذا كان قصد بذلك المبالغة حتى يبدو تشويها أكثر منه تزيينا. ولقد روى الطبري «أن رجلا سأل الحسن ما تقول في امرأة قشرت وجهها قال مالها لعنها الله غيّرت خلق الله» حيث ينطوي في هذا صورة لما كان بعض النساء يفعلن في وجوههن بالتنمص أو غيره حتى يقشرنها قشرا. وهناك أحاديث تبيح خضاب اللحية بل تستحبه. منها حديث رواه البخاري وأبو داود عن ابن عمر قال «كان النبي يلبس النعال السبتية ويصفر لحيته بالورس والزعفران» «4» وحديث رواه أصحاب السنن جاء فيه «قال أبو رميثة أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وأبي وكان قد لطخ لحيته بالحناء» «5» وحديث رواه هؤلاء أيضا عن أبي ذر قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم إن أحسن ما غيّر به هذا الشيب الحناء والكتم» «6» وبعضهم يرى حلق اللحية الحديث الشائع هو من تغيير خلق الله. ونحن لا نرى ذلك من ناحيتين: من ناحية الآية التي تربط الشرك وتغيير خلق الله برباط واحد بحيث لا يجوز أن يوصم مسلم يؤمن بالله وحده بالشرك بسبب حلق ذقنه. ومن ناحية الأحاديث لأنها تذكر

_ (1) انظر التاج ج 2 ص 330 والحديث يفيد أن ذلك كان مباحا للنساء في غير وقت الحداد. (2) التاج ج 3 ص 157. (3) التاج ج 2 ص 288 و 289 أي لا تتعجلوا الدخول في الليل على زوجاتكم وأعطوهن فرصة للتمشط والاستعداد. والاستحداد حلق شعر العانة بالحديدة أي السكينة. (4) التاج ج 3 ص 157. (5) المصدر نفسه. (6) المصدر نفسه.

[سورة النساء (4) : الآيات 123 إلى 126]

أشياء بأعيانها وليس لأحد أن يتجاوز ذلك. والله تعالى أعلم. [سورة النساء (4) : الآيات 123 الى 126] لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126) . في الآيات: (1) تقرير بأن مصير الناس في الآخرة لن يكون وفقا لأماني السامعين ولا أماني الكتابيين وظنونهم ورغباتهم، وبأن من يعمل السوء لا بد من أن يجزى عليه بما يستحق دون أن يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا، وبأن من يؤمن بالله ويعمل صالحا من ذكر أو أنثى يدخل الجنة دون أن يبخس من حقه شيء. (2) وتساؤل على سبيل الاستطراد والحثّ والتنويه عما إذا كان يصح أن يكون أحد أحسن دينا ومنهجا ممن أسلم وجهه لله وأخلص له وحده واتبع ملّة إبراهيم المستقيمة الموحدة الذي اتخذه له خليلا. (3) وتقرير استطرادي وتعقيبي بأن لله ما في السموات وما في الأرض وأنه محيط بكل شيء. ومحص لكل عمل يصدر من أي كان فلا تخفى عليه خافية ولا يفلت منه أحد. تعليق على الآية لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ والآيات الثلاث التي بعدها روى المفسرون روايات متعددة الطرق والصيغ والأسماء متفقة المدى في نزول الآيات يستفاد منها أن جدلا جرى بين فريق من أهل الكتاب وفريق من

المسلمين حول الأقرب إلى الله تعالى والأولى به من الفريقين حيث قال الكتابيّون كتبنا وأنبياؤنا أسبق وقال المسلمون نبيّنا خاتم الأنبياء وكتابنا مهيمن على كتبكم وشريعتنا أو فى الشرائع ونحن مؤمنون بكتبكم وأنبيائكم وأنتم غير مؤمنين بكتابنا ونبيّنا فنحن الأقرب والأولى. وهناك رواية تذكر أن الآية الأولى نزلت بسبيل الردّ على قريش التي كانت تنكر الآخرة وحسابها وعلى الكتابيين الذين كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى. وليس شيء من الروايات واردا في الصحاح ومع ذلك فالآيات متناسبة معها بحيث يمكن القول إنها نزلت في مناسبة مماثلة لتقرر الحق في الموقف الجدلي أو التفاخري ولتنبه على أن رضاء الله ورحمته إنما ينالا بالإيمان والعمل الصالح وليس بالتفاخر والآمال والادعاء. والآية [125] احتوت ثناء على من اتبع ملة إبراهيم. وهي منسجمة في الآيات بحيث يمكن القول إنها جزء منها. ولقد كان يقوم جدل بين النبي والكتابيين حول ملّة إبراهيم وأولى الناس به وحكي ذلك في آيات سورة آل عمران [65- 68] التي مرّ تفسيرها. ومن الجائز أن يكون الكلام في الجدل الجديد تطرق إلى ذلك فاقتضت حكمة التنزيل بيان كنه ملّة إبراهيم التوحيدية الإسلامية والتنويه بأن أحسن الناس هم الذين يسلمون وجوههم له ويتبعون هذه الملّة حيث يبدو أن رواية الجدل بين المسلمين والكتابيين هي الأكثر ورودا كسبب لنزول الآيات. وعلى ضوء آيات سورة آل عمران يمكن القول بأن الآيات انطوت على تقرير أولوية وأفضلية النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به على أهل الكتاب الذين هم طرف في الموقف الجدلي لأنهم هم الذين اتبعوا هذه الملة. ومن الممكن أن يلمح شيء من الصلة بين موضوع هذه الآيات والآيات السابقة فإما أن تكون قد نزلت هذه بعد تلك فوضعت مكانها للتناسب الظرفي والموضوعي. وإما أن تكون وقعت بعدها للتناسب الموضوعي والله تعالى أعلم. وعلى كل حال فالآيات قوية حاسمة في التعبير والتقريب والتلقين كما هو واضح فلا يصح لامرىء أن يركن على الدعوى والأمانيّ والانتساب والظواهر.

وعلى كل إنسان أن يتأكد من أنه ملاق جزاء عمله إن خيرا فخيرا وإن سوءا فسوءا. وأن النهج القويم الذي يرضى الله عنه ولا نهج خيرا منه هو إسلام النفس لله عز وجل ونبذ سواه والعمل الصالح في اتباع ملّة الإسلام المستقيمة التي هي ملة إبراهيم عليه السلام. وتقرير كون كل امرئ ملاقيا جزاء عمله بدون ظلم خيرا كان أو سوءا مما تكرر في القرآن كثيرا بل ومما دار عليه كل هدف قرآني بالنسبة لحياة الإنسان في الدنيا والآخرة. ولقد كان كثير من العرب والكتابيين ينتسبون إلى إبراهيم فاستحكمت الآيات في الجميع فالانتساب إلى إبراهيم لا يفيد إلا باتباع ملته. وكل دعوى خلاف ذلك باطلة. وهذا المعنى مما تضمنه وهدف إليه كثير مما جاء في قصص إبراهيم عليه السلام على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة عديدة. ولقد أورد المفسرون أحاديث عديدة تذكر أن المسلمين فزعوا من الآيات وراجعوا النبي في صددها واعتبروها من أشد آيات القرآن عليهم وأن النبي صلى الله عليه وسلم هدّأ روعهم وطمأنهم وبشّرهم. ولم يرد من ذلك في الكتب الخمسة إلا حديث واحد رواه الترمذي عن أبي هريرة قال «لما نزل مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ شقّ ذلك على المسلمين فشكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال قاربوا وسدّدوا. ففي كل ما يصيب المؤمن كفارة حتى الشوكة يشاكها أو النكبة ينكبها. حتى إن العبد ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير» «1» ويلحظ أن في القرآن المكي آيات فيها من التقرير الحاسم ما في هذه الآيات مثل آيات سورة الزلزلة فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) وآية سورة فصلت مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) . ويبدو أن الآية الجديدة قد شقت على المستجدين في الإسلام في العهد المدني، الذين كانت لهم من المصالح والمشاغل الدنيوية ما يؤثر في سلوكهم فأفرغتهم وجعلتهم يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم فاقتضت حكمته هذا التطمين الذي في الحديث مع الترجيح أن الكفارة

_ (1) التاج ج 4 ص 88.

[سورة النساء (4) : الآيات 127 إلى 130]

التي تكون في ما يصاب به المسلم هي بالنسبة للهفوات الصغيرة التي وعد الله بالتجاوز عنها للمسلمين إذا ما اجتنبوا الكبائر على ما جاء في الآية [31] من هذه السورة والله أعلم. وبمناسبة جملة وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا روى المفسرون روايات عديدة في سبب ذلك ليس منها شيء معزوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو واردا في كتب الصحاح. ومن ذلك أنه أجدب وضاق على أهله العيش فخرج يلتمس رزقا وعاد دون فائدة فوجد عند أهله خبزا فقالوا له هذا من الدقيق الذي أرسله خليلك. ومنها أن جبريل أو الملائكة بشّروه بأن الله اتخذه خليلا لأنه يعطي الناس دون أن يسألهم. ولعل ذلك مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وزمنه كأمثاله من قصص إبراهيم عليه السلام. ويتبادر لنا أن الله قد أذن في هذه الآية بأنه اتخذ إبراهيم خليلا لما كان من إخلاصه له وإسلام النفس إليه وتوحيده توحيدا لا شائبة فيه. وهو ما وصف به في آيات قرآنية عديدة منها آيات سورة النحل [130- 132] التي فيها تقرير كون الله اجتباه وأتاه في الدنيا حسنة. وفي الاجتباء معنى من معاني الخلّة التي منها الخليل. والله تعالى أعلم. [سورة النساء (4) : الآيات 127 الى 130] وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130) . (1) وأحضرت الأنفس الشحّ: الجملة استطرادية معترضة تشير في معرض

تعليق على الآية ويستفتونك في النساء ... إلخ والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من أحكام وتلقين

الكلام عن الصلح إلى ما انطبعت عليه نفوس الناس من الشح والضنّ وعدم التسامح ويصدق ذلك على الزوج والزوجة معا. تعليق على الآية وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ ... إلخ والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من أحكام وتلقين في الآية الأولى: (1) حكاية استفتاء النبي من قبل بعض المسلمين في أمر النساء. (2) وجواب بأن الله سوف يفتيهم فيهن وفي ما أنزل الله في الكتاب من قبل في يتامى النساء اللاتي يريدون أن يتزوجوهن ولا يريدون في الوقت نفسه أن يعطوهن حقهن الذي كتب الله لهن. ثم في الأولاد المستضعفين. (3) وتنبيه بأن الفتيا هي أن يقوموا لليتامى بالقسط فلا يظلموهم على أي حال. (4) وتحذير لهم بأن الله يعلم كل شيء من أعمالهم ونواياهم. في الآية الثانية وما بعدها تتمة الجواب في أمر النساء تنطوي على مايلي: (1) إذا خافت إحدى النساء أن يعرض عنها زوجها ويهملها فلا مانع من صلح يعقده الزوجان بينهما والصلح خير على كل حال مهما كان الإنسان مطبوعا على الشحّ وعدم التسامح مع تنبيه الأزواج إلى وجوب تقوى الله والتصرف بالحسنى في هذه الحالة وإلى كون الله خبيرا بما يعملون على سبيل التحذير. (2) وإذا كان الأزواج لن يستطيعوا حقا أن يعدلوا بين زوجاتهم فلا يجوز لهم أن يميلوا كل الميل لواحدة دون أخرى منهن فيذروا هذه كالمعلقة ليست زوجة وليست مطلقة. وعليهم على كل حال أن يسيروا فيما فيه الإصلاح وتقوى الله فإن فعلوا فالله الغفور الرحيم قد يغفر ما قد يبدو منهم من بعض الميل. (3) وإذا لم يمكن إصلاح ولا عدل بقدر الإمكان فخير للزوجين أن يتفرقا

عن بعضهما والله الواسع الحكيم ييسّر لكل منهما ما يجعله مستغنيا عن الآخر. والآيات فصل جديد. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت في مكانها للتناسب الظرفي. روى المفسرون في صدد الآية الأولى روايات عديدة. منها أنه لما نزلت آيات المواريث شقّ على الناس أن يرث الأطفال والنساء الذين ليس لهم جهد في مال وعمل وكثيرا ما كانوا يحرمون من الإرث في الجاهلية ففاتحوا النبي في الأمر فنزلت. ومنها أنه كان لجابر بن عبد الله بنت عم دميمة عمياء ولها إرث من أبيها فلم يرد أن ينكحها ومنع أن ينكحها غيره حتى لا يذهب بمالها فسأل النبي في الأمر فنزلت. ومنها أن الذي يكون في حجره يتيمة لها مال نكحها أو أنكحها ابنه بدون صداق إن كانت جميلة وإن كانت دميمة منع زواجها حتى تموت ويرثها فأنزل الله الآية. ومنها أنّ الآية توضيح للآية الثالثة من السورة وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى النساء [3] حيث كانوا يرغبون في التزوج باليتيمات اللائي في حجورهم إذا كان لهن مال وكانوا لا يؤتونهن صداقا وكن يتعرضن للاضطهاد إذا كن دميمات فرفع الأمر للنبي فأنزل الله الآية «1» . ورووا في صدد الآيات الأخرى أنها نزلت في الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها فتقول أجعلك في شأني في حلّ. أو نزلت في سودة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم حيث خشيت أن يطلقها النبي فقالت لا تطلقني وامسكني واجعل يومي لعائشة ففعل فنزلت الآية فما اصطلحا عليه فهو جائز. أو في رافع بن خديج الذي كانت عنده زوجة كبيرة فأراد أن يتزوج ثانية جميلة ويؤثرها على القديمة فقال لها إن شئت أن تقيمي على ما ترين من أثرة فأواسيك وأنفق عليك فأقيمي وإن شئت خليت سبيلك «2» وباستثناء الروايتين الأولى والثانية الواردتين في صدد الآيات

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير. وهناك روايات أخرى من باب المروي مع اختلاف في الصيغ والأسماء. (2) انظر كتب التفسير السابقة التي فيها روايات أخرى من باب الروايات.

التالية للأولى واللتين رواهما الشيخان والترمذي «1» فليس شيء من الروايات واردا في الصحاح. والروايات والأحاديث الصحيحة متساوقة إجمالا مع فحوى الآيات ولكنها لا تفسر كل ما فيها على ما هو المتبادر. وعلى كل حال ففي الآيات على ضوء الأحاديث والروايات صور لما كان من مواقف كانت تصدر من بعض الرجال إزاء الأيتام من بنين وبنات وإزاء الزوجات بدون مراعاة لما نبهت عليه آيات سابقة في السورة هي الآيات [2 و 3 و 6 و 11- 14 و 19- 21] فاقتضت حكمة التنزيل توكيد ذلك في الآيات التي نرجح أنها نزلت جميعها معا محل الأمور العارضة. ولقد قال بعضهم إن جملة ما كُتِبَ لَهُنَّ تشمل الصداق والإرث معا حيث كانوا يتزوجون اليتيمات بدون صداق ولا يؤتونهن إرثهن وهذا وجيه سديد. ولقد احتوت الآيات الثانية والثالثة والرابعة تنظيما للعلاقة الزوجية في بعض حالاتها كما هو واضح. ولقد احتوت آيات السورة [34 و 35] معالجة حالة نشوز الزوجة فجاءت هذه الآيات لمعالجة حالة نشوز الزوج. وفيها تشجيع على إقامة صلح بين الزوجين ولو بشيء من التضحية والتغلّب بذلك على طبقة شح النفس تفاديا من الطلاق وتنبه على أن لا يلجأ إليه إلّا في حالة تعذر استمرار الحياة الزوجية بصورة ما. وهذا متسق مع التلقينات التي تضمنتها آيات البقرة [224- 232] والنساء [19- 21 و 35] . ويتبادر أن الآيات الثلاث متصلة بشكل ما بموضوع الآية الثالثة من هذه السورة التي تضمنت إباحة جمع الرجل في عصمته زوجتين وثلاثا وأربعا ثم حذرته من عدم العدل وأمرته بالاكتفاء بواحدة تفاديا من الظلم فجاءت الآيات الثلاث توضح ما حذرت منه وتقرر تعذره. ولكنها لا تمنع التعدد بالمرة لما قد يكون هناك من ضرورة ملزمة إليه وتوصي بعدم الميل الشديد إلى الواحدة دون الأخرى في حالة تلك الضرورة الملزمة إلى التعدد والتي شرحنا بعض وجوهها في سياق شرح

_ (1) الرواية الأولى رواها الشيخان عن عائشة كما جاء في التاج ج 4 ص 88 والثانية رواها الترمذي كما جاء في نفس المصدر.

آية النساء الثالثة. وفي هذا ما فيه من جليل الحكمة والتلقين. وفي الروايات وبخاصة رواية رافع بن خديج صورة من تلك الضرورة الملزمة فزوجته كبيرة وغير مشتهاة ولم ير بدّا من التزوج بأخرى صغيرة. وكان من الطبيعي أن يؤثر هذه على تلك. فرضيت الكبيرة بالبقاء في عصمته مع التنازل عن شيء من حقوقها الزوجية كراهية للطلاق. ولقد روى الطبري في سياق تطبيق هذه المسألة صورة أخرى وهي أن رجلا أتى إلى علي بن أبي طالب يستفتيه في جملة وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فقال قد تكون المرأة عند الرجل فتنبو عيناه منها من دمامتها أو فقرها أو كبرها أو سوء خلقها فتكره فرقته فإن وضعت له من مهرها شيئا حلّ. وإن تنازلت عن بعض أيامها لزوجة أخرى له فلا حرج. وإذا رجعت عما رضيت عنه فعليه أن يرضيها أو يطلقها لأنه لا يجوز له أن يمسكها خسفا وظلما. وعبارة الآيات الثلاث وإن كانت كما قلنا لا تمنع التعدد بالمرة فإنها تنطوي على ذلك فيما يتبادر لنا في حالة عدم الضرورة الملزمة إليه. فهي هنا تقرر استحالة استطاعة الأزواج العدل مهما حرصوا. وآية النساء الثالثة تأمر بالاكتفاء بواحدة إذا كان العدل غير محتمل أو غير ممكن. ويلفت النظر بخاصة إلى ما انطوى في الآيات من حثّ على الإحسان والإصلاح وتحبيذ الصلح وتقرير الخير فيه. وتقوى الله وعدم الانسياق مع ميول النفس حيث يتسق هذا مع ما تكرر توكيده في القرآن من تعظيم الرابطة الزوجية واحترامها والإبقاء عليها ما أمكن وبأية وسيلة كانت. وعدم حلها إلّا إذا استنفدت كل وسيلة. حيث يكون الفراق حينئذ خيرا للطرفين. وهو ما عنته الفقرة الأخيرة من الآية الأخيرة بأسلوبها البليغ النافذ الهادف إلى تخفيف مرارة الفراق على الطرفين وتأميل كل منهما بفضل الله ورحمته وسعته. وهذا فضلا عن ما فيها من تلقين جليل يجعل ذلك أسلوبا عاما لتعامل المسلمين فيما بينهم. ولقد رويت أحاديث عديدة في صدد الآية الثانية وما بعدها منها حديث رواه

أصحاب السنن عن أبي هريرة جاء فيه «قال النبي صلى الله عليه وسلم من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقّه مائل» «1» وحديث ثان رواه كذلك أصحاب السنن عن عائشة قالت «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ويقول اللهمّ هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك» «2» وحديث ثالث رواه البخاري وأبو داود وأحمد عن عائشة أيضا قالت «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضّل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا وكان قلّ يوم إلّا وهو يطوف علينا جميعا فيدنو من كلّ امرأة من غير مسيس حتى يبلغ التي هو يومها فيبيت عندها» «3» . وهكذا يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الأمر. وبخاصة في وجوب بذل الجهد في العدل بين الزوجات. وفي الحديث الثاني توضيح لمعنى دقيق وهو أن الميل القلبي هو غير العدل الفعلي الذي لا ينبغي أن يحول الأول الذي قد يكون طبيعيا دونه. وليس في الأحاديث تبرير للتعدد. وإنما بسبيل معالجة المعايشة الزوجية في حالة قيامه. ويبقى تلقين الآية بالامتناع منه ما أمكن واردا ما دام العدل غير مستطاع مهما حرص المرء عليه. ولقد روى الطبري أن عمر بن الخطاب كان إذا جاءه ولي اليتيمة فإن كانت حسناء فتية قال له زوّجها غيرك والتمس لها من هو خير منك. وإن كانت دميمة لا مال لها قال له تزوجها فأنت أحق بها. وروي عن علي بن أبي طالب أنه جاءه رجل قال له ماذا تأمرني يا أمير المؤمنين في أمر يتيمتي فقال له إن كنت خيرا لها فتزوجها وإن كان غيرك خيرا لها فألحقها بالخير. حيث يصح أن يستأنس بذلك فيقال إن لأولي أمر المسلمين وقضاتهم أن يتدخلوا في هذه الأمور ويأمروا ويقضوا بما هو الأولى في نطاق تلقينات كتاب الله وسنة رسوله كما هو الشأن في الأمور الزوجية والأسروية الأخرى على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة استئناسا بالصيغ والعبارات القرآنية وما كان من مراجعات الزوجات والأزواج للنبي صلى الله عليه وسلم وقضاؤه في أمورهم. والله أعلم.

_ (1) التاج ج 2 ص 294- 295. [.....] (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه.

[سورة النساء (4) : الآيات 131 إلى 134]

[سورة النساء (4) : الآيات 131 الى 134] وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134) . عبارة الآيات واضحة. وليس فيها موضوع خاص. ولم يرو المفسرون شيئا في نزولها. ولقد تكرر في الآيات السابقة تنبيه السامعين المؤمنين إلى وجوب التقوى. فالمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت ردفها بهذه الآيات وتعقيبا لها لتؤكد ذلك عليهم وتقول لهم إن الله وصّاهم بتقوى الله كما وصّى الذين أوتوا الكتاب من قبلهم ولتنبههم في الوقت نفسه إلى أن هذا لمصلحتهم وخيرهم. لأن الله غني عن الناس إذا لم يتقوه وكفروا. وهو في الوقت نفسه حميد لهم إذا أمنوا وأخلصوا. وله ما في السموات وما في الأرض وهو يستطيع إذا شاء أن يذهب بالموجودين من الناس ويأتي بغيرهم. وإنه إذا كان من الناس من يهتم لمنافع الدنيا ومتاعها فإنهم إذا اتقوه وأخلصوا له يسّر ذلك لهم بالإضافة إلى ثواب الآخرة فهو مالك الدنيا والآخرة، وعنده ثوابهما وهو السميع لكل شيء البصير بكل شيء. والآيات قوية في ردفها وتعقيبها وهدفها وقد جاءت مطلقة لتوكيد وجوب تقوى الله في جميع الأعمال والمواقف وتطمين من يفعل ذلك بفضل الله وثوابه في الدنيا والآخرة. مما هو متسق مع الأسلوب القرآني البليغ النافذ. ولقد أورد رشيد رضا في سياقها حديثا قدسيا رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه «يقول الله يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضرّي فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم قاموا في صعيد واحد فأعطيت كل واحد مسألته

[سورة النساء (4) : آية 135]

ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي إنما هي هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها. فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلّا نفسه» . وفي الحديث حقائق عن ذات الله تعالى نؤمن بها. وقد تكرر تقريرها في القرآن بأساليب متنوعة والحكمة الملموحة في الحديث تنبه الناس والمسلمين بخاصة أن أعمالهم هي العائدة لهم حسب ما تكون من خير وشر وأن عليهم إذا أرادوا لأنفسهم الخير أن يتقوا الله فيها. [سورة النساء (4) : آية 135] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) . (1) وإن تلووا: قال المؤولون إنها بمعنى محاباة الحكام لأحد الخصمين، كما قالوا إنها بمعنى ليّ اللسان بتحريف الشهادة والدعاوى وقد يكون هذا هو الأوجه، وهو ما عليه الجمهور. في الآية أمر موجه إلى المؤمنين: (1) بأن يكونوا شديدي الاهتمام للعدل والحق والتزامهما في كل حال وفيما يطلب من شهادة وقول في صددهما. (2) وبأن لا يراقبوا في ذلك إلّا الله تعالى وحده ولو كانت الشهادة وقول الحقّ على نفس الواحد منهم أو على أبويه أو ذوي قرباه. وبقطع النظر عن أي اعتبار. وعن كون الذي يشهد بالحق عليه ويقال كلمة العدل في حقه غنيا يخشى منه أو فقيرا يشفق عليه فالله أولى بهما منه. (3) وبأنّ عليهم في أي حال التزام هذا النهج وعدم اتباع الهوى والعاطفة وجعلهما مؤثرين فيما يجب عليهم من الحق والعدل. فالله سبحانه يعلم حقائق الجزء الثامن من التفسير الحديث 17

تعليق على الآية يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط ... إلخ

الأمور والنوايا وعليهم أن يتقوه ويحذروه ولا يغيروا أو يبدلوا أو يكتموا الشهادة أو يحرفوها أو يعرضوا عن القول الحق والعمل العدل وتوطيدها في أي حال. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ... إلخ ولقد روى الطبري عن السدي أن الآية نزلت تأديبا للنبي صلى الله عليه وسلم حيث تخاصم عنده غني وفقير فكان ميله نحو الفقير باجتهاد أن الفقير لا يمكن أن يكون ظالما للغني وروى الطبري إلى هذا أنها في صدد قضية بني أبيرق وما كان من اتجاه النبي إلى تبرئتهم بسبب تزويقهم الكلام مما أوردنا تفصيله قبل. والروايات لم ترد في الصحاح. ويلحظ في صدد القول بصلة الآية بحادث بني أبيرق أن سياق هذا الحادث قد انتهى وجاءت بعده فصول لا علاقة لها به. ويلحظ في صدد رواية السدي أنه لو كانت الآية في موقف النبي من الخصومة بين الغني والفقير لكان الخطاب فيها موجها له كما كان الأمر في حادث بني أبيرق على ما جاء في الآية [105] وما بعدها. والذي يتبادر لنا أن الآية جاءت هي الأخرى معقبة كسابقاتها على فصل الاستفتاء في النساء ويتاماهن حيث احتوت بدورها توكيدا بوجوب تقوى الله ومراقبته في حقوق الناس وعدم التلاعب فيها بأي سبب واعتبار. وفي التلقينات التي احتوتها الآية من الجلالة والروعة ما يجعلها من أمهات الآيات القرآنية المحكمة في بابها. وغرة وهاجة السناء في جبهة الشريعة الإسلامية حيث تأمر بأسلوب قوي نافذ وحاسم وموجه إلى العقل والقلب معا بما يجب على المسلمين في كل ظرف ومكان وسواء في ذلك أفرادهم وجماعاتهم وحكامهم من قول الحق والشهادة بالحق وتسويد الحق على كل اعتبار وعاطفة ومصلحة خاصة ولو على أنفسهم أو والديهم أو أقربائهم ودون خوف من أحد أو شفقة على أحد. والتضامن في ذلك أشد تضامن وأقواه. على اعتبار أن قوة البنيان الاجتماعي

[سورة النساء (4) : الآيات 136 إلى 147]

والطمأنينة الاجتماعية ومصلحة الأفراد والجماعات منوطة به وقائمة عليه. وعلى اعتبار أن استشعار كل فرد بواجب الإنصاف في كل موقف وحال هو أقوى عماد لصلاح المجتمع وقوته وسعادته. [سورة النساء (4) : الآيات 136 الى 147] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141) إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147) . (1) ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين: قال الزمخشري في تأويلها:

تعليق على الآية يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله ... إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [147] وما فيها من مواقف المنافقين

ألم نتمكن من أمركم أو قتلكم فأبقينا عليكم ولم نساعد المسلمين عليكم وثبطناهم عنكم! والاستحواذ بمعنى الإحاطة والحيازة. وروى الطبري عن أهل التأويل أنها بمعنى (ألم نكن نثبط عنكم المسلمين أو ألم نكن أعلناكم أنا معكم عليهم) . ومما يرد في البال أن يكون معنى الجملة (ألم نحل دونكم ودون المسلمين الذين كانوا قادرين عليكم ونمنعكم بذلك منهم) . (2) يخادعون الله وهو خادعهم: تعبير وهو خادعهم أسلوبي للمشاكلة وللمقابلة على الجملة السابقة. من قبيل ومكروا ومكر الله. (3) مذبذبين: حائرين، أو متموجين، أو مترددين. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ... إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [147] وما فيها من مواقف المنافقين عبارة الآيات واضحة. وهي فصل جديد. ويلحظ أنها بدأت بخطاب موجه إلى المؤمنين. وهذا ما بدأت به الآية السابقة لها. ولعلها وضعت بعدها لهذا التناسب اللفظي عند تأليف السورة بقطع النظر عن التناسب الظرفي. لأن من المحتمل كثيرا أن تكون المواقف المذكورة فيها قد نزلت في وقت مبكر وقبل أن يشمل التنكيل جميع اليهود في المدينة على ما سوف يأتي شرحه. وفي كتب التفسير روايات وأقوال كثيرة في هذه الآيات: فقد رووا أن الآية الأولى نزلت بمناسبة قول عبد الله بن سلام ورفاقه من مسلمة اليهود إننا نؤمن بالقرآن والتوراة وبموسى فقط فأنزل الله الآية للتنبيه على أن على المؤمن برسالة النبي أن يؤمن بكل ما أنزل الله قبله بالإضافة إلى ما أنزله الله عليه. وأن الآية الثانية في حق اليهود الذين آمنوا بموسى ثم كفروا وعبدوا العجل ثم آمنوا ثم كفروا. وفي حق النصارى الذين آمنوا بموسى والأنبياء بعده وكفروا بمحمد أو أنها في حق المنافقين الذين تكررت دعواهم بالإيمان ونقضها بما فيه كفرهم. وأن الآية [140]

نزلت في المنافقين الذين كانوا يجلسون إلى أحبار اليهود الذين كانوا يستهزئون بالقرآن وفيها توكيد بوجوب عدم مجالستهم. ومن المفسرين من روى أن المقصود من كلمة (الكافرين) في الآيات [139 و 141 و 144] المشركون ومنهم من روى أن المقصود اليهود. وليس شيء من ذلك واردا في الصحاح. والمتبادر لنا من مضمون الآيات وروحها أنها وحدة تامة ولم تنزل منفصلة كما يقتضي ذلك الروايات. وهذا ما جعلنا نعرضها في سياق واحد وأنها في حقّ المنافقين في الدرجة الأولى. وأن سبب نزولها هو مواقف المنافقين وتآمرهم مع اليهود وتذبذبهم أولا وما كان يبدو من فريق من المسلمين المخلصين من ميل أو تضامن أو موالاة للمنافقين أو اليهود ثانيا. وأن الآيتين الأولى والثانية جاءتا تمهيدا لما احتوته بقية الآيات من صور وتنديد وتحذير. وأن تأويل كلمة (الكافرين) في الآيات باليهود هو الأوجه. وأن المخاطبين في الآية [140] هم فريق من المؤمنين المخلصين. وأن هذه الآية والآية [144] قد جاءتا استطرادا لتنبيه وتحذير هذا الفريق من مجالسة المنافقين أو اليهود ثم من تولي اليهود من دون المؤمنين والله تعالى أعلم. ولقد كان بنو قريظة آخر من نكل بهم في المدينة من اليهود وكان بنو قينقاع وبنو النضير منهم قد أجلوا عنها. وكل هذا قد تمّ قبل نهاية السنة الهجرية الخامسة. وعلى هذا فعلى أقل تقدير تكون هذه الآيات قد نزلت قبل التنكيل ببني قريظة الذي كان بعد وقعة الخندق إن لم يكن قبل جلاء بني النضير الذي كان بعد وقعة أحد. على ما شرحناه في سياق تفسير سورتي الأحزاب والحشر. والصورة التي احتوتها الآية [141] تدل على ما كان عليه المنافقون من خبث ومخامرة. حيث كان شأنهم التربّص والذبذبة بين المخلصين والكفار الذين رجحنا أنهم كفار اليهود وحيث كانوا للأولين يقولون إذا كان النصر في جانبهم إنهم معهم وإذا كان في جانب الآخرين إنهم لم يكونوا ليحرزوا ما أحرزوه لو لم يحولوا بين المسلمين وبينهم.

والآية [139] تدلّ على أن المنافقين ظلوا متمسكين بقوة بما كان بينهم وبين اليهود من ولاء وحلف فنددت بهم بالسؤال الاستنكاري فيها عما إذا كانوا يبتغون من ذلك العزة مع أن العزة إنما هي لله ييسرها للمؤمنين به المخلصين له. ويظهر أن فريقا من المخلصين وهم على الأرجح من الأنصار ظلوا كذلك متمسكين بما كان بينهم وبين اليهود من حلف وولاء تبعا لأقاربهم من المنافقين أو تمسكا بالعصبية فاقتضت الحكمة التنديد بهم وتحذيرهم في الآية [144] . ويظهر أن فريقا من المخلصين كانوا يجالسون أقاربهم من زعماء المنافقين أو حلفائهم من اليهود وكان هؤلاء يستهزئون بالقرآن فيغضون عن ذلك فنبهتهم الآية [140] إلى ما في ذلك من خطأ ومخالفة لكتاب الله. وقد جاء هذا في آية سورة الأنعام هذه وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) . وفي كل ذلك صور من السيرة النبوية في عهدها المدني. وقد كانت في ظرف مبكر نوعا ما حيث كان كل من المنافقين واليهود أقوياء بعض الشيء على ما تدل عليه مضامين الآيات وروحها. والآية [142] تفيد أن المنافقين كانوا يصلّون. غير أنها تقرر أنهم كانوا حينما يقومون إليها يقومون كسالى ومراءاة للناس. والراجح أن هذا مما كان يشعر به المخلصون ويعرفون منه نفاقهم. وبناء على هذه المواقف وأمثالها احتوت الآيات إنذارا رهيبا لهم. فلهم العذاب الأليم. والله جامعهم مع الكافرين. ولن يحصلوا على غفران الله وتوفيقه. وسيكونون في الدرك الأسفل من النار باستثناء الذين يتوبون منهم ويصلحون ويعتصمون بالله ويخلصون دينهم لله فهم مع المؤمنين الذين سوف يؤتيهم الله الأجر العظيم. وقد تضمنت الآية الأخيرة من الآيات معنى التعقيب والترغيب فليس لله

تعالى غاية أو فائدة من تعذيب الناس. وإذا عذبهم فإنما يعذبهم على آثامهم وبغيهم. وإنه ليرضيه منهم أن يؤمنوا به ويشكروه بفعل الخير وأداء الواجب والتزام الحدود التي رسمها. وهذا هو ما يتوخاه في دعوتهم وإنذارهم حتى يستحقوا أجره بدلا من عذابه، وشكره بدلا من غضبه وهو العليم بكل ما يعملون. وهكذا تكون الآيات قد سجلت واقع أمر المنافقين حين نزولها. وفتحت لهم الباب لينالوا عفو الله ورحمته، وقررت أن العذاب والخزي إنما هو للمصرّين على المواقف الخبيثة المؤذية. وقد احتوت الآية [141] تطمينا قويا للمسلمين حيث قررت أن الله لن يجعل للكافرين عليهم أي سبيل. ولقد يرد في صدد النهي عن موالاة الكفار الذين رجحنا أنهم كفار اليهود أنه كان بين الأوس والخزرج وبين اليهود عهود ومواثيق وأن النبي صلى الله عليه وسلم أبقى عليها وجددها في كتاب الموادعة الذي كتبه حين استقرّ في المدينة بعد الهجرة على ما ذكرناه في مناسبة سابقة. وأن تمسك فريق من الأوس والخزرج بها أو اعتبار أنفسهم مقيدين بها مما توجبه عليهم واجبات الوفاء بالعهد. وجوابا على هذا نقول أولا إن الذين ندد بهم في الآيات بسبب موالاتهم اليهود هم فريق المنافقين فقط الذين وقفوا منذ بدء الهجرة من النبي ودعوته موقف الكيد والمناوأة والتآمر في حين أن تلك العهود والمواثيق كانت بين اليهود وسائر بطون الأوس والخزرج. ومعنى هذا أن معظم المخلصين استجابوا لتحذيرات القرآن والنبي السابقة. وأن بعضهم تأخر فتكرر النهي لهم في الآية [144] . وأن الذين لم يعبأوا بالتنديد والنهي بوقاحة وإصرار هم المنافقون فقط. وهذا يدل بصراحة وقوة على أن الباعث لهم على ذلك ليس الإخلاص للعهود والميثاق وإنما ما جمع بينهم وبين اليهود من بغض للنبي والإسلام والكيد لهما. ولا يصحّ أن يعدّ من قبيل الحرص على الوفاء بالعهد ولو أن المنافقين كانوا يعتذرون بذلك. وثانيا إنّ المواقف التي حكاها القرآن عن اليهود من شأنها أن تكون نقضا من جانبهم لتلك العهود

والمواثيق. ولقد اعتبرها القرآن كذلك كما تلهمه آيات سورة البقرة [100] وسورة الأنفال [55 و 56] التي مرّ تفسيرها. وهذه الآيات مما نزل مبكرا. حيث يفيد ذلك أن مواقفهم اعتبرت نقضا منذ وقت مبكر. وقد استمروا عليها وازدادوا فيها حتى صار عداء استوجب قتالهم على ما شرحناه في سياق تفسير سور الأنفال والأحزاب والحشر. فدعوة القرآن إلى عدم الاستمرار على موالاتهم واتخاذهم بطانة وتحذيره منهم أمر طبيعي لا يتمحل فيه إلّا مكابر مغرض. ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها انطوت على تلقينات وعظات بليغة إيمانية وأخلاقية واجتماعية مستمرة المدى: (1) فالمؤمن الحق هو الذي يؤمن بكل ما جاء من عند الله على لسان محمد والأنبياء الذين من قبله صلوات الله عليهم. (2) والكفر بشيء من ذلك هو انحراف وإخلال بهذا الإيمان الحق. (3) ولا يليق بمؤمن أن يبتغي عزا ونصرا من عند غير الله ومن غير إيمانه وإخلاصه وبخاصة من الكافرين بالله. ولا أن يواليهم أو يتناصر معهم من دون المؤمنين. (4) ومجالسة من يخوض في آيات الله خوض كفر واستهزاء هي من صور النفاق الخبيثة التي تستحق غضب الله ولا تليق بالمؤمن المخلص. (5) ومن هذه الصور كذلك عدم التضامن الصادق مع المسلمين في مواقف نضالهم والتزلف لأعدائهم بأي شكل وسبب. (6) والمؤمنون المخلصون مضمونو النصر والتأييد من الله على الكافرين والمنافقين في كل ظرف لأنهم يستمدون قوتهم وصبرهم من إيمانهم في حين يكون هذا المدد مقطوعا عن الكافرين والمنافقين. (7) والقرآن يستهدف دائما إصلاح الناس ويجعل الباب مفتوحا للآثمين بما فيهم المنافقون والكفار ليرتدعوا ويتوبوا ويصلحوا ويخلصوا. (8) وحاشا أن يكون من مقاصد الله عز وجل تعذيب الناس إذا آمنوا

وشكروا. وإنه ليريد لهم هذا ويرضاه ويثيبهم عليه. وفي كل هذا ما هو ظاهر من روعة وجلال. ومن اتساق مع وصايا القرآن وتلقيناته المتكررة في المناسبات العديدة. ولقد أورد المفسرون «1» بعض الأحاديث والاستنباطات في سياق هذه الآيات نلمّ بها فيما يلي: 1- لقد استدلوا بالآية [136] على جواز قبول توبة المرتدّ مرة بعد مرة إلى ثلاث مرات. ورووا ذلك عن علي بن أبي طالب. ومما قالوه إنه من يفعل ذلك أكثر من ثلاث مرات فلا يقبل منه لأنه يكون مستهزئا مخادعا ويطبق عليه عقوبة المرتدّ وهي القتل على ما جاء في حديث نبوي رواه الخمسة وأوردناه في مناسبة سابقة «2» . 2- لقد أورد في سياق الآية [139] حديثا رواه الإمام مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه «من انتسب إلى تسعة آباء كفّار يريد بهم عزّا وكرما فهو عاشرهم في النار» حيث ينطوي في الحديث نهي عن الاعتزاز بالآباء الكفار وتلقين بأنه أجدر بالمؤمنين أن يبتغوا العزة من الله بالإسلام لأنّ العزة لله جميعا. 3- لقد استدل بعضهم من الآية [140] على حرمة مجالسة من يعصون الله بارتكابهم الأفعال المحرمة أو أهل الأهواء والبدع المنحرفة. ومع أن النهي منصب على مجالسة الكفار المستهزئين بالقرآن فإن الاستدلال والقياس لا يخلوان من وجاهة على أن الامتناع عن مجالستهم في حالة ارتكابهم المعاصي أو خوضهم في الأهواء والبدع. والله أعلم. 4- لقد قال بعضهم إن جملة وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا في الآية [141] هي أيضا بالنسبة ليوم القيامة. غير أن هناك من قال إن فيها بشرى للمؤمنين بالنسبة للدنيا وأن الكفار إذا استعلوا وغلبوا المؤمنين فإنه يكون من قبيل

_ (1) انظر كتب تفسير الطبري وابن كثير والقاسمي. (2) أحاديث عقوبة المرتدّ في التاج ج 3 ص 17.

[سورة النساء (4) : الآيات 148 إلى 149]

الامتحان وإن النصر النهائي سيكون للمؤمنين عليهم. وهذا وجيه مؤيد بآيات كثيرة وعد الله فيها المؤمنين والرسل بالنصر والتأييد غير أن من الحق أن نذكر أنه شرط ذلك بالإخلاص وصدق الإيمان. 5- لقد استنبط بعضهم من الآية [141] أيضا عدم جواز ولاية الكافر وحكمه على المسلمين وعدم جواز الرضاء بهما وعدم جواز ولاية الكافر في نكاح مؤمنة ولا في سفرها. وعدم جواز شفاعة الكافر في مؤمن. وعدم جواز بيع مملوك مسلم ذكرا كان أو أنثى لكافر. وكل هذا سديد وجيه في ذاته. وإن كنا نرى في استنباطه من الآية تكلفا. 6- ولم يمنع عقل ولا دين بعض مفسري الشيعة من القول إن الآية [136] نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم لأنهم آمنوا بالنبي أولا ثم كفروا حين عرضت عليهم ولاية علي، ثم آمنوا بها في حياة النبي وكفروا بها بعده وازدادوا كفرا بأخذهم البيعة لأنفسهم «1» . [سورة النساء (4) : الآيات 148 الى 149] لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149) . تعليق على ما في الآية لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ... إلخ من تلقين وعظة عبارة الآيتين واضحة. وهما فصل جديد. ويلمح شيء من التناسب الموضوعي بينهما وبين الآية السابقة لهما مباشرة. فإذا لم تكونا نزلتا بعدها فيكون وضعهما في مكانهما بسبب ذلك على ما يتبادر.

_ (1) انظر كتاب الصراع بين الإسلام والوثنية للقصيمي ج 1 ص 434 عزوا إلى كتاب تفسير الكليني المسمى بالكافي.

روى الخازن رواية في نزول الآية الأولى ورد صيغة مقاربة لها في سنن أبي داود عن أبي هريرة بهذا النص «إن رجلا كان يسبّ أبا بكر بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فصمت عنه أبو بكر ثم آذاه الثانية فصمت عنه ثم آذاه الثالثة فانتصر منه فقام رسول الله فقال أبو بكر أوجدت عليّ يا رسول الله. قال نزل ملك من السماء يكذّبه بما قال لك فلما انتصرت وقع الشيطان فلم أكن لأجلس إذ وقع الشيطان» » . ويلحظ أن في الآية تبريرا لانتصار أبي بكر لنفسه في حين أن الحديث يذكر عدم رضاء النبي عن ذلك وأن الآية الثانية هي متممة للأولى ومنسجمة معها وهذا يسوغ الترجيح نزولهما معا. فإذا فرضنا أن حادث أبي بكر كان سبب نزولهما وليس نزول الآية الأولى فقط فإن الملاحظة الأولى تبقى واردة. إلا أن يقال إن حكمة التنزيل اقتضت تبرير موقف أبي بكر ثم اقتضت ردف ذلك التبرير بالحث على العفو. ومهما يكن من أمر فيصح القول إن الآيتين نزلتا في حادث سوء جهر به شخص ما. ولا ينفي هذا أن يكون هو الحادث الذي ذكر في الحديث والله أعلم. وقد جاءت الآيات بأسلوب مطلق عام لتكون عامة مستمرة المدى في ما احتوته من تعليم وتأديب وعظة وتلقين بما مفاده: (1) إن الجهر بالسوء مهما كان. وسواء أكان بذاءة أو شتيمة أم تعريضا أم تحريضا أم تقريعا أم سخرية أم استهتارا أم إشاعة فاحشة وشيوع ذلك بين المسلمين شيء قبيح لا يحبه الله تعالى. (2) ويستثنى من ذلك المظلوم الذي يقول ما يقول ردا على المعتدي عليه بدءا. (3) ومع ذلك فعفو المسلمين عن بعضهم خير مستحب وفيه اقتداء بالله عزّ وجل الذي يعفو عن الناس ويسع حلمه ما يبدو منهم من مواقف فيها سوء أدب وجحود مع قدرته على البطش والانتقام. وليعلموا أن الله يعلم كل ما يصدر منهم

_ (1) التاج ج 5 ص 47 ومعنى فانتصر منه أي ردّ على مؤذيه بالمثل مدافعا عن نفسه.

من خير سواء أأبدوه أو أخفوه. وعليهم أن يفعلوا الخير على كل حال والعفو خير. وبعض هذه التلقينات ورد في آيات سورة الشورى [39- 43] على ما شرحناه في مناسبتها حيث يتساوق التلقين القرآني المكي مع التلقين القرآني المدني في هذا الأمر كما هو في الأمور الأخرى. وقد يكون استثناء المظلوم وتبرير ردّه على ظالمه قد استهدف به عدم استشراء البذاءة والعدوان في المجتمع الإسلامي. وروح الآيات تلهم أن هذا لا ينبغي أن يكون إلّا في نطاق هذا الهدف من جهة وأن العفو هو الأفضل إذا كان لا يؤدي إلى ذلك الاستشراء من جهة أخرى. وفي هذا تتمة للتلقين الذي انطوى في الآيتين. ومما قاله المفسرون لأنفسهم أو لعلماء آخرين إن من الواجب أن يكون ردّ المظلوم على الظالم بما ليس فيه عدوان وفحش وافتراء وهذا وجيه سديد. هذا. ومن تحصيل الحاصل أن نقول إن تعبير لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ هو أسلوبي يستهدف التأديب بالنص على قبح الجهر بالسوء وإنه لا يمكن أن يكون بمعنى أن الله عز وجل يرضى عن السوء إذا كان في مجلس خاص أو إذا كان صدر خفية من دون جهر علني. فالله سبحانه قد حرم الإثم والفواحش مطلقا ما ظهر منها وما بطن على السواء وآذن أنه لا يرضى ما بيت من سوء قولا وفعلا في آيات عديدة مكية ومدنية ومنها ما جاء في سور سبق تفسيرها مثل آيات الأنعام [130 و 151] والأعراف [33] والآيات [108 و 123] من هذه السورة. ومنها ما جاء في سور يأتي تفسيرها بعد. وهناك أحاديث نبوية ساق بعضها بعض المفسرين في سياق الآيتين متساوقة في التلقين معهما. من ذلك حديثان رواهما أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء في أحدهما «قال النبي أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضمضم قالوا ومن أبو ضمضم قال رجل فيمن كان قبلكم كان إذا أصبح قال اللهم إني جعلت عرضي لمن شتمني» «1»

_ (1) انظر التاج ج 5 ص 24 و 26.

[سورة النساء (4) : الآيات 150 إلى 152]

وجاء في ثانيهما «إنّ من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حقّ. ومن الكبائر السّبتان بالسّبة» «1» وحديث رواه البخاري جاء فيه «قال النبي صلى الله عليه وسلم من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلّله منه اليوم قبل ألّا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته. وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه» «2» وحديث رواه الترمذي جاء فيه «قال النبي صلى الله عليه وسلم ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء» «3» وحديث رواه الترمذي أيضا جاء فيه «ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله تعالى إنهم يجعلون له ندّا وولدا وهو مع ذلك يرزقهم ويعافيهم» «4» وحديث رواه مسلم جاء فيه «قال النبي صلى الله عليه وسلم ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلّا عزّا وما تواضع أحد لله إلّا رفعه الله» «5» وحديث رواه الأربعة جاء فيه «قال النبي صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت» «6» . [سورة النساء (4) : الآيات 150 الى 152] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152) .

_ (1) انظر التاج ج 5 ص 26 و 24. (2) التاج ج 5 ص 19 و 34 و 45 و 46 و 167 وهناك أحاديث عديدة من باب هذه الأحاديث فاكتفينا بما أوردناه. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه. (6) المصدر نفسه.

تعليق على الآية إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ... إلخ والآيتين التاليتين لها

تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ ... إلخ والآيتين التاليتين لها عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تقريرا بكون الكافرين حقا المستحقين لعذاب الله هم الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا في الإيمان بهم فيقولون نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم وبكون الذين يؤمنون بالله ورسله جميعا بدون تفريق هم المؤمنون حقا الذين يستحقون أجرهم عند الله الغفور الرحيم. والآيات فصل جديد. وقد يلمح شيء من التناسب الموضوعي بينها وبين الفصل السابق لها وبخاصة الآية الأولى منه أي [136] وقد يكون هذا سبب وضعها في مكانها إن لم تكن نزلت بعد الآيات السابقة. ولم يرو المفسرون رواية خاصة في نزول الآيات وكل ما هناك أن الخازن قال «قيل إنها نزلت في اليهود لأنهم يؤمنون بموسى وأنبيائهم وكتبهم ولا يؤمنون بعيسى وإنجيله ومحمد وقرآنه وقيل إنها نزلت في النصارى الذين لا يؤمنون بمحمد والقرآن» وإن الطبري وابن كثير قالا إنها في اليهود والنصارى معا لأن كلا منهم يؤمن ببعض الأنبياء والكتب ويكفر ببعض. والآيات من حيث المدى تتحمل هذه الأقوال جميعها. غير أن الآيات التالية احتوت حملة على اليهود خاصة لجحودهم رسالة النبي وتحديهم إياه وتكذيبهم وقتلهم الأنبياء حيث يبدو من ذلك أن بين هذه الآيات وبينها صلة موضوعية وأنها جاءت كمقدمة وتمهيد لها. والآيات مع خصوصية الموقف الذي نزلت بمناسبته تتضمن تقرير مبدأ من مبادئ الإيمان عامة ومبدأ من مبادئ الدين الإسلامي خاصة: فالإيمان بموسى وغيره من الأنبياء دون الإيمان برسالة عيسى بالنسبة لمن عاش في عهد عيسى وبعده لا يجزي عند الله. والإيمان بموسى وعيسى وغيرهما من رسل الله دون الإيمان بمحمد لمن عاش في عهد محمد وبعده لا يجزي عند الله. والإيمان

[سورة النساء (4) : الآيات 153 إلى 161]

بمحمد لا يجزي إلّا مع الإيمان بمن قبله من رسل الله. والدين الحق هو الإيمان بجميع أنبياء الله ورسله صلوات الله عليهم وسلامه دون تفريق بين أحد منهم. ومن يكونون على ذلك فهم المؤمنون حقا. وهم المسلمون الذين يؤمنون بجميع أنبياء الله- صلوات الله عليهم- ورسله وكتبه. وما عداهم فهم عند الله كافرون. وهناك حديث رواه مسلم عن أبي هريرة خاص بحالة اليهود والنصارى وإيجاب إيمانهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وتقرير النار مصيرا لغير المؤمنين به يمكن أن يساق في هذا المقام ونصه «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» «1» والحديث غير محصور باليهود والنصارى وإنما المناسبة هي التي جعلت النبي يذكرهما بخاصة في الحديث على ما هو المتبادر. فالنبي رسول الله إلى الناس جميعا فكل من سمع به ولم يؤمن به كافر من أصحاب النار وقد جاء هذا في آيات أخرى منها آية سورة البينة هذه إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) . [سورة النساء (4) : الآيات 153 الى 161] يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) .

_ (1) التاج ج 5 ص 30 والمتبادر أن معنى (هذه الأمة) في الحديث الناس الذين وجدوا في عهده وبعده إلى آخر الزمن. [.....]

تعليق على الآية يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء والآيات التي بعدها إلى آخر الآية [161] وما فيها من حملة على اليهود لمواقفهم الجحودية. واستطراد إلى مسألة زعم صلب المسيح وعقيدة الصلب والفداء

تعليق على الآية يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ والآيات التي بعدها إلى آخر الآية [161] وما فيها من حملة على اليهود لمواقفهم الجحودية. واستطراد إلى مسألة زعم صلب المسيح وعقيدة الصلب والفداء عبارة الآيات واضحة. وقد حكت الفقرة الأولى من الآية الأولى سؤالا وجهه أهل الكتاب الذين هم يهود على ما جاء صراحة في الآيات التالية، فيه تحدّ وتعجيز للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ينزل عليهم كتابا من السماء. ثم احتوت الفقرة الثانية وبقية الآيات حملة عليهم وربطت ما يبدو منهم من تعجيز وجحود بما بدا من آبائهم قبل سواء أفيما كان منهم من تعجيز لموسى عليه السلام وطلبهم أن يريهم الله جهرة أم في اتخاذهم العجل وانحرافهم عن أوامر الله ووصاياه رغم ما أخذ منهم من مواثيق وصدر عنهم من عفو في أول الأمر أم في قتلهم الأنبياء بعد موسى أم في موقف الجحود والتكذيب الذي وقفوه من عيسى وبهتهم لأمه وادعائهم أنهم قتلوه. وانتهت بتقرير ما كان من عقاب الله لهم بسبب ظلمهم وصدهم عن سبيل الله وأخذهم الربا الذي نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل حيث عاقبهم الله بتحريم طيبات كانت حلالا لهم بالإضافة إلى العذاب الأليم الأخروي والمعدّ للكافرين المنحرفين منهم. وقد روى المفسرون «1» أن كعب بن الأشرف جاء إلى النبي مع جماعة من

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن.

اليهود أو جماعة من اليهود جاؤوا إلى النبي وقالوا له إن كنت نبيا فأتنا بكتاب من السماء كما جاء موسى بالتوراة وفي رواية فأتنا من السماء بكتاب يخاطبنا بصورة خاصة. وفي رواية فلينزل على فلان وفلان منهم كتب بتصديقك فنزلت الآيات بالردّ عليهم. والروايات لم ترد في كتب الصحاح. وهي متسقة مع الفقرة الأولى من الآية الأولى. وتكون بقية الآية والآيات التالية من قبيل الاستطراد وتدعيم الرد. والاتصال قائم في الوقت نفسه بين هذه الآيات والآيات السابقة من حيث إن الآيات السابقة احتوت تقرير كفر الذين يكفرون ببعض أنبياء الله ورسله وأن هذه الآيات احتوت بيان موقفهم الجحودي من نبوة محمد وعيسى وأنبياء آخرين لم يكتفوا بتكذيبهم والكفر بهم بل قتلوهم أيضا. وهذا ما يجعلنا نرجح أن الآيات السابقة هي تمهيد لهذه الآيات. وهذا لا يمنع أن تكون هذه وتلك قد نزلت بسبب سؤال اليهود الذي حكته الفقرة الأولى من الآيات. وجلّ ما جاء في هذه الآيات من مواقف اليهود القدماء الجحودية والتعجيزية والانحرافية وربطها بمواقف اليهود المماثلة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وإزاءه قد جاء في سورتي البقرة وآل عمران بتفصيل أوسع. وقد علقنا على ذلك بما يقتضي في سياق تفسير هاتين السورتين فلا نرى ضرورة إلى إعادة أو زيادة. ومن الجديد في الآيات حكاية رمي اليهود مريم بالبهتان العظيم والعبارة تعني رميها بالزنا وقولهم إنها حبلت بالمسيح سفاحا. وقد ورد ذلك في بعض مدوناتهم القديمة أو في التلمود المؤلف قبل البعثة النبوية حيث قالوا إنه ابن جندي روماني اسمه تيريو جوليو «1» وواجب المسلم أن ينكر ذلك وأن يؤمن أن مريم حبلت بالمسيح بمعجزة ربانية عبر عنها في القرآن بنفخ الله من روحه فيها أو في فرجها بدون مسّ من رجل كما جاء ذلك في آيات في سور آل عمران ومريم والأنبياء والتحريم.

_ (1) قرأنا ذلك في مصادر عديدة من آخرها العدد الخمسون من مجلة المعرفة التي تصدر في دمشق. وهناك رواية أخرى تذكر أن اسم الجندي باندارا. الجزء الثامن من التفسير الحديث 18

ومن الجديد في الآيات كذلك حكاية دعوى اليهود بأنهم قتلوا المسيح. ونفي الآيات قتلهم أو صلبهم إياه وتقريرها أنه شبّه لهم وأن الله قد رفعه إليه وأن الذين اختلفوا في أمره في شك كبير من ذلك. وتعليقا على هذه النقطة نقول أولا: إن على المسلم أن يؤمن بهذه الحقائق التي يقررها القرآن ولو أن العبارة القرآنية جاءت استطرادية على ما تلهمه روحها ويدل عليه باستمرار سياق الحملة على اليهود وذكر أفعالهم وأخلاقهم بعدها. وثانيا: إن المجادلين النصارى قد يتمحلون فيقولون إن اليهود ليسوا هم الذين صلبوا وقتلوا المسيح فيكون نفي القرآن حقا بالنسبة لليهود فقط وإن الذين فعلوا ذلك الرومان والنفي لا يشملهم. وجوابا على هذا التمحل نقول إن روح العبارة القرآنية قصدت تقرير نفي القتل والصلب مطلقا وإن نسبة ذلك إلى اليهود إنما هي في اعتقادنا بسبب كون اليهود كانوا يدعون ذلك أو أن ذلك هو الذي كان قائما في الأذهان. وثالثا: إننا نعتقد أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم طوائف من النصارى كانوا يعتقدون بكل ذلك فضلا عن حقائق أخرى قررها القرآن في شأن عيسى عليه السلام امتدادا لما قبلها. وإيمان النصارى الذين كان منهم القسيسون والرهبان بالنبي والقرآن لأنهم سمعوا ما عرفوا من الحق على ما جاء في آيات سورة المائدة هذه وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) دليل حاسم على ذلك. وقد ذكر السيد رشيد رضا في سياق تفسيره للآيات التي نحن في صددها أن من الفرق القديمة النصرانية التي كانت تنكر صلب المسيح فرقة السيرنتيين والتاتانوسيين أتباع تاتانوس تلميذ الشهيد يوستينيوس. وقد أورد في سياق ذلك أن فوتيوس قرر أنه قرأ كتابا يسمى رحلة الرسل فيه أخبار بطرس ويوحنا وأندراوس وتوما وبولس وهم من حواريي المسيح ورسله وأن مما قرأه أن المسيح لم يصلب ولكن صلب غيره وقد ضحك على صالبيه. ولقد ظهر في القرن الثاني بعد الميلاد راهب نصراني

اسمه ايبون فكان مما يقوله (إن المسيح ولد من يوسف والعذراء ولا نعلم متى وكيف قضى أجله) ونرجح أنه كان هناك كتب قديمة أخرى تقرر هذه الحقيقة مع حقائق عديدة أخرى مما يتسق مع تقريرات القرآن أحرقها رجال الكنيسة. وإذا كانت الأناجيل المعترف بها اليوم تقرر صلب المسيح فإن من الحقائق الثابتة أن هذه الأناجيل كتبت بعد عيسى عليه السلام بزمن ما، وكترجمة لحياته سمعت من الرواة. ولا يمكن أن يكون ما ذكروه يقينا قاطعا على صحة الصلب. ومع ذلك فهناك إنجيل يعزى إلى الحواري برنابا فلت من الحرق وهو ينكر الصلب ويقرر جلّ الحقائق التي يقررها القرآن في عيسى. وإنكار النصارى لهذا الإنجيل لا يثبت بطلان ما فيه بما في ذلك عدم الصلب بطبيعة الحال. والفريق النصراني الذي ذكرت آيات المائدة إيمانه بالنبي والقرآن نتيجة لما سمعه من الحق الذي يعرفه ليس هو الوحيد الذي آمن بسبب ذلك. فقد ذكرت آيات عديدة مكية ومدنية ذلك عن جماعات عديدة من أهل الكتاب مما انطوى في آيات سورة القصص [52- 55] والإسراء [107- 108] والرعد [35] والأنعام [20 و 114] والعنكبوت [47] وغيرها وغيرها. ونعتقد أن هذا هو الذي جعل النصارى في بلاد الشام والعراق ومصر وشمال إفريقية والأندلس يقبلون على الإسلام ويدخلون فيه أفواجا حتى دان معظمهم به خلال ردح غير طويل من الزمن. ولقد روى الطبري وغيره روايات عديدة عن وهب بن منبه وغيره من علماء الأحبار من مسلمة اليهود وغيرهم من التابعين في صدد ما كان من مطاردة اليهود لعيسى بقصد القبض عليه وقتله. وفي صدد جملة وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ منها ما ورد في بعض الأناجيل المتداولة اليوم ومنها ما لم يرد. ومن هذا أن المسيح جمع الحواريين في بيت فجاء الذين صمموا على القبض عليه وقتله فأحاطوا بالبيت ثم دخلوا فإذا جميع من في البيت في صورة عيسى فقالوا لهم لتقرّن من هو عيسى حقيقة أو لنقتلنكم فقال عيسى من يشتري منكم نفسه وله الجنة فقال أحدهم

جرجس أنا ثم قال أنا هو عيسى فأخذوه وصلبوه وقتلوه. ومن ذلك أنهم لما أحاطوا بالبيت قال عيسى ذلك القول فقال جرجس أنا فقال له اخرج إليهم فخرج فإذا هو على صورة عيسى فأخذوه. ومن ذلك أن يوحنا أو يهوذا الذي رشاه اليهود بثلاثين درهما ليدلهم عليه هو نفسه شبّه بعيسى فأخذوه وصلبوه. ومن المحتمل أن تكون هذه الروايات وردت في أسفار وقراطيس لم تصل إلينا أو أبيدت وبقي أو أبقي على ما ذكر أن عيسى بالذات صلب وقتل. وعلى كل حال فجميع ما جاء في الآية [157] من تقريرات هو الأصدق بدون شك عند المسلمين ومن قبيل المساجلة يمكن أن يقال إن من المأثورات النصرانية القديمة ما يتسق مع ذلك. وهو ما ذكرناه آنفا. وللسيد رشيد رضا في سياق تفسير هذه الآيات في الجزء السادس من تفسيره بحث مسهب أورد فيه كثيرا من الشبه والقرائن من الأناجيل المتداولة على عدم صلب السيد المسيح، وقد شرح عقيدة الصلب عند النصارى وما ينطوي فيها من غرائب وعجائب في أصلها وفرعها كما سمعها من بعض دعاتهم في بعض المجامع العامة بقوله: إن آدم لما عصى الله تعالى بالأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها صار هو وجميع أفراد ذريته خطاة مذنبين فكانوا مستحقين للعقاب في الآخرة بذنوبهم وبذنب أبيهم. ولما كان الله تعالى متصفا بالعدل والرحمة معا طرأ عليه- سبحانه- مشكل منذ عصى آدم وهو أنه إذا عاقبه هو وذريته كان ذلك منافيا لرحمته وإذا لم يعاقبه كان ذلك منافيا لعدله. فكأنه منذ عصى آدم كان يفكر في وسيلة يجمع بها بين العدل والرحمة فلم يهتد إلى ذلك إلّا منذ ألفي سنة- سبحانه- وذلك بأن يحل ابنه تعالى الذي هو هو نفسه في بطن امرأة من ذرية آدم ويتجسد جنينا في رحمها ويولد منها فيكون ولدها إنسانا كاملا من حيث هو ابنها وإلها كاملا من حيث هو ابن الله الذي هو الله نفسه ويكون معصوما من جميع معاصي بني آدم. ثم بعد أن يعيش زمنا معهم يأكل ويشرب مما يأكلون ويشربون ويتلذذ ويتألم كما يتلذذون ويتألمون يسخر أعداء لقتله أفظع قتلة وهي قتلة الصلب التي لعن صاحبها في الكتاب الإلهي فيحتمل اللعن والصلب لأجل فداء البشر

وخلاصهم من خطاياهم كما قال يوحنا في رسالته الأولى وهو كفارة لخطايانا ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضا سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات: 180] . وقد عقب السيد رشيد رضا على ذلك بردود عديدة قوية الإفحام من الناحية العقلية والناحية الجدلية والناحية الفعلية. ثم أورد مقتبسات من كتب عديدة لإثبات أن تصور الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فداء عن الخطيئة قديم العهد جدا في البلاد الهندية والوثنية فنكتفي من ذلك بهذه اللمعة ونحيل من أراد التوسع إلى الجزء المذكور من تفسير هذا الإمام الجليل «1» . وفي الأناجيل الأربعة التي يعترف بها النصارى عبارات وردت على لسان عيسى عليه السلام في سياق حكاية ما وقع عليه من أذى وصلب واحتضار وإسلام روح تعبر عن جزعه. وفيها استغاثة لله بأن يصرف عنه ذلك وفيها هتاف له بمعنى العقاب عن تركه إياه ليفعلوا به ما فعلوه مما فيه تناقض مع العقيدة النصرانية وتوكيد للعقيدة التي يقررها القرآن ببشرية المسيح وعبوديته لله ولما حكاه من أقوال لبني إسرائيل على ما أوردناه في سياق تفسير سورة مريم. ومن ذلك في إنجيل متى (إلهي إلهي لماذا تركتني) و (فرّ على وجهه يصلي قائلا يا أبت إن كان يستطاع فلتعبر عني هذه الكأس لكن ليس كمشيئتي بل كمشيئتك) وفي إنجيل مرقص حينما احتضر (إلهي إلهي لماذا تركتني) وفي إنجيل لوقا (صلى قائلا إن شئت فأجز عني هذه الكأس) و (لما صلبوه قال يسوع يا أبت اغفر لهم لأنهم لا يدرون ما يفعلون) و (يا رب اذكرني متى جئت في ملكوتك. يا أبت في يديك أستودع روحي) . والنصارى يسوقون التواتر في الأناجيل المتداولة اليوم كحجة على صلب المسيح. وما دام القرآن ينكر ذلك فيكون هذا هو عقيدة المسلم. وجملة (وإن

_ (1) انظر تفسير القاسمي أيضا ففيه فصل مماثل جيد.

الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلّا اتباع الظن) تفيد أن هذا الأمر لم يكن من المسلمات في زمن نزول القرآن بل كان مثار جدل وشك بين الناس وبين النصارى في الجملة. والمدونات القديمة مؤيدة لذلك. وإذا كانت الأناجيل المعترف بها المتداولة مجمعة على ذلك فلا يعني هذا أنه لم يكن أناجيل وأسفار مناقضة لذلك فبادت أو أبيدت. والقرآن بعد لا ينفي الصلب والقتل وإنما ينفيهما عن شخص المسيح مع إلهامه بإيقاعهما على شبيه له. وقد يكون هذا هو أصل التواتر المسيحي ولا يصح أن يكون حجة ضد تقرير القرآن كما هو المتبادر. والروايات تذكر مسألة التشبيه للمسيح على ما شرحناه قبل. وقد حاول مبشر نصراني سمّى نفسه الأستاذ حداد في كتاب له عنوانه (القرآن والكتاب) تأويل العبارة القرآنية وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ بما يتفق مع العقيدة النصرانية فقال إنها إنما تنفي كون اليهود قتلوه بمعنى أماتوه وأعدموا وجوده بالمرة وإن هذا هو الذي شبّه لهم أنهم فعلوه ولم يفعلوه. وفي هذا تمحل وتعسف. فالمؤولون والمفسرون بدون خلاف أولوا وفسروا الجملة القرآنية بالصلب والقتل فعلا اللذين ينفيهما القرآن وأولوا جملة شُبِّهَ لَهُمْ بأن المقصود منها المسيح. والمدونات والروايات القديمة تؤيد هذا التفسير والتأويل على ما شرحناه آنفا. ولقد تعددت التأويلات التي يرويها المفسرون «1» عن أهل التأويل من الصدر الأول كابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن وغيرهم لجملة وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ للتوفيق بينها وبين آية آل عمران [55] التي تذكر أن الله رافعه إليه بعد توفّيه يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ ولقد علقنا على هذه المسألة في تفسير آية آل عمران. وإذا كان من شيء نقوله هنا فهو أن العبارة القرآنية في آية النساء التي نحن في صددها لا تتناقض مع آية آل عمران كما هو المتبادر لنا.

_ (1) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والزمخشري والخازن وغيرهم.

كذلك تعددت التأويلات التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل من الصدر الإسلامي الأول المذكورين آنفا لجملة وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ من ذلك أن الضمير بِهِ عائد إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم بمعنى أن كل كتابي يهوديا كان أم نصرانيا سيدرك عند موته صدق رسالته ويؤمن بها مع قولهم إن هذا لا ينفعهم لأن التوبة لا تنفع عند الموت. ولقد فنّد الطبري هذا القول لأن النبي لم يذكر في السياق حتى يصح عودة الضمير إليه. ورجح أن يكون الضمير عائدا إلى عيسى وهو الأوجه الذي ذهب إليه جمهور المؤولين. وقد فرعوا على هذا القول بأنه يحتمل أن يكون في معنيين الأول أن كل كتابي يهوديا كان أم نصرانيا لا بدّ من أن يؤمن عند موته بحقيقة عيسى المقررة في القرآن بأنه عبد الله ورسوله مع القول إن هذا لا ينفعهم. والثاني أن كل كتابي لا بد من أن يؤمن بحقيقة عيسى قبل موت عيسى نفسه. ولحظ بعضهم أن موت عيسى إنما سيكون بعد مجيئه في آخر الزمن مرة أخرى والذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث صحيحة أوردناها وعلقنا عليها في سياق الآية [56] من سورة غافر وأن جمهورا كبيرا من الكتابيين يكونون قد ماتوا قبل ذلك خلال الأحقاب الطويلة فقال إن المقصود هم الباقون أحياء من اليهود والنصارى عند مجيئه آخر الزمان. ونصّ الآية قوي في شموله لكل كتابي بحيث يكون هذا الاستدراك غير شاف وبحيث يبقى الأكثر ورودا هو المعنى الأول. وهو إيمان كل كتابي بحقيقة عيسى قبل موته وهذا ما عليه الجمهور. وما دامت الآية تلهم أن هذا هو الأقوى فيجب التسليم به مع القول إنه يدخل في نطاق الأمور الإيمانية الغيبية وإذا لم يمكن ماديا وفعلا فلا يمكن إثبات بطلانه كذلك. ومع واجب الإيمان بذلك فقد يمكن أن يكون من حكمة تقريره بالأسلوب القوي الذي جاء به توكيد صدق رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وعمومها وتثبيت معتنقيها والله تعالى أعلم. والأناجيل المتداولة تذكر أن حاكم الرومان في القدس هو الذي أمر بالقبض على المسيح وصلبه حتى الموت وتذكر أن ذلك كان بتحريض وإصرار اليهود

وقولهم له دمه علينا وعلى أبنائنا «1» والآية [159] تنفي قتل اليهود لعيسى وصلبه ولكنها تلهم أنهم أقدموا على الجريمة ونفذوها في شبيهه. ولسنا نرى تناقضا لأن الحاكم الروماني فعل ما فعله بطلبهم وتحريضهم فكأنهم هم الذين فعلوه. ومع ذلك فنحن نعتقد أن اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ممتدا إلى ما قبله كانوا يقولون إنهم صلبوه وقتلوه وإن القرآن حكى قولهم هذا. وإذا كان القرآن نفى صلب اليهود لعيسى وقتله فإنهم يظلون مدموغين بالجريمة لأنم حاولوا ذلك ونفذوه ولو في شبيه له فضلا عن ما دمغهم به القرآن بما كانوا يرمون مريم به من بهتان عظيم الذي كان يعني الزنا. ولقد قال بعض المفسرين «2» في صدد ما جاء في الآية [160] من تحريم بعض الطيبات على اليهود إنها المذكورة في آية سورة الأنعام هذه وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146) والقول في محله. وبعض الآية يؤيده لأنها تقرر أن التحريم كان عقوبة لهم على ظلمهم. وهو ما ذكرته الآية [160] . وقد علقنا على هذه المسألة في سياق تفسير سورة الأنعام فلا نرى حاجة إلى التكرار «3» . وروح الآيتين [160- 161] تلهم أن ما جاء فيهما من أخذ اليهود الربا الذي نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وصدهم كثيرا عن سبيل الله عائد إلى اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي المدينة. ولقد حكت آيات عديدة مرت في سورتي البقرة وآل عمران وفي هذه السورة شدة صدهم عن سبيل الله. وحكت آية آل عمران [75] قولهم بأنهم ليس عليهم في الأميين سبيل. وكان هذا يجعلهم

_ (1) انظر الإصحاح السابع والعشرين من إنجيل متى والإصحاح الخامس عشر من إنجيل مرقص والإصحاح الثالث والعشرين من إنجيل لوقا والإصحاح التاسع عشر من إنجيل يوحنا. (2) انظر تفسير ابن كثير والخازن مثلا. (3) انظر الإصحاح 7 من سفر الأحبار أو اللاويين والإصحاح 14 من سفر التثنية ففيهما المحرمات المذكورة في آية سورة الأنعام.

يستحلون أموال غيرهم وخيانتهم والاحتيال عليهم. وهو ما تفيده جملة وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ ولقد حكت بعض أسفارهم أن الله وصّاهم بعدم هضم الغريب وظلمه ومضايقته «1» ولذلك استحكمت فيهم الفقرة الأخيرة من الآية [75] من سورة آل عمران وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. وقد يرد أن اليهود إنما نهوا في أسفارهم عن أخذ الربا من أقاربهم دون الأجانب «2» . وما دام القرآن يحكي عنهم أنهم كانوا يأخذون الربا الذي نهوا عنه فيكونون إما أنهم تجاوزوا ما أمروا به فصاروا يأخذون الربا من أقاربهم وإما أن وصية الله لهم هي عدم أخذ الربا من أحد ما فحرفوا كتبهم ليستحلوا أخذ الربا من غيرهم. وهناك نصوص عديدة في أسفار العهد القديم فيها ذمّ مطلق للربا والمرابين حيث يكون في ذلك تأييد لكون الربا كان محرما عليهم مطلقا فاستحلّوه «3» . وجملتا وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ ووَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يمكن أن تكونا بالنسبة لسابق تاريخ اليهود على ما حكته عنهم أسفار عديدة من أسفارهم ويمكن أن تكونا بالنسبة لعهد النبي صلى الله عليه وسلم حيث حكت ذلك عنهم آيات قرآنية عديدة منها ما جاء في سورتي البقرة وآل عمران اللتين مرّ تفسيرهما. ومنها في ما جاء في آيات في سورتي المائدة والتوبة مثل الآيات [42 و 62] في المائدة و [34] في التوبة. هذا، والآيات في جملتها تدل على أنها نزلت في ظرف كان فريق من اليهود فيه ما زال موجودا في المدينة وكان على شيء من القوة والاعتداد حتى يستطيع أن يجادل ويتحدى. وبعبارة ثانية تدل على أنها نزلت في وقت مبكر. وقبل التنكيل ببني قريظة الذي مرت حكايته في سورة الأحزاب على كل حال كما هو الأمر بالنسبة للآيات [44- 56] والآيات [139- 143] من هذه السورة على ما نبهنا عليه من قبل.

_ (1) انظر الإصحاحات 22 و 23 من سفر الخروج و 19 من سفر الأحبار و 10 من سفر التثنية. (2) انظر الإصحاحات 22 من سفر الخروج و 23 من سفر التثنية. (3) انظر الإصحاح 14 من المزامير و 28 من الأمثال و 18 من حزقيل.

[سورة النساء (4) : آية 162]

[سورة النساء (4) : آية 162] لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) . (1) المقيمين الصلاة: تعددت الأقوال في سبب مجيء وَالْمُقِيمِينَ منصوبة مع أن الكلمات المعطوفة عليها قبلها وبعدها مرفوعة أي الرَّاسِخُونَ ووَ الْمُؤْمِنُونَ ووَ الْمُؤْتُونَ. فهناك قول إنها قرئت هي الأخرى على الرفع والمقيمون وإنها في مصحف أبي بن كعب كذلك. وهناك قول إنها على سبيل الاختصاص وتقديرها أخصّ بالذكر المقيمين للصلاة. وهناك قول إنها معطوفة على مِنْهُمْ بمعنى لكن الراسخين في العلم منهم ومن المقيمين للصلاة. وقول إنها معطوفة على بِما بمعنى إنهم يؤمنون بما أنزل من قبلك وبالمقيمين للصلاة. وقول إنها من غلط الكتاب. وجمهور المفسرين يستبعدون الغلط ويرجحون الاختصاص «1» . احتوت الآية استدراكا استثنائيا فيه تنويه وبشرى بشأن الراسخين في العلم من اليهود وغيرهم الذين آمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم والذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويؤمنون بالله واليوم الآخر. فهؤلاء يؤمنون بما أنزل إلى النبي وما أنزل إلى الأنبياء السابقين قبله. وسوف يؤتيهم الله الأجر العظيم. وقد روي «2» عن ابن عباس أن الآية نزلت في عبد الله بن سلام وثعلبة بن سعية وأسد بن سعية وأسد بن عبيد من مسلمة اليهود. وهذه الرواية لم ترد في الصحاح. والآية متصلة كما هو واضح بالسياق السابق اتصالا وثيقا. وإذا صحت الرواية فتكون الآية في صدد الإشارة إلى إيمان هؤلاء وأمثالهم من مسلمة اليهود

_ (1) انظر تفسيرها في الطبري والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري. (2) انظر تفسير ابن كثير.

[سورة النساء (4) : الآيات 163 إلى 166]

على سبيل الاستثناء من الجملة التي حملت في الآيات السابقة على اليهود. ويتبادر لنا أنها استهدفت بالإضافة إلى الاستثناء التنويهي تطمين النبي صلى الله عليه وسلم وتسليته وتدعيم موقفه. وقد يكون ضمير المخاطب في إِلَيْكَ قرينة على ذلك: فليس من موجب لانزعاجه واغتمامه. وإذا كان جمهور اليهود يقفون منه موقف الجحود ويطلبون منه ما يطلبون بقصد تعجيزه وتحديه فالراسخون في العلم وذوو النيات الحسنة منهم قد أدركوا حقيقة الأمر فصدقوا برسالته وآمنوا. وفي هذا ما فيه من البرهان والكفاية بالنسبة للموقف القائم بينه وبين اليهود. وننبه على أن مثل هذا الاستدراك والاستثناء قد تكرر في سياق حكاية مواقف اليهود وتعجيزاتهم والحملة عليهم مما مرت منه أمثلة عديدة في سورتي البقرة وآل عمران مستهدفا نفس الهدف أيضا. وفي كل هذا صور تتكرر عن إيمان ذوي النيات الحسنة من علماء اليهود وغيرهم برسالة النبي صلى الله عليه وسلم دون مكابرة وعناد فيها دلالة على ما تحتويه الرسالة المحمدية من عناصر الاستجابة القوية التي لا يمتنع عنها إلا ذوو النيات السيئة والمآرب الخاصة مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة. والمفسرون يروون دائما في المناسبات المماثلة أسماء معدودة قليلة ممن أسلموا بل ويروون نفس الأسماء في كل مناسبة. في حين أن العبارة هنا قد تفيد أن الذين آمنوا من الراسخين في العلم وغيرهم من اليهود ليسوا بهذه القلة وإن كانت الروايات لا تساعد على إثبات ذلك. [سورة النساء (4) : الآيات 163 الى 166] إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) .

تعليق على الآية إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ... إلخ والآيات الثلاث التي بعدها

في الآيات خطاب موجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تضمنت تقريرا: (1) بأن الله قد أوحى إليه كما أوحى إلى نوح والنبيين من بعده ممن قصّ ذكرهم عليه في القرآن ومن لم يقص. (2) وبأن الله إنما يرسل رسله مبشرين ومنذرين للناس ليبينوا لهم طرق الحق والهدى ويحذروهم من الضلال والغواية حتى لا يكون لهم عليه حجة يحتجون بها عما يكون قد وقع منهم من انحراف وضلال. (3) وبأن الله يشهد والملائكة يشهدون معه أن ما أنزل على النبي إنما أنزل من عنده وبعلمه وشهادة الله هي أقوى الشهادات وكفى به شهيدا. تعليق على الآية إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ... إلخ والآيات الثلاث التي بعدها روى الطبري عن أهل التأويل ابن عباس وغيره روايات عديدة في نزول الآيات منها أنه لما نزلت الآيات السابقة التي فضحتهم قالوا ما أنزل الله بعد موسى على بشر من شيء. فأنزل الله الآيات لتكذيبهم. ومنها أن النبي لمّا تلا الآيات السابقة عليهم اغتاظوا وجحدوا كل الرسالات والكتب فأنزلها الله لتكذيبهم ومنها أن النبي قال لهم إنكم لتعلمون أني رسول الله فأنكروا. ومنها رواية خلطت بين هذه الآية وبين آية الأنعام وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [91] . والروايات لم ترد في الصحاح. ويتبادر لنا أنها وحدة تامة منسجمة ومتصلة هي الأخرى بالآيات السابقة اتصال تدعيم وتطمين إزاء مواقف اليهود حيث انطوى فيها تقرير بطلان موقفهم من النبي. وكون طلبهم إنزال كتاب من السماء تعجيزا لا موجب له. وذلك أن الله قد أوحى إلى النبي كما أوحى إلى غيره من الأنبياء فلم

تكن دعوته أو دعواه شاذة. وأن اليهود قد آمنوا بهؤلاء الأنبياء الذين أوحى الله إلى النبي بمثل ما أوحاه إليهم. وتطابقت دعوتهم مع دعوته ودعوته مع دعوتهم وحالتهم مع حالته. وإن جحود اليهود برسالته وتعجيزه وتحديه بالمطالب ليس إلّا من سوء النية وخبث الطوية التي عرفوا بها هم وآباؤهم من قبل. والله شاهده ومؤيده وكفى به شاهدا ومؤيدا. والآيات قوية الأسلوب قوية الإلزام والإفحام فيما احتوته من مقاصد ومعاني التدعيم والتطمين والبرهان كما هو واضح. ومن شأنها بعث القناعة والطمأنينة والثقة في ذوي النيات الحسنة والقلوب النقية. وأسلوبها من أساليب القرآن المتكررة في مخاطبة العقل والقلب في صدد تدعيم صحة نبوة النبي وصدق دعوته ورسالته وكونها شيئا طبيعيا ليس فيها ما يستدعي العجب والإنكار. وكون إنكارها والمكابرة فيها هما اللذان يستدعيان العجب. وهو أسلوب امتاز به القرآن والرسالة المحمدية العظمى. وجملة لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ من العبارات القرآنية الحاسمة التي تضمنت حكمة إرسال الله الرسل وإنزال الكتب والشرائع عليهم حتى يتبين الناس طريق الحق والهدى والخير والعدل من طريق الباطل والضلال والشر والظلم مما قد لا يتبينه جميع الناس بمداركهم الخاصة ويستحق كل منهم جزاءه الدنيوي والأخروي وفاقا لما يختار مما هو متسق مع التقريرات القرآنية العامة. حتى لا يبقى لهم حجة يحتجون بها. وقد يقال إن الله جلّ عن أن يكون للناس عليه حجة ما- وهو الخالق البارئ المطلق التصرف في خلقه. وهذا حق من دون ريب- ولكن لمّا اقتضت حكمته أن يحاسب الناس على أعمالهم ويجزون عليها في الدنيا والآخرة اقتضت حكمته ورحمته أن يعلن لهم أنه لم يبق لهم حجة يحتجون بها بعد ما أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب جريا على أسلوب الإعذار المعتاد في التخاطب البشري. وأسماء الأنبياء المذكورة في الآيات وردت في مواضع عديدة أخرى في سور

سبق تفسيرها وعرفنا بهم بما يغني عن التكرار. وجملة وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ في الآية [164] قد ورد ما يماثلها في الآية [78] من سورة غافر. وقد أوردنا ما هنالك من أحاديث وأقوال في صدد عدد الأنبياء والرسل وعلقنا على ذلك في سياق هذه الآية بما يغني عن التكرار كذلك. ولقد وقف المفسرون عند جملة وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً من الآية [164] فقال الطبرسي إن الله كلّم موسى بلا واسطة. ولم يعز قوله إلى أحد. وروى الطبري عن نوح ابن مريم أن الله كلّم موسى مشافهة. وعن جزء بن جابر أنه قال سمعت كعبا يقول إن الله كلم موسى بالألسنة كلها فجعل يقول يا رب لا أفهم فكلّمه بلسانه فقال له يا رب هكذا كلامك قال لا ولو سمعت كلامي على وجهه لم تك شيئا فهو كأشد ما يسمع الناس من الصواعق» . وقال الزمخشري إن معنى الجملة «جرّح الله موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن» والزمخشري معتزلي ومذهبه عدم إثبات صفة كلام لله خارجة عن ذاته تعالى. والكلام المباشر هو خارج عن ذات الله في مذهب الاعتزال. ولقد فنّد ابن كثير وغيره كلام الزمخشري وأورد آية الأعراف وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [143] كدليل قرآني على كلام الله المباشر لموسى عليه السلام. وتعليقا على ذلك نقول: أولا: إن كعب هو من مسلمة اليهود الذين تروى عنهم ما يسمى بالإسرائيليات التي فيها كثير من المبالغات والأكاذيب فيجب التحفظ في ما نقل عنه. وثانيا: إن تفنيد ابن كثير وغيره لتأويل الزمخشري للجملة في مجمله فهو تأويل تعسفي بعيد عن مدى الآية ومقامها. وثالثا: إن الدليل الذي ساقه ابن كثير على كون كلام الله لموسى مباشرة قوي وهو منطو في آيات أخرى مثل آيات طه [11- 24] والنمل [8- 12] والقصص [29- 35] .

[سورة النساء (4) : الآيات 167 إلى 169]

ورابعا: إن المصدر الذي يصح أن يستند إليه في صفة وكيفية كلام الله بعد القرآن الذي لا يوجد فيه بيان لذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم وليس هناك حديث نبوي صحيح فيما اطلعنا عليه في ذلك. وخامسا: إن الواجب ملاحظة كون هذا الأمر متصلا بسرّ الله تعالى وصفاته التي لا تدركها عقولنا وملاحظة الضابط القرآني المنطوي في آية الشورى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [11] وآية الأنعام لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ [103] ثم الإيمان بما ورد في القرآن والوقوف عنده. وعدم الخوض في الماهيات والكيفيات المتصلة بسرّ واجب الوجود على ما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة. [سورة النساء (4) : الآيات 167 الى 169] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169) . عبارة الآيات واضحة. ولم نطلع على رواية خاصة بنزولها. والمتبادر أنها متصلة بالآيات السابقة اتصال تعقيب وإنذار وأنها بناء على ذلك في صدد اليهود. وتدل على ما كان لمواقفهم ودسائسهم وتشكيكاتهم من أثر في عرقلة الدعوة الإسلامية. وتعبير كَفَرُوا وَظَلَمُوا مع سبق تعبير الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يدل على أن اليهود لم يكتفوا بالكفر برسالة النبي ومنع الناس عنها منعا هادئا بل تجاوزوا ذلك إلى البغي والعدوان أيضا. وفي هذا قرينة على ما قلنا من أن الفصل نزل في وقت كان اليهود فيه على شيء من القوة. وأسلوب الآيات المطلق يجعل فيها إنذارا وتعنيفا عاما مستمرا لكل من يقف نفس المواقف بطبيعة الحال. وهذا مما جرى عليه النظم القرآني.

[سورة النساء (4) : آية 170]

[سورة النساء (4) : آية 170] يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) . عبارة الآية واضحة هي الأخرى. ولم نطلع على رواية ما في سبب نزولها أيضا. ومن المحتمل أن تكون معقبة على الآية السابقة ومتصلة بها. ومن المحتمل كذلك أن تكون متصلة بالآيات اللاحقة لها اتصال تقديم وتمهيد. وهي على كل حال قوية نافذة موجهة إلى العقول والقلوب معا. وعامة التوجيه لكل نحلة وملة وجنس. فرسالة الرسول الذي جاءهم بالحقّ من ربهم هي دعوة لجميع الناس إلى الله وسبل الخير والصلاح والسعادة في الدنيا والآخرة. والإيمان بها هو لمصلحة المؤمنين بها وخيرهم. لأن الله غني عن الذين يكفرون بها وهو الذي له ما في السموات والأرض وهو العليم بكل شيء الحكيم الذي لا يأمر إلّا بما فيه الحكمة والسداد. [سورة النساء (4) : الآيات 171 الى 173] يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173) . (1) الاستنكاف: بمعنى الأنفة. وجّه الخطاب في الآيات إلى أهل الكتاب. وعبارتها واضحة. وهي تلهم أنها تقصد النصارى. وقد تضمنت:

تعليق على الآية يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ... إلخ والآيتين التاليتين لها واستطراد إلى عقيدة التثليث

(1) دعوة إلى عدم الغلوّ في عقيدتهم في المسيح والكفّ عن القول إن الله ثلاثة. (2) وتقريرا لحقيقة ولادة المسيح وكونها معجزة ربانية بكلمة ألقاها الله إلى مريم وروح منه. (3) وتقريرا للعقيدة الصحيحة في الله وهي أن الله واحد جلّ وتنزه عن أن يكون له ولد وله ما في السموات وما في الأرض. (4) وتقريرا لحقيقة موقف المسيح من الله. فهو لن يأنف من أن يكون عبدا له ولن يستكبر كما أن الملائكة المقربين لن يأنفوا من ذلك ولن يستكبروا. (5) وإنذار للمستنكفين والمستكبرين وبشرى للمؤمنين. فالله سبحانه سوف يحشر الناس جميعا إليه فيوفي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أجورهم ويزيد عليها من فضله. ويعذب الذين استكبروا واستنكفوا عذابا أليما لا ينقذهم منه وليّ ولا نصير. تعليق على الآية يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ... إلخ والآيتين التاليتين لها واستطراد إلى عقيدة التثليث ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيات إلّا ما جاء في تفسير الخازن في صدد الآية [172] حيث قال: وذلك أن وفد نجران قالوا يا محمد: إنك تعيب صاحبنا فتقول إنه عبد الله فقال لهم ليس بعار على عيسى أن يكون عبد الله فنزلت الآية. ولسنا نرى هذه الرواية في محلها. وقد مرت الإشارة إلى وفد نجران وما جرى بينه وبين النبي في سورة آل عمران. والآيات بعد وحدة تامة منسجمة. والمتبادر منها أنها جاءت استطرادية لبيان حقيقة الأمر في عيسى عليه السلام الجزء الثامن من التفسير الحديث 19

والإهابة بالنصارى إلى الانتهاء هم الآخرون من غلوهم وتطرفهم وقولهم غير الحق على الله وعيسى. والإيمان بالله إلها واحدا منزها عن التعدد بأي تأويل كان. والاستجابة إلى دعوة رسوله الذي جاء منه بالحق بعد ما سبق من حملة التقريع على اليهود من الإشارة إلى عقيدتهم في عيسى وأمه وموقفهم منه. واختلاف الناس في شأنه وفي صلبه اختلافا قائما على الظنون، وبعد ما أشير إلى طبيعة الرسالة المحمدية واتساقها مع سنّة الله في إرسال الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة وتوكيد صحتها وإيمان الراسخين في العلم من أهل الكتاب بها. ومثل هذه الاستطرادات مألوف في النظم القرآني مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة. وأسلوب الآيات قوي نافذ موجه إلى القلوب والعقول معا. وفيه إنذار وبشرى وتنديد وعظة وبرهان في آن واحد. والعبارات الواردة في الآيات في صدد معجزة ولادة المسيح مقاربة لما ورد في آيات أخرى. فقد وردت جملة إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ في آية سورة آل عمران [45] والكلمة هنا وهناك في معنى أمر الله وإرادته المتمثلة في جملة كُنْ فَيَكُونُ الواردة في الآية [47] من السورة نفسها على ما عليه الجمهور. وهذه الجملة وردت في الآية كجواب لمريم التي استغربت أن تلد دون أن يمسها رجل على ما حكته الآية [46] وقد ورد في سورة الأنبياء هذه الآية وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91) وكلمة فنفخنا فيها من روحنا في معنى (وروح منه) على ما عليه الجمهور لذلك. ولقد علقنا على مدى هذه العبارات في المناسبات المذكورة فلا نرى حاجة لتعليق جديد.

والإشارة إلى عقيدة التثليث القرآنية التي تضمنتها جملة وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ في الآيات تأتي هنا لأول مرة. والمعروف أن جمهور النصارى اليوم يعتقدون بإله واحد في ثلاثة أقانيم متساوية بما يعرف بالأب والابن وروح القدس. غير أن العبارة القرآنية هنا تفيد أن النصارى الموجه إليهم الخطاب كانوا يقولون إن الآلهة ثلاثة. ولقد ذكرت المدونات المسيحية القديمة أن من النصارى من كان لا يعتقد بالمساواة التامة بين الأقانيم الثلاثة مع اعتبار الثلاثة واحدا. وإن أكثر النصارى في الشام والعراق ومصر أو كثيرا منهم كان على ذلك «1» بحيث يصح القول إن الخطاب القرآني قد وجه إليهم في الدرجة الأولى والمباشرة لأنهم الذين لهم صلة بالبيئة النبوية. وفي سورة المائدة آيتان هما [72 و 73] واحدة تذكر عقيدة نصارى بأن المسيح ابن مريم هو الله وأخرى تذكر عقيدة نصارى كون الله ثالث ثلاثة. ومما لا يتحمل مراء أن القرآن يقرر واقعا سواء أفي الآيات التي نحن في صددها أم في آيات سورة المائدة. ومهما يكن من أمر فالآيات هي بسبيل تسفيه عقيدة التثليث ونسبة الولد إلى الله التي كانت عقيدة النصارى. وتقرير كون ذلك مجافيا لأي عقل ومنطق. وتقرير وحدانية الله عز وجل بدون أي شائبة أو تأويل سواء أكان ذلك حقيقة أم مجازا. وهذه هي العقيدة الصافية الخالية من التعقيد التي جاء بها نبي الإسلام بلسان كتاب الله القرآن لتصحيح الانحراف وتقرير كون الله واحدا أحدا لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد. ثم لتبرئة المسيح عليه السلام من دعوى تلك العقيدة ولتقرير عبوديته لله واستحالة استنطاقه أو استكباره عن ذلك. وقد حكت آيات قرآنية عديدة أن كل هذا مما قاله المسيح للناس منها في سور مرّ تفسيرها ومنها في سور يأتي تفسيرها ونكتفي بالإشارة إلى أرقامها وهي آيات الزخرف [63 و 64] ومريم [30- 36] والصف [6] والمائدة [72 و 116 و 117]

_ (1) انظر تاريخ سورية للدبس المجلد 3 ج 2 والمجلد 4 ج 2 وكتابنا تاريخ الجنس العربي ج 2 ص 326 وما بعدها وج 4 ص 316 وما بعدها وج 5 ص 373 وما بعدها.

ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم طائفة من نصوص الأناجيل المتداولة التي فيها تطابق وتساوق مع ما قررته الآيات القرآنية عن شخصية عيسى ودعوته مع تعليقات وافية على هذا الأمر فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار. وإن كان من شيء نزيده هنا هو أن الأناجيل الأربعة المتداولة التي يعترف بها النصارى والتي تروي أقوالا عن عيسى عليه السلام لا تنسب عقيدة التثليث إليه بل وليست هذه العقيدة واردة فيها بصراحة وحبك. وكل ما فيها ألفاظ الأب والابن وروح القدس بدون جمع وحبك. وإن العقيدة حبكت بشكلها الذي يدين به النصارى اليوم في المجامع الدينية التي كانت تنعقد في زمن الدولة الرومانية بسبب الاختلافات التي كانت تنشب بين رجال الدين النصراني حول مدى هذه الألفاظ. وفي تفسير المنار لرشيد رضا فصل في عقيدة التثليث في سياق تفسير الآيات أورد فيها أقوالا عديدة لعدد من الباحثين في تقرير كون عقيدة التثليث ليست جديدة ونتيجة لما كان من تأويلات لأقوال عيسى المروية في الأناجيل بل هي قديمة تداولتها الأمم قبل النصرانية بقرون كثيرة حيث كانت عند المصريين والفرس والبراهمة والبوذيين «1» . وقد تسربت إلى المسيحية من طريق الرومان الذين كان لهم الحكم في بلاد الشام في وقت ظهور المسيح وبعده إلى أمد طويل فنكتفي بالإشارة إلى ذلك. وفي كتاب العقائد الوثنية في الديانة النصرانية لطاهر التنير فصول عديدة مستندة إلى مدونات قديمة وحديثة غريبة كتابها ممن ينتسبون إلى النصرانية أصلا في قدم عقيدة التثليث والفداء والقيامة من الموت وتجسد الإله في ناسوت والصلب ومعجزة الولادة بدون مسّ إلخ بسبيل تقرير كون هذه العقائد مما تسرّب إلى النصرانية من العقائد القديمة فنكتفي بالإشارة إلى ذلك كذلك. ومن العجيب أن يتخطى المبشرون النصارى كل هذه الحقائق ويتجاهلونها

_ (1) نضيف إلى هذا أن في عقائد الآراميين والآشوريين والبابليين والكنعانيين في بلاد الشام والسبئيين والمعنيين في اليمن شيئا من ذلك حيث كان عندهم ثالوث مؤلف من القمر كزوج والشمس كزوجة وعشتار كابن لهما انظر الأجزاء 1 و 2 و 3 و 4 من كتابنا تاريخ الجنس العربي. [.....]

[سورة النساء (4) : الآيات 174 إلى 175]

وتصل بهم الجرأة والصفاقة إلى القول إن عقيدة التوحيد الإسلامية الصافية الخالية من كل تعقيد وشائبة هي بدائية تتناسب مع العرب البدائيين الذين جاء الإسلام إليهم «1» . في حين أن عقيدة التثليث فيها معان فلسفية رفيعة تتناسب مع الأمم المتحضرة المثقفة التي انبعثت فيها النصرانية على ما قرأناه في رسالة نشرها مبشر اسمه موفق سعيد وفي كتب كتبها مبشر سمّى نفسه الأستاذ حداد اللذان قالا فيما قالاه إن الذين نعتهم القرآن بالكفر من النصارى هم نصارى العرب الذين حرفوا العقيدة النصرانية الفلسفية السامية ولم يفهموها. ولقد وقع كلاهما في تناقض مضحك حيث أرادوا تشبيه التثليث النصراني بمدى الآية القرآنية اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ على اعتبار أن تعدد الأقانيم هو تعدد صفات لإله واحد وهذه الجملة هي عنوان من عناوين التوحيد الإسلامي الذي نعتوه بالبدائية. وهذه المزاعم متهافتة لا تكاد تتحمل تفنيدا. وقد تكفل القرآن بالرد على كل ذلك. وقد ألممنا بهذه المسألة في كتابنا (القرآن والمبشرون) ووضعناها في نصابها الحق بتوفيق الله فنكتفي بهذه الإشارة أيضا. [سورة النساء (4) : الآيات 174 الى 175] يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175) . عبارة الآيتين واضحة وفيها هتاف للمرة الثانية موجّه للناس أن قد جاءهم برهان من الله ونور واضح على لسان رسوله. فلم يبق شيء غامض من حقائق ما يجب عليهم أن يسيروا فيه من سبيل الحق. وفيها بشرى للذين آمنوا بالله

_ (1) في هذا تجاهل وغباء آخر لأن في القرآن آيات كثيرة صريحة وقطعية بأن الإسلام جاء إلى الناس كافة من مختلف الأجناس والأديان وإلى أهل الكتاب نصا. وفيه آيات بأن الله سيظهره على الدين كله وقد اعتنقه ناس من مختلف الأجناس والألوان والأديان في حياة النبي واستمر بعده كذلك ومن جملتهم أهل كتاب فسقطت حجة كل مكابر.

[سورة النساء (4) : آية 176]

واعتصموا به وحده استجابة لله ورسوله فهم الذين يدخلهم الله في رحمته ويهديهم إلى طريقه المستقيم. ولم نطلع على رواية خاصة في نزولهما والمتبادر أنهما متصلتان بالآيات السابقة اتصالا موضوعيا وتعقيبيا. وأسلوبها قوي نافذ موجه إلى القلوب والعقول. ولعل حكمة عدم ذكر الذين لم يؤمنوا ولم يعتصموا هي في كون المهم في الأمر هو التنويه بالمؤمنين المستجيبين المعتصمين والحثّ على الاستجابة والاعتصام. هذا، ومن تحصيل الحاصل أن نقول إن هذه الآيات وما قبلها مما هو موجّه للنصارى واليهود وللناس انطوت على دلالة نصّية حاسمة بأن الدعوة المحمدية موجهة للناس جميعهم على اختلاف نحلهم وأجناسهم. وهذه العمومية موطدة في النصوص المكية وفي غير هذه الآيات من السور المدنية أيضا على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة. وفي هذا وذاك ردّ حاسم على بعض المستشرقين الذين يحلو لهم أن يزعموا أن فكرة العمومية في الرسالة المحمدية لم تكن صريحة أو على الأقل كانت طارئة ومتأخرة. [سورة النساء (4) : آية 176] يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176) . (1) أن تضلوا: بمعنى لئلا تضلوا. تعليق على الآية يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ... إلخ. في الآية حكاية استفتاء أورد على النبي صلى الله عليه وسلم في شأن إرث الكلالة، أي الذي

يموت ولم يكن له ورثة أصليون أو فرعيون أي آباء وأولاد، وجواب بفتوى الله في ذلك ينطوي على القواعد التالية: 1- إذا كان الميت كلالة رجلا وله أخت واحدة فلها نصف تركته. وإذا كان له أختان فلهما ثلثاها. 2- إذا كان الميت امرأة ولها أخ واحد فله جميع تركتها. 3- إذا كان للميت- رجلا كان أو امرأة- إخوة وأخوات عديدة فالتركة تقسم عليهم على أساس أن يكون نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى. وقد روى المفسرون روايات عديدة في نزول هذه الآية. منها أنها نزلت بناء على سؤال من عمر بن الخطاب أو أنها نزلت في أمر جابر بن عبد الله الذي مرض وعنده مال ولم يكن له إلّا شقائق. أو أنها نزلت لأن المسلمين لم يكتفوا بالآية [12] من السورة التي فيها تشريع في صدد الكلالة فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم في وجوه أخرى عنها. وليس شيء من الروايات واردا في الصحاح. والمجمع عليه أن حكم الآية [12] هو في حق من يموت كلالة وله أخوة وأخوات من أمه. وأن حكم الآية التي نحن في صددها هو في حق من يموت كلالة وله أخوة وأخوات أشقاء أو من أبيه. وهذا مستلهم من نص الآيتين. فالأولى تعطي الأخوة والأخوات الثلث وهذه تعطيهم جميع التركة إن كان فيهم ذكور وثلثيها إذا كان شقيقتان أو أكثر. بحيث يصح القول إن المسلمين استعظموا أن يكون نصيب الذي يموت أخوهم كلالة واحدا سواء أكانوا من أمه أم أشقاءه فاستفتوا النبي فأنزل الله الآية. ويلحظ أنه يبقى بواق في حالة إرث الأخت والأختين لأخيهما الشقيق. ومثل هذه البواقي ملموح في آيات المواريث الواردة في أول هذه السورة ... وقد تكفلت السنّة النبوية إيضاح ذلك على ما شرحناه سابقا وهذا ينسحب على هذه الآية. ولم نطلع على أثر نبوي أو صحابي في أمر الذي يموت كلالة إذا لم يكن له أشقاء وله أخوة من أبيه فقط. أو إذا كان له أشقاء وله في نفس الوقت أخوة من أبيه

أيضا. وفي موطأ مالك ما يفيد أن من كان له أخوة أشقاء ثم أخوة لأبيه فقط. فالأشقاء يحجبون الأخوة للأب فقط. وقد قال مالك إنه لا يعرف خلافا لذلك عند أهل العلم. أيضا وفي صدد حديث الكلالة عن أخوة للأب فقط جاء في الموطأ أيضا: إن مما لا خلاف عليه عند أهل العلم أن الأخ للأب أولى من بني الأخ لأم وأب. وهذا يعني أن الوارث هو الأخوة من أب إذا لم يكن للميت أشقاء من أم وأب وأنهم يحجبون أبناء الأخوة الأشقاء. والسداد والحق واضحان في هذا القول الذي يتفق فيه أهل العلم والذي يحتمل أن يكون مستندا إلى آثار نبوية وصحابية. وفي الموطإ أولويات مستندة كذلك إلى اتفاق أهل العلم. رأينا من المفيد إيرادها وفيها حق وسداد كما هو المتبادر وهي: إن بني الأخ للأب والأم أولى من بني الأخ للأب. وبني الأخ للأب أولى من أبناء بني الأخ للأب والأم. وبني الأخ للأب أولى من العم أخي الأب للأب والأم. والعم أخو الأب والأم أولى من العم أخي الأب للأب. والعم أخو العم للأب أولى من بني العم أخي الأب للأم والأب. وبني العم للأب والأم أولى من عم الأب أخي أبي الأب للأب والأم «1» . وهناك مسألة أخرى وهي ما إذا كانت الآية التي نحن في صددها والتي تعطي جميع التركة للأشقاء إذا كانوا أكثر من رجل وامرأة وتعطي جميع تركة الأخت لشقيقها وثلثي تركة الشقيق لشقيقتيه ونصفها لشقيقته. نسخت حكم الآية [12] التي تعطي سدس التركة للأخ أو الأخت لأم وثلثها إذا كانوا أكثر. والجاري المتفق عليه أنها لم تنسخها فالآية [12] قد فرضت للأخوة للأم فرضا فيبقى وما بقي بعد ذلك يعطى للأشقاء أو الأخوة من أب على الوجه المشروح بالنسبة للآية التي نحن في صددها. والمتفق والجاري أن نصيب الزوجة من زوجها الذي يموت كلالة يبقى قائما مع الآية التي نحن في صددها لأنه مفروض في القرآن فرضا. وهذا مثل ذاك. والله تعالى أعلم.

_ (1) انظر كل ما تقدم في الموطأ ج 2 ص 13.

هذا ولقد روى الطبري وغيره روايات عديدة من طرق مختلفة في صيغ متقاربة تفيد أن الآية التي نحن في صددها آخر آية نزلت من القرآن. وقد روى الشيخان والترمذي صيغة من هذه الرواية عن البراء قال «آخر سورة نزلت براءة وآخر آية نزلت يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ» «1» هذا مع التنبيه على أن هناك حديثا يرويه البخاري عن ابن عباس جاء فيه «آخر آية نزلت على النبي آية الربا» «2» ومهما يكن من أمر فالذي يتبادر لنا أن الآية التي نحن في صددها من أواخر ما نزل من آيات القرآن إن لم تكن آخرها. وقد يكون وضعها في آخر سورة النساء دون أن يكون لها أي صلة بالآيات السابقة لها دليلا قويا على ذلك. ثم على أن الآية نزلت بعد أن تمّ ترتيب وتأليف هذه السورة وعلى أن ذلك كان بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وبالتالي على صحة ما ورد من آثار وأقوال بأن آيات السور القرآنية قد رتبت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبأمره. لأنه لو كان جرى ذلك بعده اجتهادا من أصحاب رسول الله كما يقول بعضهم لكان من المعقول أن توضع الآية في سياق آيات المواريث أو بعدها بقليل. وننبه على أن هناك أحاديث صحيحة تذكر أن آخر سورة نزلت هي سورة براءة أو سورة النصر ولا نرى تعارضا. فالأحاديث السابقة هي في صدد نزول آيات وهذه في صدد نزول سور وسوف نزيد هذا شرحا في مناسباته إن شاء الله.

_ (1) التاج ج 4 ص 89. (2) المصدر نفسه ص 62 والمقصود من آية الربا هي على الأرجح آيات سورة البقرة [275- 280] وقد نبهنا على ذلك في مناسباته السابقة.

سورة محمد صلى الله عليه وسلم

سورة محمد صلى الله عليه وسلم في هذه السورة تنديد بالكفار وكفرهم وصدهم عن سبيل الله. وحض للمؤمنين على قتالهم على أن لا يكون قتل إبادة. وتشريع بحق أسراهم. ومقايسات بين المسلمين والكفار ومصائر كل من الفريقين. وتنديد بمرضى القلوب، وصور عن مواقفهم وتآمرهم مع اليهود. وحث للمسلمين على طاعة الله ورسوله والجهاد والبذل في سبيله، وتنديد بمن يبخل أو يتهاون مع الأعداء. وقد روى بعض المفسرين «1» اسما آخر لها هو (سورة القتال) لما فيها من حض على قتال الكفار كما هو المتبادر. وأسلوب السورة النظمي فريد. ويسوغ القول بوحدة نزولها أو تتابع فصولها حتى تمت. وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآية [13] نزلت لحدتها في طريق هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وانسجامها مع الآيات يحمل على التوقف في الرواية. وترتيب هذه السورة في روايات ترتيب النزول التي يرويها المصحف الذي اعتمدنا عليه وغيره «2» بعد سورة الحديد التي جاء ترتيبها في الروايات المذكورة بعد سورة النساء، ولما كان محتوى سورة الحديد يدل على أنها نزلت بعد الفتح المكي فقد أخرنا تفسيرها فصار ترتيب هذه السورة بعد سورة النساء مباشرة. وبين بعض فصول سورة النساء وفصول هذه السورة تماثل غير يسير.

_ (1) انظر تفسير الطبري والزمخشري وابن كثير. (2) انظر الجزء الثاني من كتابنا سيرة الرسول ص 9.

[سورة محمد (47) : الآيات 1 إلى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة محمد (47) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3) . (1) أضل أعمالهم: أحبطها أو لم يوفقهم فيها إلى الرشاد، أو أبطل كيدهم. (2) أصلح بالهم: أصلح أمورهم أو سكن روعهم. في الآيات: (1) تنديد بالكافرين الذين يصدون عن سبيل الله بالإضافة إلى كفرهم وإيذان بأن الله أبطل كيدهم وأحبط أعمالهم. (2) وتنويه بالمؤمنين الصالحي الأعمال المصدقين برسالة النبي وما أنزل عليه وإيذان بتكفير الله عنهم سيئاتهم وبإصلاحه لأمورهم وتهدئته لروعهم. (3) وتعليل للتنديد والتوبة والإيذان. فالكفار ضالون متبعون للباطل. والمؤمنون مهتدون متبعون للحق. وكل ينال ما يطابق خطته وعمله. وهذا جريا على عادة الله في ضربه الأمثال للناس للتذكير والموعظة. ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. وإنما رووا عن ابن عباس أن الآية الأولى نزلت في كفار مكة والثانية في الأنصار. ووصف الكفار بأنهم الذين صدوا عن سبيل الله قد يجعل صرف الآية الأولى إلى كفار مكة صوابا ووجيها. غير أن الآية الثانية من شأنها أن تكون شاملة لمؤمني الأنصار والمهاجرين معا. ومهما يكن من أمر فالمتبادر المستلهم من روحها وروح الآيات التالية أن الآيات مقدمة لما بعدها. ولقد قال المفسرون «1» إن جملة أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ تعني أنه أذهب فضل

_ (1) انظر تفسير الطبري وابن كثير والخازن والبغوي.

[سورة محمد (47) : الآيات 4 إلى 6]

وثواب ما كان الكفار يفعلونه من المكرمات هباء بسبب كفرهم، وعزوا ذلك إلى بعض التابعين. وإلى هذا فإن البغوي عزا إلى الضحاك تأويلا آخر وهو أن معناها (أبطل الله كيدهم ومكرهم بالنبي وجعل الدائرة تدور عليهم) «1» . وهذا أوجه وأرجح فيما هو المتبادر. هذا، وعبارة الآيات المطلقة تشمل في الوقت ذاته كل كافر حاد عن سبيل الله وكل مؤمن صالح العمل في كل ظرف. وعلى هذا الاعتبار ينطوي فيها أولا تعليل لما يحل بالكافرين من سخط الله ولما يناله المؤمنون من عفوه ورضائه. وهو تعليل متسق مع ما جاء من ذلك في مناسبات كثيرة سابقة ومع المبدأ القرآني المحكم المتكرر بأن كل فئة تنال من الجزاء حسب ما تختاره وتسير فيه من طريقي الضلال والهدى. وثانيا تلقين مستمر المدى بتقبيح الباطل وأهله وتقرير لما ينتج عن أعمالهم من شرّ وضرر عليهم وتحسين الحق ومتبعيه وتقرير لما ينتج عن أعمالهم من خير وفائدة. وهو ما تكرر في القرآن بأساليب عديدة. ومع ما قلناه فإننا نكرر هنا ما ذكرناه في مناسبات سابقة أن ما ذكر من أمر الكافرين بالنسبة لظروف الآيات هو من قبيل تسجيل الواقع وليس هو على التأبيد. إلّا بالنسبة لمن يستمر على كفره وصده عن سبيل الله. وكالعادة وقف مفسرو الشيعة عند الآية الثالثة وفسروا الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ بأنهم أعداء علي وآل الرسول رغم الصراحة القطعية على أنها في صدد الكافرين بالله مقابل الذين آمنوا ... «2» . [سورة محمد (47) : الآيات 4 الى 6] فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) .

_ (1) روى هذا الخازن أيضا. (2) التفسير والمفسرون للذهبي ج 2 ص 71.

(1) أثخنتموهم: أكثرتم فيهم القتل وقهرتموهم وانتصرتم عليهم. (2) فشدوا الوثاق: ائسروهم وقيدوهم بالقيود. (3) فإما منّا بعد وإما فداء: فإما أن تمنوا عليهم فتطلقوهم بدون فداء وإما أن تطلقوهم بفداء بعد ذلك. (4) حتى تضع الحرب أوزارها: حتى تنتهي حالة الحرب ويخلص الناس من أثقالها. (5) عرّفها لهم: وصفها لهم أو أخبرهم بمنازلهم فيها. الخطاب في الآيات موجّه إلى المسلمين كما هو المتبادر. وقد تضمنت: (1) أمرا لهم بأن عليهم إذا لقوا الكافرين في الحرب أن يصدقوا في قتالهم حتى إذا أكثروا فيهم القتل وقهروهم وضمنوا لأنفسهم الغلبة عليهم جنحوا إلى أسر ما بقي منهم، ويظل أمرهم معهم على هذا المنوال حتى تنتهي حالة الحرب ويتخلص الناس من أعبائها. (2) وتشريعا في حق الأسرى. فالمسلمون مخيرون فيهم بعد ذلك: فإما أن يمنوا ويتفضلوا عليهم فيطلقوهم بدون فداء وإما أن يطلقوهم بفداء. (3) واستطرادا تنبيهيا بأن الله قادر على التنكيل بالكفار والانتصار للمسلمين منهم بدون حاجة إلى قتالهم. ولكن حكمته شاءت أن يبلو بعضهم ببعض. (4) وبشارة وتطمينا بأن الله تعالى لن يضيع أجر الذين قتلوا في سبيله. وأنه سيهدىء روعهم ويقرّ عيونهم ويدخلهم الجنة التي وصفها لهم. وقد أول الزمخشري جملة وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ بمعنى أن الله شاءت حكمته بدلا من الانتقام منهم بدون قتال أن يبلو المؤمنين بالكافرين فيجاهدوا ويصبروا حتى يستوجبوا الثواب. والكافرين بالمؤمنين ليعاجلهم على أيديهم ببعض ما وجب لهم من العذاب. وقال غيره في

تعليق على الآية فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب.. إلخ والآيتين التاليتين لها ومسألة أسرى الحرب والرق

تأويلها ليصير المؤمنون إلى الثواب والكافرون إلى العذاب. وكلا القولين وارد ووجيه. وقد يصح أن يضاف إلى هذا أن الجملة انطوت على تقرير كون قتال المسلمين للكفار هو الأكثر اتساقا مع طبائع الأشياء والأدعى إلى إيقاع هيبة المسلمين في قلوب الكفار أو أنها رمت إلى معالجة جوابية لما يمكن أن يقوم في أذهان بعض المسلمين من تساؤل عما إذا لم يكن الأولى أن يبطش الله بالكفار وينتقم منهم دون تعريض المسلمين لشدة الحرب وخسارة الأرواح. ومثل هذه المعالجة سبق في سورتي الأنفال وآل عمران. ولقد أورد ابن كثير على هامش الآيات [4- 6] أحاديث نبوية عديدة في فضل الشهيد وثوابه عند الله عز وجل. ولقد أوردناها مع طائفة أخرى من الأحاديث من بابها في سياق آية سورة البقرة [154] فنكتفي بهذه الإشارة. تعليق على الآية فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ.. إلخ والآيتين التاليتين لها ومسألة أسرى الحرب والرقّ ولم نطلع على مناسبة خاصة للآيات. والمتبادر المستلهم من مضمونها وروحها أنها خطاب عام في معرض الحضّ على قتال الكفار مطلقا. وإضافة تعبير وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إلى جملة الَّذِينَ كَفَرُوا في الآية الأولى من السورة تدل على أن الأمر الذي احتوته الآية الأولى من الآيات التي نحن بصددها أي الآية الرابعة بقتال الكفار وضرب رقابهم حينما يلقاهم المسلمون هو صدّ الكفار الناس عن سبيل الله مع كفرهم. والصدّ يتناول تعطيل الدعوة والكيد لها والعدوان على المسلمين. وتعبير لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ مما يؤيد ذلك، لأن الانتصار هو ردّ العدوان ومقابلته بالمثل. وهكذا يكون الأمر بالقتال هنا متسقا مع المبادئ الجهادية التي انطوت عليها الآيات القرآنية وهي قتال المعتدي وليس قتال الكافر

إطلاقا على ما شرحناه في مناسبات سابقة شرحا يغني عن التكرار. وينطوي في جملة إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ حكم قرآني في هدف القتال وهو أنه ليس للإبادة وإنما هو للتأديب والتنكيل والقهر. فحينما تتحقق هذه الغاية وجب الكفّ عن القتل والجنوح إلى الأسر. وليس من تعارض بين هذا الحكم وبين ما ورد في جملة ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ الواردة في آية الأنفال [67] بل وبينهما توافق. فهذه الجملة لم تمنع الأسر وإنما نبهت إلى أنه لا ينبغي أن يكون إلا بعد أن تكون هيبة النبي وقوته قد توطدتا في قلوب الأعداء ولم يبق من حرج في الأسر منهم بدلا من إبادتهم بالقتل، وحكم الجملة التي نحن في صددها قد سمحت بالأسر إذا ما أثخن المسلمون في أعدائهم وقهروهم وتحققت لهم الغلبة عليهم. وقد أورد المفسرون» أقوالا معزوة إلى ابن عباس وعلماء التابعين في صدد تأويل جملة حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها منها أنها بمعنى حتى تنتهي الحرب القائمة مع الكفار بتوبتهم وإسلامهم والانتهاء عن الشرك. ومنها أنها بمعنى الاستمرار في حرب الكفار إلى أن لا يكون في الأرض شرك أو حتى ينزل عيسى عليه السلام ويدخل الناس في دين الإسلام. وقد أورد البغوي في تأييد هذا القول حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه «الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال» . ونحن نتوقف في التسليم بهذا التأويل على إطلاق. لأن هناك أحداثا يقينية الوقوع في العهد المدني تعارضه. منها أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الفداء من أسرى بدر وأطلقهم وهم كفار وعادوا إلى مكة. وهذا ما انطوى في آيات سورة الأنفال [67- 69] التي مرّ شرحها ومنها مصالحة النبي صلى الله عليه وسلم المشركين مع بقائهم على شركهم في صلح الحديبية الذي انطوى خبره في سورة الفتح المتأخرة كثيرا عن هذه السورة. وقد دخل نتيجة لذلك بنو بكر في صلح قريش وبنو خزاعة في صلح النبي

_ (1) انظر الطبري والبغوي والنسفي والخازن وابن كثير والطبرسي.

مع بقائهم على شركهم. وهذا يسوغ القول إن الجملة المذكورة تعني (حتى تنتهي حالة الحرب بإسلام الكفار الذين كانت بينهم وبين المسلمين حالة عداء وحرب أو التصالح معهم ووقوف حالة الحرب بينهم وبين المسلمين ولو بقوا مشركين. وقياسا على هذا القول الذي نرجو أن يكون هو الصواب فيمكن القول إنه يشمل كل حالة حرب تكون بين المسلمين والأعداء المستحقين للقتال من الكفار كما هو المتبادر. ولقد أورد البغوي قولا للكلبي لجملة حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها إنها بمعنى حتى يسلموا أو يسالموا وقولا للفراء إنها بمعنى حتى لا يبقى إلّا مسلم أو مسالم. والتأويلان يدعمان تأويلنا كما هو واضح. وجملة فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً صريحة في أنها تجعل للمسلمين الخيار في الأسرى الذين يأسرونهم من الكفار بعد أن تنتهي حالة الحرب بأحد الشكلين السابقين بين المنّ والتسريح بدون فداء، والتسريح بالفداء. وصاحب الخيار هو ولي أمر المسلمين بطبيعة الحال. وهذه هي المرة الثالثة التي يرد فيها حكم قرآني في صدد أسرى الأعداء. وكانت المرة الأولى في آيات الأنفال [67- 69] أما آية سورة الأحزاب [26] فإنها لم تحتو على حكم قرآني وإنما احتوت على حكاية ما فعله المسلمون ببني قريظة حكاية قد تنطوي على إقرار ذلك. ولسنا نرى تناقضا أو تعارضا بين آيات الأنفال والآية الرابعة التي نحن في صددها فآيات الأنفال تنبه على أنه لم يكن من مصلحة الإسلام والمسلمين أخذ أسرى من الأعداء قبل أن يثخن فيهم ويوقع الرعب في قلوبهم. وهذه الآيات تجيز ذلك في حال تحقق الإثخان والرعب. ويكون كل من آيات السورتين مستمر المدى والتلقين حسب ظروف الأحداث ومصلحة المسلمين العامة وحالة المسلمين والعدو المادية والمعنوية. ولقد كانت جملة فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً مما تعددت الأقوال في حكمها ومداها في كتب المفسرين «1» عزوا إلى ابن عباس ومجاهد والضحاك والشافعي

_ (1) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي وغيرهم.

وأبي يوسف وغيرهم. منها أن حكم هذه الجملة منسوخ بآية التوبة هذه فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وأنه لا يجوز المنّ على الأسير الكافر ولا الفداء، بل القتل أو الاسترقاق. ومنها أن الآية محكمة وأنها جعلت الخيار للإمام في المنّ والفداء. وأن له أن يقتل أيضا لأن ذلك أبيح له في آية التوبة المذكورة آنفا. ومنها أن الآية لا تبيح القتل وحكمها هذا محكم، وللإمام أن يمنّ أو يفادي أو يسترقّ. ويلحظ أن هذه التأويلات هي اجتهادية. وغير متسقة مع فحوى الجملة التي تحصر الحكم بين المنّ والفداء حيث يكون قائلوها قد مزجوا بينها وبين أحكام قرآنية ونبوية أخرى. ولقد مارس النبي صلى الله عليه وسلم أربع طرق مع الأسرى. وهي المنّ والفداء والاسترقاق والقتل على ما شرحناه في سياق تفسير آيات سورة الأنفال والأحزاب في أسرى بدر وبني قريظة. ومن صور المفاداة التي مارسها مفاداة مسلم بابن أبي سفيان وإيجاب تعليم بعض أبناء المسلمين على أسرى قريش الذين لم يكن معهم ما يفتدون به أنفسهم على ما ذكرناه في سياق تفسير آيات الأنفال. ولقد روى الترمذي عن عمران بن الحصين «أن النبي صلى الله عليه وسلم فدّى رجلين من المسلمين برجلين من المشركين» «1» ولقد روى الشيخان والترمذي عن أبي هريرة حديثا فيه حادث منّ نبوي مع غير أسرى بدر وقريظة في سياق طريف رأينا إيراده جاء فيه قال أبو هريرة «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيل قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال سيّد أهل اليمامة فربطوه بسارية من سواري المسجد فخرج إليه رسول الله فقال ما عندك يا ثمامة فقال عندي يا محمد خير. إن تقتل تقتل ذا دم وإن تنعم تنعم على شاكر. وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فتركه النبي حتى كان بعد الغد فقال ما عندك يا ثمامة قال ما قلت لك فتركه رسول الله حتى كان بعد الغد فقال ما عندك يا ثمامة فقال عندي ما قلت لك فقال رسول الله أطلقوا ثمامة فذهب إلى

_ (1) التاج ج 4 ص 354. الجزء الثامن من التفسير الحديث 20

نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك فقد أصبح وجهك أحبّ الوجوه كلّها إليّ. والله ما كان من دين أبغض إليّ من دينك فأصبح دينك أحبّ الدين كلّه إليّ والله ما كان من بلد أبغض إليّ من بلدك فأصبح بلدك أحبّ البلاد كلّها إليّ. وإنّ خيلك قد أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى فبشّره النبي صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر فلما قدم مكة قال له قائل أصبوت قال لا ولكني أسلمت مع رسول الله. ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم» «1» . وروى البخاري وأبو داود عن مروان حديثا فيه حادث منّ آخر لسبي هوازن بعد أن تقرر استرقاقه وقسم على المسلمين. وفيه صورة رائعة من صور مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين واسترضائه إياهم جاء فيه «جاء وفد هوازن مسلمين إلى النبي وسألوه أن يردّ إليهم أموالهم وسبيهم (وكان المسلمون استولوا عليها في يوم حنين) فقال لهم أحبّ الحديث إليّ أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين إما السبي وإما المال وقد كنت استأنيت بهم فكان النبي انتظر آخرهم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف. قالوا إنا نختار سبينا فقام رسول الله في المسلمين فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فإنّ إخوانكم هؤلاء قد جاؤوا تائبين وإني رأيت أن أردّ إليهم سبيهم. من أحبّ أن يطيّب فليفعل ومن أحبّ منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل فقال الناس طيّبنا ذلك لهم يا رسول الله. فقال لهم رسول الله إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم فرجع الناس فكلّمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم قد طيّبوا وأذنوا» «2» وشيء من هذا روي في صدد سبي بني المصطلق حيث روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار عليهم وقتل بعضهم وسبى سبيا منهم وكانت جويرية بنت الحارث زعيمهم من السبي وقسم السبي على أصحابه فوقعت

_ (1) التاج ج 4 ص 352- 354. (2) المصدر نفسه ص 355. [.....]

في سهم واحد من الأنصار فعرضت عليه أن يكاتبها أي تشتري نفسها منه فقبل وجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تستعينه فعرض عليها أن يقضي عنها ثم يتزوجها فرضيت. فلما عرف الناس قالوا إنهم صاروا أصهار رسول الله فأطلقوا ما في أيديهم من السبي فكانت أعظم امرأة بركة على قومها «1» . وتلخيصا لما مرّ وتعليقا عليه نقول أولا: إن القول بأن آية سورة التوبة الخامسة نسخت حكم آية سورة محمد فصار لا يصح للأسير الكافر إلّا القتل محل نظر. لأن الآية وإن كانت تأمر بقتل المشركين أنّى وجدوا فإن ذلك لا يتحمل أن يدخل فيه قتلهم بعد الأسر أيضا. وثانيا: إن الأحداث المروية تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم مارس مع الأسرى أربع طرق حسب ما كان يراه من مصلحة الإسلام والمسلمين وهي المنّ والفداء (ويدخل مبادلة أسرى الكفار بأسرى من المسلمين في باب الفداء) والقتل والاسترقاق. منهما طريقتان نصّت عليهما آية سورة محمد وهما المنّ أو الفداء. وطريقتان حكت آية سورة الأحزاب [26] أن النبي صلى الله عليه وسلم مارسهما حكاية قد تفيد إقرارهما وهما القتل والأسر أي الاسترقاق. وقد جازت آيات سورة الأنفال [67- 69] الفداء أيضا. وفي كتب التاريخ القديمة روايات كثيرة تذكر أن خلفاء رسول الله الراشدين وكبار أصحابه الذين تولوا حركة قمع الارتداد والفتوح كانوا يمارسون هذه الطرق حسب ما يرون فيه مصلحة الإسلام والمسلمين بحيث يصح القول إن هذه الطرق هي السنن الإسلامية القرآنية النبوية في صدد أسرى الكفار الأعداء الذين لا يسلمون قبل استرقاقهم وإن أولي الأمر مخيرون في ممارسة واحدة أو أكثر من هذه الطرق حسب ما تمليه مصلحة الإسلام والمسلمين. أما الذين يسلمون قبل تقرير استرقاقهم فيكونون قد تحرروا بالإسلام على ما يستفاد من حادث سبي هوازن الذي يتضمن أن النبي استرقهم قبل إسلامهم وإسلام ذويهم.

_ (1) التاج ج 4 ص 381 وابن هشام ج 3 ص 339- 340.

ومن الجدير بالذكر أن الأحداث المروية عن ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم في الأسرى تفيد أنه كان أكثر ما يمارس المنّ والفداء وأنه لم يمارس القتل إلّا في النّضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط لشدة أذاهما وأنه لم يمارس القتل والاسترقاق إلّا في بني قريظة لشدة خطورة موقف الغدر والخيانة الذي وقفوه على ما شرحناه في سياق تفسير سورتي الأنفال والأحزاب وأن استرقاق سبي بني المصطلق وهوازن لم يستمر واستبدل بالمنّ. ولقد روى الإمام أبو عبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل مناديا يوم الفتح ينادي (ألّا يقتلنّ أسير ولا يتبع هارب ولا يجهز على جريح ومن أغلق بابه فهو آمن) . بحيث يسوغ القول إن المنّ والفداء هما الأكثر رعاية في سنن النبي وأن القتل والاسترقاق وبخاصة القتل لم يطبقا إلّا في ظروف خاصة اقتضتهما. وإذا لوحظ أن عادة استرقاق أسرى الحرب التي كانت عامة في جميع الأمم والبلاد كانت المصدر الرئيسي لعادة الاسترقاق الإنساني التي ظلت جارية في كثير من البلاد الإسلامية مدة طويلة إلى عهد قريب حتى أن كلمة (الأسير) جاءت في آية قرآنية مرادفة للمملوك وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً الإنسان [8] ثم إذا لوحظ أن آية سورة محمد هي التي احتوت تشريعا مطلقا في ما ينبغي عمله في الأسرى وأن هذا التشريع هو المنّ أو الفداء ظهرت لنا روعة هذا التشريع بتوجيهه ضربة حاسمة إلى هذه العادة. ولا يخفف من شدة الضربة طريقتا القتل والاسترقاق الجائزتان في الإسلام من حيث إنهما ليستا إلزاميتين وإنهما إنما طبقتا في ظروف خاصة. وإذا أضفنا إلى ذلك ما احتواه القرآن من وسائل عديدة لتحرير الرقيق والحث عليه كما مرّ شرحه في تفسير سورة البلد والبقرة والنساء وغيرها ظهر واضحا أن القرآن قد هدف إلى إلغاء الرقّ بالمرة في كل ذلك حيث تزداد روعة الهدف القرآني قوة وسطوعا. وما جاء في القرآن من أحكام متصلة بالرق لم يكن من قبيل الإنشاء وإنما كان من قبيل تنظيم أمر واقع في نطاق الحق والبرّ والإحسان مع الحث على تحريره وتشريع وسائل ذلك على ما شرحناه في تفسير سورة البلد.

ولقد قال الإمام أبو عبيد في كتاب الأموال «1» إنه لا رقّ على أسرى العرب وبذلك مضت سنّة رسول الله. وكذلك حكم عمر فيهم أيضا حتى إنه ردّ سبي أهل الجاهلية وأولاد الإماء منهم أحرارا إلى عشائرهم على فدية يؤدونها وقال كلمته المشهورة (ليس على عربي ملك) حيث ينطوي في هذا خطة أو تلقين خاص بالنسبة للعرب الذين هم مادة الإسلام كما وصفهم عمر كما هو مشهور. وأخيرا نقول إنه لا أسر ولا استرقاق ولا منّ ولا فداء بين المسلمين في حالة وقوع قتال بينهم. لأن هذا القتال لا يدخل في مفهوم الجهاد في الإسلام ولا يستتبع آثاره وتظل صفة الطائفتين هي صفة (الأخوة) كما جاء في آيات سورة الحجرات وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) ويطلق سراح الأسير المسلم الذي يقع في يد المسلم بدون معنى منّ وفداء. كذلك فإنه لا أسر ولا استرقاق للمسالمين من الكفار ولا أسر ولا استرقاق لمن صالحوا المسلمين من الكفار الأعداء إذا تمّ الصلح قبل الاسترقاق أي قبل أن يقرر ولي أمر المسلمين استرقاقهم وإذا أسلم قبل ذلك يتحرر. وإذا جاء عبد مالكه كافر إلى المسلمين وأسلم يتحرر كذلك. وقد روي في صدد هذا حديث رواه أبو داود والترمذي عن علي قال «خرج عبدان إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية قبل الصلح فكتب إليه مواليهم والله يا محمد ما خرجوا إليك رغبة في دينك وإنما خرجوا هربا من الرقّ فقال ناس صدقوا يا رسول الله ردّهم إليهم فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا. وأبى أن يردّهم وقال هم عتقاء الله عزّ وجل» «2» .

_ (1) كتاب الأموال ص 133. (2) التاج ج 4 ص 355- 356.

[سورة محمد (47) : الآيات 7 إلى 12]

[سورة محمد (47) : الآيات 7 الى 12] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12) . عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت: (1) وعدا من الله للمسلمين بالنصر والتثبيت إذا نصروه أي نصروا دينه، وإيذانا بأن الله يكون مولاهم ويدخلهم الجنة. (2) وتنديدا بالكفار لكرههم لما أنزل الله وجحودهم فضله. وإيذانا بأنه قد أحبط بسبب ذلك مكائدهم وجعل الضلال والخسران حليفي أعمالهم. وإنذارا لهم بتدمير الله كما دمر الذين من قبلهم ممن رأوا آثارهم في أثناء طوافهم في الأرض ثم بالنار التي تكون مصيرهم في الآخرة. وتمثيلا لهم بالأنعام حيث كان تمتعهم في الدنيا لا يعدو تمتع الأنعام التي لا تشعر بمتعة والتي ليس لها من همّ إلّا إملاء بطونها وإشباع غرائزها. ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيات. والمتبادر أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة لتنوّه بالمؤمنين وتندد بالكافرين موضوع الكلام فيها. وأسلوبها قوي في حضّ المؤمنين وتثبيتهم وتبشيرهم وفي تقريع الكافرين وإنذارهم. وهو مما استهدفته الآيات بالنسبة لظروف نزولها كما هو المتبادر وهذا فضلا عما انطوى فيها من تلقين جليل مستمر المدى بالنسبة للمؤمنين والكافرين على السواء. وننبه هنا إلى ما نبهنا عليه مرارا من أن ما احتوته الآيات من دعاء على الكفار بالتعس وبإضلال أعمالهم وبأنه لا مولى لهم وأن النار مثواهم إنما هو تسجيل لواقع الأمر حين نزولها، وإنه إنما يظل واردا في حق من يموت كافرا وحسب. وقد جاء هذا المعنى صريحا في آية من آيات هذه السورة على ما يأتي بعد قليل.

[سورة محمد (47) : آية 13]

[سورة محمد (47) : آية 13] وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) . وجّه الخطاب في الآية إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد تضمنت تقرير كون مدن كثيرة كان أهلها أشد قوة من أهل مدينته الذين اضطروه إلى الخروج منها قد أهلكهم الله ولم يجدوا لهم ناصرا منه. وقد انطوى في هذا التقرير تقرير كون الله قادرا من باب أولى على إهلاك أهل مدينته والتنكيل بهم. واستهدفت الآية بذلك تسلية النبي وتطمينه وتثبيته كما هو المتبادر. وقد روى المفسرون «1» عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة مهاجرا التفت إليها وقال: أنت أحبّ بلاد الله إلى الله وأنت أحبّ بلاد الله إليّ ولولا أن المشركين أخرجوني لم أخرج منك فأعدى الأعداء من عدا على الله في حرمه أو قتل غير قاتله أو قتل بذحول الجاهلية. فأنزل الله الآية. وقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أنها نزلت في طريق هجرة النبي إلى المدينة أيضا. غير أننا نلاحظ أن الآية متصلة بما سبقها من إنذار ووعيد للكفار ومنسجمة في السياق انسجاما وثيقا في حين أن الروايات تفيد أنها نزلت منفصلة عنها وفي ظرف غير ظروف نزولها مما يسوغ الشك فيها. وهذا لا يمنع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ظل يذكر مرارة موقف مشركي قريش منه واضطراره بسبب ذلك إلى الخروج من بلده، فاقتضت حكمة التنزيل الالتفات في الخطاب إليه في سياق إنذار الكفار وتثبيته وتطمينه بأن الله سوف ينتقم منهم كما انتقم ممن هم أشد منهم قوة. [سورة محمد (47) : آية 14] أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14) . في الآية تساؤل إنكاري عما إذا كان الذين هم على بينة من ربّهم سائرون

_ (1) انظر الطبري والبغوي والخازن وابن كثير. وننبه على أن رواية البغوي للنص ليس فيها جملة (فأعدى الأعداء) إلخ وهذه الجملة من مرويات الطبري. والخازن عادة ينقل عن البغوي وابن كثير عن الطبري.

[سورة محمد (47) : آية 15]

على طريق الحق والهدى يصح أن يكونوا سواء مع الذين اتبعوا الهوى وانقلبت الحقائق في عقولهم وزينت لهم أعمالهم السيئة. وتضمنت الآية نفي إمكان التسوية بين الفريقين على ما تلهمه روحها. وقد رأينا الخازن ينفرد في القول إن الآية في صدد المقايسة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأبي جهل وغيره من مشركي قريش. ولم يسند قوله إلى رواية ما. والمتبادر أنها استمرار للسياق وفيها معنى التعقيب على الآيات السابقة مع التنويه بالصالحين المهتدين والتنديد بالضالين المسيئين. [سورة محمد (47) : آية 15] مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15) . (1) غير آسن: غير منتن أو غير متغير الرائحة والطعم نتيجة للفساد والركود. والآية استمرار في السياق أيضا كما هو المتبادر. وقد استهدفت تقرير عدم إمكان التسوية في المصائر الأخروية بين الصالحين المهتدين والضالين المسيئين لعدم إمكان التسوية بينهم بسبب مسلك كل منهم. فالمتقون موعودون بجنة فيها الأنهار من الماء النقي السائغ واللبن الطيب والخمر اللذيذ والعسل المصفى وكل الثمرات بالإضافة إلى رضاء الله ومغفرته في حين أن الكافرين الضالين المسيئين مقدر عليهم الخلود في النار، يشربون فيها الماء الشديد الغليان الذي يقطع الأمعاء. والتعبيرات الوصفية عما في الجنة والعذاب في الآخرة مستمدة من مألوفات الدنيا في أصلها. وقد جاءت بأسلوب التفخيم والتعظيم لحظ الناجين والتهويل لحظ الأشقياء للتشويق والإرهاب مما جرى عليه النظم القرآني واستهدفه على ما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة. مع التنبيه إلى أن ما فيها ليس خارجا عن نطاق قدرة الله تعالى ووجوب الإيمان بحقيقتها المغيبة التي أخبر عنها القرآن

[سورة محمد (47) : الآيات 16 إلى 17]

والوقوف عند ذلك مع الإيمان بأن لا بد من حكمة سامية في ذكر ذلك لعل منها ما ذكرناه من تشويق وترهيب. ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا رواه الإمام أحمد عن حكيم بن معاوية عن أبيه قال «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الجنة بحر اللبن وبحر الماء وبحر العسل وبحر الخمر ثم تشقّق الأنهار منها بعد» . وحديثا رواه أبو بكر بن مردويه عن عبد الله بن قيس عن أبيه قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأنهار تشخب من جنة عدن في جوبة ثم تصدّع بعد أنهارا» وحديثا رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني عن لقيط بن عامر قال «قلت يا رسول الله فعلام نطلع من الجنة قال على أنهار عسل مصفّى وأنهار من خمر ما بها صداع ولا ندامة وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وماء غير آسن وفاكهة لعمر إلهك ما تعلمون وخير من مثله، وأزواج مطهّرة قلت يا رسول الله أولنا فيها أزواج مصلحات قال الصالحات للصالحين تلذّونهن مثل لذّاتكم في الدنيا ويلذّونكم غير أن لا توالد» . وينطوي في الأحاديث توضيحات نبوية للآيات وترغيب وتبشير متسقان مع ما استهدفته كما هو المتبادر. [سورة محمد (47) : الآيات 16 الى 17] وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) . (1) ماذا قال آنفا: ماذا قال الآن من جديد. في الآيتين حكاية لحالة من حالات بعض فئات الكفار والمنافقين وحالة المؤمنين حينما كانوا يحضرون مجالس النبي ويستمعون إلى ما يقوله ويبلغه، حيث كان الأولون يحضرون هذه المجالس لاهية أذهانهم وقلوبهم مستخفّين بما يسمعون وحينما يخرجون يسألون بعض ذوي العلم والفهم من أصحاب رسول الله

الذين شهدوا المجلس عما قال النبي من شيء جديد فهؤلاء قد طبع على قلوبهم بسبب كفرهم ونفاقهم وخبث طواياهم ففقدوا السداد والرشاد والإدراك وانساقوا وراء الأهواء بخلاف المؤمنين المخلصين الذين كان الله يزيدهم هدى وفهما لما ينبغي أن يتقوا به الله كلما شهدوا مجالس النبي وسمعوا كلامه ومواعظه. وسؤال ماذا قالَ آنِفاً يحتمل أن يكون استخفافا وسخرية كما يحتمل أن يكون بقصد التأكد لأنهم لم ينتبهوا إلى ما كان يقوله النبي أو لم يعوه ويفهموه، وقد ذكر المفسرون الاحتمالين. وفي سورة التوبة آيتان قد تكونان من هذا الباب وتفيدان أن السؤال على سبيل السخرية والاستخفاف وهما هاتان وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) حيث يصح الاستئناس بالآيتين لترجيح احتمال الاستخفاف والسخرية في السؤال الذي نحن في صدده. وجملة وَمِنْهُمْ التي بدئت بها الآيتان تدلّ على أنهما معطوفتان على موضوع الكلام السابق أي الكافرين. حيث يفيد هذا أولا: أن الآيتين استمرار للسياق السابق. وثانيا: أن الكفار كانوا يجلسون إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم مع غيرهم. ويستمعون إليه في العهد المدني أيضا. وإذا صح هذا الاستنتاج فيكون هؤلاء الكفار من المعاهدين أو المسالمين وليسوا على كل حال من أعداء محاربين. ويكون في ذلك صورة من صور هذا العهد. على أن هناك احتمالا بأن يكون هؤلاء من المنافقين أيضا. وفي آيات تأتي بعد قليل إشارات إلى مواقف المنافقين ومرضى القلوب وحملة عليهم وفضح لأخلاقهم ومكائدهم حيث يستأنس بذلك على هذا الاحتمال. وهذا الاحتمال لا يقطع الصلة الموضوعية بين هاتين الآيتين والسياق

[سورة محمد (47) : آية 18]

السابق. وكل ما هناك أن الكلام يكون قد نقل من قبيل الاستطراد إلى ذكر مواقف المنافقين. وننبه على أن المفسرين لم يرووا مناسبة ما لهاتين الآيتين أيضا كما هو الأمر بالنسبة للآيات السابقة. حيث يصحّ أن يقال إن السياق جميعه من أول السورة عرض عام لمواقف المؤمنين والكفار والمنافقين وما يجب على المؤمنين أن يفعلوه مع الكفار الصادين عن سبيل الله. والله أعلم. [سورة محمد (47) : آية 18] فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) . (1) أشراطها: علاماتها. والكلمة جمع شرط بمعنى العلامة والأمارة. في الآية: سؤال استنكاري عما إذا كان الذين هم موضوع الكلام السابق أي الكافرين أو الكافرين والمنافقين. ينتظرون قيام الساعة حتى يخافوا ويؤمنوا مع أنها لا تأتي إلّا بغتة وقد جاءت أشراطها. وحينما تأتي لا ينفعهم التذكر والارعواء. تعليق على الآية فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها ... إلخ والآية متصلة بالسياق كما هو المتبادر. وقد أورد المفسرون قولا لابن عباس «1» جاء فيه إن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة ومعالمها. وحديثا رواه الشيخان والترمذي أيضا جاء فيه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بعثت أنا والساعة هكذا،

_ (1) انظر تفسير الآيات في البغوي والخازن وابن كثير. والنصوص منقولة من الخازن. وهناك أحاديث عديدة أخرى واردة في كتب الأحاديث الصحيحة منها ما يقارب بعض هذه النصوص في علامات الساعة لم نر إيرادها لأن الآية مصبوبة على ما جاء من أشراطها. انظر إذا شئت التاج ج 5 ص 273 وما بعدها.

ويشير بأصبعيه فيمدّهما، وفي رواية أنه ضمّ السبابة والوسطى، بقصد بيان تقارب بعثته وقيام الساعة «1» . ولقد أوردوا بالإضافة إلى ذلك أحاديث أخرى عن أشراط الساعة منها حديث عن أنس رواه قرب وفاته قال «ألا أحدّثكم حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحدثكم به أحد غيري سمعت رسول الله يقول: لا تقوم الساعة أو قال من أشراط الساعة: أن يرفع العلم ويظهر الجهل ويشرب الخمر ويفشو الزنا ويذهب الرجال ويبقى النساء حتى يكون لخمسين امرأة قيّم واحد» «2» وثان عن أبي هريرة جاء فيه «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ من أشراط الساعة أن يتقارب الزمان وينقص العلم وتظهر الفتن ويبقى الشحّ ويكثر الهرج قالوا: وما الهرج؟ قال القتل» «3» وثالث عن أبي هريرة جاء فيه «أن أعرابيا جاء إلى النبي فقال له متى الساعة وكان يتكلّم فمضى حتى أتمّ كلامه ثم سأل عن السائل، فقال: ها أنا ذا يا رسول الله، فقال إذا ضيّعت الأمانة فانتظر الساعة. قال وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» «4» ولما كان ما جاء في هذه الأحاديث لم يكن قد تحقق حين نزول الآية، فالأولى أن يكون هدفها على ضوء قول ابن عباس والحديث النبوي الأول ما هو متحقق من الأشراط حين نزولها، وهو بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى كل حال فإن الآية بسبيل التنديد بالمنافقين والكافرين لارتكاسهم في الضلال والغواية وعدم استجابتهم إلى دعوة الله قبل فوات الفرصة لأنها إذا فاتتهم ندموا حيث لا ينفع الندم. وبعبارة أخرى بسبيل الحثّ على الارعواء والاستجابة بدون إبطاء وإضاعة وقت. وهذا المعنى قد تكرر في آيات كثيرة مرت أمثلة عديدة منها لنفس الغاية والهدف.

_ (1) المصدر السابق نفسه. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه.

[سورة محمد (47) : آية 19]

[سورة محمد (47) : آية 19] فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19) . (1) متقلبكم: تنقلكم وحركاتكم. (2) مثواكم: إقامتكم وسكناتكم. عبارة الآية واضحة. وفيها التفات إلى النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التعقيب على الآيات السابقة. كأنما أريد أن يقال له فيها والله أعلم بقصد التسلية والتثبيت: إنه لا ينبغي أن يغتم كثيرا لتصامم أولئك الكفار والمنافقين عن الدعوة واندفاعهم في الغواية والضلالة فالله كاف لهم. وليس عليه إلّا الاستمرار في توحيد الله والدعوة إليه والتقرب إليه بالعبادة وطلب الغفران لذنبه وذنوب المؤمنين والمؤمنات. والله هو العليم بجميع حركاتهم وسكناتهم وحلّهم وترحالهم وبيده مصائرهم. ومثل هذه الآية كثير في مقام التعقيب والتطمين في مثل هذه المواقف مما مرّ منه أمثلة عديدة. ومقطع وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ورد لأول مرة في سورة غافر وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار. أما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستغفار للمؤمنين والمؤمنات فإنه يأتي لأول مرة بصيغته. وقد قال البغوي إن فيه إكراما للمؤمنين والمؤمنات لأن النبي هو الشفيع المجاب فيهم. وهذا تأويل وجيه. وقد يصح أن يضاف إليه أن الجملة جميعها تتضمن تلقينا بأن على النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلب دائما من الله تعالى الغفران لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات حتى يظلوا قيد رحمته وهو يعرف كل ما يكون منهم في مختلف ظروفهم ويعرف أنهم بطبيعتهم البشرية لا يمكن أن يخلوا من هفوات ومواقف تقتضي الاعتذار منها إليه. ثم تطمينا بأن الله تعالى وقد شاءت حكمة التنزيل أن يأمر نبيه بالاستغفار لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات قد شاءت حكمته كذلك الاستجابة لهذا الاستغفار وغدوّ الجميع قيد رحمته. وقد يدعم هذا ما رويناه في سياق أواخر سورة البقرة من حديث يفيد أن الله عز وجل حينما أوحى

[سورة محمد (47) : الآيات 20 إلى 24]

بالآيات التي فيها تعليم للمؤمنين بما يدعونه به أوحى إلى النبي بواسطة ملك الله أنه قد استجاب إليهم. والله تعالى أعلم. [سورة محمد (47) : الآيات 20 الى 24] وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) . (1) لولا: هنا للتمني. (2) محكمة: هنا بمعنى صريحة حاسمة. (3) فأولى لهم: بعض المفسرين قالوا إنها دعاء في مقام التنديد والوعيد، وبمعنى ويل لهم أو جاءهم ما يكرهون «1» . ومنها ما جاء في سورة القيامة أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) وبعضهم ربطها بالجملة التي بعدها ليكون معناها أولى لهم أن يقولوا طاعة «2» . والقول الأول هو الأوجه المتسق مع روح الآيات كما يتبادر لنا. في الآيات: (1) حكاية لما كان يتمناه المخلصون من المؤمنين من نزول سورة قرآنية حاسمة تأمر بالجهاد حتى يجاهدوا في سبيل الله. (2) وحكاية لحالة ذوي القلوب المريضة حينما ينزل الله سورة محكمة

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري وفي أكثر هذه الكتب القولان معا. (2) المصدر نفسه.

تعليق على الآية ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال.. والآيات الأربع التي بعدها

وحاسمة بذلك حيث يستولي عليهم الرعب وينظرون إلى النبي نظر الذي في حالة الاحتضار المملوء بالرعب والفزع واليأس. (3) ودعاء عليهم وتنديد بهم من أجل هذه الحالة التي تعتريهم. (4) وتعقيب على هذا الموقف الكئيب الكريه. فلقد كان الأولى بهم والأفضل أن يعلنوا السمع والطاعة ويظهروا الاستعداد لاستجابة أمر الله بالقول الحسن ثم يصدقوا الله إذا ما جاء وقت التنفيذ والعزيمة وندبوا إلى القتال. (5) وتساؤل تنديدي موجّه إلى هذه الفئة عما يتوقع منهم إذا تولوا حيث يفسدون في الأرض ويقطعون ما بينهم بذلك من الأرحام في حين أن الذين يفعلون ذلك يستحقون لعنة الله ويكونون كمن أعمى الله أبصارهم وأصمّ آذانهم. (6) وتساؤل استنكاري ينطوي على التنديد والتعقيب أيضا عما إذا كانت هذه الفئة لا تتدبر ما في القرآن من مواعظ وآيات بينات ولا تتأثر بها، أم هل على قلوبهم أقفال فلا ينفذ إليها شيء من ذلك. تعليق على الآية وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ.. والآيات الأربع التي بعدها ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيات. والمتبادر أنها فصل ملحق بالفصل السابق احتوى ذكر حالة أخرى من حالات المنافقين في المدينة والتنديد بهم عليها. وهي وقوفهم من الدعوة إلى الجهاد وقوف الخائف المثبط المتخاذل. وقد تكرر ذكر هذه الحالة عنهم في مناسبات عديدة سابقة ولا حقة. وفي سورة النساء فصل فيه مماثلة لهذا الفصل. وقد رويت في سياق ذلك رواية ذكرناها هناك عن مراجعة بعض كبار المسلمين وأقويائهم ومخلصيهم للنبي صلى الله عليه وسلم بشأن الإذن لهم بالجهاد ومقابلة عدوان الكفار بالمثل، ثم اعتراض المنافقين وتذمرهم من فرض الجهاد وتمنّيهم أن يكون هذا الفرض قد تأخر مدة أخرى. والأولى أن تكون

الرواية في مناسبة هذه الآيات لأن في أولاها إشارة صريحة إلى تلك المراجعة في حين أنه ليس في آيات النساء مثل هذه الإشارة. ولقد تعددت روايات وأقوال المفسرين «1» في تخريج الآية [22] فقال بعضهم إنها بمعنى «إنكم إن أعرضتم وتوليتم عن سماع القرآن وتنفيذ أوامره عدتم إلى جاهليتكم فأفسدتم في الأرض وقطعتم بذلك أرحام بعضكم» وقال بعضهم إنها بمعنى «إنكم إن نكلتم عن الجهاد عدتم إلى ما كنتم عليه من الفساد وتقطيع الأرحام» وقال بعضهم إنها بمعنى «إذا توليتم الأمور أفسدتم في الأرض وقطعتم أرحام بعضكم» بل وقال بعضهم. إنها في صدد ما فعله بنو أمية حينما تولوا الأمر حيث قتلوا بني هاشم وبذلك أفسدوا في الأرض وقطعوا أرحامهم. وأثر التشيع بارز في القول الأخير وليس له أي محل في مدى الآية. والقولان الأول والثاني هما أوجه من القول الثالث. وقد تبادر لنا تخريج نرجو أن يكون فيه الصواب وهو «إنكم إذا لم تنفذوا أمر الله وتصدقوا النية في الجهاد وتقابلوا فرضه بالرضا والطاعة تكونوا بذلك قد أطمعتم العدو وجعلتموه يفسد في الأرض ويعتدي عليكم ويقطع ما بينكم من الأرحام» والله أعلم. وأسلوب الآيات قوي لاذع. يلهم ما كان لموقف مرضى القلوب والمنافقين في نفس النبي والمخلصين من أثر، وما كان يتوقع منه من شر وخطر ومفسدة. وفيها تلقين قوي مستمر المدى بتقبيح وقوف أية فئة من الأمة موقف الجبن والفزع والإحجام والتخاذل وعدم التضامن مع المجموع في دفع البغي والعدوان وبيان ما ينجم عن ذلك من أخطار ومفاسد لا تسلم منها هذه الفئة نفسها لا في وطنها ولا في دمها ولا في ذويها. ولفظ سُورَةٌ هنا قد يفيد أمرا قرآنيا أو جملة قرآنية على الإطلاق أكثر منه

_ (1) انظر كتب التفسير السابقة الذكر وفي أكثرها الأقوال المتعددة.

[سورة محمد (47) : الآيات 25 إلى 28]

سورة مستقلة المطلع والختام. وهذا المعنى مما يمكن أن يستفاد من هذا اللفظ في بعض المواضع التي ورد فيها كما أن من الممكن أن يستلهم منه أن هذا المعنى هو المعنى الأصلي للكلمة. هذا، ولقد أورد المفسرون «1» أحاديث عديدة في سياق الآيتين [22 و 23] أوردنا ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة منها في سياق الآية الأولى من سورة النساء السابقة لهذه السورة ونبهنا بما تضمنته من تعظيم لشأن الأرحام وتلقين بوجوب حفظها وتوطيد الصلة بين ذوي الأرحام وإنذار لمن يقدم على قطعها. فنكتفي بهذا التنبيه. [سورة محمد (47) : الآيات 25 الى 28] إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28) . (1) سوّل لهم وأملى لهم: زيّن لهم ومنّاهم وغرّهم. (2) إسرارهم: ما يفعلونه سرّا أو ما يكنونه في أنفسهم. عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تنديدا بالذين ارتدوا عن الهدى بعد أن ظهرت لهم أعلامه واتبعوا ما يسخط الله وكرهوا ما يرضيه وكانوا يتآمرون مع الكفار ويعدونهم بطاعتهم والسير وفق رغبتهم. وإنذارا لهم، فقد فعلوا ما فعلوا بتزيين الشيطان وتغريره. وسيحبط الله مكائدهم وأعمالهم في الدنيا. ولسوف يكون استقبال الملائكة لهم حين يتوفونهم أسوأ استقبال حيث يضربونهم على وجوههم وأقفيتهم.

_ (1) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن مثلا. الجزء الثامن من التفسير الحديث 21

[سورة محمد (47) : الآيات 29 إلى 30]

ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيات. والمتبادر أنها هي أيضا فصل آخر ملحق بالفصلين السابقين. وقد روى المفسرون «1» عن ابن عباس وعلماء التابعين قولين في من عنتهم جملة إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ ... إلخ أحدهما أنهم أهل الكتاب أو اليهود الذين عرفوا الحق وارتدوا عنه وثانيهما أنهم المنافقون الذين ارتدوا عن الإسلام. وقد رجح الطبري القول الثاني. وهو الأوجه على ما يلهمه فحوى السياق السابق الذي ذكر فيه مرضى القلوب. كذلك رووا «2» قولين في من عنتهم جملة لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ أحدهما أنهم اليهود وثانيهما أنهم مشركو العرب وكفارهم. والجملة تتحمل القولين. فهناك آيات وصف اليهود فيها بهذا الوصف وآيات وصف كفار العرب به. ولقد وصف كفار العرب به في إحدى آيات السورة نفسها وهي الآية [9] حيث يمكن أن يرجح ذلك الاحتمال الأول. ولا سيما أنه ليس من دليل على أن هذه السورة نزلت قبل وقعة يهود بني قريظة لأنه لم يعد بعدهم في المدينة كتلة يهودية يمكن أن يتواطأ معها المنافقون. وعلى كل حال ففي الآية [26] التي فيها هذه الجملة إشارة إلى ما كان من تواطؤ المنافقون وانسجامهم مع أعداء الرسالة المحمدية سواء أكانوا اليهود أم المشركين. وقد تكررت هذه الإشارة في آيات عديدة مرّت أمثلة منها. والآيات قوية التنديد والإنذار والتشنيع من جهة وفيها تلقين مستمر المدى كالفصلين السابقين من جهة أخرى بتقبيح النفاق والارتداد إلى الضلال والباطل بعد ظهور الحق والهدى والتواطؤ مع أعداء الإسلام والمسلمين. [سورة محمد (47) : الآيات 29 الى 30] أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) .

_ (1) انظر كتب التفسير السابقة الذكر. [.....] (2) المصدر نفسه.

تعليق على الآية أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم والآية التالية لها

(1) أضغانهم: ما يضمرونه في قلوبهم من حقد. (2) لحن القول: لهجة الكلام وأسلوبه. في هذه الآيات: (1) تساؤل إنكاري فيه معنى التسفيه والإنذار عما إذا كان ذوو القلوب المريضة المنافقون يظنون أن أمرهم خاف على الله وأنه عاجز عن فضيحتهم وإظهار ما في قلوبهم من حقد ونوايا سيئة للمسلمين. (2) وتنبيه موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن الله لو أراد لأراه كل واحد منهم بعينه وعرفهم له بأشكالهم وأسمائهم. ومع ذلك فإنه يستطيع أن يعرفهم ويميزهم من لهجة كلامهم وأسلوب حديثهم بما فيه من المواربة والكذب والنفاق وأمارات الكيد والعناد والتشويش. (3) وتوكيد تقريري بأن الله يعلم أعمال جميع الناس ومحيط بها. تعليق على الآية أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ والآية التالية لها الآيتان متصلتان بالفصول السابقة ومعقبتان عليها كما هو ظاهر. والمتبادر المستلهم من روح الآية الثانية ومضمونها أنها انطوت أولا: على تقرير كون الأصلح للجميع ما اقتضته مشيئة الله من عدم تعريف جميع المنافقين للنبي والمسلمين تعريفا حاسما وصريحا. ولا سيما أنهم لا يخفون في لهجة الكلام وأسلوب التصرف على النبي ذي النظر الناقد والذهن الثاقب والمتصل بوحي الله وإلهامه. وثانيا: على تهديد المنافقين في الوقت نفسه بالفضيحة من جهة ورغبة

إثارة الخوف في نفوسهم منها حتى يرعووا عن موقفهم قبل دمغهم دمغا لا يبقى بعده لهم مخلص من جهة أخرى. وهذا وذاك يلهمان أولا أن من المنافقين من استطاع أن يخفي حقيقة أمره على بعض المسلمين على الأقل. وفي سورة التوبة آية صريحة بذلك بل وبكون بعض المنافقين استطاعوا إخفاء حقيقة أمرهم على النبي صلى الله عليه وسلم وهي وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101) وثانيا أن المنافقين كانوا يحذرون أن يعرف نفاقهم ويتحاشون الفضيحة به ويحاولون تأويل مواقفهم. وقد حكت ذلك آيات عديدة منها آية سورة المنافقون هذه إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) ومنها آية سورة التوبة هذه وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) وآية سورة التوبة هذه يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا [74] . والنفاق في حد ذاته يتضمن هذا القصد. فالمنافق كافر وغير مخلص ولو لم يخش الفضيحة والأذى لظهر على حقيقته بدون مواربة. ومع ذلك فلعل من الصواب أن يقال إن الحذر في المنافقين قد اشتد بعد توطد مركز النبي في المدينة وبخاصة بعد تطهيرها من اليهود إجلاء وتنكيلا. ولقد روى الطبري عن ابن عباس والضحاك في سياق الآية الثانية أن الله سبحانه عرفه إياهم في سورة التوبة حيث أوحى له وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً [الآية: 84] ولَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا [الآية: 83] . غير أن الآية [101] من سورة التوبة التي أوردناها والتي يلهم سياقها أنها نزلت بعد هاتين الآيتين صريحة النصّ كما قلنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف بعضهم. ومع ذلك فإن الآية التي نحن في صددها تلهم أن المنافقين مهما حاولوا التستر فإن

تصرفاتهم ومواقفهم وأقوالهم تظل تفضحهم وتعريهم وتجعل النبي صلى الله عليه وسلم والمخلصين يعرفونهم منها. هذا، ومما لا شك فيه أن الآيات قد احتوت درسا وموعظة بليغة مستمرة التلقين وبخاصة للزعماء والحكام الذين يسوسون الناس ويتولون توجيههم في كيفية التصرف معهم مخلصهم ومترددهم ومنافقهم. ولقد روى الطبرسي وهو مفسر شيعي في سياق الآية الثانية أن أبا سعيد الخدري قال «لَحْنِ الْقَوْلِ هو بغض عليّ بن أبي طالب. وقد كنّا نعرف المنافقين في عهد رسول الله ببغضهم له» وقال المفسر إن مثل هذا روي عن جابر ابن عبد الله وعبادة بن الصامت. ولا يوثّق المفسر رواياته بسند وثيق. ولم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. والهوى الشيعي واضح في هذا. وقد يكون حقّا أن بغض عليّ رضي الله عنه من علامات النفاق. ولكن ليس من محل للاختصاص بحيث يصح أن يكون من علامات النفاق بغض كل واحد من الرعيل الأول من أصحاب رسول الله ومن أقران عليّ أيضا وفي مقدمتهم أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم وغيرهم رضي الله عنهم. وإذا كان هناك حقا حديث رواه الترمذي عن أم سلمة جاء فيه «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يحبّ عليا منافق ولا يبغضه مؤمن» «1» فهناك أحاديث أخرى من هذا الباب عن أصحاب رسول الله عامة وعن الأنصار خاصة منها حديث رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود جاء فيه «الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبّهم فبحبّي أحبّهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه» «2» وحديث رواه الشيخان ومسلم عن البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الأنصار لا يحبّهم إلّا مؤمن ولا يبغضهم إلّا منافق فمن أحبّهم أحبّه الله ومن أبغضهم أبغضه الله» «3» .

_ (1) التاج ج 3 ص 297. (2) المصدر نفسه ص 272. (3) المصدر نفسه ص 341.

[سورة محمد (47) : آية 31]

[سورة محمد (47) : آية 31] وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31) . المتبادر أن الخطاب في الآية موجّه إلى المؤمنين إطلاقا من قبيل الالتفات والتعقيب على ما حكته الآيات السابقة من مواقف وحالات المنافقين: حيث نبهوا فيها إلى أن الله إنما يختبرهم بالجهاد والأمر به حتى يمتاز المجاهدون والصابرون والمخلصون من غيرهم. وتظهر أعمال ومواقف كل منهم. وقد احتوت بيان حكمة الله فيما فرض وأمر من شأنها بعث الطمأنينة والبشرى والصبر والرغبة في التضحية في نفوس المخلصين وإثارة الحافز والارعواء في المنافقين والمترددين. [سورة محمد (47) : الآيات 32 الى 34] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) . عبارة الآيات واضحة واتصالها بالسياق السابق ظاهر. وفيها عود على بدء في الإيذان بأن الله سيحبط مكائد وأعمال الكفار الصادين عن سبيل الله والمشاقين لرسوله برغم ما ظهر لهم من أعلام الهدى. وبأنهم لن يضروا الله شيئا بأعمالهم وبأنه لن يغفر لمن يموت منهم على حاله هذه، وفيها في الوقت نفسه هتاف بالمؤمنين بإطاعة الله ورسوله وعدم إبطال ثمرة إيمانهم بالانحراف عن ذلك بأي شكل. وفي الآيات توطيد لأوامر الله ورسوله وبخاصة في أمر الجهاد الذي كان موضوع الكلام في الفصل السابق. وتحذير للمخلصين من الانحراف وحفز للكفار على الارعواء قبل الموت. وقد قال بعض المفسرين إن الكفار المعنيين هنا هم أهل الكتاب «1» .

_ (1) الطبرسي.

[سورة محمد (47) : آية 35]

وليس في السياق ما يلهم صحة هذا الاختصاص. والتعبير يتناول كل من وقف موقف الصّدّ والعداء والأذى من المسلمين والدعوة الإسلامية. ولقد ذكرت الآيات الأولى من السورة الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وأذنت بإحباط أعمالهم وأمرت المؤمنين بقتالهم. وروح هذه الآيات تلهم أن المقصودين هم كفار العرب. وما دام الوصف واحدا فيكون المقصودون هنا هم المقصودون هناك. وفي الآية الأخيرة تقرير أو توكيد جديد لما نبهنا عليه مرة أخرى من أن الحملات القرآنية على الكفار وتقرير عذابهم الأخروي وكون الله لن يهديهم ولن يصلح بالهم وسيحبط أعمالهم إنما هي بالنسبة لمن يبقى على حاله كافرا صادا عن سبيل الله إلى أن يموت. [سورة محمد (47) : آية 35] فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) . (1) لن يتركم: لن ينقصكم، أو لن يحرمكم، أو لن يفجعكم فيها. تعليق على الآية فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ... إلخ لم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآية. والمتبادر أنها استمرار للسياق. ومعطوفة بخاصة على الآيات السابقة لها مباشرة والتي وجّه الخطاب فيها إلى المسلمين. وقد اختلفت التأويلات التي يرويها المفسرون عزوا إلى ابن عباس وعلماء التابعين للفقرة الأولى منها «1» . فمنهم من قال إنها تأمر المسلمين بعدم دعوة

_ (1) انظر تفسيرها في الطبري والنسفي والبغوي والخازن والطبرسي والزمخشري وابن كثير. وأكثرهم رووا أكثر من تأويل من التأويلات المذكورة.

[سورة محمد (47) : الآيات 36 إلى 38]

الكفار إلى الصلح والمسالمة وتوجب عليهم عدم التهاون في قتالهم إلى أن يسلموا. ومنهم من قال إنها تأمر المسلمين بذلك في حال تفوقهم وعلوّهم على الكفار ولا تمنعهم من مصالحتهم وموادعتهم إذا كانوا متفوقين عليهم، واستدل على ذلك بصلح النبي لقريش في الحديبية. ومنهم من قال إنها تأمر بأن لا يضعفوا ويتهاونوا في حرب الكفار ولا يكونوا بادئين في طلب الموادعة والمسالمة. والذي يتبادر لنا أنها تأمرهم بعدم الضعف والتراخي في الجهاد والجنوح إلى موادعة الكفار المعطلين المشاقين أو إهمال شأنهم تفاديا من تضحيات الجهاد ونتائجه. وتطمئنهم بأنهم هم الأعلون المفضلون المنصورون وأن الله معهم. ولن يخذلهم ويضيع أعمالهم. ومن كان هذا شأنه فلا يليق به أن يضعف ويتراخى في مكافحة المعتدين الصادين عن سبيل الله. وهذا التأويل هو المتسق مع روح الآيات القرآنية الجهادية عامة ومع روح الآيات وروح آيات السورة معا مع التنبيه على أنه ليس في الفقرة نهي عن الجنوح إلى السلم إذا جنح لها الأعداء من الكفار وكانوا صادقي الرغبة في الانتهاء من موقف العداء والبغي. وآية سورة الأنفال هذه وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [61] مما يؤيد ذلك. والآية بهذا الشرح الذي نرجو أن يكون هو الصواب تحتوي تلقينا مستمر المدى سواء أفي تهوين شأن الأعداء أم في الحثّ على عدم التهاون معهم والغفلة عنهم أم في حظر بثّ روح التراخي والضعف في ظروف النضال وواجباته. أم في تلقين كون المسلمين هم الأعلون لأنهم أولياء الله المجاهدون في سبيل دينه وأن من واجبهم أن يدركوا ذلك وأن يحتفظوا بهذه الكرامة التي كرّمهم الله بها وجعلهم أهلا لها بالإضافة إلى ما فيها من وعد الله لهم. بمكافأتهم على أعمالهم مهما كانت النتائج وما يبثّه هذا الوعد من ثقة فيهم. [سورة محمد (47) : الآيات 36 الى 38] إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38) .

تعليق على الآية إنما الحياة الدنيا لعب ولهو ... إلخ والآيتين التاليتين لها

(1) فيحفكم: من الإحفاء وهو الإلحاح والإبرام. تعليق على الآية إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ... إلخ والآيتين التاليتين لها في الآيات خطاب للمسلمين يتضمن: (1) تقرير كون الحياة لعبا ولهوا ومتاعها وأمدها قصيران زائلان. (2) وتقرير كون أجر المسلمين عند الله مضمونا إذا ما أخلصوا في الإيمان وتقوى الله. (3) وتقرير كون الله لا يطلب منهم الخروج عن جميع أموالهم ولا يلحّ عليهم في ذلك لأنه يعلم طبيعة البشر إزاء مثل هذا الطلب من شحّ وضنّ وتجهّم وإعراض ولا يريد لهم أن تظهر عليهم أعراض تلك الطبيعة. وكل ما في الأمر أنه يسألهم إنفاق بعضها. وهذا أمر هين كان يجب عليهم أن يفعلوه بدون تردد. ومع ذلك فإن منهم من يبخل به. ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه لأن خطر البخل في هذا المقام عائد عليه. والله تعالى غني عن الناس. والناس فقراء إليه على كل حال. والإنفاق الذي يدعوهم إليه إنما هو لمصلحتهم فإذا أعرضوا عن الاستجابة إلى ما يدعون والإخلاص لله فإن الله لا يعزّ عليه أن يستبدل بهم قوما آخرين لا يكونون مثلهم في البخل والإعراض وضعف الإخلاص والتقوى. وروح الآيات ومضمونها جعل من المتبادر لنا أن المقصود من جملة وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ أنه لا يسألكم أموالكم جميعها. ونرجو أن يكون هو الصواب. وأسلوب الآيات قوي رصين موجّه إلى العقول والقلوب معا. ومتسق مع

أسلوب القرآن في معالجة مثل الأغراض التي استهدفتها معالجة حكيمة متمشية مع طبائع الأشياء. ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية ما في مناسبة نزول الآيات. والمتبادر أنها استمرار للسياق السابق واستطراد إلى ذكر مسألة الإنفاق لأن مجاهدة العدو تتطلب ذلك. ولعل ما احتوته الآية السابقة من الأمر بعدم التراخي عن العدو متصل بهذه المسألة حيث كان بعض المسلمين يقصّر فيها فيكون ذلك مظهرا من مظاهر التهاون والتراخي فاقتضت الحكمة الاستطراد إليها. ويبدو من روحها أن المقصرين في هذه المسألة هم فئة أخرى غير المنافقين. وإذا صح هذا فيكون في الآيات صورة لما كانت تقابل به الدعوة إلى التضحية بالمال في سبيل الله من فتور وتردد من قبل بعض المسلمين الذين هم غير مدموغين بالنفاق والذين هم في الغالب من المستجدين الذين أسلموا رغبة أو رهبة أو مسايرة للظروف، ثم لم يخامروا ولم ينافقوا. وفي آيات أخرى في سور البقرة وآل عمران والنساء إشارات إلى مقابلة هذه الفئة الدعوة إلى الجهاد بالنفس بالفتور والتردد أيضا. وفي سورة الصف آيات صريحة في ذلك وهي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4) ويلفت النظر إلى أنها خاطبت المخاطبين بخطاب الذين آمنوا. وهذه الفئة هي غير الذين وصفهم الله في آية التوبة [100] بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وقال عنهم فيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ثم عناهم بوصف الصادقين في آية التوبة هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) . وما جاء في الآيات في صدد البخل والإنفاق في سبيل الله جدير بالتنويه من حيث انطواؤه على التنبيه على تعظيم أمر الإنفاق في سبيل الله وشدة ضرورته وخطر

التقصير فيه. ودلالة ذلك على ضعف إيمان وعقول المقصرين مما أكدته آيات كثيرة مرّت أمثلة عديدة منها. ولعل ما احتوته الفقرة الأولى من وصف للحياة الدنيا وتقرير لكون الإيمان والتقوى هما اللذان يجب أن يتصف بهما المسلم الصادق، وهما اللذان يمكن أن يعودا عليه من هذه الحياة بالنفع والأجر متصل بذلك. وفي كل هذا تلقينات مستمرة المدى كما هو المتبادر. ويلفت النظر بخاصة إلى الإنذار الرهيب المستمر المدى كذلك للمسلمين الذين يسمعون القرآن وقت نزوله وجلّهم من العرب إذا هم قصروا وبخلوا في الإنفاق في سبيل الله تعالى ينطوي فيه إنذار بزوالهم أو زوال عزهم واستعلاء غيرهم عليهم. وواضح من هذا الشرح الذي نرجو أن يكون فيه الصواب أن ما جاء في الآية الأولى من وصف للحياة إنما هو بسبيل حفز المسلمين على التزام الأفضل والأكرم والأبقى والمؤدي إلى رضاء الله فيها وهو الإيمان والتقوى. ولقد روى الطبري بطرقه على هامش الآية الأخيرة حديثا عن أبي هريرة قال «نزلت هذه الآية وسلمان الفارسي إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحكّ ركبته ركبته فقالوا يا رسول الله ومن الذين إن تولّينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا فضرب فخذ سلمان ثم قال هذا وقومه» وقد روى هذا الحديث البغوي أيضا ورواه الترمذي وهذا نصّ الترمذي عن أبي هريرة قال «قال ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله من هؤلاء الذين ذكر الله إن تولّينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا قال وكان سلمان بجنب النبي فضرب على فخذه وقال هذا وأصحابه. والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريّا لتناوله رجال من فارس» «1» ومع ذلك فإن الطبري يروي عن شريح بن عبيد وعبد الرحمن بن جبير من التابعين أن المقصود بهم أهل اليمن. كما أن البغوي يروي عن الكلبي أنهم كنده والنخع «2» . ولقد أورد ابن كثير نصّ

_ (1) التاج ج 4 ص 210- 211. (2) قبيلتان يمانيتان.

الترمذي وعقب عليه قائلا تفرد به مسلم بن خالد الزنجي ورواه عنه غير واحد. وقد تكلم فيه بعض الأئمة رحمة الله عليهم. ولقد أورده كذلك الطبرسي ثم روى عن أبي عبد الله أحد الأئمة أنه قال في معنى الآية «إن تتولّوا يا معشر العرب يستبدل قوما غيركم يعني الموالي وقد والله أبدل بهم خيرا منهم الموالي» . ونحن نتوقف في الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم. فأهل فارس ليسوا الوحيدين الذين دخلوا الإسلام من الأمم الأعجمية وليسوا الوحيدين الذين صار لهم سلطان في ظل الإسلام على أنقاض السلطان العربي. وهناك من كان أكثر وأقوى وأدوم وأوسع سلطانا وهم الترك. والقول المروي عن الإمام أبي عبد الله يرويه مفسر شيعي. ونحن نخشى أن يكون ذلك متأثرا بما كان من التعاون بين الهاشميين ثم العلويين وأهل فارس في سياق المنافسة على السلطان في القرون الثلاثة الأولى للهجرة. ويلحظ أن بعض علماء التابعين قالوا إن المقصودين هم أهل اليمن الذين لم يكونوا أسلموا بعد حين نزول الآيات والذين كانوا من أقوى الأركان التي قامت عليها الدول العربية الإسلامية الأولى حيث قد يفيد هذا أن الحديث المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عند هؤلاء العلماء. ومن الجدير بالذكر أن الموضوع الجوهري المتصل بأهل فارس الذي جاء في هذا الحديث قد ورد في حديث آخر رواه البخاري ومسلم في سياق تفسير جملة وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ من سورة الجمعة على ما أوردناه وعلقنا عليه في سياق تفسير هذه السورة في الجزء السابق. وبصرف النظر عما علقنا به على هذا الحديث في سياق تفسير سورة الجمعة فإن الفرق مهم في مناسبة الروايتين فضلا عن أن الحديث الوارد في مناسبة آية سورة الجمعة أقوى اعتبارا في مراتب الحديث. حيث نرى في هذا دعما وتصويبا لموقفنا في الحديث المروي في مناسبة آية سورة محمد التي نحن في صددها. والله تعالى أعلم.

سورة الطلاق

سورة الطلاق في السورة تشريعات تكميلية وإيضاحية لأحكام الطلاق والعدة والرضاع. وتوكيد وتشديد بالتزام الحدود التي رسمها القرآن في هذا الموضوع والتي تهدف إلى الرفق بالمرأة ورعاية الحياة الزوجية. والفصل الآخر منها وإن لم يكن متصلا بموضوع فصلها الأول المذكور آنفا اتصالا مباشرا فإن فيه تدعيما له على ما سوف يأتي شرحه. وهو مقفى بعض الشيء مثله مما يسوغ القول إنه نزل معه أو بعده كتعقيب عليه. وقد روي «1» عن ابن مسعود اسم آخر للسورة وهو (سورة النساء الصغرى) والراجح أن هذا الاسم مقتبس من موضوع السورة أيضا كما هو شأن اسمها المشهور. وترتيب هذه السورة في المصحف الذي اعتمدناه يأتي بعد سورة الإنسان التي تأتي بعد سورة الرحمن التي تأتي بعد سورة الرعد التي تأتي بعد سورة محمد. والسور الثلاث المذكورة قد فسرناها في سلسلة السور المكية لرجحان مكيتها على ما شرحناه قبل، فصار ترتيب هذه السورة بعد سورة محمد صلى الله عليه وسلم مباشرة. وهي السورة الثانية التي تبدأ بتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم والأولى هي سورة الأحزاب. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الطلاق (65) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) .

_ (1) انظر تفسير الطبرسي.

تعليق على الآية يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ... إلخ والآيتين التاليتين لها وما فيها من أحكام وتلقينات

تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ... إلخ والآيتين التاليتين لها وما فيها من أحكام وتلقينات وجّه الخطاب في الآيات إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصفته رئيس المسلمين كما هو المتبادر. مع توجيهه إلى المسلمين في الوقت نفسه. وقد تضمنت ما يلي: (1) على الأزواج الذين يريدون تطليق زوجاتهم أن يطلقوهنّ في الوقت الذي يصحّ أن يكون بداية حساب العدة مع الاهتمام بإحصاء العدة. (2) ولا يصح للأزواج أن يخرجوا زوجاتهم من بيوتهن التي هنّ فيها قبل انتهاء عدتهن. كما لا يجوز لهن أن يخرجن منها. باستثناء حالة صدور فاحشة مبينة منهن، وفي جملة لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً ينطوي تعليل ذلك وهو- كما يستلهم من روحها- احتمال انبعاث رغبة المراجعة عند الزوجين والعدول عن الطلاق حيث يكون بقاء الزوجة في بيتها ميسرا لذلك. (3) وعلى الأزواج حينما تنتهي عدة الطلاق إما أن يعدلوا عن الطلاق ويبقوا على الرابطة الزوجية وإما أن يصمموا على الفراق فإذا عدلوا فيجب عليهم أن يكون إمساكهم لزوجاتهم بقصد الرغبة الصادقة في حسن المعاشرة على الوجه المتعارف عليه أنه الحق. أما إذا صمموا على الفراق فعليهم أن يسرحوا زوجاتهم بالحسنى وعلى الوجه المتعارف عليه أنه الحق كذلك. (4) ويجب استشهاد شاهدين عدلين من المسلمين على الطلاق والعدة والمراجعة. ويجب على الشهود أن يؤدوا شهادتهم بدون محاباة. وأن يراقبوا الله وحده فيها.

(5) وقد نبهت الآيات إلى أن ما رسم فيها هو حدود الله التي لا تجوز مخالفتها. وأن من يتعداها يكون قد ظلم نفسه بما يعرضها له من الضرر في حياته ومن غضب الله وسخطه. وأن من يتقيه ويتوكل عليه ييسر له المخارج من المأزق ويرزقه من حيث لا يتوقع. وأن الله قد جعل لكل شيء حدّا مقدرا وأن في ذلك تحقيق الأمر الذي اقتضته حكمته. وواضح أن التنبيهات التي شرحناها في الفقرة الخامسة هي بسبيل تدعيم ما احتوته الآيات من حدود وأحكام. وهي قوية نافذة إلى القلوب والعقول معا. ولقد روى ابن كثير في سياق هذه الآيات عن أنس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق زوجته حفصة فأتت أهلها فأنزل الله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ الآية، فقيل له راجعها فإنما هي صوامة قوامة وهي من نسائك في الجنة فراجعها» . وهذا النصّ لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة ولكن الخبر ورد فيها حيث روى أبو داود والنسائي عن عمر «أن النبي صلى الله عليه وسلم طلّق حفصة ثم راجعها» «1» وليس في هذا النص إشارة إلى أن ذلك كان مناسبة لنزول الآيات. وهذه الآية مع الآيات الست التالية لها في صدد واحد. وفيها توضيح لمسائل عديدة مما قد يسوغ القول إن الأمر أعمّ من طلاق عادي صدر من رسول الله لبعض زوجاته. وأنه قد وقعت أحداث متنوعة لم تكن آيات سورة البقرة في الطلاق كافية لبيان الحكم فيها فاقتضت حكمة التنزيل إنزال الآيات. والله أعلم. ولقد شرحنا كيفية الطلاق الرجعي ومسألة الطلاق الباتّ مرة واحدة. وأوردنا الأحاديث الواردة في ذلك في سياق شرح آيات الطلاق في سورة البقرة فلا نرى حاجة إلى الإعادة. وإنما نقول في مناسبة الآيات التي نحن في صددها إن فيها وبنوع خاص في الأولى منها دليلا قرآنيا ثانيا على أن التطليق الشرعي هو تطليق رجعي طهرا بعد طهر. وإن التطليق الباتّ مرة واحدة ليس تطليقا شرعيا قرآنيا. أما

_ (1) انظر التاج ج 2 ص 312.

الدليل الأول فهو في آية البقرة [229] في جملة الطَّلاقُ مَرَّتانِ أي مرة بعد مرة. وقد جعلت الآية [227] من آيات البقرة عدة المطلقة ثلاثة قروء ليستطيع الزوجان المطلقان أن يتراجعا خلالها إذا تراضيا في حين أن عدة المبتوتة قرء واحد لاستبراء الرحم. وفي هذا تدعيم قرآني آخر. وفي جملة لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً في الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها تعليل بليغ من حيث احتمال طروء ما يغير رغبة الفراق خلال مدة العدة. وما جاء في الآيات من الأمر بإشهاد الشهود وإحصاء المعدة وأداء الشهادة على وجهها الحق. والتنبيه على أن ذلك حدود الله التي لا يجوز تعديها مما يدعم ما قلناه. أيضا فضلا عما ينطوي فيه من قصد التدقيق في الحساب وتجنيب الناس الوقوع في المحظور. ولقد محصنا في سياق تفسير آيات سورة البقرة ما ورد من آثار في صدد نفاذ الطلاق الباتّ أو الطلاق الثلاث فنكتفي هنا بهذا التنبيه. وجملة إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ تتحمل أن تكون بمعنى الزنا أو البذاءة على الزوج وأهله أو أذيتهم وسوء الخلق والسلوك معهم أو النشوز والتمرد على الزوج على ما ذكره المفسرون «1» عزوا إلى ابن عباس وبعض علماء التابعين. وهذا حقّ لأن فيه تعطيلا للغاية المستهدفة التي نبهنا عليها من بقاء المطلقة في بيت الزوجية فيصبح خروجها أو إخراجها منه أمرا لا مندوحة عنه. وفي الآيات تكرار للمبدأ القرآني المقرر في آيات سورة البقرة [229 و 231] وهو الإمساك بالمعروف أو المفارقة بالمعروف حيث ينطوي في ذلك عناية حكمة التنزيل في توكيد التزام هذا المبدأ في العلاقة الزوجية القائم على الحق والعدل وحفظ كرامة الزوجة في حالتي الإمساك والفراق. ولقد روى المفسرون في صدد الفقرة وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ رواية تذكر أنها نزلت في مناسبة وقوع شاب مسلم في أسر

_ (1) انظر تفسير ابن كثير والبغوي والخازن.

[سورة الطلاق (65) : الآيات 4 إلى 5]

الأعداء ومراجعة أبيه للنبي صلى الله عليه وسلم شاكيا أمره وفاقته فكان ينصحه بالصبر والإكثار من قول (لا حول ولا قوة إلا بالله) فاتبع النصيحة النبوية فما عتم ابنه أن نجا من أسره وتمكن من استياق ماشية آسريه والعودة إلى أبيه سالما غانما فبادر الأب إلى النبي فأخبره الخبر فنزلت «1» . والفقرة جزء من آية، والآية جزء من آيات. والمتبادر من الآيات أن المعنى المنطوي في الفقرة متصل بها من حيث إن فيها أمرا بتقوى الله في معاملة الزوجات وطلاقهن وعدّتهن وإمساكهن بالمعروف أو مفارقتهن بالمعروف فاقتضت حكمة التنزيل أن ينبه المسلمون في سياق ذلك إلى ما في تقوى الله والتوكل عليه وتنفيذ أوامره والتزام حدوده من فوائد عظمى. وهذا ليس من شأنه أن ينفي تلك الرواية. فمن المحتمل أن تكون صحيحة وإن لم ترد في كتب الصحاح. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلافى مناسبة الموقف في الآية فالتبس الأمر على الرواة. والآية على كل حال قد انطوت على تطمين ربّاني لمن يكون تقوى الله والتوكل عليه ديدنه وشعاره في كل شيء ومن الجملة سلوكه مع زوجته. هذا، وهناك حالة خطرت لنا. وهي أن يعرض للمطلقة حاجات تقتضيها الخروج أثناء عدتها من بيت زوجها مؤقتا إذا ما كانت تنوي العودة وعادت فعلا. والذي يتبادر لنا أن الأمر بعدم إخراجها وبعدم خروجها هو في صدد الخروج النهائي الذي يفوت به فرصة سهولة المراجعة أثناء العدة على ما تلهمه الآيات. وأن الخروج الموقت لحاجة طارئة والعودة بعد قضائها ليس من شأنه أن يتعارض مع ذلك وإن لها أن تفعله والله تعالى أعلم. [سورة الطلاق (65) : الآيات 4 الى 5] وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) .

_ (1) انظر تفسير ابن كثير والخازن والبغوي. الجزء الثامن من التفسير الحديث 22

تعليق على الآية واللائي يئسن من المحيض من نسائكم ... إلخ والآية التالية لها وما فيهما من أحكام وتلقين

تعليق على الآية وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ ... إلخ والآية التالية لها وما فيهما من أحكام وتلقين في الآية الأولى: (1) تعيين مدة ثلاثة أشهر عدة للائي انقطع حيضهن إذا كان هناك ارتياب. (2) وتعيين نفس المدة للائي انقطع حيضهن أو لم يحضن بالمرة بسبب بنيوي. (3) وتعيين وضع الحمل عدة للحاملات. وقد احتوت الفقرة الأخيرة من الآية ثم الآية الثانية توكيدا مكررا بوجوب تقوى الله وبيان ما يعود على المتقي من فوائد كبيرة حيث يجعل الله اليسر في أموره ويكفر سيئاته ويعظم له الأجر. وواضح أن هذا بسبيل تدعيم أوامر الله والتزام حدوده المرسومة في الآيات. وفيه ما هو ظاهر من توكيد العناية الربانية بالمرأة. واليأس من المحيض في أصله هو وصول المرأة إلى السنّ التي ينقطع عنها الحيض فيها عادة وتنتهي فيها قابليتها للحمل أي تيأس بعدها من الحمل. ولهذا سمّى هذا السنّ بسنّ اليأس. غير أن المتبادر من فحوى العبارة القرآنية أنها بسبيل بيان لكون مدة الأشهر الثلاثة قد عنيت لحالة الارتياب فيما إذا كان انقطاع الحيض لغير سبب سنّ اليأس بالنسبة للمتقدمات في السنّ نوعا ما. أو بسبب بنيوي أو لسبب صغر السن بالنسبة لغير المتقدمات في السن نوعا ما. ولقد روى الطبري عن بعض التابعين قولا في مدى الارتياب وهو أن يكون فيها إذا كان الدم دم حيض أو دم استحاضة. والاستحاضة هي نوع من النزيف الدموي يكون في غير أوقات العادة الشهرية وقد يستمر على ما شرحناه في سياق آيات الطلاق في سورة البقرة. والقول وجيه ولا يتعارض مع الشرح السابق. والمتبادر أن الكلام عائد للمطلقات اللائي انقطع حيضهن أو كنّ حاملات.

ويلحظ أن عدة المطلقات اللائي يحضن لم تذكر هنا. وذلك لأنها ذكرت في آية سورة البقرة [227] وهي ثلاثة قروء. ومدة الأشهر الثلاثة المعينة هنا تعدل مدة القروء الثلاثة. وقد روى البغوي أن خلاد بن النعمان قال «يا رسول الله ما عدة من لا تحيض والتي لم تحض وعدة الحبلى فأنزل الله الآية» وروى ابن كثير أن أبيّ بن كعب قال «يا رسول الله إنّ عددا من عدد النساء لم تذكر في الكتاب: الصغار والكبار وأولات الأحمال فأنزل الله الآية» . والآيتان معطوفتان على ما قبلهما. واستمرار للسياق السابق في موضوع واحد. وهذا لا يمنع أن يكون قد وقع سؤال عن الأمور التي احتوتها الآية الأولى في جملة ما وقع من ذلك في صدد ما احتوته الآيات السابقة. وهذا مألوف في التنزيل القرآني مما مرّ منه أمثلة كثيرة. والأمر بتطليق النساء لعدتهن هو بسبيل منح الزوج فرصة لمراجعة زوجته أثناء العدة. ولما كانت عدة الحامل هي وضع حملها فتكون هذه الفرصة للزوج ممتدة إلى هذا الوقت طال أو قصر كما هو المتبادر. فإذا لم يراجع الزوج زوجته قبل وضعها فيكون قد أضاع الفرصة وتكون قد طلقت منه طلقة بائنة أسوة بمن لا يراجع زوجته غير الحامل والتي يأتيها الحيض أثناء عدتها التي هي ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر. وحينئذ تتوقف مراجعة الزوج لزوجته على عقد جديد ومهر جديد وتراض بين الزوجين دون ما حاجة إلى أن تنكح زوجا آخر إذا لم تكن التطليقة هي الثالثة على ما شرحناه في سياق تفسير آية البقرة [227] شرحا يغني عن التكرار. ومع أن الكلام هو في صدد عدة الزوجات المطلقات فقد روى المفسرون أحاديث نبوية تجعل عدة الحامل المتوفى عنها زوجها هي وضع حملها أيضا، وأحد هذه الأحاديث رواه البخاري عن أبي سلمة قال «جاء رجل إلى ابن عباس وأبو هريرة جالس عنده فقال أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة فقال ابن عباس آخر الأجلين قلت أنا وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ قال أبو هريرة أنا مع أبي سلمة فأرسل ابن عباس غلامه كريبا إلى أم سلمة يسألها فقالت

[سورة الطلاق (65) : الآيات 6 إلى 7]

قتل زوج سبيعة الأسلمية وهي حبلى فوضعت بعد موته بأربعين ليلة فخطبت فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو السنابل فيمن خطبها» «1» وقول ابن عباس «آخر الأجلين» يعني أبعدهما. أي إذا كان الوضع قبل انقضاء عدة الحداد وهي أربعة أشهر وعشرة أيام تكون عدتها لتمام هذه المدة. فكانت رواية أم سلمة ناقضة لهذا القول. وقد روي هذا الحديث بطرق أخرى. ومنها ما جاء عن لسان سبيعة نفسها جوابا على سؤال عن فتيا النبي صلى الله عليه وسلم لها «2» . ومما جاء في رواية أوردها البغوي وهو من علماء الحديث أن أبا السنابل دخل على سبيعة فقال لها «قد تصنعت للأزواج؟ إنها أربعة أشهر وعشر» فذكرت ذلك لرسول الله فقال «كذب أبو السنابل- أو ليس كما قال أبو السنابل- قد حللت فتزوجي» . وقد روى الطبري بطرقه إلى هذا حديثا عن أبي بن كعب قال «لما نزلت هذه الآية وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ قلت يا رسول الله المتوفى عنها زوجها والمطلقة قال نعم» . وقد استند أئمة الفقه إلى هذا فأجازوا زواج الحامل المتوفى عنها زوجها عقب وضعها وإن كان ذلك بعد وفاته بمدة قصيرة. والمتبادر أن التشريع النبوي توضيح لما سكت عنه القرآن. لأن الآية [234] من سورة البقرة التي جعلت عدة الزوجة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام جاءت مطلقة بحيث تصح على الحامل وعلى غير الحامل، وأنه استهدف التخفيف عن المرأة مما هو متسق مع روح الآيات القرآنية وتلقينها بصورة عامة. [سورة الطلاق (65) : الآيات 6 الى 7] أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) .

_ (1) التاج ج 4 ص 239. (2) تفسير ابن كثير والخازن والبغوي. [.....]

تعليق على الآية أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ... إلخ والآية التالية لها وما فيهما من أحكام

(1) من وجدكم: بمعنى حسب قدرتكم وإمكانكم. (2) ائتمروا: تشاوروا واتفقوا. (3) تعاسرتم: اختلفتم أو عسر عليكم الاتفاق. (4) قدر عليه رزقه: كان رزقه ضيقا، أو حالته المالية ضعيفة. تعليق على الآية أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ... إلخ والآية التالية لها وما فيهما من أحكام تضمنت الآيتان: (1) أمرا يوجب على الأزواج إسكان مطلقاتهم في زمن العدة حيث يسكنون وحسب الإمكان الذي يكون لهم. (2) ونهيا عن مضارّتهن قولا وفعلا بقصد التضييق عليهن. (3) وأمرا بالإنفاق عليهن إن كنّ حاملات إلى أن يضعن حملهن وبإعطائهن أجر الرضاعة إذا أرضعن المولود بمقدار يقدر بالتشاور والتراضي وحسب ما هو معروف أنه الحق، فإن تعسر الاتفاق عليه فترضعه غيرها. (4) وتنبيها على أن تكون النفقة متناسبة مع حالة الزوج المالية سعة وضيقا. فذو السعة ينفق عن سعة. والذي حالته ضيقة ينفق بقدر ما يقدر عليه. فإن الله لا يكلّف إلّا بمقدار ما ييسره له. وهو القادر على أن يأتي باليسر بعد العسر. ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه مناسبة خاصة لنزول الآيتين. والمتبادر أنها استمرار للسياق. وتتمة لما جاء في الآيات السابقة من أحكام وحدود. وهي صريحة بأنه ليس على الأم المطلقة أن ترضع مولودها إلّا بأجر ولها على زوجها

حق السكن مدة عدتها إن كانت غير حامل وحق السكن والنفقة إلى أن تضع حملها إن كانت حاملا بالمقدار الذي تتسع له حالة زوجها المالية وإمكانياته. وما جاء في صدد إرضاع المولود واحتمال عدم الاتفاق عليه بين الوالد والوالدة يدل- كما هو المتبادر- على أن الزوج قد أضاع فرصة المراجعة أثناء الحمل وأصبحت زوجته طالقة منه. إما طلاقا بائنا أو طلاقا باتا إن كانت التطليقة هي الثالثة. ومسألة إلزام الزوج بنفقة المطلقة رجعيا مدة العدة إذا لم تكن حاملا من المسائل المختلف فيها باستثناء حق السكن الذي نصّت عليه الآيات. فقد أوجبها بعض الفقهاء قائلين إن الله وقد أمر بعدم إخراجهن من بيوتهن وأوجب لهن السكنى قد أوجب لهن النفقة بالتبعية. ولم يوجبها بعضهم لأن النص القرآني لم يذكر هذا الحق صراحة إلّا للمطلقة الحامل. ولم نطلع على أثر نبوي. ولعل هذا هو سبب الخلاف. وقد أسهب البغوي وابن كثير والخازن في هذه المسألة. ومما أوردوه من تدعيمات القائلين بالرأي الأول أن الآية إنما اختصت الحامل بالذكر لأن هناك احتمالا لطول مدة الحمل أكثر من مدة العدة. ونحن نرى القول الأول هو الأوجه. فمن حكمة إبقاء المطلقة الرجعية في بيت الزوجية وهو ما انطوى في الآية الأولى والآية السادسة من السورة معا تيسير مراجعة زوجها لها أثناء العدة فصار من الحق والعدل أن تكون نفقتها عليه أسوة بسكنها وتبعا له طول مدة العدة. وليس في الآيات ما يمنع ذلك ونستطرد إلى مسألة أخرى وهي حق السكن والنفقة للمطلقة بائنا أو باتّا طول مدة العدة. وقد روى الطبري أن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود كانا يوجبان ذلك. ولقد روى مسلم وأبو داود عن فاطمة بنت قيس قالت «طلّقني زوجي ثلاثا فلم يجعل لي رسول الله سكنى ولا نفقة» «1» غير أنه روي مع هذا الحديث حديث آخر مهم رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي إسحاق قال «كنت

_ (1) التاج ج 2 ص 332.

جالسا مع الأسود بن يزيد في المسجد الأعظم ومعنا الشعبي فحدّث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس فأخذ الأسود كفّا من حصى وحصبه به وقال ويلك تحدث بمثل هذا. قال عمر لا نترك كتاب الله وسنّة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت. لها السكنى والنفقة. قال الله عز وجل لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ» وفي هذا حق وصواب. فالآية لا تذكر صفة الطلاق إن كان رجعيا أو بائنا أو باتا. والمطلقة البائنة أو المبتوتة تكون ممنوعة من الزواج ومحرومة من النفقة مدة عدتها. ومطلقها هو سبب ذلك فمن الحق والعدل أن يتحمل نفقتها تبعا لما ذكر القرآن من واجبه بتحمل سكنها. وهذه المدة قصيرة. فهي حيضة واحدة أو شهر واحد وهي عدة لاستبراء الرحم على ما ذكرناه وأوردنا في صدده وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد يكون هذا الحق واردا بالنسبة لمن يكون أمرها بيدها وطلقت نفسها كما هو المتبادر. وقد يكون حديث أبي إسحاق مؤيدا لقول من قال إن للمطلقة الرجعية حق النفقة بالإضافة إلى السكن. بل هو كذلك من باب أولى. وللحديث مغزى فقهي عظيم. وهو أن أصحاب رسول الله كانوا يتوقفون فيما يرويه البعض من أحاديث معزوة إلى النبي إذا ما رأوها متعارضة مع نصّ قرآني أو سنّة نبوية أخرى. ويوردون احتمال الغلط أو النسيان فيما ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم. والظاهر أن هذا الحديث وأمثاله هو الذي جعل أئمة الحديث يضعون قاعدة لصحة الأحاديث النبوية وهي عدم تعارضها مع النصوص القرآنية. والحديث الذي توقف عمر فيه من مرويات مسلم وأبي داود. وهذه نقطة مهمة في بابها والله تعالى أعلم. هذا، وتوجيه الخطاب في أول السورة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد ينطوي على تقرير لكونه هو ومن يتولى أمر المؤمنين من بعده ذا حقّ الإشراف على تنفيذ ما احتوته الآيات من حدود ورسوم. وهو ما انطوى في آيات البقرة والنساء العائدة إلى الشؤون الأسروية واستلهمنا منه صلاحية وحق القضاء الإسلامي في الإشراف على هذه الشؤون ومراقبتها وتنظيمها ومن ذلك الطلاق.

[سورة الطلاق (65) : الآيات 8 إلى 12]

[سورة الطلاق (65) : الآيات 8 الى 12] وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12) . (1) عتت: تمردت. عبارة الآيات واضحة. والمتبادر أنها جاءت معقبة على الفصل السابق. ومن المحتمل أن تكون نزلت معه أو نزلت عقبه. وقافيتها قد تدل على قوة الانسجام بينها وبين ما قبلها أيضا. وقد استهدفت التوكيد والتشديد في وجوب تقوى الله والتزام الحدود التي بلغها رسوله للمؤمنين في مسائل الطلاق والعدة والرضاع والرفق بالمرأة ورعاية حقوقها والحرص على الرابطة الزوجية حيث قررت أن الله إنما أرسل رسوله إليهم ليخرجهم بما يتلوه عليهم من الآيات المنزلة عليه من الظلمات إلى النور ومن الفوضى إلى النظام، وأهابت بهم إلى تقوى الله. ووعدت من يلتزم أوامره نعيم الجنات وكريم الأجر والرزق، وأوعدت من يتمرد عليها بالعذاب الشديد الذي حلّ بكثير من القرى والأمم التي تمردت على الله وأوامره. والآيات قوية الأسلوب موجهة إلى العقول والقلوب معا. ومن شأنها أن تنفذ إلى نفس المؤمن نفوذا قويا. وفيها دلالة مؤيدة للدلالات السابقة الكثيرة على ما أعاره القرآن لموضوع المرأة والحياة الزوجية من عناية كبرى. وتلقين بأن يكون القرآن أسوة المؤمن ونبراسه في هذا الموضوع الخطير.

تعليق على الآية الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن

تعليق على الآية اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ وجملة وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ تأتي لأول مرة وللمرة الوحيدة في القرآن. وقد ذكرت الأرض في الآيات التي ورد ذكرها فيها في غير هذه الآية في صيغة المفرد. وقد استنبط أهل التأويل من ذلك أن الأرض سبع كالسموات. وساقوا في تأييد ذلك أحاديث نبوية وصحابية وتابعته على ما جاء في كتب التفسير «1» . ومن هذه الأحاديث ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة ومنها ما لم يرد. من ذلك حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال «بينما نبيّ الله جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب فقال نبي الله هل تدرون ما هذا. قالوا الله ورسوله أعلم. قال هذا العنان. هذا روايا الأرض. يسوقه الله تعالى إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه. ثم قال هل تدرون ما فوقكم. قالوا الله ورسوله أعلم. قال فإنها سقف محفوظ وموج مكفوف. قال هل تدرون كم بينكم وبينها. قالوا الله ورسوله أعلم. قال بينكم وبينها مسيرة خمسمائة سنة. ثم قال هل تدرون ما فوق ذلك. قالوا الله ورسوله أعلم. قال فإن فوق ذلك سماءين ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عدد سبع سموات ما بين كل سماءين كما بين السماء والأرض. ثم قال هل تدرون ما فوق ذلك. قالوا الله ورسوله أعلم. قال فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء بعد ما بين السماءين. ثم قال هل تدرون ما الذي تحتكم قالوا الله ورسوله أعلم. قال فإنها الأرض ثم قال هل تدرون ما الذي تحت ذلك. قالوا الله ورسوله أعلم. قال فإن تحتها الأرض الأخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عدد سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة. ثم قال والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم رجلا بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله ثم قرأ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ «2» وحديث أورده ابن كثير عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ما السموات السبع وما فيهن وما بينهن والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في

_ (1) انظر تفسير الآية وتفسير آية سورة الحديد [3] في كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن وغيرهم. (2) التاج ج 4 كتاب التفسير ص 226 و 227.

الكرسي إلّا كحلقة ملقاة في أرض فلاة» . وهناك حديث رواه الشيخان فيه عبارة سبع أرضين هذا نصّه «من أخذ من الأرض شيئا بغير حق خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين وفي رواية من أخذ شبرا من الأرض ظلما فإنه يطوّقه يوم القيامة من سبع أرضين» «1» على أن هناك على ما ذكره المفسرون من قال إن الآية لا تفيد ذلك. وإنه ليس في القرآن أي دليل على أن الأرض سبع. وخرّج العبارة القرآنية تخريجين أحدهما أن يكون تقديرها اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ وثانيهما أن تكون مِنَ زائدة ويكون تقدير العبارة «الله الذي خلق سبع سموات والأرض خلقها مثلهن» «2» والظاهر أن أصحاب هذا التأويل لم يثبت عندهم ما ورد من الأحاديث التي تذكر سبع أرضين. وعلى كل حال فالملحوظ أن العبارة القرآنية جاءت عابرة وبسبيل بيان عظمة قدرة الله ومطلق تصرفه أي ليست بسبيل تقرير كون الأرض سبعا بل ولا تقرير كون السموات سبعا بصورة مباشرة مقصودة. وإذا صح حديثا أبي هريرة وابن مسعود فإنهما بسبيل التنويه بعظمة ملكوت الله تعالى ووجوده وإحاطته. وحديث ابن عمر هو من باب الإنذار والوعيد من جهة ومن مشاهد يوم القيامة وعلى سبيل التمثيل والترهيب من جهة أخرى كما هو المتبادر. وأن الأولى أن يقف المؤمن في صدد السموات والأرض ومشاهد الكون والمغيبات المتنوعة الأخرى التي أخبر بها القرآن أو جاءت فيه عرضا أو قصدا عند ما وقف عنده القرآن، والثابت من الحديث النبوي دون تزيد ولا تخمين مع استشفاف الحكمة من ذلك التي منها على ما هو المتبادر بيان عظمة ملكوت الله وقدرته وإحاطته بكل شيء، ومع ملاحظة كون هذه الآيات وأمثالها من المتشابهات التي يجب أن يترك تأويلها ما لم يعه عقل الإنسان إلى الله وأنها ليست من المحكمات التي يكون فهم كنهها من الضرورات الدينية على ما نبهنا عليه في مناسبات كثيرة سابقة والله تعالى أعلم.

_ (1) التاج ج 5 ص 18. وعلّق الشارح على هذا الحديث بقوله: السند غريب. (2) انظر تفسير القاسمي محاسن التأويل.

سورة البينة

سورة البينة في السورة تقرير لحالة أهل الكتاب والمشركين قبل البعثة وإشارة إلى ما كانوا ينتظرونه من رسول وكتاب من الله. ونعي على أهل الكتاب لأنهم قد جاءهم ذلك ثم تنازعوا واختلفوا وبيان لدعوة الله وتقرير بأنها لا تتحمل مكابرة ولا اختلافا. وتنديد بالكفار وإنذار لهم وتنويه وبشرى للمؤمنين. وأسلوبها وانسجامها وتوازنها مما يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة. والمصحف الذي اعتمدناه يروي أنها مدنية نزلت بعد سورة الطلاق. وقد ذكر هذا في معظم روايات ترتيب النزول أيضا «1» . وقد روى بعض المفسرين أنها مكية أو أنها مختلف في مكيتها ومدنيتها «2» . وفي مضامينها ما يرجح مدنيتها، حيث احتوت نعيا على أهل الكتاب لأنهم كفروا بالرسالة المحمدية. وجل الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب ووقفوا من هذه الرسالة موقف المناوأة هم اليهود الذين كانوا في المدينة وكان ذلك منهم في العهد المدني. وهناك آيات مدنية عديدة تلهم أن فئات من النصارى ناظروا النبي ولم يؤمنوا. وإن منهم من كان يصدّ عن سبيل الله. وقد مرّ بعضها في سور البقرة وآل عمران والنساء وبعضها في سورتي المائدة والتوبة. وقد روى المفسرون للسورة أسماء أخرى وهي (لم يكن) و (البرية) و (القيّمة) «3» .

_ (1) انظر كتابنا سيرة الرسول ج 2 ص 9. (2) انظر تفسير الزمخشري والخازن والطبرسي. (3) انظر تفسير البغوي والزمخشري والقاسمي.

[سورة البينة (98) : الآيات 1 إلى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) . (1) قيمة والقيّمة: المستقيمة على الطريق القويم. تضمنت الآيات: (1) تقريرا لحال أهل الكتاب والمشركين قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان كل منهم متمسكا بما هو عليه لا ينفك عنه حتى تأتيهم بيّنة جديدة من الله في صورة رسول يتلو عليهم كتابا طاهرا مقدسا فيه شرح للطريق القويم الذي يجب عليهم أن يسيروا فيه. (2) نعيا عليهم لأنهم إنما تفرقوا وشذّوا بعد أن جاءتهم البينة التي هي رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن الذي أنزله الله عليه في حين أن ما جاءهم لم يكن ليتحمل خلافا ولا شذوذا لأنه إنما أمرهم بعبادة الله وحده مخلصين وبإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. وهذا هو الدين المستقيم والطريق القويم. ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيات. وكل ما قاله المفسرون في صددها أنها في صدد موقف أهل الكتاب والمشركين من رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا ما هو واضح في الآيات. ويلحظ أن النعي الأقوى فيها موجه إلى أهل الكتاب. وننبه إلى أن القرآن المكي خلا من وصف أهل الكتاب بالكفر أولا واحتوى آيات عديدة فيها تقرير كونهم يعرفون صدق القرآن ورسالة الرسول كما يعرفون أبناءهم. واعترافهم بأن القرآن منزل من الله وكونهم فرحوا به وبالرسالة المحمدية واعتبروهما مصداقا لوعد الله الذي في كتبهم برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وصفاته وأعلنوا إيمانهم وانضواءهم للإسلام

وخشعوا وسجدوا وبكوا دون مبالاة بما كان من تثريب المشركين لهم على ما ورد في آيات من سور الأنعام والأعراف والإسراء والقصص والعنكبوت والأحقاف وشرحناه في سياق تفسيرها بحيث يقال إنه لم يبق كتابي في مكة إلا انضوى للإسلام وكان فيهم أولو علم وثقافة فكان ذلك شاهدا عيانا داحضا لكل موقف كتابي مناوىء للقرآن والرسالة المحمدية بعد العهد المكي إلى آخر الزمان وردا ساحقا صاعقا لأنه كان في وقت قلة الإسلام وضعفه. وكان هذا من مؤيدات مدنية السورة على ما ذكرناه في تعريفها. ولقد اختلف الأمر في العهد المدني والقرآن المدني. حيث كان من اليهود في يثرب والحجاز ومن النصارى في مشارق الشام وما بعدها كتل كبيرة لها مصالح أعمتها عن رؤية الحق والنور اللذين رآهما أهل الكتاب في العهد المكي فوقف معظمهم مواقف المناوأة مما مرّ شرحه في سور البقرة وآل عمران والأنفال وكان لرجال دينهم أثر كبير في ذلك عبرت عنه آية سورة التوبة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [34] . فكانت حملات القرآن المدني شديدة قاصمة فاضحة ضدهم ومن جملتها آيات هذه السورة. ويتبادر لنا أن الآيات نزلت بمناسبة مشهد جدلي قام بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين فريق منهم أو تعقيبا عليه. ولعل بعض المشركين كانوا طرفا في المشهد. أو لعلّ ذكرهم جاء استطراديا ليكون الكلام جامعا للكافرين بالرسالة المحمدية ولا سيما إن المشركين العرب كانوا يقولون بأنه لو جاء نذير أو لو نزل لهم كتاب بلغتهم لكانوا أهدى من أهل الكتاب على ما حكته عنهم آية سورة فاطر [42] وآية الأنعام [157] فاقتضت حكمة التنزيل شمولهم بالنعي لأنهم شذوا وكفروا بما كانوا يتمنون مجيئه من عند الله من نذير وكتاب. ولا يمنع ما نقول أن يكون بعض النصارى الذين جحدوا رسالة النبي في العهد المدني ممن شهد المشهد وأن تكون عنتهم فيما عنته أيضا والله تعالى أعلم.

[سورة البينة (98) : الآيات 6 إلى 8]

وهكذا تكون الآيات احتوت تقريرا واضحا للدعوة النبوية. وحجة جدلية دامغة على الذين يطلبون البرهان من النبي على صحة دعوته. فدعوته هي إلى عبادة الله وحده والإخلاص له والصلاة إليه ومساعدة المحتاجين بالزكاة. ولا يطلب البرهان على صحة هذه الدعوة ويكفر بها إلا سيء النية خبيث الطوية. [سورة البينة (98) : الآيات 6 الى 8] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) . الآيات معقبة على الآيات السابقة كما هو المتبادر. وقد تضمنت تنديدا لاذعا بالذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين وتنويها وبشرى عظيمة للذين آمنوا ووصفا لهم بأنهم خير خلق الله مقابل وصف الأولين بأنهم شرّ خلق الله. وتنبيها بأن ما احتوته الآيات هو لتذكير الذين يخافون الله ويحسبون حسابه. ووصف الأولين مستمد من موقفهم الجحودي الذي كشفوا به عن سوء نيتهم وخبث طويتهم لأنهم جحدوا بما جاءهم وكانوا يتمنونه. وفي الآية الأولى دليل آخر جديد على أن الذين يكفرون برسالة النبي محمد من أهل الكتاب لا ينجيهم يوم القيامة لكونهم مؤمنين بكتبهم ورسالات أنبيائهم حتى ولو لم يكونوا منحرفين ومحرفين وهو ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. وهناك حديث رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهوديّ ولا نصرانيّ ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلّا كان من أصحاب النار» «1» مما فيه مصداق لهذا من وجهة النظر الإسلامية.

_ (1) التاج ج 1 ص 30.

تعليق على روايات الشيعة في صدد الآية إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية.

تعليق على روايات الشيعة في صدد الآية إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ. ورغم أن نصّ الآيات صريح بأن الآية [7] قد جاءت مقابلة للآية [6] لتكون شاملة لجميع الذين آمنوا وعملوا الصالحات مقابل الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين فإن مفسري الشيعة لم يمنعوا أنفسهم من رواية روايتين في صدد الآية السابقة متسقتين مع هواهم لم يردا في كتاب من كتب الأحاديث الصحيحة. ونعتقد أنهما منحولتان أولاهما عن ابن عباس جاء فيها «أن جملة هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ نزلت في علي بن أبي طالب وأهل بيته» . وثانيتهما عن يزيد بن شراحيل الأنصاري كاتب علي بن أبي طالب مرفوعة جاء فيها: «سمعت عليا يقول قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مسنده إلى صدري فقال يا علي ألم تسمع قول الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ هم شيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا اجتمعت الأمم للحساب يدعون غرّا محجلين» «1» . ومما يبرز الهوى الحزبي قويا تعبير «شيعتك» إذ لم يكن لعلي في زمن النبي ما يصحّ أن يدعى شيعته!.

_ (1) انظر تفسير الآيات للطبرسي.

سورة النور

سورة النّور في السورة فصول عديدة في التشريع والتأديب: حيث تتضمن تشريعات بشأن جريمة الزنا والقذف. وإشارة إلى حادث الإفك الذي قذفت به أم المؤمنين عائشة وآثاره ومواعظ وتنديدات وتنبيهات في سياقه. ودعوة إلى التعفف وتجنب أسباب الفتنة. وتعليمات في آداب الدخول على البيوت. واحتشام النساء في اللباس والتزين وتوقي أسباب الإغراء. وحثّا على تزويج العزاب من الرجال والنساء والمماليك. وتقريرات لعظمة الله وآثاره ونوره وهداه. وتنويها بالمخلصين المهتدين وتنديدا بالكافرين وما يرتكسون فيه من الظلمات التي تحبط أعمالهم. وتنديدا بمواقف مرضى القلوب في التحاكم إلى النبي والدعوة إلى الجهاد والاستخفاف بمجالسه ودعوته وإنذارا لهم. وتوطيدا لسلطان النبي السياسي والقضائي. ووعدا بنصر الله وتمكينه في الأرض لمن آمن وأخلص وأحسن العمل. وتعليمات في آداب الأكل وتيسيرا للناس فيها. وفصول السورة على تعددها مترابطة ترابطا موضوعيا أو زمنيا. وهذا يسوغ القول إنها نزلت في ظروف متقاربة ورتبت على الوجه الذي جاءت عليه في السورة بسبب ذلك. هذا مع احتمال أن يكون بعض فصولها نزلت قبل بعض فصول في سور متقدمة عليها في الترتيب، حيث روي أن وقعة المريسيع مع بني المصطلق التي كان حديث الإفك في مناسبتها وقعت قبل وقعة الخندق مع أن وقعة الخندق أو الأحزاب ذكرت في سورة الأحزاب «1» وحيث يمكن أن يقال إذا صحت تواريخ

_ (1) انظر طبقات ابن سعد ج 3 ص 104 و 108 وما بعدهما.

[سورة النور (24) : الآيات 1 إلى 2]

الوقائع أن فصول السورة قد رتبت متأخرة نوعا ما. والله أعلم. وترتيب السورة في المصحف الذي اعتمدناه يأتي بعد سورة الحشر. ولما كنا رجحنا نزول سورة الحشر قبل سورة الأحزاب وقدمناها عليها فقد صار ترتيبها بعد سورة البيّنة مباشرة على أننا نقول مع ذلك كله إنه ليس هناك قرينة قوية تسمح بترجيح كون أي فصل من فصول السيرة نزل بعد وقعة الخندق أو الأحزاب. وإن هذا قد يسيغ احتمال أن تكون فصول السيرة كلها نزلت قبل سورة الأحزاب وفي ظروف وقعة المريسيع وبني المصطلق وبعدها أيضا. والله تعالى أعلم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النور (24) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) . (1) فرضناها: فرضنا أحكامها أو أوجبناها. مطلع السورة فريد، وقد احتوت الآية الأولى تنويها بالسورة وما فيها من أحكام فرضها الله استهدافا لتذكير المخاطبين الذين هم المسلمون على ما هو المتبادر وتبصيرهم. أما الآية الثانية فقد احتوت تشريعا في حدّ الزنا فأوجبت جلد الزانية والزاني مائة جلدة في مشهد علني يشهده فريق من المؤمنين. وشددت في عدم التهاون في إقامة هذا الحد وفي طريقة تنفيذه وعدم الرأفة بالمجرمين. وجعلت ذلك دليلا على إيمان المؤمنين بالله واليوم الآخر بسبيل توكيده. تعليق على حد الزنا الوارد في الآية الثانية وما ورد في ذلك مع تمحيص موضوع الرجم لم يرو المفسرون مناسبة خاصة لنزول الآيات. ولقد ورد في الآيتين الجزء الثامن من التفسير الحديث 23

[15/ 16] من سورة النساء خطوة أولى في صدد الزناة على ما مرّ شرحه. والمتبادر أن حكمة التنزيل التي اقتضت أن تكون الخطوة الأولى ما ورد في تلك السورة رأت الوقت قد حان للخطوة الثانية التي احتوتها الآية الثانية. ولعل أحداثا وقعت فكان ذلك المناسبة. ولقد كان النساء اللاتي يأتين الفاحشة يحبسن في بيوتهن وقتا للخطوة الأولى إلى أن يتوفاهنّ الموت أو يجعل الله لهنّ سبيلا بناء على ما جاء في آيتي سورة النساء. ومن المحتمل أنه صار شيء من الحرج في صدد ذلك. وقد روى حديث نبوي سنورد نصه بعد قليل جاء فيه «خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهنّ سبيلا ... » مما قد يكون فيه تفسير أو تأييد لما نقول. وجمهور المفسرين «1» وأئمة الفقه مجمعون على أن الحد المذكور في الآية الثانية على العزاب غير المتزوجين مع زيادة مختلف عليها وهي «نفي سنة» حيث يأخذ بها بعضهم دون بعض. وأن الحد الشرعي على المحصنين المتزوجين هو الرجم حتى الموت مع زيادة مختلف عليها كذلك وهي مائة جلدة قبل الرجم. ويستندون في ذلك إلى أحاديث عديدة. ومن جملتها أحاديث مروية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تفيد أن الرجم حكم قرآني نسخ تلاوة وبقي حكما. من ذلك حديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم- وهو الذي أشرنا إليه قبل قليل قال «خذوا عنّي. قد جعل الله لهنّ سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة. والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» «2» . وحديث ثان رواه الخمسة عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلّا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس والثيّب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة» «3» . وحديث ثالث رواه البخاري والنسائي عن زيد بن خالد قال «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يأمر في من زنى ولم

_ (1) انظر كتب تفسير الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير والزمخشري والنيسابوري والنسفي. (2) التاج ج 3 ص 17 و 22. (3) المصدر نفسه. [.....]

يحصن جلد مائة وتغريب عام» «1» . وحديث رابع رواه الخمسة جاء فيه «إن ما عزا الأسلمي جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال إنه قد زنى فأعرض عنه ثم جاء من شقّه الآخر فقال إنه زنى فأعرض عنه ثم جاء من شقّه الآخر فقال إنه قد زنى فأمر به في الرابعة فأخرج إلى الحرّة فرجم بالحجارة. فلمّا وجد مسّ الحجارة فرّ يشتدّ فلقيه رجل معه لحي جمل فضربه به وضربه الناس حتى مات فذكروا ذلك للنبي فقال: هلّا تركتموه وفي رواية قال له: أبك جنون؟ قال: لا. وفي أخرى لعلّك قبّلت أو غمزت أو نظرت قال: لا. قال: أأحصنت؟ قال: نعم فأمر برجمه. وفي رواية فاختلفت فيه الصحابة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم» «2» . وحديث خامس رواه الخمسة جاء فيه «أن رجلا أعرابيا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله فقال الخصم وهو أفقه منه نعم فاقض بيننا بكتاب الله وأذن لي، فأذن له فقال إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة وسألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجل الرجم، فقال رسول الله لأقضينّ بينكما بكتاب الله الوليدة والغنم ردّ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، فغدا عليها فاعترفت فرجمها» «3» . ومن الأحاديث المروية عن عمر حديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال «قال عمر وهو على منبر رسول الله: إنّ الله قد بعث محمدا بالحقّ وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل آية الرجم قرأناها وو عيناها وعقلناها ورجم رسول الله ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلّوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم في كتاب الله حقّ على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البيّنة أو

_ (1) التاج ج 3 ص 17 و 22. (2) المصدر نفسه ص 23. (3) المصدر نفسه ص 22.

كان الحبل أو الاعتراف» «1» . وحديث ثان رواه الإمام أحمد عن ابن عباس قال «خطب عمر بن الخطاب فذكر الرجم فقال إنا لا نجد من الرجم بدا، فإنه حدّ من حدود الله، ألا وإنّ رسول الله قد رجم ورجمنا بعده ولولا أن يقول قائلون إن عمر زاد في كتاب الله ما ليس فيه لكتبت في ناحية من المصحف» «2» . وحديث ثالث رواه الإمام أحمد عن عمر أنه قال «إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم» «3» . وحديث رابع رواه الحافظ أبو يعلى عن ابن عمر قال نبئت عن كثير بن الصلت قال كنا عند مروان وفينا زيد فقال زيد بن ثابت كنا نقرأ «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة» قال مروان ألا كتبتها في المصحف. قال ذكرنا ذلك وفينا عمر بن الخطاب فقال أنا أشفيكم من ذلك قال قلنا كيف؟ قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر كذا وكذا وذكر الرجم فقال يا رسول الله اكتب لي آية الرجم قال لا أستطيع الآن أو نحو ذلك» «4» . وقد روى الإمام أحمد في صدد نص آية الرجم حديثا آخر عن أبي ذر قال «قال لي أبي بن كعب كأين تقرأ سورة الأحزاب أو كأين تعدها؟ قال قلت ثلاثا وسبعين آية. فقال قط قد رأيتها وإنها لتعادل سورة البقرة ولقد قرأنا فيه «الشيخ والشيخة. إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» «5» . وقد روى السيوطي في الإتقان عن الليث بن سعد في سياق رواياته عن تدوين القرآن في خلافة أبي بكر أن زيد بن ثابت كان لا يكتب آية إلا بشاهدي عدل وأن عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها لأنه كان وحده وأن أبا خزيمة بن ثابت جاء بآخر سورة براءة ولم يكن معه شاهد فقبلها منه وقال إن رسول الله جعل شهادته بشهادة رجلين «6» .

_ (1) التاج ج 3 ص 23. (2) عن ابن كثير في تفسير الآيات. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. (5) عن ابن كثير في مطلع تفسير سورة الأحزاب وقد روى ذلك المفسر النسفي واسم القائل أبو ذر والراجح أن هذا هو الصحيح وأن ما جاء في ابن كثير تصحيف. انظر أيضا الإتقان للسيوطي ج 2 ص 26. (6) الإتقان ج 1 ص 62.

والذي نلحظ في صدد كون الرجم حكما قرآنيا نسخ تلاوة وبقي حكما وما ورد في ذلك: أولا: إن نسخ حكم قرآني تلاوة مع بقائه حكما لا يمكن أن يفهم له حكمة وبخاصة في حد تشريعي خطير مثل حدّ الرجم. ثانيا: إن النص المروي للآية مختلف فيه من جهة والرجم فيه خاص بالشيخ والشيخة ودون توضيح كونهما محصنين أو غير محصنين من جهة أخرى في حين أن أحاديث عمر تفيد أن الرجم عام على المحصن وأن الأحاديث المروية عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم برجم بعض الزناة المحصنين لا تخصص الشيوخ فقط بل وليس فيها شيوخ. ثالثا: إن عمر أعدل من أن ترفض شهادته في صدد تدوين آية. وأقوى من أن يسكت عن ذلك. إذا كان متأكدا من قرآنيتها ومن كون النبي صلى الله عليه وسلم توفي ولم تنسخ تلاوة وحكما. وهو الذي اقترح كتابة المصحف من جديد على أبي بكر وكان المشرف على ذلك على ما روته الروايات «1» . وكل هذا يجعلنا نتوقف عن الأخذ بأن الرجم تشريع قرآني قائم الحكم بهذه الصفة كما قد تفيد الأحاديث المروية عن عمر رضي الله عنه إلّا أن يقال إن قرآنا نزل بالرجم ثم نسخ ثم بدا للنبي صلى الله عليه وسلم أن يشرعه للجميع على المحصنين فلا يقتصر على الشيخ والشيخة ولا يبقى مطلقا بحيث يكون للمحصنين وغير المحصنين. ويكون والحكمة هذه تشريعا نبويا. ويكون ما روي عن عمر هو باعتبار ما كان أصلا وثبته النبي بعد نسخ قرآنيته لأن هذا لم يكن واضحا وعاما لا باعتبار الحال الراهن الذي هو تشريع نبوي. وقد يصح الاستئناس بحديث الحافظ أبي يعلى الذي فيه خبر عدم استجابة النبي صلى الله عليه وسلم لطلب كتابة آية الرجم في مجلس فيه عمر نفسه وهو راويه حيث يكون في ذلك قرينة على أن آية الرجم بصيغتها المروية قد نسخت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.

_ (1) انظر الإتقان للسيوطي ج 1 ص 60- 63.

ومع ذلك فهناك ما يمكن أن يقال أيضا: فإن آية النساء [25] ذكرت أن حدّ الأمة إذا زنت بعد إحصانها هو نصف حدّ المحصنة. وعبر عن الحدّ في هذه الآية (بالعذاب) ولما لم يرد في القرآن حدّ قابل للتنصيف إلّا ما ذكر في آية النور فالمعقول أن تكون آية النساء قد نزلت بعد هذه الآية وعطفت عليها. والجمهور على أن حدّ الأمة المحصنة هو خمسون جلدة. وهذا ثابت في أحاديث أوردناها في سياق تفسير الآية المذكورة. وهذا يقتضي أن يكون (الجلد مائة) هو المحكم القرآني للزانية المحصنة الحرة. وما يجدر بالذكر أن الذين أجمعوا على صحة حكم الرجم وجدوا إشكالا في هذا الأمر فقالوا إن حد الأمة المحصنة هو نصف الحد الوارد في آية النور وهو خمسون جلدة وعلّلوا ذلك بأن حدّ الرجم لا يتنصف. والتعليل وإن كان معقولا فإن النقطة التي تلفت النظر في الأمر هي أن حد الأمة مستند في أصله إلى تشريع قرآني قائم في آيتي النساء والنور. ومن ناحية ثانية فإن المتبادر المعقول أن يكون حديث عبادة بن الصامت قد صدر قبل نزول آية النور بإلهام رباني للإجابة على سؤال أو رفع الحرج وإنهائه عن إمساك النساء في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا لأنه لا تفهم حكمة صدوره في نفس الوقت الذي نزلت فيه الآية لأنها احتوت الحكم الموعود. ولا تفهم حكمة الزيادة على ما احتوته. ولا تفهم حكمة صدوره بعبارته المروية بعد نزولها لأن ما أريد التنبيه إليه قد نزل قرآنا. فإذا صحّ ما نقول تكون الآية قد نسخت من التشريع النبوي السابق عليها ما زاد على ما احتوته من تشريع عام للزناة إطلاقا بدون تفريق بين محصنين وأبكار وهو جلد مائة جلدة. دون تغريب سنة لغير المحصن والرجم للمحصن. وهذا ما قد يحمل على الظن بأن الأحاديث الأخرى التي تعين الرجم للزناة المحصنين والتي ذكرت بعض وقائع رجمهم هي الأخرى قد صدرت قبل آية النور. وفي حديث رجم- ماعز- نقطة هامة وهي قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن أخبره بما كان من فراره وملاحقته وضربه حتى مات: «هلا تركتموه» حيث يفيد هذا أنه كان يودّ لو اكتفي بما وقع عليه من رجم وتركه حينما فرّ دون أن يموت.

غير أن ما روته الروايات العديدة من أن خلفاء النبي رجموا الزناة المحصنين، ومن ذلك حديث عمر الذي رواه الخمسة والذي جاء فيه «رجم رسول الله ورجمنا بعده» ثم ما أجمع عليه أئمة الفقه بناء على ذلك من أن عقوبة الزناة المحصنين هي الرجم يجعلنا نقول إن خلفاء رسول الله لا يمكن أن يكونوا فعلوا ذلك لو لم يكونوا على يقين بأن النبي قد سنّ سنة الرجم وأمر بتنفيذها بعد نزول سورة النور ومات دون أن ينسخها وهي بعد لا تتناقض مع النص القرآني الذي جاء مطلقا، شأن سائر التشريعات النبوية في صدد ما سكت عنه القرآن أو ذكره مطلقا. والله أعلم. هذا، وبين المذاهب خلاف في جمع الجلد والتغريب لغير المحصنين والجلد والرجم للمحصن حيث يقول بعضهم بالجمع ولا يقول بذلك بعضهم. وفي حديث ما عز لم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بجلده وإنما أمر برجمه وهذا أيضا وارد في حديث رجم المرأة. وقد استند الشافعي ومالك وأبو حنيفة إلى ذلك في حق المحصن فقالوا بالرجم دون الجلد «1» . وشذّ عنهم الحنبلي لأن الجلد حكم قرآني والرجم سنّة نبوية والجمع بينهما واجب وقد ثبت عنده أن علي بن أبي طالب جلد زانيا محصنا ثم رجمه وقال: جلدت بأمر القرآن ورجمت بالسّنة النبوية «2» . أما النفي سنة للعزاب بعد الجلد فقد أخذ به الشافعي والحنبلي دون أبي حنيفة الذي اعتبره على سبيل التعزير والتأديب من غير وجوب. وذهب المالكي إلى أن النفي للرجال دون النساء «3» . وعلى كل حال فليس فيما ورد من النفي للعزاب بعد الجلد والجلد ثم الرجم للمحصنين في الأحاديث النبوية مناقضة للحكم القرآني من حيث المبدأ لأنه كما

_ (1) انظر تفسير الآية في ابن كثير. (2) المصدر نفسه. (3) تفسير الزمخشري للآية وتفسير ابن كثير للآيات [15- 16] من سورة النساء.

قلنا من قبل من باب التشريع النبوي في ما سكت عنه القرآن أو تركه مطلقا. مع ترجيحنا لما ذهب إليه أبو حنيفة والشافعي ومالك استنادا إلى حديث ما عز من عدم جمع الجلد مع الرجم للمحصن. والحديث الذي رواه الخمسة الذي ذكر فيه حادث ابن الأعرابي هو في حالة المرأة المتزوجة إذا زنى فيها أعزب. ولم نقع على أثر يذكر حادثا لامرأة بكر إذا زنى فيها متزوج. والمتبادر أن هذه الحالة تقاس على الحالة السابقة فتجلد المرأة ويرجم الرجل. وهناك حالات أخرى لم نقع على أثر فيها. وهي حالة المرأة الأرملة والمطلقة التي لم يكن لها زوج في وقت الزنا وحالة الرجل الأرمل والمطلق الذي لم يكن له زوجة في وقت الزنا. حيث يرد سؤال عما إذا كانا يعدان محصنين أم لا. ولما كان المتبادر من حكمة التشريع النبوي في تشديد عقوبة الزنا على المحصنين أي المتزوجين هي كونهم غير مضطرين إلى السفاح حيث تكون حاجتهم الجنسية مقضية بالزواج فقد يصح أن يقال إنهما يعدان غير محصنين، والله تعالى أعلم. وفي نهاية هذا البحث يحسن أن ننبّه على أمر، وهو أن الرجم للمحصن هو ما عليه معظم المذاهب. وأن هناك من لا يأخذ به ويتمسك بالنص القرآني فقط وهو الجلد مائة للزناة عامة. لا فرق بين محصن وأعزب. ولا تغريب بعد الجلد. وقد ذكر السيوطي هذا عن الخوارج «1» . وهناك أحاديث تذكر حالات أخرى رأينا أن نلم بها لأنها متناسبة مع البحث. من ذلك حالة الرجل الذي يقع على امرأة محرّمة عليه كأخته أو ابنته أو كنته. فقد روى الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وقع على ذات محرم فاقتلوه» «2» وروى أصحاب السنن حديثا عن البراء قال «لقيت عمّي ومعه راية

_ (1) ذكر هذا القاسمي في تفسيره محاسن التأويل. [.....] (2) التاج ج 3 ص 26 و 27.

جريمة اللواط وإتيان النساء من أدبارهن والآيات في صدد زنا الرجال بالنساء

فقلت أين تريد؟ قال بعثني رسول الله إلى رجل نكح امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله» «1» . والمتبادر أن هذا الحكم خاص بالحالة سواء أكان الزاني محصنا أم غير محصن. وروى الشارح عن الترمذي أنه قال وأصحابنا على هذا الرأي. ولم نقع على حديث فيه حكم المرأة المحرمة التي زنى بها محرمها برضائها فيصح أن يقاس أمرها على الزاني فيكون حدها القتل، والله أعلم. ومن ذلك زنا الرجل بأمة زوجته. وقد روى أصحاب السنن حديثا جاء فيه «وقع رجل على جارية امرأته فرفع إلى النّعمان بن بشير وهو أمير على الكوفة فقال لأقضينّ بقضاء رسول الله. إن كانت أحلّتها لك جلدتك مائة جلدة وإن لم تكن أحلّتها لك رجمتك بالحجارة. فوجدوه قد أحلّتها له فجلدوه مائة جلدة» «2» . ويفيد هذا أنه لا ينجي الرجل إذن زوجته له بإتيان جاريتها لأنها ليست ملك يمينه على كل حال، أما لو وهبتها له وصارت ملكه فالأمر يختلف وتكون حلالا له كما هو المتبادر. جريمة اللواط وإتيان النساء من أدبارهن والآيات في صدد زنا الرجال بالنساء وهناك جريمة فاحشة أخرى هي اللواط. وقد ألممنا بهذه الجريمة وأوردنا الأحاديث الواردة في شأنها والأقوال المروية عن أهل التأويل والفقه في صددها في سياق تفسير آيات سورة الأعراف [80 و 81] التي وردت فيها لأول مرة فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار. وشبيه بهذه الجريمة جريمة إتيان النساء من أدبارهن. وقد ألممنا بهذه الجريمة في سياق تفسير الآية [223] من سورة البقرة وأوردنا هناك من أحاديث

_ (1) التاج ج 3 ص 26 و 27. (2) المصدر نفسه.

حالة الإكراه والغصب

فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار أيضا. حالة الإكراه والغصب روى أصحاب السنن عن علقمة بن وائل عن أبيه «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لامرأة أكرهت على الزنا فاذهبي فقد غفر الله لك» «1» وروى الترمذي حديثا جاء فيه «استكرهت امرأة على الزنا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فدرأ عنها الحد وأقامه على الذي أصابها ولم يذكر أنه جعل لها مهرا» «2» . وروى مالك «أن عبدا زنى بأمة بالإكراه في زمن عمر فأمر بجلد العبد دون الأمة لأنها مستكرهة» «3» . وليس في الأحاديث توضيح للاستكراه، ويتبادر لنا أنه لا يبرر سقوط الحدّ إلّا منع المدخول به عن المقاومة بصورة ما. أما إذا هدّد بالقتل أو بما دون القتل فلا يبرّر ذلك موافقته والرضاء بما يفعل به، لأن عقوبة ذلك هي القتل إذا كانت الجريمة لواطا أو إذا كانت المزني بها محصنة ولا يصحّ لامرىء أن يوافق ويرضى بأمر بالتهديد فقط إذا كانت عقوبة ما يطلب منه بالتهديد مثل عقوبة الفعل. وإذا كان الإكراه أكثر احتمالا بالنسبة للمفعول به، فليس من المستحيل أن يكون حادث الإكراه على الفاعل أيضا. غير أن هذه الحالة تختلف عن الحالة السابقة. فالزاني واللائط هو المباشر للجريمة على كل حال وليس هنا محل لفرض التقييد «4» ومنع المقاومة، والخضوع للتهديد والإكراه لا يعفي والحالة هذه من العقوبة لأنه لا يصح أن يتفادى القتل أو ما دون القتل بجريمة عقوبتها مثل ذلك، والله تعالى أعلم. ومن قبيل الاستطراد نذكر أن هناك حديثين متناقضين في صدد إتيان البهيمة رواهما أبو داود والترمذي عن ابن عباس جاء في أحدهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من

_ (1) التاج ج 3 ص 32. (2) المصدر نفسه. (3) الموطأ ج 2. (4) من القيد.

أتى البهيمة فاقتلوه واقتلوها معه. قلت لابن عباس ما شأن البهيمة؟ قال ما أراه قال ذلك إلا أنه كره أن يؤكل لحمها وقد عمل بها هذا العمل» «1» . وجاء في ثانيهما عن ابن عباس «ليس على الذي يأتي البهيمة حدّ» «2» ولقد علّق الشارح على الحديث الأول قائلا إنه مرفوع وموقوف ويكون ضعيفا ولم يأخذ به أحد من الأئمة الأربعة فلا تقتل البهيمة ولا الفاعل بل يعزّر بما يراه الحاكم. ويبدو هذا وجيها والله تعالى أعلم. ويلحظ أنه ليس في الآية طريقة لإثبات الزنا. والحوادث التي روت الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام الحد على أصحابها ثبتت بالاعتراف. والمتبادر أن الأمر ظل على ما ذكرته آية النساء [15] وهو شهادة أربعة شهود من المسلمين أو الحبل أو الاعتراف على ما ورد في الحديث الذي رواه الخمسة عن عمر بن الخطاب وأوردناه قبل قليل. وفي آيات تالية تأييد بخاصة لشهادة الشهود الأربعة بحيث يصح القول إن آية النور التي نحن في صددها عدلت حكم الزناة في آيتي سورة النساء [15 و 16] مع بقاء عدد الشهود محكما. ولقد ذكرنا في سياق تفسير آيتي النساء هاتين ما عنّ لنا من ملاحظات في صدد مدى الشهادات وحكمة تعليق ثبوت هذه الجريمة على أربع شهادات فلا حاجة إلى الإعادة. ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن ثبوت جرم اللواط منوط بما نيط به ثبوت جرم الزنا ما عدا الحبل الذي ليس واردا في هذا الحال. والحدود المذكورة في الآية والأحاديث مطلقة بحيث تتناول الأحرار والمماليك. وقد احتوت آية النساء [25] استثناء للأمة المتزوجة على ما فصلناه في سياق تفسير الآية المذكورة. أما المملوك الذكر فلم نطلع على أثر نبوي فيه وإطلاق الآية والأحاديث قد يفيد أن شأنه شأن الحر في مختلف الحالات. ويظهر من قول أورده القاسمي أن هناك من يقول إن المملوك يرجم إذا زنى بحرّة ويجلد

_ (1) التاج ج 3 ص 25 و 26. (2) المصدر نفسه.

إذا زنى بأمة. وقد عزا المفسر المذكور إلى السيوطي تفنيدا لهذا القول لأنه لا يتفق مع نص الآية. والتفنيد في محله. ولقد كانت حالة الإماء وتعرضهن للبغاء هي السبب الذي جعل حكمة التنزيل تخفف عنها الحد على ما شرحناه قبل. وهذا ليس واردا بالنسبة للمماليك الذكور. ولقد وقف بعضهم عند جملة وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ فقالوا إن ذلك بسبيل تنفيذ الحد وأنه لا يعني القسوة في الجلد. وأن هذا يجب أن يكون غير مبرح. وقد روى ابن كثير- الذي هو من جملة من ذكر ذلك- أن ابن عمر ضرب جارية له زنت ضربا غير مبرح، فقال له ابنه كيف تفعل ذلك والله يقول وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ فقال له يا بني إنّ الله لم يأمرني أن أقتلها ولا أن أجعل جلدها في رأسها. ولقد أوردنا في سياق تفسير الآية [25] من سورة النساء حديثا رواه الخمسة جاء فيه «أن النبي أمر بجلد الأمة إذا زنت دون تثريب أي دون قسوة» . بحيث يمكن القول إن ابن عمر أخذ بالسنّة النبوية. والحديث وإن كان في صدد الإماء فإن الأخذ به بالنسبة لكل من يقام عليه حدّ الجلد يكون شذوذا، والله تعالى أعلم. هذا ويلحظ أن الزانية قدّمت على الزاني في الآية الثانية في معرض عقوبة الجلد، مع أن القرآن جرى على تقديم الرجل والذكر على المرأة والأنثى بصورة عامة الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ [البقرة: 71] والْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ [الفتح: 6] ولا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى [آل عمران: 195] ووَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ... إلخ [غافر: 40] . وفي عقوبة السرقة وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: 38] ويتبادر لنا في ذلك حكمة، وهي أن الزنا المستحق للحد لا يمكن أن يتم إلا بموافقة المرأة، إذا لم يكن بإكراه الرجل لها. فتكون والحالة هذه سبب الإثم فاستحقت أن تذكر قبل الرجل. وفي حالة الإكراه لا تكون مستحقة للعقوبة على ما مرّ بيانه، والله تعالى أعلم.

[سورة النور (24) : آية 3]

والآية وإن كانت بصيغة الجمع المخاطب وتبدو أنها موجهة إلى المسلمين فالمتبادر الذي تلهمه روحها أنها موجهة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالزنا جريمة لا بد من ثبوتها أمام القضاء ولا بدّ من السلطان لإقامة الحد الشرعي. وكان هذا وذاك موطدين في شخص النبي صلى الله عليه وسلم. والآية بعد احتوت تشريعا مستمرا. وهذا يعني أن الذي يقوم مقام النبي صلى الله عليه وسلم في تمثيل القضاء والسلطان هو المكلف بتنفيذ هذا التشريع. هذا، ومن الجدير بالتنويه أن التشريع القرآني والنبوي معا قد سوّى بين الرجل والمرأة. وفي هذا ما فيه من عدل وحق من جهة ومن تقرير مساواة الرجل والمرأة في تبعة العمل الواحد والتكاليف المتشابهة من جهة ثانية. ومما لا ريب فيه أن التشديد على المرأة دون الرجل في جريمة الزنا واعتباراتها مما هو جار في الأوساط الإسلامية اليوم غير متمشّ مع قاعدة القرآن القائمة على الحق والعدل والمساواة. واستثناء الأمة من حيث كون القرآن جعل حدها نصف حدّ الحرة على ما شرحناه في سياق تفسير آية النساء [25] ليس من شأنه أن يخلّ بهذه المساواة. فالأحرار هم الأكثرية العظمى في المجتمع الإسلامي. وعليهم يقوم بنيان هذا المجتمع. وهذا الاستثناء هو بسبب اعتبارات وجيهة. ولم يشمل المماليك الذكور. ومع ذلك فإنه استثناء تخفيفي وليس تشديديّا. [سورة النور (24) : آية 3] الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) . (1) لا ينكح: لا يتزوج. وقد ورد هذا التعبير بهذا المعنى في آيات كثيرة مثل آية سورة البقرة [221] وآية سورة النساء [22] وآية سورة الأحزاب [49] بل ولم ترد في القرآن بغير معنى الزواج.

تعليق على الآية الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين (3)

تعليق على الآية الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) روى المفسرون «1» أن الآية نزلت في صدد الإجابة على استئذان بعض المسلمين النبي صلى الله عليه وسلم في التزوج بنسوة كن معروفات بالزنا من أهل الشرك وكنّ أصحاب رايات يكرين أنفسهن في مكة وفي المدينة. ومنهنّ من كنّ يتعهدن بالإنفاق على من يتزوجهنّ. وذكروا بعض الأسماء. منها امرأة اسمها أم مهزول ولم يذكروا اسم من أراد أن ينكحها. ومنها رجل اسمه مرثد كان له صديقة في الجاهلية اسمها عناق. وقصة مرثد وعناق رواها الترمذي عن مرثد نفسه قال «كانت امرأة بغي بمكة يقال لها عناق. وكانت صديقة لي فقابلتني بمكة ليلة فقالت: هلمّ، فبت عندنا الليلة، فقلت: يا عناق حرّم الله الزنا. فلما قدمت المدينة أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أنكح عناقا؟ فأمسك ولم يرد عليّ شيئا حتى نزلت الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) فقال رسول الله يا مرثد لا تنكحها» «2» . وقد روى الطبري الروايتين مع الأسماء وروى أن الآية نزلت إجابة على سؤال السائلين. والمتبادر أن الآية من السياق السابق وبمثابة تعقيب على الآية التي قبلها. وبسبيل التشديد في كراهية جريمة الزنا ومقترفيها. وإن كان هذا لا يمنع أن يكون بعض المسلمين استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في التزوج من بعض من عرفن بالبغاء في الجاهلية فمنعوا من ذلك بهذه الآية. وحديث الترمذي يفيد أن الآية لم تنزل جوابا على استئذان مرثد.

_ (1) انظر الطبري والطبرسي والبغوي وابن كثير والخازن. (2) التاج ج 4 ص 164.

ومع ما يبدو في الآية من صراحة بتحريم نكاح الزانية وإنكاح الزاني على المؤمنين فقد تعددت أقوال المفسرين ورواياتهم في مدى حكمها «1» . فمن ذلك أن التحريم منصبّ على الزنا من قبيل تشنيعه ومن باب الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ [النور: 26] . وبسبيل تقرير كون الزنا لا يمكن أن يقع إلّا بين زان وزانية إن كانا مسلمين أو بين زانية ومشرك أو زان ومشركة. ومنها قول معزو إلى عائشة وهو أن الرجل إذا زنى بامرأة ليس له أن يتزوجها لهذه الآية. ومنها قول لابن مسعود أنه كان يحرم نكاح الزانية ويقول إذا نكح الزاني الزانية أي تزوجها فهما زانيان أبدا. ومنها قول معزو إلى ابن عباس أنه كان يجيز التزوج بالزانية وتزويج الزاني. وقد أورد الزمخشري حديثا نبويا مؤيدا لهذا القول لم يرد في كتب الصحاح جاء فيه «أن النبيّ سئل عن ذلك فقال أوّله سفاح وآخره نكاح والحرام لا يحرم الحلال» ومنها قول معزو إلى سعيد بن المسيب مفاده أن الآية منسوخة بآية أخرى في سورة النور وهي وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [32] والبغايا من أيامى المسلمين. والنفس تطمئن بالقول الأول في صدد تأويل الآية ومفهومها العام. ووجاهة القول المعزو إلى ابن عباس ظاهرة ولا سيما إذا صحّ الحديث الذي يورده الزمخشري والذي لا يتناقض مع التقريرات القرآنية العامة. فقد يتوب الزاني والزانية المسلمان ويصلحان. فلا يصحّ أن يحول ما حدث منهما قبل التوبة دون زواجهما زواجا شرعيا كما هو المتبادر. والتوبة الصادقة التي تفتح باب عفو الله ورحمته للكافر والمنافق والمحارب لله ورسوله والمفسد في الأرض والقاتل العمد على ما شرحناه في تعليقنا على موضوع التوبة في سورة البروج ونبهنا عليه في المناسبات العديدة السابقة تفتح بدون ريب هذا الباب أمام الزاني والزانية بدورهما. وهناك أحداث وأحاديث مؤيدة لذلك. فقد روى الطبري عن الحسن «أن عمر بن الخطاب قال لقد هممت أن لا أدع أحدا أصاب فاحشة في الإسلام أن يتزوج محصنة فقال له أبي بن كعب يا أمير المؤمنين الشرك أعظم من ذلك وقد

_ (1) انظر تفسير الطبري والزمخشري والبغوي والخازن وابن كثير.

[سورة النور (24) : الآيات 4 إلى 5]

يقبل الله التوبة من المشرك إذا تاب» . وروى المفسّر نفسه عن ثابت بن عامر قال «إن رجلا من أهل اليمن أصابت ابنة أخيه فاحشة فأمرّت الشفرة على أوداجها فأدركت وعولج جرحها حتى برئت ثم إن عمّها انتقل بأهله حتى قدم المدينة فقرأت القرآن ونسكت حتى كانت من أنسك نسائهم فخطبت إلى عمها وكان يكره أن يدلسها ويكره أن يغشى على ابنة أخيه فأتى عمر فذكر ذلك له فقال له لو أغشيت عليها لعاقبتك وإذا أتاك رجل صالح ترضاه فزوجها إياه» وروى المفسّر أيضا عن طارق بن شهاب «أن رجلا أراد أن يزوج أخته فقالت إني أخشى أن أفضح أي فقد بغيت فأتى عمر فقال أليس قد تابت قال بلى قال فزوّجها» . وفي الطبري أحداث وأحاديث أخرى من هذا الباب لم نر حاجة إلى إيرادها اكتفاء بما تقدم. وإذا كانت هذه الأحداث والأحاديث ذكرت حالات نساء زنين فتبن فشجع عمر على تزويجهن فإن ذلك ينطبق بطبيعة الحال على الرجال إذا زنوا ثم تابوا. ومع ذلك كلّه فإننا نقول إن الآية على أخفّ التأويلات انطوت على كراهية شديدة للتزوج بالزانية وتزويج الزاني وتشنيع على ذلك. وأن هذا ينبغي أن يكون واردا ولا سيما إذا كان أمر الزاني أو الزانية مشهورا. وأنه يحسن أن يلاحظ ذلك ويؤخذ بالتلقين السامي القرآني ما أمكن لمنع تسهيل الغواية ولتأديب الغاوين معا إلّا إذا كان في الحادث إنقاذ لرجل أو امرأة وحصل التأكد من توبتهما. أما القول إن الآية منسوخة بآية وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [النور: 32] فلا نرى مناسبة له في هذا المقام وإن كان يصح أن يقال إن حكم هذه الآية يشمل كل أعزب وعزباء ومن جملتهم من كان اقترف جريمة الزنا ثم تاب وأصلح، والله تعالى أعلم. [سورة النور (24) : الآيات 4 الى 5] وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) . (1) يرمون: هنا بمعنى يتهمون بالزنا.

تعليق على الآية والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون (4) والآية التالية لها

(2) المحصنات: من المفسرين من أوّلها بالمتزوجات ومنهم من أولها بالعفيفات. احتوت الآيتان تشريعا بحقّ من يقذف المحصنات بالزنا. ولم يثبتوا قولهم بأربعة شهداء حيث أوجبت عليهم حدّا هو أن يجلدوا ثمانين جلدة ثم منعت قبول شهادتهم ووسمتهم بالفسق. مع استثناء الذين يندمون ويتوبون ويتلافون أمرهم بالإصلاح والصلاح فقد ينالون عفو الله الغفور الرحيم. تعليق على الآية وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) والآية التالية لها وقد روى الطبري أن الآيتين نزلتا في صدد ما كان من اتهام عائشة أمّ المؤمنين بما عرف في السيرة النبوية بحديث الإفك وما يأتي تفصيله بعد قليل. وقد يكون هذا صحيحا. ومع ذلك فالمناسبة الموضوعية قائمة بين الآيتين وما سبقهما وما لحقهما. وهما في الوقت نفسه فصل تشريعي عام مستقل بذاته. وظاهر النص هو إيجاب إقامة الحدّ على من يوجه تهمة الزنا إلى النساء ولم يثبتها بأربعة شهداء. غير أن الجمهور على أن هذا يشمل من يوجه هذه التهمة إلى الرجال ولم يثبتها كذلك حيث روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أقام حدّ القذف على جماعة اتهموا رجلا بالزنا ولم يشهد أربعة على ذلك «1» . ومن تحصيل الحاصل أن يقال: إنه لا فرق في جريمة القذف بين أن يكون

_ (1) انظر ابن كثير والطبرسي والقاسمي. وقال ابن كثير إن هذا هو إجماع العلماء. والحادث رواه الطبرسي والقاسمي وتفصيله أن جماعة اتهموا المغيرة بن شعبة بالزنا فشهد ثلاثة وهم شبل بن معبد وأبو بكرة ونافع أنهم رأوه متبطنا المرأة. وكان ممن تقدم للشهادة زياد فلم يشهد شهادة مثل شهادتهم. فاعتبر عمر الثلاثة قاذفين وأقام عليهم الحد. الجزء الثامن من التفسير الحديث 24

مرتكبها رجلا أو امرأة. فالقرآن لا يفرق بين الرجل والمرأة في هذه المسائل على ما نبهنا عليه في مختلف المناسبات «1» . وقد اختلفت الأقوال في حدّ القاذف إذا كان مملوكا، فهناك من ذهب إلى أن الحد عليه هو نفس الحدّ على الحرّ. وهناك من ذهب إلى أن عليه نصف الحدّ «2» . ولم يورد القائلون أثرا نبويا أو راشديا ولم نطلع على ذلك. ونحن مع القول الأول. لأن أثر الجريمة لا يتغير بتغير صفة مقترفها وهذا غير متناقض مع آية سورة النساء [25] ، التي تجعل حدّ الأمة المحصنة نصف حدّ الحرة. فهذه حالة أخرى كما هو المتبادر. وبعض المفسرين قالوا: إن الحدّ إنما يجب على قاذف المحصن (أي المتزوج) وإن قاذف غير المحصن يعزر تعزيرا «3» . والظاهر أن القائلين أوّلوا كلمة الْمُحْصَناتِ في الآية بمعنى المتزوجات. وقد فسّر بعضهم الكلمة بالعفيفات «4» فيكون الحدّ بذلك واجبا على القاذف سواء أكان المقذوف متزوجا أم أعزب. والكلمة تتحمل المعنيين. فيكون القولان وجيهين وإن كنا نرجح وجاهة القول الأول لأن القذف في المتزوجين أشد وقعا في حياة المقذوف الأسرية والاجتماعية كما هو المتبادر مع استثناء المرأة إذا كانت هي المقذوفة. ولا سيما إذا كانت بكرا. ولقد قال بعضهم إن قذف المشهورة بالزنا لا يستوجب حدّا «5» . وقد يكون هذا متسقا مع قول من قال إن كلمة المحصنات بمعنى العفيفات فيكون القول وجيها. وقال بعضهم إن المقذوف إذا اعترف بالتهمة سقط الحدّ عن القاذف «6» .

_ (1) انظر أيضا تفسير الطبرسي. [.....] (2) الطبرسي والخازن. (3) البغوي والخازن. (4) الخازن وابن كثير. (5) القاسمي عزوا إلى السيوطي. (6) القاسمي عزوا إلى ابن تيمية.

وهذا ظاهر الوجاهة أيضا. والمستفاد من أقوال المفسرين «1» أن جرم القذف يتحقق سواء أبتوجيه التهمة قضائيا أي برفعها إلى ولي الأمر والحاكم أم بتوجيه الكلام في معرض الشتيمة في حضور المقذوف به أو في غيابه. أم في معرض الإخبار. وبكلمات صريحة أو بكلمات لا تفسر إلّا بتهمة الزنا وكل هذا وجيه ومتسق مع مضمون الآية وروحها. والوقعة التي وقعت في عهد عمر والتي ذكرناها في ذيل الصفحة (369) تدل على أنه إذا شهد واحد أو اثنان أو ثلاثة فقط ولم يشهد رابع عدّ الثلاثة قاذفين أيضا ووجب عليهم الحد. وهو ما عليه الجمهور. وهو حق وصواب. ويظهر من أقوال المفسرين أن الشاكي أو المتهم أو القاذف يصحّ أن يكون شاهدا من أربعة. وهذا وجيه أيضا. لأن القضية ليست خصومة بين مدّع ومدعى عليه. وحكمة إيجاب الحد على القاذف ظاهرة كما أن حكمة إناطة التهمة بأربعة شهداء متصلة بحكمة تعليق ثبوت الزنا على أربع شهادات كما هو المتبادر. فأعراض الناس وكراماتهم من الأمور الجوهرية في الحياة الاجتماعية. ويترتب على القذف فيها نتائج خطيرة شخصية وأسرية واجتماعية. وفي إيجاب الحدّ على القاذف ردع عن التهجم على الأعراض والاستهانة بها. وفي إناطة ثبوت التهمة بأربعة شهداء وسيلة قوية لمنع الإرجاف وشيوع أخبار الفاحشة والسوء في الأوساط الاجتماعية. أما إذا استطاع القاذف أن يقيم البينة بأربع شهادات فتكون حالة المقذوف حالة استهتار بشع. ويكون موقف القاذف محقا ووسيلة للتنكيل بمن يرتكب الفاحشة بمثل هذا الاستهتار البشع. وقد اختلفت الأقوال في مدى الاستثناء الذي احتوته الآية الثانية. فمنها أن التوبة لا تسقط الحدّ عن القاذف إن كانت قبل إيقاعه ولا تجعل شهادته مقبولة. وكل أمرها أنها تسقط عنه صفة الفسق. ومنها أنها تجعل شهادته مقبولة أيضا. وقال القائلون بهذا إن كلمة (أبدا) هي في حالة عدم التوبة وإصرار القاذف على ما

_ (1) انظر الطبري والبغوي والطبرسي والخازن وابن كثير والزمخشري إلخ.

قال في حقّ المقذوف، ومنها أن قبول شهادته بعد التوبة منوط بالاعتراف بأنه قال بهتانا. وهذه الأقوال معزوة إلى بعض علماء التابعين وأئمة المذاهب الفقهية «1» . وهناك قول معزو إلى الشعبي- أحد علماء التابعين- وهو أن القاذف إذا تاب قبل الحدّ سقط عنه الحد أيضا «2» . وهناك قول معدل لهذا القول وهو أن سقوط الحد عن القاذف التائب قبل تنفيذه منوط بعفو المقذوف، قياسا على سقوط القصاص بعفو أهل القتيل «3» . وهو ما نراه وجيها دون قول الشعبي المطلق. لأن القذف ليس ذنبا نحو الله فقط، وإنما فيه حق المقذوف أيضا. ولم نطلع على أثر نبوي في هذه الصور. والمتبادر الذي يلهمه نصّ الآية فيما نرى أن الرأي القائل إن التوبة تجعل شهادة القاذف مقبولة بالإضافة إلى رفعها صفة الفسق عنه هو الأوجه. ولا سيما إذا لوحظ أنه قد تكون حالة زنا صحيحة يعلمها شخص أو اثنان أو ثلاثة غير متهمين بعدالتهم وصدقهم وأنه قد يكون من المتعذر دائما الإتيان بأربعة شهود. وأن الرأي القائل بأن التوبة قبل إيقاع الحدّ إذا اقترنت بعفو المقذوف تسقط الحدّ قياسا على سقوط القصاص عن القاتل بعفو أهل القتيل وهو وجيه أيضا. لأن القذف ليس ذنبا نحو الله فقط وإنما فيه حقّ المقذوف أيضا. ومن العلماء من جعل صحة توبة التائب منوطة بإعلانه ندمه ورجوعه عن القذف وكذبه فيما قال. ومنهم من لم يربطها بمثل هذا الإعلان مكتفيا بما يظهر من صلاحه واستقامته «4» . وكلا القولين وجيه وإن كنّا نميل إلى ترجيح القول الأول لأن ذلك أدعى إلى حفظ كرامة المقذوف من جهة ووسيلة إلى معرفة التوبة لإفساح المجال للقاذف بأن تقبل شهادته ولا يظل موسوما بسمة الفسق.

_ (1) انظر البغوي والخازن وابن كثير والطبري والطبرسي. (2) انظر القاسمي عزوا إلى ابن حجر والبغوي. (3) انظر البغوي. (4) البغوي والخازن والقاسمي.

ويلحظ أن الآية لم تقيد الشهداء بصفة ما. حيث استنتج بعضهم من ذلك جواز قبول الشهادة من أي كان. غير أن بعضهم منع قبول شهادة المعروف بالفسق استئناسا بآية سورة الحجرات هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وبعضهم جعل قيد الإسلام شرطا استئناسا بآية سورة النساء (15) وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ وهذا وذاك وجيهان كما هو ظاهر. والجمهور على أن شهادة الزنا والقذف محصورة بالرجال دون النساء على ما ذكرناه في سياق تفسير آية النساء المذكورة آنفا. ونكرر ما قلناه في سياق تفسير هذه الآية. وهو أن الآية لا تفيد هذا الحصر. وفرصة مشاهدة النساء لهذه الجريمة أكثر سنوحا منها بالنسبة للرجال. ولم نطلع على حديث نبوي وثيق بردّ شهادة النساء مطلقا في أي نوع من القضايا. وهناك حديث رواه الترمذي وأبو داود عيّن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تردّ شهادتهم وهم «الخائن والخائنة وذو الغمر على أخيه وشهادة التابع لأهل البيت وجوازها لغيرهم» . وفي رواية «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية» «1» . ولم نر أحدا من المفسرين ذكر شيئا بشأن شهادة العبد. وليس في القرآن ما يمنع قبول شهادة العبد المسلم في كل ما تقبل به شهادة الحرّ المسلم. ولم نطلع على حديث صحيح يمنع ذلك. ولقد أشار ابن القيم إلى هذه المسألة وفنّد قول من يقول بعكس ذلك «2» . ولم نر المفسرين ذكروا حالة ما إذا كان المقذوف عبدا أو أمة. وكل ما هناك أنهم قالوا في سياق تعريف الْمُحْصَناتِ أنهن الحرائر العفيفات. وقد أشار ابن القيم إلى هذه المسألة بما يفيد أنه ليس على قاذف العبد حدّ، وعلل ذلك بأن الله لم يجعل العبد كالحرّ لا قدرا ولا شرعا، وأن هذا لا يتناقض مع تسويته في الثواب

_ (1) انظر التاج ج 3 ص 56 ومعنى ذو الغمر ذو العداوة. والتابع هو الخادم. (2) إعلام الموقعين ج 2 ص 49.

[سورة النور (24) : الآيات 6 إلى 10]

والعقاب في الآخرة، لأنه لا يكون هناك إلا الإنسان وعمله «1» . ونحن نتوقف في هذا بعض الشيء. فما دام الزاني والزانية من العبيد والإماء يوقع عليهما حدّ الزنا فلا يصحّ أن يعفى قاذفهما إذا لم يثبت التهمة عليهما من العقاب. وهذا متسق مع نص الآية وإطلاقها. وبخاصة مع التأويل الأكثر وجاهة لكلمة المحصنات. وهو العفيفات. والله تعالى أعلم. [سورة النور (24) : الآيات 6 الى 10] وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) . (1) ويدرأ عنها العذاب: بمعنى: ويسقط عنها الحدّ. في الآيات الثلاث الأولى تشريع لحالة تهمة زوج لزوجته بالزنا ولم يكن لديه شهود إلّا نفسه. فشهادته خمس مرات على الوارد في الآيتين الأولى والثانية تقوم مقام الشهود وتوجب حدّ الزنا على الزوجة. غير أن هذا الحد يسقط عنها إذا شهدت هي الأخرى بعده خمس شهادات على الوجه الوارد في الآيتين الثالثة والرابعة. أما الآية الخامسة فإنها تنطوي على تلقين لما في هذا التشريع من حكمة سامية. وحل حكيم لموقف محرج وإشكال مزعج. فلولا فضل الله على المسلمين ورحمته ولولا أنه توّاب عليم حكيم بهم لكان في الموقف إزعاج وإحراج شديدان لهم.

_ (1) إعلام الموقعين ج 2 ص 36.

تعليق على الآية والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين (6) والآيات الأربع التي بعدها

تعليق على الآية وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) والآيات الأربع التي بعدها ولقد رويت في نزول هذه الآيات روايات. منها ما رواه البخاري والترمذي عن ابن عباس «أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سمحاء، فقال النبي: البيّنة أو حدّ في ظهرك، فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة؟ فجعل النبي يقول: البيّنة وإلّا حدّ في ظهرك، فقال هلال: والذي بعثك بالحقّ إني لصادق ولينزلنّ الله ما يبرىء ظهري من الحدّ فنزل جبريل بالآيات. فأرسل النبي إليهما فشهد هلال والنبي يقول: إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟ ثم قامت فشهدت، فلمّا كانت عند الخامسة وقّفوها وقالوا إنها موجبة فتلكأت ونكصت حتى ظننّا أنها ترجع ثم قالت لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلّج الساقين فهو لشريك بن سمحاء، فجاءت به كذلك. فقال النبيّ: لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن. زاد في رواية: ثم قضى بالولد للمرأة وفرّق بين المتلاعنين. ثم جرت السنّة في الميراث أن يرثها وترث منه ما فرض الله لها» «1» . وهناك رواية أخرى تذكر أن سعد بن عبادة زعيم الأنصار قال لرسول الله حينما نزلت الآية السابقة «يا رسول الله لو أتيت لكاعا قد تفخّذها رجل لم يكن لي أن أهيّجه ولا أحرّكه حتى آتي بأربعة شهداء فو الله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ الرجل من حاجته. فقال النبيّ يا معشر الأنصار أما تسمعون ما يقول سيّدكم. قالوا لا تلمه فإنه رجل غيور ما تزوّج فينا قطّ إلا عذراء ولا طلّق امرأة له فاجترأ رجل منّا أن يتزوجها. قال سعد بأبي أنت وأمي يا رسول الله والله إني لأعرف أنها من الله وأنها حقّ ولكني عجبت، فما لبثوا قليلا حتى جاء هلال

_ (1) التاج فصل التفسير ج 4 ص 164- 165. [.....]

يروي قصته لرسول الله فنزل الوحي بالآيات» . وهناك روايات أخرى فيها أسماء وأحداث أخرى. يرويها المفسرون كسبب لنزول الآيات. منها صيغة حديث يرويه الإمام أحمد عن عبد الله قال «كنا جلوسا عشية الجمعة في المسجد فقال رجل من الأنصار أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلا إن قتله قتلتموه وإن تكلم جلدتموه. وإن سكت سكت على غيظ. والله لئن أصبحت صحيحا لأسألنّ رسول الله فسأله وأعاد عليه ما قال ثم قال اللهم احكم فنزلت آية اللعان فكان ذلك الرجل أول ما ابتلي بها. ومنها رواية رواها الإمام أحمد كحديث مماثل للرواية السابقة مع ذكر اسم السائل وهو عويمر. ومنها كحديث رواه الحافظ البزار جاء فيه «إن رسول الله قال لأبي بكر لو رأيت مع أم رومان رجلا ما كنت فاعلا به قال كنت والله فاعلا به شرا. قال فأنت يا عمر؟ قال كنت والله قاتله. كنت أقول لعن الله الأعجز فإنه خبيث فنزلت الآيات» «1» . والروايات تقضي أن تكون الآيات نزلت مستقلة عن سابقاتها في حين أنها تبدو معطوفة عليها وحلقة من سلسلة مشتركة في الموضوع. وليس ما يمنع أن تكون نزلت مستقلة وألحقت بالسياق للتناسب الموضوعي كما أنه ليس هناك ما يمنع أن تكون نزلت بعد سابقتها بناء على استفسار أو حادث كما روي فوضعت في ترتيبها للتناسب الموضوعي والظرفي. غير أنا نميل إلى القول إن السلسلة نزلت دفعة واحدة بناء على استفسارات وحوادث وقعت قبلها، لأننا نلمس في الآيات العشر وحدة وانسجاما في النظم مع التشارك في الموضوع. وهذه الشهادات المتقابلة بين الزوجين تسمى في الاصطلاح الفقهي بالملاعنة أو اللعان. ويترتب عليها التفريق بين الزوجين على ما جاء في حديث البخاري والترمذي. وقد اختلف الفقهاء في صفة الفرقة. فذهب أبو حنيفة إلى أنها فرقة طلاق بائن وإن الزوج إذا كذب نفسه جاز له أن ينكحها ثانية، وذهب الشافعي إلى أنها فرقة أبدية، بل يستفاد من أقوال المفسرين أن هذا هو رأي أكثر

_ (1) انظر كتب تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن والطبرسي.

العلماء «1» . ومنهم الإمام مالك الذي زاد على ذلك فأوجب إقامة الحدّ على الزوج إذا كذب نفسه وإلحاق الولد له مع الفرقة الأبدية «2» . ومع أن المتبادر لنا أن التفريق الأبدي هو الأوجه والمستفاد من حديث ملاعنة هلال فإن رأي أبي حنيفة لا يتناقض معه لأنه ليس فيه صراحة قطعية. ولا يخلو من جهة أخرى من وجاهة أيضا إذا تحقق شرطه وهو تكذيب الزوج لنفسه حيث يكون في ذلك ردّ لكرامة الزوجة وسمعتها. غير أن الرأي الأول هو الأوجه. ولا سيما إذا أخذ برأي الإمام مالك الوجيه فأقيم حدّ القذف على الزوج وألحق به الولد. فإن في ذلك ردّا أقوى لكرامة الزوجة. والله تعالى أعلم. واللعان كما هو واضح إجراء قضائي. وقد جرى على يد النبي صلى الله عليه وسلم وبأمره وفي مشهد علني. وينبغي أن يكون كذلك على يد ولي الأمر من بعده أو من ينوب عنه بطبيعة الحال. وواضح من فحوى الآيات أن اللعان إنما يكون في حالة تعذر إقامة البينة على الزوجة. وأنه ليس له محل في حالة إمكان ذلك حيث يقام عليها الحدّ. والجمهور «3» على أن الزوجة إذا لم تشهد الشهادات الخمس بكذب زوجها أقيم عليها الحد. وهذا متسق مع فحوى الآيات. ولقد اختلفت الأقوال في صدد الزوج الذي يتهم زوجته ثم ينكل عن الشهادة. فهناك من قال: إنه يعتبر قاذفا ويستوجب حدّ القذف. وهناك من قال: إنه لا يحدّ وإنما يحبس حتى يلاعن «4» . والرأي الأول هو الأوجه فيما هو المتبادر. ومن الغريب أن هناك من قال «5» هذا في صدد الزوجة التي تمتنع عن

_ (1) انظر الطبري والخازن والطبرسي والزمخشري. (2) الموطأ ج 2 ص 46. (3) انظر تفسير الخازن والبغوي. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه.

الشهادة أيضا مع ما في الآيات من دلالة قطعية على أن نجاتها من العذاب أي الحدّ منوطة بشهاداتها الخمس. وقد فرض الفقهاء حالة محتملة الوقوع. وهي أن تكون الزوجة المتهمة حاملا وأن تكون تهمة الزوج شاملة لنفي الحمل عنه. فقالوا إن عليه- والحالة هذه- أن يذكر في شهاداته نفيه للولد عنه، وحينئذ تذكر الزوجة في شهاداتها إثبات الولد إليه. ويترتب على ذلك عدم نسبة الولد إلى الزوج ونسبته إلى أمه دون أن يعتبر ولد زنا لما هناك من شبهة. ويحق له أن يرثها وترثه. وهذا مستمد من حديث هلال ومن زيادة وردت في رواية الطبري للحديث مفادها أن ابنها يرثها وأن الولد يدعى لها ولا يرمى أي لا يقال له ولد زنا. وفي الموطأ قول للإمام مالك وهو أن ولد اللعان يرث إخوته لأمه أيضا «1» . وهذا يتبع ذاك. هذا وظاهر من الآيات أن التشريع الذي احتوته خاص بتوجيه التهمة من الزوج إلى زوجته. وهنا محل تساؤل عن الحكم في حالة تهمة الزوجة لزوجها بالزنا. ولم نطلع على حديث أو قول في ذلك. ومما لا ريب فيه أن هناك فرقا واضحا يترتب عليه نتائج مختلفة بين الحالتين ومن ذلك مسألة الأولاد الذين تلدهم المرأة حيث يكونون قد نسبوا زورا لغير أبيهم الحقيقي وورثوا إرثا لا يستحقونه عند الله. ولعل الحكمة في تخصيص التشريع هي بسبب هذا الفرق. والمتبادر أن تهمة الزوجة لزوجها تكون في حكم القذف العادي. فإذا أثبتت الزوجة الزنا على زوجها بشهود أربعة استوجب حدّ الزنا وهو الرجم وإذا لم تثبته استوجبت هي حدّ القذف. وفي صدد شمول اللعان للعبيد والذميين روى البغوي اجتهادين: واحدا معزوا إلى سعيد بن المسيب والشافعي ومالك والثوري وقال إن أكثر أهل العلم أخذوا به وهو أن كل من صحّ يمينه صحّ لعانه حرّا كان أم عبدا ومسلما أم ذمّيا. وواحدا معزوا إلى الزهري والأوزاعي وأصحاب الرأي وهو أن اللعان لا يجري إلّا

_ (1) الموطأ ج 2 ص 47.

[سورة النور (24) : الآيات 11 إلى 18]

بين مسلمين حرّين غير محدودين فإن كان الزوجان أو أحدهما رقيقا أو ذميا أو محدودا في قذف فلا لعان بينهما. وقد عقب البغوي على ذلك فقال إن ظاهر الآية حجة لمن قال يجري اللعان بينهما لأن الله لم يفصل بين الحرّ والعبد والمحدود وغيره. ويتسق هذا مع القول الأول. وهو ما نراه الأوجه الأسد، والله تعالى أعلم. [سورة النور (24) : الآيات 11 الى 18] إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) . (1) الإفك: الخبر الكاذب المفترى. (2) عصبة منكم: جماعة منكم. (3) تولّى كبره: بمعنى تزعّم حركة الخبر المفترى أو قاد حملته. (4) لولا: الأولى والثانية والرابعة بمعنى (هلّا) وقد تكررت في القرآن بهذا المعنى. أما الثالثة فهي الشرطية المعتادة. (5) أفضتم فيه: أوسعتم مجال الحديث فيه بينكم. (6) تلقونه: بمعنى تتناقلونه أو يتلقاه بعضكم عن بعض.

تعليق على الآية إن الذين جاؤ بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم (11) والآيات التي بعدها إلى آخر الآية (18) وخبر حديث الإفك الذي رميت به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه

تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) والآيات التي بعدها إلى آخر الآية (18) وخبر حديث الإفك الذي رميت به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وما في ذلك من صور وتلقينات هذه الآيات تتضمن الإشارة إلى حادث قذف كاذب اتفق المفسرون والرواة على أنه في شأن عائشة أم المؤمنين وعرف في تاريخ السيرة النبوية باسم حديث الإفك اقتباسا من الآية الأولى فيما هو المتبادر. وقد تضمنت تقرير ما يلي: (1) إن الذين أثاروا الحديث هم جماعة من المسلمين. (2) وهم آثمون. كل بحسب ما كان منه من أثر فيه. والإثم الأكبر والعذاب الأعظم هو لمن تزعم الحركة وقاد الحملة. (3) وعلى الذين لهم صلة به أن لا يحزنوا ولا يظنوا حينما سمعوا خبره أنه شرّ في حقهم بل إنه خير لهم في النتيجة. (4) ولقد كان من الواجب على مثيريه أن يقيموا البيّنة على صحة ما قالوا فيأتوا بأربعة شهداء ولكنهم إذا لم يفعلوا ذلك فهم كاذبون عند الله. (5) ولقد كان الأولى بالمؤمنين حينما سمعوا الحديث أن يغلبوا حسن الظنّ بالمؤمنين والمؤمنات ويستنكروه ويقرروا أنه كذب واضح. (6) ولولا أن الله قد رحمهم وشملهم بفضله في الدنيا والآخرة لنالهم عذاب عظيم فيهما عقوبة على ما كان منهم من الإفاضة في هذا الحديث والاشتغال به، حيث أخذوا يتناقلونه ويتلقاه بعضهم عن بعض ويخوضون فيه بدون علم ويقين ولا ينتبهون إلى ما وقعوا فيه من الإثم وظنوه أمرا هيّنا مع أنه عظيم عند الله. (7) ولقد كان الأجدر بهم أن يدركوا حينما سمعوه أنه افتراء عظيم وأنه

لا يجوز أن يخوضوا فيه وأن يحولوا دون ذيوعه وتوسع الكلام عنه. (8) وإن الله لينهاهم عن العودة إلى مثله أبدا إذا كانوا مؤمنين حقا. وإنه ليبين لهم الآيات ليتذكروا. وإنه لهو العليم بكل شيء الحكيم الذي يأمر بما فيه الحق والخير والمصلحة. وهذا الحادث من الحوادث المهمة في تاريخ السيرة النبوية كان موضوع بحث وتمحيص وقيل وقال. ورويت فيه روايات عديدة وطويلة. وفي فصل التفسير في صحيح البخاري ومسلم والترمذي حديث طويل مروي عن عائشة أم المؤمنين احتوى تفصيل المسألة تفصيلا وافيا رأينا إيراده لما فيه من صور وفوائد. قالت «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج أقرع بين زوجاته فأيّتهن خرج سهمها خرج بها معه فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي فخرجت معه بعد ما نزل الحجاب. فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه. فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذن بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي من جزع أظفار «1» قد انقطع فالتمست عقدي وحبسني «2» ابتغاؤه فأقبل الرهط الذين كانوا يرحّلون لي فاحتملوا هودجي فرحّلوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه. وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهنّ اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم خفّة الهودج حين رفعوه وكنت جارية حديثة السنّ فبعثوا الجمل وساروا فوجدت عقدي بعد ما استمرّ الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فأممت منزلي الذي كنت به وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إليّ. فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي الذكواني من وراء الجيش فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني وكان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه «3» حين عرفني. فخمرت وجهي بجلبابي والله

_ (1) أظفار: مدينة في اليمن، والجزع: حجر كريم. (2) حبسني: أخّرني. (3) قوله إنا لله وإنا إليه راجعون.

ما كلّمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته فوطئ يدها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة. فهلك من هلك في شأني. وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي بن سلول. فقدمنا المدينة فاشتكيت «1» شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك. ويريبني في وجعي أني لا أرى من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي. إنما يدخل عليّ فيسلّم ثم يقول كيف تيكم ثم ينصرف ولا أشعر بالشرّ. حتى خرجت بعد ما نقهت فخرجت معي أم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا وكنّا لا نخرج إلّا ليلا إلى ليل. وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا. وأمرنا أمر العرب في التبرز قبل الغائط فكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا. فانطلقت أنا وأم مسطح بن أثاثة وهي بنت أبي رهم بن عبد مناف وأمها خالة أبي بكر الصديق فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي وقد فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت تعس مسطح فقلت لها بئس ما قلت أتسبّين رجلا شهد بدرا قالت أي هنتاه (يا هذه) أو لم تسمعي ما قال؟ قلت وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي، فلما رجعت إلى بيتي ودخل عليّ رسول الله ثم قال كيف تيكم. قلت أتأذن لي أن آتي أبوي- قالت وأنا أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما- فأذن لي رسول الله. فجئت أبوي فقلت لأمي يا أمتاه ما يتحدث الناس. قالت يا بنية هوّني عليك فو الله لقلّما كانت امرأة قطّ وضيئة عند رجل يحبّها لها ضرائر إلّا كثّرن عليها، فقلت سبحان الله ولقد تحدّث الناس بهذا. قالت فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت أبكي. فدعا رسول الله علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله (طلاقها) . فأما أسامة فأشار عليه بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه من الودّ فقال يا رسول الله أهلك وما نعلم إلّا

_ (1) مرضت.

خيرا. وأما علي فقال يا رسول الله لم يضيّق الله عليك. والنساء سواها كثير. وإن تسأل الجارية تصدقك: قالت فدعا رسول الله بريرة فقال أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك. قالت لا والذي بعثك بالحقّ إن رأيت منها أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السنّ تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله فقام رسول الله فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول فقال وهو على المنبر يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فو الله ما علمت على أهلي إلّا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلّا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي. فقام سعد بن معاذ فقال يا رسول الله أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك فقام سعد بن عبادة (زعيم الخزرج) وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير (من زعماء الأوس) فقال لسعد بن عبادة كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى همّوا أن يقتتلوا ورسول الله على المنبر فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا وسكت. قالت فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم فأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويوما وهما يظنان أن البكاء فالق كبدي. فبينا هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت عليّ امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي قالت فبينا نحن كذلك دخل علينا رسول الله فسلّم ثم جلس ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني فتشهّد ثم قال: أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرّئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب عليه. فلما قضى رسول الله مقالته قلص دمعي حتى ما أحسّ منه قطرة فقلت لأبي أجب رسول الله فيما قال. قال والله ما أدري ما أقول، فقلت لأمي أجيبي رسول الله قالت ما أدري ما أقول لرسول الله. فقلت وأنا جارية حديثة السنّ لا أقرأ كثيرا من القرآن: إني والله لقد علمت. لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقرّ في أنفسكم وصدقتم به. فلئن قلت لكم إني بريئة والله

يعلم أني بريئة لا تصدقونني بذلك ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني. والله ما أجد لكم مثلا إلا قول أبي يوسف قال فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ [يوسف: 18] . ثم تحولت فاضطجعت على فراشي. وأنا أعلم أني بريئة ولكن والله ما كنت أظنّ أن الله منزل في شأني وحيا يتلى. ولشأني في نفسي أحقر من أن يتكلّم الله فيّ بأمر يتلى. ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله في النوم رؤيا يبرئني الله بها. قالت فو الله ما رام رسول الله ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء «1» حتى إنه ليتحدّر منه مثل الجمان «2» من العرق في يوم شات من ثقل القول الذي ينزل عليه فلما سرّي عن رسول الله وهو يضحك فكان أول كلمة تكلّم بها: يا عائشة أمّا الله عز وجل فقد برّأك فقالت أمي قومي إليه «3» . فقلت والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله عزّ وجلّ. فأنزل الله إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ العشر الآيات كلها. فلما أنزل الله تعالى هذا في براءتي قال أبو بكر الصديق: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد ما قال في عائشة. وكان ينفق عليه لقرابته منه وفقره فأنزل الله تعالى وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) قال أبو بكر بلى والله إني أحبّ أن يغفر الله لي فرجّع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه. وقال والله لا أنزعها منه أبدا. قالت عائشة وكان رسول الله يسأل زينب ابنة جحش عن أمري فقال يا زينب ماذا علمت أو رأيت قالت يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ما علمت إلا خيرا. قالت وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي فعصمها الله بالورع وطفقت أختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك» «4» . وقد روى الترمذي تتمة للقصة عن عائشة قالت «لما نزل عذري قام

_ (1) من الشدة والجهد. (2) الدرّ. (3) في رواية الطبري أول كلمة تكلم بها رسول الله أبشري يا عائشة إن الله قد برأك. [.....] (4) التاج ج 4 ص 166- 171 ولقد أورد الحديث المفسرون بفروق قليلة غير جوهرية. انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.

رسول الله على المنبر فذكر ذلك وتلا القرآن فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا حدّهم» «1» . والحديث كما هو واضح قد صدر من عائشة بعد مدة طويلة من الحادث. غير أن هذا ليس من شأنه أن يضعف من صحة جميع ما جاء فيه. وفي الروايات بعض تفصيلات لم ترد فيه، منها أن الغزوة التي وقع الحادث أثناءها هي غزوة بني المصطلق أو المريسيع «2» وأن الذين خاضوا في الحديث أكثر من غيرهم وأوقع النبي عليهم الحدّ حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش. وهناك رواية تذكر أن الذي تولّى كبره هو حسان بينما هناك رواية تذكر أنه عبد الله بن أبي بن سلول «3» . ومن العجيب أن الروايات لم تذكر أن النبي أقام الحدّ على عبد الله بن أبي بن سلول. وحديث عائشة الذي رواه الترمذي يذكر أن الذين أقيم عليهم الحد رجلان وامرأة. فالظاهر أن عبد الله بن أبي بن سلول لعب دوره بمهارة وأن الذين تورّطوا في الحديث هم الثلاثة المذكورون. ولقد روى المفسرون أن ابن سلول كان يجمع الكلام ويستوشيه حتى دخل في أذهان الناس فتكلموا به وجوزه آخرون منهم وأن هذا المسلك كان مما درأ عنه الحد لأنه لم يصدر منه قذف صريح «4» . ولقد روي «5» أنه وقعت ملاحاة ومشادة بين بعض المهاجرين والأنصار من الخزرج من أقارب ابن سلول في أثناء غزوة المريسيع وجعلت هذا يظهر ما في صدره من حنق وغيظ ضد النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين ويهدد ويتوعد وكان لذلك أثر

_ (1) التاج ج 4 ص 171. (2) طبقات ابن سعد ج 3 ص 104- 106 وبنو المصطلق قبيلة عربية. والمريسيع اسم ماء. والوقعة سميت بكلا الاسمين ولا تناقض في ذلك. (3) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن والطبرسي وابن كثير والزمخشري والقاسمي. (4) المصدر نفسه. (5) انظر طبقات ابن سعد ج 3 ص 104- 107 والتاج ج 4 ص 235- 237. الجزء الثامن من التفسير الحديث 25

مرير في نفس النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين على ما سوف نشرحه في سورة (المنافقون) بعد هذه السورة. ومما يخطر في البال أن يكون ابن أبي بن سلول قد أراد في ما أثاره من حديث الإفك شفاء نفسه من النبي بهذه الإثارة. ومع أن الآيات ليست بسبيل حكاية القصة كما هو واضح. وشأنها شأن ما ورد في القرآن من قصص وإشارات إلى حوادث السيرة أي أنها استهدفت التنديد والإنذار والعتاب والتذكير والعظة والتبرئة والتسلية على ما جاء في الشرح فإنها احتوت بعض الدلالات المتسقة مع المروي إجمالا كما أن فيها دلالة على ما كان للحادث وظروفه من آثار مؤذية ومزعجة. هذا مع توقفنا فيما روي من موقف النبي من عائشة وجفائه وما يوهمه هذا من احتمال شكه فيها. فإن الآيات لا تساعد على التسليم به نصا وروحا. وفي نفسنا كذلك شيء مما ورد عن موقف علي بن أبي طالب. فهو يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يسأل الجارية وهي تصدقه مما يدل على أنه كان يعلم منها ما يريب في حين أنه لم يكن شيء من ذلك. ولا نود أن نصدق أن عليا رضي الله عنه يبيح لنفسه أن يشك في عائشة رضي الله عنها ويحرض النبي صلى الله عليه وسلم على طلاقها بدون برهان وليس هناك برهان. ولقد أثير هذا حين نشبت الفتنة بين المسلمين بعد مقتل عثمان رضي الله عنه وكان من صفحاتها الوقعة المعروفة بحرب الجمل التي كان في طرفها الأول علي بن أبي طالب وفي طرفها الثاني عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم أجمعين حيث قيل فيما قيل على هامشها إن عائشة ظلت ناقمة على عليّ بسبب موقفه المذكور. ومعظم ما جاء في الروايات حول هذه الفتنة مشوب بالهوى الحزبي «1» . وأسلوب الآيات قوي في التنديد والإنذار والعتاب والتطمين والتسلية. ومن شأنه أن يثير الرهبة والخجل والندم في الذين تورطوا في حديث الإفك بأي شكل أو سكتوا عنه من جهة. وأن يبعث القناعة التامة في نزاهة أم المؤمنين ويهدىء

_ (1) اقرأ تمحيصا لأخبار هذه الوقعة في الجزء السابع من كتابنا تاريخ الجنس العربي الفصل الرابع.

روعها ويطيب نفسها من جهة. وأن يعظم إثم الذين قادوا حملة الإفك أو خاضوا فيه أكثر من غيرهم من جهة. ويتبادر لنا أن التنديد بالساكتين عن شيوع الخبر والمتورطين فيه من غير الذين قادوا الحملة أو خاضوا في الحديث أكثر من غيرهم وبخاصة ما جاء في الآيتين [15 و 16] ينطوي على قصد بيان ما في الحادث من إفك بديهي. وكونه مما لا يصح في العقل أن تقترف زوجة النبي إثما فاحشا وهي بنت أول بيت في الإسلام بعد بيت النبي وفي مرتبة سامية من الكرامة عند الله والنبي والمسلمين وزوجة النبي الذي كانت تعتقد أن وحي الله متصل به أولا، وأن يجرأ مسلم على التعرض لزوجة النبي وهي أمه المعنوية بنص القرآن، وفيه ذرة من الإيمان بالله ورسوله ثانيا. ومن العجيب الذي يبعث الاشمئزاز أن تحتوي الآيات كل هذه القوة والإحاطة في التنزيه والتنديد والتنبيه إلى ما لا يعقل ولا ينبغي ولا يصح، ثم يظل أعداء الإسلام يخوضون في هذه القصة خوضا ليس له من قصد غير التجريح والتشنيع. ومع خصوصية الآيات الزمنية والموضوعية فقد احتوت تلقينات أخلاقية واجتماعية بليغة مستمرة المدى: في تقبيح التعرض لأعراض الناس وخاصة بالكذب والافتراء والخوض فيها بدون علم وبينة. وفي عدم جواز سكوت الجمهور على مثل هذا التصرف أو الانسياق في تياره بدون تروّ وتدبر. وفي وجوب الوقوف في مثل هذه الحوادث موقفا حاسما قويا فلا يسمح بذيوع الإفك والبهتان ومسّ أعراض الناس، وفي تطمين الأبرياء حتى لا ينزعجوا بمثل هذه الحوادث التي كثيرا ما تثيرها الأغراض والنوايا الخبيثة وحبّ الكيد والغفلة- وهذه كلها تجمعت في إثارة حديث الإفك كما يفهم من تفاصيل الروايات وقرائن الآيات- وحتى يقابلوها برباطة جأش وطمأنينة قلب فيكون ذلك عاملا على قتل الإفك وإحباط الكيد.

[سورة النور (24) : الآيات 19 إلى 20]

[سورة النور (24) : الآيات 19 الى 20] إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20) . (1) الفاحشة: هنا بمعنى الأمور القبيحة أو أخبار السوء. الآيتان متصلتان بالآيات السابقة سياقا وموضوعا ومعقبتان عليها كما هو المتبادر. وقد احتوت أولاهما تنديدا بالذين يحبون أن تنتشر أخبار السوء وأفعال القبح والفواحش في أوساط المؤمنين وإنذارا لهم. وإيعازا بوجوب تأديبهم في الدنيا بالإضافة إلى ما سوف يكون لهم من عذاب أليم في الآخرة. وإيذانا بأن الله يعلم كل شيء ومقتضيات الأمور، دون السامعين المخاطبين وهم المسلمون. واحتوت ثانيتهما تذكيرا بما شملهم الله به من فضله ورحمته بحيث كانت العواقب تسوء لولا هما. ولكن الله الرؤوف الرحيم قد تداركهم. فانقضى الحادث على خير وسلام. كأنما تؤكد عليهم مرة أخرى بوجوب الحذر من التورّط في مثله مرة أخرى. وفي الحديث الذي رواه الترمذي عن عائشة وأوردناه قبل خبر إقامة النبي صلى الله عليه وسلم على رجلين وامرأة حد القذف حيث يتبادر أن ذلك تنفيذ للإيعاز الذي احتوته الآية الأولى. وأسلوب الآيتين تقريري عام ينطوي فيه تلقين قوي عام الشمول والاستمرار بوجوب الوقوف من مثل تلك الفئة التي تحب أن تشيع الفاحشة في أوساط المسلمين موقف الشدة والتأديب والتنكيل في كل ظرف ومكان. وفي هذا ما فيه من الحقّ والحكمة. ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآية حديثا عن ثوبان أخرجه الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا تؤذوا عباد الله ولا تعيروهم ولا تطلبوا عوراتهم فإنه من طلب عورة

[سورة النور (24) : آية 21]

أخيه المسلم طلب الله عورته حتى يفضحه في بيته» «1» . حيث ينطوي فيه تلقين نبوي متساوق مع التلقين القرآني وفيه تأديب وتحذير قويان لكل مسلم بل لكل إنسان. [سورة النور (24) : آية 21] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) . (1) ما زكى: ما طهرت سريرته وصفت نيته. والآية متصلة أيضا بسابقاتها سياقا وموضوعا اتصال تعقيب وعظة وتنبيه على ما هو المتبادر. والخطاب فيها موجه للمؤمنين يحذرون فيه من اتباع خطوات الشيطان ووساوسه وهو إنما يأمر بالفحشاء والمنكر. ويذكرون فيه مرة أخرى بفضل الله ورحمته بهم اللذين لولا هما لما اهتدى وزكى أحد منهم أبدا وهو السميع لكل شيء، العليم بكل شيء، الذي يزكي من يشاء ممن علم صلاحهم وطيب سرائرهم وأهليتهم لتزكيته وفضله ورحمته. كأنما يهتف بهم بوجوب التمسك بأوامر الله والتزام حدوده والبعد عن المزالق والفتن والفحشاء والمنكر حتى يضمنوا لأنفسهم دوام فضله ورحمته. ومع اتصال الآية بموضوع حديث الإفك فإن أسلوبها هي الأخرى تقريري عام. وما احتوته من نهي وتنبيه وتذكير وهتاف موجه للمسلمين في كل ظرف ومكان كما هو واضح. ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآية بعض الأحاديث منها عن أبي مجلز «أن رجلا قال لابن مسعود إني حرّمت أن آكل طعاما وسمّاه فقال له هذا من نزغات

_ (1) روى صيغة مقاربة لهذه الصيغة أبو داود أيضا وهذه هي (لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله) انظر التاج ج 5 ص 28.

[سورة النور (24) : آية 22]

الشيطان. كفّر عن يمينك وكل» ومنها «أن رجلا نذر ذبح ولده فقال له الشعبي هذا من نزغات الشيطان» ومنها عن أبي رافع قال «غضبت أمي على امرأتي فقالت هي يوم يهودية ويوم نصرانية وكل مملوك لها حر إن لم تطلق امرأتك. فأتيت عبد الله بن عمر فقال إنما هذه من نزغات الشيطان» وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة وهي يومئذ أفقه امرأة في المدينة «وأتيت عاصم بن عمر فقال مثل ذلك» وينطوي في هذه الأخبار صور لفهم أصحاب رسول الله وتابعيهم للآية وتطبيقاتها. ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن هذه الصور ليست كل ما يمكن أن يكون من نزغات الشيطان. وإن كل انحراف ديني أو خلقي أو اجتماعي أو سلوكي وكل إثم وفحش وبغي يصبح ويمكن أن يكون من ذلك. [سورة النور (24) : آية 22] وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) . (1) ولا يأتل: ولا يحلف، من الإيلاء. تنهى الآية الذين وسع الله عليهم الرزق والفضل عن الحلف بعدم الإنفاق على المحتاجين من ذوي قرباهم والمساكين والمهاجرين في سبيل الله. وتأمرهم بالعفو والصفح. وتسألهم سؤال حثّ وتحريض عما إذا لم يحبوا أن يغفر الله لهم. وتنبههم إلى صفتي الله الغفور الرحيم. كأنما تهيب بهم إلى التخلّق بهما. والمفسرون متفقون «1» على أن الآية في صدد يمين حلفها أبو بكر الصديق بأن لا ينفق على قريبه مسطح الذي كان من العصبة التي جاءت بالإفك ولا ينفعه بشيء وقد ورد هذا في حديث عائشة الذي ذكرت فيه أنه كان سبب نزول الآية.

_ (1) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.

[سورة النور (24) : الآيات 23 إلى 25]

وهكذا تكون الآية متصلة بموضوع السياق السابق. ومن المحتمل أن تكون نزلت لحدتها فوضعت في ترتيبها للتناسب الموضوعي. ومن المحتمل أن تكون نزلت مع السلسلة التي نزلت كما يبدو واضحا من مضمونها وروحها بعد انتهاء قضية حديث الإفك على سبيل الإنذار والتنديد والتنويه والتبرئة والتهدئة. وهو ما نرجحه. والله أعلم. ولقد ذكرنا قبل أن المفسرين رووا أن مسطحا كان من جملة الذين أقام النبي صلى الله عليه وسلم عليهم حدّ القذف. وروح الآية تفيد أنه ندم وتاب فتاب الله عليه. واقتضت حكمة التنزيل بعد ذلك معالجة أمر قسم أبي بكر بالامتناع عن النفقة عليه فجاءت الآية بأسلوبها الرائع مما جرى عليه النظم القرآني في معالجة مثل هذه الحوادث وتهذيب نفوس أصحاب رسول الله في ظروفها وبثّ التسامح بينهم. وقد روى المفسرون «1» أن أبا بكر رضي الله عنه قال حينما نزلت الآية إني والله لأحبّ أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح بنفقته التي كان ينفق عليه حيث ينطوي في هذا صورة لأخلاق أصحاب رسول الله وإذعانهم لأوامر الله وتوجهاتهم وكبت غيظهم بسبيل ذلك. وفي الآية وبخاصة في أسلوبها المطلق الذي جاءت به تلقين جليل عام الشمول والاستمرار بوجوب تغليب عاطفة الرأفة والجنوح إلى العفو والصفح وكظم الغيظ وعدم منع المعونة عن المحتاج إليها إذا ما بدا منه بعض الهفوات والتصرفات الشاذة. فالله لا يمنع رحمته ويقفل باب غفرانه عن أحد، وفي هذه لعباده الأسوة الحسنة. [سورة النور (24) : الآيات 23 الى 25] إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)

_ (1) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.

[سورة النور (24) : آية 26]

(1) الغافلات: اللاتي لم يخطر الإثم في بالهن. أو سليمات النية والسريرة لسن داهيات ولا ماكرات. (2) : دينهم: هنا بمعنى جزائهم. إن الله هو الحق المبين: إنه ذو الحق المبين. أو ذو العدل المبين. أو الذي يتجسم في أعماله الحق المبين. وهذه الآيات كسابقاتها معقبة على حادث الإفك ومتصلة بالسياق كما هو ظاهر. وقد احتوت إنذارا قاصما بلعنة الله في الدنيا والآخرة، وعذابه العظيم لمن يقذف المؤمنات العفيفات اللاتي تنزهن عن الفواحش والآثام ولم تخطر ببالهن وهنّ سليمات النية والسريرة. ولسوف تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم يوم القيامة بما كان منهم بسبيل ذلك فيوفيهم الله جزاءهم العادل وهو الذي يتجسم العدل في كل ما يأمر ويقضي ويريد. وأسلوب الآيات يلهم أنها بسبيل الزجر والردع عن التعرض لأعراض النساء والتشديد فيه تعقيبا على ما كان من حادث قذف أم المؤمنين. وفيها توكيد ضمني بنزاهتها وبراءتها. وهي في ذات الوقت جاءت عامة التوجيه ليكون تلقينها الإنذاري والتأديبي مستمر المدى. [سورة النور (24) : آية 26] الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) . وهذه الآية أيضا كالآيات السابقة متصلة بحادث الإفك اتصال تعقيب وبسبيل توكيد براءة أم المؤمنين والتسرية عنها مما نالها من أذى كما هو المتبادر. فلا يمكن أن تكون إلّا بريئة طيبة لأنها زوجة النبي البريء الطيب ولا يمكن أن تكون زوجة النبي البريء الطيب إلّا بريئة طيبة.

[سورة النور (24) : الآيات 27 إلى 29]

وقد جاءت الآية بأسلوب مطلق ليكون تلقينها التهذيبي والأخلاقي شاملا مستمر المدى كذلك. وهذه الآية هي آخر سلسلة الآيات التي اقتضت حكمة التنزيل إنزالها في مناسبة حديث الإفك. ولما كانت الصلة وثيقة بين آيات هذه السلسلة فإننا نرجح أن هذه الآية والآيات الثلاث التي سبقتها قد نزلت هي الأخرى مع السلسلة مثل الآية [22] بعد انتهاء قضية هذا الحديث إما دفعة واحدة وإما متتابعة. [سورة النور (24) : الآيات 27 الى 29] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29) . (1) حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها: أوّل بعضهم الجملة بمعنى حتى تعرفوا أن أهلها موجودون وتسلموا عليهم قبل الدخول ليأذنوا لكم بالدخول إذا شاؤوا. وروى الطبري مع ذلك أن ابن عباس وسعيد بن جبير والأعمش كانوا يقرأون كلمة تَسْتَأْنِسُوا بلفظ (تستأذنوا) ويقولون إنها غلط من الكاتب. (2) فيها متاع لكم: لكم في دخولها فائدة ومصلحة وحاجة. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) والآيتين التاليتين لها ومدى ما فيها من آداب سلوكية للرجال والنساء وما ورد في صدد ذلك عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تشريعا في آداب الدخول على بيوت الغير في النطاق التالي:

أولا: لا يصح للمؤمنين الذين وجّه إليهم الخطاب في الآيات أن يدخلوا بيوتا غير بيوتهم إلّا بعد الاستئذان والاستئناس بأن أهلها فيها، وبعد أن يأذنوا بدخولهم عليهم. وعليهم أن يحيوهم بالسلام قبل كل شيء. وإذا قيل لهم ارجعوا فليرجعوا، فهذا هو الأطهر لهم المبعد عنهم قالة السوء. وثانيا: لا يصح لهم أن يدخلوا كذلك بيوتا غير بيوتهم إذا لم يجدوا فيها أحدا من أصحابها إلا بإذن منهم باستثناء البيوت غير المسكونة إذا كان لهم في ذلك مصلحة وحاجة. وقد نبهت مقاطع الآيات الثلاث الأخيرة إلى أن ما في ذلك من تذكير وتعليم. وإلى كون الله تعالى يعلم كل ما يفعلونه وكل ما يبدونه أو يكتمونه على سبيل التدعيم لما احتوته الآيات من تشريع، والتشديد على وجوب اتباعه وعدم مخالفته. وقد روى الطبري عن عدي بن ثابت أن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحبّ أن يراني أحد لا والد ولا ولد، وإنه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي وأنا على تلك الحال، فنزلت الآية الأولى. وروى الزمخشري أن أبا بكر قال: يا رسول الله إنه قد أنزل عليك آية بالاستئذان وإنا نختلف في تجاراتنا فننزل هذه الخانات أفلا ندخلها إلّا بإذن؟ فنزلت الآية الثانية. وقال الخازن: لما نزلت آية الاستئذان قالوا: كيف بالبيوت التي بين مكة والمدينة والشام على ظهر الطريق ليس فيها ساكن يريدون المنازل المبنية للسابلة ليأووا إليها ويؤووا أمتعتهم، فأنزل الله الآية الثالثة. والرواية الأولى محتملة جدّا دون الروايتين الثانيتين فيما يتبادران لنا. لأن منازل السابلة في طريق مكة والمدينة والشام قد أنشئت في الدولة الإسلامية وكان العرب يحملون خيامهم من الشعر أو الجلد فيأوون إليها حينما ينزلون منزلا في رحلاتهم الطويلة. وهذا لا يمنع أن يكون بعضهم استفتى النبي صلى الله عليه وسلم حينما نزلت الآية الأولى عن أمر البيوت غير المسكونة فرفع الله في الآية الثالثة الحرج عن

الناس. وعلى كل حال فالذي يتبادر لنا أن الآيات الثلاث فصل تشريعي يتمم بعضه بعضا. ونلمح صلة ما بين هذه الآيات وبين موضوع السلسلة السابقة عند إنعام النظر. فالدخول إلى بيوت الناس بدون إذن مما يفسح المجال للقيل والقال وإشاعة أخبار السوء، وهذا مما حذرت منه الآيات السابقة. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد تلك السلسلة فوضعت في ترتيبها للتناسب الموضوعي والظرفي، أما إذا لم تكن نزلت بعدها مباشرة فيكون ترتيبها للتناسب الموضوعي الملموح. ويظهر من فحوى الآيات وروحها أن الناس كانوا يدخلون بيوت بعضهم بدون استعلام واستئذان. وهذا مستفاد أيضا من آية سورة الأحزاب [53] التي جاء فيها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ ... ومن الأحاديث والروايات العديدة التي أوردها المفسرون. منها ما أورده الطبري وأوردناه قبل عن عدي بن ثابت كسبب لنزول الآية الأولى، ومنها حديث أورده الخازن جاء فيه «قال كند بن حنبل دخلت على النبيّ ولم أسلّم ولم أستأذن، فقال لي: ارجع فقل: السلام عليكم أأدخل؟» . فاحتوت الآيات كما هو ظاهر تأديبا رفيعا في هذا الشأن توخى فيه تنظيم السلوك الشخصي بين المسلمين تنظيما يجنبهم دواعي الريبة وأخبار السوء وما يكون فيه للغير من أذى وتثقيل. والخطاب في الآية عام للمسلمين. وليس فيه قرينة تخصص أنه خطاب للرجال دون النساء. وحكمه يتناولهم في كل ظرف ومكان بطبيعة الحال. والروعة فيما احتوته أنه آداب من طبيعتها الخلود والاتساق مع الخلق الفاضل والذوق السليم في كل وقت ومكان. والمتبادر أن الاستئناس والاستئذان والسلام هو بسبيل تنبيه أهل البيت حتى يتهيأوا لقبول الزائر إذا لم يكن عندهم مانع ويأذنوا له. وأن فحوى الآيات وروحها

يلهمان أن هذا التنبيه والتأديب عام للنساء والرجال على السواء وأنه ليس من جناح من دخول النساء على الرجال والرجال على النساء بعد صدور الإذن. والحديث الذي رواه الطبري مما يؤيد ذلك وقد روى مجاهد أن ابن عمر جاء من حاجة وقد آذاه الرمضاء فأتى فسطاط امرأة من قريش فقال: السلام عليكم أأدخل؟ قالت ادخل بسلام، فأعاد فأعادت، وهو يراوح بين قدميه، قال قولي: ادخل. قالت: ادخل فدخل» «1» ، مما فيه تأييد لذلك. والآيات التالية لهذه الآيات ثم آيات أخرى في آخر هذه السورة مما يؤيده أيضا. وكل ما يجب استلهاما من الآيات التزام العفة وطهارة النية وستر المرأة زينتها ومفاتن جسدها أمام غير محارمها. ولقد رويت أحاديث نبوية عديدة فيها تتمة للأدب القرآني منها حديث رواه الخمسة عن جابر قال «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان على أبي فدققت الباب فقال: من ذا فقلت: أنا، فقال أنا أنا- كأنه كرهها-» «2» . وروى أبو داود عن عبد الله بن بشر قال «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر» «3» . وروى الأربعة عن سهل بن سعد «أن رجلا اطلع من جحر في باب النبي صلى الله عليه وسلم ومع النبي مدرى يرجل به رأسه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك. إنما جعل الله الإذن من أجل البصر» «4» . وروى مسلم وأبو داود عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حلّ لهم أن يفقأوا عينه» «5» وروى مسلم وأحمد عن أبي هريرة أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت

_ (1) تفسير الطبري. (2) التاج ج 5 ص 218- 219. وكراهية الجواب أنا أنا تعني وجوب ذكر الاسم حتى يعرفه صاحب البيت. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه، والمدرى بمثابة المشط. [.....] (5) التاج ج 5 ص 218- 219.

عينه ما كان عليك من جناح» «1» . وروى الترمذي عن أبي ذرّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من كشف سترا فأدخل بصره في البيت قبل أن يؤذن له فرأى عورة أهله فقد أتى حدّا لا يحلّ له أن يأتيه، لو أنه حين أدخل بصره استقبله رجل ففقأ عينه ما غيّرت عليه وإن مرّ الرجل على باب لا ستر له غير مغلق فنظر فلا خطيئة عليه إنما الخطيئة على أهل البيت» «2» . وقد روى مالك في موطئه حديثا عن عطاء بن يسار «أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أأستأذن على أمّي؟ قال: نعم. فقال الرجل إني معها في البيت، فقال له أتحبّ أن تراها عريانة؟ قال: لا. قال فاستأذن عليها» «3» . والالتزام ما احتوته الأحاديث من أدب رفيع واجب بدون ريب. وقد يتحمل الحديث الآخر استدراكا وتوضيحا. فهو أولا حديث مرفوع. وثانيا إن الاستئذان واجب على المرء بالنسبة لغير بيته. إلا أن تكون الأم في بيت خاص أو تكون في مخدعها فيكون من المحتمل أن تكون متبذلة أو عريانة فيكون إيجاب الاستئذان عليها من ابنها في محلّه. ولقد رويت أحاديث نبوية عديدة في صدد عدم دخول الرجال على النساء وعدم الخلوة بهن نوردها ونعلق عليها بما يلي: 1- روى الشيخان عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إيّاكم والدخول على النساء فقال رجل يا رسول الله أرأيت الحمو. قال الحمو الموت» «4» . ويتبادر لنا على ضوء الآية التي نحن في صددها أن النهي هو في صدد الدخول بدون استئذان وإذن. ولو كان الرجل قريبا للزوج أو الزوجة حيث يمكن أن يرى هذا بخاصة لنفسه في الدخول بدون استئذان وإذن. وأنه إذا وقع الاستئذان والإذن فلا يبقى

_ (1) التاج ج 5 ص 218- 219. (2) المصدر نفسه ص 220. (3) تفسير الخازن. (4) التاج ج 2 ص 300 والمقصود أن الحمو هو غير المحرم من أقارب الزوج.

مانع وبذلك يمكن التوفيق بين الحديث وبين الآية. وفي الحديث الذي رواه مجاهد عن ابن عمر وأوردناه قبل تأييد ما لذلك. وابن عمر من كبار أصحاب رسول الله وعلمائهم فلا يمكن أن يدخل على امرأة ما لم يكن يعرف أنه جائز إذا ما استأذن وأذنت له. 2- روى الترمذي عن جابر «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخلون رجل بامرأة إلّا كان ثالثهم الشيطان» «1» والحديث يحذر من خلوة رجل بامرأة على انفراد. وهذا أدب رفيع يجب الالتزام به ويمنع الغواية والإغراء عن الاثنين كما يمنع منهما سوء القالة. والمتبادر أن التحذير ليس واردا إذا كان الاجتماع علنا أمام الناس وليس في خلوة أو كان المجتمعون مع بعضهم نساء ورجالا عديدين إذا ما تقيدوا بأدب العفة والطهارة وكان النساء ساترات لزينتهن ومفاتنهن. ويقال هذا أيضا بالنسبة لدخول عديد الرجال والنساء على بعضهم بعد الاستئذان والإذن. 3- روى البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يخلونّ رجل بامرأة إلا مع ذي محرم» «2» . والحديث في مدى سابقه مع زيادة وهي إجازة خلوة رجل بامرأة إذا كان معها محرم. وما قلناه في سياق الحديث السابق يورد هنا بتمامه. 4- روى الترمذي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا تلجوا على المغيبات فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم» «3» . والمغيبات هنّ اللاتي يكون أزواجهن في غيبة طويلة على ما هو المتبادر، وهدف الحديث درء الفتنة والوقوع في الإثم. وهذا أدب رفيع يجب الالتزام به. ومع ذلك فالمتبادر أنه ليس في الحديث ما يمنع الدخول إطلاقا وفق القيود والتلقينات المشروحة سابقا.

_ (1) التاج ج 2 ص 301. (2) المصدر نفسه ص 300. (3) المصدر نفسه ص 287.

ولقد روى الطبري حديثا ذا مغزى مهم جاء فيه «إن عبد الرحمن بن عوف قال للنبي صلى الله عليه وسلم حينما نهى عن خلوة الرجال بالنساء إلا مع محرم وعن دخول الرجال في غيبة أزواجهن يا رسول الله إنا نغيب ويكون أضياف فقال له ليس أولئك عنيت ليس أولئك عنيت» حيث يستفاد من هذا أن النهي يستهدف المتهمين ودرء الفتنة والريب كما قلنا قبل. 5- روى الشيخان وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلّا بإذنه ولا تأذن في بيته إلا بإذنه» «1» والشاهد في الحديث الفقرة الأخيرة. وهذا حق فالبيت مشترك والحياة الزوجية شركة. والوفاق والتفاهم واجبان فيها. ومخالفة هذا الأدب يثير الريب والشقاق. ومع ذلك فليس في الحديث ما يمنع استقبال الزوجة للرجال وفق التقريرات المشروحة إذا ما حصلت على إذن زوجها. وقد علل الشراح الشطر الأول من الحديث بأن الصوم المنهي عنه صوم تطوعي والرجل قد يحتاج إلى زوجته في النهار فيجب أن يكون صومها هذا بإذنه. وليس هذا واردا بالنسبة لصوم رمضان. 6- روى الترمذي حديثا عن الأحوص جاء فيه «إن من حقّكم على نسائكم ألا يوطئن فراشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون» «2» . والحظر هو إذن الزوجة لمن يكرهه زوجها وإجلاسه على فرشه. وليس مطلقا كما هو واضح. وهذا مثل سابقه أدب رفيع يجب الالتزام به وهو مرتب على الشراكة الزوجية المتوافقة. وما قلناه في صدد السابق يقال هنا أيضا. ونعلق تعليقا إجماليا فنقول إنه ليس في الآيات والأحاديث ما يمنع دخول النساء والرجال على بعضهم واجتماعهم ببعضهم في نطاق التلقينات والرسوم والآداب المشروحة. وهناك أحاديث كثيرة وردت في الكتب الخمسة وغيرها تفيد أن الرجال والنساء كانوا يدخلون على بعضهم ويجتمعون ببعضهم في مجالس النبي

_ (1) التاج ج 2 ص 287. (2) المصدر نفسه ص 286.

[سورة النور (24) : آية 30]

وفي المساجد وفي البيوت وفي الولائم وفي الحرب والجهاد. وأن النساء كن يأتين النبي وخلفاءه من بعده فيعرضن أمورهن أمام الرجال. واجتماع الرجال والنساء واختلاطهم يقع على أوسع نطاق في موسم الحج وفي مختلف مناسك هذا الركن الإسلامي من طواف وسعي ووقوف وإفاضة ورمي جمار والنساء في كل ذلك كتفا بكتف مع الرجال وهنّ سافرات الوجوه والأيدي. وهذه الحالة الأخيرة خاصة هي حالة إحرامهن حيث روى أصحاب السنن وأحمد عن ابن عمر قال «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وماس الورس والزعفران من الثياب» «1» . ولقد روى الخمسة عن سهل بن سعد «أن امرأة باءت إلى رسول الله فقالت يا رسول الله جئت لأهب لك نفسي فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعد النظر إليها وصوبه ثم طأطأ رأسه فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست فقام رجل من أصحابه فقال يا رسول الله إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها فقال هل عندك من شيء قال لا والله يا رسول الله قال اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا فذهب فرجع فقال لا والله يا رسول الله ولا خاتما من حديد، ولكن هذا إزاري فلها نصفه. قال رسول الله ما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها شيء وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء. فجلس الرجل حتى طال مجلسه ثم قام فرآه رسول الله موليا فأمر به، فلما جاء قال ماذا معك من القرآن قال معي سورة كذا وسورة كذا عددها قال أتقرؤهن عن ظهر قلبك قال نعم قال فاذهب فقد زوجتكها بما معك من القرآن» «2» . [سورة النور (24) : آية 30] قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) . (1) يغضّوا: يخفضوا أو يصرفوا أبصارهم أو لا يطيلوا النظر.

_ (1) التاج ج 2 ص 271 و 272 ونكتفي بهذا الحديث. ليرجع من شاء إلى كتب الحديث فيجد عشرات الأحاديث التي تسند ما قلناه. (2) المصدر نفسه.

تعليق على الآية قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم

في الآية أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالإيعاز للمؤمنين من الرجال بغض أبصارهم وحفظ فروجهم لأن ذلك أدعى إلى الطهارة والصيانة. وتنبيه إلى أن الله خبير بما يفعلونه وهو مراقبهم وذلك بسبيل توطيد الأمر وتنفيذه. تعليق على الآية قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ولم نطلع على مناسبة خاصة لهذه الآية. ومع أنها فصل جديد أو بداية فصل جديد فإن الصلة الموضوعية ملموحة بينها وبين الفصل السابق. فإذا لم تكن نزلت بعده فيكون ترتيبها في مكانها بسبب هذه الصلة كما هو المتبادر. ومما قاله المفسرون في صدد ما احتوته الآية من الأمر بغض الأبصار وحفظ الفروج أنه عدم التعمد في النظر إلى النساء وصرف البصر عنهن إذا وقع عليهن بدون عمد. والتعفف عن الزنا وعدم التبذل في الثياب بحيث تظهر من ذلك العورات. وعدم النظر إلى العورات في الوقت نفسه. وقد أوردوا أحاديث عديدة في ذلك منها حديث عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رواه الترمذي قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليّ، يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإنّ لك الأولى وليس لك الآخرة» «1» . ومنها حديث رواه البغوي عن جرير بن عبد الله قال «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النظرة الفجأة فقال اصرف بعدها بصرك» . ومنها حديث عن أبي سعيد الخدري قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد» «2» .

_ (1) ابن كثير. (2) البغوي. وبديهي أن النهي يكون أولى وأشدّ عن نظر الرجل إلى عورة المرأة وعن نظر المرأة إلى عورة الرجل وعن إفضاء الرجل بثوب إلى المرأة وإفضاء المرأة بثوب إلى الرجل وعورة الرجل هي ما دون السرة وفوق الركبة كما جاء في حديث نبوي رواه أبو داود والبيهقي. وعورة المرأة جميع جسدها عدا وجهها ويديها. انظر تفسير الآية والآيات التالية في ابن كثير والخازن وانظر التاج ج 1 ص 139. [.....] الجزء الثامن من التفسير الحديث 26

[سورة النور (24) : آية 31]

والذي يتبادر لنا أن جمع الأمر بغض الأبصار وحفظ الفروج في جملة واحدة قرينة قرآنية على أن القصد من الأمر بالغضّ هو عدم النظر إلى المرأة الأجنبية نظرة جنسية شهوانية. وأن الأحاديث هي في صدد ذلك من حيث الجوهر. ويلفت النظر إلى الحديث الذي ينهى عن إتباع النظرة بالنظرة فالنظرة الأولى تكون صدفة ومعفوا عنها، فإذا أتبعت بأخرى صارت نظرة مريبة آثمة. وفي الآية التالية التي تأتي بعد هذه الآية تسويغ لإسفار المرأة عن وجهها أمام الأجانب. هذا سواغ تبادل الكلام والنظر. وهذا ما كان جاريا من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن. وورد ذلك في أحاديث وروايات كثيرة وهو المعقول التعامل بدون انقطاع، وهو سائغ ما دام ليس شهوانيا آثما والله تعالى أعلم. وعلى كل حال فالآية هي بسبيل حثّ المؤمنين على التمسك بأهداب العفة وتوقي أسباب الفتنة والفاحشة وعلى عدم التبذل في كشف ما لا يأتلف مع الحياء من أجسادهم وعوراتهم. وكل هذا أدب رفيع متسق مع الذوق السليم والخلق الكريم في كل ظرف ومكان. [سورة النور (24) : آية 31] وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) . (1) زينتهن: المتبادر أنها الحليّ: ويجوز أن يكون من مقاصد الكلمة.

تعليق على الآية وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ... إلخ ومدى ما فيها من آداب وبحث في سفور المرأة ونشاطها في مختلف الميادين

(مفاتن المرأة) أي نحورهن وظهورهن وصدورهن وسيقانهن وأذرعهن إلخ وهذا يتبادر أكثر من جملة وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ إلخ. (2) خمرهن: جمع خمار وهو غطاء كان النساء يتشحن أو يتقنعن به. (3) جيوبهن: جمع جيب. وهو شق الثوب الذي يظهر منه عادة بعض أجزاء البدن كالصدر والظهر. (4) نسائهن: النساء عامة في قول والنساء المسلمات خاصة في قول آخر. (5) غير أولي الإربة من الرجال: غير القادرين على المباشرة الجنسية. (6) الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء: بمعنى الأطفال الذين لم يبلغوا سنّ الشهوة والرغبة الجنسية. (7) ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن: المتبادر أن المقصد هو الخلخال الذي يوضع في الرّجل للزينة حيث يرن صوته إذا ضربت المرأة برجلها. تعليق على الآية وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ... إلخ ومدى ما فيها من آداب وبحث في سفور المرأة ونشاطها في مختلف الميادين عبارة الآية واضحة. وهي والآية السابقة لها تؤلفان فصلا واحدا كما هو المتبادر. وقد أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يوعز إلى النساء أيضا بما أوعز به إلى الرجال من غضّ الأبصار وحفظ الفروج مضافا إلى ذلك ما هو متصل بطبيعتهن الجنسية من عدم إبداء ما يمكن إخفاؤه من الزينة. وستر شقوق ثيابهن التي تظهر منها مفاتن أجسادهن بأوشحتهن أو خمرهن. ومن إخفاء ما يجب إخفاؤه من زينتهن ومفاتنهن عن غير المذكور في الآية. ومن عدم تحريك أرجلهن بقصد إظهار ما هو خاف من زينتهن وحليهن فيها. وانتهت الآية بالهتاف بالمؤمنين جميعا بالتوبة إلى الله وطاعته لضمان الفوز والفلاح لأنفسهم.

وواضح أن هدف الآية هو تنبيه النساء المسلمات إلى وجوب الغضّ من أبصارهن نحو الرجال بسبيل تجنب الإغراء والتورط في الإثم. وإلى الاحتشام في اللباس وعدم التبذل في كشف ما لا يأتلف مع واجب الحياء وفيه إغراء للرجال وتوريط أمام غير المحارم. وهكذا تكون الآية قد احتوت تقرير كون المرأة في الخطاب القرآني التشريعي الاجتماعي والتأديبي أيضا طرفا مسؤولا مثل الرجل كما هو شأنها في الخطاب التشريعي المالي والسياسي والتعبدي والقضائي والشخصي. وما قلناه في سياق الآية السابقة من سواغ تبادل النظر والكلام وكون القصد من جميع الأمر بالغض وحفظ الفروج هو النهي عن النظرة الأثيمة الشهوانية قال هنا أيضا فلا حاجة إلى التكرار. وجملة إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها تعني كما هو المتبادر ما جرت العادة على ظهوره مثل الوجه والكفين على ما قاله بعض المفسرين ومثل الخاتم والخضاب والكحل والثياب وظهر الكفين بالإضافة إلى الوجه والكفين على ما قاله بعض آخر عزوا إلى بعض أصحاب رسول الله والتابعين. وليس بين هذا وبين ما جاء في سورة الأحزاب من تناقض سواء منه ما كان في حقّ نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة بما في ذلك تعبير مِنْ وَراءِ حِجابٍ أم ما كان في حقّ جميع نساء المسلمين من الأمر بإدناء الجلابيب على ما شرحناه في سياق السورة المذكورة. ولعلّ في أمر الرجال في الآية السابقة بالغض من أبصارهم دلالة قوية على ما كان جاريا سائغا وعلى ما في الآية من مفهوم وتسويغ ببروز المرأة سافرة الوجه واليدين أمام الناس زائرة ومزورة وساعية في أسباب الرزق والعمل والتصرفات المباحة لها والواجبات المطلوبة منها. والعلماء متفقون على أن وجه المرأة ويديها ليست عورة استدلالا من هذه الآية. وليس هناك أي أثر نبوي بستر المرأة لوجهها ويديها في الصلاة أو غيرها. وهناك نهي نبوي عن ذلك في إحرامها على ما جاء في حديث ابن عمر الذي أوردناه قبل.

وهناك بعض أحاديث مؤيدة لذلك منها حديث رواه الطبري عن عائشة جاء فيه «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عركت المرأة لم يحلّ لها أن تظهر إلّا وجهها وإلّا ما دون هذا وقبض على ذراع نفسه فترك بين قبضته وبين الكفّ مثل قبضة أخرى» ومنها حديث آخر رواه الطبري كذلك جاء فيه «أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح للمرأة أن تبدي من ذراعها إلى قدر النصف» بالإضافة إلى وجهها وكفيها. والمحارم المذكورون في الآية الذين أذن للمرأة إبداء زينتها أمامهم قد ذكروا في آية سورة الأحزاب [55] بزيادة آباء الأزواج وأبنائهم والتابعين غير أولي الإربة من الرجال. ولم يذكر الأعمام والأخوال هنا أيضا. ومهما تكن الحكمة خافية في عدم ذكرهم هنا أيضا فإن نصّ آية سورة النساء [24] صريحة بأنهم من محارم المرأة المحرمة عليهم على ما ذكرناه أيضا في سياق آية الأحزاب المذكورة. ووصف الرجال غير ذوي الإربة بالتابعين هو على ما يبدو لإخراج غير التابعين من النطاق حيث يتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت ذلك حتى لا تتبذل المرأة أمام غير محرم لا صلة لها به ولو كان غير ذي إربة. ولقد روى الطبري وغيره عن بعض أهل التأويل أن المقصود بهؤلاء الناس رجال كانوا يتبعون الناس للأكل ولا يكون لهم أرب في النساء فيأمنّ جانبهم ولا يتهربنّ منهم كما رووا عن بعض المؤولين سواغ دخول الحمقى والمغفلين والعنّينين إطلاقا، في نطاق الإباحة التي تضمنتها العبارة القرآنية. ونرى هذا وذاك مخالفين لتحديد الآية وهو (التابعون) الذي نعتقد أنهم الخدم وأن ما عداهم محظور عليهم الدخول على النساء في حالة تبذلهن ولو كانوا غير أولي قدرة جنسية. وهذا ينطبق على المغفلين والحمقى والعنّينين. ولقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمنع دخول المخنثين على النساء كما جاء في حديث رواه الشيخان عن أم سلمة قالت «إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وفي البيت مخنّث فقال المخنّث لأخي أم سلمة إن فتح الله لكم الطائف غدا أدلك على بنت غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان. فقال

النبي لا يدخل عليكم» «1» . ولقد قلنا إن هناك من يؤول نِسائِهِنَّ بعموم النساء ومن يؤولها بالنساء المسلمات. وهذا التعبير جاء في آية سورة الأحزاب المذكورة أيضا وقد رجحنا أنها تعني عموم النساء والله تعالى أعلم. أما إباحة ظهور المرأة بزينتها أمام ملك يمينها من الرجال فهي بسبب كونها محرمة عليهم فيعدون من محارمها. وفي هذه السورة استدراك في شأن الأطفال وملك اليمين في أوقات التبذل في المخادع سنشرح مداه في مناسبته. وفي صدد الأمر بضرب الخمر على الجيوب نقول إن المتبادر أن الخمار مما كانت المرأة تستعمله في التقنع وتغطية الرأس والعنق فأمرت الآية بضربه على شقوق ثوبها لإخفاء مفاتن جسدها. وإن الأمر على كل حال بسبيل فرض إخفاء هذه المفاتن وليس بسبيل فرض زي خاص. فإذا أخفيت هذه المفاتن بزي آخر حصل المقصود. وهناك حديث يرويه أبو داود والترمذي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يقبل الله صلاة حائض إلّا بخمار» «2» وقد يفيد هذا أن خمار الرأس واجب ديني في الصلاة وليس كذلك في غيرها، والله أعلم. وبمناسبة هذه الآية نقول إنه كما أنه ليس في القرآن ولا في الأحاديث ما يمنع النساء والرجال من الدخول على بعضهم في نطاق التلقينات والرسوم المشروحة سابقا فإنه ليس فيهما ما يمنع المرأة من أن تكون سافرة الوجه واليدين أمام الرجال غير المحارم إذا ما كانت ساترة لمفاتنها وغير مبدية لزينتها ومن أن تخرج من بيتها كذلك لقضاء حاجاتها وممارسة شؤونها على اختلاف أنواعها مما يدخل فيه تلقي العلم وغشيان المدارس والمساجد وشهود الاجتماعات العامة والاتجار والتكسب والعمل والمشاركة في الأعمال والواجبات الرسمية وغير

_ (1) التاج ج 2 ص 301 ونرجح أن النبي قصد بالنهي دخول المخنث على النساء في حالة تبذلهن. وإنه لا حرج في غير هذه الحالة إذا ما كان وفق التلقينات القرآنية والنبوية المشروحة سابقا. (2) التاج ج 1 ص 140.

الرسمية والاستمتاع بنعم الطبيعة وهو ما قرره لها القرآن حين قرر لها الأهلية السياسية والشخصية والحقوقية والاقتصادية والاجتماعية والمشاركة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير والتكافل والتضامن وخاطبها بكل ما خاطب به الرجل من تفكر وتعقل وتدبّر في كتاب الله وآياته وكونه وكلفها بكل ما كلف به الرجل من واجبات وتكاليف إيمانية وتعبدية واقتصادية وسياسية وعقلية واجتماعية وشخصية ورتب لها وعليها كل ما رتب للرجل وعليه من النتائج الدنيوية والأخروية على قدم المساواة مما مرت مؤيداته وشرحه في مناسبات كثيرة سابقة ومما يأتي أيضا في مناسبات آتية. وكل هذا في نطاق مدى هذه الآية وروحها وما احتوته من فكرة وهدف وتلقين من احتشام وبعد عن مواقف الريبة ودواعي الإغراء والفتنة والإثم والأمور والأعمال والمظاهر والأماكن غير المباحة في الشرع والأخلاق الكريمة مما هو محظور على الرجل والمرأة على السواء. ولقد أورد ابن كثير حديثا رواه الترمذي عن ميمونة بنت سعد قالت «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم الرافلة في الزينة في غير أهلها كمثل ظلمة يوم القيامة لا نور لها» . وفي الحديث تأييد ما لإباحة بروز المرأة في غير أهلها في نطاق الاحتشام وكون المحظور عليها هو إبداء زينتها ومفاتنها على غير محارمها. وأورد حديثا آخر رواه أبو داود والترمذي جاء فيه «كلّ عين زانية، والمرأة إذا استعطرت فمرّت بالمجلس فهي كذا وكذا يعني زانية» وهذا الحديث كسابقه لا يمنع المرأة من الخروج. والترائي للناس وإنما الذي يمنعه هو دواعي الفتنة والإغراء. ويسوق بعضهم آية سورة الأحزاب وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى [33] . وهذه الآية من آيات موجهة لنساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة بدون أي لبس ولا تعميم. ومع ذلك فهناك أحاديث عديدة تفيد أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن لحاجاتهن بإذن النبي ويخرجن في صحبته للغزوات والحج وينشطن في ميدان المعركة ويشهدن المساجد والمجالس. وظل أمرهن على ذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم

حيث يمكن القول إن الأمر في الآية هو في صدد عدم الإكثار في الخروج والتبرّج لضرورة وغير ضرورة. ويصح أن يكون في هذا للمسلمات أسوة وتلقين ولا يتعارض مع ما قررناه آنفا. ونستطرد إلى ما يقال ويثار حول اشتراك المرأة في الانتخابات والمجالس النيابية وما يدخل في بابها فنقول إن هذا مما يتسق مع ما ذكرناه من أهليتها وحقوقها السياسية والاجتماعية واستقلال شخصيتها وشركتها مع الرجل في الإنسانية وواجباتها وأمانتها التي قررها لها القرآن. وهي نصف المجتمع وكل ما يتقرر في هذه المجالس يتناولها كما يتناول الرجل على السواء. فمن حقها أن يكون لها فيه رأي مثله. والقول إن هذا يشغلها عن طبيعتها الجنسية والاجتماعية قول فارغ لا يقف أمام الوقائع والحقائق. فالانتخابات تقع عادة في فترات متباعدة وتشغل من أوقات الناس أياما قليلة والمرشحون للمجالس أفراد قليلون فليس في كل هذا ما يصرف جمهور النساء بل ولا جمهور الرجال عن أعمالهم المعتادة. ويحتج البعض بأن المرأة في الصدر الإسلامي لم تشترك في شؤون الدولة والحياة الاجتماعية بمقياس واسع. ومردّ هذا إلى طبيعة الحياة السياسية والاجتماعية في ذلك الزمن وليس من شأنه أن يعطل الأحكام والتلقينات والمباحات القرآنية كما هو ظاهر. وحكمة الله التي شاءت أن تمنح المرأة ما منحتها من أهلية وحقوق وشخصية لا يمكن أن تكون فعلت ذلك عبثا وليبقى معطلا. ومع ذلك ففي ثنايا التاريخ الإسلامي أحداث ومشاهد كثيرة علمية وسياسية واجتماعية كان للمرأة فيها بروز حسب ما كان ممكنا ومتسقا مع العصر. ويحتج بعضهم بآية سورة النساء الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ [34] وقد علقنا على هذه الآية بما يزيل الوهم الذي يتبادر منها ويجعل الاحتجاج في غير محله. ويحتج البعض بجهل المرأة وغفلتها. وهذا كذلك كلام فارغ فالسواد الأعظم من الرجال في البلاد الإسلامية جاهلون غافلون. ولم يقل أحد إنهم يجب أن يحرموا من حقوقهم السياسية والاجتماعية بسبب ذلك، وهو إلى هذا في سبيل

الزوال لأن المرأة كالرجل سائرة في طلب العلم والمعرفة في كل الميادين. ويورد البعض الحديث الذي يذكر فيه «إن المرأة ناقصة عقل ودين» . وقد أوردناه في مناسبات سابقة وعلقنا عليه بما يزيل الوهم من كونه عاما لجميع النساء. ويورد البعض الحديث الذي يندد بالقوم الذين يولون أمرهم امرأة. وليس هذا المقام هو محل إيراد هذا الحديث عند إنعام النظر والفكر. ويورد بعضهم الحديث الذي لعن النبي صلى الله عليه وسلم فيه المتشبهين بالرجال من النساء والمتشبهين بالنساء من الرجال، ولسنا نرى في هذا نقصا لما نقرره لأننا لسنا قائلين بأن تضيع المرأة أنوثتها وطبيعتها وتتشبه في أطوارها وحركاتها وأزيائها بالرجال تشبها يذهب بتلك المعالم والطبيعة أو يعطلها. وما نراه يصح للمرأة المسلمة عمله إنّما يصح ويكون له معناه في حالة احتفاظ المرأة بهذه المعالم والطبيعة وفي سبيل ذلك. ونريد أن نستدرك أمرا، وهو أن ما قلناه في صدد حق المرأة المسلمة أن تباشر وتمارس وتشهد كل عمل واجتماع مشروع ليس فيه ريبة شخصيا كان أم اجتماعيا أم سياسيا أم تكسبيا وأنه ليس هناك نصّ من كتاب وسنّة يمنع ذلك ما دام في نطاق التلقينات والحدود والرسوم القرآنية والنبوية، إنما نقوله لنقرر هذا الأمر من حيث المبدأ. وإننا لا نعني أن لا يكون لطبيعة المرأة الأسرية والاجتماعية ولا لطبيعة المجتمع الإسلامي من اعتبار. فنحن نعتقد أن مكان المرأة وعملها الطبيعيين والرئيسيين هما البيت والزوجية والأمومة ومشاغلها. وهذا مما يقرره كتاب الله وسنة رسوله صراحة وضمنا وهما مكان وعمل خطيران ومهمتان حيويتان في الحياة الإنسانية من مختلف الاعتبارات وليس فيهما أي حطّ لقيمة المرأة وشأنها أو تعطيل لقواها ومواهبها. والمرأة فيهما تقوم بما يماثل قيمة ومدى ما يقوم به الرجل من أعمال. وكل ما هناك من فرق هو اختلاف في النوع متأتّ عن اختلاف في الطبيعة الجنسية. ولقد اعتبرها النبي صلى الله عليه وسلم ربة البيت والمسئولة عنه وراعية في الحديث الصحيح المشهور الذي رواه الخمسة عن ابن عمر «ألا كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيته» حيث جاء فيه «والمرأة راعية على بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم» . وهذا ما تشعر به المرأة ظاهرا وخفيا وتسلّم به وتسعى في سبيله،

ولو سئلت النساء عما يفضلنه لكان جواب سوادهن الأعظم الزواج والأمومة والبيت. ويستوي في ذلك كلهن على اختلاف الظروف والحالات والأدوار والأطوار. لأنه الأمر الطبيعي الذي أعدهن الله تعالى له. وعلى هذا كله فكل عمل يمكن أن يخل إخلالا جوهريا بذلك يخرج عن صفة (المشروع) ولو كان في حد ذاته مشروعا. وكل عمل مشروع يصح أن تمارسه المرأة في نطاق الاحتشام يجب أن يكون متسقا مع ذلك. فالمرأة التي تسمح لها مشاغل البيت والزوجية والأمومة، أو المرأة التي لم يتيسر لها أن تشتغل بهذه المشاغل هي التي يصح أن تمارس ذلك العمل المشروع الذي لا تمنع الشريعة الإسلامية ممارسته. وهناك أمران آخران. الأول: هو ملاحظة كون الرجل في الشريعة الإسلامية هو المكلف بالإنفاق على المرأة. وهو المرشح الأول والطبيعي نتيجة لذلك للأعمال التكسبية التي يجني منها ما يحتاج إليه من النفقة المكلف بها. فإذا اندفعت المرأة نحو الأعمال التكسبية من وظائف ومهن اندفاعا واسعا فيه احتمال لمزاحمة الرجل وتضييق مجال وفرص تكسبه، مكانا أو مقدارا أو قيمة، أصبح ذلك غير مشروع لأنه يعطل أو يعسّر واجب الرجل الذي أناطت الشريعة الإسلامية به الإنفاق في حين أنه لا يكون في الأعم الأغلب بديلا عنه، فضلا عن أنه لا يصح أن يكون بديلا عنه لأن ذلك يكون قلبا للأوضاع الطبيعية والجنسية والشرعية. فالحق عندنا والحالة هذه هو أن يكون اضطلاع المرأة بالأعمال التكسبية في النطاق الذي لا يضار به الرجل من جهة، ومنوطا بالدرجة الأولى بالحاجة والضرورة من جهة أخرى. أما الأمر الثاني: فهو مراعاة وجوب انطباق الأعمال التكسبية التي تضطلع بها المرأة في النطاق المذكور على طبيعتها الجنسية وأن لا تكون مما يرهقها ويذهب بأنوثتها سواء أكان ذلك مما تؤهلها له ثقافتها ودراستها أم بنيتها وخبرتها ومرانها. فالطبابة والصيدلة والتعليم والمحاسبة والكتابة مثلا أكثر انطباقا على المرأة الجامعية من هندسة الطرق والميكانيكيات المتنوعة. والغزل والزخرف والخياطة والتطريز

والرسم والتجارة والعمل الديواني والهاتف مثلا أكثر انطباقا على غير الجامعية من الحدادة والنجارة والنحاتة والطباعة إلخ. والله أعلم. وقبل أن ننتهي من هذا البحث نريد أن نستدرك أمرا مستلهما من حديث أوردناه في تفسير سورة الروم رواه أصحاب السنن جاء فيه جواب على سؤال أي النساء خير فقال النبي «الذي تسرّه إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخالفه في نفسها ومالها بما يكره» ولقد علقنا على هذا الحديث سابقا بما فيه الكفاية. ولكن نقول هنا إنه يحسن على ضوئه أن يكون نشاط المرأة المتزوجة خارج البيت سياسيا كان أم اجتماعيا أم تكسبيا مقترنا برضاء الزوج. لأن عدم رضاه قد يؤدي إلى النزاع والشقاق. وعلى الزوج العاقل الذي لا بد من أن يدرك من نصوص كتاب الله وأحاديث النبي أن المرأة مؤهلة لذلك النشاط وأنه غير مخالف للكتاب والسنة وإن فيه مصلحة وفائدة عامة وخاصة أن يرضى عنه ويباركه ولا يضع العراقيل في طريقه إذا لم يكن حقا شاغلا للزوجة عن واجباتها الزوجية الأساسية. أما إذا لم يفعل رغم ذلك ورأت الزوجة أن معارضة زوجها ضارة بها فلها إذا أحبت أن تدافع عن نفسها وحقها إذا كانت ترى أن نشاطها مشروعا لا بد منه لمصلحتها ومصلحة زوجيتها ومجتمعها اقتداء بالمرأة التي فعلت ذلك وأقرها الله ورسوله عليه على ما جاء في أول سورة المجادلة قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ ... [1] وأن ترفع الأمر إلى الحاكم ليحل الخلاف ويقر الأمر في نصابه الحق في نطاق ومدى آية سورة النساء وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما ... [35] التي شرحناها سابقا. والله أعلم. وكلمة أخرى نقولها في صدد واجب الزوجة بطاعة زوجها أن يكون ذلك في معروف وفي غير معصية ومنكر وفيه خير ومصلحة. وهذا مستلهم من آية سورة الممتحنة التي أمر النبي فيها بقبول بيعة النساء بعدم عصيانه في معروف يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ

فَبايِعْهُنَّ ... [12] ومن حديث رواه الخمسة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحبّ أو كره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» «1» . فإذا أمر زوج زوجته بأمر فيه منكر وليس فيه خير ومصلحة فلا طاعة له عليها وإن أصرّ فلها أن تدافع عن نفسها وترفع أمرها إلى الحاكم ليضع الأمر في نصابه الحق. هذا، وواضح من كل ما تقدم في سياق الآيات التي نحن في صددها والتي قبلها أن الآداب والتلقينات والحدود القرآنية والنبوية ترسم لحياة المرأة وعلاقتها بالمجتمع نطاقا تدور فيه من غير إفراط ولا تفريط. وتكفل لها جميع حاجاتها وتسمح لها بكل ما يأتلف مع الحق والمنطق والأدب والخلق الكريم والذوق السليم والعفة والطهارة من حرية وتعليم ومن تصرف وكسب واستمتاع بريء ومشاركة في الواجبات العامة الرسمية وغير الرسمية والاجتماعية وغير الاجتماعية. وكل ما تشدد عليه هو عدم تبذلها وتهتكها. وإذا كان لها أن تختلط في الناس والمجتمع في هذا النطاق فإن الاختلاط المريب الذي فيه تورط في الفتنة وإغراء بها وتشجيع على الإثم والخفة في الظهور بدون ضرورة وغشيان الأماكن العامة غير البريئة من مراقص وملاه ومقاه وملاعب وأندية ومسابح وتعاطي المحرمات والمغريات فيها هو حرام وخارج عن ذلك النطاق من دون ريب. هذا بالإضافة إلى وجوب التزامها نطاق وظيفتها الطبيعية الرئيسية وهي البيت والزوجية والأمومة في الدرجة الأولى وعدم استغراقها خارج ذلك استغراقا يعطلها عن هذه الوظيفة. وليس من ريب في أن التعاليم القرآنية والنبوية تهيء لأولي الأمر في الدولة وسيلة عقيدية لتنظيم الأمر وجعله في دائرة الحق والآداب من جهة والحيلولة دون ما يتنافى مع ذلك من جهة وضمانة تمتع المرأة بحريتها وحقوقها وتعليمها ومشاركتها في مختلف الشؤون السياسية والاجتماعية في النطاق المرسوم من جهة ومواجهة وضد التيارات الغربية الجارفة الهدامة التي تهدد المجتمع الإسلامي من جهة، والله أعلم.

_ (1) التاج ج 3 ص 40.

[سورة النور (24) : آية 32]

[سورة النور (24) : آية 32] وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) . (1) الأيامى: غير المتزوجين وتشمل الكلمة الذكور والإناث والأبكار والثيبات. (2) الصالحين: المتبادر أنها هنا بمعنى الصالحين للزواج، القادرين على القيام بحقوقه. (3) عبادكم: الرجال من الرقيق. في الآية حثّ للمسلمين على تزويج الذين لا أزواج ولا زوجات لهم من الرجال والنساء. وعلى تزويج الصالحين للزواج من رقيقهم رجالا كانوا أم نساء. وفيها وصية ضمنية بأن لا يكون الفقر مانعا من ذلك. فإذا كانوا فقراء فإن الله قادر على إغنائهم من فضله. وهو ذو الفضل الواسع العليم بمقتضيات الأمور. تعليق على الآية وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) وما فيها من أحكام وتلقين والآية تحتوي موضوعا مستقلا عن الفصل السابق كما يبدو. غير أن التناسب الموضوعي غير مفقود. ولم نطلع على رواية في نزول الآية. وقد أورد المفسرون في سياقها حديثا نبويا عن ابن مسعود قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» «1» . وهذا الحديث يجعل بين هذه الآية والفصل السابق صلة تعقيبية على اعتبار أن المتزوجين أبعد عن الافتتان وأقدر على العفة واجتناب مزالق الفاحشة وهذا مما استهدفه الفصل السابق كما لا يخفى. ولفظ الحديث

_ (1) البغوي والخازن وابن كثير. والباءة هنا: بمعنى الزواج أو النكاح، وكلمة (وجاء) بمعنى وقاء. والحديث رواه الخمسة (انظر التاج ج 2 ص 253- 254) .

متصل بما جاء في الآيات السابقة. ومن المحتمل أن تكون الآية قد نزلت مع الفصل السابق أو عقبه فوضعت في ترتيبها، وإلّا فيكون ذلك بسبب التناسب الموضوعي. وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن الأمر على سبيل الندب والحثّ والاستحباب «1» . كما ذهب بعضهم إلى أنه على الوجوب على كل قادر «2» . وأسلوب الآية ينطوي على تلقين قوي بوجوب الزواج بصورة عامة حتى ليشمل الرقيق وحتى لينهى عن أن يكون الفقر أو ضيق الرزق عثرة في سبيله أمام الراغبين في الزواج والصالحين له من النساء والرجال بما فيهم العبيد والإماء. ولا سيما أن أكثر حالات الفقر ليست انعدام القدرة بالمرة، وإنما هي ضيق رزق مع القدرة على المهر والنفقة في نطاق الاعتدال أو الكفاف والكسب وهذا منطو في مضمون الآية ويؤيده أن الآية التالية ذكرت عدم الاستطاعة بالمرة. وفي كل هذا حكم اجتماعية وأخلاقية وإنسانية رائعة. والمتبادر أن الأمر موجه بنوع خاص إلى أولياء الفتيات ومالكي الرقيق لأنهم هم الذين قد يكون المنع من جانبهم. ولعل مما ينطوي فيها إيجاب الاعتدال في المهور وعدم الشطط أمام حالة ضيق الرزق التي هي حالة الجمهور الأعظم من الناس. ولا تخلو في الوقت نفسه من حثّ جمهور المسلمين على المساعدة على تحقيق ما أمرت به الآية. وبخاصة الفقرة الأخيرة المشجعة التي جاءت في آخرها. وهذا وذاك من جملة تلك الحكم البليغة السامية. ولقد أورد البغوي في سياق هذه الآية حديثا نبويا مشهورا على ألسنة المسلمين جاء فيه «تناكحوا تكثروا فإني مباه بكم الأمم» . وحديثا آخر ورد في حديث طويل رواه الشيخان والنسائي جاء فيه «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت النبي يسألون عن عبادته فلما أخبروا كأنهم تقالّوا فقالوا وأين نحن من رسول الله فقد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر فقال أحدهم أما أنا فإني أصلّي الليل أبدا. وقال

_ (1) البغوي. (2) ابن كثير.

[سورة النور (24) : آية 33]

آخر أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر. وقال الآخر أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا فجاء رسول الله إليهم فقال أنتم الذين قلتم كذا وكذا. أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له. ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني» «1» . وأورد ابن كثير حديثا رواه الترمذي والنسائي والحاكم عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه «ثلاثة حقّ على الله عونهم المكاتب الذي يريد الأداء والناكح الذي يريد العفاف والمجاهد في سبيل الله» «2» وفي الأحاديث تساوق مع التلقين القرآني في الحثّ على الزواج وعلى المساعدة فيه كما هو المتبادر. [سورة النور (24) : آية 33] وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) . (1) نكاحا: هنا بمعنى قدرة مادية على الزواج. (2) الكتاب: بمعنى المكاتبة. وهي اصطلاح يراد به افتداء العبد نفسه بمال يتعهد بأدائه لسيده، فإذا أداه أصبح حرا. ولعلها تنطوي على معنى التعاقد بين السيد وعبده. (3) خيرا: هنا بمعنى الصلاح والقابلية وحسن الخلق والقصد والصدق والوفاء.. إلخ. هذه الآية احتوت ثلاثة أمور: الأول: تنبيه للذين لا يقدرون ماديا على التزوج إلى واجب التزام العفة حتى

_ (1) التاج ج 2 ص 254. وتقالّوا تعني أنهم رأوا ما يفعله النبي صلى الله عليه وسلم قليلا ... (2) المصدر نفسه. والمكاتب هو الرقيق الذي يتفق مع مالكه على شراء نفسه بنفسه. وهذا مما سيأتي الكلام عنه في آية تأتي بعد هذه الآية.

تعليق على الآية وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا إلخ وما فيها من أحكام وتلقين

يغنيهم الله من فضله وتجنب الإثم ومزالقه. الثاني: أمر لمالكي الرقيق بمكاتبة رقيقهم إذا طلبوا ذلك، وكانوا صالحين له مع حثّ المالكين وغيرهم على التصدق عليهم من مال الله الذي آتاهم. الثالث: نهي عن إكراه الفتيات على البغاء إذا أردن التحصن ابتغاء المال وعرض الدنيا مع الإنذار للمكرهين والوعد بالمغفرة للمكرهات. تعليق على الآية وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً إلخ وما فيها من أحكام وتلقين روى المفسرون أن الأمر الثاني في الآية نزل في حقّ عبد لحويطب بن عبد العزى طلب من سيده المكاتبة. فأباها فشكا أمره إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما أمر الله بذلك أمره النبي بمكاتبة فكاتبه على مائة دينار. وأن الأمر الثالث نزل في حقّ عبد الله بن أبي بن سلول الذي كان يجبر أمتين له على التكسب من البغاء وإعطائه ما تكسبان فشكتا أمرهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فمنع بالأمر القرآني. وهذه الرواية رويت بطرق عديدة وفي حديث رواه مسلم عن جابر قال «كان لعبد الله بن أبي بن سلول جاريتان إحداهما تسمّى مسيكة وأخرى تسمّى أميمة فكان يكرههما على الزنا فشكتا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ الآية..» «1» ولم يرو المفسرون رواية عن نزول الفقرة الأولى. والروايات قد تقتضي أن تكون الآية نزلت مجزأة وفي أوقات متباعدة فيما يبدو غريبا. ونلاحظ: (1) أن الفقرة الأولى من الآية متصلة اتصالا تاما بموضوع الآية السابقة. (2) أن الموضوع الثالث يحتمل معنى آخر غير معنى التكسب بالبغاء. وهو

_ (1) التاج ج 4 ص 171 و 172 وانظر كتب تفسير الطبري وابن كثير والبغوي.

النهي عن عدم تزويج الفتيات أو الامتناع عن تزويجهن لأسباب مادية إذا ما أظهرن رغبة في الزواج توكيدا لاتباع فحوى الآية السابقة وتفاديا من التورّط في الإثم. وقد عبّر عن الرغبة في الزواج بجملة إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً وقد جاء في هذا المعنى في آيات عديدة من ذلك آية سورة النساء [24] التي فيها تحريم وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ بمعنى المتزوجات وآية سورة النساء [25] التي فيها جملة فَإِذا أُحْصِنَّ بمعنى إذا تزوجن بل نحن نرى أن هذا المعنى هو الذي يستقيم أكثر من معنى الإجبار على البغاء لأخذ أجرته. (3) أنه ليس من المستبعد أن تكون المكاتبة التي يحثّ عليها الأمر الثاني متصلة بتزوج العبيد الذي حثت عليه الآية السابقة. لأن من المعقول أن يرى العبد حرصا من الزواج مع العبودية أو مانعا بسببها فيطلب التحرر قبل الإقدام عليه. فإذا صحّت هذه الملاحظات فتكون الآية كلها متصلة بالآية السابقة سياقا وموضوعا وتكون فقراتها الثلاث وحدة متوافقة. وهذا لا يمنع من أن يكون واحد من العبيد أبى سيده عليه المكاتبة فشكا أمره إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأن بعض الفتيات راجعن النبي صلى الله عليه وسلم بسبب امتناع ذويهن أو مالكيهن من تزويجهن وإكراههن على البغاء نتيجة لذلك فاقتضت حكمة التنزيل التنبيه على ما يجب في الأمرين في سياق التعقيب على الآية السابقة ليكون الحكم عامّا. والله تعالى أعلم. ويبدو أن حثّ غير القادرين على الزواج على التعفف متصل بما يبرره الأعزب لنفسه وبما تبرره له الطبيعة وبسبيل التنبيه على ما في الزنا من إثم عظيم على كل حال. وواضح أنه ليس من تناقض بين الفقرة الأولى من الآية وبين ما في الآية السابقة من الحثّ على الزواج وعدم جعل الفقر عثرة في سبيله. فمما لا ريب فيه أنه قد يكون حالات من الفقر والعسر تحول دون الزواج. والمتبادر أن حكمة التنزيل قد لحظت هذه الحالات فأمرت في الفقرة الأولى بالتزام العفة فيها. ولقد لحظت حكمة التنزيل في آية سورة النساء [25] حالة عجز الحرّ عن التزوج بالحرة لأسباب مادية، فأذنت له بالتزوج من أمة لأن ذلك أقل كلفة حيث يبدو أن الحالة الجزء الثامن من التفسير الحديث 27

مدى حث القرآن على مكاتبة المماليك وكونها وسيلة من وسائل تحريرهم وما ورد في ذلك

الملحوظة هنا هي خاصة بمن لا يستطيع ماديا التزوج مطلقا من حرة أو أمة على السواء. والجملة الأخيرة من الآية متسقة مع التلقينات القرآنية والنبوية في شأن عفو الله وغفرانه لمن يكره على اقتراف إثم ما على ما شرحناه في مناسبات سابقة. ولعلّها في مقامها تنطوي على تلقين بعدم التزمت في التزوج من المكرهات على البغاء أو المعتدى على أعراضهن من الفتيات إذا ما تبن وأظهرن الصلاح وأردن التحصن والتعفف. مدى حثّ القرآن على مكاتبة المماليك وكونها وسيلة من وسائل تحريرهم وما ورد في ذلك والمكاتبة وسيلة من وسائل تحرير الرقيق. وصيغة الآية قد تلهم أنها كانت جارية قبل نزولها أيضا كما هو شأن عتق الرقاب فأكدها القرآن لأنها مما يتسق مع ما حثّ عليه في مختلف المواضيع والمناسبات. وما تضمنته الآية من الحثّ على التصدق على المكاتبين ينطوي على توكيد وجوب تسهيل تحريرهم وعتقهم كما هو المتبادر. وفي الحديث الذي رواه أصحاب السنن عن أبي هريرة وأوردناه قبل تدعيم حيث جاء فيه أن المكاتب الذي يريد الأداء من الذين حقّ على الله عونهم. وفي كتب التفسير «1» أحاديث وأقوال في أحكام المكاتبة صارت مستندات لمذاهب فقهية بالإضافة إلى محتوى الجملة. فأولا: هناك خلاف فيما إذا كان الأمر بالمكاتبة هو على سبيل الإيجاب أم الاستحباب. وقد استند الذين قالوا بالإيجاب إلى ظاهر الآية التي تأمر بالمكاتبة إذا ما طلبها المملوك وإلى حديث رواه قتادة عن أنس بن مالك مفاده أن مملوكه سيرين طلب المكاتبة فتلكأ فشكاه إلى عمر بن الخطاب فأمره بمكاتبته وفي رواية

_ (1) انظر كتب تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن والطبرسي في صدد جميع ما جاء في هذه النبذة.

علاه بالدرة على تلكؤه. وقد يكون هذا الرأي هو الأوجه المتسق مع روح التلقين القرآني العام بتحرير الرقاب إطلاقا. وإن كان يرد أن جملة إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً في الجملة تجعل الأمر منوطا بتقدير المالك وتضعف قوة الإيجاب. على أن ما روي في سبب نزولها ومداخلة النبي بعد نزولها وما روي من مداخلة عمر قد يسوغ القول إن ولي الأمر يمكن أن يكون مرجعا في هذا التقدير ونافذ الأمر في القضية. والله أعلم. ولقد أورد ابن كثير في سياق جملة إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً حديثا مرسلا رواه أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه تفسير لها ونصه «إن علمتم فيهم حرفة ولا ترسلوهم كلابا على الناس» . وروى الطبري أقوالا لعلماء تابعين تفيد أنها تعني القوة على الأداء وقوة الاحتراف والاكتساب أو الصدق والوفاء والأمانة والصلاح. وكل هذا أيضا مما تتحمله الجملة. وثانيا: هناك توسيع وتضييق في هوية المخاطب بجملة وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ حيث قيل إنهم مالكو العبيد كما قيل إنهم الميسورون عامة. والقول الثاني هو الأوجه على ما هو المتبادر لأن به مساعدة على تحقيق أمر الله أكثر. والأمر على كل حال في الجملة قوي اللهجة في صدد مساعدة المكاتب على أداء بدل كتابته. ومن الجدير بالذكر أن تحرير الرقاب من جملة المصارف التي عيّنها القرآن للزكاة على ما سوف نشرحه في سياق الآية [60] من سورة التوبة. وثالثا: لقد استنبط المؤولون والفقهاء من الجملة القرآنية وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ أن المملوك بمجرد أن يكاتب أي يتفق مع مالكه على شراء نفسه يصبح صاحب حق في كسبه وأهلا للزكاة من مالكه وغيره والتصرف فيهما نتيجة لذلك. والجمهور على أن مولى المكاتب بعد الاتفاق يفقد حق العودة عن مكاتبته والتصرف في مملوكه وأولاده تصرفه الأول من هبة وبيع واستغلال إلّا إذا نكث ولم يف بما تعهد من أداء الأقساط حيث ينفسخ الاتفاق ويعود حق المالك على المملوك وأولاده كما كان. وتظل صفة المملوكية نتيجة لذلك قائمة إلى أن

[سورة النور (24) : آية 34]

يتم أداء بدل المكاتبة. وحينما يتم يتحرر المملوك هو وأولاده. ولقد روى أصحاب السنن حديثا نبويا جاء فيه «أيما عبد كاتب على مائة دينار فأداها إلا عشرة دنانير فهو عبد» «1» . وليس من تناقض بين هذا وبين ما تقدم كما هو ظاهر. ولقد روى أصحاب السنن حديثا نبويا آخر عن أم سلمة قالت «قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان لإحداكنّ مكاتب عنده ما يؤديه فلتحتجب منه» «2» . حيث ينطوي في هذا أن المكاتبة تخرج المملوك من صفة العبودية المطلقة بمجرد الاتفاق عليها فلا تعود مالكة المكاتب محرمة عليه ويكون عليها أن لا تبدي زينتها ومفاتنها أمامه لأن آية النور [31] أباحت لها ذلك أمام مملوكها. ورابعا: هناك اختلاف في المكاتب المتوفى قبل أداء جميع ما عليه. وكان له مال. فقد قال بعضهم إن المكاتبة تنفسخ ويكون ما تركه من مال وأولاد ملكا لسيده. وقال بعضهم إنها لا تنفسخ وإنه ليس للمالك إلا استيفاء ما بقي له من ماله ويكون أولاده أحرارا ويرثون ما فضل من مال أبيهم. والحق والوجاهة والاتساق مع هدف التشريع القرآني في جانب القول الثاني كما هو المتبادر ولقد أصبح المكاتب أهلا لكسبه وللزكاة والتصرف فيهما على ما شرحناه في الفقرة الثالثة. [سورة النور (24) : آية 34] وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) . عبارة الآية واضحة. ولم نطلع على رواية ما في مناسبتها. ويتبادر لنا أنها معقبة على الآيات السابقة جميعها أو القريبة منها. وبسبيل تنبيه المسلمين إلى ما يجب عليهم من التزام أحكام الله وتعاليمه وأوامره ونواهيه المبينة في الآيات السابقة. فالله قد أنزل إليهم آيات واضحات، فيها بيان ما يجب عليهم من الأحكام وواجبات السلوك، كما أنزل إليهم أخبارا من الأمم السابقة وما حل في الذين

_ (1) التاج ج 2 ص 249. (2) المصدر نفسه.

[سورة النور (24) : آية 35]

خالفوا أحكام الله وانحرفوا عن حدوده، ليكون ذلك مثلا وعظة يتمثل ويتعظ بها الذين يخافون الله ويتقونه ويراقبونه. وهذا النوع من الآيات كثير في النظم القرآني وقد مرّت منه أمثلة كثيرة. [سورة النور (24) : آية 35] اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) . (1) مشكاة: قيل إنها الكوّة غير النافذة في الجدار، التي يوضع فيها السراج. وقيل هي القنديل الذي يوضع فيه السراج والمادة الدهنية التي يغمس فيها الفتيل أو الحدائد التي يعلق بها القنديل. وقيل إنها معربة. وقيل إن لها أصلا في الفصحى وهو الشكوة بمعنى القربة. ومقامها يلهم أنها آنية صافية أو أنها القنديل الذي يعلق في السقف. وهذا هو الذي تعرف به الآن. (2) مصباح: قيل إنه السراج وقيل إنه القنديل. وقيل إنه الفتيلة المضيئة ونرجح القول الأخير، استلهاما من روح العبارة ومداها. (3) درّيّ: نسبة إلى الدرّ. وهو اللؤلؤ، بقصد تشبيه اللون والصفاء واللمعان. وكان العرب يسمون النجم الشديد اللمعان والسطوع كوكبا دريّا وجمعه دراري. قد تكون هذه الآية بدء فصل جديد لا صلة له بالسابق. وقد تكون متصلة بالآية السابقة بسبيل التنويه بنور الله الساطع فيما أنزله من الآيات. ونحن نميل إلى ترجيح الاحتمال الثاني استلهاما من المناسبة. وقد احتوت كما يتبادر لنا: (1) تقريرا بأن الله هو نور السموات والأرض جميعا، أي منورهما بنوره.

(2) وتمثيلا لنوره بما يمكن أن يفهمه الناس من مشاهد الدنيا وأمثلتها تقريبا لأذهانهم: فنوره مثل نور زيت شجرة الزيتون المباركة التي نبتت في أحسن البقاع وأكثرها اعتدالا، فليست في أقصى الشرق فتشتد عليها حرارة الشمس ولا في أقصى الغرب فتشتد عليها البرودة، فجاء زيتها نقيا صافيا وقد وضع في زجاجة صافية بيضاء لامعة كأنها كوكب دري. وقد وضع المصباح في الزجاجة ووضعت الزجاجة في مشكاة. والمصباح يوقد من ذلك الزيت النقي الصافي الذي يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار ويكون نورا لغيره الموضوع في تلك الزجاجة التي كأنها كوكب دريّ بلمعانها وصفائها. وهذا مثل نور الله الذي هو نور في ذاته ونور لغيره. (3) وتعقيبا على هذا التمثيل بأن الله إنما يهدي لنوره من يشاء وأنه يضرب الأمثال للناس ليتدبروها وأنه العليم بكل شيء ومقتضيات كل شيء. والمتبادر لنا كذلك أن الآية من حيث الإجمال أسلوب من أساليب تقريرات القرآن لعظمة ذات الله وآثاره الباهرة الظاهرة في السموات والأرض. وقد استهدفت تقرير كون نور الله وهداه في آياته قد بلغا من الظهور والسطوع والصفاء والسناء أقصى الغايات، فإذا لم يهتد بهما أحد ما فلن يكون ذلك بسبب غموض أو خفاء أو ضعف نور وجلاء فيهما، وإنما يكون بسبب قصور فيه. فالله إنما يهدي لنوره من يشاء ممن حسنت نياتهم وطابت سرائرهم ولم يتعمدوا الضلال والغواية. أما خبثاء النية والطوية المعاندون المكابرون فهم عمي لا يبصرون نور الله فلا يهتدون به. ولعلّ في الآيات التالية قرائن مؤيدة لهذا التوجيه إن شاء الله. ولقد صرف بعض المؤولين من التابعين على ما ورد في بعض كتب التفسير الضمير الغائب في نُورِهِ إلى المؤمن. وقالوا إن الآية مثل ضربه الله للمؤمن. ولكن الجمهور على أنه نور الله تعالى. وهذا هو الأوجه المتسق مع نصّ الآية.

[سورة النور (24) : الآيات 36 إلى 38]

ولقد أورد المفسرون تأويلات عديدة للآية منها أنها مثل ضربه الله لتبيين هدى نور الله وأثره. ومنها أنها مثل ضربه الله لنبيه. فالمشكاة صدره والزجاجة قلبه والمصباح النبوة والشجرة المباركة هي شجرة إبراهيم الحنيف المسلم، لا شرقية ولا غربية أي لا يهودية ولا نصرانية. ومنها أنها مثل ضربه الله لطاعته فسماها نورا وأضاف هذا النور إلى نفسه تفضلا. ونلمح في هذه التأويلات شيئا من التكلّف ونرجو أن يكون كما تبادر لنا هو الصواب «1» . وفي كتب تفسير الشيعة روايات معزوة إلى أئمتهم في تأويل الآية فعن الرضا قوله «نحن المشكاة والمصباح فيها محمد يهدي لو لايتنا من أحبّ» وعن أبي جعفر قوله «نور العلم في صدر النبي المصباح في زجاجة. والزجاجة صدر علي. فصار علم النبي إلى صدر علي. ومعنى يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار أي يكاد العالم من آل محمد يتكلم بالعلم قبل أن يسأل. ومعنى نور على نور أي إمام مؤيد بنور العلم والحكمة في إثر إمام من آل محمد مثله. فهؤلاء الأوصياء الذين جعلهم الله خلفاء في أرضه وحجته على خلقه لا تخلو الأرض في كل عصر من واحد منهم كما لا تخلو السماوات والأرض من نور الله» «2» . والتكلف والهوى الحزبي ظاهران في هذه الروايات. [سورة النور (24) : الآيات 36 الى 38] فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38) .

_ (1) انظر الأقوال والتأويلات في كتب الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي. وهناك أقوال وتأويلات أخرى من بابها لم نر ضرورة لإيرادها. (2) انظر تفسير الطبرسي وهو من معتدليهم. [.....]

تعليق على الآية في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال (36) والآيتين التاليتين لها وما ورد في صدد فضل المساجد وآدابها

تعليق على الآية فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) والآيتين التاليتين لها وما ورد في صدد فضل المساجد وآدابها قال بعض المفسرين: إن فِي متعلقة بمحذوف تقديره (سبحوا) أي سبحوا الله في بيوت أذن الله أن ترفع «1» . وهذا يجعل الآيات فصلا جديدا متصلا بما بعده، غير أن معظم المفسرين قالوا إنها متعلقة بالمشكاة التي مثل الله نوره في الآية السابقة بنورها، على اعتبار أن مشاكي بيوت العبادة أكبر المشاكي ونورها أقوى الأنوار «2» . ونحن نرجح هذا على القول الأول لأنه متسق مع معنى الآيات ومداها. وبذلك تكون هذه الآيات بمثابة استطراد وانتقال لتقرر أن نور الله قوي هاد كنور المشكاة الكبيرة ذات النور الساطع التي تكون في بيوت العبادة التي أمر الله برفع أركانها وتكريمها بذكر اسمه والتي يسبح له فيها عباده المهتدون بنوره الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكره وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، حاسبين حساب اليوم الآخر الذي تضطرب فيه القلوب وتزيغ الأبصار. ولسوف يجزيهم الله جزاء يتكافأ مع أحسن أعمالهم ويزيدهم من فضله أيضا. وهو الواسع الفضل، إذا أعطى أحدا فإنه يعطيه بدون حساب. والمعنى مستقيم بهذا الشرح كما هو واضح. ومع أن ذكر بيوت الله جاء إتماما لمدى تمثيل نور الله بالمشكاة فالمتبادر أن ذكر عباد الله قد جاء بمثابة استطراد. وليس هذا غريبا في النظم القرآني. وقد تضمن الاستطراد في الوقت نفسه تنويها ببيوت العبادة وإيجاب تكريمها وتطهيرها. وبعباد الله المخلصين واهتدائهم بنور الله وما يسّره لهم هذا النور من السير في الطريق القويم الذي نجحوا به وسعدوا.

_ (1) انظر الزمخشري والنسفي. (2) انظر الطبري والنيسابوري والبغوي والخازن وابن كثير. والزمخشري والنسفي قد أوردا القول الثاني أيضا.

ومن تحصيل الحاصل أن يقال: إن نصّ الآيات وروحها يلهمان أن المقصود من البيوت هي التي يذكر فيها اسم الله عز وجل ويعبد دون غيره ودون ما شائبة واختصاص أو تأويل أو غموض. وهذه الأوصاف عدت بعد البعثة المحمدية منحصرة في مساجد المسلمين التي يذكر فيها ويعبد ربّ العالمين جميعا، المتصف بجميع صفات الكمال الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. هذا ويحسن أن ننبه على أمر في هذا المقام وهو أن ما احتوته الآيات من التنويه بعباد الله الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله لا ينفي أن يؤخذ على أنه تنويه بالذين هم ينقطعون لذكر الله ولا يتعاطون تجارة ولا بيعا. ولا على أنه تنديد بالمشتغلين بالتجارة والبيع وأمور الدنيا. ففي العبارة القرآنية نفسها ما يفيد أن التنديد يكون لمن يشغله ذلك عن واجباته نحو الله والناس وحسب وأنه لا يتوجه إلى من يشتغل بأمور الدنيا دون أن يشغله ذلك عن هذه الواجبات. وفي القرآن آيات كثيرة مرّت أمثلة منها مكية ومدنية فيها تسويغ لابتغاء فضل الله وحثّ على السعي في مناكب الأرض. مما هو بديهي وفيه قوام الحياة. ومتسق مع مقاصد القرآن. وفي آية سورة الجمعة هذه فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) تفسير صريح للمراد من هذا الشرح والتنبيه. ولقد أورد المفسرون في سياق الآيات أحاديث عديدة في فضل بناء المساجد وآدابها منها ما ورد في الكتب الخمسة. فمن ذلك حديث رواه الخمسة إلّا أبا داود عن عثمان بن عفان قال «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنّة وفي رواية بيتا في الجنة» «1» وحديث رواه أبو داود والترمذي عن عائشة قالت «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظّف وتطيّب» «2»

_ (1) التاج ج 1 ص 205 و 213. (2) المصدر نفسه، وحديث عائشة يفيد أنه يحسن بالمسلم أن يكون في بيته ركن خاص يكون بمثابة مسجد له ويعنى بنظافته وتطييبه.

وروى الشيخان وأبو داود عن أنس «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في القبلة فحكّها بيده ورؤي منه كراهية وقال إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنما يناجي ربّه فلا يبزقنّ في قبلته ثم أخذ طرف ردائه فبزق فيه وردّ بعضه على بعض وقال يفعل هكذا» «1» وروى مسلم عن أبي هريرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من سمع رجلا ينشد ضالّة في المسجد فليقل لا ردّها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا» «2» . وروى الخمسة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربنّ مسجدا وفي رواية فلا يقربنّ مساجدنا، حتى يذهب ريحها» «3» وروى الترمذي والنسائي «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تناشد الأشعار في المسجد وعن البيع والشراء فيه وأن يتحلّق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة» «4» . وروى أبو داود عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ما أمرت بتشييد المساجد» . وروى البخاري وأبو داود عن ابن عباس «لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى» «5» . وروى مسلم والنسائي عن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ألا وإنّ من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك» «6» وروى الترمذي عن ابن عمر قال «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلّى في سبع مواطن في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمام ومعاطن الإبل وفوق ظهر بيت الله الحرام» «7» وروى أبو داود والترمذي والحاكم وصححه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الأرض كلّها مسجد إلّا الحمّام والمقبرة» «8» . وروى الخمسة إلا أبا داود عن

_ (1) التاج ج 1 ص 205 و 213. (2) المصدر نفسه ص 215- 219. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه. (6) المصدر نفسه، وننبه على أن النهي هو عن أن يكون مكان ما قبرا لصالح أو نبي ثم يتخذ مسجدا وفرق بين هذا وبين أن يكون المكان في الأصل مسجدا ثم يدفن في طرف منه صالح أو نبي. وقبر النبي وصاحبيه من هذا الباب لا من الأول. (7) المصدر نفسه ص 220. (8) التاج ج 1 ص 219.

أبي هريرة حديثا عن النبي جاء فيه «وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا» «1» . وروى الشيخان وأبو داود عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله. وزاد ولكن ليخرجن وهنّ تفلات» «2» . وروى الخمسة عن عباد بن تميم عن عمه «أنه رأى رسول الله مستلقيا في المسجد واضعا إحدى رجليه على الأخرى» «3» . وروى الثلاثة عن أبي هريرة قال «بعث رسول الله خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد» «4» وروى ابن ماجه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا تتخذ المساجد طريقا ولا يشهر فيها سلاح ولا ينبض فيها بقوس ولا ينثر فيها نبل ولا يضرب فيها حدّ ولا تتخذ سوقا» «5» وروى الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من غدا إلى المسجد أو راح أعدّ الله له في الجنّة نزلا كلّما غدا أو راح» «6» وروى الخمسة إلا أبا داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا عن سبعة يظلّهم الله في ظلّه منهم «رجل قلبه معلّق في المساجد» «7» وروى مسلم والنسائي والترمذي عن أبي هريرة كذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من تطهّر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطوتاه إحداهما تحطّ خطيئة والأخرى ترفع درجة» «8» . وليس ما أوردناه هو كل ما هناك من أحاديث في المساجد فاكتفينا بما تقدم.

_ (1) التاج ج 1 ص 205 وكلمة مسجد في هذا الحديث تعني مكان سجود حيث يجوز للمسلم أن يصلي في أي مكان طاهر. (2) المصدر نفسه ص 211 ومعنى تفلات أي غير متعطرات. [.....] (3) المصدر نفسه ص 214. (4) المصدر نفسه. (5) من تفسير ابن كثير. (6) التاج ج 1 ص 206 و 207. (7) المصدر نفسه. (8) المصدر نفسه.

[سورة النور (24) : الآيات 39 إلى 40]

وهناك أحاديث كثيرة تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستقبل الوفود في مسجده ويتناظر معهم ويتبادل معهم العهود، ويراجعه الناس في مسجده بمشاكلهم المتنوعة ويقضي بينهم. ويعقد لقواده الرايات. ولقد أصيب سعد بن معاذ بسهم في واقعة الخندق فضرب النبي عليه خيمة في مسجده يعوده من قريب «1» ، وجعل له امرأة تعالجه. هذا فضلا عن مجالسه الوعظية التي كان يتحلق فيها حوله أصحابه يسمعون منه ويسألونه. حيث يفيد كل هذا ما كان مسجد رسول الله يتسع له من نشاط ديني ودنيوي معا. وفي سورة المائدة هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) حيث ينطوي فيها صورة مجلس قضائي عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده. ولقد سار خلفاء النبي الراشدون على هذا. فكان المسجد دار خلافة ونشاط سياسي وديني معا. وإذا كان أولو أمر المسلمين أخذوا يتخذون دورا غير المسجد للحكم فإن المساجد كانت وظلّت منذ الصدر الإسلامي مكان علم وتعليم لطلاب العلم بالإضافة إلى كونها مكان وعظ ودرس علم لسواد المسلمين. وبالتالي ظلت تتسع لشؤون عامة غير الصلاة أيضا. [سورة النور (24) : الآيات 39 الى 40] وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40) . (1) سراب. هو الظاهرة التي تظهر في القيعان في ظروف طبيعية خاصة بمظهر الماء والبحيرات.

_ (1) انظر التاج ج 4 ص 377.

[سورة النور (24) : الآيات 41 إلى 45]

(2) قيعة: قاع. وهي السهل الذي فيه شيء من الانخفاض. (3) لجّي: عميق. في الآيات تنديد بالكفار مقابل التنويه بعباد الله الصالحين في الآيات السابقة جريا على الأسلوب القرآني في المناسبات المماثلة. وقد تضمنت تقرير ما يلي: أن الذين كفروا ولم يهتدوا بنور الله الساطع لن يكون لهم نور آخر يهتدون به. وأن أعمالهم لخاسرة حابطة مهما خيّل لهم غير ذلك. وأن مثلهم كمثل ذلك الظمآن الذي رأى سرابا في قيعة فظنه ماء، فلما جاءه لم يجده شيئا فوقع في الخيبة المريرة. أو كمثل الذي هو فوق بحر عميق تلاطمت حوله الأمواج الصاخبة فسدت عنه أفق الساحل وادلهمّ وجه السماء بالسحب القاتمة، وكان الوقت ليلا مظلما فاكتنفته هذه الظلمات المتراكمة بعضها فوق بعض، حتى لا يكاد يرى يده لو رفعها- فضلا عن الطريق أو الأمل بالنجاة. ولسوف يوفيهم الله هم الآخرون حسابهم الحقّ فليس عنده مطل ولا تسويف في توفية الحساب. والتنديد والتمثيل قويان رهيبان. مستمدان من مشاهد الطبيعة الرهيبة. ومن شأنهما إثارة الخوف والارعواء في السامعين من الكفار، وهذا مما استهدفته الآيات كما هو المتبادر. ولقد روى البغوي عن مجاهد أن الآيات نزلت في عتبة بن عتبة بن أمية الذي كان يلتمس الدين في الجاهلية ويلبس المسوح فلما جاء الإسلام كفر. ويلحظ أن الآية معطوفة على ما قبلها عطف تعقيب وتمثيل ومقابلة. وقد قال البغوي راوي الرواية إن الأكثر على أنها عامة في جميع الكفار وهو ما قاله جمهور المفسرين. ولعل بعضهم لما سمعها اعتبرها منطبقة على حالة عتبة فكان ذلك سبب الرواية. [سورة النور (24) : الآيات 41 الى 45] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) .

(1) والطير صافات: باسطة أجنحتها في السماء. (2) يزجي: يسوق. (3) ركاما: متكاثفا أو متراكما بعضه على بعض. (4) الودق: قطرات المطر. (5) وينزل من السماء من جبال فيها من برد: أوجه تأويلات الجملة هو (ينزل من السماء بردا قدر الجبال) . (6) سنا: سناء وهو الضوء أو لمعان الجسم المضيء. عبارة الآيات واضحة. وفيها تنبيه وتقرير بصيغة السؤال ولفت النظر إلى بعض مشاهد قدرة الله وملكوته ونواميس كونه وخضوع خلقه له. وتقرير كونه هو الذي يخلق كل شيء، والقادر على كل شيء، والمحيط علمه بكل شيء، وإليه مرجع كل شيء. ولم يرو المفسرون رواية ما في نزولها. والمتبادر أنها متصلة بسابقاتها وبخاصة بآية النور اتصال تعقيب واستطراد. ففي ما جاء في الآيات من مظاهر قدرة الله ونواميسه الكونية وإحاطته بكل شيء في السموات والأرض عبرة لأولي البصائر النيرة والعقول السليمة خليقة بأن تكون دافعة لهم إلى ذكر الله والاستشعار بعظمته وهيبته والاستمساك بحبله والدأب على القيام بواجبهم نحوه. والمتبادر كذلك أن ما احتوته الآيات من نواميس كونية وتكوينية هو مما يقع تحت مشاهدات الناس ومداركهم وأن القصد من ذلك هو إثارة الاعتبار فيهم وجعلهم يعترفون بعظمة الله وقدرته ويخضعون له. وليس بسبيل شرح تلك

[سورة النور (24) : آية 46]

النواميس شرحا فنيا إن صح التعبير. ومن الواجب أن يبقى هدف الآيات في هذا النطاق على ما نبهنا عليه في المناسبات المماثلة الكثيرة. [سورة النور (24) : آية 46] لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) . يحتمل أن تكون هذه الآية معقبة على الآيات السابقة. ويحتمل أن تكون مقدمة للآيات التالية. والاحتمال الأول هو الأرجح. ففي الآيات السابقة طائفة من البراهين على عظمة الله وقدرته سيقت ليعتبر بها أولو الأبصار ويهتدي بها من شاء الله له الهداية إلى الصراط المستقيم. وقد تكرر ما جاء في الآية كثيرا في المناسبات المماثلة. وإطلاق الهداية لمن يشاء الله يفسر بما جاء في آيات عديدة أخرى مثل جملة وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ في آية سورة الرعد (27) وجملة يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ في آية المائدة (16) أي أن الله يهدي من علم برغبته في الهداية وحسنت نيته على ما نبهنا عليه في مناسبات كثيرة سابقة. [سورة النور (24) : الآيات 47 الى 52] وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52) . (1) مذعنين: خاضعين طائعين. (2) يحيف: يجور. الآيات احتوت: (1) حكاية حال فريق من المسلمين كانوا يدّعون أنهم مؤمنون بالله ورسوله

تعليق على الآية ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك والآيات الخمس التي بعدها وما فيها من صور وتلقين

مطيعون لأوامره ثم يناقضون أقوالهم بأفعالهم. وكان بعضهم إذا دعوا ليتحاكموا بين يدي رسول الله أبوا إلا إذا تيقنوا أن الحكم سيكون لصالحهم وحينئذ فقط يأتون مسرعين طائعين. (2) وتنديدا بهم، فإن حالتهم هذه إنما هي دليل مرض في قلوبهم أو ريبة وشكّ أو خوف من جور الله عليهم ورسوله في الحكم. وليست هذه حالة المؤمن المخلص الصادق وإنما هي حالة الباغي الظالم. (3) وبيانا لما يجب أن تكون عليه حالة المؤمنين المخلصين الصادقين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم حيث يلبون الدعوة بدون تردد ويقولون سمعنا وأطعنا. (4) وتنويها بهؤلاء وأمثالهم، فهم المفلحون حقا. وأن من يطيع الله ورسوله ويخشى الله ويتقيه هم الفائزون حقا. تعليق على الآية وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ والآيات الخمس التي بعدها وما فيها من صور وتلقين والآيات فصل جديد. وحرف الواو الذي بدأت به إما أن يكون إنشائيا أو يكون عطفا بيانيّا على الآية السابقة التي تكون حينئذ مقدمة تمهيد وتذكير. وقد روى المفسرون أنها نزلت بمناسبة خلاف شجر بين منافق ويهودي فأبى المنافق التحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلب التحاكم إلى كعب بن الأشرف أحد طواغيت اليهود، كما رووا أنها نزلت في خصومة بين علي بن أبي طالب والمغيرة بن وائل، فأبى المغيرة التحاكم إلى النبي قائلا: إنه يبغضني وأخاف أن يحيف عليّ. أو في خصومة بين علي وعثمان فقال ابن عمّ عثمان له: لا تتحاكم إلى النبي فإنه سيحكم عليك لابن عمه «1» .

_ (1) انظر تفسير الزمخشري والطبرسي والخازن والبغوي.

ونلاحظ أن الرواية الأولى قد رويت في مناسبة آيات سورة النساء [60- 65] وأن كعب بن الأشرف قد قتل على ما ترويه روايات السيرة في الشهر الخامس والعشرين من الهجرة النبوية إلى المدينة «1» بينما نخمن أن هذه الآيات نزلت بعد ذلك بمدة طويلة. والرواية الثالثة لا يمكن أن تصدق لأن عثمان أنزه وأجل من أن يسمع لابن عمه في النبي وعليّ، أو أن يعرض عن التحاكم إلى النبي ويخاف حيفه. والآية تندد بالمعرض عن هذا التحاكم الذي لا يمكن أن يكون إلّا منافقا. وهي بعد من مرويات الشيعة «2» الذين يجعلون عثمان في زمرة من يطعنون بهم ويجرحونهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم. وتبقى الرواية الثانية التي قد تتسق مع فحوى الآيات. على أنه يتبادر لنا مما تلهمه روح الآيات وفحواها أولا، وروح الآيات التالية وفحواها ثانيا، أنها بسبيل التنديد بصورة عامة بفريق من المسلمين كان يبدو منه مواقف لا تتفق مع الإيمان والإخلاص أكثر منها بسبيل حكاية موقف أو حادث خاص. وهذا لا يمنع أن تكون حدثت حادثة من نوع ما روته الرواية الثانية فاتخذت وسيلة للتنديد القوي بهذا الفريق على مواقفه التي لا تصدر إلّا من مرضى القلوب المرتابين في عدل الله ورسوله. ومع أنه لم يرد في الآيات لفظ (المنافقين) فالوصف يمكن أن ينصرف إليهم وبخاصة إن تعبير أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ استعمل في مناسبات عديدة في وصف المنافقين أو جاء كمرادف لهذا الوصف على ما مرّ منه أمثلة عديدة. والآيات وهي تندد بهذا الفريق وتذكر مواقفه المخامرة وتنوه بالمؤمنين المخلصين وواجبهم تستهدف كما هو المتبادر توطيد سلطان النبي صلى الله عليه وسلم القضائي والسياسي وتوطيد السمع والطاعة له على المسلمين في كل أمر وموقف. وهذا أسلوب قد تكرر وهدف قد استهدف بآيات مدنية عديدة على ما نبهنا عليه في

_ (1) انظر طبقات ابن سعد ج 3 ص 70- 73. (2) راويها الطبرسي وهو مفسر شيعي. الجزء الثامن من التفسير الحديث 28

[سورة النور (24) : الآيات 53 إلى 54]

مناسبات سابقة. وقد احتوت كما هو واضح صورة من صور السيرة النبوية في العهد المدني والمشاكل التي كان يلقاها النبي صلى الله عليه وسلم ومعالجاتها. ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها احتوت تلقينا بليغا مستمر المدى في تقبيح مواقف مرضى القلوب والأنانيين الذين لا يرضخون للحقّ ويتهربون منه إذا كان عليهم. والذين لا يكون قصارى همهم إلا أنفسهم ومصالحهم الشخصية. والذين يتظاهرون بالإخلاص وقلوبهم خالية منه. ولا يتورعون عن الوقوف في مواقف مكذبة لهم. مزيفة لدعاواهم، مما تكثر صوره في المجتمعات في كل ظرف. وهي في نفس الوقت ترسم للمؤمن الصالح الخطة التي تضمن له النجاح والفلاح في كل زمن وهي طاعة الله ورسوله فيما أمرا به ونهيا عنه وجعل الحق والعدل رائدين له، سواء أكان له أم عليه، وخشية الله واتقائه في كل قول وعمل في السرّ والعلن. [سورة النور (24) : الآيات 53 الى 54] وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) . (1) فإن تولوا: هي الأرجح في مقام فإن تتولوا أي صيغة الجمع المخاطب وهو ما عليه الجمهور. المتبادر من واو العطف الذي بدأت به الآية الأولى أن المقصود بالكلام هم الذين حكيت مواقفهم وندد فيهم في الآيات السابقة أي مرضى القلوب والمنافقين وقد احتوت الآيات: (1) حكاية لما كانوا يحلفون به للنبي من أوثق الأيمان على استعدادهم لتنفيذ أمره لو أمرهم بالخروج.

تعليق على الآية وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون (53) والآية التالية لها وما فيها من صور وتلقين

(2) وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بالرد عليهم بأن لا يحلفوا، وأن المطلوب منهم هو الإذعان والطاعة في ما هو خير ومصلحة ومعروف، وأن الله خبير بأعمالهم ونياتهم. (3) وأمرا آخر للنبي بأن يؤكد عليهم وجوب الإخلاص في طاعة الله ورسوله وعدم الاكتفاء بالقول، ففي إخلاصهم هدى وخير ومصلحة لهم وإذا أعرضوا فكل مسؤول عن واجبه وعمله، فالرسول مسؤول عما أوجب الله عليه وحمّله إياه وهو التبليغ والإرشاد. وهم مسؤولون عما أوجب عليهم وحملهم إياه من الإخلاص والسمع والطاعة، وضرر تقصيرهم وعدم إخلاصهم عائد إليهم. تعليق على الآية وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) والآية التالية لها وما فيها من صور وتلقين قال المفسرون: إن المنافقين لما صار القرآن يندد بإخلاصهم ويفضحهم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحلفون له بأنهم مخلصون وأنهم مستعدون لتنفيذ كل ما يأمرهم به حتى لو أمرهم بالجلاء. أو يحلفون له على استعدادهم للجهاد حالما يدعوهم إليه «1» . ولم يسند المفسرون أقوالهم بسند. والآيات تؤيد الأقوال. غير أن أسلوبها لا يدل على أنها نزلت مباشرة بسبب ذلك. ففيها حكاية لأقوالهم. وهي معطوفة على ما قبلها، وضمائر الجمع الغائب والجمع المخاطب فيها عائدة إلى الذين ندد بهم في الآيات السابقة، بحيث يمكن القول إنها متصلة بها سياقا وموضوعا. والذي يتبادر هو أنها والآيات السابقة نزلت معا لتحكي مواقف المنافقين المذكورة فيها وتندد بهم. وقد انطوت هذه الآيات كذلك على معنى عدم الثقة فيما يتظاهرون به ويحلفون عليه، واستهدفت ما استهدفته الآيات السابقة من توطيد الطاعة والإخلاص لله ورسوله.

_ (1) انظر الطبرسي والخازن والبغوي.

[سورة النور (24) : الآيات 55 إلى 57]

ويلمح في الآيات طبيعة المنافقين في التظاهر والمواربة ومحاولة الإقناع بإخلاصهم. وهو ما يلمح في آيات كثيرة بعد هذه السورة أيضا. والسورة على الأرجح قد نزلت بعد قطع دابر اليهود في المدينة على ما مرّ ذكره في سور سابقة. وهذا ما يسوغ القول إن موقف المنافقين قد أخذ يتطور وحالتهم أخذت تضعف بعد ذلك فصار يبدو منهم ما حكته هذه الآيات وغيرها من التظاهر والانصياع. ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها هي الأخرى تحتوي تلقينا عاما في تقبيح موقف مرضى القلوب في التظاهر بالإخلاص مع خلوهم منه والادعاء كذبا باستعدادهم للتضامن مع المسلمين ولا سيما في ظروف النضال التي يكون التضامن فيها واجبا عاما يصيبهم نفعه إذا قاموا به وينالهم ضرره إذا قصروا فيه. [سورة النور (24) : الآيات 55 الى 57] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) . تعليق على الآية وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ... إلخ والآيتين التاليتين لها وما فيها من دلالة على قيام الدولة الإسلامية ومن تلقينات وحقائق اجتماعية خالدة ومن معجزة تحققت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده عبارة الآيات واضحة. وفيها: (1) إيذان بوعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات باستخلافهم في الأرض

وجعلهم أصحاب السلطان والبسطة فيها كما استخلف أمثالهم من قبلهم. وبتوطيد دينهم الذي ارتضاه لهم والذي هو دين الله القويم وتمكينه ونشره وبإبدالهم بالأمن والطمأنينة بعد الخوف، على شرط أن يلتزموا الإخلاص في إيمانهم وأعمالهم فيعبدون الله وحده لا يشركون معه أحدا. وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويطيعوا الرسول حيث يستحقون بذلك رحمة الله وفضله. (2) وإنذار للكافرين، فالذين يكفرون بعد ذلك هم الفاسقون المتمردون على الله. ولا يظنن أحد أنهم معجزون الله في الدنيا. فهو محيط بهم قادر على البطش بهم. ومأواهم في الآخرة عذاب النار وبئس هي من مصير. وقد روى المفسرون أن بعض المسلمين- وقد أمروا بالهجرة والجهاد وكانوا لا يفارقون سلاحهم- قالوا: أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فقال لهم رسول الله لن تصبروا إلا قليلا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليست فيه حديدة. ثم أنزل الله الآية الأولى «1» . والذي يتبادر لنا أن الآيات متصلة بالآيات السابقة وبخاصة بالآيتين السابقتين مباشرة لها سياقا وموضوعا اتصالا وثيقا وأنها جاءت معقبة عليهما. فقد نددتا بمرضى القلوب، ودعتا إلى الإخلاص في السمع والطاعة والإيمان، وقررتا أن هذا هو لخير الناس ومصلحتهم فجاءت هذه الآيات تعد المخلصين بما تعدهم وتؤكد واجب الطاعة للرسول وما في ذلك من ضمان رحمة الله. وهذا لا يمنع أن يكون بعض المسلمين تساءلوا في موقف ما مثل ما روته الرواية فاقتضت حكمة التنزيل تضمين الآيات جوابا لهم فيه البشرى المشروطة بالشروط التي احتوتها. وإذا كان الخطاب في الآيات هو لسامعي القرآن مباشرة من المؤمنين الأولين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما تفيده كلمة مِنْكُمْ أيضا فضلا عن ظروف نزولها فإن

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن والطبرسي.

مداها عام لجميع المؤمنين الذين يعملون الصالحات كما هو المتبادر. فكل خطاب مثل هذا الخطاب في القرآن هو عام شامل لكل المسلمين في كل ظرف على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. ومن تحصيل الحاصل أن يقال: إن الآية الأولى- وهي تعد المؤمنين الصالحين من لدن عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالاستخلاف في الأرض- تنطوي على تقرير أن ذلك يكون في نطاق دولة ذات سلطان. وبمعنى آخر قد انطوى فيها فكرة قيام الدولة في الإسلام. مع التنبيه على أن هذا كان أمرا متحققا برئاسة النبي صلى الله عليه وسلم. ومما انطوى في الآيات الكثيرة المكية والمدنية التي أمرت بإطاعة الله والرسول وأولي الأمر من المسلمين ورد الأمور إليهم، ووطدت سلطان النبي صلى الله عليه وسلم القضائي والسياسي والجهادي والتشريعي واحتوت فكرة الجهاد والدفاع وضمان حرية الدعوة وحماية المسلمين ودينهم والشورى ومسالمة المسالمين وعقد المواثيق بدون حرب أو بعد حرب وأخذ الجزية وإقامة الحدود وتنظيم شؤون الأسرة وتخصيص الزكاة والفيء وخمس الغنائم لبيت مال المسلمين ليتولى ولي أمرهم إنفاقها على مصالح المسلمين العامة والطبقات المعوزة إلخ إلخ مما مرّ كثير منه ونبهنا عليه في سياق شرحه. ويضاف إليه الأحاديث النبوية الصحيحة والكثيرة جدا في كل شأن من هذه الشؤون التي أوردنا كثيرا منها في المناسبات السابقة. ويحسن أن نقف عند تعبير وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لنقول: إن عمل الصالحات الذي هو من شروط تحقيق البشرى والوعد الربانيين يشمل كما قلنا في المناسبات السابقة كل أنواع الخير والبرّ والواجب تعبديّا كان أم غير تعبدي من عبادة الله وحده وإسلام النفس إليه والإحسان والبرّ بالمحتاجين والرحمة بالضعفاء والجهاد في سبيل الله ومكافحة الظلم والظالمين والتضحية بالنفس والمال في ذلك والتزام الحق والعدل والإنصاف والصدق والأمانة والتعاون على البرّ والتقوى والتواصي بالحق والصبر والرحمة والأعمال العامة التي فيها مصلحة المسلمين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والكسب الحلال وقيام المرء بواجباته نحو أسرته وبني ملّته وقومه ومعاملة الناس بالحسنى.

وهكذا يبدو هذا الشرط الذي يتحقق به الوعد والبشرى الربانيان رائعا جليل المعنى والمدى. وفي الوقت نفسه ينطوي على حقيقة اجتماعية خالدة وهي أن السلطان والتمكن والفوز في الدنيا مضمون دائما للذين آمنوا وعملوا الصالحات ولدينهم ومنهجهم في كل وقت وزمان. ولقد تحققت هذه البشرى والوعد المزدوجان، أي الاستخلاف في الأرض وتمكين دين الإسلام، في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه لأن شروطهما كانت متحققة في رجال العهدين رضي الله عنهم، فكان ذلك معجزة من معجزات القرآن حيث تبدل خوف المسلمين أمنا وضعفهم قوة، ومكّن الله دينهم فلم يتوفّ نبيه إلا وهو منتشر في جميع أرجاء الجزيرة العربية، وأخذ يطرق أبواب الأقطار المجاورة، وصار للإسلام دولة نافذة الأمر والسلطان في الشؤون القضائية والتشريعية والجهادية والاقتصادية والتنظيمية تحت راية النبي صلى الله عليه وسلم ثم تحت راية خلفائه الراشدين الذين ساروا على طريقته، فظلت المعجزة مستمرة في عهدهم فانتشر الإسلام في جميع الأقطار المجاورة لجزيرة العرب من الشمال والجنوب وقام السلطان الإسلامي النافذ في تلك الشؤون قويّا منصورا واندحرت أمامه قوى الظلم والطغيان. ثم ظلّ هذا مستمرّا ما استمر حكام المسلمين ورجالهم على الطريقة حتى صار السلطان الإسلامي والدين الإسلامي في القرون الثلاثة الأولى شاملين لمعظم ما كان معروفا من أرجاء المعمورة في مشارق الأرض ومغاربها من حدود الصين والهند شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا مع امتداد عظيم في الشمال والجنوب من هذه الساحة الشاسعة على اختلاف أجناس سكانها وألوانهم وأديانهم. ونحن مؤمنون بأن وعد الله المطلق يظل يتحقق للمؤمنين وللدين الإسلامي في كل زمان ومكان إذا ما تحققت فيهم الشروط التي احتوتها هذه الآيات. وساروا على ما رسمه الله ورسوله في الكتاب والسنّة وأوجباه عليهم من خطط وأخلاق اجتماعية وسياسية وشخصية وجهادية وتضامنية وأسرية وتبشيرية وسلوكية وتنظيمية بكل إخلاص وجدّ.

الإيمان بهذا واجب على كل مسلم لأن الله لن يخلف ما وعده من النصر والتمكين في هذه الآيات وفي آيات كثيرة أخرى في سور عديدة مكيّة ومدنية. ولقد أورد المفسرون بعض الأحاديث النبوية التي فيها أخبار بما سيكون من فتح للمسلمين والعرب وقوة وسلطان، منها حديث جاء فيه «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها» «1» ، ومنها حديث روي عن عدي بن حاتم جاء فيه «قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وفد عليه: أتعرف الحيرة؟ قال: لم أعرفها ولكن قد سمعت بها، قال فو الذي نفسي بيده ليتمّنّ الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة وتطوف بالبيت في غير جوار أحد. ولتفتحنّ كنوز كسرى بن هرمز قال قلت له كنوز كسرى بن هرمز!؟ قال نعم كسرى ابن هرمز وليذلن المال حتى لا يقبله أحد. قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار أحد وقد كنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز. والذي نفسي بيده لتكوننّ الثالثة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها» «2» .

_ (1) النصّ منقول من ابن كثير. وقد وصف الحديث الأول بأنه صحيح ثابت، وقد روى البخاري الحديث الثاني بنص آخر جاء فيه «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عدي هل رأيت الحيرة؟ قلت لم أرها وقد أنبئت بها، قال: فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله. قلت فيما بيني وبين نفسي فأين دعار طيء الذين قد سعروا البلاد. ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى، قلت كسرى بن هرمز!؟ قال نعم. ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة فلا يجد من يقبله. وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له فيقول له ألم أبعث إليك رسولا فيبلغك؟ فيقول بلى، فيقول ألم أعطك مالا وولدا وأفضل عليك؟ فيقول بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم. فاتقوا النار ولو بشق تمرة. فمن لم يجد فبكلمة طيبة. قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال أبو القاسم» التاج ج 3 ص 256. وهناك أحاديث عديدة من هذا الباب منها حديث رواه مسلم عن نافع بن عقبة جاء فيه أنه سمع رسول الله يقول تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله وتغزون فارس فيفتحها الله ثم تغزون الروم فيفتحها الله ... التاج ج 3 ص 256 و 257. (2) المصدر نفسه. [.....]

تأويل الشيعة لبعض الآيات السابقة والتعليق عليه

ولقد قال المفسرون في تأويل جملة وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إنها تعني من كفر بنعمة الله من المسلمين وانحرف عن طاعة الله ورسوله «1» . وهو وجيه متسق مع روح الجملة. وفي الجملة على ضوء هذا التأويل حقيقة اجتماعية خالدة أخرى وهي أن ما يمكن أن يحلّ بالمسلمين من ذلّ وضعف واندحار وخذلان بعد أن يكونوا قد صاروا إلى ما صاروا إليه من ثروة وعزة وسؤدد وانتشار سلطان ودين- إنما يكون بسبب انحرافهم عن الطريقة المثلى التي تحققت بها المعجزة القرآنية. وهذا مما كان وظل يتحقق في المسلمين وبلادهم حينما كانوا ينحرفون عن دينهم ويقصرون في ما أوجبه الله عليهم من عمل الصالحات على مداها الواسع الذي شرحناه. ومع ذلك فهناك حديث يحسن أن يساق في هذا المساق أورده ابن كثير وهو من مرويات مسلم والترمذي وأبي داود عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا تزال طائفة من أمتي على الحقّ ظاهرين لا يضرهم من يخذلهم حتى يأتي أمر الله» «2» . وينطوي في الحديث بشرى عظيمة حتى في حال عدم تحقق الشرط في جمع المسلمين حيث يبشر رسول الله بأن هذا الشرط سيكون متحققا ولو في فئة منهم وسيجعلهم أعزاء ظاهرين على الحق. وهو ما كان وما يزال يتحقق في مختلف البقاع والأزمان من لدن العهد النبوي كنتيجة لتحقق ذلك الشرط الرائع في فئة من المسلمين. تأويل الشيعة لبعض الآيات السابقة والتعليق عليه ولقد وقف مفسرو «3» الشيعة عند جملة وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ فرووا عن أئمتهم: علي بن الحسين وأبي جعفر وأبي عبد الله أنها في

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير. (2) التاج ج 5 ص 313. (3) انظر تفسير الطبرسي. وننبه على أن هذا المفسر أورد في الوقت نفسه تأويلات للآية متسقة مع تأويلات المفسرين السنيين ومع روح الآيات وفحواها.

[سورة النور (24) : الآيات 58 إلى 59]

الذين وقفوا من أهل بيت النبي وشيعتهم موقف المناوأة والعداء ثم رووا عن أئمتهم أن الآية الأولى تضمنت البشارة بظهور المهدي واستخلافه في الأرض، ورووا في صدده حديثا جاء فيه «لو لم يبق في الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل ذلك اليوم حتى يلي رجل من عترتي، اسمه اسمي، يملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلما وجورا» «1» . والهوى الشيعي ظاهر في تأويل الآيات وصرفها عن روعة مفهومها الشامل للمسلمين باستخلافهم في الأرض وتمكّن دينهم إذا آمنوا وأخلصوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطاعوا الرسول. وليس فيها أي شيء يبرر ذلك الصرف والتأويل. [سورة النور (24) : الآيات 58 الى 59] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) . (1) وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة: حين تخلعون ثيابكم المعتادة للتخفف والتبذل وقت الظهر. (2) ثلاث عورات لكم: ثلاث أوقات هي لكم عورات. والعورة في أصلها الخلل والعيب في الشيء وفي المكان الذي يخشى دخول العدو منه. وهذا المعنى

_ (1) روى هذا الحديث بخلاف يسير أبو داود والترمذي (التاج ج 5 ص 311، 312) ونحن نقف منه موقف التحفظ ونرجح أن للهوى الشيعي أثرا ما فيه. ومع ذلك فإنه لا يساعد في أي حال على تأويل الآيات بما أولها به أئمة الشيعة أو مفسروهم.

تعليق على الآية يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم ... إلخ والتي بعدها وما فيهما من آداب وأحكام

في جملة إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ في آية سورة الأحزاب [13] وأكثر ما تطلق على الشيء الذي لا ينبغي أن تقع عليه الأبصار من جسم الإنسان، وهي هنا بهذا المعنى. (3) جملة فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ: هي هنا بمعنى كما استأذن الذين بلغوا الحلم قبلهم. في الآيتين: (1) أمر للمسلمين بأن لا يدخل عليهم الأولاد الذين هم دون سنّ الاحتلام ولا عبيدهم في ثلاثة أوقات إلّا بعد الاستئذان والإذن. وهي وقت ما قبل الفجر، ووقت الظهر الذي يتخفف الناس فيه من ثيابهم، وبعد صلاة العشاء، وإباحة دخولهم عليهم بدون استئذان في غيرها. (2) وأمر آخر بعدم دخول الأولاد عليهم حينما يبلغون الحلم بدون استئذان في غير هذه الأوقات كما هو شأن سائر الرجال. (3) وتعقيب على هذا التأديب: فالله سبحانه حكيم عليم يأمر بما فيه الحكمة والصواب، ويعلم مقتضيات الأمور ويبين آياته للناس متسقة مع ذلك. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ... إلخ والتي بعدها وما فيهما من آداب وأحكام والآيتان فصل جديد لا صلة له بالآيات السابقة. ومن المحتمل أن تكونا نزلتا بعدها فوضعتا في ترتيبهما. وقد روى المفسرون أن الآية الأولى نزلت في مناسبة دخول غلام أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة، فرأى عمر في حالة كره رؤيته فيها رووا أنها نزلت في مناسبة دخول غلام لأسماء بنت مرثد عليها في وقت كرهته،

فأتت رسول الله، فقال: إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها «1» . والروايات محتملة الصحة. لأن التشريع والتأديب القرآني كان ينزل في كثير من الظروف جوابا على الأسئلة والاستفتاءات والمراجعات على ما مرّ في مناسبات كثيرة. وعلى كل حال فالآيتان فصل تشريعي واحد احتوى ما شكي للنبي صلى الله عليه وسلم منه، واحتوى تتمة له. ولقد أباحت الآية [31] من هذه السورة للمرأة إبداء زينتها ومفاتنها للأطفال الذين لم يبلغوا سنّ الشهوة وللعبيد. فالظاهر أن هذه الإباحة استتبعت السماح باستمرار دخول هؤلاء على النساء في أي وقت وبدون استئذان، فكانت المراجعة، فنزلت الآيات للاستدراك. وجاءت عبارتها مطلقة ليشمل التأديب الذي احتوته الرجال والنساء معا. وهو تأديب رفيع في التزام واجب الحشمة والحياء حتى أمام الأطفال والخدم. والمتبادر من روح الآيات وفحواها أن إناطة الدخول في الأوقات الثلاثة بالاستئذان بالنسبة للمماليك والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم شاملة لأطفال المستأذن عليهم ومماليكهم وأطفال ومماليك غيرهم أيضا. وإن كلمة مِنْكُمْ الواردة بعد جملة لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ في الآية الأولى وبعد كلمة الْأَطْفالُ في الآية الثانية هما أسلوبيتان. لأنه لا يصح أن تؤخذ الكلمة على أن المقصود هم أطفال ومماليك المستأذن عليهم فقط. فإذا كان هؤلاء يطلب منهم الاستئذان قبل الدخول فيكون هذا بالنسبة للغرباء أولى. وجملة وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ متساوقة مع الآية [27] من السورة التي توجب الاستئناس والاستئذان على كل من يريد أن يدخل بيتا غير بيته والتي شرحناها قبل. وجملة الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ تعني الذين بلغوا الحلم قبلهم، وهم الذين أوجبت الآية [27] عليهم

_ (1) انظر تفسير الآيات في الزمخشري والبغوي والخازن.

[سورة النور (24) : آية 60]

الاستئذان سواء أكانوا رجالا أم نساء ومحارم وغير محارم على ما شرحناه قبل أيضا. وقد يتبادر لأول وهلة أن جملة وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ وجملة وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ تعنيان ذكور الأطفال. غير أن التمعن في الموضوع يظهر أنهما تشملان ذكور الأطفال وإناثهم. فتعبير بلوغ الحلم يصحّ أن يستعمل لكلا الجنسين وإيجاب الاستئذان على إناث الأطفال في العورات الثلاث أمر بديهي بل أولى. وإيجاب الاستئذان على البالغات منهن في غير العورات الثلاث إذا أردن الدخول لغير بيوتهن داخل في متناول الآية [27] التي أوجبت الاستئذان والاستئناس والإذن على من يريد الدخول على بيت غير بيته. والمتبادر أن جملة الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ تعني المماليك فقط وليس الخدم إطلاقا. والمرأة الحرة محرمة على مملوكها. ولذلك سمح لها في الآية [31] بإبداء زينتها أمامه على ما شرحناه قبل. ولقد سمح في هذه الآية أيضا للمرأة بإبداء زينتها أمام خدمها من الرجال إذا كانوا غير ذوي إربة فيكون شأنهم شأن المماليك أي يجب عليهم الاستئذان في العورات الثلاث. أما الخدم والتابعون ذوو الإربة فليس للمرأة أن تبدي زينتها أمامهم في الأوقات العادية أيضا. ومن باب أولى في العورات الثلاث. ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن مماليك الغير وخدمهم هم أجانب وغير محارم للمرأة التي ليسوا هم لها وإن شأنهم في كل موقف شأن الأجانب وغير المحارم ولو كان خدم الغير غير ذوي إربة. وإذا كنا خصصنا المرأة بالذكر فذلك بسبب حالتها الجنسية. والآيتان اللتان نحن في صددهما واللتان أوجبتا الاستئذان قبل الدخول على المماليك والأطفال في العورات الثلاث جاءتا بصيغة مطلقة بحيث يتناول حكمهما الرجال والنساء معا على ما ذكرناه قبل. [سورة النور (24) : آية 60] وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) .

تعليق على الآية والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا ... إلخ وما فيها من أحكام وآداب

(1) أن يضعن: أن يخلعن. وهنا بمعنى أن يطرحن الزائد من ثيابهن. (2) التبرج: هو البروز والظهور. والجملة في الآية بمعنى النهي عن تعمد إظهار الزينة والمفاتن. تعليق على الآية وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً ... إلخ وما فيها من أحكام وآداب في هذه الآية تجويز للنساء اللاتي قعدن في بيوتهن ولم يكن لهن رجاء في زواج أو لا يرغب في نكاحهن، بطرح ثيابهن الزائدة وعدم التشدد في التستر، على شرط أن لا يكون ذلك بقصد إبراز الزينة وأماكنها. وتقرير بأن احتشامهن في اللباس على كل حال هو خير لهن وأفضل. والله عليم بكل شيء، سميع لكل ما يقال. ولم نطلع على رواية خاصة لنزول الآية. والمتبادر أنها متصلة بالآيتين السابقتين. وبسبيل الاستدراك وبيان ما بقي غير واضح من الآداب التي أوجبتها الآية [31] ، فهذه الآية أمرت المرأة بتغطية أجزاء البدن التي ليس من العادة والطبيعة كشفها، والتي تظهر من شقوق الثوب. وعدم إظهار الزينة وأماكنها لغير المحارم، فجاءت هذه الآية تستدرك بشأن النساء اللاتي لا يخاف من فتنتهن استدراك إجازة وتيسير. مع التنبيه على وجوب الاحتشام وعدم التظاهر بالزينة على كل حال. والمقطع الأخير الذي انتهت به الآية يلهم أن هذا التنبيه لتفادي ما يمكن أن يجلبه التخفف من الثياب أكثر من المعقول على هؤلاء أيضا من النقد والتثريب.

[سورة النور (24) : آية 61]

وجمهور المفسرين على أن هذا الفريق من النساء هن اللاتي تقدمن في السن وتجاوزن حدّ الشهوة الجنسية. ولقد روى البغوي عن ربيعة الرأي أحد قدماء علماء الحديث أنهن العجّز اللاتي إذا رآهن الرجال استقذروهن. وإن التي فيها بقية من جمال وهي محل شهوة فلا تدخل في مدى هذه الآية. وليس بين القولين تعارض كما هو ظاهر. والمعنى المشترك هو أن لا يكنّ محل شهوة سنّا وشكلا وبنية. وقد يصح أن يضاف إلى هؤلاء فريق المشوهات والدميمات أو المبتليات بعاهات وأمراض تجعلهن غير مرغوبات فيهن جنسيا ولو لم يكنّ متقدمات في السن. وعلى كل حال فالآية متسقة في روحها ونصها مع الآيات الأخرى، ومع ما استهدفته من إيجاب الحشمة على المرأة وعدم التورط في أسباب الفتنة والتعرض لأذى الألسنة. وهي من جهة أخرى مؤيدة لما استلهمناه من الآية [31] من أنها ليست بسبيل إيجاب التنقب على المرأة وعدم بروزها وسفورها. فالنساء فريقان: فريق مثار فتنة فهو مأمور بستر مفاتنه وزينته التي ليس من العادة والطبيعة ظهورها، وفريق ليس كذلك فهو غير مأمور بالتشدد ولكنه مدعو على كل حال إلى الاحتشام والاعتدال. [سورة النور (24) : آية 61] لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) . (1) أو ما ملكتم مفاتحه: ما يكون في تصرفكم وملككم. وجمهور

تعليق على الآية ليس على الأعمى حرج ... إلخ وما فيها من أحكام وآداب

المفسرين على أن ذلك يعني بيوت المماليك ومساكنهم. وقيل أيضا إنهم وكلاء أصحاب المزارع والضياع والبساتين في مزارعهم وضياعهم وبساتينهم. (2) جميعا: مجتمعين. (3) أشتاتا: متفرقين. (4) على أنفسكم: على بعضكم. هذه الآية ترفع الحرج والاستشعار بالضيق عن الأعمى والأعرج والمريض. وعن المرء في أن يأكل من بيته أو بيت أبيه أو بيت أمه أو أخيه أو أخته أو عمّه أو عمته أو خاله أو خالته أو صديقه أو مملوكه أو بيوت من هم تحت تصرفه من خدم وعمال في بساتينه وضياعه ومعامله. وترفع الحرج عن الناس في أن يأكلوا كما يريدون متفرقين أو مجتمعين. وتحثهم على تبادل السلام والدعاء لبعضهم بالحياة الطيبة المباركة. وتنبه المخاطبين الذين هم المسلمون بأن الله يبين آياته لهم، لعلهم يعقلون ما فيها من الحكمة والصواب. تعليق على الآية لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ... إلخ وما فيها من أحكام وآداب روى البغوي عن ابن عباس قال «كان الغني يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته فيدعوه إلى طعامه فيقول والله إني لأجنح أي أتحرج أن آكل معك وأنا غني وأنت فقير فنزلت الآية» . كما روي عن ابن عباس أيضا أنها نزلت في الحارث بن عمر خرج غازيا مع رسول الله وخلف مالك بن زيد على أهله فلما رجع وجده مجهودا فسأله عن حاله فقال تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك. فنزلت الآية بالسماح. وروى المفسر نفسه عن قتادة ومجاهد أنها نزلت في بني ليث بن بكر وهم حي من كنانة كان الرجل منهم لا يأكل وحده حتى يجد ضيفا يأكل معه فربما قعد والطعام بين يديه من الصباح إلى الرواح. وربما كانت معه

الإبل الحفل (أي المملوءة باللبن) فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه فإذا أيس ولم يجد أكل. وإلى هذه الروايات روى المفسرون عن ابن عباس وغيره أقوالا في مدى الفترة الأولى من الآية بنوع خاص. منها أن الأصحاء كانوا يتعززون أو يتقززون من الأكل مع المرضى والعميان والعرج. ومنها أن هؤلاء كانوا يتحرجون من الأكل مع الأصحاء تفاديا من التعزز والتقزز. ومنها أن الأصحاء حينما كانوا يخرجون إلى الجهاد يتركون مفاتيح بيوتهم مع هؤلاء الذين يتخلفون عادة عن الجهاد ويبيحون لهم الأكل مما في البيوت ولكنهم كانوا يتحرجون من ذلك فأنزل الله الآية يرفع الحرج. والروايات لا تتسق تماما مع مفهوم ومدى الآية كلها وإن كان بعض الأقوال تتسق مع بعض فقراتها. والذي يتبادر لنا أن الآية متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا. وهي بسبيل تعليم آداب السلوك مثلها. ومن المحتمل أن يكون بعض المسلمين وقعوا في حرج ما بشؤون متصلة بما احتوته الآية فاستفتوا النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت. ومن المحتمل أن تكون نزلت مع الآيات الثلاث السابقة التي قبلها لأنها من موضوعها كما أن من المحتمل أن تكون نزلت عقبها فوضعت في ترتيبها للتناسب الموضوعي والظرفي. أو تكون نزلت في ظرف آخر فوضعت في ترتيبها للتناسب الموضوعي. ولقد انطوى في الآية مبدأ قرآني جليل وهو رفع الحرج عن المسلمين في هذه الأمور وأمثالها. وترك التصرف فيها إليهم وقعا لما تمليه الظروف وتطيب به النفوس بدون تقيد بأشكال وصور معينة مع التنبيه على حسن المعاشرة وتبادل السلام والتمنيات الطيبة لما في ذلك من توطيد المودّة والإلفة بينهم، ومع التنبيه كذلك على الرفق بالضعفاء والفقراء وأصحاب العاهات والأعذار وتطييب نفوسهم وتطييب النفوس إزاءهم. وكل هذا متسق مع التشريع القرآني العام. والخطاب في الآية مطلق. وليس فيه ما يفيد تخصيص الرجال به بحيث الجزء الثامن من التفسير الحديث 29

يسوغ القول إن ما احتوته من أدب وتأديب وتنبيه موجّه إلى الجنسين معا. واستتباعا لذلك يسوغ القول إنه ليس من حرج في أن يتشارك الرجال والنساء معا في الأكل من مائدة واحدة سواء أكانوا أقارب ومحارم وتابعين أم أصدقاء أباعد إذا ما لزمت المرأة الاحتشام في اللباس على النحو الذي شرحناه قبل. وهناك أحاديث نبوية فيها توضيح وتساوق مع الآية. من ذلك حديث رواه أبو داود جاء فيه «قال جماعة يا رسول الله إنا نأكل ولا نشبع. قال فلعلّكم تفترقون. قالوا نعم قال فاجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه» «1» . وحديث رواه ابن ماجه عن عمر بن الخطاب «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كلوا جميعا ولا تفرقوا فإن البركة في الجماعة» «2» . حيث ينطوي في الحديثين تشجيع على التآلف والتجمع في مناسبات الطعام لما في ذلك من توثيق المودة والمحبة وأول ما ينصرف هذا التشجيع النبوي إلى تجمع الأسرة الواحدة على الطعام. وهناك أحاديث نبوية تفيد أن النساء كن يحضرن الطعام مع الرجال. منها حديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن حذيفة قال «كنّا إذا حضرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم طعاما لم نضع يدنا حتى يبدأ رسول الله وإنّا حضرنا معه مرة طعاما فجاءت جارية كأنها تدفع لتضع يدها في الطعام فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيدها، ثم جاء أعرابي كأنه يدفع فأخذ بيده. فقال إن الشيطان يستحلّ الطعام إلّا بذكر اسم الله عليه وإنه جاء بهذه الجارية ليستحلّ بها فأخذت بيدها فجاء بهذا الأعرابي ليستحلّ به فأخذت بيده والذي نفسي بيده إن يده في يدي مع يدها» . وفي الحديث ما يفيد أن الإناث كن يحضرن الطعام مع الرجال. مع إفادته وجوب تسمية الله قبل الأكل. وقد أخذ النبي بيد الجارية والأعرابي لأنهما لم يسميا أي لم يذكرا اسم الله قبل الأكل. وروى الشيخان عن أبي سعيد الساعدي «إنه دعا رسول الله في عرسه وكانت امرأته يؤمئذ خادمتهم وهي العروس فلما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم سقته نقيع تمر كانت

_ (1) التاج ج 3 ص 118. (2) أورد هذا الحديث ابن كثير في تفسير الآية وهناك أحاديث أخرى من بابها أوردها آخرون في مجمع الزوائد.

تعليق على مدى كلمة صديقكم في الآية

نقعته من الليل» ، والحديث يفيد أن العروس كانت شاهدة الوليمة وخادمتها. وحديث رواه مسلم والنسائي عن أنس جاء فيه «أن جارا فارسيا للنبي صلى الله عليه وسلم صنع طعاما فدعاه ولم يدع أم المؤمنين عائشة معه فلم يلبّ ثم دعاه مرة ثانية فسأله أن يدعوها معه فدعاها فذهبا معا إلى بيت الجار وأكلا طعامهما معه» . وجملة فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً تنطوي على تأديب رفيع حيث توجب على الداخلين على غيرهم أن يبادروهم بالتحية والسلام سواء أكانوا أهلهم أم غرباء عنهم. هذا وقد يكون ذكر بيوت الآباء والأمهات والأخوات والإخوان والأعمام والعمات والأخوال والخالات متصلا بما كان عليه الحال في زمن النبي صلى الله عليه وسلم حيث كانوا يتفرقون في المساكن غير أنه لا يخلو من تلقين مستمر المدى بهذا أيضا حيث يكون الولد المتزوج في بيت ووالده في بيت وإن كانت أمه أرملة في بيت وإن كانت أخواته عوانس أو أرامل في بيت ... إلخ وحيث يكون في ذلك الراحة والهدوء والبعد عن أسباب الخلاف والقيل والقال التي كثيرا ما تؤدي إلى تصدّع بنيان الأسرة وتعكير صفوها. والله تعالى أعلم. تعليق على مدى كلمة صَدِيقِكُمْ في الآية فرّقت الآية فذكرت الصديق لحده، وذوي الأرحام والمماليك لحده. والمتبادر أن هذا طبيعي فإن علاقة ذوي الأرحام ببعضهم وعلاقة مالكي المماليك بمماليكم أشد من علاقة صداقة فهي علاقة اقتصادية واجتماعية وإنسانية لا يمكن أن يستغنى عنها في حين أن كثيرا من الناس تكون علاقتهم ببعضهم عادية أو عابرة لا ترقى إلى درجة لاحمة. والمتبادر أن كلمة صَدِيقِكُمْ تشمل جميع الناس بل ولا أرى مانعا من القول إنها تشمل غير المسلمين أيضا. فكلمة (صديق) هي مضادة أو ضد كلمة (عدو) وكلمة عدو تطلق في الإسلام على من يعتدي على الإسلام والمسلمين

بأسلوب ما. والمتبادر الواقع أن جمهورا عظيما من غير المسلمين ممن يعيشون في بلاد الإسلام أو بعيدا عنها لا يعتدون على الإسلام والمسلمين واقعيا ومنهم من يكون مسالما وموادا. وفي القرآن آيات تشير إلى ذلك وفيها توقع بانقلاب العداء بين المسلمين وغيرهم إلى مودة وفيها أمر للمسلمين بالبرّ والإقساط والتعايش مع المسلمين وغيرهم الكافّين يدهم ولسانهم عن المسلمين. انظر آية سورة النساء [89] وآيتي سورة الممتحنة [6- 7] . وفي صدد الصداقات بين المسلمين فيما بينهم نقول: إن القرآن وصف المسلمين بأنهم أخوة وهذا الوصف قد يكون معنويا ولكنه يفيد أن اللّحمة بين المسلمين من غير ذوي الأرحام قوية إلى درجة تصل إلى شيء من قوة الأرحام. والمسلمون يتشاركون في عقيدة الحلال والحرام في كل أنواع الطعام. ووصف الأخوة يجعل المسلمين أصدقاء بالتبعية ولا يفرض أن يكون عداء بينهم بالتبعية يقال إن كل مسلم يستطيع أن يعتبر أن كل مسلم صديقا له أيضا ويتناول الطعام في بيته مجتمعا أو منفردا وأما غير المسلم فقد قلنا إن احتمال الصداقات بين المسلمين وغير المسلمين واردة وقائمة ومحرض عليها. فيقال بالتبعية إن للأصدقاء من المسلمين وغير المسلمين يمكن أن يتناولوا طعاما في بيوت بعضهم أيضا. وهنا محل للاستدراك فقد حرّم الله ورسوله على المسلمين محرّمات معينة في المأكولات والمشروبات وأباح لهم ما عداها. فيقال إنه لا حرج على المسلم أن يأكل في بيت غير المسلم إذا قدم له هذا مأكولات غير محرمة عليه في القرآن الكريم والأحاديث النبوية. وهناك مأكولات لا تحصى مباحة مثل الحبوبات على أصنافها والخضروات والفواكه ومنتجات الحيوان كاللبن والحليب والزبدة والسمن وحيوانات الأنهار والبحار فيستطيع المسلم أن يأكل ما يقدمه غير المسلم من ذلك وما يطبخه بدون لحم مشتبه في طريقة ذبحه التي حرمتها الآيات والأحاديث. وإذا قدم غير المسلم لحما مذبوحا بيد المسلمين فليس عليه مانع من أكله إذا تيقن من ذلك. وننبه على أن في سورة المائدة هذه الآية: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ

[سورة النور (24) : الآيات 62 إلى 64]

الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ [5] . ويتبادر لنا والله أعلم أن هذه الآية ليست على سبيل الحصر بدليل أو قرينة سبحانه وتعالى حرّم النساء المشركات على المؤمنين بنص قرآني. ولم يحرم طعام المشركين على المسلمين بنصّ قرآني وإن كان لم يحلّه بحيث يمكن أن يقال إن غير المسلمين الكتابيين إذا قدموا لأصدقائهم المسلمين مأكولات مباحة وغير محرمة عليهم في القرآن والأحاديث ساغ لهم أن يأكلوها. أما طعام المسلمين للمشركين فلم نر أي تحريم لذلك. ولقد روى ابن هشام أن المسلمين أسروا أمير اليمامة ثمامة بن أثال وكان مشركا فنصب له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في مسجده وكان يرسل إليه طعاما من بيوته. والله تعالى أعلم. وكلمة أخيرة في صدد ما يقدمه الكتابيون من طعام للمسلمين، فقد قال جمهور من المفسرين والفقهاء إن نصّ الآية مطلق وليس من ضرورة بتردد المسلم وتكلفه وسؤاله فالله تعالى أحلّ له طعامهم ويعنون بذلك اللحوم البريّة فليأكلوا على الإباحة وهذا سبيل. ومنهم من قال هذا مع زيادة إذا تيقن المسلم فيما يقدمه الكتابيون من طعام محرمات أساسيّة على المسلمين في القرآن والأحاديث فلا يأكله وهذا سبيل أيضا والله تعالى أعلم. انظر تفصيلات أخرى في تفسير الآيات [4- 6] من سورة المائدة في الجزء التالي. [سورة النور (24) : الآيات 62 الى 64] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64) .

تعليق على الآية إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله إلخ والآيتين التاليتين لها وما فيها من آداب وتلقين وصور

(1) أمر جامع: أمر ذو خطورة يستدعي اجتماع الناس وشهودهم إياه. (2) يتسللون: يخرجون خفية ومسارقة. والسلة هي السرقة. (3) لواذا: متسترين ببعض حتى لا يروا وهم يخرجون، ولاذ به، بمعنى: استتر به، أو لجأ إليه أو انتحى نحوه. تعليق على الآية إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ إلخ والآيتين التاليتين لها وما فيها من آداب وتلقين وصور عبارة الآيات واضحة. وفيها تأديب للمؤمنين إزاء مجالس الرسول ودعائه. وتنويه بالذين يتصرفون في ذلك بما يليق بمركزه ومقامه، فلا يتركون مجالسه إلّا لعذر وبعد الاستئذان منه وإذنه. فهم المؤمنون حقا بالله ورسوله. وتنديد بالذين يتصرفون في ذلك تصرفا غير لائق فيتسللون من مجالسه. وإنذار دنيوي وأخروي لهم. روى البغوي أن الآية الأولى نزلت في ظروف حفر الخندق ووقعة الأحزاب حيث كان المنافقون ينسحبون تسللا وخفية من المعسكر. ولا ينفذون أوامر النبي صلى الله عليه وسلم. وروى الطبري أنها نزلت في المنافقين الذين كان يثقل عليهم حديث النبي يوم الجمعة فيلوذون ببعض أصحاب رسول ويخرجون من المسجد متسللين. بدون إذن من النبي، في حين كان المخلصون يستأذنون بالإشارة إذا كان لهم حاجة في الخروج فيأذن لهم بالإشارة. غير أن أكثر المفسرين قالوا إن الآيات عامة في صدد مجالس النبي واجتماعاته واجتماعات يوم الجمعة معا. ويبدو لنا هذا القول أوجه لأن سورة الأحزاب قد احتوت ما اقتضت حكمة التنزيل ذكره من مشاهد وقعة الأحزاب والخندق ومواقف المنافقين. ولأن فحوى الآيات يلهم أنها أعمّ من اجتماعات يوم الجمعة وخطبتها.

وقد روى المفسرون «1» عن ابن عباس ومجاهد أن جملة لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً في صدد الأمر بمخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظ التوقير والتعظيم لا بالاسم والكنية فقط كما يخاطبون بعضهم. كما رووا أنها في صدد النهي عن عمل ما يستوجب دعاء النبي عليهم ودعاؤه موجب مستجاب. وروى بعضهم «2» أن الجملة في صدد التنبيه على ما يجب عليهم من تلقي دعوة النبي بالاهتمام حين ما يدعوهم إلى اجتماع لأن دعوته ليست من قبل دعوة بعضهم لبعض. وقد تكون رواية الزمخشري الأخيرة هي الأكثر اتساقا مع موضوع الآية الأولى ومع الفقرة التي جاءت بعد الجملة التي نحن في صددها. وبهذا فقط يظهر الانسجام بين أجزاء الآيات. والذي يتبادر لنا أن بعض المسلمين أو مرضى القلوب تلكأوا عن تلبية دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى اجتماع عام دعا إليه وأن بعضهم تسللوا من مثل هذا الاجتماع فاقتضت الحكمة الإيحاء بالآيات بأسلوبها المطلق ليكون من تأديب عام للمؤمنين في صدد ذلك على النحو الذي شرحناه. والآيات تبدو فصلا جديدا. ولكن ما احتوته من تأديب للمسلمين وتعليم لآداب السلوك في مجالس النبي قد يجعلها متصلة موضوعا بالفصول السابقة فإذا لم تكن قد نزلت بعدها مباشرة فيكون وضعها في ترتيبها بسبب التناسب الموضوعي. والإنذار المنطوي في جملة فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ قوي رهيب، وقد جاء مطلقا هو الآخر ليكون مستمر المدى والشمول للذين يخالفون أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونواهيه وسنته الثابتة في كل وقت. وفي الجملة تأييد زجري للآيات العديدة التي أكدت وجوب طاعة رسول الله والوقوف عند ما يأمر به وينهى عنه، وقررت أن اتباعه من وسائل رضاء الله ومحبته على ما جاء في آيات

_ (1) انظر تفسير البغوي والطبري وابن كثير والخازن. (2) انظر تفسير الزمخشري.

الأنفال [1 و 20 و 46] وآل عمران [31 و 32] والنساء [80] والحشر [7] وقد علقنا على الموضوع ونبهنا على دواعيه المباشرة في العهد المدني. وقد أوردنا بعض الأحاديث في ذلك في سياق تفسير سورة الحشر أيضا فنكتفي بهذا التنبيه. ولقد أورد ابن كثير في سياق الجملة التي نحن في صددها حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا فكلّما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب اللائي يقعن في النار يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحّمن فيها. قال فذلك مثلي ومثلكم. أنا آخذ بحجزكم عن النار هلمّ عن النار فتغلبوني وتتقحمون فيها» «1» . والآيات مع خصوصيتها الزمنية والموضوعية تنطوي على تلقين تأديبي مستمر المدى بوجوب احترام المجالس العامة والاجتماعات العامة التي قد يعقدها أو يدعو إليها الرؤساء والأمراء وذوو الشأن في المسلمين وعدم الاستخفاف بها وعدم تركها بدون استئذان وبدون معذرة صحيحة بالإضافة إلى ما فيها من توكيد التزام سنّة رسول الله وعدم مخالفتها على ما ذكرناه قبل.

_ (1) روى الشيخان هذا الحديث عن أبي هريرة بهذه الصيغة «إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارا فجعلت الدواب والفراش يقعن فيها فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقتحمون فيها» انظر التاج ج 1 ص 37.

سورة المنافقون

سورة المنافقون في السورة حملة شديدة على المنافقين. وحكاية لأقوال ومواقف خطيرة صدرت منهم فيها كيد وعداء وتحريض على النبي والمهاجرين وردود تسفيه عليهم. وتثبيت وتطمين للنبي والمؤمنين. وفيها تحذير للمؤمنين عن الاستغراق في حبّ المال والولد عن ذكر الله وحثّ لهم على الإنفاق وهم في سعة من الوقت والعمر. وآيات السورة منسجمة مما يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة أو أن فصل المنافقين جميعه نزل دفعة واحدة ثم تبعه الفصل التحذيري الأخير. ولقد روي أن الأقوال التي حكتها بعض آيات السورة صدرت من زعيم المنافقين أثناء غزوة المريسيع التي أثير فيها حديث الإفك ضد أم المؤمنين عائشة الذي تضمنت سورة النور الإشارة إليه حيث يبدو من ذلك صحة رواية ترتيب نزول السورة بعد سورة النور. وفي سورة النور مقاطع عديدة فيها حملات تنديدية على المنافقين. وصور من مواقفهم على ما مرّ شرحه فيها. وفي هذه السورة حملة أخرى فيها مواقف أخرى. حيث يمكن أن يكون في هذا قرينة أخرى على صحة رواية نزول هذه السورة بعد سورة النور. على أن هناك ما يحسن التنبيه عليه أيضا. فالروايات تذكر أن وقعة المريسيع كانت قبل وقعة الأحزاب أو الخندق التي أشير إليها في سورة الأحزاب. مع أن الروايات تذكر أن سورة الأحزاب في الترتيب سابقة لسورتي النور والمنافقون. فإما أن يكون في روايات تواريخ الوقائع الجهادية النبوية شيء من الخطأ وإما أن تكون هذه السورة نزلت قبل سورة الأحزاب. ولقد أوردنا في مقدمة سورة النور احتمال أن تكون هذه السورة أيضا قد نزلت قبل سورة الأحزاب. وتظل قوة قرينة نزول سورة (المنافقون) بعد سورة النور على كل حال قائمة. والله تعالى أعلم.

[سورة المنافقون (63) : الآيات 1 إلى 8]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المنافقون (63) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) . (1) جنة: سترا ووقاء. (2) كأنهم خشب مسندة: تعبير تنديدي يراد به وصفهم بفقد العقل والروح رغم ما هم عليه من الجسامة والوسامة اللتين تعجب الناظر فكأنهم أخشاب مسندة بالدعائم. (3) يصدون: هنا بمعنى يمتنعون ويرفضون. (4) حتى ينفضوا: حتى يتفرقوا. تعليق على آية إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ والآيات السبع التي بعدها وما فيها من صور وتلقين، وما ورد في صددها من أخبار عبارة الآيات واضحة، وقد تضمنت:

(1) حكاية لما كان المنافقون يؤكدونه للنبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءوا إليه من إيمانهم برسالته. (2) وتكذيبا لهم وتقريرا بأنهم إنما يتخذون أيمانهم سترا ووقاء من الفضيحة والنكال وذريعة إلى الصدّ عن سبيل الله. وبأنهم كفروا بعد إيمانهم فكان ذلك مظهرا لخبث سريرتهم وسوء نيتهم وانطباع قلوبهم على الكفر. (3) وصفا تنديديا لهم، فهم رغم ما هم عليه من جسامة ووسامة تروقان للناظر إليهم وما يقولونه من أقوال تعجب السامع لها كالخشب المسندة فاقدون كل روح وعقل وقلب وإيمان. (4) حكاية لما كانوا يقابلون به الدعوة إلى المجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للاعتذار والاستغفار حيث يلوون رؤوسهم ويرفضون استكبارا. (5) حكاية لأقوال صدرت منهم حيث كانوا يحرضون على عدم الإنفاق على أصحاب رسول الله ومساعدتهم حتى ينفضوا من حوله. وحيث قالوا في سفرة من السفرات إنهم إن رجعوا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ وكانوا يعنون بالقول أنهم هم الأعزّ وأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هم الأذلّ. (6) وردودا تنديدية عليهم فيها تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وصحبه المخلصين: فسواء استغفر لهم النبي أم لم يستغفر، فلن يغفر الله لهم، لأنه لا يمكن أن يوفق الفاسقين أمثالهم ويرضى عنهم. وهم حينما يقولون: لا تنفقوا على من عند رسول الله غاب عنهم ولم يدركوا أن خزائن السموات والأرض هي لله. وهم حينما يقولون ليخرجن الأعز منها الأذل غاب عنهم ولم يعلموا أن العزة إنما هي لله ورسوله والمؤمنين. (7) ودعاء عليهم: قاتلهم الله، فكيف وأنّى ينصرفون عن الحق الواضح الساطع. (8) هتافا للنبي صلى الله عليه وسلم: فهم العدوّ وعليه الحذر منهم.

ولقد روى الشيخان والترمذي في سبب نزول الآيات حديثا عن زيد بن أرقم قال «كنت مع عمي فسمعت عبد الله بن أبيّ بن سلول، يقول لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا، وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذلّ، فذكرت ذلك لعمي، فذكره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلى عبد الله بن أبيّ وأصحابه، فحلفوا ما قالوا فصدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني فأصابني همّ لم يصبني مثله، فجلست في بيتي فأنزل الله عز وجل إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ إلى قوله هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ إلى قوله لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ فأرسل إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليّ، ثم قال: «إن الله قد صدقك يا زيد» «1» . حيث يفيد هذا الحديث أن هذا الفصل نزل دفعة واحدة. وهو في الحق منسجم ومترابط. وعلى هذا فتكون الآيات الست الأولى بمثابة تمهيد للآيتين التاليتين لها اللتين فيهما حكاية أقوال المنافقين. وقد عرضنا الفصل كلّا واحدا بسبب هذا الانسجام. ولقد أورد المفسرون ورواة الحديث وكتّاب السيرة القدماء في صدد نزول هذه الآيات وما فيها، سياقا طويلا نرى من المفيد إيراده لما فيه من صور. فقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم على رأس حملة لغزو بني المصطلق الذين بلغه أنهم يتجمعون لغزو المدينة. وكان المنافقون مشتركين بالحملة بمقياس واسع. وقد التقى المسلمون بالأعداء عند ماء اسمه المريسيع وانتصروا عليهم وسبوا وغنموا منهم. وقبيل أن يرتحلوا ويعودوا، تلاحى شخص تابع لعمر بن الخطاب وآخر تابع لبني عوف رهط ابن سلول على الماء فاقتتلا وصرخ تابع عمر: يا معشر المهاجرين، وصرخ تابع بني عوف: يا معشر الأنصار، وكاد الاشتباك يقع بين الحيين ثم تمكن النبي وكبار أصحابه من التهدئة. وأثار ذلك ابن سلول، فقال في مجلس من قومه: لقد نافرونا وكاثرونا في بلادنا- يقصد المهاجرين- والله ما مثلنا ومثلهم إلّا كما قال القائل سمّن كلبك يأكلك. أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ يعني بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله وصحبه. ثم أقبل على من حضره من قومه فقال:

_ (1) التاج ج 4 فصل التفسير ص 235.

هذا ما فعلتم بأنفسكم. أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم. أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ولنحوا إلى غير بلادكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد. وكان في المجلس فتى اسمه زيد بن أرقم من الأنصار فقال له: أنت- والله- الذليل القليل المبغض في قومك ومحمد في عز من الرحمن عز وجل ومودة من المسلمين، فقال له: اسكت فإنما كنت ألعب. فمشى زيد إلى رسول الله فأخبره الخبر- وعنده عمر بن الخطاب- فقال له: دعني أضرب عنقه يا رسول الله، فقال له: كيف يا عمر إذا تحدّث الناس أن محمدا يقتل أصحابه. ثم آذن بالرحيل في ساعة لم يكن رسول الله يرتحل فيها، فارتحل الناس وأرسل رسول الله إلى ابن سلول فلما جاءه قال له: أنت صاحب هذا الكلام الذي بلغني فقال له: والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك وإن زيدا لكاذب. فقال من حضر من أصحابه: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام وهم في حديثه، فعذر النبي ابن سلول وفشت الملامة في الأنصار لزيد وكذبوه. وكان له عمّ فقال له: ما أردت إلّا أن كذبك رسول الله والناس كلهم يقولون إن عبد الله شيخنا وكبيرنا ولا يصدق عليه كلام غلام مفتون. فاستحيا الفتى وصار يبتعد عن رسول الله. وجاء أسيد بن حضير أحد زعماء الأوس إلى النبي فقال له: رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها، فقال له: أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟ قال وما قال؟ قال زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل، فقال أسيد: فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت. هو الذليل وأنت العزيز. ثم قال يا رسول الله أرفق به فو الله لقد جاء الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه وإنه ليرى أنك استلبته ملكا. وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ما كان من أمر أبيه فأتى رسول الله فقال: يا رسول الله بلغني أنك تريد قتل أبي لما بلغك عنه فإن كنت فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه. فو الله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبرّ بوالديه مني وإنّي أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتله يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا. وعاد النبي إلى المدينة وجلس زيد بن أرقم

في بيته لما به من الهمّ والحياء، فأنزل الله سورة المنافقون في تصديق زيد وتكذيب عبد الله بن أبي. فلما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن زيد، وقال له: إن الله قد صدقك وأوفى بأذنك. وجاء قوم إلى عبد الله فقالوا له: قد نزل فيك آي شديد، فاذهب إلى رسول الله يستغفر لك فلوى رأسه ثم قال: أمرتموني أن أؤمن فآمنت، وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي فأعطيت فما بقي إلّا أن أسجد لمحمد. فأنزل الله وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ. ولما بلغوا المدينة منع عبد الله بن عبد الله بن أبي أباه من دخولها، وقال له والله لن تدخلها إلّا بإذن رسول الله، ولتعلمن اليوم من الأعزّ من الأذلّ فجاء إلى رسول الله شاكيا ابنه فأرسل رسول الله إلى عبد الله بن عبد الله: أن خلّ عنه حتى يدخل «1» . ولسنا نرى في هذا السياق مهما كان طويلا ما لا يتسق إجمالا مع الواقع ومع روح الآيات. وقد روته المصادر القديمة. ومنها ما رواه رواة عدول، فسجل بعضه البخاري ومسلم والترمذي في مساندهم. وكل ما يمكن أن يلحظ فيه ما جاء من أن آية وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ قد نزلت بناء على رفض ابن سلول حينما نزلت الآيات الأخرى أن يذهب إلى رسول الله يستغفر له. والمعقول أن يكون بعض الناس اقترحوا عليه قبل نزول الآيات أن يذهب إلى النبي معتذرا مستغفرا فأبى، فحكت الآيات هذا الموقف فيما حكته واحتوت

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي والخازن والزمخشري والتاج ج 4 ص 235- 236. رواية البخاري ومسلم والترمذي وطبقات ابن سعد ج 3 ص 104- 107 وابن هشام ج 3 ص 334- 337 وتاريخ الطبري ج 2 ص 260- 264 ومعظم النص منقول عن تاريخ الطبري وتفسير البغوي. وهذا نصّ الحديث الذي رواه الشيخان والترمذي عن جابر قال «كنّا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار. فقال الأنصاري يا للأنصار. وقال المهاجر يا للمهاجرين فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فقال ما بال دعوى الجاهلية. قالوا يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار. فقال دعوها فإنها فتنة فسمع بذلك ابن أبي فقال فعلوها. أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذلّ. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقام عمر فقال يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه» .

بالإضافة إلى ذلك استطرادا إلى تقرير واقع المنافقين جميعهم والتنديد بهم وإنذارهم والتحذير منهم وتطمين النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه على النحو الذي شرحناه، وبالأسلوب القوي الرائع الذي جاءت به. ولقد كانت الأقوال الصادرة من زعيم المنافقين خطيرة جدا، بل لعلها أشد ما صدر عن المنافقين خطورة وقحة وكيدا وصراحة على ملأ من الناس. ولذلك كانت الحملة عليهم متناسبة في شدتها مع هذه الخطورة، واقتضت حكمة التنزيل أن تفرد من أجل ذلك سورة خاصة. ومن الممكن أن يلمح في الآيات أن المنافقين كانوا معتدّين بأنفسهم وشاعرين بقوتهم نوعا ما برغم ما حكته عنهم من توكيد للنبي بإيمانهم برسالته. وهو ما كانوا يفعلونه في مختلف المناسبات والمواقف على ما مرت منه أمثلة عديدة وبخاصة في سورة النور السابقة لهذه السورة. ومثل هذا ملموح في الفصول التي احتوتها سور النور والنساء والأحزاب. ومع خصوصية الآيات الزمنية والموضوعية فإن جملة وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ التي جاءت مطلقة تظلّ مستمرة التلقين بما يوجده الإيمان في نفس المؤمن من القوة وتظل كذلك مستمرة فيض يستمد منه المسلمون شعور العزة ويحفزهم إلى إباء كل ضيم وهوان واعتبارهما متنافيين مع ما قرره لهم القرآن من عزة وكرامة واستعلاء. هذا، ولقد احتوت الآية [3] تعليلا صريحا لطبع قلوب المنافقين وهو كونهم كفروا بعد إيمانهم نتيجة لسوء نيتهم وخبث طويتهم. وهذا متسق مع ما جاء في المناسبات المماثلة بالنسبة للكفار والمتكبرين مثل وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ [النساء: 155] وكَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ ... [الأعراف: 100] وكَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [غافر: 35] بحيث يزول بذلك ما قد يتبادر من وهم بسبب ما جاء في بعض الآيات من إطلاق مثل إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [البقرة: 6- 7] .

[سورة المنافقون (63) : الآيات 9 إلى 11]

أما جملة لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ فإن من الأولى أن يلحظ تقرير كون ذلك إذا ماتوا وهم على كفرهم ونفاقهم. لأن هناك آيات تذكر أن الله يقبل توبتهم إذا تابوا مثل آيات سورة النساء هذه إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) . وقد جاءت هاتان الآيتان عقب سلسلة فيها حملة شديدة على المنافقين، وفيها جملة من الجملة المذكورة هنا كما ترى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) والذي نرجحه أن كثيرا من المنافقين أخلصوا في إيمانهم بدليل أنهم كانوا عددا غير قليل وأقوياء في أوائل العهد المدني فأصبحوا عددا قليلا خائفين حذرين على ما ذكرته آيات في سورة التوبة. [سورة المنافقون (63) : الآيات 9 الى 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11) . (1) لولا: هنا بمعنا هلّا تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) والآية التالية لها وما فيهما من تلقين عبارة الآيات واضحة. وفيها: (1) تحذير للمؤمنين من إلهاء أموالهم وأولادهم لهم عن ذكر الله، لأن من يكن هذا شأنه فإنه من الخاسرين.

(2) وحثّ لهم على الإنفاق في سبيله وهم في سعة من الوقت والعمر. وقبل أن يداهمهم الموت فيندموا ويتمنوا على الله أن يؤخر أجلهم حتى يتصدقوا ويكونوا من الصالحين. (3) وتنبيه لهم بأن الندم والتمني لن يجدياهم شيئا لأن الله لن يؤخر نفسا إذا جاء أجلها، وإنه لخبير بنواياهم وأعمالهم. ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيات. ومع أن عبارتها مطلقة. وتبدو أنها فصل جديد. فإننا نرجح أنها متصلة بالآيات السابقة اتصال تعقيب والتفات، لتلقين المؤمنين المخلصين ما هو الأمثل لهم، والأحرى بهم في مناسبة ذكر مواقف المنافقين البغيضة، وزجرهم وتقريعهم ولا سيما أن دعوة المنافقين إلى عدم الإنفاق على من عند رسول الله التي حكتها تلك الآيات هي دعوة إلى أقاربهم وذوي رحمهم وعشيرتهم من الأنصار. ومعظمهم كانوا مخلصين في إيمانهم بالله ورسوله. والآيات في حدّ ذاتها جملة تامة. وأسلوبها قوي نافذ إلى القلوب والعقول. وهي مطلقة التوجيه فيكون ما فيها من أمر ونهي وتحذير شاملا لكل المسلمين في كل مكان ليكون ذلك خطتهم المثلى التي يسيرون عليها. وأسلوب الآيات وفحواها يجعلاننا نقول هنا ما قلناه في مناسبات سابقة مماثلة وبخاصة في سياق الآية [37] من السورة السابقة التي فيها تنويه بالذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. وهو أن ما فيها من تحذير ونهي منصبان على الاستغراق في حبّ الأموال والأولاد استغراقا يؤدي إلى التقصير في واجب ذكر الله والإنفاق في سبيله. وليس على الاشتغال بالتجارة وكسب المال والاستمتاع بطيبات الحياة الدنيا والأولاد. فهذا مما أباحه القرآن للمسلمين في مواضع كثيرة صراحة وضمنا على ما نبهنا عليه في نطاق الاعتدال والقصد وعدم التقصير في الواجبات. ولقد أورد المفسرون في سياق هذه الآيات رواية عن ابن عباس تفيد أن هذه الجزء الثامن من تفسير الحديث 30

الآيات هي في صدد الحج والزكاة وإيجاب فعلهما على المؤمنين في فسحة من العمر والوقت «1» . ولقد روى هذا الترمذي بهذه الصيغة «من كان له مال يبلغه حجّ بيت ربّه أو تجب عليه فيه الزكاة فلم يفعل سأل الرجعة عند الموت. فقال رجل: يا ابن عباس اتق الله إنما يسأل الرجعة الكفار. قال سأتلو عليك بذلك قرآنا، ثم تلا الآيات. فسأله الرجل فما يوجب الزكاة؟ قال: إذا بلغ المال مائتي درهم فصاعدا. فسأله فما يوجب الحج؟ قال الزاد والبعير» «2» . وليس في هذه الصيغة ما يفيد أن الآيات في صدد أداء فريضتي الحج والزكاة كما هو ظاهر. وإنما أورد ابن عباس الآيات جوابا على سؤال في صدد تمني المسلمين المقصرين في واجبات الزكاة والحج الرجعة «3» . وعلى هذا فإن ما ذكرناه في صدد صلة الآيات بسابقاتها واحتوائها خطة شاملة لكل المسلمين يظل في محلّه إن شاء الله.

_ (1) انظر كتب تفسير الطبري والخازن والبغوي وابن كثير والقاسمي. (2) انظر التاج ج 4 ص 237 فصل التفسير. [.....] (3) ننبه على أن ابن كثير أورد حديث ابن عباس هذا ثم قال «ورواية الضحاك عن ابن عباس فيها انقطاع. وأبو جناب الذي هو من رواة الحديث ضعيف» . وابن كثير من أئمة الحديث.

سورة المجادلة

سورة المجادلة في السورة تسفيه لعادة الظهار وتشريع فيها. وحكاية لشكوى وجدال امرأة مسلمة في سياق ذلك. وتنديد بفريق كان يتآمر بالسرّ بما فيه إثم وعدوان، ونهي للمسلمين عن مثل هذا الخلق، وتعليم لهم بما هو الأمثل بهم. وتعليم للمسلمين كذلك آداب المجالس. وتلقينهم الاهتمام بالأخلاق والعلم وأهلهما. ومشهد فيه حثّ للمسلمين على تقديم صدقات عند اجتماعهم بالنبي صلى الله عليه وسلم اجتماعا خاصا، وحكاية لاستثقالهم ذلك وعتاب لهم ونسخ للتكليف بسبب ذلك. وحملة شديدة على المنافقين لموادتهم لمن غضب الله عليهم الذين تتفق الروايات والأقوال على أنهم اليهود. وتنزيه للمخلصين عن مثل هذا الموقف. وبعض عبارات الحملة على المنافقين مشابهة لما ورد فيهم في السورة السابقة، مما قد يكون قرينة على صحة ترتيب السورة بعد تلك. ولقد احتوت السورة فصولا متنوعة: منها ما لا يلمح بينه وبين سابقه ولا حقه صلة موضوعية أو ظرفية. ومنها ما يمكن أن يلمح فيه مثل هذه الصلة. وقد تكون هذه الفصول نزلت متعاقبة فوضع بعضها بعد بعض. وإلا فتكون السورة قد جمعت في وقت متأخر نوعا ما بعد أن تمّ نزول ما اقتضت الحكمة نزوله وجمعه في سورة واحدة من فصولها. وجمهور المفسرين على أن الذين حكت بعض آيات السورة موالاة المنافقين لهم هم من اليهود. وفحوى الآيات قد يؤيد ذلك. وكذلك فإن هناك رواية يرويها معظم المفسرين تفيد أن اليهود كانوا من الفريق المتآمر بالسرّ بما فيه إثم وعدوان.

[سورة المجادلة (58) : الآيات 1 إلى 4]

ولما كان من بقي من اليهود في المدينة وهم بنو قريظة قد نكل بهم عقب وقعة الخندق على ما حكته بعض آيات سورة الأحزاب فيكون ذلك قرينة على أن بعض آيات السورة قد نزل قبل سورة الأحزاب أو على الأقل قبل فصلها الذي يشير إلى التنكيل بيهود بني قريظة. وهناك مسألة مشتركة أخرى بين هذه السورة وسورة الأحزاب وهي عادة الظهار الجاهلية. فقد احتوى مطلع سورة الأحزاب تنديدا بهذه العادة ولكنه مترافق مع التنديد بعادة التبني الجاهلية. ثم احتوى تشريعا في إلغاء التبني دون الظهار. في حين أن التنديد بالظهار في هذه السورة رافقه تشريع. بحيث يحتمل أن يكون تنديد سورة الأحزاب هو السابق كخطوة أولى ثم جاء التشريع في هذه السورة كخطوة ثانية وبحيث قد يصح أن يكون في هذا قرينة على سبق فصل سورة الأحزاب على فصل الظهار في هذه السورة: والله أعلم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المجادلة (58) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4) . في الآيات: (1) إشارة إلى حادث شكوى امرأة إلى الله ورسوله من زوجها ومجادلتها في حالتها وإيذان بأن الله قد سمع قولها وسمع المحاورة التي دارت بينها وبين النبي. (2) والتفات تعنيفي إلى الذين يظاهرون من زوجاتهم. ووضع للأمر في

تعليق على الآية قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير (1) والآيات الثلاث التالية لها وما ورد فيها من أحاديث وتعلق بها من أحكام وما فيها من تلقين ودلالة على قوة شخصية المرأة العربية

نصابه الحق: فهن لسن بأمهاتهم وليست أمهاتهم إلّا اللائي ولدنهم. وإن تشبيه الزوجة بالأم وتحريم وطئها بهذا التشبيه- وهذا هو مفهوم الظهار «1» - هو منكر وزور يجب التوبة عنه. وحينئذ يعفو الله عن التائبين ويغفر لهم وهو العفو الغفور. (3) وتعقيب تشريعي في حالة الذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا، فيجب عليهم أن يعتقوا رقبة كفارة، توبة قبل أن يتماس الزوجان جنسيا وحينئذ يحل لهم ذلك. فإذا لم يجدوا رقبة يعتقونها أو لم يستطيعوا شراء عبد وعتقه فعليهم أن يصوموا بدلا من ذلك شهرين متتابعين. فإذا لم يستطيعوا فعليهم أن يطعموا ستين مكسينا وقد انتهت الآيات بالتنبيه إلى وجوب الوقوف عند أوامر الله وحدوده وبإنذار الجاحدين بعذاب الله الأليم توخيا للتشديد في تسفيه هذا التقليد كما هو المتبادر. تعليق على الآية قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) والآيات الثلاث التالية لها وما ورد فيها من أحاديث وتعلق بها من أحكام وما فيها من تلقين ودلالة على قوة شخصية المرأة العربية لقد روى المفسرون «2» سبب نزول هذه الآيات في خبر طويل، رأينا من المفيد إيراده لما فيه من فوائد وطرائف وتلقين وأحكام، حيث روي عن ابن عباس أن امرأة أنصارية اسمها خولة رآها زوجها أوس بن الصامت ساجدة في صلاتها، فلما انصرفت أرادها فأبت عليه فغضب عليها فقال لها أنت عليّ كظهر أمي ثم ندم على ما قال ولكنه قال لها ما أظنك إلّا حرمت عليّ فقالت لا تقل ذلك. وأت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسأله. فقال إني أستحي منه فقالت دعني أسأله. فقال سليه فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إن زوجي تزوجني وأنا شابة غانية ذات مال وأهل. حتى إذا أكل

_ (1) كان الزوج يقول لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي، وبذلك يصبح وطؤها محرما عليه. (2) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن والطبرسي وابن كثير.

مالي وأفنى شبابي وتفرق أهلي وكبر سني ظاهر مني. وقد ندم. فهل من شيء يجمعني وإياه فتنعشني به؟ فقال لها ما أراك إلّا حرمت عليه فقالت يا رسول الله والله الذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقا. وإنه أبو ولدي وأحبّ الناس إليّ فقال ما أراك إلّا حرمت عليه ولم أومر في شأنك بشيء فجعلت تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذ قال لها حرمت عليه هتفت قائلة إني أشكو إلى الله فاقتي وحاجتي وشدة حالي اللهمّ فأنزل على لسان نبيك. وكان هذا أول ظهار في الإسلام فقامت عائشة تغسل شقّ رأس رسول الله فقالت المرأة: انظر في أمري جعلني الله فداك يا نبي الله فقالت عائشة اقصري حديثك ومجادلتك أما ترين وجه رسول الله وكان إذا نزل عليه الوحي أخذه مثل السبات فلما قضي الوحي قال ادعي زوجك فتلا عليه الآيات قالت عائشة تبارك الله الذي وسع سمعه الأصوات كلها إن المحاورة لتحاور رسول الله وأنا في ناحية البيت أسمع بعض كلامها ويخفى عليّ بعضه. إذ أنزل الله الآيات. فلما تلاها على الرجل قال له هل تستطيع أن تعتق رقبة؟ قال إذا يذهب مالي كله والرقبة غالية وإني قليل المال. قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين فقال والله يا رسول الله إني إذا لم آكل ثلاث مرات كلّ بصري وخشيت أن تعشى عيني قال فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟ قال لا والله إلّا أن تعينني على ذلك يا رسول الله فقال إني معينك بخمسة عشر صاعا وأنا داع لك بالبركة فأعانه رسول الله ودعا له بالبركة. وقد روى الخبر أصحاب السنن باختصار ليس فيه ما قد يلمح في هذا النصّ الطويل من تناقض حيث رووا عن خولة بنت مالك بن ثعلبة «قالت ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه فجادلني فيه وقال اتقي الله فإنه ابن عمك فما برحت حتى نزل القرآن قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ... إلخ فقال يعتق رقبة قالت: لا يجد. قال يصوم شهرين متتابعين قالت يا رسول الله: إنه شيخ كبير. قال فليطعم ستين مسكينا. قالت ما عنده شيء يتصدق به. قالت فأتي ساعتئذ بعرق من تمر قلت يا رسول الله فإني أعينه بعرق آخر. قال: قد أحسنت اذهبي فأطعمي عنه بها ستين مسكينا وارجعي إلى

ابن عمك» «1» . ولقد جاء في أوائل سورة الأحزاب آية احتوت تسفيها لعادة الظهار. وقد ذكرنا في سياق تفسيرها مدلول هذه العادة وأسبابها وأثرها في الجاهلية فلا نرى حاجة إلى التكرار. والمتبادر أن آية الأحزاب نزلت قبل هذه الآيات، فكانت خطوة أولى في تسفيه هذه العادة ثم جاءت هذه الآيات لتكون حاسمة في تشريع إبطالها. ولقد تعددت الأقوال في تخريج جملة ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا صرفيّا وفقهيّا ونحويّا حتى اعتبرها بعضهم من مشكلات القرآن. ومن هذه الأقوال أنها بمعنى العودة إلى الوطء أو بمعنى الندم والعودة عما قالوا أو فيما قالوا أو بمعنى العودة إلى عادة الجاهلية فيعتبرون الظهار طلاقا أو بمعنى العودة إلى لفظ الظهار ثانية. أو بمعنى العودة إلى تحليل ما حرّموه ونقض ما أبرموه «2» . ويبدو على ضوء الروايات الواردة أن أوجه الأقوال وأكثرها اتساقا مع فحوى الآيات كون الجملة بمعنى الندم والرغبة في العودة عما قالوا وتحليل ما حرموا ونقض ما أبرموا حيث جعل الله لهم فرصة لذلك بالكفارة قبل التماسّ. وجملة وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ تكون في مقامها بمعنى إن الله تعالى حينئذ يعفو عمن ظاهر من امرأته فارتكب منكرا من القول وزورا. نقول هذا ونحن غير مطمئنين تماما إلى كون معنى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا هو (ثم يعودون عما قالوا) لأن في السورة آية تأتي بعد قليل فيها تعبير مماثل ولا يمكن أن يؤول بهذا التأويل، فضلا عن كون هذا التأويل غير مستقيم لغويّا. وهي أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ [المجادلة: 8] . وقد كان الأوجه أن تؤول تأويلا يتسق مع ذلك فيكون معنى الجملة (ثم

_ (1) التاج ج 4 ص 288 فصل التفسير، وأصحاب السنن هم: أبو داود والترمذي والنسائي. وفي تفسير ابن كثير صيغ أخرى لرواية هذا الحادث مختلفة في التفصيل متفقة في النتائج فاكتفينا بما أوردناه. (2) انظر تفسير الطبري والطبرسي والبغوي وابن كثير والخازن والزمخشري.

يعودون إلى المظاهرة مرة أخرى) وتكون جملة وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ في صدد عفو الله عن الذين صدر منهم المظاهرة قبل نزول الآيات لو لم ترد الروايات التي روى جوهرها أصحاب السنن بالأسلوب الذي وردت به. والله أعلم. والمستفاد من أقوال المفسرين أنه لا يترتب كفارة على من لا يريد أن يعود إلى معاشرة زوجته جنسيا. وقد يكون هذا متسقا مع فحوى الآية. غير أن المتبادر أن الزوج في مثل هذه الحالة يظل موضع سخط الله المنطوي في الآيات لأنه قال منكرا من القول وزورا ولم يرجع عنه ليستحق عفو الله وغفرانه. ولقد قال الزمخشري إن المظاهر إذا امتنع عن الكفارة فلا مرأته أن تراجع القاضي وعلى القاضي أن يجبره على الكفارة وأن يحبسه حتى يكفر. لأن في امتناعه ضررا بحق زوجته. ولا يخلو هذا من وجاهة. لأن فيه حماية للمرأة التي استهدفها القرآن والسنة في مختلف المناسبات على ما مرّ التنبيه عليه. لولا أن تكون مسألة حبس المظاهر حتى يكفر تتحمل التوقف. فقد لا يكون في استطاعته التكفير وقد يظل مصرا على عدم التكفير ولا يعقل أن يظل محبوسا إلى آخر العمر. ولم نر أحدا من المفسرين فيما اطلعنا عليه فرض حالة إصرار الزوج المظاهر على الامتناع عن الكفارة. ولم نطلع في ذلك على أثر نبوي أو راشدي. ولما كان من أهداف الظهار في الجاهلية تعليق الزوجة حتى لا تكون زوجة ولا مطلقة كالإيلاء على ما شرحناه في سياق آيات سورة البقرة [226- 227] وآية سورة الأحزاب [4] فالذي يتبادر لنا أن هذه الحالة تقاس على حالة الإيلاء. وآيات الإيلاء في البقرة جعلت لهذه الحالة مدة أربعة أشهر فإما أن يراجع الزوج زوجته وإما أن تعد طالقة منه طلقة بائنة على ما شرحناه أيضا في سياق شرحها. فيصح والحالة هذه أن يقال إن على المظاهر إما أن يكفر ويعود إلى معاشرة زوجته وإما أن تطلق منه طلقة بائنة. ولما لم يكن للكفارة مدة فإن للحاكم أن يعين مدة لها فإذا لم يكفر المظاهر خلالها ويعود إلى زوجته طلق الزوجة منه طلقة بائنة حماية لها من بقائها معلقة لا زوجة ولا مطلقة. وقد يصح أن تجعل المدة القصوى للإيلاء

مدة قصوى للظهار بحيث يطلق القاضي عليه إذا لم يكفر المظاهر خلالها أو تطلق منه طلقة بائنة تلقائيا. والله أعلم. وفي كتب التفسير تعليقات وتفريعات أخرى حول هذه المسألة كثير منها معزوّ إلى ابن عباس ولبعض التابعين وإلى الأئمة أبي حنيفة والشافعي والحنبلي والمالكي وأبي يوسف. وبينها خلاف. نوجز أهمها مما يتصل بفحوى الآيات فيما يلي مع التعليق عليها بما يعنّ لنا «1» : 1- من الأئمة من قال إن الظهار يتحقق والكفارة تصبح واجبة إذا قال الرجل لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي أو كبطن أمي أو كفخذ أمي، أي دون أن يقتصر على الظهر. وقد لا يخلو هذا من وجاهة من حيث القياس والهدف. مع التنبيه على أن الظهار الجاهلي الذي هو المقصود كان يستعمل فيه الظهر. ومنه جاءت التسمية. 2- من الأئمة من قال إن الظهار يتحقق والكفارة تصبح واجبة إذا قال الرجل لامرأته أنت عليّ كظهر أختي أو بنتي أو عمتي أو خالتي، أي ما هو محرم عليه نكاحه من النساء. ومنهم من قال إن الظهار لا يتحقق إلّا بتشبيه الزوجة بالأم أخذا بنصّ الآية. وهذا القول هو الأوجه المتسق مع النصّ. وإن كان القول الأول قد يكون صحيحا من حيث القياس والهدف أيضا. 3- ومنهم من قال إن الظهار لا يجعل الوطء فقط محرما قبل الكفارة بل يجعل كل نوع من الاستمتاع ببدن المرأة أيضا حراما. ومنهم من قال لا يحرم إلّا الوطء فقط. وكلا القولين وجيه، وإن كنا نرجح الثاني لأن الآية إنما نهت عن التماس قبل الكفارة. والتماس هو الوطء على ما يستفاد من آيات في سورتي البقرة والأحزاب عبر بها عن الوطء بالمسّ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة: 236] ويا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها [الأحزاب: 49] .

_ (1) انظر الخازن بخاصة لأنه استوعب أكثر المسائل.

ولقد روى المفسرون حادثة بصيغ عديدة جاء في إحداها «أن سلمة بن صخر البياضي قال: كنت امرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري فلما دخل رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئا فظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان فبينما هي تحدثني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شيء فلم ألبث أن نزوت عليها فلما أصبحت خرجت إلى قومي فأخبرتهم الخبر وقلت لهم: امشوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لا والله فانطلقت إلى رسول الله فأخبرته فقال: أنت بذاك يا سلمة قلت: أنا بذاك يا رسول الله مرتين وأنا صابر لأمر الله فاحكم بما أمرك الله به، قال: حرّر رقبة قلت: والذي بعثك بالحق نبيا ما أملك رقبة غيرها وضربت صفحة رقبتي، قال: فصم شهرين متتابعين، قال: وهل أصبت بالذي أصبت إلّا من الصيام، قال: فاطعم وسقا من تمر ستين مسكينا، قلت: والذي بعثك بالحق نبيا لقد بتنا وحشين لا نملك لنا طعاما. قال: فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق (أي الموظف) فليدفعها إليك فأطعم ستين مسكينا وسقا من تمر وكل أنت وعيالك بقيتها فرجعت إلى قومي فقلت وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ووجدت عند النبي صلى الله عليه وسلم السعة وحسن الرأي وقد أمر لي بصدقتكم» «1» وقد روى هذا النص أبو داود والترمذي أيضا «2» وقد روى أبو داود والترمذي والنسائي حديثا آخر من هذا الباب عن ابن عباس جاء فيه (أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر فقال: وما حملك على ذلك يرحمك الله؟ قال؟ رأيت خلخالها في ضوء القمر قال: فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به» «3» . والحديثان من الأحاديث المعتبرة حيث يمكن أن يقال في هذه الحالة إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى من الحكمة أن يهون على الرجل في أمر جرى وانقضى ولا سيما أن التشريع القرآني جاء لإلغاء تقليد الظهار الجاهلي وما يترتب عليه من تحريم وطء الزوجة. وإن الكفارة قد شرعت

_ (1) النص منقول عن الخازن وقد أورده البغوي بخلاف يسير. (2) التاج ج 2 ص 323. (3) المصدر نفسه ص 322 وأورد هذا الحديث بخلاف يسير ابن كثير والزمخشري أيضا. وفي نصّ الزمخشري ورد اسم سلمة بن صخر حيث قد يفيد هذا أن الحادث واحد.

كعقوبة على من يظاهر امرأته ويحرم على نفسه وطئها تبعا لذلك. ومع ذلك فالواضح من نصّ الحديثين وروحهما أنهما لا يبيحان الوطء قبل الكفارة، حيث تظل القاعدة الحكمية وهي حرمة الوطء قبل الكفارة محكمة. والله أعلم. وفي ما جرى من حوار بين النبي صلى الله عليه وسلم وسلمة الوارد في الحديث الأول ومساعدة النبي صلى الله عليه وسلم له على الكفارة من بيت المال ما يفيد إيجاب تنفيذ أمر الله بالكفارة بأية وسيلة كانت وعدم جواز تركها واستحلال وطء الزوجة بدونها. وإيجاب مساعدة بيت المال لغير القادرين على الصوم على الكفارة المالية ولو بإطعام ستين مسكينا. والله أعلم. 4- من الأئمة من أجاز عتق رقبة كافرة أو ذمية لأن العبارة القرآنية مطلقة. ومنهم من لم يجز ذلك قياسا على كفارة قتل الخطأ المشابهة بعض الشيء لكفارة الظهار باستثناء إطعام ستين مسكينا والتي قيدت الرقبة في الآية التي وردت فيها بقيد مؤمنة فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ ... [النساء: 92] والقول الثاني هو الأوجه فيما نرى إلا في حالة عدم وجود رقبة مؤمنة. 5- اتفق الأئمة على أن كفارة الظهار تتكرر كلما تكرر صدوره إلّا إذا كان التكرار في مجلس واحد. وهذا وجيه وصواب. وقد يكون من الصواب أيضا أن التكرار لو لم يكن في مجلس واحد وكان قبل الكفارة كفت كفارة واحدة والله أعلم. 6- أكثر الأئمة على أن ترتيب أنواع الكفارة واجب المراعاة فالأوجب هو تحرير رقبة أولا فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا. وهذا حق متسق مع نص الآيات وروحها. غير أن هناك من أجاز الإخلال بالترتيب لمعذرة. فأجاز الصيام دون عتق الرقبة لمن عنده رقبة إذا كان لا يستغني عنها أو لمن عنده ما يشتري به رقبة إذا كان لا يستغني عن ثمنها لنفقة عياله. وأجاز الانتقال من الصيام إلى إطعام الطعام لمن اشتد به الشبق ولم يستطع الصبر إلى الانتهاء من صيام الشهرين. ولسنا نرى في

هذا بأسا أيضا عملا بالمبادىء القرآنية التي أباحت المحظور للمضطر. ولم تكلف نفس إلّا وسعها على ما مرّ شرحه في مناسبات عديدة سابقة. 7- وهناك من أجاز لمن لم يقدر على عتق الرقبة وصيام شهرين متتابعين وأراد إطعام المساكين الستين أن يطأ زوجته قبل الإطعام أيضا استنباطا من تأخير هذا عن العملين الأولين في ترتيب النصّ القرآني. ونرى في هذا بعدا عن روح الآيات لأن جملة إطعام الطعام تابعة للكلام الأول ومعطوفة عليه وتتمة له. 8- وهناك من أساغ وطء زوجته في ليالي صيامه الشهرين لأنه باشر القيام بواجب الكفارة. ونقول هنا ما قلناه في صدد القول الأول. 9- والمستفاد من أقوال المفسرين المعزوة إلى أئمة الفقه أو الواجب هو إطعام ستين مسكينا طعام يوم كامل من الطعام الذي يقتات به أهل البلد. وهو صواب. ومنهم من أجاز إطعام مسكين واحد ستين يوما ومنهم من أوجب مراعاة النصّ القرآني وهو الأوجه فيما نرى. هذا، وفي الآيات أمور جديرة بالتنبيه والتعليق: فأولا: إنها توخت رفع الحيف والظلم عن المرأة وكانت مظهرا آخر من مظاهر عناية القرآن بها. وثانيا: إن في الكفارة المفروضة وسيلة إلى تحرير العبيد والبرّ بالمساكين. وهذا وذاك مما حثّ عليهما القرآن في مواضع عديدة. وثالثا: إن الآية الأولى بخاصة احتوت صورة قوية لشخصية المرأة العربية المسلمة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في مجادلتها عن حقها ومحاولة دفع الضيم عنها وفي ما انتهى الموقف إليه من سماع الله لقولها وإنزاله قرآنا بإنصافها وحمايتها. وفي هذا سند يسند حق المرأة المسلمة في الدفاع عن نفسها، واحترام هذا الحق وما يترتب عليه من التسليم لها به من قبل أولياء الأمر والأفراد والأزواج. وفيه أسوة حسنة دائمة للمرأة المسلمة تتأسى به في كل ظرف ومكان في الجرأة والدفاع عن حقها أمام أولياء الأمر والأفراد والأزواج. وفيه دليل على أن المرأة العربية

[سورة المجادلة (58) : الآيات 5 إلى 6]

المسلمة كانت في حالة عقلية وشخصية تجعلها تقف مثل هذا الموقف. وفي القرآن والآثار أدلة كثيرة مؤيدة. وقد مرّت أمثلة منها في المناسبات السابقة. [سورة المجادلة (58) : الآيات 5 الى 6] إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) . (1) يحادّون: يشاقّون ويعادون. (2) كبتوا: ذلوا وخزوا وأهلكوا. عبارة الآيتين واضحة. وفيهما تقرير إنذاري وتنديدي بالذين يشاقون الله ورسوله: فهؤلاء مصيرهم إلى الذل والخزي والهلاك كما كان مصير أمثالهم من قبلهم. والله إنما ينزل آياته واضحات ليتعظ الناس بها والكافرون هم الذين لا يتعظون بها. فلهم عند الله العذاب الأليم. ولسوف يبعثهم جميعا إليه وينبئهم بأعمالهم فيرونها محصاة عليهم في حين قد يكونون هم أنفسهم نسوها وذهلوا عنها. لأن الله لا يخفى عليه شيء. وهو شهيد ومطلع على كل شيء. ولم نطلع على رواية في صدد نزول الآيتين. وهناك احتمالان: الأول أن تكونا معقبتين على السياق السابق الذي انتهى بتقرير كون ما جاء فيه هو حدود الله وبإنذار الكافرين بعذاب أليم. والثاني أن تكونا بداية ومقدمة للسياق الآتي الذي احتوى تنديدا بفريق من المتظاهرين بالإسلام كانوا يتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول. وكلا الاحتمالين وارد بنفس القوة. فإذا صح الاحتمال الأول تكون الصلة قائمة بين الآيتين وما سبقها. وفي حالة صحة الاحتمال الثاني فمن المحتمل أن تكون الآيات نزلت عقب الآيات السابقة فوضعت بعدها في السورة. وإلّا فتكون وضعت بعدها لما يجمع بينها وبين سابقها من إنذار الكافرين. والله أعلم.

[سورة المجادلة (58) : الآيات 7 إلى 10]

[سورة المجادلة (58) : الآيات 7 الى 10] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) . (1) نجوى: اجتماع سرّي أو مساررة حديث. (2) يتناجون: يتسارّون أو يتحدثون في مجالسهم السرّية. (3) لولا: هنا بمعنى هلّا للتحدي. تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور خبيثة عن اليهود والمنافقين وما فيها من تحذير وتلقين عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت: (1) تقريرا وتوكيدا بعلم الله تعالى لكل ما يعمله الناس بالسرّ والعلن مهما بالغوا بالتخفي والمساررة وكونهم تحت رقابته الدائمة الشاملة. (2) وتنديدا بفريق من الناس نهوا عن الاجتماعات السرّية فلم ينتهوا وظلوا يعقدون هذه الاجتماعات ويتحدثون فيها بما فيه الإثم والعدوان ومعصية الرسول. ثم بلغ من تحديهم وسوء أدبهم أنهم كانوا إذا جاءوا إلى الرسول حيّوه بغير تحية الله وقالوا في أنفسهم هلّا عذبنا الله على ما نقول ونفعل.

(3) وتحذيرا للمؤمنين المخلصين من مثل ذلك وحثّا على عمل ما هو الأمثل بهم وهو التناجي بما فيه البرّ والتقوى إذا اجتمعوا في مجالس خاصة وتقوى الله الذي سوف يحشرون إليه. (4) وتنبيها تطمينيا لهم: فإذا تسارر فريق من الناس بما فيه إثم وكيد فالشيطان هو الذي يوسوس لهم بذلك ليحزنهم. غير أنهم لن يضروهم بشيء إلّا بإذن الله وعليهم أن يتكلوا عليه فهو وحده الذي يتوكّل عليه المؤمنون. والآيات فصل جديد كما هو المتبادر إلّا احتمال كون الآيتين السابقتين مقدمة له. والمتبادر أن الآية الأولى منها في مثابة تمهيد أو مقدمة للآيات الثلاث التالية لها. وقد روى المفسرون «1» أن الآية الثانية نزلت في جماعة من المنافقين واليهود كانوا يعقدون مجالس خاصة يتحدثون فيها بما فيه كيد وتآمر على النبي والمؤمنين وكانوا يفعلون هذا في ظروف الأعمال الجهادية والأزمات، وإذا مرّ بهم فريق من المؤمنين المخلصين غمزوا نحوهم فكان ذلك يثير الهمّ والقلق فيهم فشكوا إلى رسول الله. كما رووا أنها عنت أيضا اليهود الذين كانوا يستعملون جملة (السام عليكم) بدلا من السلام عليكم إذا دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم. وهناك حديث رواه الشيخان والترمذي عن عائشة أم المؤمنين قالت «دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا السام عليكم ففهمتها فقلت عليكم السام واللعنة فقال رسول الله مهلا يا عائشة فإن الله يحبّ الرفق في الأمر كلّه فقلت يا رسول الله أو لم تسمع ما قالوا؟ قال فقد قلت وعليكم» وفي رواية لمسلم «فسمعت عائشة فسبّتهم فقال رسول الله مه يا عائشة فإن الله لا يحبّ الفحش ولا التفحّش فأنزل الله عزّ وجل وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ» «2» . وهكذا تكون الروايات والحديث قد قسمت الآية الثانية إلى قسمين وجعلت

_ (1) انظر البغوي والخازن والطبرسي وابن كثير. (2) التاج ج 5 ص 227.

لنزول كل قسم مناسبة خاصة، هذا في حين أن قوة الانسجام ظاهرة بين الآيات الأربع بحيث تسوغ ترجيح نزولها دفعة واحدة. وهذا لا ينقض صحة الحديث والرواية حيث يصح القول إن ما روي جميعه قد وقع قبل نزول الآيات مع شيء آخر هو ما تفيده الآية الثانية من نهي الفريق المعني فيها عن التناجي الآثم فلم يرتدع فاقتضت حكمة التنزيل إنزال الآيات الأربع منبهة منددة منذرة مرشدة ومطمئنة. ولقد روى الترمذي في فصل التفسير حديثا عن أنس قال «أتى يهوديّ على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال السام عليكم فردّ عليه القوم فقال نبي الله هل تدرون ما قال هذا؟ قالوا الله ورسوله أعلم. سلّم يا نبي الله. قال لا ولكنه قال كذا وكذا ردوه عليّ فردوه فقال قلت السام عليكم. قال نعم. قال صلى الله عليه وسلم عند ذلك إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا عليك ما قلت قال وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ» «1» . ومع أن الرواية والأحاديث تذكر أن اليهود هم الذين كانوا يحيون النبي بما لم يحيّه به الله فإن الجملة القرآنية شاملة للذين حكت تناجيهم بالإثم والعدوان وروت الرواية أنهم كانوا فريقا خليطا من المنافقين واليهود فإما أن تكون الآية احتوت الإشارة إلى هذا في مناسبة التنديد بتناجي هذا الفريق الخليط الآثم. أو أن المنافقين أيضا صاروا يقلدون اليهود في تحيتهم الخبيثة. وإذا صحّ أن المنافقين كانوا فريقا من المتناجين مع اليهود فيكون هذا قرينة على أن هذا الفصل قد نزل قبل الفصل الذي احتوى خبر وقعتي الخندق والتنكيل ببني قريظة الواردة في سورة الأحزاب أو على أن فصل سورة الأحزاب المذكور نزل بعده على ما نبهنا عليه في مقدمة السورة. وعلى كل حال ففي الآية الثانية بخاصة صورة للمواقف الخبيثة التي كان

_ (1) التاج ج 4 ص 228- 229.

يقفها اليهود والمنافقون ضد النبي والمخلصين والتي حكت مثلها آيات كثيرة مرّت أمثلة عديدة منها. ومع خصوصية الآيات فإنها تحتوي تلقينات وتأديبات اجتماعية عامة وعظات بليغة مستمرة المدى: (1) بوجوب مراقبة الله والإيقان بأنه شاهد على كل شيء. (2) وبوجوب الحذر نتيجة لذلك من الكيد والأذى والتآمر بالسوء سرّا وجهرا. (3) وبوجوب اجتناب ما من شأنه إثارة القلق في المجتمع بالاجتماعات والمجالس السرية المريبة. (4) وبوجوب مراعاة عواطف الناس وشعورهم وبخاصة في أوقات أزماتهم. (5) وبحظر التآمر في المجالس والاجتماعات السرية على ما فيه بغي وإثم ومعصية، وبتقبيحه. (6) وبوجوب تجنب الألفاظ المريبة في التحية والمعاشرة والآداب السلوكية مع الناس. (7) وبحق الحاكم وولي الأمر في النهي عن كل ذلك وزجر الذين يفعلونه. (8) وبتقرير كون الأمثل للمؤمنين ألا يتناجوا ولا يتحدثوا في مجالسهم إلّا بما فيه خير وبرّ ونفع وتقوى وأن ينزهوها عن كل ما فيه إثم وعدوان. ولقد روى البغوي بطرقه في سياق هذه الآيات حديثا عن ابن عمر قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلّا بإذنه فإن ذلك يحزنه» «1» حيث ينطوي في الحديث تأديب سلوكي نبوي رفيع للمسلمين مستمر المدى.

_ (1) أورد هذا النص ابن كثير من رواية الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود كما أورده عن ابن عمر برواية مسلم. الجزء الثامن من التفسير الحديث 31

[سورة المجادلة (58) : آية 11]

[سورة المجادلة (58) : آية 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) . (1) تفسّحوا: بمعنى افسحوا ووسعوا لبعضكم. (2) انشزوا: انهضوا. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا ... وما فيها من تأديب وتلقين وما ورد في ذلك وفي فضل العلماء من أحاديث عبارة الآية واضحة. وفيها: (1) أمر للمسلمين بالتوسيع والتفسح لبعضهم في المجالس حتى ولو اقتضى ذلك النهوض منها إذا طلب منهم. (2) وتنويه وتطييب بالذين يفعلون ذلك. والآية فصل جديد. وقد روى المفسرون أن المسلمين كانوا يتحلقون حول النبي صلى الله عليه وسلم ويتزاحمون على التقرب منه فكان يأتي آخرون فلا يجدون مكانا فيظلون وقوفا وكان النبي يرغب في تكريم بعض كبار أصحابه أو رجال بدر في مجالسه فيطلب من أحد الجالسين إعطاء مجلسه لغيره فيستثقل ويكره فأنزل الله الآية ليكون فيها تأديب وتطييب «1» . والرواية وجيهة ومتسقة مع روح الآية كما يبدو. ولعل بعض الناس كانوا إذ لا يجدون مكانا يجلسون لحدتهم فيكون ذلك وسيلة للتسارر والتناجي أو لعل المنافقين بخاصة كانوا يفعلون ذلك فتوخت الآية إفساح المجالس حتى لا يكون ضيقها عذرا لهؤلاء. وإذا صح هذا فتكون المناسبة قائمة بشكل ما بين الآية

_ (1) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي. [.....]

وسابقاتها ويكون وضعها بعدها بسبب ذلك إذا لم تكن نزلت بعدها مباشرة. وعلى كل حال فإن هناك تناسبا موضوعيّا بين الآية وسابقاتها من حيث احتواؤها تأديبا وتعليما للمسلمين. ويصح أن يكون ذلك سبب وضعها بعده أيضا. والله أعلم. وإطلاق الخطاب في الآية يجعل التأديب والتنويه والتطييب الذي احتوته عام الشمول في المواقف والمناسبات المماثلة كما هو واضح. ويمكن أن يلمح في الفقرة الثانية بالإضافة إلى معنى التطييب معنى الإشادة بطبقتي العلماء والورعين وإيجاب تقديمهما على غيرهما، كما يمكن أن يلمح فيها تلقين روحي بليغ المدى بكون رفعة القدر إنما يجب أن تلتمس بالخلق الكريم والذوق السليم والأدب في المجالس وبالعقل والعلم وليس بالمظاهر والبروز في المجالس. ولقد أورد المفسرون «1» أحاديث نبوية عديدة في سياق هذه الآية وما فيها من تأديب وتلقين. منها ما ورد في الكتب الخمسة ومنها ما ورد في غيرها. وما ورد في غيرها لا يبعد عمّا ورد فيها. منها حديث عن ابن عمر قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه فيجلس فيه ولكن تفسّحوا وتوسّعوا» «2» . وحديث عن عبد الله بن مسعود قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقيمنّ أحدكم أخاه يوم الجمعة ولكن ليقل افسحوا» «3» . وحديث عن أبي هريرة قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يقم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه. ولكن افسحوا يفسح الله لكم» «4» . وحديث رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحلّ لرجل أن يفرّق بين اثنين إلّا بإذنهما» «5» . وقد روى الإمام أبو عبيد بن القاسم بن سلام عن

_ (1) الطبري والخازن وابن كثير والبغوي والزمخشري. (2) النص من ابن كثير. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه.

ابن عمر «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أن يخلف الرجل الرجل في مجلسه إذا قام وإذا رجع فهو أحق به» «1» . وليس من تناقض بين النهي عن أن يقيم الرجل من مجلسه والأمر بالنشوز إذا قيل للجالسين انشزوا. فهذا على الأغلب قد منح للنبي صلى الله عليه وسلم لإجلاس الناس في مراتبهم ويظل منوطا بمن يكون في مقامه بعده على ما هو المتبادر. أما حديث ابن عمر فالمتبادر منه هو النهي عن الجلوس في مجلس شخص قام لضرورة على أن يعود. ولقد تطرق المفسرون إلى القيام للقادم احتراما وترتيب الناس في مجالسهم فرووا روايات عديدة أخرى، منها ما يفيد ترخيص القيام حيث روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأوس حينما استدعى زعيمهم سعد بن معاذ ليحكم في قضية بني قريظة «قوموا لسيّدكم» «2» ومنها ما يفيد منع القيام حيث روي «أن معاوية خرج على ابن الزبير وابن عامر فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير فقال معاوية لابن عامر: اجلس فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من أحبّ أن يمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار، وفي رواية من سرّه بدلا من أحبّ» «3» . وقد روى أبو داود وابن ماجه حديثا عن أبي أمامة قال «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئا على عصا فقمنا إليه فقال لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظّم بعضها بعضا» «4» . وروى الترمذي عن أنس قال «لم يكن شخص أحبّ إليهم من النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك» «5» وجاء في السنن «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجلس حيث انتهى به المجلس ولكن حيث يجلس يكون صدر المجلس فكان الصحابة رضي الله عنهم يجلسون منه على مراتبهم فالصدّيق عن يمينه وعمر عن يساره وبين يديه

_ (1) كتاب الأموال ص 86. (2) أورده ابن كثير. وهذا النص مما رواه الشيخان وأبو داود عن أبي سعيد الخدري انظر التاج ج 5 ص 231. (3) من ابن كثير. والنص مما رواه أبو داود والترمذي انظر التاج ج 5 ص 223 أيضا. (4) التاج ج 5 ص 232. (5) المصدر نفسه ص 232.

عثمان وعليّ لأنهما كانا يكتبان الوحي» «1» . وقد روي حديث عن ابن مسعود «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول ليلني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» «2» . وقد روى الشيخان والترمذي والنسائي حديثا عن أبي واقد قال «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس حوله إذ أقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان فوقفا على رسول الله فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها وأما الآخر فجلس خلفهم وأما الثالث فأدبر ذاهبا فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا أخبركم عن النفر الثلاثة أما أحدهم فأوى إلى الله فأواه الله وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه» «3» . ولقد أراد بعضهم التوفيق بين الحديث الأول والحديثين الثاني والثالث من جواز القيام للقادم وعدمه، فقالوا إن السنّة هي كراهية القيام وإن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقيام لسعد بن معاذ قد كان لحكمة اقتضاها الظرف الخاص. ولقد أورد المفسر القاسمي فتوى للإمام ابن تيمية فيها كثير من الوجاهة. فقد قرر الإمام ما تقدم من جهة وحسّن القيام لمن يقدم من سفر ونحو ذلك تلقيا له من جهة. وقال من جهة ثالثة: إذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام ولو ترك لاعتقد أن ذلك بخس في حقه أو قصد لخفضه ولم يعلم العادة الموافقة للسنة فالأصلح أن يقام له لأن ذلك إصلاح لذات البين وإزالة للتباغض والشحناء. فإنه يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما كما يجب فعل أعظم الصلاحين بتفويت أدناهما. ولقد تطرق المفسرون كذلك إلى فضل الذين أوتوا العلم بمناسبة ورود العبارة في الآية فرووا أحاديث متعددة منها حديث عن أبي الدرداء قال «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة. وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم. وإن السموات والأرض والحوت في الماء لتدعو له. وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر

_ (1) من ابن كثير عن مسلم. (2) من ابن كثير. (3) من ابن كثير انظر أيضا التاج ج 1 ص 53.

[سورة المجادلة (58) : آية 12]

على سائر الكواكب. وإن العلماء ورثة الأنبياء. لم يورثوا دينارا ولا درهما. وإنما ورثوا العلم. فمن أخذه أخذ بحظّ وافر» «1» . ومنها حديث عن عبد الله بن عمرو جاء فيه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بمجلسين في مسجده، أحد المجلسين يدعون الله ويرغبون إليه والآخر يتعلمون الفقه ويعلّمونه فقال كلا المجلسين على خير وأحدهما أفضل من صاحبه. أما هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إليه فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم. وأما هؤلاء فيتعلّمون الفقه ويعلّمون الجاهل فهؤلاء أفضل وإنما بعثت معلّما» «2» . ولقد روى الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الكلمة الحكمة ضالّة المؤمن فحيث وجدها فهو أحقّ بها. وفي رواية من طلب العلم كان كفّارة لما مضى» «3» . وروي عن ابن أبي أمامة قال «ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما عابد والآخر عالم فقال فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم. ثم قال إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلّون على معلّم الناس الخير» «4» . وفي كل ما تقدم عبر وحكم ومواعظ وتلقين للمسلمين في كل زمان ومكان. [سورة المجادلة (58) : آية 12] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) . تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً عبارة الآية واضحة. وفيها أمر للمسلمين بأن يعطوا صدقة ما حينما يريدون

_ (1) النص من تفسير البغوي. وقد روى هذا الحديث أبو داود والترمذي بخلاف يسير انظر التاج ج 1 ص 54- 55. [.....] (2) من البغوي أيضا. (3) التاج ج 1 ص 55- 56. (4) المصدر نفسه.

أن يجتمعوا مع النبي اجتماعا خاصا ويتحدثوا معه في أمر ما. ففي ذلك خير وثواب لهم وتطهير لأنفسهم مع استثناء الفقراء الذين ليس معهم ما يعطونه. فإن الله غفور رحيم. ولقد روى المفسرون «1» أن الناس سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم فأكثروا حتى شقّ عليه وثقل فأراد الله أن يخفف عنه فأمرهم بتقديم صدقة بين يدي أسئلتهم واستفتاءاتهم كما رووا أن الأغنياء كانوا يغلبون الفقراء على مجالس النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآية ليكون فيها إفساح وتفريج للفقراء. ولسنا نرى الروايات معقولة ولا مما يصح أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما أننا لا نراها متسقة مع مضمون الآية. وليست واردة بعد في كتب الحديث المعتبرة. ويتبادر لنا أن حكمة فرض هذه الصدقة بين يدي مناجاة أحد من المسلمين لرسول الله هو جعل مراجعات الناس للنبي صلى الله عليه وسلم في قضاياهم ومشاكلهم الخاصة وسيلة من وسائل أخذ بعض المال من ميسوريهم لإنفاقه على المحتاجين والمصالح العامة. أو بتعبير آخر وضع رسم قضاء وفتوى على نحو ما كان مألوفا ومعتادا عليه في القضاء العربي قبل الإسلام. وقد سمته الآية صدقة لأنه لم يكن لشخص النبي صلى الله عليه وسلم الذي لم تحل له الصدقة «2» ، وإنما أريد لمصلحة المسلمين العامة وفقرائهم. وقد كانت الزكاة تسمى صدقة أيضا وهي شريعة مفروضة. وتعبير إِذا ناجَيْتُمُ يفيد معنى الاجتماع الخاص من أجل عرض قضية أو مشكلة خاصة للاستفتاء أو التقاضي. ويجوز أن تكون حكمة التنزيل اقتضت ذلك حينما أخذت استفتاءات الناس الخاصة تكثر على النبي صلى الله عليه وسلم لتكون تلك الوسيلة. ويجوز أن يكون ذلك انبثق في نفس النبي صلى الله عليه وسلم أولا فأيدته حكمة التنزيل قرآنا. وفي القرآن

_ (1) انظر الطبري والبغوي والخازن والزمخشري والطبرسي. (2) روى الشيخان عن أبي هريرة قال «أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال النبي كخ كخ ليطرحها ثم قال أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة، ولمسلم أما علمت أنا لا تحل لنا الصدقة» التاج ج 3 ص 30.

أمثلة لذلك على ما شرحناه في سياق آية البقرة التي فيها قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ... [144] والله تعالى أعلم. ولقد روى المفسرون حديثا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «لما نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ ... قال لي النبي صلى الله عليه وسلم ما ترى دينارا. قلت لا يطيقونه. قال فنصف دينار. قلت لا يطيقونه قال: فكم، قلت حبة أو شعرة. قال إنك لزهيد» «1» وقد يكون في هذا الحديث الذي رواه الترمذي أيضا دعم لما تبادر لنا من حكمة التكليف. والله أعلم. وإتماما للحديث نذكر أن في كتب الحديث الصحيحة أي كتب صحيحي البخاري ومسلم وسنن أبي داود وجامع الترمذي أحاديث عديدة تذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم أن الصدقة لا تحلّ له ولا لآله. ومصداقه ذلك في القرآن الكريم أيضا حيث لم يجعل لرسول الله نصيب في الصدقات كما جاء في آية سورة التوبة هذه: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ [60] بينما جعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم نصيب خمس الغنائم كما جاء في آية سورة الأنفال هذه: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [41] . وجعل له نصيب في الفيء أيضا وهو ما عاد على المسلمين من الأعداء بدون حرب كما جاء في آية سورة الحشر هذه: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [7] فتكون الصدقة التي أمر الله المسلمين بتقديمها بين يدي نجواه قد أريد بها مورد لبيت المال لإنفاقه على مصالح المسلمين وفقرائهم كما ذكرنا، والله أعلم.

_ (1) انظر ابن كثير والبغوي وهذا الحديث ورد في التاج بدون حبة. انظر ج 4 ص 229 والشعرة وزن من أوزان الذهب.

[سورة المجادلة (58) : آية 13]

[سورة المجادلة (58) : آية 13] أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13) . تعليق على الآية أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ودلالتها على النسخ في القرآن وما فيها من صور متصلة بالعهد النبوي في المدينة عبارة الآية أيضا واضحة. وقد تضمنت: (1) سؤالا إنكاريا منطويا على عتاب موجه للمسلمين على ما كان من إشفاقهم أو استثقالهم للصدقة التي فرضتها الآية السابقة لها على مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم ثم من عدم تنفيذهم الأمر. (2) وإيذانا بالتخفيف عنهم: فقد تاب الله عليهم وأعفاهم من ذلك. وعليهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله ورسوله. وقد روى المفسرون أن فرض الصدقة على المناجاة كان شديد الوقع والأثر على المسلمين فتكلموا في ذلك فأنزل الله الآية «1» . والرواية متسقة مع فحوى الآية وروحها. ومضمون الآية وأسلوبها يسند وجاهة حكمة التكليف التي ألمعنا إليها قبل فلو كان لتقليل مراجعة الناس للنبي صلى الله عليه وسلم أو لإفساح مجال المراجعة للفقراء لما كان وجه للعتاب والعدول لأن المقصود قد حصل. وواضح أن الآية قد نسخت حكم الآية السابقة وهو ما عليه الجمهور «2» . ولقد روي عن مقاتل أن حكم الآية السابقة استمر عشر ليال ثم نسخ، وروي عن

_ (1) انظر البغوي والخازن. (2) انظر الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري.

علي بن أبي طالب وقتادة والكلبي أن هذا الحكم لم يكن إلّا ساعة من نهار ثم نسخ «1» . ومما روي أنه لم يعمل بالآية إلا علي بن أبي طالب نفسه حيث ناجى النبي صلى الله عليه وسلم وتصدق بدينار. وأن عليا قال إن آية المناجاة لم يعمل بها أحد قبلي ولا عمل بها أحد بعدي «2» . وهذا من أمثلة ما عليه الجمهور من وقوع نسخ في الأحكام القرآنية بأحكام قرآنية مع بقاء المنسوخ تلاوة على ما شرحناه في سياق آيات سورة النحل [100- 101] والبقرة [106] . على أن هناك من قال بعدم النسخ وإنما خفف في الآية التكليف عمن لا يريده وجعل على التخيير «3» . عبارة الآية تؤيد القول الأول كما هو المتبادر. والله أعلم. ومن المحتمل أن تكون الآية قد نزلت عقب نزول الآية الثانية بدون فاصل قرآني فوضعت بعدها. وإلّا فيكون ترتيبها للمناسبة الموضوعية. وفي الآية صورة لما كان يظهر من المسلمين من مواقف اللجاج والتلكؤ إزاء بعض التشريعات والتكليفات المالية والجهادية مما نبهنا عليه في سياق تشريع الأنفال- الغنائم الحربية- والفيء والجهاد في سور الأنفال والحشر والنساء. ونقول هنا ما قلناه في تلك المناسبات من أننا نرجح أن الذين استثقلوا التكليف الجديد وأشفقوا منه هم من المستجدين الذين كانوا يؤلفون أكثرية المسلمين وليسوا من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، الذين سجل الله رضاءه عنهم ورضاءهم عنه في آية سورة التوبة [100] وسجلت آيات عديدة مكية ومدنية استغراقهم في دين الله وطاعته وطاعة رسوله ورويت أحاديث عديدة بفضلهم وإخلاصهم أوردناها في مناسبات سابقة وتواترت الأخبار بأنهم كانوا يبادرون إلى تلقي كل أمر رباني ونبوي بالإذعان والقبول. والتشريعات إنما تقوم على الأكثرية وهذه صورة اجتماعية عامة تظهر في مثل هذه المناسبات في كل وقت ومكان. وقد اقتضت الحكمة العدول عن التكليف بسبب ذلك.

_ (1) انظر الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري. (2) المصدر نفسه. (3) انظر تفسير القاسمي.

[سورة المجادلة (58) : الآيات 14 إلى 21]

وفي المبادرة القرآنية أسوة حسنة لأولياء أمور المسلمين وحكامهم وزعمائهم فيما ليس فيه قرآن صريح أو معصية ومفسدة، حيث ينبغي عليهم مسايرة ظروف ورغبات أكثرية المسلمين في العدول عما يكونون طلبوه أو أوجبوه من تكاليف وأعمال. [سورة المجادلة (58) : الآيات 14 الى 21] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) . تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ والآيات الست التي بعدها وما فيها من صور وتلقين عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تنديدا واستنكارا وحملة شديدة وإنذارا لفريق كانوا يتولون ويتحالفون مع قوم ليسوا منهم ولا من المسلمين. وكانوا إذا ما عوتبوا حلفوا الأيمان الكاذبة بسبيل نفي ما عرف عنهم. وقد قررت الآيات واقع أمرهم بكونهم كاذبين قد استحوذ عليهم الشيطان وغدوا من حزبه وصاروا من الخاسرين وانتهت بتقرير كون الله قد حكم على كل من يشاققه ويحادده الذل. وأن الغلبة ستكون لله ورسله حتما. والآيات فصل جديد. وقد روي أنها نزلت في منافق اسمه عبد الله بن نبتل

[سورة المجادلة (58) : آية 22]

كان يحضر مجالس النبي صلى الله عليه وسلم ثم ينقل ما يجري فيها إلى اليهود ويشترك معهم في الغمز والسبّ والكيد. وقد جابهه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فأخذ يحلف أنه لم يفعل «1» . والرواية متسقة إجمالا مع مضمون الآيات. غير أن الآيات تفيد أن الفريق المندد به أكثر من شخص واحد. وهذا لا ينفي احتمال صحة رواية مناسبة النزول ولكن يلهم أنه كان لهذا المنافق أمثال. فاقتضت حكمة التنزيل شمولهم جميعا بالحملة الشديدة التي احتوتها الآيات مع تطمين قوي للنبي صلى الله عليه وسلم ووعد بالنصر والغلبة. وهكذا تكون الآيات قد احتوت صورة من المواقف الخبيثة التي كان يقفها المنافقون في الكيد والأذى والتضامن والتآمر مع اليهود. والراجح أن هذه الصورة غير الصورة التي احتوتها الآية الثامنة من هذه السورة وإن كان بينهما شيء من المماثلة. ومن المحتمل أن تكون الآيات قد نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت في ترتيبها. والآيات قرينة أخرى على أنها نزلت قبل الفصل الذي احتوى خبر وقعتي الخندق وبني قريظة الوارد في سورة الأحزاب أو على أن فصل سورة الأحزاب المذكورة قد نزل بعدها. والله أعلم. ومع خصوصية الآيات الزمنية فإن فيها تلقينا أخلاقيا واجتماعيا مستمر المدى بتقبيح وتشنيع وحظر التناصر والتضامن مع أعداء الأمة والملة وعدم التساهل مع من يفعل ذلك والوقوف منهم موقف الشدة والصرامة. [سورة المجادلة (58) : آية 22] لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) .

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والاسم في تفسير البغوي.

تعليق على الآية لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله وما فيها من قوة تلقين وصورة واقعية وتطورية

تعليق على الآية لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وما فيها من قوة تلقين وصورة واقعية وتطورية عبارة الآية واضحة. وفيها تنزيه قوي لصادقي الإيمان: فإنه لا يمكن أن يقف قوم مؤمنون بالله واليوم الآخر إيمانا صادقا موقف الموالاة والموادة لمن يشاقّ الله ورسوله ويحاددهم ويناصبهم العداء. ولو جمعت بينهم أشد روابط القربى كالأبوة أو النبوة أو الأخوة أو العصبية الرحمية. وفيها تنويه قوي بهم وبشرى لهم فالله قد كافأهم على إخلاصهم فملأ قلوبهم بالإيمان وأيدهم بروح وقوة منه ورضي عنهم ورضوا عنه. ولسوف يدخلهم الجنات التي تجري تحتها الأنهار فتكون مثواهم الخالد. وإنهم حزب الله وإن حزب الله هم المفلحون. ولقد ذكر المفسرون «1» أنها نزلت بسبيل التنويه بأبي بكر أو أبي عبيدة أو بمصعب بن عمير أو بعلي وحمزة رضي الله عنهم جميعا على اختلاف الروايات بسبب ما بدا منهم من موقف قوي شديد ضد آبائهم وذوي أرحامهم الكفار. ونحن نتوقف في هذه الرواية التي لم ترد في كتب الحديث المعتبرة ونلحظ أن للآية اتصالا قويا بالآيات السابقة وأنها جاءت معقبة عليها بسبيل توكيد كون المخلصين في إيمانهم منزهين عن فعل ما يفعله المنافقون الذين حكت الآيات السابقة صورة من مواقفهم. ومهما يكن من أمر فأسلوب الآية قوي أخّاذ نافذ إلى أعماق النفس. وأن

_ (1) انظر تفسير البغوي وابن كثير والخازن.

روحها ومضمونها يلهمان أنها بالإضافة إلى ما هي بسبيل تقريره- من قبيل المقابلة والتساوق مع الآيات السابقة على ما رجحناه- تعني تلك الفئة الراسخة في إيمانها المخلصة في نصرتها لله ورسوله من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم وساروا على سيرتهم والذين لم يعد يؤثر في إيمانهم وإخلاصهم أي اعتبار من قربى ودم ومصلحة دنيوية ومادية لأنها فنيت في الله ودينه وتأييد رسوله. وإنها بالتالي احتوت صورة قوية ساطعة النور لهذه الفئة الكريمة الطاهرة التي التفت حول رسول الله صلى الله عليه وسلم وناصرته والتي قام الإسلام وتوطد على أكتافها بالدرجة الأولى بعد الله ورسوله. وهم الذين عنتهم آية التوبة هذه وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [100] وآية التوبة هذه في اعتبار الصادقين يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [119] وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا «الله الله في أصحابي، الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبّهم فبحبّي أحبّهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه» «1» . وهذا الحديث «لا تسبّوا أحدا من أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» «2» . وهذا الحديث «ما من أحد من أصحابي يموت بأرض إلّا بعث قائدا ونورا لهم يوم القيامة» «3» . ومع أن أسلوب الآية يلهم أن ما احتوته هو التشديد في النهي عن موادة من حادّ الله ورسوله مطلقا فإن من الممكن أن يلمح فيها شيء من التطور. فالآيات المكية رددت أكثر من مرة وجوب الاستمرار في احترام الوالدين ومعاشرتهما في الدنيا بالمعروف ولو كانا كافرين وعدم إطاعتهما في مسألة الشرك فقط «4» وفي هذه

_ (1) روى الأول والثالث الترمذي وروى الثاني الأربعة انظر التاج ج 3 ص 272. [.....] (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه. (4) آيات سورة لقمان [14، 15] والعنكبوت [8] .

الآية نهي شديد عن موادة من حادّ الله ورسوله ولو كان والدا. وواضح أن هذا التطور يعلل بالموقف العدائي الحربي الذي انتهى إليه الأمر بين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين والمهاجرين من جهة وكفار مكة من جهة أخرى وهو موقف لا يتحمل ملاينة ولا مهاودة ولا أي تساهل واتصال يضرّ بمصلحة الإسلام والمسلمين العامة. وقد يصح أن يضاف إلى هذا أن الآية يمكن أن تكون احتوت إيعازا للأنصار في صدد صلاتهم بأقاربهم من المنافقين الذين يصحّ عليهم وصف مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. هذا، وروح الآية ومضمونها يمدان المسلم في كل وقت بروح وعظة قويتين بوجوب الإخلاص لله ورسوله وبمنافاة موادة المسلم المؤمن للأعداء وموالاتهم منافاة تامة لأي اعتبار كان. وهي ميزان دقيق خالد لإيمان المؤمنين وإخلاصهم لمبادئهم وعقائدهم. ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآية حديثا أخرجه ابن أبي حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه «إنّ الله يحبّ الأخفياء، والأتقياء، والأبرياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا حضروا لم يدعوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كلّ فتنة سوداء مظلمة. فهؤلاء أولياء الله الذين قال الله أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» ، وحديثا آخر أخرجه نعيم بن حماد جاء فيه «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو قائلا اللهمّ لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي يدا ولا نعمة. فإني وجدت فيما أوحيته لي لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» . حيث ينطوي في الحديثين صورة من التعليقات والتعقيبات النبوية على بعض الآيات وأهدافها ومضمونها وحيث ينطوي في ذلك في الوقت نفسه تلقين وحكمة وموعظة للمسلمين في كل زمان ومكان.

سورة الحجرات

سورة الحجرات في السورة فصول تأديبية وتعليمية وأخلاقية واجتماعية وسياسية وسلوكية فيما يجب على المسلمين تجاه النبي صلى الله عليه وسلم وتجاه بعضهم. وفيها مشهد من مشاهد الأعراب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وتبجحهم بالإسلام. وميزان لصدق إيمان المؤمنين وإفساح المجال للأعراب لدخولهم حظيرة الإسلام والدولة الإسلامية. والتساوق الموضوعي بين الفصول يسوّغ ترجيح نزولها دفعة واحدة أو متتابعة. أما المناسبات المروية لنزول آياتها فالراجح أنها حدثت قبل نزول السورة فكانت وسيلة لنزول آياتها. وليس في السورة ما يساعد على القول بصحة ترتيبها وعدمه. وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أنها نزلت بعد سورة المجادلة. ومعظم الترتيبات المروية مقاربة لذلك «1» . فجارينا رواية المصحف الذي اعتمدناه. والله أعلم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الحجرات (49) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) .

_ (1) انظر ترتيبات نزول السورة المدنية في كتابنا سيرة الرسول ج 2 ص 9.

تعليق على الآية يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم (1) والآيات الأربع التالية لها وما فيها من صور وتلقين

(1) يغضون: هنا بمعنى يخفضون. (2) الحجرات: جمع حجرة وهي الغرفة، والمقصود هنا مساكن النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت في جانب مسجده. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) والآيات الأربع التالية لها وما فيها من صور وتلقين في الآية الأولى: نهي للمسلمين عن أن يسبقوا النبي صلى الله عليه وسلم بأمر ما قولا أو عملا أو أن يبدوا رأيا في أمر قبله انتظارا لما يكون من النبي صلى الله عليه وسلم من قول وعمل ورأي والوقوف عنده. مع حثهم على تقوى الله تعالى السميع لكل ما يقال العليم بكل شيء الذي يجب مراقبته وعدم الخروج عن أمره ونهيه. وفي الآية الثانية: نهي لهم عن رفع أصواتهم في حضوره حتى تعلو على صوته. وعن مخاطبته بالأساليب التي يخاطب بها بعضهم بعضا وعن الجهر أمامه بقول لا يليق مما قد يجهر به بعضهم أمام بعض. وتنبيه لهم على أن مثل التصرف من شأنه أن يحبط ويضيع ثمرات أعمالهم الحسنة عند الله من دون أن يشعروا على سبيل التحذير والعظة. وفي الآية الثالثة: تنويه (على سبيل توكيد النهي في الآية الثانية والدعوة إلى التأسي) بالذين يخفضون أصواتهم في حضور النبي صلى الله عليه وسلم. فهؤلاء قد طهر الله قلوبهم فجعلها تشعر بواجب تقوى الله والتأدب في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم. ولهم عند الله من أجل ذلك المغفرة وعظيم الأجر. وفي الآيتين الرابعة والخامسة: تنديد بالذين ينادون النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته حينما لا يجدونه في المسجد. فأكثرهم جاهلون لا يعقلون. ولو أنهم الجزء الثامن من التفسير الحديث 32

انتظروا وصبروا حتى يخرج إليهم حين يحين وقت خروجه لكان خيرا وأفضل. ومع ذلك فالله غفور رحيم يشمل أصحاب هذه الهفوة التي تصدر عن جهل وحسن نية بغفرانه ورحمته. والآيات احتوت ثلاثة مواضيع متجانسة وتأديبية نحو شخص النبي صلى الله عليه وسلم كما هو واضح. وقد روى المفسرون «1» لكل موضوع مناسبة خاصة. بل منهم من روى لبعضها أكثر من رواية ومناسبة. فرووا لمناسبة نزول الآية الأولى أو الموضوع الأول: (1) أن وفدا من بني تميم قدم إلى المدينة فاقترح أبو بكر تأمير شخص منهم عليهم واقترح عمر تأمير شخص آخر فقال أبو بكر لعمر ما أردت إلّا خلافي ونفى عمر ذلك وتماريا حتى ارتفعت أصواتهما وكان ذلك في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن يسألهما رأيهما أو يبدي رأيه فكان ذلك سبب نزول الآية. وممن روى هذه الرواية البخاري عن عبد الله بن الزبير «2» . (2) وأنها نزلت بمناسبة صيام بعض المسلمين قبل أن يثبت هلال رمضان ويعلن النبي صلى الله عليه وسلم وجوب الصوم. (3) وأنها نزلت بمناسبة ذبح بعضهم يوم عيد الأضحى قبل أن يذبح النبي صلى الله عليه وسلم. ورووا لمناسبة الآية الثانية أو الموضوع الثاني أنها نزلت في مسلم اسمه ثابت بن قيس كان جهير الصوت فكان صوته يعلو على صوت الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد روى الشيخان في فصل التفسير أنه لما نزلت الآية جلس في بيته منكسا رأسه فافتقده رسول الله فقال له رجل أنا أعلم علمه فذهب إليه فسأله ما شأنك؟ قال شرّ، كان صوتي يرتفع فوق صوت رسول الله فحبط عملي وصرت من أهل النار، فأتى الرجل النبي فأخبره فقال اذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنة «3» .

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير والزمخشري. ومنهم من روى بعض الروايات ومنهم من رواها جميعها أو معظمها. (2) التاج فصل التفسير ج 4 ص 213- 214. (3) التاج ج 4 ص 214. وفي التفسير رواية أخرى في نفس المآل وإنما تختلف في الصورة فلم نر ضرورة لإيرادها اكتفاء برواية الشيخين الوثقى.

ورووا لمناسبة الآيتين الرابعة والخامسة: (1) أن النبي بعث سرية إلى قوم فهرب رجالهم واستاقت السرية عيالهم سبيا. فلم يلبث رجالهم أن جاءوا إلى المدينة للتفاهم مع النبي وافتكاك السبي فدخلوا المسجد فلما رآهم عيالهم أجهشوا بالبكاء فأخذوا ينادون النبي من وراء حجراته بأصوات عالية حتى أيقظوه من قيلولته فنزلت. والرواية تروي أن النبي حكم في أمرهم رجلا مسلما من قومهم فاقترح أن يطلق النصف ويأخذ الفداء عن النصف فوافق النبي على ذلك. (2) وأنها نزلت في وفد تميم الذين قدموا إلى المدينة فلما لم يجدوا النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد أخذوا ينادونه من وراء حجراته بأصوات عالية حتى أيقظوه من قيلولته. ومهما يكن من أمر فالمتبادر والمستلهم من مضمون الآيات وروحها أنها نزلت مستهدفة تأديب المسلمين وتعليمهم ما يجب عليهم من التكريم والتوقير لشخص النبي صلى الله عليه وسلم والاحتشام والأدب في حضرته في مناسبة حدوث ما روته الروايات من مناسبات أو ما كان من بابها. والذي نرجحه استئناسا من تجانس المواضيع وتساوق الآيات حتى لكأنها وحدة تامة أنها نزلت دفعة واحدة. وأنها نزلت بعد المناسبات جميعها التي نزلت في صددها، استهدافا لذلك التأديب والتعليم. بل إننا نرجح أن هذه الآيات ومعظم ما بعدها من آيات السورة قد نزل دفعة واحدة أو متتابعة لأنها تحتوي ما تحتويه هذه الآيات من تأديب وتعليم ويتألف من مجموعها سلسلة تأديبية رائعة ومتساوقة. والآيات الخمس التي نحن في صددها قد تدل: أولا: على ما كان عليه العرب إجمالا من عدم التقيد بمثل هذه الآداب مهما كان الفارق بينهم حيث كانوا يخاطبون الكبير والرئيس مخاطبة الندّ للندّ وبدون احتشام كبير. وثانيا: على أن

كلمة عن حجرات رسول الله صلى الله عليه وسلم

الفريق المخلص من المؤمنين قد امتلأت نفسه بعظمة النبي صلى الله عليه وسلم وحقه من التكريم فكان يراعي نحوه ما يجب عليه من الأدب قبل نزول الآيات. هذا، ومع تقرير كون واجب تكريم النبي صلى الله عليه وسلم والاحتشام في حضوره ومخاطبته لا يدانيه واجب وكون الآيات خاصة بشخصه الكريم فإن هذا لا يمنع من أن يقال والله أعلم إن التأديب الرفيع الذي احتوته الآيات يصح أن يكون أدبا عاما وطابعا من طوابع الأدب الإسلامي. كلمة عن حجرات رسول الله صلى الله عليه وسلم من المتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم عقب حلوله في المدينة اشترى أرضا ومهدها وجعل لها سورا ذا أربعة أضلاع فيه أبواب وجعل القسم الأكبر منه مسجدا للصلاة والاجتماع بالمسلمين والقضاء بينهم وحلّ مشاكلهم وتعليمهم ووعظهم والتداول في شؤون الإسلام والدعوة واستقبال الوفود إلخ، وجعل له سقفا من سعف النخل مقاما على أعمدة من جذوع الشجر. وأنشأ في أحد أضلاعه حجرة لسكناه ثم أخذ ينشىء إلى جانبها حجرات أخرى كلما زاد عدد زوجاته. وقد توفي صلى الله عليه وسلم في إحداها الخاصة بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ودفن فيها. [سورة الحجرات (49) : الآيات 6 الى 8] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) . (1) عنتم: شقّ عليكم. في الآيات: (1) أمر للمسلمين بالتثبت فيما يأتيهم من الأخبار وبخاصة من طريق

تعليق على الآيات يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ... إلى نهاية الآية الثامنة وما فيها من تلقين

الفاسقين المتهمين بصدقهم وإخلاصهم. فلا يستعجلوا في التصديق والحكم فيتهموا أناسا أبرياء من غير يقين. ويصيبوهم بالأذى فيصبحوا نادمين حينما تظهر براءتهم. (2) وتنبيه تعقيبي على هذا الأمر، فعلى المسلمين أن يعتبروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الموجود بينهم فلو أنه يصدق كثيرا مما يقال له ويأخذ به لنالهم شدائد ومشاق كثيرة. وأن الله قد منّ عليهم أيضا بفضله ونعمته فحبب إليهم الإيمان وزينه وكره إليهم الكفر والعصيان لأوامر الله ورسوله والانحراف عن ذلك. ومن يتحقق فيه ذلك فهم الراشدون. والله عليم بكل شيء حكيم في ما يأمر به ويقرره. تعليق على الآيات يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ... إلى نهاية الآية الثامنة وما فيها من تلقين لقد روى المفسرون «1» روايات مختلفة الصيغ متفقة المدى للمناسبة التي نزلت فيها الآيات. منها رواية يرويها الطبري عن أم سلمة قالت إن النبي صلى الله عليه وسلم بعد قليل من عودته من غزوة بني المصطلق التي كان من نتائجها المباركة تزوّج النبي صلى الله عليه وسلم ببنت زعيمهم ودخولهم في الإسلام أن بعث رجلا لجباية صدقاتهم فهرعوا إلى مقابلته تعظيما لرسول الله فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله فرجع وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنهم منعوا الصدقات وأرادوا قتله فغضب رسول الله واعتزم على إرسال بعث عليهم وبلغ القوم فأتوه ووجدوه يصلّي الظهر فتصافوا أمامه وصاروا يقولون نعوذ بالله من سخط الله ورسوله بعثت إلينا مصدّقا فسررنا وقرّت أعيننا ثم رجع من بعض الطريق فخشينا أن يكون ذلك غضبا من الله ورسوله فلم يزالوا يكلمونه حتى جاء بلال وأذّن لصلاة العصر فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ ... إلخ وروى الطبري وغيره صيغا أخرى فيها اسم الرجل الذي بعثه رسول الله وهو الوليد بن عقبة بن أبي معيط. وإنه قال لرسول الله إن بني المصطلق

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري.

ارتدوا عن الإسلام وأرادوا قتلي مع أنهم رجعوا، وسلموه صدقاتهم وإن كان بينه وبينهم إحنة في الجاهلية فأراد أن يضربهم بما قاله عنهم. وإن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل خالد بن الوليد ينظر في أمرهم وينكل بهم وأوصاه بالتثبيت وعدم التعجل. فانطلق حتى أتاهم ليلا فبعث عيونه فرجعوا فأخبروه أن الجماعة متمسكون بالإسلام وأنهم سمعوا أذانهم وصلاتهم. فلما أصبحوا أتاهم خالد فرأى الذي أعجبه فرجع إلى رسول الله فأخبره الخبر فأنزل الله الآية. والروايات لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة والذي نلحظه أن الآيات نعتت المخبر بالفاسق. ويصعب أن يصدق هذا على رسول وثق به النبي صلى الله عليه وسلم. ولا سيما أنه من المهاجرين وابن رجل كان شديد المناوأة للنبي فانفصل عن أبيه والتحق بالنبي صلى الله عليه وسلم. ومهما يكن من أمر فالآيات تلهم أنها نزلت في حادث ما أخبر به مخبر غير موثوق به لو صدّقه النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون لترتب عليه ظلم أناس أبرياء. على أن الإطلاق في الآية الأولى أولا ومجيئها بعد الآيات التأديبية والتعليمية السابقة ثانيا يجعل من المحتمل أن يكون بينها وبين سابقاتها صلة نزول ووحدة سياق، ويسوّغ التخمين أن الحادث قد وقع قبل نزول السورة فكان وسيلة للتنبيه والتحذير في سياق فصول التعليم والتأديب التي احتوتها السورة. والآيات تحتوي بطبيعة الحال تعليما وتأديبا عامين مستمري التلقين والشمول وذوي خطورة عظيمة أخلاقية واجتماعية لا تخفى. ولعل في الآيتين الثانية والثالثة توكيدا لهذه الخطورة وتلقينها. لأن التثبت يكون أوجب وأوكد في الظروف التي لا يكون فيها نبي مشمول برعاية الله تعالى وتسديده وإلهامه ووحيه، وذو نفوذ روحي عظيم على أتباعه. ولقد روى الترمذي «أن أبا سعيد الخدري قرأ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ثم قال هذا نبيكم يوحى إليه وأخيار أئمتكم لو أطاعهم في كثير من الأمر لعنتم فكيف بكم اليوم» «1» مما فيه تدعيم

_ (1) التاج ج 4 ص 215.

للتلقين الذي نوهنا به آنفا. ولقد روى المفسر القاسمي أن قتادة قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول التثبّت من الله والعجلة من الشّيطان» مما فيه تلقين متسق مع التلقين القرآني. والجملة الأخيرة من الآية الثانية جديرة بالتنويه حيث انطوى فيها تنويه بالذين تتحقق فيهم الصفات المذكورة قبلها والتي تمنع صاحبها من الفسق والكفر والعصيان. وحيث ينطوي في هذا التنويه حثّ على هذه الصفات والتزامها. ولقد أورد ابن كثير في سياقها حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي رفاعة الزرقي قال «لما انكفأ المشركون يوم أحد قال رسول الله استووا حتى أثني على ربي عز وجل فصاروا خلفه صفوفا فقال اللهمّ لك الحمد كلّه. اللهمّ لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت. ولا هادي لمن أضللت ولا مضلّ لمن هديت. ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرّب لما باعدت ولا مباعد لما قرّبت اللهمّ ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك. اللهمّ إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول. اللهمّ إني أسألك النعيم يوم العيلة والأمن يوم الخوف. اللهم إني عائذ بك من شرّ ما أعطيتنا ومن شرّ ما منعتنا. اللهم حبّب إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. اللهمّ توفّنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين. غير خزايا ولا مفتونين. اللهمّ قاتل الكفرة الذين يكذّبون رسلك ويصدّون عن سبيلك واجعل عليهم رجزك وعذابك. اللهمّ قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحقّ» ، حيث ينطوي في الحديث موقف دعائي جامع من مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه تعليم وأسوة للمسلمين فيما تمناه وسأله وعاذ منه. ومن جملة ذلك الاتصاف بالصفات التي احتوتها الجملة المذكورة. هذا وجملة إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا مستند قرآني لاشتراط العدالة في المخبر والراوي والشاهد ووجوب ردّ من عرف بفسقه. والفسق كلمة عامة تعني الانحراف أو التمرّد عن كلّ ما أمر الله ورسوله به ونهيا عنه ورسماه من حدود إيمانية وتعبدية وأخلاقية واجتماعية.

[سورة الحجرات (49) : الآيات 9 إلى 10]

وبين العلماء خلاف في أمر مجهول الحال «1» . أي الذي لم يعرف فسقه ولا صلاحه فقال بعضهم برده لاحتمال فسقه وقال آخرون بقبوله لأن القرآن إنما أمر بالتثبت عند خبر الفاسق. والمجهول ليس محقق الفسق. ويتبادر لنا أن الرأي الثاني هو الأوجه. والله أعلم. ولقد درج القضاة الشرعيون على استشهاد عدول على عدالة الشاهد بحيث يوجبون شهادة عدلين متحققة عدالتهما عندهم على عدالة الشاهد. ومن المعتاد أن يفعلوا ذلك سرّا ثم يقرر القاضي في أمر الشاهد حسب ما سمعه من العدلين. وهذا سديد مستلهم من روح الآية. وإذا لم يشهد عدلان بعدالته ردّه القاضي، وبعض القضاة يردون مجهول الحال. والقوانين تمنح للمدعى عليه حقّ الطعن بالشاهد وتحميه في الوقت نفسه، فعلى الطاعن أن يثبت صدق طعنه وإن لم يثبت عدّ قاذفا عليه العقاب وهذا عدل وسديد ومتسق مع التلقين القرآني. [سورة الحجرات (49) : الآيات 9 الى 10] وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) . (1) حتى تفيء إلى أمر الله: حتى ترجع عن بغيها وتقبل حكم الله وما رسمه من حدود. تعليق على الآية وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما والآية التالية لها وما فيها من أحكام وتلقين وما ورد في صددها وفي صدد الأخوة بين المسلمين من أحاديث ومدى هذه الأخوة والخطة الرائعة المرسومة فيها لما يجب أن يكون عليه الأمر بين الدول الإسلامية عبارة الآيتين واضحة. وفيهما تعليم للمسلمين بما يجب عليهم إذا اقتتلت

_ (1) انظر تفسير القاسمي.

طائفتان منهم حيث يجب عليهم أن يبادروا إلى الإصلاح بينهما. فإن لم تكف إحداهما وتجنح إلى الصلح وظهر منها بغي وظلم للأخرى فعليهم أن ينصروا المبغى عليها ويقاتلوا الباغية إلى أن ترتدع وتقبل حكم الله وتقف عند حدوده. فإذا ما أذعنت فعليهم أن يصلحوا بين المتنازعين بالحق والعدل فينال كلّ حقه والله يحب المقسطين. وفي الآية الثانية تعقيب تدعيمي قوي: فالمؤمنون إخوة ويجب أن يكون السلم والصلح موطدين بينهم. فإذا ما شجر بين بعضهم خلاف ونزاع فيجب على الآخرين المسارعة إلى الإصلاح بين المتنازعين مع مراقبة الله وتقواه حتى ينالوا رحمته. ولقد روى المفسرون «1» روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات. منها رواية رواها مسلم في صحيحه عن أنس قال «قيل للنبي صلى الله عليه وسلم لو أتيت عبد الله بن أبي. فركب النبي صلى الله عليه وسلم حمارا وانطلق إليه مع بعض المسلمين. وكانت الأرض سبخة. فلما أتاه قال له إليك عني فو الله لقد آذاني نتن حمارك. فقال رجل من الأنصار والله لحمار رسول الله أطيب ريحا منك فغضب لعبد الله رجل من قومه فكان بينهم ضرب بالأيدي والجريد والنعال. قال فبلغنا أنه نزلت فيهم وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ... » «2» ومنها رواية رواها الطبري الذي روى أيضا الرواية السابقة جاء فيها «إن امرأة من الأنصار يقال لها أم زيد كانت تحت رجل فكان بينها وبينه شيء فضربها فجاء قومها وجاء قومه فاقتتلوا بالأيدي والنعال فبلغ ذلك النبيّ فنزلت الآية وجاء النبيّ فأصلح بينهم» . ومنها رواية رواها الطبري كذلك جاء فيها أن الآية نزلت في رجلين من الأنصار وكانت بينهما مشادة على حقّ لأحدهما على الآخر فقال صاحبه لآخذنّه عنوة لكثرة عشيرته فدعاه الآخر إلى نبيّ الله ليحاكمه فأبى واشتدّ الأمر بينهم فتدافعوا وتناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال فأنزل الله الآية. ويلحظ أن في الآية ما يفيد أن القتال على أمور وحقوق خاصة يجب إقرارها

_ (1) انظر الطبري وابن كثير والبغوي والخازن. (2) التاج ج 4 ص 215 والروايات رواها غير الطبري أيضا.

بالعدل. وهذا ما يجعلنا نتوقف في الرواية الأولى ولو كان يرويها مسلم. ولا سيما أنها لا تجزم أن الآية نزلت في الحادث الذي ذكر فيها. وإيراد المفسرين لروايات أخرى قد يفيد أنهم لم يأخذوا بها كسبب لنزول الآية. ونرجح أنها نزلت في مناسبة حادث من باب الرواية الثانية. وإلى هذا فإننا نرجح استلهاما من تجانس المواضيع التأديبية في السورة أن الحادث الذي قد تكون الآيتان نزلت في صدده كان سابقا لنزول السورة فكان وسيلة لتضمنها فصلا تعليميّا في ما يجب على المسلمين عند حدوث حادث مماثل. والآيتان احتوتا تعليما تام الأركان رائع المدى في شأن ما يقوم من نزاع وقتال بين فريقين من المسلمين. وموجها إلى الفريق الذي ليس طرفا في النزاع بين المسلمين. وموجبا عليه بأن لا يقف موقف الساكت المتفرج بل يسارع إلى التدخل والإصلاح بين الفريقين المتنازعين وإحقاق الحق لصاحبه بدون محاباة. ونصرة المظلوم المبغى عليه بالسلاح إذا لم يرتدع الظالم ويقف عند ما رسمه الله ورسوله من حدود الحق والعدل. وإطلاق العبارة في الآيتين يجعل ما تحتويانه من تعليم عامّا مستمر التلقين. ويجعل واجب المسلمين المذكور فيهما لازما عليهم في كل وقت ومكان. وفيهما توطيد للأخوة والسلم بين المسلمين. وتقرير لمنافاة النزاع والبغي والظلم بينهم لمعنى الأخوة الإسلامية. وفي هذا من الروعة والجلال ما هو واضح. وقد يصح أن يقال إن طائفتي المسلمين يمكن أن تكونا قبيلتين أو أسرتين أو مدينتين في نطاق دولة واحدة ويمكن أن تكونا جماعتين ليس لإحداهما سلطان على الأخرى أو دولتين كل منهما ذات سلطان مستقل. وفي صدد التطبيق قد يكون الأمر بالنسبة للنزاع والقتال بين جماعتين ليس لإحداهما سلطان على الأخرى أو بين دولتين كل منهما مستقل السلطان هو الأكثر تواردا. لأنه لا يبدو ضرورة لقتال الفريق الباغي من طرف ثالث لو كان الأمر يظل دائما في نطاق خصومة عائلية في بلد ما أو قبيلة ما أو بين قبيلتين أو مدينتين في

نطاق سلطان دولة واحدة لأن سلطان هذه الدولة يكون قادرا على الاقتصاص من الباغي وإلزامه حدود الله وصيانة حقوق الناس وحقن دمائهم وحماية أرواحهم. ولا تعدّ حكومة هذه الدولة طرفا ثالثا بطبيعة الحال. وحتى لو كانت ظروف الدولة تتحمل مثل ذلك فإن تناول حكم الآيتين لدولتين إسلاميتين أو لجماعتين إسلاميتين لا ترضخ إحداهما لسلطان الأخرى في نطاق دولة واحدة يظل قويّ الورود. ولعل ما كان من حوادث أليمة بين المسلمين بعد استشهاد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وما كان من تكتلهم كتلا بعضهم ينصر فريقا أو إماما وبعضهم ينصر فريقا أو إماما آخر ولا يخضع بعضهم لسلطان الآخر في نطاق دولة واحدة كان من هذا الباب ومن قبيل الاجتهاد في من هو الباغي وفي من هو المبغى عليه أو من قبيل فرض السلطان مما لا يتحمل منهج التفسير تفصيله. ونريد أن نستدرك أمرا في صدد احتمال قيام دول إسلامية عديدة. وهو أن القرآن قرر ضمنا واقع الأمر من أن رئاسة النبي صلى الله عليه وسلم للدولة كانت شاملة لجميع المسلمين ومصالحهم وكما قررت ذلك الأحاديث النبوية. وأن هذا استمر في عهد الخلفاء الراشدين وبعدهم إلى أمد غير قصير بحيث يسوغ القول إن الأصل في الإسلام هو وحدة الدولة. وإن كان ذلك تقريرا لواقع ما كان دون أن يكون فيه شيء صريح وقطعي من قرآن وسنّة. ولقد روت الروايات أن فريقا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلوا جهودهم أولا في وقف ما كان من شقاق وحروب بين علي من جهة وعائشة وطلحة والزبير بعد مقتل عثمان رضي الله عنهم أجمعين. ثم بين علي من جهة ومعاوية من جهة رضي الله عنهما. وإن صلحا تمّ بين علي ومعاوية نتيجة لهذه الجهود على أساس استقلال علي بحكم العراق وبعض البلاد واستقلال معاوية بحكم الشام وبعض البلاد «1»

_ (1) خبر الصلح بين علي ومعاوية رضي الله عنهما واستقلال كل منهما في دولة وبلاد مذكور في تاريخ الطبري ج 3 ص 107- 108 وقيام الدول الإسلامية الأخرى واستقلالها عن بعضها في وقت واحد منذ القرن الهجري الثاني إلى الآن معروف مشهور ومستساغ.

حيث كان هذا ظاهرة لتعدد الدول الإسلامية في الصدر الإسلامي الأول مستساغة من أصحاب رسول الله وعلى علم ومسمع ورضا من عدد كبير منهم كانوا ما يزالون أحياء. ولقد كان في أواخر القرن الهجري الثاني ثلاث دول إسلامية كل منها مستقلة عن الأخرى كل الاستقلال وهي العباسية في المشرق والإدريسية في المغرب والأموية في الأندلس. وفي أواخر القرن الثالث قامت الفاطمية في شمال إفريقية ثم امتدت إلى مصر والشام. وكانت كل من الأموية في الأندلس والفاطمية والعباسية تتسم بسمة الخلافة وينعت رؤساؤها بنعت أمير المؤمنين. وكان القرآن والسنة مصدري حكمهم وشرائعهم. وساغ ذلك في نظر جمهور المسلمين. ثم استمرت ظاهرة قيام دول إسلامية مستقلة بعضها عن بعض والقرآن والسنّة مصدرا تشريعها وحكمها وما تزال. ونخلص من هذا إلى القول إن حكم الآيتين وتلقينهما واجدان مجالهما الأوسع والألزم في حالة وجود دول إسلامية عديدة بحيث يكون هو الضابط للعلاقات بينهما. ويكون الانحراف عنه إثما دينيا فضلا عن خطره عليها جميعا وبحيث يقوم بينها تضامن تام في المنافع والمصالح والدفاع والتعاون في مختلف المجالات. وإذا نشب خلاف ونزاع وقتال بين دولتين أو أكثر منهما وجب على سائر الدول الإسراع إلى المداخلة وحل المشكل في نطاق ذلك الأساس والتضامن في فرض قبول الحل على المبطل ولو أدى الأمر إلى الاجتماع على قتاله إلى أن يفيء لأمر الله ويخضع للحق. وفي هذا ما فيه من روعة وجلال. وخاصة إذا لا حظنا أن مثل هذا النظام هو أسمى ما يتوق إلى تحقيقه العالم، ويرى أساطينه أن لا سبيل إلى توطيد العدل والسلم والحق بين أمم الأرض ودولها إلّا به حيث تبدو بذلك روعة الهدى القرآني ومعجزته الخالدة. ومسألة تعيين الباغي في هذا الموقف مسألة دقيقة من دون ريب. ولا سيما إذا كانت الأسباب مختلفا فيها. وهذا ما يوجب على الطرف الثالث سواء أكان دولة

أم جماعة التحري الشديد قبل الانتصار لمن يكون مبغيا عليه حقا. وقد يكون والله أعلم ما جاء في الآية الثانية من حثّ المؤمنين على تقوى الله هو بسبيل ذلك. ولقد كان هذا مما جعل كثيرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم يتحرجون على ما يتبادر لنا من الاندماج مع طرف من أطراف النزاع بعد استشهاد عثمان رضي الله عنه على ما تواترت فيه الروايات. ولقد أورد المفسرون في سياق الآيات وبخاصة في صدد الإقساط والأخوة الإسلامية وواجباتها والتضامن الإسلامي أحاديث نبوية عديدة قوية التلقين والعظة. منها حديث عن عبد الله بن عمرو جاء فيه «إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ بين يدي الرحمن عزّ وجل بما أقسطوا في الدنيا» «1» وروي لهذا الحديث صيغة أخرى بطريق آخر وهي «المقسطون عند الله تعالى يوم القيامة على منابر من نور على يمين العرش الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما ولوا» «2» . ومنها حديث عن النعمان بن بشير رواه الشيخان جاء فيه «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى» «3» . ومنها حديث عن أبي موسى رواه الشيخان والترمذي جاء فيه «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا وشبّك بين أصابعه» «4» . وهناك أحاديث صحيحة أخرى في هذا الباب منها حديث عن أبي هريرة رواه الأربعة جاء فيه «لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم. لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى هاهنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات. بحسب امرئ من الشرّ أن يحقر أخاه المسلم كلّ المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه» «5» .

_ (1) انظر ابن كثير والخازن والبغوي وانظر التاج ج 5 ص 17. [.....] (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. (5) التاج ج 5 ص 35.

وحديث عن أبي هريرة رواه مسلم وأبو داود والترمذي جاء فيه «تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكلّ عبد لا يشرك بالله شيئا إلّا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا» «1» وحديث عن أبي أيوب رواه الأربعة قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام» «2» . وينطوي في تقرير الأخوة بين المسلمين في الآية والأحاديث تقرير المساواة بينهم كما هو المتبادر. فكما أن كل مسلم أخ لسائر المسلمين فإن كل مسلم متساو مع سائر المسلمين في الحقوق والواجبات العامة. وبكلمة أخرى ليس بين المسلمين طبقات متفاوتة يكون لإحداها على الأخرى حق التميز والتفوق والتعالي بسبب الأحساب والكثرة والمال. وتكون الفرص بينهم متكافئة. وما يكون ويصح أن يكون بينهم من تفاوت في المركز الاجتماعي والسياسي ونطاق الحكم والثروة مما هو نتيجة للتفاوت في المواهب والنشاط والمطامح وحسن اقتناص الفرص ليس من شأنه أن يسبغ لأحد على أحد ذلك الحق. وليس هذا طبقية أيضا. لأنه مقبول متحول دائما. ولقد روى أبو داود عن علي بن أبي طالب حديثا عن رسول الله جاء فيه «المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم» «3» ويأتي بعد قليل آية رائعة تقرر التساوي بين الناس وتقرر أن أكرم الناس عند الله هو أتقاهم. والمتبادر من إطلاق جملة إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ومن الإطلاق في الأحاديث أن الرجال والنساء سواء في هذه الأخوة. وفي القرآن آيات مؤيدة لذلك

_ (1) التاج ج 5 ص 35- 36 وقد روي هذا الحديث بصيغة أخرى وطريق آخر أيضا. انظر المصدر نفسه. (2) التاج ج 5 ص 36 وكذلك روي هذا الحديث بصيغة أخرى وطريق آخر أيضا. انظر المصدر نفسه. (3) تفسير القاسمي للآيات [178 و 179] من سورة البقرة والتاج ج 2 ص 168.

منها آية سورة التوبة هذه وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ... [71] وإذا كان لمالكي الرقيق على رقيقهم حقوق تجعل المماليك وما يملكون ملكا لمالكيهم فإن ذلك لا ينزع عنهم الأخوة الإسلامية. مع الأحرار وهم متساوون أمام الله في الحقوق والواجبات الدينية. وفي سورة النساء آية تقرر أن المماليك المؤمنين والأحرار بعضهم من بعض وهي هذه وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [25] ، وفي كل هذا ما فيه من روعة وجلال وتلقين. ولقد كان نظام الرق قائما عامّا قبل نزول القرآن فعالجه هو والأحاديث النبوية خير معالجة وحثّا على تحريره بل وضعا أسسا لتحريره وإلغائه وانحصر في دائرة ضيّقة ظلّت تضيق حتى زال أو كاد في الإسلام. هذا، ولقد قال المفسرون «1» إن في الآيتين دليلا على أن القتال بين المسلمين لا يزيل اسم الإيمان عنهم حتى ولا عن الباغي منهم لأن الله سماهم إخوة ومؤمنين. وفي هذا وجاهة ظاهرة. ولقد روى البغوي «أن سائلا سأل عليّ بن أبي طالب عن الذين قاتلهم وقاتلوه في وقعتي الجمل وصفين «2» هل هم مشركون؟ قال لا إنهم من الشرك فرّوا. فسأله هل هم منافقون؟ قال لا إن المنافقين لا يذكرون الله إلّا قليلا. فسأله فما حالهم؟ قال إخواننا بغوا علينا» . ومع أن قتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله مستند إلى أمر الله في الآية الأولى من الآيتين اللتين نحن في صددهما فالمتبادر أن هذا لا يدخل ذلك في مدى ومفهوم الجهاد في سبيل الله وموجباته ومقتضياته وحدوده وآثاره. لأن هذا إنما شرع بالنسبة لأعداء المسلمين من غيرهم. ويستتبع هذا أن لا يكون استرقاق للأسرى المسلمين الذين تأسرهم الفئة الثانية ولا جواز قتلهم ولا يكونوا تابعين للفداء لأن كل هذا إنما جاء كذلك بالنسبة لأسرى غير المسلمين من الأعداء. ولقد

_ (1) انظر البغوي وابن كثير والخازن. (2) الواقعة الأولى بين علي وأنصاره من جهة وعائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم جميعا من جهة. والثاني بين علي وأنصاره من جهة ومعاوية وأنصاره من جهة.

[سورة الحجرات (49) : آية 11]

روى البغوي أن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أرسل مناديا ينادي يوم الجمل ألا لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح وأنه جيء يوم صفين بأسير فقال لا أقتلك إني أخاف الله ربّ العالمين. [سورة الحجرات (49) : آية 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) . (1) قوم: هنا بمعنى الرجال على ما عليه الجمهور. (2) لا تلمزوا: لا تعيبوا ولا تغمزوا ولا تطعنوا. (3) ولا تنابزوا بالألقاب: ولا تنعتوا بعضكم بأسماء وألقاب مكروهة. في الآية: (1) نهي للمسلمين رجالهم ونسائهم عن سخرية بعضهم من بعض. وتنبيه على سبيل توكيد النهي إلى أنه قد يكون المسخور به خيرا من الساخر. (2) ونهي كذلك عن غمز بعضهم بعضا بما يسيئه أو تلقيب بعضهم بعضا بأسماء وألقاب مكروهة. وتنبيه على سبيل توكيد النهي إلى أن في ذلك فسقا. ولبئس الإنسان أن يفسق بعد الإيمان. (3) وإنذار للذين لا يرتدعون ولا يتوبون فهم ظالمون باغون. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وما فيها من تلقين وتأديب ولقد احتوت الآية أربعة نواه. وروى المفسرون «1» لكل نهي مناسبة خاصة.

_ (1) انظر تفسير البغوي والطبرسي والخازن والطبري وابن كثير.

فالأول بسبب سخرية بعض الأغنياء أو الزعماء ببعض فقراء المسلمين ورثاثتهم. والثاني بسبب سخرية بعض زوجات النبي ببعض آخر منهن بسبب قصر قامتها وهي أم سلمة أو بسبب يهوديتها وهي صفية. والثالث بسبب غمز مسلم لمسلم آخر بأمه لأنه لم يفسح له مكانا للجلوس فيه قرب النبي صلى الله عليه وسلم. أو بسبب تسمية أشخاص بأسماء لهم غير مستحبة عندهم فيثيرون بذلك غضبهم. والرابع بسبب نعت بعض المسلمين بعض من أسلم من اليهود والنصارى باليهودي والنصراني. والآية منسجمة الأجزاء والأسلوب متماثلة المواضيع إجمالا. ويتبادر لنا بالإضافة إلى ذلك أنها غير منقطعة وغير منفصلة عن مواضيع ما قبلها وما بعدها. فإذا كانت الحوادث المروية صحيحة وهو محتمل فالراجح أنها وقعت قبل نزول الآية بل قبل نزول السورة فكانت وسيلة لنزول الآية في جملة آيات السورة التأديبية. وعبارة الآية مطلقة من شأنها أن يكون ما احتوته تعليما وتأديبا عامين للمسلمين في كل وقت ومكان. وقد استهدفت توطيد الأخوة والمودة بينهم. فالمنهيات مما يتنافى مع آداب السلوك الرفيعة. ومن شأنها إثارة العداء والبغضاء والأحقاد بين المسلمين بعد أن جمعت بينهم أخوة الإسلام العامة. ولقد روى المفسرون عن ابن عباس وبعض علماء التابعين أن النهي يتناول كل ما فيه نبز وسخرية وانتقاص وتحقير وإساءة ومن ذلك نعت المرء لآخر بالفسق والكفر والنفاق وبالكلب والحمار. وهذا سديد، ويمكن أن يقاس على هذا كل ما يكون من هذا الباب بطبيعة الحال غير ما ذكر. ولسنا نرى محلا للاستشكال بسبب نهي الرجال عن السخرية من الرجال فقط والنساء عن السخرية من النساء. وبسبب تعليل النهي باحتمال أن يكون المسخور به خيرا من الساخر. فالتقريرات والمبادئ القرآنية عامة تمنع أن يفرض إجازة سخرية الرجال من النساء والنساء من الرجال وإجازة السخرية من أحد ما إطلاقا سواء أكان الساخر خيرا منه أم كان المسخور منه غير خير من الساخر. وروح الآية وهدفها بالذات يلهمان أنها بسبيل تأديب المسلمين رجالهم ونسائهم جميعا، ويلهمان بالتالي أن كل ما نهي عنه فيها وارد بالنسبة للرجال والنساء على السواء الجزء الثامن من التفسير الحديث 33

[سورة الحجرات (49) : آية 12]

وبصورة مطلقة. وعبارتها إنما جاءت كما جاءت للمناسبات وحسب. ولقد أثرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث عديدة متساوقة في التلقين مع تلقين الآية مع شيء من التوضيح نكتفي منها بما ورد في الكتب الخمسة، منها حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أيّما امرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان قال وإلّا رجعت عليه» . وحديث رواه الشيخان عن أبي ذرّ قال «سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول لا يرمي رجل رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلّا ارتدّت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك» . وحديث رواه الشيخان والترمذي عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» . وحديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم المستبّان ما قالا فعلى البادئ منهما ما لم يعتد المظلوم» . وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «اثنتان في الناس هما بهما كفر الطعن بالنسب والنياحة على الميّت» . وحديث رواه الترمذي عن عبد الله قال «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم ليس المؤمن بالطّعّان ولا اللّعّان ولا الفاحش ولا البذيء» وحديث رواه أبو داود عن عائشة قالت «اعتلّ بعير لصفية بنت حيي وعند زينب فضل ظهر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزينب أعطها بعيرا فقالت أنا أعطي تلك اليهودية. فغضب النبيّ صلى الله عليه وسلم وهجرها ذا الحجة والمحرّم وبعض صفر» وفي بعض الأحاديث التي أوردناها في الفقرة السابقة شيء متصل بهذه الآية ومنها الذي جاء فيه «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره» . [سورة الحجرات (49) : آية 12] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) . (1) ولا تجسّسوا: ولا تبحثوا سرا عن عورات الناس وشؤونهم الخاصة لتطّلعوا على مخفياتهم.

تعليق على الآية يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم إلخ وما فيها من تلقين وما روي في صددها من أحاديث

عبارة الآية واضحة وفيها: (1) أمر للمسلمين باجتناب الظنون والتخمينات والأخذ بها والحكم على الأمور بموجبها. فإنّ من الظنون ما هو خطأ يجرّ صاحبه إلى الإثم. (2) ونهي لهم عن البحث عن عورات بعضهم ومخفيات أمورهم وكشفها عن اغتياب بعضهم بعضا وذكره بالسوء في غيابه. وسؤال إنكاري على سبيل توكيد النهي عن الغيبة بخاصة عما إذا كان يحبّ أحدهم أن يأكل لحم أخيه ميتا. وتقرير لما هو طبيعي من كراهية ذلك. (3) وحثّ على تقوى الله ومراقبته والتوبة عن مثل هذه الأعمال البغيضة المكروهة المؤذية مع التنبيه على أن الله تعالى تواب يقبل توبة التائب ويشمله برحمته. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ إلخ وما فيها من تلقين وما روي في صددها من أحاديث وقد روى المفسرون «1» أن الآية نزلت أثناء غزوة غزاها النبي. حيث ضمّ سلمان الفارسي إلى شخصين موسرين- وهذا من عادة النبي حينما يخرج إلى غزاة- ليخدمهما ويأكل معهما. فغلبته عيناه مرة فلم يجهز لهما طعاما فأرسلاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأرسله إلى أسامة بن زيد خازن المئونة فقال له ليس عندي شيء فأرسلاه إلى طائفة من الصحابة فلم يجد عندهم شيئا فقالوا له لو أرسلناك إلى بئر سميحة لغار ماؤها ثم انطلقا يتجسسان على أسامة ليعلما إن كان عنده طعام ومنعه وأخذا يغمزان سلمان ويغتابان أسامة فلما جاءا إلى رسول الله قال لهما ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما؟ قالا والله يا رسول الله ما تناولنا يومنا لحما قال بل ظللتم تأكلون لحم سلمان وأسامة فأنزل الله الآية.

_ (1) انظر تفسير البغوي والطبرسي والخازن وابن كثير.

ومع احتمال حدوث مناسبة مثل المناسبة المروية فإن الاتصال والتساوق والتجانس بينها وبين آيات السورة قائم. وما قلناه في صدد سابقاتها من كون المناسبات قد حدثت قبل نزول السورة، فكانت وسيلة لما احتوته من تأديب وتعليم يقال هنا أيضا. ولقد استهدفت الآية تنبيه المسلمين إلى وجوب رعاية حقوق بعضهم وأعراضهم في الغياب وتغليب حسن الظن في بعضهم وكبت غريزة الاستطلاع والتجسس على أسرار بعضهم ومخفياتهم. وتلقينها عام مستمر المدى كسابقاتها. وتعبير أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً تعبير قوي لاذع بسبيل تعظيم إثم غيبة الناس واستنكارها. وهكذا تتكامل سلسلة التأديبات الرفيعة ليكون المسلمون بها مثال مكارم الأخلاق منزهين عن سيئاتها ومكروهاتها الخاصة والعامة. ولقد أورد المفسرون في سياق الآية أحاديث نبوية عديدة قوية التلقين والعظة في صدد منهياتها. منها حديث أخرجه ابن ماجه عن عبد الله بن عمر قال «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول ما أطيبك وأطيب ريحك ما أعظمك وأعظم حرمتك. والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله تعالى حرمة منك ماله ودمه وأن يظنّ به إلّا خيرا» «1» وحديث رواه البخاري وأبو داود جاء فيه «إيّاكم والظنّ فإنّ الظنّ أكذب الحديث ولا تجسّسوا ولا تحسّسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا» «2» . وحديث رواه أبو داود عن معاوية قال «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنك إن اتبعت عورات الناس

_ (1) النصوص من تفسير ابن كثير وقد أورد المفسر الحديث الأخير بصيغ أخرى ومن طرق أخرى مع خلاف يسير عن البراء بن عازب وعن نافع وابن عمر والمرجح أن الظن الذي وصفه الحديث الثاني بأكذب الحديث هو سوء الظن بالناس وليس الظن إطلاقا. والحديث الثاني رواه البخاري وأبو داود (انظر التاج/ 5 ص 25) والحديثان الثالث والرابع رواهما أبو داود والترمذي (انظر المصدر نفسه ص 28) . (2) المصدر نفسه.

أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم» «1» . وحديث رواه أبو داود عن أبي برزة الأسلمي جاء فيه «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنّه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتّبع الله عورته يفضحه في بيته» «2» . وحديث أخرجه الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله قال «كنّا مع النبي صلى الله عليه وسلم فارتفعت ريح جيفة منتنة فقال رسول الله أتدرون ما هذه الريح. هذه ريح الذين يغتابون الناس» «3» . وحديث أخرجه الإمام أحمد كذلك عن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم من حمى مؤمنا من منافق يغتابه بعث الله إليه ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنّم، ومن رمى مؤمنا بشيء يريد سبّه حبسه الله تعالى على جسر جهنّم حتى يخرج مما قال» «4» وحديث رواه أبو داود عن جابر ابن عبد الله وأبي طلحة بن سهل الأنصاري قال «سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من امرئ يخذل امرأ مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلّا خذله الله تعالى في مواطن يحبّ فيها نصرته. وما من امرئ ينصر امرأ مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلّا نصره الله عزّ وجلّ في مواطن يحبّ فيها نصرته» «5» وفي الحديثين الأخيرين إيجاب على كل مسلم أن يدافع عن أخيه المسلم إذا ما ذكر في مجلس سوء. وهذه طائفة من أحاديث نبوية أخرى في صور من الاغتياب المكروهة التي نبّه رسول الله عليها وندّد بها ونهى عنها. منها أحاديث رواها الطبري بطرقه وهو من أئمة الحديث ومن ذلك حديث عن أبي هريرة جاء فيه «إنّ رجلا قام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا في قيامه عجزا فقالوا ما أعجز فلانا فقال رسول الله أكلتم لحم

_ (1) المصدر السابق نفسه. [.....] (2) المصدر نفسه. (3) النص من ابن كثير أيضا. وقد أورد ابن كثير هذا الحديث بطريق أخرى مع خلاف يسير في العبارة. (4) النصوص من ابن كثير أيضا، وقد أورد ابن كثير الحديث الأول من طريق أخرى بصيغة أخرى. (5) المصدر نفسه.

أخيكم واغتبتموه» . وحديث عن معاذ بن جبل قال «كنّا عند رسول الله فذكر القوم رجلا فقالوا ما يأكل إلّا ما أطعم وما يرحل إلا ما يرحل له وما أضعفه فقال رسول الله اغتبتم أخاكم. فقالوا يا رسول الله وغيبته أن نحدث ما فيه فقال بحسبكم أن تحدّثوا عن أخيكم بما فيه» وحديث عن أبي هريرة قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكرت أخاك بما يكره فإن كان فيه ما تقول فقد اغتبته. وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه» «1» . وحديث عن حسان بن المخارق جاء فيه «إن امرأة دخلت على عائشة فلما قامت لتخرج أشارت عائشة بعدها إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي أنها قصيرة فقال رسول الله اغتبتها» «2» . وحديث رواه البغوي بطرقه عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم ولحومهم فقلت من هؤلاء يا جبريل فقال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» «3» . وهناك حديث يرويه أبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حقّ، ومن الكبائر السّبّتان بالسّبة» «4» وفي الأحاديث تعليم وتأديب نبويان واجبا الالتزام. هذا، وهناك حديث صحيح استنبط منه العلماء جواز غيبة الفاسق. وقد رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن عائشة قالت «استأذن رجل على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال ائذنوا له بئس أخو العشيرة أو ابن العشيرة. فلما دخل ألان له الكلام. قلت يا رسول الله قلت الذي قلت ثم ألنت له الكلام، قال أي عائشة إن شرّ الناس من

_ (1) روى مسلم وأبو داود والترمذي مثل هذا الحديث بهذه الصيغة «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أتدرون ما الغيبة. قالوا الله ورسوله أعلم. قال ذكرك أخاك ما يكره. قيل أرأيت إن كان في أخي ما أقول. قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته. وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» التاج ج 5 ص 24 وبهته معناه افتريت عليه وهذا أشدّ من الغيبة. (2) روى أبو داود والترمذي حديثا مقاربا بصيغة أخرى عن عائشة قالت «قلت للنبي صلى الله عليه وسلم حسبك من صفية كذا وكذا يعني قصيرة. فقال قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) التاج ج 5 ص 24. (3) روى هذا الحديث أبو داود أيضا انظر التاج ج 5 ص 25. (4) التاج ج 5 ص 24.

تركه الناس أو ودعه الناس اتقاء فحشه» «1» . وهناك حديثان نبويان فيهما صورة لأخلاق رسول الله متصلة بالموضوع الذي نحن فيه رواهما أبو داود والترمذي أحدهما عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يبلّغني أحد من أصحابي عن أحد شيئا فإني أحبّ أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر» «2» وثانيهما عن عائشة قالت «حكيت للنبي إنسانا فقال ما أحبّ أني حكيت إنسانا وأنّ لي كذا وكذا» «3» حيث ينطوي فيهما تأديب نبوي للمسلمين أيضا الذين أمروا بأن يكون لهم رسول الله الأسوة الحسنة. ولقد شرحنا كلمة وَلا تَجَسَّسُوا بما شرحناه لأن هذا هو ما يلهمه مقامها والأحاديث التي أوردناها في صددها. ومن المعلوم أن هناك عملا آخر من أعمال التجسس وهو التجسس على الأعداء والتجسس لهم. والأول مبرّر. وهناك حديث رواه أبو داود عن أنس في هذا جاء فيه «بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم بسيسة عينا ينظر ما صنعت عير أبي سفيان» «4» وحديث آخر رواه الشيخان والترمذي عن جابر قال «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب من يأتينا بخبر القوم فقال الزبير أنا. قالها ثلاثا ويجيبه الزبير. فقال النبيّ لكلّ نبيّ حواريّ وحواريّي الزبير» «5» . والثاني جريمة قد تكون ارتدادا لأن فيها توليا ونصرة للأعداء ومتولي الأعداء وناصرهم على المسلمين منهم وليس من الله في شيء كما جاء في آية سورة آل عمران هذه لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ [28] وآية سورة المائدة هذه وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ «6» .

_ (1) التاج ج 5 ص 24. (2) التاج ج 5 ص 24. (3) المصدر السابق نفسه. والمتبادر أن كلمة (حكيت) بمعنى قلدت ذلك الإنسان في عمله أو قوله ويكون ذلك القول أو العمل غير مستحب أو مثيرا للسخرية. وهذا من مألوفات ما يفعله الناس. (4) التاج ج 4 ص 361. (5) المصدر نفسه. (6) هذه الآية في سلسلة فيها نهي عن اتخاذ الذين يتخذون دين المسلمين هزوا من أهل الكتاب والمشركين حيث يكونون بذلك أعداء للمسلمين. وفي السلسلة نعت الذين يفعلون ذلك بالارتداد أيضا. [.....]

[سورة الحجرات (49) : آية 13]

وهناك حديثان يذكر أحدهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل جاسوس من الأعداء وذكر ثانيهما أن النبي أمر بقتل من قال عن نفسه إنه مسلم وتجسّس للأعداء. وقد روى أولهما البخاري وأبو داود عن سلمة بن الأكوع قال «أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم عين من المشركين وهو في سفر فجلس مع أصحابه يتحدّث ثم انفتل فقال النبي اطلبوه فاقتلوه. قال فقتلته فنفّلني سلبه» «1» . وروى ثانيهما أبو داود وأحمد جاء فيه «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل فرات بن حيّان وكان عينا لأبي سفيان. وكان حليفا لرجل من الأنصار فمرّ بحلقة من الأنصار فقال إني مسلم فقال النبي إنّ منكم رجالا لا نكلهم إلى إيمانهم. منهم فرات بن حيّان» «2» . ويرد على البال الجواسيس الذين تبثّهم الحكومات بين رعاياها. فإن كان ذلك ضدّ المجرمين وجرائمهم حقا وصدقا فقد يكون مبررا. وإن كان لغير ذلك يكون إثما عند الله وداخلا في نطاق النهي القرآني والنبوي، والله تعالى أعلم. [سورة الحجرات (49) : آية 13] يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) . (1) شعوبا وقبائل: أوجه الأقوال في الكلمتين على ما تلهمه روح الآية وتقديم الأولى على الثانية أن (الشعب) هو الأصل البعيد الجامع وأنه سمّي بذلك لأنه يتشعب إلى فروع. وأن (القبيلة) هي الأصل القريب المتفرع عن الشعب التي يتجمع فيها أفراد الفرع المنحدرين من أب أقرب.

_ (1) التاج ج 4 ص 360. (2) المصدر نفسه ص 360 ذكر الشارح في ذيله أن النبي صلى الله عليه وسلم عدل عن قتل فرات لأن حليفه كفله وأنه تاب وحسن إسلامه. ولم يذكر سندا لذلك. فإذا صح ففيه سنة نبوية بطبيعة الحال.

تعليق على الآية يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا وما فيها من تلقينات رائعة وما ورد في صددها من أحاديث

(2) لتعارفوا: لتتعارفوا، أي ليعرف بعضكم بعضا. تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا وما فيها من تلقينات رائعة وما ورد في صددها من أحاديث عبارة الآية واضحة، وفيها هتاف للناس جميعا بأن الله قد خلقهم متساوين من ذكر وأنثى. وأن تفرقهم إلى شعوب وقبائل للتعارف وليس للتفاضل. وأن أكرمهم عند الله هو أتقاهم بالإقبال على صالح العمل واجتناب الآثام. وأن الله عليم خبير بأعمالهم وشؤونهم لا تخفى عليه منهم خافية. وقد روى المفسرون أكثر من رواية لمناسبة نزول الآية. منها أن صحابيا اشترى عبدا على شريطة عدم منعه من الصلوات الخمس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فواظب على ذلك. وقد غاب فسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له إنه محموم فعاده ثم بلغه أنه يحتضر فحضر موته وتولّى غسله ودفنه، فدخل على الأنصار والمهاجرين من ذلك أمر عظيم فنزلت الآية لتهتف بما هتفت به «1» . ومنها أنها نزلت في ثابت بن قيس حيث غمز بأمّ رجل لم يفسح له في المجلس فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: انظر في وجوه القوم فنظر فقال ما رأيت؟ قال رأيت أبيض وأحمر وأسود قال فإنك لا تفضلهم إلّا بالدين والتّقوى «2» . ومنها أن بلالا لما علا الكعبة ليؤذّن عقب فتح مكة قال الحارث بن هشام أما وجد محمّد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا، فأخبر الله رسوله وأوحى بالآية لزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والإزراء بالفقراء «3» . والروايات غير موثقة الإسناد. والرواية الأخيرة تقتضي أن تكون الآية نزلت

_ (1) انظر تفسير الزمخشري. (2) انظر تفسير الخازن. (3) المصدر نفسه.

عقب الفتح المكي وهو ما لا تطمئن النفس به. ولقد روى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم تلاها في خطبته التي ألقاها على الناس عقب الفتح كآية كانت نازلة قبل، حيث روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته «أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عبّيّة الجاهلية وتعاظمها بآبائها. فالناس رجلان برّ تقيّ كريم على الله. وفاجر شقيّ هيّن على الله. والناس بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب. قال الله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى ... » «1» والرواية الأولى لا تتسق مع فحوى الآية. وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار أجلّ من أن يداخلهم همّ عظيم بسبب ما ظهر من رسول الله صلى الله عليه وسلم من برّ وتكريم لمسلم ولو كان عبدا وهو ما روته الرواية الأولى. وقد يكون في الرواية الثانية مناسبة لأن فيها شيئا مما يتناسب مع الآية، ومع ذلك فإنه يتبادر لنا أن الآية قد جاءت معقبة على الآيات السابقة وبخاصة على الآيتين [11 و 12] اللتين نهتا المسلمين عن إساءة بعضهم لبعض وجاها وغيابا بسخرية وانتقاص أو نبز أو لمز أو سوء ظن أو غيبة أو تجسس وكشف عورة على اعتبار أن فاعل ذلك إنما يفعله وهو يظنّ أنه أرفع وأفضل وأكرم من غيره. وإنها بالتالي جزء من سلسلة الآيات وتتمة لما احتوته من تعليم وتأديب ساميين. على أن الآية بما هتفت به بالناس واستهدفته من تذكيرهم بمساواتهم لبعض في الأصل والطبيعة وحقوق الحياة. ومن تقرير كون التفاضل بينهم إنما يكون في العمل الصالح وتقوى الله. وكون الأكرم عند الله إنما هو الأتقى، هي جملة تامة لذاتها تقرر وجهة نظر الشريعة الإسلامية التي يمثلها القرآن في الدرجة الأولى، في مساواة الناس في الحقوق والواجبات العامة مساواة تامة. وفي هدم درجات التفاوت والطبقات في الإسلام ونسف امتيازاتها القائمة على الأنساب والأحساب والثروات وما يماثلها من الأعراض. وفي جعل التفاضل منوطا بالسلوك الشخصي

_ (1) فصل التفسير في التاج ج 4 ص 216 وعبّيّة الجاهلية: فخرها وكبرها كما فسّرها مؤلف التاج. وقد روى ابن كثير والبغوي والخازن والقاسمي هذا الحديث وجاء في روايتهم كلمة (عيبة) بدلا من (عبّيّة) .

الذي عبر عنه بتعبير أَتْقاكُمْ والذي يدخل في نطاقه مراقبة الله في السرّ والعلن وابتغاء رضائه في الائتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه. وقد أمر بكل ما فيه الحقّ والعدل والبرّ والتقوى وأداء الواجبات نحو الله والناس. ونهي عن كلّ ما فيه إثم وبغي ومنكر وتقصير نحو الله والناس. وهي من أجل ذلك يصح أن تعتبر من روائع جوامع الكلم القرآنية وأقواها وأبعدها مدى وأثرا في الحياة الاجتماعية والسياسية والشخصية والإسلامية. ويلفت النظر بخاصة إلى المخاطب في الآية. فبينما خاطبت الآيات السابقة لها المسلمين جاءت هذه الآية لتخاطب الناس على اختلاف أجناسهم وألوانهم وأنسابهم وأحسابهم وأديانهم ونحلهم خطابا مطلقا يمتد ما دامت الحياة الدنيا، لأن الموضوع الخطير الذي تقرره هو الذي يتناسب مع هذا الخطاب أكثر. وفيها شيء من معنى التنديد اللاذع بما اعتاده الناس من التفاخر بالأحساب والأنساب والثروات وما يماثلها من الأعراض. وهذه الدلالات قوية البروز في الخطبة الرائعة التي ألقاها السيد الرسول صلوات الله عليه بعد فتح مكة وتلا فيها الآية والتي أوردنا خبرها قبل. ولقد روى المفسرون في سياق هذه الآية وفي صددها أحاديث نبوية قوية التلقين والعظة منها حديث رواه ابن ماجه عن أبي هريرة جاء فيه «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» «1» . وحديث أخرجه الطبراني عن محمد بن حبيب بن خراش العصري عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «المسلمون إخوة لا فضل لأحد على أحد إلّا بالتّقوى» «2» . وحديث أخرجه أبو بكر البزار عن حذيفة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلّكم بنو آدم وآدم خلق من تراب، ولينتهينّ قوم يفخرون بآبائهم أو ليكوننّ أهون على الله تعالى من الجعلان» «3» . وحديث رواه الطبري جاء فيه «قال

_ (1) النصوص من ابن كثير. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه.

[سورة الحجرات (49) : الآيات 14 إلى 18]

رسول الله صلى الله عليه وسلم: الناس لآدم وحواء، طفّ الصاع لم يملؤوه، إن الله لا يسألكم عن أحسابكم ولا عن أنسابكم يوم القيامة إن أكرمكم عند الله أتقاكم» «1» . وحديث رواه الإمام أحمد عن عقبة بن عامر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أنسابكم هذه ليست بحسبة على أحد. كلّكم بنو آدم. طفّ الصاع لم يملؤوه. ليس لأحد على أحد فضل إلّا بدين وتقوى. وكفى بالرجل أن يكون بذيئا بخيلا فاحشا» «2» . وحديث رواه الإمام أحمد عن أبي ذرّ قال «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لرجل انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى الله» «3» . ومن الجدير بالتذكير في هذا السياق آيات في سورة (المؤمنون) تحتوي التلقين الذي احتوته الأحاديث الشريفة وهي فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) . [سورة الحجرات (49) : الآيات 14 الى 18] قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) . (1) لا يلتكم: لا ينقصكم.

_ (1) النصوص من ابن كثير. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه.

تعليق على الآية قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ... والآيات الثلاث التالية لها وما فيها من صور وأحكام وتلقين

تعليق على الآية قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا ... والآيات الثلاث التالية لها وما فيها من صور وأحكام وتلقين عبارة الآيات واضحة، وقد روى المفسرون «1» أنها نزلت في مناسبة قدوم جماعة من أعراب بني أسد إلى المدينة في سنة جدب وإظهارهم الإسلام ومطالبتهم من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم من الصدقات ومنّهم عليه بدخولهم في الإسلام ومتابعتهم له عن طواعية في حين أن القبائل الأخرى عالنته العداء وحاربته. وروح الآيات ومضمونها متسقان مع الرواية إجمالا كما هو واضح. وقد احتوت: أولا: صورة من صور الأعراب ومدى تأثرهم بالإسلام لأول عهدهم به واتخاذهم التظاهر به وسيلة للغنم ومنّهم بما يتظاهرون به على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ردت عليهم الآيات ردّا قويّا لاذعا وآذنتهم أن الله يعلم سرائرهم وأن الإسلام والإيمان هما لنجاتهم وأن الله الذي هداهم هو الأولى بأن يمنّ عليهم بهما. وثانيا: تسامح الله تعالى مع مثل هؤلاء وقبول الظاهر منهم مع ذلك إذا اقترن بطاعة الله ورسوله. وتطمينهم بأن الله عز وجل في مثل هذه الحالة يجزيهم على أعمالهم دون نقص برغم علمه أن الإيمان لم يتمكن في قلوبهم وأن كل ما كان من أمرهم إعلان إسلامهم. وثالثا: وصفا قويا رائعا وحاسما للمؤمن المخلص فيه معنى الحثّ على الاتصاف به. ورابعا: فرقا بين معنى الإيمان ومداه ومعنى الإسلام ومداه بكون الأول لا يحتمل ترددا ولا ارتيابا ولا أمل منفعة مادية دنيوية ولا قصدا لها. ويجعل

_ (1) انظر الطبري والطبرسي والبغوي وابن كثير والخازن.

المتحقق به يقدم على الجهاد في سبيل الله بماله ونفسه وتحمل التضحيات والمشقات برضاء نفس وطمأنينة قلب. وبكون الثاني هو إظهار الانقياد للدعوة وواجباتها رغبة أو رهبة دون أن يتمكن الإيمان في قلب من يعلن إسلامه. وهذه صفة الأعراب الذين حكت الآيات قصتهم وتعبير الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ينطوي في الوقت نفسه على تنويه بالذين تمكن الإيمان في قلوبهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصف لهم. ولقد كان تعبير (الإسلام) يأتي بمعنى إسلام النفس لله عز وجل وخضوع المرء وانقياده له وبالتالي بمعنى الإخلاص لله في حين أن الآيات لم تعتبر قول الأعراب أَسْلَمْنا دليلا على إخلاصهم وصحة إيمانهم. حيث يبدو من ذلك طور من أطوار استعمال هذه الكلمة في القرآن. ولقد صارت الكلمة عنوانا على الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم على ما جاء في الآية الثالثة من سورة المائدة وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً. فجملة وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا في الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها من مدى ذلك بمعنى (قولوا اتخذنا الإسلام دينا) والله أعلم. ولقد نبّه بعض المفسرين «1» إلى أن الآيات لا تتضمن وصف الأعراب الذين حكت أقوالهم بالنفاق. وهذا صحيح. ويستتبع هذا أن الله إنما وسع لهم رحمته وحكمته لأنهم كانوا يظنون أنهم بإظهارهم الإسلام قد فعلوا ما عليهم. وأن الآيات هي بسبيل إعلامهم حقيقة أمرهم وحقيقة الإيمان الصحيح والمتصفين به للتأديب والتنبيه والحثّ في مناسبة ما روي عنهم من منّ وتبجّح. وقد يكون هذا حال معظم الذين أسلموا من جماهير العرب الذين كانت أكثريتهم من القبائل. بل قد يكون هذا حال جماهير المسلمين في كل وقت. وهذا مؤيد في تقسيم القرآن للمؤمنين بالله فريق وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ [10] وفَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ [8] كما جاء في سورة الواقعة. وقد جعل لكل منهما ثوابه الأخروي بحسب ذلك على

_ (1) انظر تفسير ابن كثير. [.....]

ما جاء في نفس السورة. وجاء في وصف السابقين ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) وفي وصف أصحاب الميمنة ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) . وعلى ضوء هذا قد يصح أن يقال والله أعلم إن في الآيات خطة شرعية سياسية مستمرة المدى. وهي قبول ظواهر الناس وتوسيع الدولة الإسلامية صدرها لمن يعلن إسلامه ويظهر انقياده وطاعته ويقوم بما يترتب عليه من واجبات نحو الله والدولة والناس، واعتباره من رعاياها المسلمين بقطع النظر عما إذا كان مؤمن القلب أم لا. لأن ذلك مغيب عن غير الله عز وجل. وليس من شأن الدولة والناس أن يشقوا عن قلوب أمثاله ليتبينوا صدق إيمانه على حدّ تعبير رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المروي عنه في سياق آية النساء هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا ... [94] حيث قال لمن قتل القائل حينما قال له إنه كان كاذبا في قوله «هلا شققت عن قلبه» «1» على ما شرحناه في سياق تفسير هذه الآية. ويحسن أن ننبه على أمر هام في هذا الصدد وهو أن من الأعراب الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل منهم ظواهرهم الإسلامية بناء على تلقينات القرآن من صار مخلصا في إيمانه وعمله على ما سجلته آية سورة التوبة هذه وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) . وقد جاءت هذه الآية بعد آيتين ذكر فيهما حالة الأعراب بصورة عامة الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [التوبة: 97- 98] . حيث تبدو خلال ذلك روعة الحكمة القرآنية فيما

_ (1) انظر تفسير الخازن وابن كثير.

رسمته من خطة مثلى. وحيث يبدو أن ما جاء في الآية التي نحن في صددها هو بسبيل تسجيل الواقع حين نزولها. هذا، ومع ما يبدو من كون الآيات فصلا مستقلا احتوى موضوعا خاصا فإن ما فيها من النهي عن المنّ بالإسلام وما ينطوي عليه من نهي عن زهو المرء بما ليس فيه في غير حقّ ومحل. ومن تقرير لصفة المؤمن الصادق وإخلاصه يجعل بينها وبين الفصول السابقة من السورة التي احتوت فصولا تأديبية متنوعة ومتساوقة صلة ما. لأن فيها معنى من معاني التعليم والتأديب والتهذيب الخلقي والنفسي للمسلمين عامة في كل وقت مثلها. وإذا كانت نزلت لحدتها وفي ظرف غير ظرف نزول فصول السورة فالراجح أن هذه الصلة هي سبب وضعها في ترتيبها. والله أعلم. ومن المحتمل مع ذلك أن يكون الحادث الذي نزلت في مناسبته سابقا لنزول السورة فاقتضت حكمة التنزيل أن يشار إليه في فصل من فصول السورة التأديبية والتعليمية. وإذا صحّ هذا الاحتمال فيكون هذا الفصل أيضا قد نزل مع الفصول السابقة التي يمكن أن تكون نزلت دفعة واحدة أو متتابعة، والله تعالى أعلم.

سورة التحريم

سورة التحريم في السورة إشارة إلى حادث وقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبعض زوجاته. واستطرادات متصلة به استهدفت العظة والإنذار والتمثيل والتذكير. ومن المحتمل أن يكون فصل الحادث نزل لحدته ثم نزلت الفصول الاستطرادية بعده تباعا حتى تمت السورة. والله أعلم. وقد ذكر الزمخشري أنها تسمى سورة النبي أيضا ولم يذكر لذلك سندا. وليس في السورة أمارة مميزة يمكن أن تساعد على القول بصحة ترتيبها وعدمه. وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أنها نزلت بعد الحجرات، وروي هذا في ترتيبات أخرى «1» فجارينا هذه الروايات. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة التحريم (66) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5) .

_ (1) انظر روايات تراتيب النزول للسور المدنية في كتابنا سيرة الرسول 2 ص 9. الجزء الثامن من التفسير الحديث 34

(1) تحلّة: وسيلة للتحلّل من الأيمان. (2) صغت: مالت أو زاغت. (3) صالح المؤمنين: بمعنى الجمهور الصالح من المؤمنين. (4) سائحات: قيل بمعنى صائمات. وروي حديث نبوي مرفوع جاء فيه «سياحة هذه الأمة الصيام» وقيل بمعنى مهاجرات. في الآية الأولى: سؤال للنبي صلى الله عليه وسلم فيه معنى العتاب لتحريمه على نفسه ما أحلّه الله له مرضاة لزوجاته مع تطمينه بغفران الله ورحمته فهو الغفور الرحيم. وفي الآية الثانية: تذكير بأن الله قد شرع كفارة اليمين للمسلمين لتكون وسيلة للرجوع عما أقسموا الأيمان عليه من أمور يحسن الرجوع عنها. وهو العليم بأعمال الناس الحكيم فيما يأمر به ويرسمه. وينطوي في التذكير تنبيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الوسيلة. وفي الآية الثالثة: إشارة إلى حادث وقع بين النبي وبعض أزواجه حيث حدّث واحدة منهن بحديث وطلب منها كتمانه فلم تكتمه وأخبرت به غيرها. وسئل عنه وأظهره الله على ما جرى فاعترف بشيء منه وسكت عن شيء آخر ثم عاتب زوجته على إفشائها السرّ فسألته مستغربة عن الذي أخبره بالأمر فأجابها إنه الله العليم الخبير. أما الآيتان الرابعة والخامسة: فقد احتوتا إنذارا يتضمن معنى التنديد أيضا موجها لزوجات النبي عامة ولاثنتين منهن خاصة كما احتوتا تطمينا وتأييدا للنبي كما يلي: (1) فعلى الزوجتين أن تتوبا إلى الله. فقد كان منهما من الزيغ والكيد

تعليق على الآية يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم (1) والآيات الأربع التي بعدها وما فيها من صور وتلقين

ما يوجب عليهما ذلك «1» . (2) وإذا كانتا قد تظاهرتا وتعاونتا على الكيد للنبي فلتعلما أن الله نصيره وظهيره. وأن جبريل والملائكة والصالحين المخلصين من المؤمنين أيضا نصراؤه وظهراؤه. (3) وأن ربّه ليستطيع إذا تراءى له أن يطلّق نساءه بسبب أمثال هذه المكايدات أن يبدله بهن أزواجا خيرا منهن ثيبات وأبكارا متصفات بأحسن الصفات وأطهرها من إسلام وإيمان وخشوع وخضوع وعبادة وصوم أو هجرة. تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) والآيات الأربع التي بعدها وما فيها من صور وتلقين ولقد روي في صدد نزول هذه الآيات وصورها روايات عديدة. منها حديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب بنت جحش ويمكث عندها فواطيت أنا وحفصة على أيّتنا دخل عليها فلتقل له أكلت مغافير، إني أجد منك ريح مغافير. قال: لا ولكنّي كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش فلن أعود له وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا» «2» وهذا الحديث ورد في كتاب التاج في سياق تفسير السورة في فصل التفسير كأنما

_ (1) هذا تأويل جملة إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وهو ما ذهب إليه أكثر المفسرين ومنهم الزمخشري والخازن والطبرسي والبغوي والنسفي. وقد رأينا في تفسير القاسمي تأويلا آخر وهو: إن تتوبا إلى الله فتكون قلوبكما قد صغت وعادت إلى الحق وقد اخترنا الأول لأننا رأيناه الأكثر اتساقا مع روح الآية. والله أعلم. (2) التاج ج 4 ص 239. واطيت بمعنى تواطأت أو اتفقت. مغافير صمغ شجر العرفط وهو حلو الطعم كريه الريح. والقصد إيهام النبي أن النحل قد جنى من هذا الصمغ فصار ريحه كريها. وقد أوردنا النص كما ورد والظاهر أنه مختصر. ويفيد على كل حال أن إحداهما قالت للنبي صلى الله عليه وسلم. ما تواطأنا عليه فأجابها بما جاء في الشطر الثاني من الحديث ...

يورد كسبب لنزول الآيات «1» . وقد روى الثلاثة المذكورون حديثا طويلا آخر ورد في التاج في سياق تفسير السورة أيضا عن ابن عباس رأينا من المفيد إيراده لما فيه من صور طريفة قال «مكثت سنة أريد أن أسأل عمر عن آية فما أستطيع ذلك هيبة له حتى خرجت في الحجّ معه فلمّا رجعنا وكنّا ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له فوقفت له حتى فرغ ثم سرت معه فقلت يا أمير المؤمنين: من اللتان تظاهرتا على النبيّ صلى الله عليه وسلم من أزواجه فقال تلك حفصة وعائشة. قلت والله كنت أريد أن أسألك عن هذا من سنة فما أستطيع هيبة لك. قال فلا تفعل، ما ظننت علمه عندي فاسألني عنه فإن كان لي علم خبرتك به ثم قال عمر والله إنا كنّا في الجاهلية ما نعدّ للنساء أمرا حتى أنزل الله فيهنّ ما أنزل وقسم لهن ما قسم. قال فبينا أنا في أمر أتأمره إذ قالت امرأتي لو وضعت كذا وكذا فقلت لها ما لك ولما هاهنا وما تكلفك في أمر أريده؟ فقالت لي عجبا يا ابن الخطاب ما تريد أن تراجع وإنّ ابنتك لتراجع رسول الله حتى يظلّ يومه غضبان، فقام عمر فأخذ رداءه حتى دخل على حفصة فقال لها يا بنية إنك لتراجعين رسول الله حتى يظلّ يومه غضبان؟ فقالت حفصة والله إنا لنراجعه فقلت تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسوله. لا تغرنّك هذه التي أعجبها حسنها وحبّ رسول الله إيّاها. قال ثم خرجت حتى دخلت على أم سلمة لقرابتي منها فكلمتها فقالت عجبا لك يا ابن الخطاب! دخلت في كلّ شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله وأزواجه فأخذتني والله أخذا كسرتني عن بعض ما كنت أجد. فخرجت وكان لي صاحب من الأنصار إذا غبت أتاني بالخبر وإذا غاب أتيته بالخبر. وكنا نتخوف ملكا من ملوك غسان سمعنا أنه يريد السير إلينا وقد امتلأت صدورنا منه فإذا صاحبي الأنصاريّ يدقّ الباب فقال افتح فقلت جاء الغسانيّ؟ قال بل أشدّ من ذلك. اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجه. فقلت رغم أنف حفصة وعائشة. فأخذت ثوبي فخرجت حتى جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشربة له يرقى عليها بعجلة وغلام لرسول الله أسود على رأس الدرجة. فقلت له: قل هذا عمر بن الخطاب فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر: فقصصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ (1) إن المفسرين: البغوي والطبرسي أوردا هذا الحديث وقالا إن الآيات نزلت في مناسبة ما جاء فيه.

هذا الحديث فلمّا بلغت كلام أمّ سلمة تبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف وعند رجليه قرظ مصبوب. وعند رأسه أهب معلقة. فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت فقال ما يبكيك؟ قلت: يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هم فيه وأنت رسول الله، فقال أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة» «1» . وقد روى البخاري حديثا ثالثا عن أنس ورد في التاج في فصل التفسير وفي سياق تفسير السورة أيضا قال: «قال عمر رضي الله عنه: اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه فقلت لهنّ عسى ربّه إن طلّقكنّ أن يبدله أزواجا خيرا منكنّ فنزلت هذه الآية» «2» . ولقد أورد المفسرون «3» هذه الأحاديث. وأوردوا بالإضافة إليها أحاديث أخرى لم ترد في كتب صحاح الأحاديث. فقد روى البغوي بالإضافة إلى الحديث الأول الذي أورده وقال إن الآيات نزلت في مناسبة ما جاء فيه، حديثا عن عائشة ذكر فيه أن النبيّ إنما شرب شراب العسل عند حفصة وأن التواطؤ كان بين عائشة وسودة وصفية. وقد روى البغوي وابن كثير والطبرسي والخازن حديثا فيه سبب آخر «وهو أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أذن لحفصة أن تزور أهلها وفي غيابها استدعى مارية القبطية إلى بيتها ووقع عليها. وعرفت حفصة ذلك فأخذت تبكي وتقول للنبي صلى الله عليه وسلم إنك أذنت لي من أجل هذا وأدخلت أمتك بيتي ووقعت عليها في يومي وعلى فراشي، فقال لها ألا ترضي أن أحرّمها فلا أقربها؟ قالت: بلى فقال لها: لا تذكري ذلك لأحد فذكرته لعائشة فأنزل الله الآيات» ومما رووه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحفصة من قبيل المراضاة والبشرى إن أباها وأبا عائشة سيكونان خليفتين بعده. ومما رووه تتمة للحادث أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب لإفشاء سرّه واعتزل نساءه شهرا وقعد في مشربة

_ (1) المصدر السابق الذكر ص 240- 241 والقرظ: ثمرة مثل البلوط. وأهب جمع إهاب. وهو كيس من جلد. وفسر الشارح كلمة (عجلة) بدرجة. وقد جاءت هذه الكلمة بعد كلمة (عجلة) كأنها مرادفة لها. (2) المصدر نفسه. (3) انظر تفسير الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير.

مارية. وشاع أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقهن بل ورووا أنه طلق حفصة وأن عمر بن الخطاب جاء إلى المسجد فوجد الناس جالسين يبكون وفي رواية ينكتون بالحصى ويقولون: طلّق رسول الله نساءه فاستأذن على النبي فلما أذن له قال: يا رسول الله ما يشقّ عليك من أمر النساء فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك ثم سأله: أطلقتهن؟ قال: لا، فنادى بأعلى صوته: لم يطلق النبي نساءه ونزلت الآيات. وعلى كل حال فالآيات قد نزلت بسبب حادث ما مما ورد في الأحاديث، وبالتالي بسبب غيرة نساء النبي صلى الله عليه وسلم لأن فحواها متطابق مع ذلك. مع القول إن رواية المفسرين لأحاديث غير أحاديث الشيخين والترمذي قد تفيد أن من الرواة من لم يكن متأكدا من هذه الأحاديث، ومتأكدا مما بلغه وأن المفسرين جاروهم في ذلك فجمعوا بين الأحاديث على اختلاف مراتبها. ومن الجدير بالتنبه أنه ليس في الحديث الطويل المروي عن ابن عباس وحديثه عن عمر ما يتصل بالحادث إلّا كون جملة وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ هي في حفصة وعائشة. وهذا مطابق للحديث الأول الذي هو الأقوى سندا والذي قد يكون ما جاء فيه هو الأصحّ والله أعلم. والتنديد والإنذار في الآيات قويان يلهمان أن الحادث مما أزعج النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا فجاءا بهذه القوة متناسبين مع شدة الإزعاج والألم اللذين ألمّا بالنبي صلى الله عليه وسلم مع علوّ مقامه الذي هو جدير بالتعظيم والتوقير وبخاصة من نساء النبي أكثر من أي شخص آخر. وهكذا تكون الآيات قد احتوت مشهدا آخر من مشاهد السيرة النبوية الخاصة بحياة النبي صلى الله عليه وسلم الزوجية. وقد سبقت الإشارة إلى مشاهد أخرى من ذلك في سورتي الأحزاب والنور. والإيجاز في الإشارة وأسلوب الآيات معا يلهمان أن الآيات إنما أوحيت للعظة والتعليم مما يصح أن يكون شاملا لعامة المسلمين في الحالات المماثلة التي هي من مشاهد الحياة الزوجية.

ويحسن أن ننبه على مدى تعبير لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ من حيث كونه ليس في معنى المناقضة في تحريم ما أحل الله تعالى في المفهوم الشرعي الذي يقابله معنى إحلال ما حرّم الله. وإنما هو في معنى حرمان النفس ومنعها مما أحلّه الله. وهذا غير غريب عن المألوفات البشرية في امتناع الناس أو حلفهم على الامتناع عن شيء هو في أصله حلال ومباح لهم دون أن يعني أنه قصد نقيض حلّه. وتحلّة الأيمان إنما وردت في آيات سورة المائدة هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) . ويفيد هذا أن الآيات التي نحن في صددها قد نزلت بعد هذه الآيات مع أن سورة المائدة متأخرة في الترتيب عن سورة التحريم. ولقد احتوت سورة المائدة فصولا متعددة منها ما يدل على أنها نزلت قبل فصول نزلت في سور متقدمة عليها في الترتيب على ما سوف نشرحه بعد. ومنها هذا الفصل على ما يبدو. وقد يفيد أسلوب الآيتين الأولى والثانية أن الله عز وجلّ لا يحب أن يحرم الإنسان على نفسه ما أباحه وأحله له. وأن الواجب إذا صدر من امرئ يمين بذلك أن يكفر عنه ويتمتع بما أباحه الله وأحله له. وهذا صريح أكثر في آيات المائدة. ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث وردت في الكتب الخمسة مؤيدة لذلك. وأحاديث في تعريف اليمين اللغو وأخرى في اليمين الغموس التي تحلف كذبا على أمر جرى خلافا للمدعى به، وأخرى في صدد اليمين بغير الله وأخرى في صدد الاستثناء في اليمين أوردناها في سياق تفسير الآية [224] من سورة البقرة فنكتفي بهذا التنبيه هنا يرجع إليها. هذا، وجبريل يذكر هنا للمرة الثانية. وقد ذكر لأول مرة في آيات سورة البقرة [97- 98] وعلقنا عليه بما فيه الكفاية. والأسلوب والمقام الذي جاء ذكره

[سورة التحريم (66) : الآيات 6 إلى 8]

فيهما هنا يؤيد ما نبهنا عليه من دلالة آيات البقرة والأحاديث النبوية العديدة من اختصاصه بالنبي صلى الله عليه وسلم وحيا وتوجيها وتأييدا وتعليما. ومن كونه عظيم ملائكة الله المقربين، ومن كون هذا قد استقر في أذهان المسلمين. وبرغم ما هو ظاهر الدلالة من أن جملة وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ تعني في مقامها جمهور المؤمنين الصالحين فإن مفسري الشيعة صرفوها كعادتهم إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه دون سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم «1» . وفي هذا ما فيه من تعسف وهوى. [سورة التحريم (66) : الآيات 6 الى 8] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) . (1) توبة نصوحا: التوبة التي ينصح الإنسان بها نفسه أي ينقذها وهي التوبة التي يندم بها صاحبها عمّا فرط منه ويعتزم على عدم العودة. وقد روى الطبرسي أن معاذ بن جبل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال له: أن يتوب التائب ثم لا يرجع في ذنب. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً والآيتين التاليتين لها لم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه مناسبة خاصة لنزول الآيات التي احتوت عظة وإنذارا وتبشيرا.

_ (1) التفسير والمفسرون للذهبي ج 2 ص 192.

والذي يتبادر لنا أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة. فقد حكت ما حكته من الحادث الذي كاد فيه بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم له بما آلمه، وأنذرتهن ونددت بهن وطلبت منهن التوبة فجاءت هذه الآيات تهتف بالمسلمين عامة- ونساء النبي داخلات في الخطاب طبعا- على سبيل العظة والتوكيد: بوجوب التوبة إلى الله تعالى مما ألمّوا ويلمّون به من ذنوب وأخطاء توبة صادقة مخلصة ليقوا أنفسهم وأهليهم بذلك من أهوال يوم القيامة ويستحقوا فيه مغفرة الله تعالى ورحمته ورضوانه وجناته. وقد وصفت الآيات ذلك اليوم بما وصفت من قبيل الاستطراد والتشديد بالدعوة إلى ما هتفت به من التوبة ووقاية النفس والأهل: فالنار شديدة هائلة. وحرّاسها أشداء أقوياء من الملائكة يسارعون إلى تنفيذ أوامر الله ولا يعصونه في شيء. ولسوف يقال في ذلك اليوم للكفار: لا تعتذروا فلن يفيدكم اعتذار وإنما تجزون بما كنتم تعملون حقّا وعدلا. ولسوف يقرّ الله فيه عيون النبي والمؤمنين المخلصين معه ولا يخزيهم. يشعّ نورهم أمامهم وعلى جوانبهم ويدعون الله بأن يتمّم نوره ونعمته عليهم ويغفر لهم ذنوبهم مقررين أنه على كل شيء قدير. والآيات قوية نافذة من شأنها بعث الرهبة والرغبة في السامعين وهو مما استهدفته الآيات. وإطلاق الهتاف يجعله عامّا شاملا لكل المسلمين في كل ظرف ومكان. ووصف التوبة التي دعي إليها المسلمون بالنصوح الذي يعني الندم على ما فات والاعتزام على عدم اقتراف ذنب فيما هو آت. وهو ما أوله به أهل التأويل من أصحاب رسول الله وتابعيهم على ما رواه المفسرون «1» . وهذا هو الأصل الحكيم في مبدأ التوبة القرآني على ما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة. ولقد علّق المفسرون «2» على جملة قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً فقالوا: إنها

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي والزمخشري والخازن. (2) المصدر نفسه.

[سورة التحريم (66) : آية 9]

توجب على ربّ البيت المسلم أن يعلم أهله وأولاده ومماليكه ما فرض الله ونهى عنه ومن ذلك تعليم الأطفال الصلاة والصوم وحسن الأخلاق وأن يراقبهم في ذلك وأن يزجرهم ويقذعهم إذا ما أتوا معصية. ومنهم من عزا ذلك إلى ابن عباس. وفي هذا وجاهة ظاهرة. وفي مناسبة جملة عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) نقول: إن شيئا من ذلك ورد في سورة المدثر وعلقنا عليه وعلى موضوع الملائكة في مناسبة بما يغني عن التكرار. وقد يكون ما تضمنته الآيات هنا من إنذار بالجزاء الأخروي للناس على أعمالهم والتحذير من عذاب النار من حكمة الأسلوب الذي وردت به العبارة القرآنية لأن فيه ترهيبا قويا، والله تعالى أعلم. [سورة التحريم (66) : آية 9] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) . وهذه الآية أيضا لا يروي المفسرون لها مناسبة فيما اطلعنا عليه. ومع أنها تبدو مستقلة عما قبلها وبعدها سياقا وموضوعا فليس من شأن هذا أن يجعلها في مكانها فذة. فقد تكون استطرادية بعد الآيات السابقة التي دعت إلى التوبة واجتناب عذاب الله وأشارب إلى مصير الكفار الأخروي وعدم جدوى اعتذارهم في يوم القيامة لتأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوقوف- من الذين كفروا برسالته علانية وهم الكافرون وسرّا وهم المنافقون- موقف الشدة والمجاهدة. ولتنذر بمصيرهم الأخروي المحتم وهو جهنّم. ومثل هذه الاستطرادات غير نادر في النظم القرآني كما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة. ومما يمكن أن يسوغ هذا ما يبدو من صلة وثيقة بين الآيات التالية لهذه الآية والآيات السابقة لها بحيث يستبعد أن تكون هذه الآية فذة كما قلنا في مكانها لا تتصل بما سبقها وما لحقها اتصالا مباشرا أو غير مباشر والله أعلم.

[سورة التحريم (66) : الآيات 10 إلى 12]

ولقد فرق المفسرون «1» عزوا إلى ابن عباس وابن مسعود وبعض علماء التابعين في الموقف الواجب وقوفه من كل من الكافرين والمنافقين بحيث تكون مجاهدة الكافرين بالسيف والمنافقين بالحجة والغلظة في التنديد والتثريب. مع أنه ليس في الآية ما يسوغ هذا التفريق ولا سيما أنها جعلت مصير الفريقين الأخروي واحدا. ويتبادر لنا أن هذا التفريق مستلهم من موقف النبي صلى الله عليه وسلم من المنافقين حيث لم ير قتالهم وقتلهم لاعتبارات عديدة منها أنهم كانوا مسلمين في الظاهر يقرون بوحدانية الله ورسالة رسوله ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويشتركون في الحركات الجهادية على ما شرحناه في سياق تفسير سور البقرة والأحزاب والنساء. وقد يكون هذا في محله والله أعلم. وعلى ضوء ما شرحناه في مناسبات سابقة فإن كان الجهاد المأمور به النبي الكفار يعني القتال فإنه يكون بالنسبة للأعداء منهم دون المسالمين. أما إذا كان يعني بذل الجهد في الإنذار فيصح أن يكون الأمر واردا بالنسبة لجمع الكفار وبالنسبة للمنافقين معا. [سورة التحريم (66) : الآيات 10 الى 12] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12) .

_ (1) انظر تفسير هذه الآية وتفسير الآية [73] من سورة التوبة التي في نفس الصيغة في كتب تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري.

تعليق على الآية ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين

تعليق على الآية ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين الآيات تحتوي تذكيرا بحالة ثلاث فئات من النساء ومصائرهن: (1) فالفئة الأولى كافرات في عصمة مؤمنين صالحين. والمثال عليها امرأتا نوح ولوط. فقد خانتا زوجيهما وكفرتا فلم تنفعهما زوجيتهما بنبي ولم يغن زوجاهما عنهما من الله شيئا. وحقّت عليهما النار في جملة من حقت عليه. (2) والثانية مؤمنة في عصمة كفار متمردين على الله. والمثال على ذلك امرأة فرعون. فقد آمنت وأنابت إلى الله واستنكرت ظلم فرعون وكفره ودعت الله بأن ينجيها منه من تبعة عمله وبأن يكون لها بيت عنده في الجنة. وينطوي في هذا تقرير كون زوجيّتها لفرعون لم تضرّها وكونها نالت من الله الرضاء وحسن الجزاء. (3) والثالثة مؤمنة لم ترتبط بعصمة الرجال. والمثال عليها مريم ابنة عمران. فقد آمنت بالله وكتبه وخضعت له واعتصمت به. وأحصنت فرجها فكرمها الله بأن نفخ فيه من روحه. وينطوي في ذلك أيضا تقرير كونها نالت رضاء الله عنها. ولم نطلع على رواية خاصة بنزول هذه الآيات أيضا. والمتبادر أنها متصلة بموضوع آيات السورة وخاصة بفصلها الأول صلة تمثيل وتذكير لنساء النبي صلى الله عليه وسلم اللائي صدر من بعضهن ما صدر، وأنه أريد بها كما تلهمه تقرير كون رابطتهن الزوجية بالنبي صلى الله عليه وسلم ليس من شأنها وحدها أن تنجيهن من عذاب الله أو تضمن لهن رضاءه وأن هذا وذاك متوقف على عملهن وسلوكهن. والإطلاق في الآيات يجعل العظة التي استهدفتها والأمثال التي ضربتها والتذكير الذي ذكرت به موجها إلى عموم المسلمين ومستمر التلقين. وخاصة في صدد كون المرء لا ينجيه إلّا عمله مستقلا عن أية رابطة تربطه بغيره.

ولقد تكرر التقرير المنطوي في الآيات بأساليب عديدة في مواضع كثيرة من القرآن المكي والمدني ما مرّ منه أمثلة عديدة حيث يكون هذا من المبادئ القرآنية المحكمة. ومع خصوصية الآيات ومناسبتها الموضوعية فإنها لا تخلو كما يتبادر لنا من تلقين تقريري لشخصية المرأة واستقلالها السلوكي وأهليتها لتحمل نتائج هذا السلوك. وهذا كله متسق مع ما قرره القرآن ونبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة. وكفر وخيانة امرأة نوح وإيمان امرأة فرعون يذكران للمرة الأولى والوحيدة في هذه الآيات. والأمران لم يردا في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم والتي احتوت قصص نوح وفرعون وموسى بإسهاب. ولكن هذا لا يمنع من أن يكون شيء من ذلك ورد في أسفار وقراطيس كانت متداولة ولم تصل إلينا على ما نبهنا عليه في مناسبات مماثلة. ولقد روى المفسرون «1» عن بعض التابعين أن امرأة نوح كانت تشي لجبابرة قومها بالذين كانوا يؤمنون برسالة زوجها. وأن امرأة فرعون التي سميت في كتب التفسير بآسية بنت مزاحم آمنت نتيجة لإيمان امرأة خازن فرعون التي أصرّت على إيمانها بالله رغم قتل فرعون لأولادها أمامها وتعذيبها حتى زهقت روحها حيث أثّرت أقوالها فيها وأنها فرحت حينما علمت بتغلب موسى على سحرة فرعون وأعلنت إيمانها بربّ هارون وموسى. وأن فرعون عذّبها ثم أمر بإلقاء صخرة عظيمة عليها فزهقت روحها هي الأخرى حيث يدلّ هذا على أن ما ورد في الآيات كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا كان من الراجح أن هذا التداول كان في أوساط الكتابيين فإن ورود الآيات بالأسلوب الذي وردت به قرينة على أن سامعي القرآن من العرب لم يكونوا يجهلون ذلك أيضا فاقتضت حكمة التنزيل أن يكون وسيلة للعظة والتذكير والتمثيل شأن كل الأمثال التاريخية التي وردت في القرآن. أما امرأة لوط ففي قصة لوط الواردة في سور الصافات والعنكبوت والنمل

_ (1) انظر تفسير ابن كثير والبغوي والخازن والطبرسي.

استطراد إلى رواية إخوة وأخوات المسيح من أمه

والشعراء والحجر وهود والأعراف إشارات إلى أن الله كتب عليها ما كتب على قوم لوط من هلاك. وفي سفر التكوين المتداول اليوم شيء بهذا المعنى أيضا حيث جاء في الإصحاح (19) أنها التفتت وراءها فصارت قضيب ملح. ومن المؤسف أن مفسري الشيعة لم يمنعهم عقل ودين من صرف الآية الأولى إلى عائشة وحفصة رضي الله عنهما زوجتي رسول الله صلى الله عليه وسلم والقول إنهما كانتا كافرتين منافقتين وأنهما خالدتان في النار. والعياذ بالله من قول الزور والهوى. ولقد ذكرت السيدة مريم في سور عديدة مكية ومدنية مثل سور مريم والأنبياء والمؤمنون وآل عمران والمائدة وذكر ما كان من قنوتها لله وإحصانها فرجها وتكريم الله لها ونفخه فيها من روحه وجعلها وابنها آية للعالمين. وقد علقنا على ذلك في سياق تفسير المذكورة بما يغني عن التكرار. استطراد إلى رواية إخوة وأخوات المسيح من أمه غير أننا رأينا هنا أن نستطرد إلى ما يروى عن وجود إخوة وأخوات للمسيح من أمه. لأن بعض المسلمين سألونا مؤخرا عنها. ففي الإصحاح (6) من إنجيل مرقس هذه العبارة (أليس هذا هو النجار ابن مريم وأخا يعقوب ويوسى ويهوذا ... ! وليست إخوانه هاهنا عندنا) وفي الإصحاح (8) من إنجيل لوقا هذه العبارة (وأقبلت أمه وأخوته فلم يقدروا على الوصول إليه لأجل الجمع. فأخبر وقيل له إن أمك وإخوتك واقفون خارجا يريدون أن يروك) ولقد جاء في الإصحاح الأول من إنجيل متى هذه العبارات (لما خطبت مريم أمه ليوسف وجدت من قبل أن يجمعا حبلى من روح القدس. وإذ كان يوسف رجلها صديقا ولم يرد أن يشهرها همّ بتخليتها سرّا. وفيما هو متفكر في ذلك إذا بملاك الرب تراءى له في الحلم قائلا يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ امرأتك مريم فإن المولود إنما هو من روح القدس. وستلد ابنا فتسميه يسوع. لأنه هو الذي يخلص شعبه من خطاياهم. فلما نهض يوسف من النوم صنع ما أمره ملاك الربّ. فأخذ امرأته. ولم

يعرفها حتى ولدت ابنها البكر وسماه يسوع) . وقد تعني الجملة الأخيرة أنه لم يعاشرها حتى ولدت ثم عاشرها بعد ولادتها المسيح. وقد يؤيد هذا روايات انجيلي مرقس ولوقا التي ذكرت أنه كان للمسيح أخوة جاؤوا إليه مع أمه. والكلام في القرآن إنما دار على حبل مريم بعيسى من روح الله وكلمة التعبير عن المعجزة الربانية في ذلك. وما ذكره القرآن من إحصان مريم لفرجها إنما كان قبل حبلها بعيسى. ولا يتعرض القرآن لمريم بعد ولادتها عيسى إلا بالقول إنها كانت صديقة كما جاء في آية سورة المائدة [115] والتنديد باليهود بسبب رميهم إياها بالبهتان العظيم في آية سورة النساء [180] الذي يفيد أنهم قصدوا القول إن عيسى كان ولد زنا. ولسنا نرى ما يمكن أن تفيده عبارات الأناجيل من معاشرة يوسف لمريم بعد ولادتها لعيسى وإنجابهما أولادا غير ممكن كما أنه ليس فيه ما يتعارض مع القرآن. وكل ما على المسلم الاعتقاد به هو ما قرره القرآن من أن مريم أحصنت فرجها فنفخ الله فيها وولدت عيسى وكفى. ولا يضيره أن يصدق ما جاء في الأناجيل. وله أن لا يصدقه أيضا. وليس في القرآن ولا في الحديث ما يثبت ذلك أو ينفيه. والله تعالى أعلم.

سورة التغابن

سورة التغابن في السورة تقرير تسبيحي وتنزيهي من كل ما في السموات والأرض لله. وإشارة إلى خضوع كل شيء له. ومظاهر عظمته وقدرته في الكون والخلق وشمول علمه. وتذكير بالكافرين السابقين ونكال الله فيهم. وحكاية لإنكار الكفار للبعث وتوكيده وإنذار به. وتوطيد لواجب الطاعة لله ورسوله والإنفاق في سبيل الله. وتحذير من أن يكون الأولاد والأزواج والأموال من المانعين لذلك. والسورة من السور التي يختلف الرواة في مكيتها ومدنيتها. غير أن معظم روايات ترتيب نزول السور تسلكها في سلك السور المدنية. ومنها المصحف الذي اعتمدنا عليه. وفحوى آيات السورة يؤيد مدنيتها ويؤيد كونها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة. ومن الفحوى الذي يدل على مدنيتها الأمر بطاعة الله ورسوله والتحذير من الزوجات والأولاد فهذا أسلوب مدني والله أعلم. وبعض الروايات التي تذكر أنها مكية تذكر أن الآيات [14- 16] مدنية «1» . وآيات السورة منسجمة مع هذه الآيات بحيث يسوغ القول إنها سياق واحد نزلت في ظرف واحد. وليس في السورة علامة مميزة تساعد على القول بصحة ترتيب نزولها بعد سورة التحريم وعدمه. وقد جعلناها بعد سورة التحريم أخذا برواية المصحف الذي اعتمدنا عليه وبعض روايات التراتيب الأخرى «2» والله أعلم.

_ (1) انظر البغوي والطبرسي والزمخشري وابن كثير والخازن. [.....] (2) انظر كتابنا سيرة الرسول ج 2 ص 9 وتفسير الزمخشري.

[سورة التغابن (64) : الآيات 1 إلى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة التغابن (64) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) . عبارة الآيات واضحة. والآيات الأربع الأولى منها احتوت تقريرا لعظمة ملك الله وقدرته ومطلق تصرفه في الكون وإتقان خلق الإنسان وتصويره على أحسن الصور وإحاطة علمه بكل شيء وخضوع كل شيء له واستحقاقه وحده للحمد والتقديس. وقد انطوى في الآية الثانية على ما يتبادر من روحها تقرير لواقع المخاطبين حيث كان منهم الكافر وكان المؤمن وتقرير كون الله تعالى بصير بما يفعله كل منهم. أما الآيتان الأخيرتان فقد احتوتا تذكيرا بالكافرين من الأمم السابقة بأسلوب التساؤل الإنكاري التقريري عن ما جاء المخاطبين من أنبائهم حيث استنكروا أن يرسل الله بشرا رسلا ليهدوهم فكفروا نتيجة لذلك فذاقوا نكال الله في الدنيا فضلا عما أعده لهم من عذاب الآخرة الأليم مع تقرير كون الله مستغنيا عنهم وهو الغني عن خلقه الحميد لمن يشكره ويؤمن به. وواضح أن الآيات هي بسبيل دعوة السامعين إلى الله والاهتداء بالهدى الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. وقد جاء هذا بصراحة أكثر في الآيات التالية. وأسلوبها عام هادىء موجّه إلى القلب والعقل معا. وليس هناك روايات تروي سبب نزولها والمتبادر أنها تمهيد أو مقدمة لما جاء بعدها والله أعلم. الجزء الثامن من التفسير الحديث 35

تأويل الكلاميين لجملة هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن وتعليق عليه

وفي حكاية قول الكفار السابقين حينما كانت تأتيهم رسلهم أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا تنديد بالكافرين برسالة النبي صلى الله عليه وسلم الذين كان يصدر منهم مثل هذا القول على ما حكته آيات عديدة في سور سابقة. منها آية سورة الإسراء هذه قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا (93) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا (94) فكأنما أريد أن يقال لهم: إنكم إذا قلتم هذا فقد قاله أمثالكم من قبل وكان من أسباب كفرهم واستحقاقهم لنكال الله وعذابه. وإن الله لمستغن عنكم كما استغنى عمن قبلكم وهو الغني الحميد. وفي جملة وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ تذكير للإنسان بما ميزه الله على غيره من خلقه بالمميزات المتنوعة. وبما يوجبه ذلك عليه من الاعتراف بفضله والاستجابة إلى دعوته. وقد انطوى هذا في آيات عديدة في سور سبق تفسرها. تأويل الكلاميين لجملة هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وتعليق عليه ولقد وقف المفسرون عند هذه الجملة وأوردوا مذاهب الكلاميين فيها من حيث الجبر والاختيار. حيث يرى أصحاب المذهب الأول فيها دليلا على مذهبهم بتقدير الله عزّ وجلّ الكفر والإيمان على الناس. وقد أوردوا حديثا نبويا للتدليل على ذلك روي عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «وكل الله بالرحم ملكا. فيقول أي ربّ نطفة، أي ربّ علقة، أي ربّ مضغة، فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال يا ربّ أذكر أم أنثى. أشقي أم سعيد، فما الرزق، فما الأجل فيكتب كذلك في بطن أمه» «1» وحيث ينكر أصحاب المذهب الثاني ذلك ويقولون إن معنى الآية هو أن الله خلق الناس فمنهم من اختار الكفر ومنهم من اختار الإيمان وذكروا آية سورة الكهف وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [29] .

_ (1) الحديث من تفسير البغوي.

[سورة التغابن (64) : الآيات 7 إلى 10]

ونقول تعليقا على ذلك إن الحديث ليس من الصحاح وإننا شرحنا مسألة القدر والجبر والاختيار في سورة القمر شرحا يغني عن التكرار ورجحنا الثاني على ضوء الآيات القرآنية المحكمة. وإن المتبادر لنا أن الجملة لا تتحمل هذا الخلاف الكلامي وإن روح الآيات وهي تندد بالكافرين وتنسب إليهم أعمالهم وتذكرهم بأمثالهم الذين استحقوا نكال الله تؤيد بقوة القول الثاني. وإن الجملة هي بسبيل تقرير واقع المخاطبين والسامعين حين نزولها حيث كان منهم من كفر بالرسالة النبوية ومنهم مؤمن. وقد رأينا الطبري يؤول الجملة في معنى (يقول الله تعالى أيها الناس منكم كافر بخالقه وأنه خلقه. ومنكم مؤمن بخالقه وأنه خلقه) ولا يخلو هذا من وجاهة وإن كنا نرى ما ذكرناه هو الأكثر تساوقا مع الجملة وروح الآيات معا. والله تعالى أعلم. [سورة التغابن (64) : الآيات 7 الى 10] زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) . (1) يوم الجمع: كناية عن يوم القيامة حيث يجمع فيه الناس جمعا. (2) التغابن: من الغبن. وهو بيع شيء بأغلى من قيمته بالتغرير. والقصد من الكلمة هو أن يوم القيامة هو اليوم الذي يظهر فيه غبن الضالين الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، فما ربحت تجارتهم. ومع ما في الكلمة من هذه الدلالات لغويا فإن المفسرين رووا عن ابن عباس أن جملة يَوْمُ التَّغابُنِ من أسماء يوم القيامة. والظاهر أنه اعتبرها لذلك لدلالتها المذكورة. عبارة الآيات اللغوية واضحة كتلك وفيها:

(1) حكاية لزعم الكفار باستحالة بعثهم بعد الموت. (2) وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتوكيد ذلك لهم وسهولته على الله تعالى. (3) وتعقيب على التوكيد بالدعوة إلى الإيمان بالله ورسوله والاهتداء بالنور الذي أنزله الله عليه. (4) واستطراد إنذاري بذكر يوم القيامة وما سوف يظهر للكافرين فيه من مقدار الغبن العظيم الذي وقعوا فيه في الدنيا بإصرارهم على الكفر وعدم استجابتهم إلى دعوة الحق والهدى. (5) وبيان لمصير الناس في ذلك اليوم حيث يتجاوز الله عن سيئات الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويكون لهم الخلود في نعيم الجنات وحيث يكون للذين كفروا وكذبوا بآيات الله الخلود في النار وبئست هي مصيرهم. ولم نطلع على رواية خاصة بنزول الآيات وقد تلهم هي والتي قبلها معا أنها نزلت على أثر موقف من مواقف الجدل بين النبي صلى الله عليه وسلم وبعض الكفار في بشرية النبي والبعث الأخروي وماهية الدعوة والرسالة مما كان يتكرر بين النبي والكفار وخاصة في العهد المكي. ولعل الذين قالوا إن السورة مكية رأوا التجانس بين هذه الآيات وما كان يقع في العهد المكي من مثل ذلك وما ورد في القرآن المكي من حكايته والرد عليه. وليس هذا مبررا كافيا لذلك القول لأن معظم العرب ظلوا كفارا إلى الفتح المكي وقد روت الروايات العديدة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلتقي بالمسالمين منهم أو يستقبل وفودا من زعمائهم فكان بطبيعة الحال يدعوهم وينشب بينه وبينهم جدال مماثل لما كان ينشب بينه وبين أمثالهم في العهد المكي. وتعبير يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ بالنسبة للمؤمنين وفي سياق المصير الأخروي قد تكرر أكثر من مرة وعلقنا عليه في سياق تفسير آيات سورة النجم [31 و 32] وسورة النساء [31] ونبهنا على ما فيه من تسامح رباني ومعالجة روحية حكيمة فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.

[سورة التغابن (64) : الآيات 11 إلى 13]

[سورة التغابن (64) : الآيات 11 الى 13] ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) . تعليق على الآية ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين وما ورد في صددها من أحاديث في الآيات: (1) تقرير بأن ما يصاب به أحد من مصيبة فإنه بإذن الله العليم بكل شيء. (2) وتعقيب على ذلك بأن من يؤمن بالله تعالى ويفوض الأمر إليه يرزقه الله هداية القلب والطمأنينة والسكينة فيتقبل الأمر الواقع الذي لا يد له فيه بالرضاء والصبر. (3) وأمر موجه للمسلمين بوجوب طاعة الله ورسوله في كل حال ودون أن يمنعهم أي شيء من هذا الواجب جاعلين اتكالهم على الله الذي لا إله إلّا هو والذي يجب على المؤمنين أن يجعلوا اتكالهم عليه دائما. (4) وإيذان لمن لم يستمع لهذا التلقين والعظة ويتولى عن واجب الطاعة لله ورسوله بأنه ليس على الرسول إلّا التبليغ. والأمر والإرشاد والبيان. وقد انطوى في الإيذان معنى الإنذار كما هو المتبادر أيضا. ولم نطلع على رواية خاصة بنزول هذه الآيات. والمتبادر أنها فصل مستقل لا علاقة له بالآيات السابقة. ومضمونها وروحها يلهمان أنها بسبيل الإشارة إلى حادث ما أو موقف ما أو بسبيل تهوين مصيبة أصيب بها بعض المسلمين في أثناء قيامه بتنفيذ أمر أمره النبي صلى الله عليه وسلم به أو بسبيل تهوين مصيبة خاف أحد المسلمين أن تلحق به أثناء تنفيذ أمر أمره به النبي صلى الله عليه وسلم ثم بسبيل تثبيت وتوطيد الطاعة لله ولرسوله. ولعل الآيات التالية متصلة بها ومنطوية على شيء من إيضاح المناسبة أو

[سورة التغابن (64) : الآيات 14 إلى 18]

الموقف الذي نزلت فيه على ما سوف يأتي شرحه بعد. وورود الآيات بهذا الأسلوب يدل على أن الحادث أو الموقف قد جعل للتهوين والتثبيت والعظة لعامة المؤمنين أيضا بالإضافة إلى صاحب العلاقة، ولقد انطوت على علاج نفساني قوي يستمد منه المؤمن قوة وصبرا وسكينة وطمأنينة وإسلاما لله واتكالا عليه في الأزمات والملمات الطارئة أو المتوقعة التي لا تخلو حياة الناس منها في كل وقت ومكان. نرى الأولى بل الأوجب أن يوقف عند ذلك في موضوع قدر الله تعالى وكون ما يصيب الناس من مصائب هي مقدرة تقديرا محتوما عليهم. لأن هذا ليس من مقاصد الآيات في مقامها على ضوء الشرح المستلهم من ذلك والله تعالى أعلم. ولقد تكرر مثل هذه المعالجات النفسية في ظروف مماثلة مرّت أمثلة منها في سور سبق تفسيرها وأوردنا في صددها بعض الأحاديث النبوية وبخاصة في سياق الآية [155] من سورة البقرة فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار. ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثين نبويين فيهما من التلقين والعلاج ما هو متسق من محتويات الآيات وتدعيم لما نبهنا عليه. واحدا منهما وصفه بأنه متفق عليه جاء فيه «عجبا للمؤمن لا يقضي الله قضاء إلّا كان خيرا له. إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له. وليس ذلك لأحد إلّا للمؤمن» وواحدا رواه الإمام أحمد جاء «إن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أيّ العمل أفضل؟ قال إيمان بالله وتصديق به وجهاد في سبيله. قال أريد أهون من هذا يا رسول الله قال: لا تتهم الله في شيء قضى لك به» . [سورة التغابن (64) : الآيات 14 الى 18] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) .

تعليق على الآية يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم والآيات الأربع التي بعدها وما فيها من صور وتلقين

وفي هذه الآيات: (1) تنبيه للمؤمنين بأن من أزواجهم وأولادهم من يكون عدوّا لهم يجب الحذر منه. (2) ووصية لهم على كل حال بالعفو والصفح والغفران تأسيا بالله الغفور الرحيم. (3) وتنبيه لهم كذلك بأن أموالهم وأولادهم هي بوجه عام امتحان لهم في الاختيار بين واجبهم نحو الله والمصلحة العامة وبين أموالهم وأولادهم. وبأن ما عند الله من الأجر العظيم هو أعظم وأجدى وبأن من مصلحتهم أن يختاروا ما فيه رضاء الله حتى ينالوا ما عنده. (4) وتعقيب على ذلك فيه حثّ لهم على تقوى الله في اتباع أوامره واجتناب نواهيه جهد استطاعتهم، وعلى الطاعة لله ورسوله وبذل المال في سبيل الله ووجوه البرّ ففي هذا خاصة خير ونفع لهم. وأن المفلح هو الذي ينجو من شحّ النفس والبخل. وأنهم إذا أنفقوا فكأنهم يقرضون الله قرضا حسنا سوف يردّه عليهم مضاعفا مع غفران ما يلمون به من ذنوب وهو الشكور لفاعلي الخير الذي يعامل عباده بالحلم والعطف والتسامح. العليم بالحاضر والمستقبل المغيب القوي القادر الحكيم الذي يأمر بما فيه الحكمة والصواب. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ والآيات الأربع التي بعدها وما فيها من صور وتلقين لقد روى المفسرون روايات عديدة في نزول هذه الآيات أو بالأحرى الآيتين

الأوليين «1» منها واحدة معزوة إلى ابن عباس ومجاهد، جاء فيها أنها نزلت في قوم أرادوا الهجرة فثبطهم نساؤهم وأولادهم عنها. وقد روى الترمذي هذا في حديث عن ابن عباس فيه زيادة حيث جاء في الحديث «هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة وأرادوا أن يأتوا النبيّ فأبى أزواجهم وأولادهم ذلك ومنعوهم فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأوا الناس قد فقهوا في الدين همّوا أن يعاقبوهم فأنزل الله الآية» «2» وثانية معزوة إلى عطاء بن يسار من كبار علماء التابعين جاء فيها «أنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي. كان ذا أهل وولد وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه وقالوا إلى من تدعنا فيرقّ لهم ويقيم» «3» وثالثة معزوة إلى عكرمة من علماء التابعين جاء فيها «كان الرجل يريد أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيقول له أهله إلى أين تذهب وتدعنا. فإذا أسلم وفقه قال لأرجعن إلى الذين ينهون عن هذا الأمر فلأفعلن ولأفعلن. فأنزل الله وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) » «4» . وعلى كل حال فروح الآيتين الأوليين ومضمونهما يلهمان أنهما نزلتا في مناسبة مماثلة. ويتبادر لنا أن الآيات متصلة بالآيات السابقة لها وأن الآيات السابقة جاءت تمهيدا أو مقدمة لها وفي كلتا المجموعتين أمر بالسمع والطاعة لله ورسوله. وهذا التشارك بنوع خاص قرينة قوية على الاتصال بين المجموعتين. ويلحظ أن الخطاب في الآيات موجه إلى جميع المؤمنين حيث يتبادر من هذا أن حكمة التنزيل اقتضت ذلك ليكون الحادث وسيلة لتوجيه الكلام إلى المسلمين جميعهم ويكون لهم فيه عظة وتنبيه وتحذير على النحو الذي شرحنا به الآيات. وهذا ما جرى عليه التنزيل القرآني مما مرّ منه أمثلة كثيرة.

_ (1) تفسير الطبرسي والبغوي وابن كثير. (2) التاج ج 4 ص 238. (3) تفسير البغوي. (4) تفسير الطبري.

والآيات بهذا التعميم والإطلاق مستمرة التلقين والمدى من جميع النواحي بالنسبة لجميع المسلمين في كل ظرف ومكان في المناسبات والمواقف المماثلة. وواضح من الشرح والمناسبات المروية أن جملة عَدُوًّا لَكُمْ قد جاءت للتشبيه وتشديد التحذير من التأثر وشدة الشغف بالأزواج والأولاد إلى المدى الذي يشغل المسلم عن واجبه نحو الله ودينه وخلقه أو يجعله يرتكب إثما ومعصية. فلا يصح أخذها على غير هذا المدى. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات حديثا رواه الحافظ البزار عن أبي سعيد قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الولد ثمرة القلوب. وإنهم مجبنة مبخلة محزنة» حيث ينطوي في الحديث تقرير لواقع الأمر والتطابق مع الآيات من حيث كون الأولاد قرة عين ولكنهم يكونون أحيانا من أسباب جبن الآباء وبخلهم ودواعي الحزن لهم. وقد أورد المفسر حديثا آخر رواه الطبراني عن أبي مالك الأشعري قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس عدوّك الذي إن قتلته كان فوزا لك وإن قتلك دخلت الجنة. ولكن الذي لعلّه عدوّ لك ولدك الذي خرج من صلبك ثم أعدى عدوّ لك مالك» والحديث مما تضمنت الآيات تقريره وهدفت إلى التحذير منه كما هو المتبادر. ولقد قال بعض المفسرين: إن في الآية فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ تخفيفا عن المسلمين ونسخا لآية آل عمران هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [102] . ورووا عن سعيد بن جبير ومقاتل والسدي أن المسلمين لما نزلت آية آل عمران اشتدوا في العمل فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرّحت جباههم- يعني من كثرة الصلاة- فأنزل الله هذه الآية تخفيفا عنهم «1» . وقال بعضهم إنها غير ناسخة وإن حكم الآيتين محكم في الحالات المختلفة ولا تنافي بينها «2» . ونحن نرى هذا هو الأوجه إن شاء الله. لأن تقوى الله حقّ تقاته لا تتضمن تحميلا للمسلم ما ليس له به

_ (1) انظر البغوي والخازن وابن كثير والرواية وردت في ابن كثير. (2) انظر الطبرسي.

طاقة فيما نرى ولا سيما أن في الآيات المكية والمدنية التي نزلت قبل نزول آية آل عمران تقريرا ربانيا بأن الله لا يكلّف نفسا إلّا وسعها. وإنما تعني الإخلاص التام لله ومراقبته مراقبة تامة. ولقد نزلت آية آل عمران في موقف خطير وفي سياق تضمن تحذيرا للمسلمين إزاء ذلك الموقف على ما شرحناه في سياق تفسيرها فلا محلّ لربط هذه الآية بتلك. على أنه يتبادر لنا أن الأوجه المتسق مع روح الآيات وهدفها ومقامها هو صرف الجملة إلى قصد الحثّ على الاجتهاد في تقوى الله جهد الطاقة وعدم التهاون في ذلك. وهذا لا يتنافى مع القول الذي رجحناه سابقا والله أعلم. وتعبير وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) يتكرر هنا للمرة الثانية حيث ينطوي في ذلك توكيد على سوء خلق الشحّ وعظم فلاح من يكون بريئا منه وحثّ على نبذه وقد أوردنا ما روي من الأحاديث النبوية في ذلك في المناسبة الأولى التي ورد فيها هذا التعبير وهو آية سورة الحشر [9] .

سورة الصف

سورة الصّف في السورة كسابقتها تقرير بتسبيح كل ما في السموات والأرض لله. وتنديد ببعض المسلمين الذين يقولون ما لا يفعلون. ودعوة للصدق والتضامن في القتال في سبيل الله وإيذان بحب الله لمن يفعلون ذلك. وتذكير تحذيري بما كان من بني إسرائيل إزاء موسى عليه السلام من إزعاج وأذى. وحكاية لقول عيسى عليه السلام لقومه بماهية رسالته وبشارته بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم بعده. وإيذان بأن الله قد أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليكون الدين الظاهر على جميع الأديان وبأن سيتم نوره ويحبط جهد الذين يريدون إطفاءه. وبشارة دنيوية وأخروية للمجاهدين في سبيل الله وحثّ على الجهاد. ودعوة للتأسي بالحواريين في نصر دين الله. وآيات السورة مترابطة ووحدة تامة وفيما جاء في صدد موسى وعيسى عليهما السلام تدعيم موقف النبي من الدعوة إلى الجهاد مما يحمل على الترجيح بنزولها دفعة واحدة أو متتابعة مع التنبيه إلى أن هناك حديثا يذكر أنها نزلت دفعة واحدة في مناسبة معينة على ما سوف يرد بعد «1» . وقد قال الزمخشري إن السورة مكية. وروى بعضهم هذا عن عطاء أيضا «2» . وهذا عجيب، وفيه مثال للاهتمام بالرواية أكثر من النصّ. فحثّ المؤمنين على الجهاد والقتال في السورة والتنديد بالمقصرين فيه يجعلان احتمال مكيتها مستحيلا. لأن القتال إنما فرض وحرّض عليه بعد الهجرة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأذن

_ (1) ابن كثير. (2) الطبرسي والبغوي.

[سورة الصف (61) : الآيات 1 إلى 4]

للمسلمين في مكة حتى ولا بمقابلة المشركين بأذى على أذاهم وقد هدّأهم القرآن وطلب منهم التسامح في آية سورة الجاثية هذه قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [14] على ما شرحناه في سياقها. وإلى هذا المعنى أشارت آية سورة النساء هذه أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) . وفي السورة آيات قد تكون قرينة على كونها نزلت قبيل صلح الحديبية ووقعة خيبر. وهاتان الوقعتان قد أشير إليهما في سورة الفتح التي يأتي ترتيبها بعد هذه السورة، حيث يكون في ذلك قرينة على صحة ترتيبها. والله أعلم. ولقد ذكر المفسر الطبرسي أن السورة تسمى بسورة الحواريين وبسورة عيسى عليه السلام ولم يذكر لذلك سندا. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الصف (61) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4) . عبارة الآيات واضحة. والآية الأولى مطلع تمهيدي لما بعدها. والآيتان الثانية والثالثة احتوتا عتبا وتنديدا موجها إلى المسلمين الذين لا ينفذون بالفعل ما يقولونه ويعدون به باللسان. وتنبيها إلى ما في هذا من موجبات مقت الله الكبير وغضبه. أما الآية الرابعة فقد احتوت حثّا على القتال في سبيل الله بعزم وتراصّ وتضامن وإيذانا بأن الله يحبّ الذين يفعلون ذلك.

تعليق على الآيات الأربع الأولى من السورة وما فيها من صور وتلقين

وقد تلهم هذه الآية أن التنديد السابق هو للذين يعدون بالقتال ولا يقاتلون. وهذا ما روته الروايات كسبب من أسباب النزول على ما سوف نذكره بعد هذا. تعليق على الآيات الأربع الأولى من السورة وما فيها من صور وتلقين ولقد روى المفسرون «1» روايات عديدة في سبب نزول الآيات وفي من عنته. منها أنها في المنافقين بسبب إخلافهم ما وعدوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاشتراك في القتال والتضامن مع سائر المسلمين فيه. ومنها أنها نزلت في جماعة كانوا يتبجحون بأنهم قاتلوا وجاهدوا كذبا. ومنها أنها نزلت في شخص ادعى كذبا بأنه قتل شخصا كافرا في حين أن الذي قتله شخص آخر. ومنها أنها نزلت في جماعة من المسلمين لم يشهدوا وقعة بدر فلما سمعوا ما أعدّ الله لشاهديها من أجر وما كان من ثناء النبي صلى الله عليه وسلم عليهم وعدوا بالقتال مثلهم حتى يحرزوا درجتهم في أول حرب ثم انهزموا في واقعة أحد. ومنها ما روي في حديث عن عبد الله بن سلام الصحابي بطرق عديدة مع اختلاف في الصيغة. وقد جاء في بعض هذه الصيغ التي أخرجها ابن أبي حاتم أن عبد الله بن سلام قال: «إن أناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لو أرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسأله عن أحبّ الأعمال إلى الله عزّ وجلّ فلم يذهب إليه أحد منا وهبنا أن نسأله عن ذلك فدعا رسول الله أولئك النفر رجلا رجلا حتى جمعهم ونزلت فيهم سورة الصف فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كلّها «2» . وهناك رواية عن مقاتل أوردها ابن كثير جاء فيها «قال المؤمنون لو نعلم

_ (1) انظر الطبري والبغوي والطبرسي والخازن وابن كثير. (2) هذا النصّ من ابن كثير وقد أورد هذا المفسّر نصا آخر أخرجه الإمام أحمد بطريق آخر مقارب لهذا النص. وقد روى الترمذي نصا آخر ليس فيه إشارة تفيد أن السورة جميعها نزلت في هذه المناسبة كما ليس فيه ما ينفي ذلك حيث جاء فيه عن عبد الله بن سلام «قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله فتذاكرنا فقلنا لو نعلم أي الأعمال أحبّ إلى الله لعملناه فأنزل سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) . التاج فصل التفسير ج 4 ص 233.

أحبّ الأعمال إلى الله لعملنا به فدلّهم الله على أحبّ الأعمال إليه فقال: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا فبيّن لهم فابتلوا بيوم أحد بذلك فولّوا عن النبي صلى الله عليه وسلم مدبرين فأنزل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) . والرواية الأخيرة عجيبة لأنها تجعل نزول الآية الثالثة مقدما على نزول الآية الثانية. والتنديد الشديد في الآيات يدل كما هو ظاهر على أنها في صدد جماعة كانوا يعدون بالجهاد ثم يخلفون. وهذا متسق مع بعض الروايات. ولقد حكت آيات عديدة في سور آل عمران والأحزاب والنساء والنور مثل ذلك عن المنافقين. وفي سورة الأحزاب آية صريحة في ذلك وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا (15) أن المقصود في الآيات منهم. وفي سورة النور آية صريحة أخرى وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) . وشدة التنديد تدل على أن موقف المندد بهم كان مثيرا للمقت والسخط إما بتكرره وإما في ظروفه. وهذا لا يكون على الأرجح إلّا من المنافقين. ولعل الآيات تنطوي على تقرير كون هذا الموقف مما آلم النبي صلى الله عليه وسلم وآذاه. وقد يكون في الآيات التالية التي تذكر بمواقف قوم موسى المؤذية من نبيهم رغم اعترافهم بنبوته وتندد بهم وتصفهم بالفسق والانحراف، قرينة على ذلك. والله أعلم. وأسلوب الآيات عام. وتلقينها مستمر المدى لجميع المسلمين في كل ظرف ومكان. وقوة الآيات تهزّ النفس هزا شديدا سواء بإيذانها بمحبة الله للذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص أم بشدّة مقت الله للذين يقولون ما لا يفعلون، وفي القرآن آيات كثيرة جدا في الأمرين أي في التنديد بالمتثاقلين عن الجهاد المثبطين عنه المخلفين بوعودهم به والتنويه بالذين يقاتلون بصدق وإخلاص. وقد جاء كثير منها في سور سبق تفسيرها. ومنها ما جاء في سور نزلت بعد هذه السورة حيث يدل كل ذلك على ما أعاره القرآن الكريم من عناية عظمى لهذا الركن العظيم

الذي كتب على المسلمين لما فيه من حياطة أمرهم وقوام وجودهم وكرامتهم وأمنهم وسلامتهم وعزة الإسلام وقوته. وقد تكون جملة يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4) قد عنت أسلوبا من أساليب القتال في ذلك الزمن. ولكن المتبادر أن فيها تلقينا واسع المدى وشاملا بحيث يتناول مقاتلة العدو وبكل أسلوب يضمن النصر عليه وبكل وسيلة من وحدة القوى المادية والمعنوية وأساليب الحرب المتنوعة ومن التعاون التام بين المسلمين في كل ذلك ومن بذل كل ما يمكن من الاستعداد والأموال ومن إظهار كل ما يجب من عزيمة وتصميم دون ترك أي ثغرة في ذلك. وفي القرآن آيات فيها هذا التوجه بصراحة. ومنها ما جاء في سور سبق تفسيرها مثل آيات البقرة [195] والنساء [75 و 76 و 104] والأنفال [60] ومحمد [38] . ولقد قال غير واحد من المفسرين «1» إن الآيتين الثانية والثالثة عامتا الشمول لكل إخلاف بوعد أو نكول عن عهد ونذر أو قول يكذبه الفعل. وقد يكون في هذا وجاهة بسبب الأسلوب المطلق الذي جاءت عليه الآيتان. مع التنبيه على أن الآية الثالثة التي هي منسجمة معها تلهم أن الآيات تهدف بالدرجة الأولى إلى التنديد بالذين يخلفون وعودهم بالقتال في سبيل الله والصدق فيه. وقد قال ابن كثير إن الجمهور قد حملوا الآية على أنها نزلت حين تمنوا فرض الجهاد عليهم فلما فرض نكل عنه بعضهم. مما فيه تدعيم لما نبهنا عليه. ومع ذلك فإن القول بالنسبة للآيتين بخاصة يظل يحتفظ بوجاهته البديهية من حيث استحقاق الذين يكذبون في أقوالهم ولا ينفذون عهودهم ووعودهم ويخلفون فيها للتنديد الرباني المنطوي في الآيتين. فالقرآن قد حظر وشجب الكذب والنكث والإخلاف ولعن الكاذبين وندد بالناكثين والمخلفين. في آيات كثيرة مكية ومدنية في سور عديدة سبق تفسيرها. والأحاديث النبوية المتساوقة مع ذلك كثيرة أوردنا كثيرا منها في مناسبات سابقة. وهناك حديثان مهمان رواهما الأربعة البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود يحسن أن

_ (1) انظر تفسيرها في الطبري والبغوي وابن كثير والزمخشري والطبرسي والقاسمي.

[سورة الصف (61) : الآيات 5 إلى 9]

نعيد إيرادهما. واحد رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «آية المنافق ثلاث إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» وواحد رواه عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا. ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها. إذا حدث كذب. وإذ عاهد غدر. وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر» حيث يفيدان أن الأخلاق التي نددت بها الآيتان وقررت استحقاق صاحبها لمقت الله الشديد هي صفات المنافقين دون المؤمنين الصادقين المخلصين. [سورة الصف (61) : الآيات 5 الى 9] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) . تعليق على الآية وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ والآيات الأربع التي بعدها وما فيها من تلقين وما في بشارة عيسى بنبوة النبي ومن وعد الله بإظهار دين الإسلام على الدين كله لم نطلع على مناسبة خاصة لنزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة بالآيات السابقة اتصال تعقيب واستطراد. ففي الآيات السابقة تنديد بالذين يقولون ما لا يفعلون. وإيذان لما في ذلك من موجبات غضب الله ومقته الشديدين. فجاءت هذه الآيات:

(1) لتذكر على سبيل العظة والزجر والتمثيل بما كان من قوم موسى إزاء موسى عليه السلام من مواقف مؤذية محكية عن لسانه مع تأكدهم بأنه رسول الله إليهم. وبما كان من انتقام الله منهم حينما انحرفوا عن جادة الحق حيث أزاغ الله قلوبهم. لأن الله لا يمكن أن يوفق ويسعد الفاسقين المتمردين عليه. (2) ولتستطرد بهدف توكيد رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وقوة ما فيها من الحق والنور الإلهي وحمل المؤمنين بها على الثبات عليها وتأييدها والاستجابة إلى ما يدعوهم النبي إليه من جهاد وغير جهاد إلى ما كان من بشارة عيسى بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم حيث حكت قوله لبني إسرائيل إنه رسول الله إليهم مصدقا بالتوراة التي أنزلت قبله ومبشرا برسول يأتي من بعده اسمه أحمد بسبيل تدعيم موقف النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته ودعوته. (3) ولتندد بما كان من موقف الكفار من النبي محمد المبشر به حينما جاءهم وقولهم عن رسالته إنها سحر. (4) ولتؤكّد انتصار دينه وانتشار نور الله وتمامه نتيجة لذلك حتى يغلبا ما عداهما برغم كل المحاولات المعطلة من الكفار والمشركين وبعبارة قوية داوية حيث تقرر أولا: إنه ليس من أحد أشد ظلما ممن يفتري على الله الكذب فيقول عن آياته إنها سحر بينما هي تدعو إلى الإيمان بالله والإسلام إليه. وثانيا: إن المعطلين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ومواقفهم وأقوالهم ولكن الله تعالى سوف يتمّ نوره وينشره حتى يملأ الكون على الرغم من الكافرين. وثالثا: إن الله قد أرسل رسوله بالهدى والدين الحق الواضح وإنه لجاعل له السيادة والغلبة والظهور على جميع الأديان حتى يصبح دين العالم كله على الرغم من المشركين. ولقد صرف بعض المفسرين ضمير الفاعل المستتر في جملة جاءَهُمْ إلى عيسى وصرفها بعضهم إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا قول الطبري. وقد رجحناه وأخذنا به في شرحنا الآنف استلهاما من الآيات الثلاث الأخيرة. والله أعلم. هذا، ويصح أن يكون المقصودون في جملة فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا الجزء الثامن من التفسير الحديث 36

سِحْرٌ مُبِينٌ (6) كفار العرب، كما يصح أن يكونوا الذين كفروا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل. ونحن نرجح الاحتمال الثاني لأن الكلام في صدد بني إسرائيل وفي القرآن آيات عديدة ذكرت كفر بني إسرائيل بهذه الرسالة مرّ إيرادها وتفسيرها في سور البقرة وآل عمران والنساء. وعلى هذا فتكون الآيات الثلاث التي جاءت بعدها قد قصدت كفار بني إسرائيل أيضا. وقد جاءت مع ذلك بأسلوب عام لتكون شاملة لجميع الكفار والمشركين من جهة وليكون ما فيها أعم مدى من موقف جحود الإسرائيليين من الرسالة المحمدية من جهة أخرى. وهذا أسلوب من أساليب القرآن. والله تعالى أعلم. ولقد حكت آيات كثيرة جدا مواقف الجحود التي وقفها أكثرية الإسرائيليين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته في سور البقرة وآل عمران والنساء والجمعة التي مرّ تفسيرها، وفي سور أخرى سيأتي تفسيرها أيضا. وفيها تنديد شديد بهم لأنهم وقفوا هذه المواقف وهم يعرفون صدق رسالة النبي ويعترفون بها ويبشرون بذلك ويستفتحون أي يزهون به على مشركي العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. ومنهم من أعلن تصديقه وإيمانه على ما شرحناه في سياق تلك السور شرحا يغني عن التكرار. ولقد قال المفسرون إن الأذى الذي كان يقع على موسى من قومه هو تعجيزهم له بالمطالب كقولهم لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ وهذا حكته آية البقرة [61] وقولهم لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً وهذا حكته آية البقرة [55] . وكقولهم فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا «1» أو رميهم إياه بالبرص أو تآمر قارون عليه أو رميه بالزنا إلخ. ولقد ورد في الآية [69] من سورة الأحزاب إشارة إلى ما كان يقع على موسى من أذى من قومه. والراجح أن الأذى المحكي هنا عن لسان موسى هو من نوع ما عنته آية الأحزاب، وقد أوردنا ما ورد في ذلك من أقوال وروايات وعلقنا عليه بما فيه الكفاية.

_ (1) حكي هذا عنهم في آية المائدة [24] . [.....]

وآية الأحزاب نهت المسلمين عن أن يكونوا كالذين آذوا موسى. وقد جاءت بعد آيات فيها إنذار رهيب للذين يؤذون الله ورسوله خاصة والمؤمنين والمؤمنات عامة حيث ربطت بين الموقفين على سبيل المقارنة والإنذار على ما شرحناه في سياقها. والمتبادر من موقف الذين يقولون ما لا يفعلون الذي حكته الآية الثانية من السورة ونددت به الآية الثالثة والذي هو على ما رجحنا بصدد عدم تصديق أقوالهم ووعودهم بالقتال بالفعل قد كان مما آذى رسول الله واستوجب شدة مقت الله فاقتضت حكمة التنزيل أن يعاد التذكير والمقارنة والتنديد في هذا المقام وإن اختلف الأسلوب حيث نهت آية الأحزاب المؤمنين عن أن يكونوا كالذين آذوا موسى وحيث جاء ذلك حكاية عن لسان موسى. ولقد كانت الدعوة إلى الجهاد ضد الأعداء المعتدين على الإسلام والمسلمين والحركة التي انبثقت من ذلك قد شغلتا جزءا عظيما من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وجهده في العهد المدني وفي القرآن المدني. ولقد حكت آيات في سورتي آل عمران والنساء التي سبق تفسيرها مواقف بعض المسلمين وبخاصة مرضى القلوب والمنافقين من الدعوة إلى القتال في سبيل الله لدفع عدوان المعتدين ولنصرة المستضعفين الذين كانوا يتعرضون لاضطهاد المشركين مما كان يثير في نفس النبي مرارة شديدة وحملت عليهم حملات قارعة. فالمتبادر أن الموقف الذي حكته الآية الثانية من السورة ونددت به الآية الثالثة موقف جديد أثار المرارة من جديد في نفس النبي فاقتضت حكمة التنزيل مقابلته بما جاء في الآيات الأولى ثم بالتذكر بما كان من مواقف قوم موسى المؤذية وما كان من نكال الله لهم وبالتأكيد بأن الله ناصر دينه وناشر نوره رغم كل المواقف. والأسلوب الذي جاء به هذا التأكيد في الآيتين الأخيرتين من الآيات التي نحن في صددها قوي بعث أشد اليقين في النفس وهو ما قصدته حكمة التنزيل على ما هو المتبادر. ولقد تكرر وعد الله بتمكين دينه ونصر رسوله والمؤمنين في آيات عديدة مكية ومدنية في سور سبق تفسيرها غير أن التوكيد بإظهار هذا الدين على الدين

كله، أتى هنا لأول مرة. وقد تكرر بعد هذا مرتين. واحدة في سورة الفتح التي يقع ترتيبها بعد هذه السورة وأخرى في سورة التوبة بنص قريب لنص آيات الصف. وبالإضافة إلى ما في الآيات من قصد تدعيم موقف النبي صلى الله عليه وسلم من الدعوة إلى الجهاد والتنديد بالذين يقولون ما لا يفعلون وهو القصد القريب المباشر والله أعلم، وبالإضافة إلى ما فيها من تحدّ مطلق للكافرين والمشركين، وإيذان بوعد الله تعالى بإظهار الدين الذي أرسل به محمدا صلى الله عليه وسلم على الدين كله فإن جملة بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ تنطوي على تقرير ما في الرسالة المحمدية من هدى وحقّ يتمثلان في ما احتواه القرآن الكريم والسنن النبوية الشريفة من مبادئ وقواعد وتشريعات ووصايا وتنبهات وتلقينات وتوجيهات ومعالجات وأوامر ونواه إيمانية واجتماعية وسياسية واقتصادية وأسرية (الأسرة) وسلوكية وشخصية وتبشيرية وروحية من شأنها ضمان السعادة العظمى للبشرية في الدنيا والآخرة على أهم وجه وأوسعه وأفضله. ولقد دعا هذا الدين إلى الله وحده المتصف بجميع صفات الكمال المنزه عن كل نقص ومماثلة. وقرر ربوبيته للعالمين جميعا دون اختصاص، واستغناءه وتنزّهه عن الشريك والمساعد والولد بأي معنى كان وسواء أكان ذلك تأويلا أم وسيلة أم شفاعة. وحارب بكل قوته ودونما هوادة كل أنواع ومظاهر الشرك التي تمثل انحطاط الإنسانية وتسخيرها لقوى وأفكار وعقائد سخيفة مغايرة للعقل والمنطق والحق وممثلة لنظام جاهلي فيه تقاليد وعادات منكرة وعصبيات ممقوتة. وهدف إلى القضاء على ما طرأ على الديانات السماوية وبخاصة على الديانتين المعروفة يقينا مصدريتهما من الله الممارستين أي اليهودية والنصرانية من سوء تأويل وانحراف وانقسام واختلاف وتهاتر. وإلى تحرير الإنسانية من الخضوع لأية قوة خفية وظاهرة غير الله. وفتح آفاق الحياة للمؤمنين بهذا الدين على مصراعيها في نطاق أسمى المبادئ وأكرم الأخلاق وأفضل المناهج والخطط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفردية والإنسانية وأشدها مرونة للنهوض إلى ذرى الكمال في كل مجال من مجالات الحياة وتوجيهها نحو أحسن السبل وأشرفها وأنزهها وأعدلها وأتمّها صفاء وسناء شاملة للناس جميعهم

على اختلاف أجناسهم وألوانهم وفئاتهم ليكونوا تحت راية أخوة متساوين في الحقوق والواجبات على اختلاف مفاهيمها. وليقوم في ظله عالم واحد ونظام واحد ودين واحد ولغة واحدة وبكلمة واحدة مجتمع إنساني واحد. يتولى الأمر فيه الصالحون خلقا ودينا والأكفاء الحريصون على المصلحة العامة. لا طاعة فيه لسلطان بمعصية وضرر ولا سند لحاكم فيه إلا كتاب الله وسنة رسوله ومصلحة العباد والبلاد المتسقة معهما. ولا مكان فيه لظالم جبار وطاغية مسيطر. والشورى فيه صفة أساسية لأهله وواجب ملزم لحكامه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- أي الأمر بكل ما فيه خير وصلاح ونفع والنهي عن كل ما فيه شرّ وفساد وضرر وبغي وظلم- والدعوة إلى الخير والسلام والتوادّ والتراحم والتواصي بالصبر والحق والمرحمة من واجبات كل فئة منه حاكمة أو محكومة. وصفة أساسية وخصائص ذاتية لأهله، نتيجة لإسلامهم، لا يسمح فيه باستقطاب الثروة في جانب والفقر في جانب، وللدولة حقّ التوجيه. ويؤخذ فيه من الغني للفقير بالإضافة إلى ما أوجب على الدولة من مساعدة الفقير العاجز. ويمنع فيه القوي من ظلم الضعيف. ويساعد فيه القادر العاجز. ويتواصون جميعا بالصبر والمرحمة والتعاطف والتعاون. ويستمتعون جميعا بكل طيب حلال من طيبات الحلال وزينتها بدون تفريط وإفراط ولا إسراف ولا تقتير، وتمنع فيه الفوضى والعدوان والمنكرات والموبقات والخلاعة والمسكرات والإثم والبغي والظلم. في ظل سلام شامل يعرف الناس عبره أنهم إنما وجدوا ليتعارفوا ويتفاهموا ويتعايشوا ويتعاونوا على البرّ والتقوى دون الإثم والعدوان أكرمهم عند الله أتقاهم، ويتسابقوا في الخيرات. وفي ظل شرائع وتعاليم وخطوط ومبادئ قابلة للانطباق في كل زمان ومكان. ومستجيبة لمختلف مطالب البشر المادية والروحية. ومخاطبة للعقل والقلب معا. وموفقة في ذلك كله بين سعادة الدنيا والآخرة بأسلوب لا تعقيد فيه ولا التواء ولا أصار ولا أغلال ولا تكاليف شاقة محرجة ونافذة إلى أعماق النفس. مع الأمر بالدعوة إلى سبل الله أي إلى هذا الدين بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل بالتي هي أحسن وعدم الإكراه والإجبار في الدين. وسعة الصدر لمن أراد

الاحتفاظ بدينه وعقيدته إذا وادّ المسلمين وسالمهم ولم يتآمر عليهم وعلى دينهم. ومع الأمر بمعاملة هؤلاء بالقسط والبرّ وحسن التعامل والتعايش وبعدم القتال إلا للدفاع ودفع العدوان والمقابلة بالمثل وتأمين حرية الدعوة وإرغام الظالمين. وقد وصف معتنقو هذا الدين في القرآن بصفة الوسط التي تعني الخيرية والاعتدال في كل شيء وعدم الإفراط والتفريط وعدم الغلوّ والتقصير وعدم التزمت والاستهتار وعدم الاقتصار على ناحية والتقصير في ناحية مما فيه خير دين ودنيا. والتمسك بكل ما هو الأفضل والأصلح والأنفع والأحسن من كلّ أمر وصفة وخلق وعمل وموقف. وقد اختصّ هذا الدين الأنثى بعناية خاصة فجعلها صنوا للذكر وقسيما له في الإنسانية والحقوق والواجبات والتكاليف والحياة العامة وبنيان الدولة والمجتمع سواء بسواء. كما أسبغ على الحياة الزوجية رعاية عظيمة كفل فيها حقّ المرأة من مختلف النواحي مما لم يكن له مثيل في سابق الإسلام وما لم يلحق به إلى الآن. وكل ما تقدم من مقتضيات كتاب الله الكريم وسنن رسوله الشريفة. وليس من شأن حالة المسلمين الحاضرة أن يطمس سناء (الهدى والحق) اللذين أرسل الله رسوله بهما والمتمثلين في كتاب الله وسنن رسوله. ويظل كل ذلك أقوى أسباب الجذب والاستقطاب لمختلف أنواع وفئات البشر في كل زمان ومكان. ويصدق وعد الله تعالى بإظهار الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم على الدين كله. ولقد أورد المفسرون في سياق آيات سورة التوبة المماثلة لنص آيات الصف التي نحن في صددها وفي سياق آية سورة النور [55] التي وعد الله فيها الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالاستخلاف في الأرض وتمكين دينهم وتبديل خوفهم أمنا بعض الأحاديث النبوية التي تذكر توقعات أو تنبؤات النبي صلى الله عليه وسلم بما سوف يكون لدين الله من انتشار وانتصار. منها حديث رواه الإمام أحمد أورده ابن كثير عن تميم الداري قال «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار. ولا يترك الله من مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين. يعزّ عزيزا ويذلّ ذليلا. عزّا يعز الله به الإسلام. وذلا يذلّ به الكفر. وكان تميم يقول قد عرفت ذلك

من أهل بيتي لقد أصاب من أسلم الخير والشرف والعز. وأصاب من كان كافرا منهم الذلّ والصغار والجزية» . ومنها حديث وصفه ابن كثير بأنه صحيح ثابت جاء فيه «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها» . ومنها حديث عن عدي بن حاتم روى صيغة من صيغه البخاري جاء فيها «قال له رسول الله حين وفد عليه. أتعرف الحيرة قال لم أعرفها ولكن سمعت بها، قال فوالذي نفسي بيده ليتمّنّ الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة وتطوف بالبيت في غير جوار أحد. ولتفتحنّ كنوز كسرى بن هرمز. قال قلت كنوز كسرى بن هرمز. قال نعم كنوز كسرى بن هرمز. وليبذلنّ الله المال حتى لا يقبله أحد. قال عدي بن حاتم فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار أحد. وقد كنت في من افتتح كنوز كسرى بن هرمز. والذي نفسي بيده لتكوننّ الثالثة» . ومنها حديث رواه مسلم عن عقبة قال «سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله، وتغزون فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله» . والإيمان بتحقيق وعد الله وإظهار الإسلام على الدين كله وتمكينه واجب على كلّ مسلم. لأن الله لن يخلف ما وعده للمؤمنين الصالحين. وفيما أمر الله ورسوله ورسماه في الكتاب الكريم والسنة الشريفة عظيم بواعث الثقة والاعتزاز وحوافز العزيمة والإقدام والاندفاع في المسلمين الصادقين للعمل على تحقيق وعد الله ونشر دينه. وهذا واجب لازم عليهم ويأثم المقصرون فيه. ومن الجدير بالذكر أن الإسلام ظل ينشر ويتسع بعد زوال السلطان العربي الذي استمر في القرون الثلاثة الأولى. لما فيه من قوة عناصر الجذب والاستجابة والاستقطاب حتى كان عدد المنضوين إليه بعد زوال ذلك السلطان أكثر من المنضوين إليه في عهده. ويكاد يكون الدين الوحيد الذي لا يتركه معتنقوه، والذي يزداد معتنقوه من الخارج مجددا وليس فقط بالنمو الذاتي ومن كل نحلة وفئة وجنس وفي كل مكان ولو تيسّر له دعوة قوية التنظيم والتمويل ودعاة مرشدون صالحون كثير والعدد لازداد اتساع انتشاره وانجذاب الناس له.

وفي سياق الآية [55] من سورة النور التي سبق تفسيرها شرح لمدى جملة الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الموعودين بالاستخلاف والتمكين وما كان من مراحل ذلك منذ حياة النبي صلى الله عليه وسلم واستمراره بعده فنكتفي هنا بما تقدم. والآية الثانية من الآيات التي نحن في صددها أي الآية [6] قد حكت أقوال عيسى عليه السلام لبني إسرائيل التي منها أنه مبشّر برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد. وهذا الاسم مرادف في المعنى والاشتقاق لاسم محمد الوارد في القرآن والذي كان يتسمى به النبي صلى الله عليه وسلم منذ طفولته على ما هو متواتر يقيني. وأحمد صيغة تفضيل من الحمد. ولقد أورد ابن كثير في سياق ذلك حديثا رواه البخاري أيضا عن جبير بن مطعم قال «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم إنّ لي أسماء أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب» . وحديثا آخر رواه مسلم عن أبي موسى الأشعري جاء فيه «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي لنا نفسه أسماء فقال أنا محمد، وأنا أحمد، والمقفّي، والحاشر ونبي الرحمة ونبي التوبة» . وفي سورة الإسراء هذه الآيات قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (108) حيث أريد القول والله أعلم أنهم رأوا في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم تحقيقا لوعد الله الذي بشر به عيسى فما كان منهم إلا أن آمنوا وخشعوا. ولقد جاء في آية سورة الأعراف [157] أن اليهود والنصارى كانوا يجدون النبي مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل. وأن منهم من آمن برسالته واتبعوه نتيجة لذلك. وقد حكت آيات أخرى أوردناها في سياق تفسير الآية المذكورة «1» إيمان

_ (1) اقرأ آيات آل عمران [113- 115 و 199] والنساء [162] والمائدة [82- 84] والأنعام [114] والرعد [36] والإسراء [107- 108] والقصص [52- 53] والأحقاف [10] .

جماعات من اليهود والنصارى وتصديقهم أن ما نزل على محمد هو الحق وإعلانهم أنه متطابق لما عرفوا من الحق. حيث يكون في كل هذا وثائق لا تدخص على صدق ما أخبر به القرآن من ورود صفات النبي صلى الله عليه وسلم في أسفار الكتابيين ومن جملتها بشارة عيسى عليه السلام به مهما كابر المكابرون وتعنت المتعنتون. هذا مع التنبيه على أن ما جاء في القرآن ليس في حاجة عند المسلم إلى توثيق خارجي. وعلى أنه لم يأت فيه في مناسبة موقف جدلي أو تقرير مسألة جدلية وإنما جاء بسبيل تقرير واقع معروف. ويصح أن نكرر هنا من قبيل المساجلة ما قلناه في سياق آية الأعراف من أن الآية التي نحن في صددها قد نزلت في وسط فيه يهود ونصارى وفيه مسلمون من اليهود والنصارى وفيه أعداء للنبي من العرب واليهود والنصارى يتربصون به ويعدّون عليه أنفاسه ليجادلوه ويكذّبوه. فلا يمكن أن تكون نزلت جزافا ولا بدّ من أن تكون الحقيقة التي تضمنتها معروفة غير منكورة في هذا الوسط. ولقد ذكرت البشارة والاسم بصراحة في إنجيل برنابا «1» . وإذا كان النصارى ينكرون هذا الإنجيل ففي الأسفار المتداولة المعترف بها كثير من الإشارات والدلالات والتعبيرات التي يمكن صرفها إلى تأييد ذلك مما أورد السيد رشيد رضا عليه الشواهد الكثيرة بأسلوب فيه من قوة الحجة ما فيه المقنع لغير المكابرين المتعنتين على ما نبهنا عليه في سياق تفسير آية الأعراف لأن السيد أورد ما أورده في سياق تفسيرها. وفي الإصحاح السادس عشر من إنجيل يوحنا عبارات فيها تصديق لآية الصف بخاصة التي تحكي عن عيسى تبشيره برسول من بعده اسمه أحمد حيث جاء فيه (إن في انطلاقي خيرا لكم، لأني إن لم أنطلق لم يأتكم المعزّي ولكن إذا مضيت أرسلته إليكم. ومتى جاء يبكّت الناس على الخطيئة وعلى البرّ وعلى الدينونة. وإن عندي كثيرا أقوله لكم ولكنكم لا تطيقون حمله الآن. ولكن متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من عنده بل يتكلم

_ (1) ترجم هذا الإنجيل عن الطليانية من قبل الدكتور خليل سعادة وطبع في مطبعة محمد علي صبيح وأولاده في القاهرة عام 1326 هـ.

بكل ما يسمع ويخبركم بما يأتي) وكلمة (المعزّي) جاءت في الطبعة البروتستانتية (البار قليط) والباحثون المسلمون يقولون إنها كلمة تعني الحمد. والمبشرون يقولون إن البار قليط المبشر بمجيئه هو روح القدس. مع أن روح القدس عندهم صفة من صفات الله غير منفكة عن ذات الله وعبارة الإنجيل تفيد بقوة أنه شخص يأتي بعد عيسى ويبكت الناس ويهديهم إلى البرّ «1» . ولقد أورد المفسرون في سياق الآيات التي نحن في صددها بضعة أحاديث تفيد أن بشارة عيسى عليه السلام بالنبي صلى الله عليه وسلم مما كان متداولا على الألسنة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته منها حديث عن كعب الأحبار رواه ابن أبي حاتم جاء فيه «أن الله يقول لعيسى عن محمد صلى الله عليه وسلم هو عبدي المتوكل المختار ليس بفظّ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة. ولكن يعفو ويغفر، مولده بمكة وهجرته بطابة وملكه بالشام. وأمته الحمادون. يحمدون الله على كل حال. وفي كل منزلة لهم دوي كدوي النحل في جو السماء بالسحر يعرضون أطرافهم. ويأتزرون على أنصافهم في القتال مثل صفهم في الصلاة. رعاة الشمس يصلون حيث أدركتهم ولو على ظهر دابة» «2» ومنها حديث عن عبد الله بن مسعود أخرجه الإمام أحمد جاء فيه فيما جاء «أن عمرو بن العاص قال للنجاشي حينما جاء إليه موفدا من قريش للوشاية بالمهاجرين الأولين واسترجاعهم إنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم فقال لهم ما تقولون قال نقول كما قال الله عزّ وجلّ هو كلمة الله وروحه ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسّها بشر ولم يفرضها ولد فرفع عودا من الأرض ثم قال يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان والله ما يزيدون على الذي نقول فيه ما يساوي هذا ثم قال لهم مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده أشهد أنه رسول الله وأنه الذي نجد في الإنجيل وأنه الذي بشّر به عيسى ابن مريم. انزلوا حيث شئتم. والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا أحمل نعليه

_ (1) انظر كتاب دليل الحيارى للإمام ابن قيم الجوزية. (2) تفسير ابن كثير.

[سورة الصف (61) : الآيات 10 إلى 13]

وأوضئه» «1» . ومنها حديث عن كعب الأحبار جاء فيه «إن الحواريين قالوا لعيسى يا روح الله هل بعدنا أمة قال نعم يأتي بعدكم أمة حكماء علماء أبرار أتقياء كأنهم في الفقه أنبياء يرضون من الله باليسير من الرزق ويرضى الله منهم باليسير من العمل» «2» . أما ما جاء في الآية من حكاية قول عيسى عليه السلام عن رسالته من قبل الله تعالى ففي الأناجيل المتداولة كثير من العبارات ما يؤيد ذلك. وقد أوردنا بعض النصوص في مناسبات سابقة وبخاصة في سياق تفسير سورة الزخرف. ونكتفي هنا بإيراد نبذة جاءت في الإصحاح السابع من إنجيل يوحنا (إن تعليمي ليس هو لي بل للذي أرسلني. إن شاء أحد أن يصنع مشيئته يعرف التعليم هل هو من الله أم أنا أتكلم من عندي. إن من يتكلم من عنده إنما يطلب مجد نفسه. فأما الذي يطلب مجد الذي أرسله فهو صادق ولا جور عنده) «3» . [سورة الصف (61) : الآيات 10 الى 13] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) . تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) والآيات الثلاث بعدها وما فيها من تلقين وردّ على زعم المستشرقين بأن الغنائم كانت هدف الجهاد عبارة الآيات واضحة. ولم يورد المفسرون رواية ما في صددها. والمتبادر

_ (1) تفسير ابن كثير. (2) الخازن والزمخشري. (3) العبارة منقولة من الطبعة الكاثوليكية.

أنها متصلة بمطلع السورة. وفيها عود على بدء في الحث على الجهاد. وهذا يؤيد ما قلناه إن الآيات التي جاءت بعد ذلك المطلع قد جاءت على سبيل التعقيب والاستطراد والتدعيم ويسوّغ ترجيح نزول هذه الآيات وما قبلها معا. وأسلوب الحثّ والترغيب الذي جاءت عليه قوي. وقد احتوت بشارتين للمؤمنين الذين وجّه إليهم الخطاب: أولاهما أخروية وهي رضاء الله تعالى ومغفرته وجناته. وقد قدمت بالذكر لأنها خير وأبقى. وثانيتهما دنيوية مما يحبونه وهي النصر في الجهاد الذي يدعون إليه والفتح السهل القريب الذي سوف ييسّره الله لهم. وننبه إلى أن سورة الفتح التي تأتي بعد هذه السورة في ترتيب النزول قد احتوت تنويها بفتح الله المبين الذي تمثل في صلح الحديبية. واحتوت كذلك إشارة إلى فتح قريب ومغانم كثيرة يسرها الله للمسلمين. وهذا ما كان نتيجة لوقعة خيبر التي وقعت بعد صلح الحديبية مباشرة تقريبا. وهكذا تكون البشارة الدنيوية التي احتوتها الآيات لم تلبث أن تحققت فكان ذلك في معجزات القرآن الباهرة. وقد يكون هذا التوافق بين السورتين دليلا أو قرينة على صحة ترتيب نزول هذه السورة بين يدي نزول سورة الفتح. ولقد كان ما احتوته هذه الآيات من بشارة دنيوية وما احتوته آيات أخرى من إشارة إلى الغنائم التي تدخل في يد المسلمين نتيجة للحركات الجهادية التي يقومون بها وسيلة لغمز الأغيار وقولهم إن القرآن كان يثير في نفوس المسلمين مطامع الغنائم والفتح ليحملهم على القتال حتى لقد قال بعضهم إن بعض الوقائع الحربية مثل وقعة خيبر لم تكن إلّا وسيلة إلى ملء أيدي المسلمين بالمغانم ومكافأة لهم على الإسلام. وننبه أولا: على أن حثّ المسلمين على القتال لم يقتصر في أي موضع قرآني على الإغراء بنتائجه الدنيوية، بل كان الترغيب في ذلك يأتي على الهامش كما يظهر من هذه الآيات وآيات كثيرة أخرى منها ما مرّ ومنها ما سوف يأتي. بل

تعليق على الآية يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله إلخ وما فيها من تلقين

إن أكثر الآيات التي حثّت المسلمين على الجهاد قد اقتصرت على الترغيب برضاء الله وجزائه الأخروي وعلى بيان ما في الجهاد من واجب عظيم وضرورة مبرمة لإعلاء كلمة الله ومقابلة العدوان وضمان حرية الدعوة إلى دين الله وحرية المسلمين وأمنهم. ومن دليل على صحة إيمان المؤمنين. بل وكان الخطر والقتل والأذى والجهد هو الأكثر توقعا وورودا والذي نبّه إليه القرآن في آيات كثيرة «1» . وثانيا: على أننا لسنا نرى شذوذا أو محلا للغمز في القرآن حتى فيما يحتويه من بشرى الفتح والغنائم والترغيب فيهما لأن ذلك متسق كل الاتساق مع طبيعة الحياة. وهذا هو أسلوب القرآن عامة في معالجة الأمور كما نبهنا على ذلك في مناسبات عديدة سابقة ونوهنا بما في هذا من حكمة سامية ترشح الشريعة الإسلامية للخلود. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14) [14] . تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ إلخ وما فيها من تلقين وهذه الآية متصلة بالموضوع نفسه بأسلوب آخر فيه تمثيل وتذكير وحثّ ودعوة إلى التأسي: (1) فالمؤمنون مدعوون إلى أن يكونوا أنصار الله.

_ (1) اقرأ الآيات التالية: البقرة [195 و 216 و 218] وآل عمران [151- 175] والنساء [74- 79 و 83 و 94- 100 و 104] والأنفال [8 و 38- 39 و 67- 68] والتوبة [24 و 38- 53 و 81- 99 و 111 و 119- 122] والأحزاب [9- 20] .

(2) وعليهم أن يتأسوا بالحواريين الذين استجابوا إلى دعوة عيسى ابن مريم عليه السلام حينما هتف من أنصاري إلى الله فأعلنوا أنهم أنصار الله. (3) وكان نتيجة لذلك أن آمنت طائفة من بني إسرائيل بعيسى ورسالته وكفرت طائفة فأيّد الله المؤمنين على أعدائهم الكافرين فظهروا عليهم وانتصروا. والفقرة الأخيرة من الآية تنطوي على بشارة ضمنية أخرى للمسلمين إذا ما استجابوا إلى دعوة الجهاد يكون الله مؤيدهم على الذين كفروا ومظهرهم عليهم. والفقرة تنطوي كذلك على بيان أسباب ما سجله التاريخ قبل نزولها وإلى حين نزولها من حقيقة وهي انتصار الذين آمنوا بعيسى عليه السلام على الذين كفروا به من بني إسرائيل. والآية وثيقة الصلة بما قبلها، والمرجح أنها نزلت معها ومع ما قبلها معا. والحواريون يذكرون هنا للمرة الثانية. وقد ذكروا في المرة الأولى في الآية [52] من سورة آل عمران التي ذكر فيها ما ذكر في هذه الآية من أنهم قالوا نحن أنصار الله حينما هتف عيسى عليه السلام من أنصاري إلى الله. ثم ذكروا للمرة الثالثة في أواخر سورة المائدة بأسلوب آخر حيث جاء في آية أنهم آمنوا نتيجة لوحي الله لهم بذلك ثم طلبوا من عيسى استنزال مائدة من السماء كوسيلة إلى ازدياد إيمانهم بصدق عيسى ورسالته، فدعا عيسى ربه فاستجاب له وأنزل المائدة على ما سوف يأتي شرحه في سياق تفسيرها. وقد شرحنا ماذا تعني الكلمة في سياق آية آل عمران المذكورة وأوردنا أسماء الحواريين فنكتفي بهذه الإشارة دون الإعادة. وواضح أن العبارة القرآنية لا تفيد أن الحواريين هم فقط الذين آمنوا برسالة عيسى عليه السلام عليه السلام من بني إسرائيل في حياته. بل تفيد أن جماعة أخرى قد آمنوا أيضا وهو ما كان حقا. وجملة فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ قد تفيد أن الانتصار الذي تمّ للمؤمنين برسالة عيسى عليه السلام على الكافرين بها قد وقع بعد وقت ما. وهو ما كان حقا أيضا.

سورة الفتح

سورة الفتح في السورة إشارة إلى أحداث ومشاهد سفرة الحديبية وصلحها وما يسّره الله للمسلمين من فتح خيبر وغنائمها على ما أجمع عليه المفسرون وكتاب السيرة القدماء. وفيها تثبيت وتطمين ربانيان بمناسبة تلك الأحداث والمشاهد. وإشارة إلى مواقف بعض الأعراب المسلمين منها. وإشارة إلى وجود مؤمنين يكتمون إيمانهم في مكة. وإيذان جديد بوعد الله بإظهار الإسلام على الدين كله. وتنويه بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما كانوا عليه من ورع وتقوى. وآيات السورة منسجمة في الموضوع والظرف. وهذا يسوّغ القول بوحدة نزولها ونزول فصولها متتابعة. والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي أن هذه السورة نزلت في طريق عودة النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية إلى المدينة. وقد أورد المفسرون بعض أحاديث مؤيدة لذلك. منها حديث أخرجه الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب قال «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فسألته عن شيء ثلاث مرات فلم يردّ عليّ، فقلت في نفسي: ثكلتك أمّك يا ابن الخطاب ألححت على رسول الله ثلاث مرّات فلم يردّ عليك. فركبت راحلتي فحركت بعيري وتقدمت مخافة أن يكون نزل فيّ شيء فإذا أنا بمناد يا عمر فرجعت وأنا أظنّ أنه نزل فيّ شيء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نزل عليّ البارحة سورة هي أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ» «1» ومنها حديث أخرجه الإمام أحمد أيضا عن

_ (1) من ابن كثير. وقد روى هذا النص البغوي من طريق غير الطريق الذي رواه منه الإمام أحمد والذي أورده ابن كثير أيضا.

مجمع بن حارثة الأنصاري جاء فيه «شهدنا الحديبية فلما انصرفنا عنها إذا الناس ينفرون الأباعر فقال الناس بعضهم لبعض ما للناس؟ قالوا أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجنا مع الناس نوجف فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته عند كراع الغميم فاجتمع الناس عليه فقرأ عليهم إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) فقال رجل من أصحاب رسول الله: أي رسول الله أو فتح هو؟ قال إي والذي نفس محمد بيده إنه لفتح» «1» . ومنها حديث أخرجه ابن جرير عن عبد الله بن مسعود جاء فيه «لما أقبلنا من الحديبية عرسنا فنمنا فلم نستيقظ إلّا والشمس قد طلعت. فاستيقظنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم قال فقلنا أيقظوه فاستيقظ فقال افعلوا ما كنتم تفعلون. وكذلك يفعل من نام أو نسي. وفقدنا ناقة رسول الله فطلبناها فوجدناها قد تعلق خطامها بشجرة فأتيته بها فركبها فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي وكان إذا أتاه الوحي اشتدّ عليه فلما سرى عنه أخبرنا أنه أنزل عليه إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) » «2» . وفي فصل التفسير من صحيحي مسلم والبخاري حديث عن سهل بن حنيف جاء فيه «لقد رأيتنا يوم الحديبية في الصلح الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين ولو نرى قتالا لقاتلنا فجاء عمر فقال ألسنا على الحقّ وهم على الباطل. أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار. قال: بلى. قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا. فقال: يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا. فرجع متغيظا فلم يصبر حتى جاء أبا بكر فقال: ألسنا على الحقّ وهم على الباطل. قال: يا ابن الخطاب إنه رسول الله ولن يضيّعه أبدا، فنزلت سورة الفتح» «3» . وهكذا تتضافر الروايات والأحاديث «4» على أنها نزلت دفعة واحدة في طريق

_ (1) من ابن كثير. (2) المصدر نفسه. (3) التاج ج 4 فصل التفسير ص 212- 213 وهناك أحاديث أخرى من هذا الباب فاكتفينا بما أوردنا: انظر أيضا كتب تفسير الطبري والبغوي والزمخشري والطبرسي والخازن. (4) انظر ابن هشام ج 3 ص 355 و 378 وابن سعد ج 3 ص 139 و 152.

[سورة الفتح (48) : الآيات 1 إلى 3]

عودة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين إلى المدينة وهو ما يلهمه انسجام آياتها وترابطها ووحدة سياقها وموضوعها. والله أعلم. ولقد روى البخاري ومسلم عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أنزلت عليّ الليلة سورة هي أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس. ثم قرأ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً وفي رواية «نزلت عليّ آية هي أحبّ إليّ من الدنيا جميعا» «1» . ومن المحتمل أن يكون ما في السورة من إقرار لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وبشارات عظمى لما سوف ينتج عنه من فتح ونصر وغفران الذنوب المتقدمة والمتأخرة وإظهار دين الله على الدين كلّه مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يشعر بهذا الشعور بنزول السورة وينوه فيها هذا التنويه العظيم. والله أعلم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الفتح (48) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3) . تعليق على الآية إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً والآيتين التاليتين لها، وعلى مدى جملة لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وخلاصة عما ورد في الروايات من ظروف ومشاهد سفرة الحديبية وصلحها الخطاب في الآيات موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق المفسرين وبقرينة الآيات نفسها. ويستلهم منها أنها مطلع تمهيدي لما احتوته السورة. وقد تضمن هذا المطلع: (1) تنويها بعظم الفتح الذي يسّره الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم.

_ (1) التاج ج 4 ص 109. [.....] الجزء الثامن من التفسير الحديث 37

(2) وبشرى للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ما يسّره الله له من الفتح هو وسيلة إلى غفران الله ذنوبه السابقة واللاحقة وإتمام نعمته عليه وتوفيقه إلى أقوم الطرق، ونصره في النهاية نصرا عزيزا لا مثيل له. ومع أن هناك من ذهب إلى أن الفتح المذكور هو فتح مكة «1» فإن الأكثر على أنه صلح الحديبية «2» وقد جاء هذا على لسان النبي صلى الله عليه وسلم بالذات إن صحّ الحديث المروي عن مجمع بن حارثة الذي أوردناه قبل. وهو مؤيد بالأحاديث التي ذكرت أن نزول الآيات إنما كان في أثناء سفرة الحديبية. وبينها وبين فتح مكة عامان. ولقد روى الزمخشري عن موسى بن عقبة حديثا آخر مؤيدا لذلك أخرجه البيهقي جاء فيه «أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية راجعا فقال رجل من أصحابه ما هذا بفتح. لقد صدّونا عن البيت. وصدّ هدينا فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بئس الكلام هذا. بل هو أعظم الفتوح وقد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح. ويسألوكم القضية. ويرغبوا إليكم في الأمان. وقد رأوا منكم ما كرهوا» . وصيغة الآيات وروحها ومضمونها يدل على أنها نزلت على سبيل تطمين نفوس المسلمين وإيذانهم بأن ما كان قد كان فتحا مبينا ومقدمة لنصر قوي عظيم ينالونه تحت راية النبي صلى الله عليه وسلم. وملخص الروايات الواردة في قصة سفرة الحديبية وصلحها هو ما يلي «3» : رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه أنه زار الكعبة فاعتزم زيارتها. واستنفر إلى ذلك المسلمين وخرج في نحو ألف وأربعمائة أو ألف وخمسمائة أو ألف وثلاثمائة وساق معه الهدي (الأنعام التي ستذبح قرابين أثناء الزيارة) وكان ذلك في أواخر العام الهجري السادس وفي شهر ذي القعدة من الأشهر الحرم- وقد يدل هذا على أنه أراد الحج أيضا لأن الزيارة كانت في موسم الحج- فلما وصل إلى مكان اسمه ذو الحليفة

_ (1) روى هذا البغوي عن أبي جعفر الرازي عن قتادة عن أنس. (2) انظر الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير والزمخشري والنسفي إلخ. (3) انظر ابن هشام ج 3 ص 353- 371 وابن سعد ج 3 ص 139- 151 وتاريخ الطبري ج 2 ص 270- 284 وتفسير الطبري وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري والبغوي.

أحرم وأمر المسلمين بالإحرام وأشعر الهدي (جرحه ليسيل دمه وهذا علامة على أنه هدي لله) ووضع في أعناقه القلائد. (وهي علامة ثانية على ذلك) . وكانت أخبار مسيره قد وصلت إلى قريش. فهاجوا وثارت نفوسهم. وتعاهدوا على منعه وأخذوا يستعدون للحرب حتى لقد أرسلوا كتيبة فرسانهم بقيادة خالد بن الوليد بسبيل ذلك. وجاء زعيم خزاعة إلى النبي وكان له نصوحا فقال له إن قريشا جمعوا لك جموعا وجمعوا الأحابيش. وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت. فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فأشاروا عليه بالمضي إلى قصده الذي ألهمه الله به فإذا صدتهم قريش قاتلوهم إلى أن يحكم الله بينهم. ثم تقدم وتقدموا حتى إذا وصلوا إلى الحديبية وهي قرية أو بئر على نحو مرحلة من مكة بركت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم فألهم بوجوب التوقف في المكان فتوقف وقال: «والذي نفسي بيده لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة فيها تعظيم حرمات الله وفيها صلة رحم إلّا أعطيتهم إياها» . وقد أرسل النبي رئيس خزاعة إلى قريش يخبرهم أنه إنما جاء معتمرا ولم يجىء مقاتلا ويدعوهم إلى المهادنة والسماح له بالزيارة والتخلية بينه وبين العرب فإن هلك كفوا مؤونته وإن أظهره الله كانوا بالخيار إن أرادوا دخلوا فيما دخل فيه الناس. وينذرهم إذا أمعنوا في العناد والبغي أنه سوف يقاتلهم حتى تنفرد سالفته (أي حتى يطيح رأسه عن عنقه) ولينفذن الله أمره. فذهب الرجل وأبلغ الرسالة. وكان عروة بن مسعود الزعيم الثقفي حاضرا فنصحهم بقبول ما اقترحه وطلب منهم أن يأذنوا له ليأتي محمدا صلى الله عليه وسلم ويكلمه فأذنوا فجاء فكلمه فقال له ما قال للزعيم الخزاعي. فقال له: أي محمد أرأيت إن استأصلت قومك هل سمعت بأحد من العرب فعل ذلك قبلك؟ وإن تكن الأخرى فو الله إني لأرى وجوها وأرى أوشابا من الناس خلقاء أن يفروا ويدعوك، فصرخ به أبو بكر: امصص بظر اللات أنحن نفرّ عنه وندعه. فعاد عروة فقال لقريش أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي. والله ما رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا إذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيما له.

وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فظلوا في ترددهم وترادت رسل أخرى بين قريش والنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم من جانبه عثمان بن عفان رضي الله عنه ليخبر الناس برغبة النبي صلى الله عليه وسلم عن القتال ورغبته في الزيارة وحسب. والظاهر أنه اختاره لقوة عصبيته في مكة حيث يمتّ إلى بني أمية. وقد أبطأ في العودة. وشاع أن قريشا حبسوه أو قتلوه. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى البيعة على الثبات والاستماتة إذا أصرت قريش على البغي. وتمّت البيعة تحت شجرة استظل النبي صلى الله عليه وسلم بظلها فسميت بيعة الشجرة. ولم يلبث عثمان أن رجع وإن تمّ رأي قريش على إرسال سهيل بن عمرو أحد زعمائهم لمفاوضة النبي صلى الله عليه وسلم على عقد هدنة مزودا بشروط أملتها عليهم الأنفة والحمية الجاهلية. منها تأجيل الزيارة إلى العام القابل. وعدم حملهم في يوم الزيارة إلّا سيوفهم في أغمادها. وإعادة من يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم منهم مسلما برغم أهله. وعدم إعادة من يفرّ من المدينة إلى مكة مرتدا. وقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم الشروط بعد مفاوضات عديدة حتى كادت في وقت أن تنقطع ويشتبك الفريقان في القتال. بل وحدث شيء من ذلك حيث حاول بعض خيالة قريش وشجعانهم أن يأخذوا النبي والمسلمين أو فريقا منهم على غرة فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم من كمن في طريقهم وتمكن من أسر فريق منهم ثم أطلق سراحهم إيذانا برغبته عن الشرّ. وانتهت المفاوضات إلى اتفاق على أن تكون مدة الهدنة عشر سنوات وكتب في ذلك عقد ختمه النبي صلى الله عليه وسلم بخاتمه ووقّعه سهيل عن قريش. وحينئذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذبح الهدي وحلق الشعر والتحلل من الإحرام ثم آذن بالعودة. وقد روي فيما روي أن أبا جندل بن سهيل بن عمرو- المفاوض- وقد كان أسلم فحبسه أبوه وقيده- استطاع أن يفرّ ويجيء إلى النبي والمسلمين يرسف في أغلاله حينما درى أنهم في الحديبية. وكان التراضي على الشروط قد تمّ فاحترم النبي صلى الله عليه وسلم ما تمّ وردّ أبا جندل إلى أبيه. وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أأردّ إلى المشركين يفتنونني في ديني، فزاد ذلك الناس إلى ما بهم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا جندل اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين

فرجا ومخرجا «1» . إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله وإنا لا نغدر بهم. ومما اتفق عليه أن تخيّر قبيلتا خزاعة وبني بكر اللتان كانتا نازلتين حول مكة وبينهما عداء في الانضمام إلى أي طرف من الطرفين فتكونا داخلتين في عقد الصلح فانضمت خزاعة إلى طرف النبي صلى الله عليه وسلم وانضمت بنو بكر إلى طرف قريش. وروي كذلك أن النبي حينما أخذ يملي العقد على علي بن أبي طالب هكذا (هذا ما تم عليه الاتفاق بين محمد رسول الله) اعترض سهيل وأبى أن يذكر محمد إلا باسمه واسم أبيه فقط فوافق النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ومحا ما كان أملاه. ومما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الشرط الذي شرطته قريش ردّ من يأتي إليهم من المدينة من ذهب منا مرتدا فلا رده الله ولسنا بحاجة إليه. ومما روي من الشروط التي قبل بها النبي صلى الله عليه وسلم قد ثقلت على فريق من المؤمنين من جملتهم عمر بن الخطاب وأذهلتهم وكادت تزيغهم. ولا سيما أنه أعلن أنه رأى في منامه أنه يزور الكعبة مع المسلمين وكانوا يعرفون أن رؤياه حقّ. وقد راجعوه وحاوروه. ومنهم من تباطأ في تنفيذ أمره في نحر الهدي وحلق الشعر والتحلل من الإحرام. ولكنه آذنهم أنه إنما يسير بإلهام الله. وثبت نفوسهم حتى عاودتهم الطمأنينة. ولم تلبث السورة أن نزلت مثبتة مطمئنة مبشرة ومؤيدة لما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأبرم. وقد ورد هذا أيضا في أحاديث صحيحة أوردناها في مقدمة السورة.

_ (1) من طريف ما رواه ابن هشام في سياق قصة الحديبية أن مسلما آخر اسمه أبو بصير كان محبوسا مضيقا عليه في مكة مثل أبي جندل. واستطاع أن يفلت ويلتحق بالنبي في المدينة بعد قليل من عودته من الحديبية وأرسلت قريش تطالب النبي برده حسب العهد فقال له رسول الله ما قاله لأبي جندل وسلمه للرسول الذي جاء من قريش. واستطاع في الطريق أن يغتال هذا الرسول وينجو ويعود ثانية إلى المدينة وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم بما فعل قال (ويل أمه مسعر حرب لو كان معه أحد) على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤوه لئلا يعتبر ذلك نقضا منه فخرج إلى جهة مكة وأخذ يجتمع إليه أمثاله حتى بلغوا سبعين وصاروا يضيقون على قريش. لا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه. ولا تمر بهم عير إلا اقتطعوها حتى كتبت قريش للنبي تقول له: لا حاجة لنا بهم وتسأله بأرحامها إلا أن آواهم وزواهم عنهم.

والروايات متسقة إجمالا مع ما احتوته آيات سورة الفتح من إشارات لم تستهدف القصة والإخبار وإنما استهدفت العظة والإرشاد والتثبيت والتطمين جريا على الأسلوب القرآني. كما أن الأحداث التي وقعت بعد صلح الحديبية حققت صدق إلهام النبي صلوات الله عليه فيما فعل وقال، وأظهرت عظم الفوائد المادية والسياسية والحربية والدينية التي عادت على المسلمين والإسلام من هذا الصلح حتى ليصحّ أن يعدّ من الأحداث العظمى الحاسمة في تاريخ الإسلام وقوته وتوطده أو بالأحرى من أعظمها، وتحققت بذلك معجزة القرآن في وصفه بالفتح المبين. فبالإضافة إلى ما كان من اعتراف قريش بشخصية النبي صلى الله عليه وسلم كرئيس الدولة الإسلامية واعتبارهم إياه ندّا وتراجعهم عن عدائهم الشديد له وكانوا قبل سنة زحفوا مع أحزابهم في عشرة آلاف مقاتل على المدينة لاستئصال شأفته وشأفة الإسلام والمسلمين. وما كان في ذلك من فرض شخصية النبي ودينه والمسلمين وتوطيد كيانهم واسمهم وهيبتهم عليهم. فإن ذلك كله كان أيضا بالنسبة لسائر العرب الذين كانوا يعتبرون مكة إماما وقدوة. كما أنه أتاح للنبي صلى الله عليه وسلم فرصة توسيع نطاق دعوته وإيصالها إلى مناطق وبيئات عديدة في أطراف الجزيرة وما وراءها والاستمتاع بحرية الحركة والسفر والاتصال بالقبائل وتصفية القرى اليهودية التي كان أهلها يناصبون المسلمين العداء في طريق الشام. وكانت حالة العداء والحرب بينه وبين أهل مكة وما والاها حائلة دون ذلك كله. ثم كان ممهدا للفتح الأكبر أي فتح مكة الذي انهدم به السور الذي كانت تضربه مكة بين الدعوة وسائر أنحاء الجزيرة العربية. وقد كان بعض هذه النتائج فورية. حيث زحف النبي صلى الله عليه وسلم على قرى اليهود واكتسحها «1» عقب عودته من الحديبية وأرسل رسله ورسائله كذلك إلى ملوك فارس والروم ومصر وملوك العرب وأمرائهم وزعمائهم في أنحاء الجزيرة وخارجها فور عودته كذلك «2» . ولم يلبث أن جاء الردّ الإيجابي من ملوك عمان والبحرين

_ (1) تاريخ الطبري ج 2 ص 303- 306 وابن هشام ج 3 ص 376- 400 وابن سعد ج 3 ص 152. (2) ابن سعد ج 2 ص 23- 27 وابن هشام ج 4 ص 278- 280.

وزعماء اليمن وبعض أمراء الغساسنة وعمالهم. حيث بعثوا يعلمون النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامهم وإذعانهم «1» . وأخذت وفود العرب ورجالاتهم يفدون إلى المدينة من مختلف الأنحاء ليدخلوا في دين الله «2» ، ومن جملة من فعل ذلك رجلان من مشاهير رجال قريش وهما عمرو بن العاص وخالد بن الوليد رضي الله عنهما «3» . ولقد روى الشيخان عن جابر قال «قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية أنتم خير أهل الأرض. وكنّا ألفا وأربعمائة. ولو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة» «4» وقد يكون النبي صلى الله عليه وسلم أراد بهذا تبشير أصحابه وتطمينهم. وقد يلمح فيه أيضا قصد التساوق مع التلقين القرآني بالتنويه بالفتح المبين الذي تمّ في هذا اليوم للنبي والمؤمنين والله تعالى أعلم. هذا، ولقد تعددت الأقوال في تخريج وتأويل جملة لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ من ناحية النحو ومن ناحية المتناول «5» . فمما قيل من الناحية الأولى أنها بمعنى كي يجتمع لك مع الفتح المغفرة وتمام النعمة بالهداية والنصر. كما قيل إنها بمعنى أن الفتح كان سببا للمغفرة وتمام النعمة لأنه جهاد للعدو وفيه الثواب والمغفرة والرضاء الرباني وكلا القولين وارد ووجيه. وصيغة الآية تحتمل القولين. ومما قيل من الناحية الثانية إنها بمعنى ما فرط منك قبل وما يمكن أن يفرط منك بعد من هفوات صغيرة. أو أنها بمعنى ما كان منك أو ما يمكن أن يكون من سهو وغفلة واجتهاد يكون غير الأولى في علم الله. أو إنها على طريق التوكيد كما يقال أعط من تراه ومن لم تره فيكون معناها ما وقع منك وما لم يقع هو مغفور لك.

_ (1) ابن هشام ج 4 ص 279 وابن سعد ج 2 ص 27- 56. (2) ابن سعد ج 2 ص 71- 112- 221. (3) ابن هشام ج 3 ص 319. (4) التاج ج 4 ص 382 والشجرة هي التي بايع المسلمون النبي تحتها يوم الحديبية. وقد أشير إلى ذلك في آية من آيات السورة. (5) انظر كتب التفسير السابقة الذكر.

ومما قيل وهو غريب: إن الذنب المقصود هو ذنب آبائه من لدن آدم وذنوب أمته. ومما رواه المفسر الطبرسي الشيعي عن جعفر الصادق وأبي عبد الله من الأئمة وهو أغرب، قولهم «والله ما كان له ذنب ولكن الله سبحانه ضمن له أن يغفر ذنوب شيعة علي ما تقدم منها وما تأخر» ! وما عدا القولين الأخيرين الغريبين فإن كلا من الأقوال الأخرى لا يخلو من وجاهة وإن كان الأوجه فيما نرى هو (ما كان وما يمكن أن يكون من سهو وغفلة واجتهاد يكون غير الأولى في علم الله) . فلفظ الذنب في حق النبي صلى الله عليه وسلم يجب في الحقيقة أن يصرف إلى ما كان يقع وما يمكن أن يقع منه من مثل ذلك مما لم يكن فيه وحي ومن غير قصد الإثم. وروح الفقرة وإطلاقها حتى تتناول السابق واللاحق تلهم هذا المعنى. ولقد وردت في القرآن آيات فيها إشارات إلى وقوع مثل ذلك وعتاب عليه وأمر للنبي بالاستغفار فيه على ما جاء في آيات سورة عبس [1- 10] والنساء [106- 109] والأنفال [67- 69] والتوبة [43 و 113] ومحمد [19] وغافر [54] على سبيل العظة والتعليم والتنبيه ولما يقتضيه مقام النبوة وجلالها. وفي الإيذان هنا بغفرانها للنبي صلى الله عليه وسلم سواء ما كان منها قبل وما يمكن أن يكون منها بعد ينطوي تدعيم لذلك حيث علم الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكنه كبشر أن يتفادى مثل هذه الاجتهادات أو لا يقع منه غفلة وسهو. أما الإثم المقصود فالنبي صلى الله عليه وسلم معصوم عنه قطعا بما كان من نعمة الله عليه بالاصطفاء والارتفاع إلى مقام النبوّة وما كان عليه من عظمة الخلق التي نوّه بها القرآن بأساليب متنوعة وفي مواضع عديدة. على أنه مما يتبادر لنا أن الجملة وسائر الآية الثانية والآية الثالثة معا قد جاءت بسبيل توكيد خطورة ما تمّ. وبعد مداه وفوائده. وبسبيل البشرى والتطمين والتثبيت والتأييد الرباني للنبي صلى الله عليه وسلم في الموقف الذي وقفه من بدئه إلى نهايته. والله أعلم.

[سورة الفتح (48) : الآيات 4 إلى 7]

[سورة الفتح (48) : الآيات 4 الى 7] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7) . (1) السكينة: الطمأنينة والهدوء النفساني. تعليق على الآية لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين روى الترمذي عن أنس قال «لما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ مرجعه من الحديبية قال: لقد نزلت عليّ آية أحبّ إليّ مما على الأرض ثم قرأها عليهم فقالوا هنيئا مريئا يا نبيّ الله قد بيّن الله لك ماذا يفعل لك فماذا يفعل بنا. فنزلت عليه لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها» «1» . والحديث يقتضي أن تكون الآية منفصلة عن سابقاتها ولا حقاتها مع أن الأحاديث التي أوردناها في مقدمة السورة تذكر أن آيات السورة نزلت دفعة واحدة. وهذا بالإضافة إلى أن الآية منسجمة مع ما قبلها ومع ما بعدها انسجاما تاما ومعطوفة عليها. ولذلك نرجح أن الآيات الأربع استمرار للآيات السابقة. وأنها قد استهدفت ما استهدفته الآيات الثلاث الأولى من التثبيت والتطمين. فقد نوهت

_ (1) التاج ج 4 فصل التفسير ص 211.

الآيات السابقة بما يسّر الله لنبيه من الفتح وبشّرته بما بشّرته فجاءت هذه الآيات تلتفت في الخطاب إلى المؤمنين فتذكّرهم (أولا) بما كان من بثّ الله الطمأنينة في قلوبهم بعد الجزع ليقوى إيمانهم وثقتهم به. وتطمئنهم (ثانيا) بأن ما كان من رحلتهم وما نالهم من مشقة قد جعله الله بالإضافة إلى ما يسّره به من فتح وسيلة للتجاوز عن سيئاتهم ورضائه عنهم ومن مبررات ما سوف يدخلهم فيه من الجنات الأخروية مخلدين فيها، وفي ذلك ما فيه من الفوز العظيم. وتنبههم (ثالثا) إلى أن الله عز وجل الذي له جنود السموات والأرض وقواها قادر على تحقيق ما وعدهم به. وقد كان وما يزال العليم بكل شيء الحكيم الذي لا يأمر ولا يقضي إلّا بما فيه الحكمة والصواب. ولتستطرد (رابعا) إلى ذكر المنافقين والمشركين من رجال ونساء الذين يظنون بالله ظنّ السوء حيث يظنون أنه خاذل لأوليائه. وترد عليهم سوء ظنهم من كون دائرة السوء سوف تدور عليهم. وغضب الله ولعنته سوف يحلان عليهم. ومصيرهم الأخروي هو جهنّم وبئست هي من مصير أعدّ لهم ولأمثالهم. وكون الله الذي له جنود السموات والأرض وقواها قادرا على تحقيق ما أوعدهم به من الخزي واللعنة والهوان والعذاب. فهو كان وما يزال العزيز الحكيم القادر على ذلك والذي يفعل ما فيه الحق والحكمة والصواب. وعلى ضوء هذا الشرح الذي نرجو أن يكون صوابا فإننا نتوقف في كون الآية [5] نزلت جوابا على سؤال المؤمنين. ونميل إلى القول إن المؤمنين قالوا للنبي ألك في موقف آخر فتلا عليهم النبي الآية لتبشيرهم وتطمينهم فالتبس الأمر على الرواة والله تعالى أعلم. وقد لمحنا حكمة تكرار جملة وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ في كون ذلك قد جاء ليتلاءم مع وعد الله تعالى للمؤمنين ووعيده للكفار والمشركين. ونرجو أن يكون شرحنا لذلك صوابا إن شاء الله. ولعلّ في الآية الأولى ما يلهم صحة ما روي من القلق والبلبلة التي اعترت

[سورة الفتح (48) : الآيات 8 إلى 9]

المسلمين وبخاصة بسبب شروط الصلح ثم سكون نفوسهم بما كان من تطمين النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته وموقفه الحازم الملهم من الله. ولعل في الآية الثالثة صورة لما كان يدور في خلد من تخلّف في المدينة من المنافقين وفي خلد المشركين من غلبة الظن بهلاك المسلمين وتعرضهم لضربة شديدة وارتدادهم مخذولين من رحلتهم. بل كان هذا مما دار في خلد بعض القبائل التي كانت أسلمت أيضا على ما سيأتي بيان صريح عنه. ولقد عزا المفسرون إلى ابن عباس أن جملة لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ هي بمعنى (ليزدادوا إيمانا وتصديقا بشرائع الله بعد إيمانهم بالله وتوحيده) «1» . وقال ابن كثير إن البخاري وغيره من الأئمة استدلوا بهذه الآية على تفاضل الإيمان في القلوب. ومع ما في قول ابن عباس من سداد بوجه عام فإن ما أوردناه قبل من شرح للآية هو المتبادر أكثر والله أعلم. ولسنا نرى في الآية دلالة على تفاضل الإيمان لذاته. والجملة لم تأت هنا لأول مرة. بل جاءت في سورة المدثر المكية ثم في سور آل عمران والأنفال والأحزاب. وقد علقنا عليها في سورة المدثر بما فيه الكفاية. ويلفت النظر إلى اختصاص المؤمنات والمشركات والمنافقات بالذكر إلى جانب المؤمنين والمشركين والمنافقين وقد سبق هذا في سورة الأحزاب أيضا حيث ينطوي في ذلك توكيد بأن المرأة العربية في الدعوة الإسلامية وظروفها ومختلف صورها كانت ذات شخصية مستقلة. [سورة الفتح (48) : الآيات 8 الى 9] إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) . (1) تعزروه: تنصروه وتعززوه.

_ (1) انظر البغوي والخازن وابن كثير والزمخشري والطبرسي.

تعليق على الآية إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا (8) والآية التي تليها

تعليق على الآية إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) والآية التي تليها قرئت ضمائر الأفعال في الآية الثانية بالتاء للمخاطب كما قرئت بالياء للغائب. وقال المفسرون: في الحالة الثانية تكون الآية موجهة إلى الناس. وروح الآية والسياق والمقام يلهم أنها موجهة إلى المسلمين بخاصة. وتكون قراءتها بالتاء هو الأوجه. وهو المشهور. أما ضمير المفعول في أفعال الآية فقيل إنه عائد للرسول صلى الله عليه وسلم وقيل إنه عائد لله. ومع أن الضمير يعود للأقرب وهو الرسول فإن فعل وَتُسَبِّحُوهُ يثير إشكالا في صرفه إلى الرسول وقد قال الذين صرفوا الضمائر إلى الرسول إن الكلام ينتهي عند وَتُوَقِّرُوهُ ثم يبدأ من جديد في فقرة وَتُسَبِّحُوهُ وتكون مصروفة إلى الله «1» . وفي هذا تكلف فيما نراه. والوجه الذي يتبادر لنا أنه الصواب إن شاء الله هو أن الضمائر راجعة إلى الله ودينه. والآية الأولى قد تلهم هذا حيث تقرر أن الله إنما أرسل رسوله شاهدا ومبشرا ونذيرا. والمتبادر أن الآيتين جاءتا على سبيل التعقيب على ما سبق فاحتوتا تقرير واجب النبي صلى الله عليه وسلم وواجب المسلمين. وكلاهما كان موضوع خطاب في الآيات السابقة. وهذا ما يسوغ القول إنهما استمرار للسياق. وقد استهدفتا كما تلهم روحهما وبخاصة الآية الثانية منهما توكيد واجب المسلمين بنصرة دين الله ورسوله والخضوع لأوامرهما والوقوف عنده وتوكيد كون الله إنما أرسل رسوله شاهدا عليهم ومبشرا ونذيرا لهم وأن ما فعله قد فعله بإلهام الله تعالى ووحيه. ولقد وردت جملة مماثلة للجملة الأولى في سورة الأحزاب. وقد جاءت بعد مسألة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بمطلقة ابنه بالتبنّي التي ذكرنا احتمال وقوع تشويش واستغراب في صددها فأريد بالآية التنبيه إلى عظم قدر النبي وكونه المبشر المنذر من الله ووجوب التسليم بما ينقله بإلهام الله ومقتضى حكمته. وجاءت هنا في مناسبة ما ثار في نفوس المؤمنين من مضض من شروط الحديبية فاقتضت الحكمة

_ (1) انظر الطبري والبغوي والزمخشري والطبرسي. [.....]

[سورة الفتح (48) : آية 10]

تكرارها للمقصد ذاته بسبب تكرر الموقف وإن اختلف الأشخاص والأحداث فيه، والله تعالى أعلم. [سورة الفتح (48) : آية 10] إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10) . تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ وما ينطوي فيها من صور وتلقين المستفاد من شرح المفسرين «1» أن هذه الآية تعني المبايعة التي بايع بها المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة في الحديبية: ومع أن في السورة آية أخرى فيها إيذان برضاء الله عن الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة فلا يمنع أن تكون هذه الآية أيضا في الصدد نفسه لمعنى آخر غير المعنى الذي عبرت عنه الآية المذكورة. وعلى كل حال فالمتبادر أن الآية متصلة بالسياق السابق وبالآيتين السابقتين مباشرة لها بخاصة. وعلى سبيل توكيد واجب المسلمين المذكور في الثانية منهما. وكأنما جاءت معقبة على ذلك لتؤذن المسلمين أولا أنهم وإن كانوا بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم فإنما هم في الحقيقة قد بايعوا الله الذي كانت يده فوق أيديهم. ولتنبههم ثانيا إلى خطورة العهد الذي قطعوه على أنفسهم أمام الله في البيعة على نصر دين الله وما يستلزمه هذا من الثقة والرضاء بكل ما يلهمه ويوحي به إلى رسوله والوقوف عنده. ولتنذرهم ولتبشرهم ثالثا بأن من نكث عن بيعته وفعل ما ينقضها فإنما يكون بذلك قد أضرّ نفسه وبأن من أوفى بما عاهد الله عليه يحظى بعظيم الأجر من الله. وقد تلهم الآية خطورة ما كان عليه الموقف في الحديبية وما كان من شدة وقع شروط الصلح على المسلمين حيث اقتضت حكمة التنزيل هذا الإيذان والتنبيه

_ (1) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.

والإنذار والتبشير الذي احتوته الآية لتسكين نفوسهم من جهة وليكون خطة لهم في المستقبل من جهة أخرى. ومما روي عن دواعي هذه البيعة أنه لما شاع أن قريشا قتلت أو حبست عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم قال النبي «لا نبرح حتى نناجز القوم» ودعا من خرج معه إلى بيعته على الموت في رواية وعلى عدم الفرار في رواية أخرى، واستظل في ظل شجرة من السمر فأقبلوا عليه يبايعونه ولم يتلكأ أو يتخلّف أحد إلّا شخص واحد روي أنه كان ينشد ناقة له قد ضلّت «1» . ومما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اللهمّ إن عثمان في حاجة الله وحاجة رسوله ثم ضرب بإحدى يديه على الأخرى فكانت إحداهما عن عثمان. ولقد كان الموقف خطيرا ورائعا معا. فالذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يخرجوا إلى قتال ولم يكونوا في عدّة وعدّة أعدائهم الأشداء والذين تكررت بينهم وقائع الحرب واشتدت بسببها الأحقاد والأضغان. ثم هم بعيدون عن عاصمتهم بينما عدوهم في عاصمته وفي متناوله ما قد يساعده على النصر. ولقد كانوا بين أمرين: إما الثبات والاستماتة حتى يحكم الله. وإما النكوص على الأعقاب من وجه عدوّهم بسبب إصراره وصدّه، فاختاروا الأول وسارعوا إلى مبايعة النبي فأثبتوا بذلك رسوخ إيمانهم وثقتهم بالله ورسوله وابتغاءهم وجه الله ورضاءه، ورضاءهم بكل تضحية في سبيل ذلك فاستحقوا الثناء المحبب والبشرى العظيمة التي احتوتها الآية [18] من هذه السورة لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً. ومما لا ريب فيه أن هذا الموقف جدير أن يعدّ من المواقف الحاسمة الموفقة في تاريخ الدعوة الإسلامية إذ كان من المحتمل جدا أن يكون لرجوعهم ونكوصهم من أمام أعدائهم الأشداء آثار خطيرة في هذا التاريخ. ولا نشك في أن

_ (1) انظر تفسير ابن كثير الذي أورد أحاديث عديدة في صدد البيعة، منها ما ذكر أنها كانت على الموت ومنها ما ذكر أنها كانت على عدم الفرار.

أخبار البيعة ومشهدها الرائع وما عبرت عنه من إعلان العزم على مواجهة الموت بقلوب مؤمنة ونفوس مطمئنة وجأش رابط قد وصلت إلى قريش وكانت عاملا من عوامل ما انبثق فيهم من رغبة اجتناب الحرب والقتال مع هذه الفئة التي بايعت نبيّها وربّها على الموت وعدم الفرار والتي ظهر من إخلاصها لدينها وتأييدها لنبيها ما ظهر. ولقد كان تعبير يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ موضوع أقوال تتصل بعلم الكلام وصفات الله من حيث نسبة الجوارح إلى الله تعالى «1» . ولسنا نرى التعبير والسياق يتحملان ذلك فقد قصد به كما هو المتبادر شدة التوكيد على خطورة العهد والبيعة وكون الله تعالى شاهدا عليهما استهدافا لقوة التلقين الذي أريد بثّه في نفوس المسلمين. ولقد روى البغوي عن ابن عباس في تأويل الجملة (يد الله بالوفاء لما وعدهم من الخير فوق أيديهم) . وروي عن الكلبي (نعمة الله عليهم في الهداية فوق ما صنعوا من البيعة) . وقال الطبري في تأويلها (يد الله فوق أيديهم عند البيعة لأنهم كانوا يبايعون الله ببيعتهم أو قوة الله فوق قوتهم في نصرة الله ورسوله) . وفي هذه التأويلات أيضا سداد وتفيد أن الجملة حملت على المجاز. ولقد حاول بعض الصوفيين أن يروا في الجملة وأمثالها تأييدا لمذهبهم في وحدة الوجود والاتحاد بالله والشطح والمفارقة ظاهران في هذا القول. ولقد نبهنا في مناسبات سابقة على ما ينطوي في تعبيرات: يد الله ووجه الله وسمع الله وبصر الله، من مقاصد خطابية وعلى ما ينبغي أن يفهم من ذلك على ضوء التقريرات القرآنية وسنة السلف الصالح «2» . فلا نرى ضرورة إلى الإعادة والتكرار. ولا تخلو الآية من تلقين مستمر المدى فيما يكون قد وجب على المسلمين باعتناقهم الدين الإسلامي وبإيمانهم بالله ورسوله وقرآنه. فإنهم بذلك بمثابة من بايع الله ورسوله على السمع والطاعة والقيام بما أوجبه عليهم القرآن وسنة النبي من واجبات إيجابية وسلبية متنوعة وعدم إهمالها والتقصير فيها أو نقضها ومخالفتها.

_ (1) انظر الزمخشري وذيل ابن المنير على تفسير الزمخشري والخازن. (2) انظر آخر تفسير سورة القصص.

[سورة الفتح (48) : الآيات 11 إلى 14]

[سورة الفتح (48) : الآيات 11 الى 14] سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14) . (1) المخلّفون: المتخلفون. (2) بورا: من البوار وهو الهلاك أو من الفساد أي كنتم هلكى بذنوبكم أو فاسدين بأخلاقكم. تعليق على الآية سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت: (1) حكاية لما سوف يقوله الأعراب المتخلفون للنبي صلى الله عليه وسلم من الاعتذار بأهلهم وأموالهم التي شغلتهم وجعلتهم يتخلفون. وطلبهم منه أن يستغفر لهم. (2) وتكذيبا لهم بتقرير أنهم يقولون غير الحقيقة التي يعلمونها في قلوبهم مع التنديد بهم وإيذانهم بأن الله خبير بأعمالهم إن أظهروها أو أخفوها وبأنه هو وحده القادر على نفعهم وضرّهم دون أن يكون لأحد قدرة على منعه من ذلك. (3) وفضحا لحقيقة أمرهم وبيان الباعث الصحيح على تخلفهم وهو ظنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الذين خرجوا معه لن ينجوا من سيوف أعدائهم ولن يعودوا إلى أهلهم وهو ظنّ السوء الذي زيّن في قلوبهم فاستوجبوا لأنفسهم الهلاك وكانوا به من الفاسدين.

(4) وتنديدا وإنذارا لهم: فإن من لم يؤمن بالله ورسوله ويثق بهما ويكون طائعا سميعا لكل ما يأمرانه به يستحق ما أعده الله للكافرين من النار. (5) وتأميلا لهم مع ذلك ليرعووا ويثوبوا إلى رشدهم، فإن الله هو مالك السموات والأرض وهو متصف بالغفران والرحمة يغفر لمن اقتضت حكمته المغفرة له ويعذب من اقتضت حكمته عذابه. وقد روى المفسرون أن الآيات نزلت في صدد أعراب بني غفار ومزينة وجهينة وأشجع وأسلم، الذين كانوا نازلين حول المدينة واستنفرهم النبي ليخرحوا معه إلى زيارة الكعبة حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت فتثاقلوا وتخلفوا عن النفرة معه «1» . والرواية محتملة جدّا. وتكون الآيات على ضوئها متصلة بسياق آيات السورة وموضوعها الرئيسي ومحتوية على صورة من صور أحداث سفرة الحديبية من جهة وصورة من صور الأعراب ومواقفهم من جهة، وصورة لما كان يظنه الأعراب من مصير السفرة وهلاك النبي صلى الله عليه وسلم والذين خرجوا معه من جهة. وكان يشارك الأعراب في الصورة الأخيرة المشركون والمنافقون أيضا على ما استلهمناه قبل من الآية [6] . وسين المستقبل في حكاية أقوال المتخلفين دليل على أن الآيات قد نزلت قبل مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم لهم وقرينة على صحة رواية نزولها في طريق عودة النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية إلى المدينة. وقد يفيد هذا أن الآيات قد استهدفت ما استهدفته الآيات السابقة من تثبيت وتطمين المسلمين وإيذان الذين ثقل عليهم شروط الصلح بخاصة بما كان يقدره لهم الناس من الهلاك في السفرة على سبيل إبراز ما كان من توفيق الله فيها من فرض شخصيتهم ومدافعة أعدائهم لهم بالهدنة وعودتهم سالمين معافين. وليس في الرواية ما يفيد أن الأعراب المتخلفين كانوا مسلمين أو غير

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي والطبرسي والخازن. الجزء الثامن من التفسير الحديث 38

[سورة الفتح (48) : الآيات 15 إلى 16]

مسلمين بل قد تفيد أنهم غير مسلمين لأنها تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن ينفروا معه حتى تعلم قريش أنه جاء زائرا بدليل اشتراك غير مسلمين معه في الزيارة «1» . غير أن حكاية طلب استغفار الأعراب من النبي صلى الله عليه وسلم في الآية دليل على كونهم مسلمين. فضلا عن ما في التأميل في غفران الله ورحمته من قرينة. وفي آية قريبة أخرى دليل آخر أيضا على ما سوف يأتي شرحه. وفي روايات السيرة ما يفيد أن جماعات من مزينة وأشجع وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلموا في السنة الهجرية الخامسة، وأن جماعات من مزينة وأشجع وأسلم وغفار كانوا في عداد الجيش الذي زحف النبي صلى الله عليه وسلم به على مكة في السنة الهجرية الثامنة «2» . حيث يفيد هذا أن منهم من كان مسلما قبل سفرة الحديبية بمدة ما. وكل ما يمكن أن يكون محتملا والحالة هذه أن إسلامهم لم يكن قد رسخ بعد وهو ما عبرت عنه آيات سورة الحجرات (14- 17) وما تفيده من اتساع حلم الله ورسوله لهم على ما شرحناه في سياق تفسير هذه السورة. [سورة الفتح (48) : الآيات 15 الى 16] سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16) . تعليق على الآية سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ والآية التالية لها وما فيها من صور وتلقين عبارة الآيتين اللغوية واضحة. وسين المستقبل فيهما قرينة على أن الأقوال

_ (1) وقد ذهب إلى هذا محمد حسين هيكل في كتابه حياة محمد. (2) انظر ابن سعد ج 2 ص 56 و 71 وج 3 ص 182.

التي حكيت في الأولى عن المتخلفين والتي أمر النبي بأن يقولها لهم في الثانية سابقة على المواجهة. ومن قبيل ما سوف يكون حين المواجهة. وتكون الآيتان والحالة هذه تتمة أو استمرارا للسياق السابق. وقد نزلتا معا في أثناء طريق عودة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين إلى المدينة من الحديبية. وفي الآية الأولى صورة من صور الأعراب في مطامعهم وتناقضهم حيث يتخلفون حين الخطر عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ويعتذرون بالأعذار الكاذبة ثم يطلبون منهم السماح لهم باتباعهم في الرحلات التي تكون الغنائم والسلامة فيها مضمونتين. فإذا منعوا من ذلك سخطوا واتهموا مانعيهم بالحسد. وفي هذا ما فيه من قلة الشعور وحسن الإدراك. والمتبادر أن المتخلفين المذكورين في هذه الآيات هم نفس المتخلفين المذكورين في الآيات السابقة أو منهم. ولم يرو المفسرون روايات خاصة في صدد هذه الآيات حيث يؤيد هذا ما قلناه من وحدة السياق وظروف النزول، والله أعلم. وفي الآية الثانية إيذان رباني بعدم رضاء الله عن هذه الحالة. وإيجاب عدم السماح لهم إذا انطلق المسلمون إلى رحلة مضمونة النجاح والغنائم والسلامة كعقوبة لهم. ثم إتاحة فرصة اختبارية لهم حيث يؤذنون قبل ذلك بأنهم سيدعون إلى قتال قوم أشداء البأس من أعداء المسلمين. وحينئذ ينكشف أمرهم. فإن أطاعوا استحقوا أجر الله العظيم وإن تولوا كما تولوا من قبل وتخلفوا حقّ عليهم عذاب الله الأليم. ولقد قيل «1» إن جملتي يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ وكَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ تعطفان على آيات وردت في سورة التوبة في حق المتخلفين وهي فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ

_ (1) انظر الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير والزمخشري لقد أوردوا القولين وبعضهم فند الأول.

فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83) . وقيل «1» إن الله أمر نبيه بأن لا يسمح لهم بالذهاب معه إلى رحلة فيها مغانم وأن لا تكون مثل هذه الرحلة إلّا للذين شهدوا الحديبية. والقول الأول بعيد لأن آيات التوبة نزلت في ظروف غزوة تبوك في السنة الهجرية التاسعة على ما هو متفق عليه. وقد فنده غير واحد من المفسرين بناء على ذلك «2» . والقول الثاني هو الأوجه. ويكون ما جاء في الجملتين إما أنه نزل قرآنا في سورة الفتح أو غيرها في مناسبة ما ثم نسخ ورفع لحكمة ربانية وإما أنه إلهام رباني ووحي غير قرآني، ثم أيده القرآن في الجملتين. وهذا مما تكرر على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. ولقد قال المفسرون عزوا إلى بعض التابعين: إن المغانم المذكورة في الآية الأولى هي مغانم خيبر وإن الله قد وعد بها الذين شهدوا الحديبية خاصة عوضا عن غنائم أهل مكة إذ انصرفوا عنهم على صلح ولم يصيبوا منهم شيئا. وإن الله قد أمر نبيه أن لا يسير معه إلى خيبر غيرهم «3» . والزحف على خيبر قد وقع بعد العودة من الحديبية بشهرين في رواية وبخمسة أشهر في رواية أخرى. ولم يذكر كتّاب السيرة القدماء أن شهودها اقتصروا على من شهد الحديبية «4» . حتى ولم يذكر ذلك المفسرون الذين رووا قصة وقعة خيبر «5» . هذا إلى ما هو ظاهر من أن أسلوب الآيتين اللتين نحن في

_ (1) انظر الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير والزمخشري لقد أوردوا القولين وبعضهم فند الأول. (2) المصدر نفسه. (3) تفسير البغوي والطبري وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري. (4) انظر ابن سعد ج 3 ص 153- 163 وابن هشام ج 3 ص 378- 400. (5) انظر كتب التفسير السابقة الذكر.

صددهما عام وفي صدد حكاية ما كانت عليه حالة الأعراب من رغبة الابتعاد حين الخطر ورغبة الإقبال حين تكون المغانم والسلامة مضمونة. ثم في صدد إتاحة فرصة لهم بإثبات صدق إيمانهم في موقف ليس فيه غنيمة وإنما فيه خطر على ما شرحناه قبل. ولذلك فإنه يخطر بالبال أن تكون رواية تأويل المغانم بمغانم خيبر هي من قبيل التطبيق لأنه لم يكن في زحف خيبر جماعة من هؤلاء المتخلفين. والله أعلم. ولقد تعددت روايات المفسرين المعزوة إلى ابن عباس والضحاك وقتادة وسعيد بن جبير في المقصود بجملة قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ منها أنهم هوازن وثقيف. ومنها أنهم بنو حنيفة قوم مسيلمة. ومنها أنهم الروم والفرس. ومنها أن الجملة مطلقة لم تعن قوما بأعيانهم «1» . ونرى هذا هو الأوجه والأقوال الأولى من قبيل التطبيق. والله أعلم. والآيتان كالآيات السابقة لا تخلوان هما الأخريان مع خصوصيتهما الزمنية والموضوعية من صورة يتكرر ظهورها من فئات من الناس في كل ظرف حيث يبتعدون عن الخطر ويتوارون وقت الشدة والنضال ويعتذرون بالأعذار الكاذبة ثم لا يخجلون من المسارعة حين الأمن والسلامة إلى المطالبة بالغنم دون الغرم. ولا تخلوان بالتبعية من تلقين جليل مستمر المدى بتقبيح هذه الصورة من جهة وبجعل إخلاص هذه الفئات وصدق دعواها منوطين بامتحان قوي يتحملون فيه الجهد والمغرم حتى يصح لهم أن يلتحقوا بزمرة الصالحين الصادقين ويكون لهم ما لهم وعليهم ما عليهم. هذا، ولسنا نرى في جملة سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ نقضا لما استنتجناه من تقريرات القرآن والسنة الثابتة وأوردناه في

_ (1) انظر الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير. [.....]

[سورة الفتح (48) : آية 17]

مناسبات سابقة عديدة من كون القتال في الإسلام هو للدفاع ومقابلة العدوان بالمثل وليس للإكراه على الإسلام أو قتال الكافرين بالرسالة الإسلامية عامة دون تفريق بين المسالمين والمعادين. فالقوم في الآية كفار أعداء وجب قتالهم. وحين تقوم حالة الحرب بين المسلمين وأعدائهم من الكفار لا تقف إلّا بانتهاء الأعداء عن مواقفهم. وهذا يكون بالإسلام كما يكون بالصلح. وصلح الحديبية مثل قريب على ذلك ينطوي فيه كون هذا لا يقتصر على غير العرب أو على غير المشركين منهم. [سورة الفتح (48) : آية 17] لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17) . لم يرو المفسرون مناسبة خاصة للآية والمتبادر أنها جاءت استطرادية استدراكية. وهي بذلك متصلة بالسياق السابق وجزء منه. فقد أنذرت الآيات السابقة الذين لا يثبتون إخلاصهم في طاعة الله ورسوله بالجهاد في سبيل الله جهادا مجردا من الطمع فجاءت هذه الآية تؤذن بعذر المعذورين وتعفيهم من الواجب الذي لا يقدرون على القيام به بسبب أعذارهم الجسمانية. والمبدأ الذي احتوته الآية متمشّ مع الحق والعدل والحكمة. وهو من المبادئ العامة التي تكرر تقريرها بأساليب متنوعة كما لا يخفى. والفقرتان الأخيرتان من الآية أولا وإطلاق العبارة فيها ثانيا مما يلهم أن الآية مع انطوائها على قصد توكيد الحثّ والإنذار اللذين وجها إلى المتخلفين في الآيات السابقة فقد قصد بها أن تكون عامة التوجيه والتلقين شاملة لجميع المسلمين في مختلف الظروف أيضا كما هو المتبادر. [سورة الفتح (48) : الآيات 18 الى 19] لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19) .

تعليق على الآية لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة والآية التالية لها وما فيها من صور وتلقين

تعليق على الآية لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ والآية التالية لها وما فيها من صور وتلقين عبارة الآيتين واضحة، وأسلوبها أسلوب تبشيري وتنويهي كما هو ظاهر للذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة الحديبية تحت الشجرة مما فصلت صورته الروايات التي أوردنا خلاصتها قبل. وهما منطويتان كذلك على القصد التطميني والتبشيري الذي استهدفته آيات السورة على ما نبهنا عليه قبل. والمتبادر أنهما استمرار للسياق وجزء منها ونزلتا معه. والفقرات الأولى من الآية الأولى تنطوي في حدّ ذاتها على الإشارة إلى مشهد من مشاهد سفرة الحديبية وتلهم روعة المشهد وخطورة الموقف الذي كان يكتنف النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين على ما شرحناه في سياق الآية (10) شرحا يغني عن التكرار. وتسمى هذه البيعة ببيعة الرضوان أيضا «1» . والمتبادر أنها تسمية منبثقة من جملة لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ في الآية الأولى. وقد روى ابن كثير وغيره بعض الأحاديث في فضل الذين بايعوا تحت الشجرة منها حديث عن جابر قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم حينما بايعه الناس تحت الشجرة: أنتم خير أهل الأرض اليوم» وحديث آخر عن أم مبشر قالت: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: لا يدخل النار إن شاء الله تعالى من أصحاب الشجرة التي بايعوا تحتها أحد» ومنها حديث عن إياس بن سلمة عن أبيه قال: «بينما نحن قائلون إذ نادى منادي رسول الله أيّها الناس: البيعة البيعة، نزل روح القدس فثرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت شجرة سمرة فبايعناه» . ومن المفسرين من قال إن الفتح القريب المذكور في الآية الثانية يعني صلح الحديبية، وإن المغانم التي تبشر بها الآية المسلمين هي ما سوف ييسره الله

_ (1) انظر تفسير الزمخشري وابن كثير.

استطراد إلى ذكر وقعة خيبر واستيلاء المسلمين عليها وعلى قرى اليهود الأخرى في طريق الشام ورد على مزاعم المستشرقين بأنها كانت مكافأة للذين شهدوا الحديبية ولم يكن لها مبرر

للمسلمين من ذلك بصورة عامة. ومنهم من قال: إن الفتح هو فتح خيبر والمغانم مغانمها. وكل من القولين معزوّ إلى بعض علماء التابعين «1» . والآيتان كما قلنا قبل جزء من السياق السابق. وقد نزل السياق أثناء عودة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من الحديبية إلى المدينة. ووقعة خيبر كانت بعد ذلك بوقت ما. حيث يتبادر من ذلك أن القول الأول هو الأوجه وأن القول الثاني قد كان من وحي ما جاء مصداقا عاجلا للبشرى القرآنية بفتح خيبر ومغانمها. ويصحّ أن يعدّ ذلك والحالة هذه من المعجزات القرآنية التي سبق الإخبار عنها وتحققت بعد قليل من الإخبار. استطراد إلى ذكر وقعة خيبر واستيلاء المسلمين عليها وعلى قرى اليهود الأخرى في طريق الشام «2» ورد على مزاعم المستشرقين بأنها كانت مكافأة للذين شهدوا الحديبية ولم يكن لها مبرر ووقعة خيبر ليست منحصرة في خيبر بل تجاوزتها إلى قرى أخرى كانت لليهود بعد خيبر على طريق الشام. وكل ما في الأمر أنها كانت عاصمة اليهود وأهم مراكزهم بعد إجلائهم عن المدينة. وليس في القرآن إشارات أخرى إلى هذه الوقعة. فرأينا أن نستطرد إلى إيراد خبرها في هذه المناسبة. ولقد كان لهذه الوقعة أسباب مبررة كما هو شأن وقائع التنكيل السابقة باليهود بل وكل الوقائع الجهادية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه الأسباب هي المواقف العدائية والعدوانية التي وقفها اليهود دون أن يعتبروا بما كان من حوادث سابقة عادت عليهم بالوبال والنكال. فقد استقر بعض زعماء بني النضير وأتباعهم في خيبر بعد أن أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن المدينة وتزعموا يهود المنطقة. وساقوهم إلى

_ (1) انظر البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي. (2) هذه النبذة ملخصة عن تفسير الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وتاريخ الطبري ج 2 ص 303- 306 وابن سعد ج 3 ص 152- 164 وابن هشام ج 3 ص 388- 400.

العداء للمسلمين. وهم الذين ذهبوا وحرضوا قريشا وقبائل العرب من أسد وغطفان وغيرها على التحزّب والزحف على المدينة لاستئصال شأفة الإسلام وحرضوا زعماء بني قريظة على الغدر والنكث مما نتج عنه وقعة الأحزاب ثم وقعة بني قريظة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأحزاب. وقد استمروا على عدائهم بعد ذلك وظلوا يحرضون قبائل العرب ويغزونهم بغزو المدينة. ومما لا شك فيه أن هذه المواقف جعلت النبي صلى الله عليه وسلم يفكر في إتمام عمليات التنكيل باليهود في هذه المنطقة غير أنه على ما يظهر لم يجد الخطر عاجلا فاكتفى بإرسال سرايا من المسلمين اغتالت زعيمهم أبا رافع بن أبي الحقيق ثم أسير بن زارم الذي تزعم اليهود بعده. وأجّل إتمام العمل إلى ما بعد عودته من زيارة الكعبة التي اعتزم القيام بها والتي نتج عنها صلح الحديبية. والراجح الذي تلهمه روح الآيات وتؤيده الوقائع أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد من الحديبية وقد بيّت النية على إتمام تلك العمليات وقد أمن من مباغتة قريش. فما إن وصل من الحديبية إلى المدينة حتى أخذ يستعد للزحف على خيبر ثم زحف في المحرم من السنة الهجرية السابقة في رواية وفي جمادى الأولى في رواية. ولقد روي أن قبائل أسد وغطفان «1» كانت تتجمع لتهاجم المدينة في غياب النبي صلى الله عليه وسلم عنها أو لتهاجم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في طريقهم إلى الحديبية أو عودتهم منها. ولكن انحسام الأمر بين النبي وقريش جعلهم ينكصون. فلعل هذا كان أثرا من كيد يهود خيبر ومما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يعجل بالزحف عليهم. ولقد كانت خيبر كثيفة السكان كثيرة الحصون قوية الاستعداد فلقي المسلمون جهدا ومشقة واستمرت مجاهدتهم مع اليهود نحو شهر حتى تمكنوا من الانتصار عليهم والاستيلاء على حصونهم وقد قتلوا كثيرا من مقاتليهم واستولوا على مقادير عظيمة من أموالهم وأسلحتهم وحقولهم وبساتينهم ونسائهم وأطفالهم فكانت غنيمة عظيمة قسمها النبي صلى الله عليه وسلم على المجاهدين بعد أن فرز خمسها. وقد

_ (1) انظر تفسير البغوي.

أبقى النبي صلى الله عليه وسلم من لم ير في بقائه خطرا من الذين استسلموا منهم وولّاهم رعاية البساتين والحقول مقابل نصف الغلة مع الاحتفاظ بحق إخراجهم حين يشاء. ولقد أوصى حين موته بإخراجهم فأخرجهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه تنفيذا للوصية حين سنحت فرصة كان فيها منهم بغي وعدوان «1» . وقد أجلى النبي صلى الله عليه وسلم منهم من رأى في بقائه خطرا. ثم انصرف بعد خيبر إلى وادي القرى وكان فيه حصون عديدة لليهود فلقي فيها بعض المقاومة ثم كتب الله النصر لنبيه فقتل من قتل وأجلى من أجلى واستولى على أموالهم وسلاحهم واتفق مع من لم يكن منه خطر على البقاء على رعاية البساتين والحقول على النصف كما فعل في خيبر. ودبّ الرعب في قلوب اليهود في فدك فأرسلوا رسلهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فصالحهم على نصف بساتينهم وحقولهم فغدت فيئا لأن المسلمين لم يزحفوا عليها ويحاربوها. وفعل مثلهم أهل الجرباء وتيماء أيضا «2» . وفي أثناء غزوة خيبر عاد المهاجرون الأولون من الحبشة وعلى رأسهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم وانضموا إلى النبي والمسلمين في خيبر فقسم النبي صلى الله عليه وسلم لهم من الغنائم. وقد روى ابن هشام «3» أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل عمرو بن أمية الضمري إلى الحبشة بعد صلح الحديبية فحملهم على سفينتين. ولا ريب أن هذا كان من بركات هذا الصلح. حيث شعر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون بالقوة والعزة فلم يعد ما يسوّغ بقاء المهاجرين الأولين رضي الله عنهم بعيدين في أرض الغربة. وهذا يقال بطبيعة الحال بالنسبة لما تمّ للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من نصر وأحرزوه من غنائم في خيبر ووادي القرى وفدك، وما كان من خضد شوكة اليهود نهائيا في أرض الحجاز بعد تطهير مدينة الرسول منهم.

_ (1) انظر كتاب الأموال للإمام أبي عبيد ص 99 وفتوح البلدان للبلاذري ص 29- 41 و 73 وتاريخ الطبري ج 2 ص 534 وسيرة ابن هشام ج 4 ص 342 وما بعدها. (2) ابن هشام وابن سعد ذكرا خبر فدك وابن سعد ذكر خبر الجرباء. أما خبر تيماء فقد ذكره البلاذري ص 41 و 42. انظر ابن سعد ج 3 ص 166 وج 2 ص 56. (3) ابن هشام ج 3 ص 414.

ومما روي في سياق وقعة خيبر أن المسلمين أخذوا يقعون على ما وزعه رسول بالله صلى الله عليه وسلم من سبي نساء اليهود فأمر مناديا ينادي من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعنّ على سبية حتى يستبرئها. وأنه كانت بين السبي صفية بنت حيي بن أخطب زعيم اليهود وزوجة كنانة بن أبي الحقيق فاصطفاها رسول الله لنفسه وأعتقها وتزوج بها «1» . وإن امرأة سلام بن مشكم الذي قتل زوجها أهدت النبي شاة مصلية مسمومة. فلما قضم من ذراعها لم يسغها وكان معه بشر بن البراء فأكل منها فمات فاستدعى المرأة فاعترفت وقالت لقد بلغت من قومي ما بلغت فقلت إن كان ملكا استرحنا منه وإن كان نبيا فسيخبره الله. وإنه تجاوز عنها. وإن نسوة من غفار جئن إلى رسول الله فقلن له أردنا أن نخرج معك فنداوي الجرحى ونعين المسلمين بما استطعنا فأذن لهن ورضخ لهن من الغنائم، وأن وفدا من دوس وأشعر من اليمن وفيهم أبو موسى الأشعري الصحابي المشهور وفد على النبي للإسلام وهو في خيبر فأسلموا ورضخ لهم من الغنائم. ومما رواه الشيخان عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر لأعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحبّ الله ورسوله ويحبه الله ورسوله قال فبات الناس يدركون ليلتهم أيّهم يعطاها فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله كلهم يرجون أن يعطاها فقال أين علي بن أبي طالب فقالوا هو يا رسول الله يشتكي عينيه. قال فأرسلوا إليه فأتي به فبصق رسول الله في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأنه لم يكن به وجع فأعطاه الراية. فقال علي يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا. فقال انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حقّ الله. فو الله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم» «2» . وفي كل ما تقدم صور فيها تعليم وتلقين وتشريع كما هو المتبادر.

_ (1) خبر صفية رواه البخاري عن أنس التاج ج 4 ص 379 و 380 ومما جاء في الحديث «أن صفية وقعت في سهم دحية الكلبي فطلب النبي منه أن يتنازل له عنها وتزوجها وجعل عتقها صداقها» . (2) التاج ج 4 ص 378.

[سورة الفتح (48) : الآيات 20 إلى 21]

ولقد كان ما أورده بعض المفسرين في سياق الآيات التي نحن في صددها من أن الله قد كافأ أهل الحديبية بغنائم خيبر وعوّضهم بها عما لقوه من جهد ومنوا به من خيبة أمل في الزيارة وسيلة لجعل بعض الأغيار يقولون إن زحف النبي صلى الله عليه وسلم على خيبر لم يكن له أي سبب مبرر إلّا رغبة مكافأة أهل الحديبية وتطييب خاطرهم. مع أنه ليس هناك كما قلنا قبل رواية تذكر أن الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر كانوا هم أهل الحديبية فقط. ومع أن ما أوردناه من بيانات يدحض هذا الزعم أقوى دحض ويبرز الأسباب المبررة القوية للزحف. ونقول من باب المساجلة إن ما أورده كتّاب السيرة والمؤرخون القدماء قد أورد على سجيته ولم يكن هناك حينئذ قضية مثل القضية التي يثيرها الأغيار اليوم حتى يكون اختراعا بقصد التبرير والدفاع وفي ما أورده الرواة من الأسباب القوية المبررة للزحف ردّ حاسم أيضا. وما قاله بعض المفسرين لا يصحّ أن يغطي على ما أورد من الأسباب المبررة القوية أو يتخذ بديلا أو تكأة. وليس ما قالوه بعد واردا في كتب الحديث الصحيح ولا مستندا إلى أسناد وثيقة. [سورة الفتح (48) : الآيات 20 الى 21] وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21) . تعليق على الآية وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ والآية التالية لها المتبادر أن الآيتين متصلتان بالآيات السابقة وبخاصة بالآيتين اللتين قبلهما مباشرة اتصال التفات وتعقيب. فالسابقتان وجهتا إلى النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التنويه بالذين بايعوا تحت الشجرة وتبشيرهم وتطمينهم. وهاتان وجهتا إلى المبايعين

أنفسهم على سبيل توكيد التبشير والتطمين. وهما على كل حال جزء من السياق واستمرار له. وقد استهدفتا ما استهدفته الآيات السابقة. وعبارة الآيتين اللغوية واضحة. غير أن الأقوال في مدلول محتواها تعددت «1» . ونلخصها بما يلي: فأولا: قيل عن المغانم الكثيرة التي ذكرت الفقرة الأولى أن الله وعد المؤمنين بها إنها مغانم خيبر، كما قيل إنها مغانم الفتوحات التي سوف ييسرها الله للمسلمين في مختلف الظروف والأماكن. ويتبادر لنا أن القول الثاني هو أوجه وأن الفقرة هي بسبيل التبشير والتطمين بوجه عام. أما القول الأول فالذي نرجحه أنه من وحي ما تمّ بعد قليل من سفرة الحديبية من زحف على خيبر واكتساحها وما يسره الله للمسلمين من غنائمها. وثانيا: قيل إن المقصود من جملة فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ هو ما تمّ من صلح الحديبية كما قيل إنه مغانم خيبر. والمتبادر أن القول الأول هو الأوجه. لأن في الجملة تقريرا لواقع وإشارة إليه. ولم يكن واقعا حين نزولها إلّا صلح الحديبية. ولعل في الجملة قرينة على ذلك حيث نبّه المسلمون فيها إلى أن الله عجّل بحسم هذه المسألة لييسر لهم إتمام وعده. وثالثا: قيل إن جملة وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ قد عنت ما كان من منع الله الحرب بين المسلمين وقريش بصورة عامة أو إنها عنت خيالة قريش الذين حاولوا بقيادة خالد بن الوليد مباغتة معسكر النبي والمسلمين فعلم النبي بخبرهم وأرسل من ردّهم وأسر بعضهم ثم عفا عنهم على ما ذكرناه في خلاصة وقائع الحديبية. كما قيل إنها عنت ما كان من تجمع أسد وغطفان للإغارة على المدينة أثناء غياب النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين عنها وإحباط الله كيدهم بإلقاء الرعب في قلوبهم. ويتبادر لنا أن القول الأول والثاني هو الأوجه لأن الجملة تذكّر المسلمين في أثناء عودتهم إلى المدينة بما كان جرى في الحديبية وظروفها.

_ (1) انظر تفسيرها في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.

[سورة الفتح (48) : الآيات 22 إلى 23]

ورابعا: قيل إن جملة وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ تعني أن ما كان من تيسير الله لصلح الحديبية وكفّ أيدي الناس عن المؤمنين قد كان آية ربانية ليعتبر بها المؤمنون ويتيقنوا من أن ما كان هو بتيسير ونصر من الله. ووجاهة القول ظاهرة. وخامسا: قيل إن جملة وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها تعني مكة وفتحها، كما قيل إنها إشارة إلى ما سوف ييسر الله للمسلمين من نصر وفتح في مختلف الظروف أو فتح بلاد فارس والروم. وقيل أيضا إنها خيبر قبل أن يزحفوا عليها. وكل من الأقوال الثلاثة وارد لا يخلو من وجاهة. وإن كنا نرجح القول الثاني من حيث كون المسلمين لم يقدروا في سفرتهم على دخول مكة فاقتضت حكمة التنزيل تطمينهم بأن الله قد أحاط بها ولسوف يقدرهم عليها. وعلى كل حال ففي الجملة تثبيت وتطمين للمسلمين من جهة وبشرى تحققت فكانت من معجزات القرآن سواء أكان المقصود منها مكة أم خيبر أم غيرهما. [سورة الفتح (48) : الآيات 22 الى 23] وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23) . عبارة الآيتين واضحة أيضا: وهي استمرار للخطاب الموجه إلى المؤمنين في الآيتين السابقتين لهما مباشرة حيث تؤذنانهم بأن الكفار لو قاتلوهم لولوا الأدبار ولما وجدوا لهم وليّا ولا نصيرا ينصرونهم من الله. وبأن هذه هي سنّة الله التي جرت من قبل ولن يكون لها تبديل بالنسبة إليهم. والآيتان والحالة هذه جزء من السياق. وقد استهدفتا ما استهدفته الآيات السابقة من تثبيت وتطمين. ومن المفسرين من قال إن الَّذِينَ كَفَرُوا هم أهل مكة «1» . ومنهم من قال

_ (1) الطبرسي وابن كثير.

[سورة الفتح (48) : آية 24]

إنهم أهل خيبر أو بني أسد وغطفان الذين كانوا يريدون الإغارة على المدينة «1» والمتبادر أن القول الأول هو الأوجه لأن الآيات في صدد وقائع سفرة الحديبية. وقد يكون فيهما تقرير كون الكفار لو قاتلوهم لكانوا في موقف الباغي المعتدي. وقد جرت سنة الله على أن تدور الدائرة على البغاة المعتدين وأن ينصر من ينصره وينصر دينه وهو ما تكرر تقريره ووعده في آيات في سور سبق تفسيرها. وواضح من هذا أن في الآيتين تطمينا مستمر المدى والتلقين للمؤمنين بأنهم منصورون على الكفار إذا قاتلوهم في أي ظرف ومكان. وهو ما تكرر توكيده في آيات عديدة مكية ومدنية. وما يظل يمد المؤمنين بفيض من القوة الروحية التي تضاعف قوتهم. وطبيعي أن يكون ذلك رهنا بصدقهم في قتال أعدائهم وإعداد ما يستطيعون من قوة. وبذلهم من أموالهم دون بخل ولا تقصير. وهو ما تكرر التنبيه عليه في آيات في سور سبق تفسيرها كذلك. [سورة الفتح (48) : آية 24] وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24) . (1) ببطن مكة: كناية عن جوار مكة أو واديها. الآية استمرار في الخطاب للمؤمنين وجزء من السياق على سبيل التذكير والتثبيت كذلك حيث تذكر المؤمنين بما كان من فضل الله عليهم في سفرة الحديبية من كفّ أيدي الكفار عنهم وكفّ أيديهم عن الكفار لينتهي الموقف بالسلام الذي انتهى إليه بعد أن كتب لهم الظّفر عليهم. وقد روى المفسرون «2» في سياق هذه الآية حادثا معينا أشرنا إليه سابقا وقالوا إنها تحتوي على إشارة إليه. وهو ما كان من محاولة خيالة من قريش أخذ

_ (1) البغوي والخازن. (2) انظر الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير.

[سورة الفتح (48) : الآيات 25 إلى 26]

النبي والمؤمنين على غرّة قبل أن يتمّ عقد الصلح وما كان من تنبّه النبي والمؤمنين لهم وردّهم وأسر بعضهم على ما ذكرناه في الخلاصة التي أوردناها قبل لظروف وبواعث سفرة الحديبية ومشاهدها. وقد روى الترمذي ومسلم عن أنس «أن ثمانين هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الصبح وهم يريدون قتله فأخذوا أخذا فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً» «1» والمتبادر أن المقصد من جملة فأنزل الله هو كون هذه الآية في صدد ذلك. والمتبادر أن الآية قد استهدفت بيان كون ما تمّ من ذلك إنما كان بقضاء الله ولحكمة فيها الخير والمصلحة للمسلمين. [سورة الفتح (48) : الآيات 25 الى 26] هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26) . (1) الهدى معكوفا أن يبلغ محلّه: الأنعام المنذورة لتكون قرابين لله محبوسة عن البلوغ إلى المحل الذي يجب ذبحها عنده أو يحلّ ذبحها عنده. (2) أن تطأوهم: أن تدوسوهم وتصيبوهم بالأذى. (3) معرة: تبعة فيها إثم وعار. أو تعروكم من جرّائهم مشقة وهمّ. (4) لو تزيّلوا: لو تميزوا وانفردوا عن الكفار.

_ (1) التاج ج 4 فصل التفسير ص 213. [.....]

تعليق على الآية هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله والآية التالية لها وما فيهما من صور

تعليق على الآية هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ والآية التالية لها وما فيهما من صور الآيتان استمرار للخطاب الموجه للمؤمنين كسابقاتهما وجزء من السياق. وقد استهدفتا ما استهدفته الآيات السابقات من تثبيت وتطمين. وقد انطوتا على تقرير ما يلي: (1) إن الكفار مستحقون لعذاب الله تعالى. ولقد كان قادرا على إنزال النكال الشديد بهم حالا لما بدا منهم. فهم كافرون من جهة. وقد صدوا المسلمين عن زيارة المسجد الحرام. وصدوا الهدي المنذور لله عن المكان الذي يحل فيه نحره من جهة. ولعبت في رؤوسهم نزوة الجاهلية وحميتها من جهة. (2) ولكن حكمة الله العليم بكل شيء قضت بأن ينتهي الموقف إلى ما انتهى إليه. فأنزل السكينة على رسوله وعلى المؤمنين. وهدّأ من سورة غضبهم وغيظهم. وألزمهم كلمة التقوى التي هي الأمثل بهم لأنهم أهلها والأحق بها. وألهمهم الرضاء بما فيه الخير والمصلحة. ولا سيما أنه كان في مكة فريق من المؤمنين والمؤمنات لا يعلمهم المؤمنون الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان من المحتمل أن يدوسوهم وينالهم أذى أثناء الاشتباك فيقعوا بذلك في الإثم والمشاكل. وهذه ناحية رئيسية من حكمة الله تعالى في كفّ أيدي الفريقين عن بعض. ولقد احتوت الآيتان إشارات خاطفة متوافقة مع ما ذكر الرواة تفصيله وأوردنا خلاصته قبل في صدد بعض مشاهد سفرة الحديبية والمفاوضات التي جرت بين النبي صلى الله عليه وسلم ومندوبي قريش وما كان من تعنّت قريش وإصرارهم على الشروط التي كان الحافز عليها أنفة الجاهلية وحميتها وما كان من هدوء جأش النبي صلى الله عليه وسلم وتساهله وموقفه الحازم وانبثاث السكينة في نفسه ونفوس معظم المسلمين ومسايرتهم لهذه الشروط التي لا تهضمها النفوس بسهولة لولا إلهام الله وسكينته التي أنزلها على قلوبهم وإلزامه إياهم كلمة التقوى والحق والمصلحة. الجزء الثامن من التفسير الحديث 39

وفي الآية الأولى خبر وجود فريق من المؤمنين والمؤمنات في مكة. وروح العبارة يلهم أوّلا أنهم كانوا يكتمون إيمانهم وأنهم لم يكونوا قليلين بحيث كان من الصعب أن يختفوا وأن يسلموا من الأذى لو وقع اشتباك حربي بين المسلمين وقريش في مكة. وليس في العبارة القرآنية معنى تأنيبي في حقهم حيث يلهم ذلك أنهم كانوا معذورين في البقاء في مكة. ولعلّهم أو لعلّ منهم من أشارت إليه آية النساء هذه وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) وآيات النساء هذه إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) ويكاد يكون من المتفق عليه أن العباس رضي الله عنه عمّ النبي صلى الله عليه وسلم وأسرته كانوا من المؤمنين وقد ظلّوا في مكة إلى يوم الفتح. والمرجح أن بقاءه كان بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولمصلحة كان يراها «1» . ولقد روى البخاري عن ابن عباس قوله «كنت أنا وأمي من المستضعفين وفي

_ (1) ذكرنا في سياق تفسير آيات سورة الأنفال [69- 71] وفي سياق تفسير آيات سورة النساء المذكورة الروايات التي تذكر خبر إسلام العباس. ولقد روى ابن هشام ج 3 ص 398- 399 أن شخصا اسمه الحجاج من المسلمين ممن شهد وقعة خيبر استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر إلى مكة لاقتضاء دين له في التصرف في بعض القول ليسهل عليه ذلك، فأذن له فلما بلغ مكة سأله بعض رجال قريش عن أخبار النبي وكانوا قد عرفوا أنه سار إلى خيبر ولم يعرفوا أن الحجاج قد أسلم فقال لهم عندي من الخبر ما يسرّكم: إنه هزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط وقتل أصحابه وأسره اليهود وهم يهمون بإرساله إليكم. فسروا أعظم سرور وسهلوا له قضاء حاجته وجاءه العباس فزعا يسأله الخبر فأخبره الحقيقة. وطلب كتمانها إلى أن يخرج فلما خرج لبس العباس حلّة وتخلّق (تطيب بالطيب وأخذ عصاه وجاء إلى الكعبة فطاف بها فقال له بعض رجال قريش: يا أبا الفضل والله هذا التجلد لحرّ المصيبة، فقال وأي مصيبة. كلا والله الذي حلفتم به لقد فتح محمد خيبر وأحرز أموالهم وتزوج بنت ملكهم (وهي زوجته صفية بنت حيي بن أخطب) حيث يستفاد من هذا الخبر ما قلناه من أن العباس كان أشبه بنائب عن النبي أو معتمد له في مكة.

[سورة الفتح (48) : آية 27]

رواية كنت أنا وأمي ممن عذرهم الله» «1» . ويروي الشيعة في مناسبة الآية [25] رواية جاء فيها «قيل للإمام الصادق ألم يكن علي قويّا في دين الله. قال بلى. قيل فكيف ظهر عليه القوم وكيف لم يدفعهم وما منعه من ذلك. قال آية في كتاب الله وهي لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً. لقد كان لله ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين ومنافقين. ولم يكن علي ليقتل الآباء حتى يخرج الودائع. فلما خرجت على عليّ ظهر من ظهر فقتلهم» «2» . والكلام في صدد عدم مقاتلة علي لأبي بكر وعمر وعثمان وجمهور أصحاب رسول الله الذين يزعم الشيعة أنهم غصبوا حقه وخالفوا وصية رسول الله. وفي هذا من الهراء والسخف ما هو واضح. وننزه الإمام الصادق عن قوله واعتباره جمهور أصحاب رسول الله كافرين ومنافقين والعياذ بالله. ولقد قاتل النبي الكفار ولم يمنعهم احتمال أن يخرج من أصلابهم مؤمنون. ولقد قاتل علي طوائف من المسلمين في ما يسمى في وقائع الجمل وصفّين وحروراء لأنه اجتهد في صواب ذلك ولم يمنعه كونهم مسلمين أو احتمال خروج مؤمنين من أصلابهم ولقد ثبت يقينا أن عليا رضي الله عنه بايع أبا بكر ثم عمر ثم عثمان رضي الله عنهم وتعاون معهم في مختلف ميادين العمل العام ولا شك في أنه يعرف أن النبي لو كان وصّى له لما بايعهم ولقاتلهم لأجل تنفيذ وصية رسول الله دون أن يمنعه أي شيء لأن ذلك واجب ديني. هذا فضلا عن أن أبا بكر وعمر وعثمان والجمهور الأعظم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وسجل الله رضاءه عنهم في القرآن (سورة التوبة الآية 100) أتقى من أن يجمعوا على مخالفة وصية رسول الله لأن تنفيذها واجب ديني قبل أي شيء. [سورة الفتح (48) : آية 27] لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) .

_ (1) كتاب الصراع بين الإسلام والوثنية للقصيمي ج 1 ص 433 و 434 (2) المصدر نفسه.

تعليق على الآية لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق ... وخبر زيارة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين للكعبة

(1) محلّقين رؤوسكم: بمعنى حلق شعر الرأس جميعه. (2) مقصّرين: بمعنى تقصير شعر الرأس تقصيرا دون حلقه. والحلاقة والتقصير هي هنا لأجل التحلل من الإحرام. تعليق على الآية لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ ... وخبر زيارة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين للكعبة عبارة الآية واضحة. والخطاب فيها موجه إلى المسلمين استمرارا للسابق. وهي والحالة هذه جزء من السياق. وقد احتوت: (1) تصديقا ربانيا لصحة رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم بأنه زار الكعبة مع أصحابه وكونها حقا. (2) وتوكيدا ربانيا بتحقيق هذه الرؤيا وبدخولهم المسجد الحرام وبقيامهم بطقوس الزيارة آمنين مطمئنين. منهم المحلقون ومنهم المقصرون دون ما خوف ولا اضطراب. (3) وإشارة إلى ما انتهى إليه سفر الحديبية على سبيل تبرير النهاية: فإذا كان قد انتهى إلى ما انتهى إليه من عدم تحقيق الرؤيا في نفس الرحلة فذلك ناتج عن حكمة الله ولم يعلموها حيث اقتضت أن يكون بدل الزيارة في هذه الرحلة الفتح القريب الذي يسّره لهم. وفي الآية كما هو ظاهر تأييد للروايات المروية من أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما اعتزم الخروج لزيارة الكعبة استلهاما من رؤيا رآها في منامه، ورؤياه حق. وهذا الذي جعل بعض المسلمين يذهلون حينما انتهى الموقف بدون تحقيق هذه الزيارة في هذه الرحلة. وقد استهدفت الآية التصديق والتثبيت مع الوعد الرباني بتحقيق الرؤيا.

ولقد تحقق الوعد الرباني فتمّت الزيارة في العام القابل حسب الاتفاق. وأدّى المسلمون مناسكها آمنين مطمئنين فكان ذلك معجزة من معجزات القرآن. ومما روي عن ذلك «1» أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في ذي القعدة من السنة السابعة على رأس ألفين من أصحابه كان معظمهم ممن شهدوا صلح الحديبية. وقدموا أمامهم الهدي ولم يكن معهم إلا سيوفهم في أغمادها. ولما أقبلوا على مكة خرج أهلها إلى رؤوس الجبال عدا رجال منهم اصطفوا عند دار الندوة لمشاهدة مشهد دخول النبي وأصحابه الذين دخلوا مهلّلين مكبّرين وقد هتف النبي بأصحابه (رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة) ثم أقبل النبي وأصحابه نحو الكعبة فطافوا بها وارتقى بلال فوقها فأذن للصلاة. وارتجز عبد الله بن رواحة بين يدي رسول الله: خلّوا بني الكفار عن سبيله ... خلوا فكل الخير مع رسوله نحن ضربناكم على تأويله ... كما ضربناكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله يا رب إني مؤمن بقيله «2»

_ (1) انظر كتب تفسير: الطبري وابن كثير والبغوي والخازن وسيرة ابن هشام ج 3 ص 425- 427 وابن سعد ج 3 ص 167- 169. (2) روى هذا الشعر وهتاف النبي صلى الله عليه وسلم ابن هشام ج 3 ص 424 و 425، وابن سعد ج 3 ص 167- 169. وهناك روايات أخرى للشعر رواها ابن كثير فيها زيادات. ولقد قال ابن هشام إن البيت الثالث وما بعده ليس لعبد الله بن رواحة وإنما هو لعمار بن ياسر قاله في غير هذا اليوم. واستدلّ على صحة ذلك قائلا إن الذي يقاتل على التأويل يكون قد اعترف بالتنزيل ولم يكن مشركو قريش اعترفوا بذلك. والتعليل وجيه. على أننا نشك في الشعر كله وفي هتاف النبي صلى الله عليه وسلم. فليس شيء من ذلك واردا في الصحاح. والنبي والمسلمون وصلوا مكة في هذا الظرف بناء على اتفاق الحديبية الذي كان اتفاق صلح أو هدنة. والشعر والهتاف أحرى أن يكونا في ظرف انتصار حربي. ومن المعقول والمحتمل أن يكون ذلك حينما دخل النبي والمسلمون مكة عنوة فاتحين في السنة الثامنة للهجرة على ما سوف يرد شرحه بعد في سياق سورة الحديد. بل لقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته بعد أن تم فتح مكة (لا إله إلّا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده) ، وهي الفقرة التي يروى أن النبي أمر عبد الله بن رواحة أن يقولها بدلا من شعره ...

[سورة الفتح (48) : آية 28]

فهتف النبي صلى الله عليه وسلم: بل قل (لا إله إلا الله وحده نصر عبده وأعزّ جنده وهزم الأحزاب وحده) فقالها فرددها المسلمون. وقد مكث النبي وأصحابه ثلاثة أيام، ثم انصرفوا سالمين معافين. وتسمّى هذه الزيارة في كتب السيرة بعمرة القضاء «1» . ويعلل التسمية ابن كثير قائلا إنها من القضية لأن مفاوض قريش في صلح الحديبية سمّى هذا الصلح قضية حيث قال للنبي حينما جاء ابنه المسلم لبحث القضية بيني وبينك وهذا أول ما أقاضيك عليه. ونحن نرجح مع ذلك أنها أريد بها القيام بالعمرة قضاء عن العمرة التي اعتزموها ثم لم يتمّوها بسبب ممانعة قريش فتأجلت للسنة القابلة حسب اتفاق الحديبية. والله أعلم. ومما روي كذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في سفرته هذه ميمونة بنت الحارث أخت زوجة عمّه العباس فزوجها له العباس وأصدقها عنه. وأن زعماء قريش أرسلوا إلى النبي بعد انقضاء الأيام الثلاثة المتفق عليها أن اخرج عنّا فقد انقضى أجلك. فقال لهم وما عليكم لو تركتموني فأعرست بين ظهرانيكم وصنعت لكم طعاما فحضرتموه. فقالوا لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنا. فخرج وانتظر زوجته الجديدة في سرف حتى تجهزت وخرجت إليه. [سورة الفتح (48) : آية 28] هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) . والآية متصلة بالسياق وجزء منه كذلك. وقد هدفت هي الأخرى إلى تثبيت المسلمين وتطمينهم: (1) في تقريرها كون الله تعالى هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق. (2) وفي توكيدها بأنه ناصر لهذا الدين ومظهره على سائر الأديان. وبأن هذا هو كلام الله تعالى ووعده وكفى به شهيدا على تحقيقه. وهذه هي المرة الثانية التي يرد فيها وعد الله بإظهار الدين الذي جاء به محمد

_ (1) ابن هشام ج 3 ص 424.

[سورة الفتح (48) : آية 29]

صلوات الله عليه على الدين كله. والمرة الأولى كانت في سورة الصف وفي سياق ذكر رسالات موسى وعيسى عليهما السلام واليهود والنصارى وهذه المرة جاءت في مناسبة الكلام عن المشركين. وهكذا يكون النص القرآني قد ورد في سياق الكلام عن المشركين والكتابيين معا. ولقد علقنا على النصّ بما فيه الكفاية في المرة الأولى المذكورة فلا نرى ضرورة للإعادة. [سورة الفتح (48) : آية 29] مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29) . (1) سيماهم: علامتهم. (2) شطأه: أوائل نبته. (3) استغلظ: صارت قصبته غليظة بعد الرقة والرخاوة. (4) استوى: ارتفع ونهض. (5) سوقه: جمع ساق. وهي هنا قصبة النبات وساقه. تعليق على الآية مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ... وما فيها من صور رائعة للمسلمين الأولين وما ورد فيهم من أحاديث المتبادر أن هذه الآية أيضا متصلة بالسياق وجزء منه. وقد احتوت بيانا تفسيريا لكلمة رَسُولَهُ التي جاءت في الآية السابقة لها مباشرة ثم استطرادا تنويهيا محبّبا لذكر أصحابه ومؤيديه: فمحمّد هو رسول الله حقا الذي أرسله

بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلّه. وصفة أصحابه ومؤيديه هي أنهم أشداء عنفاء على الكفار بينما هم رحماء ليّنون مع بعضهم. لا يهملون عبادة الله، حيث تراهم ركّعا سجّدا. يبتغون بذلك فضل الله ورضوانه. وآثار السجود في وجوههم بادية. وهذه هي صفة المؤمنين الصالحين التي ذكرت في التوراة والإنجيل. وأنهم لكالزرع الذي نبت لينا ثم قوي فغلظت سوقه فأثمر أحسن الثمر وأكثره مما يعجب الزراع ويرضيهم. وإن الله قد يسّرهم إلى ما يسّر وحلّاهم بما حلاهم به ليغيظ بهم الكفار أيضا. وإن الله قد وعد الذين آمنوا فحسن إيمانهم ووثقوا به فحسن وثوقهم وعملوا الصالحات بمغفرته وعظيم أجره. ولقد جاءت الآية خاتمة قوية للسورة التي يتضح من الإمعان فيها ترابط آياتها. وكون هدفها الرئيسي هو تثبيت المسلمين وتسكينهم إزاء ما كان من ظروف ونتائج سفرة الحديبية على النحو الذي شرحناه في سياق الآيات. وفي الآية صورة رائعة لما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورع وتقوى وعبادة وأخلاق كريمة سمحاء فيما بينهم، مع الشدّة والقوة والبسالة بالنسبة لأعدائهم. ومثل هذه الصورة تكررت في سور عديدة مكية ومدنية ممّا نبهنا عليه في مناسباته ومما فيه دلالة على ما كان من أثر دعوة الله وقرآنه ونبيه في هذه الفئة التي صارت بذلك مثالا نموذجيا خالدا. ولقد روى الطبري وغيره عن ابن عباس وقتادة وعكرمة تأويلات أخرى لجملة ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ من ذلك أن الكلام يتم عند جملة ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ فتكون الصفات السابقة لها هي مثلهم وصفاتهم في التوراة وتكون جملة وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ ... إلى آخر الجملة مستأنفة فتكون الصفات المذكورة فيها هي صفاتهم في الإنجيل. ورووا بسبيل ذلك عن ابن عباس قوله «إن نعتهم مكتوب في التوراة والإنجيل قبل أن تخلق السموات والأرض» وعن قتادة قوله «إنه مكتوب في الإنجيل: يخرج قوم ينبتون نبات الزرع فيكونون قليلا ثم يزدادون ويكثرون يأمرون

بالمعروف وينهون عن المنكر» . ومما رواه المفسرون عن أهل التأويل أيضا أن الصفات جميعها في صفاتهم المذكورة في التوراة والإنجيل. وما رووه أيضا أن جملة كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ ... إلى آخر الجملة هي مستأنفة أو تمثيل ثان لهم. وأن الزرع فيها يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وشطأه هو أبو بكر وآزره هو عمر واستغلظ هو عثمان واستوى على سوقه هو علي رضي الله عنهم. ويتبادر لنا أن في هذه الأقوال تكلفا. ونرجو أن يكون شرحنا الآنف هو الوجه الصواب إن شاء الله أي إن ما ذكر من صفاتهم قبل ذكر كلمتي التوراة والإنجيل هي مثلهم فيهما. وجملة كَزَرْعٍ مستأنفة كصفات أخرى لهم. والله أعلم. هذا، وروح الآية يلهم أن جملة وَالَّذِينَ مَعَهُ قد تعني بنوع خاص تلك الفئة المخلصة الراسخة في إيمانها ووثوقها بالله ورسوله والمؤيدة لرسول الله ودينه قلبا وقالبا. وهذا هو قول جمهور المفسرين الذين أوردوا في سياق الآية أحاديث نبوية عديدة فيها دلالة على ذلك وردت في الصحاح وأوردناها في سياق الآية [22] من سورة الفتح. ومن شواهد الدلالة على أن المقصود هم الفئة المخلصة الراسخة المؤيدة لرسول الله من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وأن الخطاب في الأحاديث موجّه إلى فريق آخر من المسلمين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولقد قال ابن كثير إن الإمام مالك رحمة الله عليه انتزع في رواية عنه من هذه الآية تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله عنهم لأنهم يغيظونهم وإن طائفة من العلماء رضي الله عنهم وافقه على ذلك. وقد علّق المفسر القاسمي على هذا بقوله إن هذا خلاف ما اتفق عليه المحققون من أهل السنة والجماعة من أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة. وننبه على أن هذا في صدد البغض. غير أن هناك طوائف من الشيعة يكفرون الجمهور الأعظم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بزعم أنهم خالفوا أمر رسول الله وعصوه. وقد أوردنا آنفا رواية يعزونها إلى الإمام الصادق تنعت هذا الجمهور بالمنافقين والكافرين والعياذ بالله. تنزهوا عن ذلك وهم الذين سجل الله رضاءه عنهم في القرآن. ومن يفعل ذلك فقد حقّ عليه النعت.

فهرس محتويات الجزء الثامن

فهرس محتويات الجزء الثامن تفسير سورة النساء 7 تعليق على الآية الأولى من السورة 9 تعليق على الآية وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ ... 11 تعليق على الآية وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى ... 13 تعليق على جملة أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ... 20 تعليق على الآية وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ.. 22 تعليق على الآية وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا ... 25 تعليق على الآية لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ ... 29 تعليق على الآية يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ ... 33 استطراد إلى الوقف 46 تعليق على الآية وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ ... 49 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ ... 56 مسألة المغالاة في المهور 58 تعليق على الآية وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ... 61 تعليق على الآية حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ ... 66 تعليق وتمحيص في صدد نكاح المتعة 79 تعليق على الآية وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا ... 87 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ ... 94 تعليق على الآية وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ ... 100 تعليق على الآية الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ ... 103 تعليق على الآية وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا ... 112 حكمة تفصيل القرآن لشؤون الأسرة 114 تعليق على الآية وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ... 116 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ ... 123 تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً ... 137

تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ ... 146 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا ... 150 تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا ... 159 تعليق على الآية وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ... 163 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ ... 167 تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ... 171 تعليق على جملة وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ ... 174 تعليق على الآية أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ ... 178 تعليق على الآية وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ ... 180 تعليق على الآية فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ ... 184 تعليق على الآية مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ ... 187 تعليق على الآية وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها ... 189 تعليق على الآية فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ ... 194 تعليق على الآية إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ ... 197 تعليق على الآية سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ ... 201 تعليق على الآية وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً ... 202 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ ... 209 تعليق على الآية لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ... 212 تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ... 215 تعليق على الآية وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ... 222 تعليق على الآية إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ ... 229 تعليق على الآية لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ ... 235 تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ... 241 تعليق على الآية لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ ... 247 تعليق على الآية وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ ... 251 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ... 258 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ... 260 تعليق على الآية لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ ... 266 تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ... 270

تعليق على الآية يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ ... 272 تعليق على الآية إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ ... 284 تعليق على الآية يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ... 289 تعليق على الآية يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ... 294 تفسير سورة محمد 298 تعليق على الآية فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ... 302 تعليق على الآية فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ ... 315 تعليق على الآية وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ... 319 تعليق على الآية أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ... 323 تعليق على الآية فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ ... 327 تعليق على الآية إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ... 329 تفسير سورة الطلاق 333 تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ... 334 تعليق على الآية وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ ... 338 تعليق على الآية أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ... 341 تعليق على الآية اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ ... 345 تفسير سورة البينة 347 تعليق على روايات الشيعة في صدد إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ... 351 تفسير سورة النور 352 تعليق على حدّ الزنا والرجم 353 جريمة اللواط وإتيان النساء من أدبارهن 361 حالة الإكراه والغصب 362 تعليق على الآية الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً ... 366 تعليق على الآية وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا ... 369 تعليق على الآية وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ ... 375 تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ ... 380 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً ... 393 تعليق على الآية قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ... 401 تعليق على الآية وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ ... 403

تعليق على الآية وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ ... 413 تعليق على الآية وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً ... 416 مدى حثّ القرآن على مكاتبة المماليك 418 تعليق على الآية فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ... 424 تعليق على الآية وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ... 432 تعليق على الآية وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ ... 435 تعليق على الآية وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا ... 436 تأويل الشيعة لبعض الآيات السابقة والتعليق عليه 441 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ ... 443 تعليق على الآية وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً ... 446 تعليق على الآية لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ... 448 تعليق على مدى كلمة صَدِيقِكُمْ 451 تعليق على الآية إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ... 454 تفسير سورة المنافقون 457 تعليق على الآية إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ ... 458 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ ... 464 تفسير سورة المجادلة 467 تعليق على الآية قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ ... 469 تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ ... 478 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا ... 482 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ ... 486 تعليق على الآية أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ ... 489 تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً ... 491 تعليق على الآية لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ ... 493 تفسير سورة الحجرات 496 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ ... 497 كلمة عن حجرات رسول الله 500 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ ... 501 تعليق على الآية وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ... 504 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ ... 512

تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ ... 515 تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى ... 521 تعليق على الآية قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا ... 525 تفسير سورة التحريم 529 تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ... 531 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ... 536 تعليق على الآية ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا ... 540 استطراد إلى رواية إخوة وأخوات المسيح من أمه 542 تفسير سورة التغابن 544 تأويل جملة هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ... 546 تعليق على الآية ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ... 549 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ ... 551 تفسير سورة الصف 555 تعليق على الآيات الأربع الأولى من السورة 557 تعليق على الآية وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ ... 560 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى ... 571 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ ... 573 تفسير سورة الفتح 575 تعليق على الآية إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ... 577 تعليق على الآية لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ ... 585 تعليق على الآية إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ... 588 تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ ... 589 تعليق على الآية سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ ... 592 تعليق على الآية سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ ... 594 تعليق على الآية لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ ... 599 استطراد إلى ذكر وقعة خيبر وردّ على مزاعم المستشرقين 600 تعليق على الآية وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها ... 604 تعليق على الآية هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ... 609 تعليق على الآية لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ ... 612 تعليق على الآية مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ... 615

الجزء التاسع السور المفسّرة في هذا الجزء «1» 1- المائدة. 2- الممتحنة. 3- الحديد. 4- التوبة. 5- النصر.

_ (1) انظر الفهرست المفصل في آخر الجزء.

سورة المائدة

سورة المائدة في السورة فصول عديدة تضمنت أحكاما وتشريعات تعبدية واجتماعية وأخلاقية وسياسية ومعاشية وشخصية، مثل وجوب احترام العهود وتقاليد الحج وأمن الحجاج دون تأثر بعداء أو بغضاء، والأمر بالتعاون على البرّ والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان بسبب ذلك والحالات التي يحرم فيها أكل لحوم الأنعام. وحلّ صيد الجوارح. وحل طعام الكتابيين للمسلمين والتزوج بنسائهم وحلّ طعام المسلمين لهم. وأركان الوضوء والطهارة ورخصة التيمم. وتوكيد العدل شهادة وحكما دون تأثر بعداء أو بغضاء. والنهي عن تحريم الطيبات وتشريع حدّ الفساد في الأرض والسرقة وتحلّة اليمين. والنهي عن الخمر والميسر وذبائح القمار والأنصاب. والنهي عن صيد البرّ في الحج وتشريع كفارته مع تحليل صيد البحر. وتسفيه بعض العادات الجاهلية المتصلة بالأنعام. والتنويه بتقاليد الحج والكعبة ومنافعها. وتشريع الإشهاد على التركات وتحقيق صحة الشهادة. وفيها كذلك فصول عديدة في النصارى واليهود. احتوت دعوتهم إلى الإسلام. وإيذانهم برسالة النبي إليهم. وكون القرآن جاء مصدقا لما قبله من الكتب ومهيمنا عليها. وتنديدا بأعمال ودسائس اليهود ومكرهم وربط حاضر أخلاقهم ومواقفهم بماضي أخلاق آبائهم ومواقفهم وحكاية تعجيزهم لموسى في صدد دخول الأرض المقدسة. وحكاية قتل أحد ابني آدم لأخيه وما احتوته شريعة اليهود من أحكام الجرائم. وحكمة اختلاف الشرائع عن بعضها. وتقرير كون اليهود والمشركين أشد الناس عداوة للمسلمين وتحذيرا منهم. ونهيا عن موالاة اليهود

والنصارى الذين يعادون المسلمين ويسخرون من دينهم. ووجوب حصر الولاء فيما بين المسلمين. وتنديدا بعقيدة النصارى بالمسيح وأمّه وتقريرا ببطلانها لذاتها وعلى لسان السيد المسيح. ومشهدا من مشاهد إيمان بعض النصارى الذين منهم قسيسون ورهبان بما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وثناء محببا عليهم. وتقرير كون النصارى هم أقرب الناس مودة للمسلمين. وفصلا عن رسالة المسيح لبني إسرائيل والمعجزات التي جاء بها ومواقفهم تجاهها. وإيمان الحواريين به واستنزال مائدة من السماء بناء على طلبهم. وقد سميت السورة باسمها بسبب ذلك. وقد تخلل هذه الفصول وتلك أمثال ومواعظ استطرادية وتذكيرية وتدعيمية وتعقيبية أيضا. ولقد أورد ابن كثير حديثا أخرجه الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد قالت «إني لآخذة بزمام العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نزلت عليه المائدة كلها وكادت من ثقلها تدقّ عضد الناقة» وحديثا أخرجه ابن مردويه عن أم عمرو عن عمها «أنه كان في مسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت عليه سورة المائدة فاندقّ عنق الراحلة من ثقلها» وحديثا أخرجه الإمام أحمد أيضا عن عبد الله بن عمرو قال: «أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها» وأورد حديثا أخرجه الترمذي عن عبد الله بن عمرو أيضا قال «آخر سورة أنزلت سورة المائدة والفتح» «1» وحديثا أخرجه الحاكم عن جبير بن نفير قال «حججت فدخلت على عائشة فقالت لي يا جبير تقرأ المائدة؟ فقلت نعم فقالت أما أنها آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها من حلال فاستحلّوه وما وجدتم من حرام فحرّموه» . ولم ينفرد ابن كثير في إيراد هذه الأحاديث حيث أوردها مفسرون آخرون أقدم منه، مثل الطبري والبغوي والزمخشري، منهم من أوردها جميعها ومنهم من أورد بعضها. ومنهم من زاد عليها حيث روى الطبري عن عكرمة أن

_ (1) أورد ابن كثير حديثا عن ابن عباس أن آخر سورة نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فالمتبادر أن المقصود من الفتح في حديث الترمذي هو هذه السورة.

عمر بن الخطاب قال «نزلت سورة المائدة يوم عرفة ووافق يوم الجمعة» . وفي تفسير القاسمي حديث عن محمد بن كعب قال «نزلت سورة المائدة في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة» . وهذه الأحاديث تثير العجب. فالسورة تحتوي فصولا متعددة ومتنوعة. وفحواها يلهم بقوة أنها نزلت في فترات مختلفة متفاوتة. وفحوى بعضها يلهم بقوة كذلك أن منها ما نزل قبل فصول أخرى في سور متقدمة عليها في الترتيب مثل فصول اليهود التي يمكن القول بقوة إنها نزلت في ظرف كان اليهود كتلة كبيرة وقوية في المدينة وعلى الأقل إنها نزلت قبل فصول وقعتي الأحزاب وبني قريظة في سورة الأحزاب أي قبل التنكيل ببني قريظة آخر من بقي من جماعات اليهود في المدينة، ومثل الفصل الذي يندد بالمنافقين لموالاتهم اليهود وقولهم إننا نخاف دائرة تدور علينا. وفحوى بعضها يلهم بقوة أيضا أنه نزل عقب صلح الحديبية وقبل فتح مكة على كل حال وقبل نزول سورة التوبة التي تأمر بقتال المشركين أنّى وجدوا وتأمر بمنعهم من الاقتراب من المسجد الحرام لأنهم نجس حيث أمر فصل من فصولها بالوفاء بالعهود والعقود ونهى عن صدّ حجاج بيت الله عن الذهاب إلى مكة للحج انتقاما من أهلها الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام. بل إن دلالات هذه الفصول على ذلك تكاد تكون قطعية. وكل هذا يجعلنا نتوقف في الأحاديث التي تقول إنها نزلت دفعة واحدة أو إنها آخر ما نزل من القرآن، ونقول إن فصولها ألّفت تأليفا بعد تكامل نزول ما اقتضت حكمة التنزيل أن تحتويه من فصول. وكل ما يحتمل أن يكون أن بعض فصولها قد تأخر في النزول إلى أواخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأن تأليفها تأخر بناء على ذلك إلى أواخر هذا العهد. ومن الجدير بالذكر أنه ليس شيء من هذه الأحاديث واردا في الكتب الخمسة. والمصحف الذي اعتمدناه يروي ترتيبها بعد سورة الفتح. وتروي هذا رواية أخرى. في حين أن هناك روايات ترتيب تجعلها بعد عدة سور بعد سورة

[سورة المائدة (5) : الآيات 1 إلى 2]

الفتح «1» . وقد جارينا المصحف الذي اعتمدناه. والمتبادر أن رواية ترتيبها بعد سورة الفتح هي بسبب مطلع السورة الذي نرجح أنه نزل بعد صلح الحديبية بوقت قصير. والله تعالى أعلم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المائدة (5) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2) . (1) العقود: قيل إنها العهود والمواثيق. وقيل إنها التكاليف التي فرضها الله لأنها بمثابة عهد وميثاق. وقيل إنها عقود المحالفات الجاهلية. وقيل إن الفرق بين العقد والعهد هو أن الأول أوثق ولا يكون إلّا بين طرفين أو أكثر، في حين أن الثاني يمكن أن يكون من طرف واحد. (2) غير محلّي الصيد: غير محللين للصيد. (3) وأنتم حرم: وأنتم محرمون للحج أو العمرة. أو أنتم في داخل حدود الحرم أو أنتم في ظرف الأشهر الحرم على اختلاف الأقوال. والجملة تتحمل كلّا منها. (4) شعائر الله: مناسك الله أو الأنعام التي تشعر أو تجرح نذرا لتقربها عند الكعبة لله، وكانت تسمى شعيرة وجمعها شعائر على ما شرحناه في سورة الحج.

_ (1) انظر روايات ترتيب السور المدنية في كتابنا سيرة الرسول ج 2 ص 9.

(5) الهدي: بهيمة الأنعام التي تنذر للقربان عند الكعبة على اعتبارها هدية لله تعالى. (6) القلائد: كناية عن بهيمة الأنعام التي يوضع في عنقها قلادة من جلد أو لحاء الشجر للإشارة إلى أنها منذورة للقربان لله. وقيل إن الحجاج في الجاهلية كانوا يضعون في أعناقهم قلائد من جلد أو لحاء الشجر فيأمنون بذلك من تعرض أحد لهم بسوء. وإن الكلمة تعني ذلك أيضا. (7) آمّين البيت الحرام: الذين يقصدون البيت الحرام للحج. (8) لا يجرمنّكم: لا يحملنّكم أو لا يدفعنكم. (9) شنآن: عداء وبغضاء. في الآية الأولى: (1) أمر للمسلمين بالوفاء بالعقود. (2) وإيذانهم أن الله قد أحلّ لهم بهيمة الأنعام باستثناء ما حرم من حالاتها في القرآن الذي يتلى عليهم وعلى أن لا يحللوا بناء على ذلك الصيد وهم في حالة الحرم. (3) وإباحة الصيد لهم بعد أن يتحللوا من حالة الإحرام. وقد انتهت الآية بالتنبيه على أن الله تعالى يحكم بما يريد تنبيها ينطوي فيه إيجاب الوقوف عند حكم الله وإرادته. وفي الآية الثانية: (1) نهي للمسلمين عن خرق حرمة شعائر الله والشهر الحرام والهدي والقلائد التي تنذر قرابين لله. (2) ونهي كذلك عن العدوان على قاصدي زيارة البيت الحرام الذين يطلبون بذلك رحمة الله وفضله. (3) وتنبيه لهم بأنهم لا يجوز أن يحملهم بغضهم لقوم وحقدهم عليهم بسبب صدهم إياهم عن المسجد الحرام على البغي والعدوان.

تعليق على الآيتين الأوليين من السورة ودلالات عباراتهما وما فيهما من أحكام وتلقين وصور

(4) وأمر لهم بالتعاون والتضامن فيما فيه برّ وتقوى ونهي عن التعاون على الإثم والعدوان. وانتهت الآية بأمرهم بتقوى الله وتنبيههم إلى أن الله شديد العقاب تنبيها ينطوي فيه إنذار لمن يخرق حرماته ويتجاوز أوامره ونواهيه وأحكامه. ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل في معنى شَعائِرَ اللَّهِ وفي معنى الْقَلائِدَ فمما رووه عن معنى الأولى أنها حدود الله ونواهيه أو أنها مناسك الحج وحرماته عامة. أو أنها الهدي المنذر للتضحية من الأنعام المشعر أي الذي يعلم بجرح لإسالة دمه حتى يحترمه الناس ولا يعتدوا عليه. ومما رووه عن معنى الثانية أنها الهدي المنذور للتضحية من الأنعام الذي يوضع في رقابه قلائد من الخيطان أو لحاء الشجر أو ورقه لمنع الاعتداء عليه أو أنه الحجاج الذين كانوا يضعون مثل هذه القلائد في رقابهم ليمنعوا عن أنفسهم العدوان أو أن التعبير قد شملهم. وكل هذه المعاني واردة بالنسبة للكلمتين وإن كنّا نرجح أنهما عنتا في الدرجة الأولى الأنعام المقلّدة بالقلائد المشعرة بالدم بالإضافة إلى ما في الآيات من استحلال الهدي بصورة عامة لأن في الآيات نهيا عن العدوان على الحجاج والتعاون على الإثم والعدوان وعدم إحلال الشهر الحرم. وفي الآية الأولى أمر بالوفاء بالعهود. وكل هذا يمكن أن يدخل في معنى حدود أوامر الله ونواهيه ومناسك الحج أيضا والله تعالى أعلم. تعليق على الآيتين الأوليين من السورة ودلالات عباراتهما وما فيهما من أحكام وتلقين وصور لم يرو المفسرون مناسبة لنزول الآية الأولى. وقد تعددت أقوالهم في دلالات عباراتها. فأولا: روى الطبري عن ابن عباس أن العقود التي أمرت الفقرة الأولى منها هي عقود الله التي أوجبها على المسلمين فيما أحلّ وحرّم وفرض وبيّن من حدود.

وروى عن قتادة أنها عقود المحالفات في الجاهلية وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: أوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقدا في الإسلام. وروى لتأييد ذلك أن فرات بن حيان العجلي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حلف الجاهلية فقال له: لعلك تسأل عن حلف لخم وتيم الله. قال: نعم. قال: لا يزيده الإسلام إلّا شدة. وروى عن ابن زيد أن العقود المأمور بالوفاء بها في الآية هي عقد النكاح وعقد الشركة وعقد اليمين وعقد العهد وعقد الحلف. وروى قولا لآخرين لم يسمهم أنها أمر موجه لأهل الكتاب بالوفاء بما أخذ به الله عليهم من ميثاق بالعمل بما في التوراة والإنجيل من تصديق النبي صلى الله عليه وسلم. وما عدا القول الأخير الذي يبدو غريبا لأن الخطاب في الآية موجه إلى المسلمين فإن الأقوال الأولى مما تتحمله العبارة القرآنية. وقد قال الطبري إن أولى الأقوال بالصواب هو قول ابن عباس. ولم تخرج أقوال المفسرين عن نطاق ما أورده الطبري الذي استوعب جميع الأقوال في صدد الجملة. على أنه يتبادر لنا على ضوء الآية الثانية على ما سوف نشرحه بعد أنها في صدد الأمر باحترام عقد صلح الحديبية. وإن كان إطلاق العبارة يجعلها شاملة لكل عقد مشروع بين الناس ثم لكل ما صار بمثابة عقد بين الله والمسلمين بعد إذ آمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم وما نزل عليه. وواضح أن الجملة بذلك قد انطوت على تلقين جليل مستمر المدى بوجوب احترام المسلمين لعقودهم وعهودهم مع الله ومع الناس في كل ظرف وعدم الإخلال بها في أي حال. وهو ما تكرر تقريره بأساليب متنوعة وفي سور عديدة مكية ومدنية بحيث يصح أن يقال إنها من أهم المبادئ القرآنية المحكمة «1» .

_ (1) انظر آيات سورة البقرة [27 و 40 و 176] وآل عمران [76] والأنعام [152] والرعد [22] والنحل [91 و 95] والإسراء [34] والمؤمنون [8] والأحزاب [23] والفتح [10] والمعارج [32] .

وقد قيدنا العقد بقيد المشروع لأن كل شرط أو قيد في أي تعاقد بين المسلمين أو بينهم وبين غيرهم مخالف لأوامر الله تعالى ونواهيه في القرآن وسنة رسوله باطل. وهذا أمر لا يحتمل شكّا في ذاته. وقد رويت أحاديث نبوية تؤيده جاء في أحدها «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا والمسلمون على شروطهم» «1» وجاء في حديث آخر عن عائشة «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل. وإن كان مائة شرط. قضاء الله أحقّ. وشرط الله أوثق. وإنما الولاء لمن أعتق» «2» . وثانيا: روى الطبري عن قتادة أن جملة أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ هي لتحليل أكل لحوم الأنعام إطلاقا عدا ما ذكر في القرآن من حالاتها المحرمة. وهذه الحالات هي ما ذكرته الجملة التي بعدها غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أو ما ذكرته الآية الثالثة من السورة على اختلاف الأقوال. وروى كذلك عن ابن عمر وابن عباس أنها لتحليل أكل الأجنة التي توجد ميتة في بطون ما يذبح من الأنعام. وروى أيضا عن الربيع بن أنس ما يفيد أن عبارة بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ تشمل بالإضافة إلى الإبل والبقر والغنم بقر الوحش والظباء وأشباهها المماثلة للأنعام وأن الجملة تعني حلّ أكل هذه البهائم. وقد عقب على هذه الأقوال قائلا إن أولاها بالصواب هو أنها في صدد تحليل الأنعام الأليفة أي الإبل والبقر والغنم كلها أجنتها وسخالها وكيارها عدا ما ذكر في القرآن من حالاتها المحرمة. وأنكر أن تكون بقر الوحش والظباء التي تصطاد صيدا من جملتها.

_ (1) انظر تفسير الآية في المنار. والحديث الأول من مرويات أبي داود والدارقطني والترمذي والثاني من مرويات أصحاب المساند الصحيحة الخمسة. انظر التاج ج 2 ص 185 وورود جملة (الولاء لمن أعتق) في الحديث الثاني بسبب مناسبة الحديث. ولكن تلقين الحديث عام شامل كما هو واضح. (2) المصدر نفسه.

وقد ذكر البغوي رواية تذكر أنها في صدد تحليل الأجنة وأورد حديثا عن أبي سعيد بسبيل تأييد ذلك جاء فيه «قلنا يا رسول الله ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة فنجد في بطنها الجنين أنلقيه أم نأكله؟ قال: كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه» «1» . وإلى هذا روي عن قتادة والحسن أن المقصود من الجملة هو تحليل ما حرّم أهل الجاهلية على أنفسهم. والمراد من ذلك على الأغلب ما حكي عن تقاليد العرب من تحليل وتحريم في آيات سورة البقرة [173] والأنعام [118 و 119 و 138 و 139] والنحل [114- 116] والحج [30] على ما شرحناه في سياقها وقد أورد البغوي إلى هذا قولا معزوا إلى الكلبي يفيد أن تعبير بهيمة الأنعام يشمل وحشها وهي الظباء وبقر الوحوش وحمر الوحش. وليس في كتب التفسير الأخرى زيادة على ذلك. والذي يتبادر لنا على ضوء الجملة التي بعدها وهي غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أن مقصد الجملة أو من مقاصدها رفع الحرج عن المسلمين في ذبح الأنعام وأكلها وهم في حالة الحرم باستثناء ما ذكر من حالاتها في القرآن لأن تحليل أكل الأنعام مطلقا قد ورد في آيات سابقة مكية ومدنية عديدة. وفي أحدها ورد ذلك بعبارة مثل العبارة التي وردت هنا وهي ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [سورة الحج: 30] ولا تبدو حكمة في ذكر ذلك بالمعنى الذي صرفوه إليه في هذا المقام. كما أن صرف العبارة إلى الأجنة بعدا وتكلفا. وهذا لا ينافي الخبر الذي احتواه حديث أبي سعيد وهو أنه أو غيره سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الأجنة الميتة. والحديث لم يرد ولم يورد في أصله لتفسير العبارة. ويتبادر لنا من فحوى أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ

_ (1) الذكاة والتذكية في أصلها إتمام الاشتعال ثم صارت اصطلاحا إسلاميا يطلق على ذبح بهيمة الأنعام للأكل وذكر اسم الله عليها حين ذبحها وهذا الحديث من مرويات أبي داود وأحمد والترمذي انظر التاج ج 3 ص 95.

وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أن القول المروي عن الربيع بن أنس والكلبي بشمول كلمة بهيمة الأنعام للوحش المماثل لها في محلّه وأن الذي منع هو صيدها في حالة الحرم وحسب. والله أعلم. ثالثا: لقد أوّل الطبري وغيره جملة وَأَنْتُمْ حُرُمٌ بحالة الإحرام للحج أو العمرة. وجملة غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ بأنها للتحذير من استحلال الصيد في الحالة المذكورة وقد أوضح بعضهم هذه الحالة إيضاحا متسقا مع الأحكام الإسلامية أيضا. وهي تسربل الرجال بالملابس والأزر غير المخيطة قبيل دخول حدود الحرم المكي وقبيل الوقوف في عرفات وفي أثناء زيارة الكعبة لأول مرة والوقوف في عرفات وامتناعهم عن الحلاقة وتقصير الشعر والتزين والتطيب ومباشرة النساء على ما شرحناه من سياق تفسير آيات البقرة [196- 203] . وبعضهم «1» زاد على ذلك فقال إن حالة الحرم تعني أيضا الوجود في داخل منطقة الحرم «2» . والقول الأول يعني أن الصيد يحل للمسلم حينما يتحلل من إحرامه خلال أشهر الحج ويتمتع بين العمرة والحج ولو كان في منطقة الحرم. والقول الثاني يعني أن الصيد لا يحل قط داخل منطقة الحرم سواء أكان المسلم محرما متسربلا

_ (1) انظر الخازن. [.....] (2) خصصنا الرجال بالذكر لأن السنّة سمحت للنساء باللباس العادي. فقد روى أصحاب السنن حديثا عن ابن عمر قال «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وما مسّ الورس والزعفران من الثياب ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب معصفرا أو خزا أو حليا أو سراويل أو قميصا أو خفّا» (التاج ج 2 ص 106) أما في صدد إحرام الرجال فقد روى الخمسة عن ابن عمر أيضا «أن رجلا قال يا رسول الله ما يلبس المحرم من الثياب. قال لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلّا أن لا يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين» (المصدر نفسه ص 105) وروى أصحاب السنن عن أبان بن عثمان قال «سمعت أبي يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينكح المحرم ولا يخطب» ص 108.

بثياب الإحرام أو متحللا متمتعا. وإنما يحل خارج هذه المنطقة ولو كان ذلك خلال أشهر الحج. وهذا وذاك مما قال به الفقهاء في سياق تقرير وبيان أحكام الحجّ ومناسكه استنادا إلى الآثار المروية. والقول الثاني مستلهم من حرمة القتال في منطقة المسجد الحرام المستفادة من آية البقرة وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ.. وتبعا لها كما هو المتبادر. وهناك حالة ثالثة يمكن أن ينطبق عليها (حالة الحرم) وهي ظرف الأشهر الحرم استلهاما من الآيات التي تحرم القتال في الشهر الحرام على ما شرحناه في سياق سورة البقرة أو تبعا لها كما هو المتبادر. والروايات القديمة تفيد أن حرمة الأشهر الحرم كانت قبل الإسلام شاملة لجميع بلاد العرب وغير قاصرة على الحرم المكي وحجاجه على ما شرحناه في سياق سورة البقرة وأن الصيد كان محرما أثناءها سواء أكان ذلك داخل منطقة الحرم أم خارجها. وهذه الحالة تجعل الصيد محرما طيلة الأشهر الحرم سواء أكان في منطقة الحرم أم خارجها. ولقد روى البخاري والنسائي عن أبي قتادة «أنه أصاب حمارا وحشيا وهو حلال فأتى به أصحابه وهم محرمون فأكلوا منه فقال بعضهم لو سألنا النبيّ صلى الله عليه وسلم عنه فسألناه فقال قد أحسنتم هل معكم منه شيء قلنا نعم قال فاهدوا لنا فأتيناه منه فأكل وهو محرم» «1» وروى أصحاب السنن حديثا عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «صيد البرّ لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم» «2» حيث يستفاد من الحديثين أن الصيد وأكله حلال لغير المحرم ولو في منطقة الحرم وفي الأشهر الحرم. وأنه يجوز للمحرم في منطقة الحرم في الأشهر الحرم أكله إذا لم يصده بنفسه أو يصد له خصيصا. وهذا إنما ينطبق على تأويل الكلمة بالتأويل الأول.

_ (1) التاج ج 3 ص 83 ومعنى (وهو حلال) أي غير متسربل بلباس الإحرام أو هو في حالة التمتع. (2) التاج ج 2 ص 107.

ولا يعني هذا فيما يتبادر لنا أن القولين الثاني والثالث غير واردين. ومن الممكن أن يقال إن الحديثين قد تضمنا تعديلا استهدف التخفيف والتيسير والإذن للمسلمين بالصيد خارج منطقة الحرم خلال الأشهر الحرم حينما لا يكونون في حالة الإحرام والله تعالى أعلم. وقد يرد سؤال عن سبب أو حكمة تحريم الصيد في (حالة الحرم) بينما أصل ذبح الأنعام الأليفة فيها سواء أكانت هي حالة الإحرام أو ظرف الأشهر الحرم أو منطقة المسجد الحرام. ولم نقع في كتب التفسير على ما اطلعنا عليه على جواب لذلك. والذي يتبادر لنا أن حلّ ذبح الأنعام الأليفة في حالة الحرم هو تشريع إسلامي. وأن تحريم الصيد فيها هو إقرار لعادة قديمة مع تعديلها تعديلا فيه تيسير للمسلمين بقصر حرمة الصيد على حالة الإحرام وإباحة ذبح الأنعام الأليفة للأكل في هذه الحالة. ولقد كان من جملة هذا التعديل تحليل صيد البحر مطلقا على ما سوف يجيء بيانه في مناسبة أخرى في هذه السورة. وأما من جهة ما قبل الإسلام فيتبادر لنا أن ذلك آت من فكرة تأمين ما من العادة أن يكون خائفا من الطيور والحيوانات البرية من مطاردة الصائد وهو مسلح بمثل سلاح القتال من قسي ونبال ورماح اتساقا مع فكرة تأمين العدو الذي من العادة أن يكون خائفا أو غير مطمئن وهذا غير وارد بالنسبة للأنعام الأليفة كما هو ظاهر. هذا في صدد الآية الأولى. ولقد روى ابن كثير عن بعض الشيعة في سياق جملة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عزوا إلى ابن عباس أنه قال «ما في القرآن آية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلّا أنّ عليا سيدها وشريفها وأميرها وما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد إلا قد عوتب في القرآن إلّا علي بن أبي طالب» . وفي هذا ما فيه من غلوّ عجيب لا يتسق مع منطق وحقّ. مع الاحترام لجلال قدر علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقد أنكر ابن كثير القول وعزاه إلى غلوّ الشيعة. ونأتي الآن إلى الآية الثانية فنقول إن المفسرين يروون- كمناسبة لنزولها- أن

الحطم بن هند البكري أحد بني قيس بن ثعلبة أتى النبي صلى الله عليه وسلم وحده وخلف خيله خارج المدينة فدعاه إلى الإسلام فقال انظروا (انتظروا) لعلي أسلم ولي من أشاوره ثم خرج ومرّ بسرح من سرح المدينة فساقه. ثم أقبل من عام قابل حاجا قد قلّد وأهدى فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه، وفي رواية قال له ناس من أصحابه خلّ بيننا وبينه فإنه صاحبنا- أي الذي أخذ سرحنا- فقال إنه قد قلد. قالوا إنما هو شيء كنا نصنعه في الجاهلية فأبى عليهم ولم تلبث الآية أن نزلت «1» . وإلى هذه الرواية فإن ابن كثير يروي عن زيد بن أسلم أن المسلمين قد اشتد عليهم صدّ المشركين لهم عن البيت يوم الحديبية فمرّ بهم أناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نصدّ هؤلاء كما صدّنا أصحابهم فأنزل الله الآية. وروى البغوي عن ابن عباس ومجاهد أن المشركين كانوا يحجون ويهدون فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فنهاهم الله عن ذلك في الآية. وقد أورد الطبري أقوالا عديدة عن السدّي وقتادة وابن عباس ومجاهد في تأويل جملة يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً تفيد أنها في صدد المشركين وأنها تعني أنهم كانوا يلتمسون بحجهم فضل الله ورضوانه فيما يصلح لهم دنياهم ومعايشهم ويترضونه. وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح. ويلحظ (أولا) أن الآية احتوت نهيا عن أمور عديدة. (وثانيا) أن جملة يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً تلهم بقوة أكثر أنها في صدد حجاج مسلمين رأوا فيما تمّ من صلح الحديبية فرصة للذهاب إلى مكة بقصد العمرة أو الحج وقد أقرهما القرآن وفرضهما على المسلمين. فأراد بعضهم أن يصدّهم ويثبط عزيمتهم بأسلوب فيه عدوان ما. (وثالثا) أن في الآية أمرا لا صلة له بالروايات وهو ما احتوته جملة وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا.

_ (1) الطبري والبغوي والطبرسي.

وننبه على أن بعض المفسرين «1» رووا عن بعض التابعين أن جملة آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً قد عنت المسلمين. وهو ما قلنا إن فحواها يلهم ذلك بكل قوة.. وعلى كل حال فالمتبادر من فحوى الآية وروحها أنه بدا من بعض المسلمين حركة فيها إخلال بحرمة الحج وتقاليده التي منها حرمة الأشهر الحرم وحرمة الهدي الذي يهدى إلى الله من الأنعام مقلدا بالقلائد أو مشعرا بجرح ليسيل دمه علامة على ذلك حسب العادات القديمة. وفيها عدوان على الحجاج أو منعهم من الحج والعمرة بقصد إلحاق الضرر بأهل مكة انتقاما منهم لأنهم صدوهم عن المسجد الحرام يوم الحديبية فاقتضت حكمة التنزيل إنزال الآية متضمنة ما تضمنته من أوامر ونواه وتنبيهات مطلقة وعامة ورائعة على النحو الذي شرحناه قبل. وبالإضافة إلى هذا فإنه يلحظ وجود مشاركة بين الآية الأولى والثانية حيث احتوت الأولى نهيا عن الصيد في حالة الحرم وإباحة له بعد التحلل من هذه الحالة. وهذه المشاركة قد تدل على ارتباط الآيتين ببعضهما ظرفا ونزولا وموضوعا. وإذا صحّ هذا وهو ما نرجوه إن شاء الله جاز القول إن جملة أَوْفُوا بِالْعُقُودِ قد تضمنت حثا على وجوب الوفاء بما تمّ بين المسلمين وأهل مكة من صلح أو مهادنة وعدم الإتيان بما يخلّ في ذلك. وقد ينطوي في الآية الثانية بل في الآيتين معا على ضوء ما قلناه أنهما نزلتا بعد صلح الحديبية بمدة قصيرة. وقد يكون هذا هو المبرر لجعل ترتيب السورة بعد سورة الفتح. والتحلل من حالة (الإحرام) الذي عبر عنه بالجملة وَإِذا حَلَلْتُمْ إما أن يكون أثناء أشهر الحج وإما أن يكون بعد انتهاء مناسك الحج جميعها وبعد الوقوف في عرفات. وما كان أثناء أشهر الحج يكون بعد زيارة الكعبة فقط وهي المسماة

_ (1) انظر تفسيرها في الزمخشري ورشيد رضا والقاسمي.

بالعمرة، حيث يصح أن يتمتع الحاج بحالة الحلّ بين العمرة ووقت الوقوف في عرفات على ما شرحناه في سياق آيات الحج في سورة البقرة. والتحلل من حالة الإحرام بالنسبة للقول بأنها التسربل بلباس الإحرام والامتناع عن الطيب والنساء هو ممارسة ما كان ممنوعا من حلاقة الشعر أو تقصيره ولبس الثياب المخيطة والتطيّب والتزين ومباشرة النساء بعد نحر الهدي. ولقد شرحنا قبل مدى حرمة الصيد في حالة الحرم. وهناك أحاديث نبوية تسوغ قتل الحيوانات الضارة في هذه الحالة صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبدو جوابا على سؤال أو بسبيل الاستدراك منها حديث رواه الخمسة عن حفصة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «خمس من الدوابّ لا حرج على من قتلهن الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور. وفي رواية خمس فواسق يقتلن في الحلّ والحرم: الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحدأة» «1» ومنها حديث رواه البغوي بطرقه عن أبي سعيد الخدري قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل المحرم السبع العادي» «2» . وحكمة الأحاديث ظاهرة فضلا عن أن هذه الحيوانات ليست صيدا. والعبارة القرآنية في الآيتين مطلقة. بحيث تشمل صيد البرّ والبحر وقد اقتضت حكمة التنزيل أن يستثنى صيد البحر من التحريم في آية أخرى من هذه السورة على ما سوف يأتي شرحه بعد. ولقد روى الطبري وغيره من المفسرين «3» عن أهل التأويل أقوالا مختلفة في صدد ما إذا كانت الآية الثانية منسوخة أو محكمة. منها أن جميع الآية منسوخة بآية التوبة هذه فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) ومنها أن المنسوخ منها هو وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ

_ (1) التاج ج 2 ص 107. (2) انظر تفسير البغوي للآيات [94- 97] من هذه السورة. (3) انظر تفسير البغوي وابن كثير والخازن والطبري والزمخشري ورشيد رضا والقاسمي.

فقط وأنها نسخت بآية التوبة هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [28] وبالآية الخامسة المذكورة آنفا أيضا. ومنها أن المنسوخ منها هو القلائد التي كان الحجاج يتقلدون بها خوفا من الاعتداء لأن الآية حرّمت إخافتهم. ومنها أن الآية في حق المسلمين وأنها محكمة لم ينسخ منها شيء. والعجيب في هذه الروايات أن الذين يروونها رووا وقالوا إن سورة المائدة نزلت دفعة واحدة وإنها آخر ما نزل من القرآن! وننبه على أنه ليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح. ولقد رجحنا أن جملة آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ هن في صدد الحجاج المسلمين استلهاما من باقي الآية وهذا ما يجعلنا نتوقف في نسخها بآيات التوبة. وحتى على فرض أنهم من المشركين فإن الآية [5] من سورة التوبة هي في صدد قتال المشركين الناكثين وقد استثنى سياقها المشركين المعاهدين المستقيمين على عهودهم وأمر بالاستقامة لهم ما استقاموا على ما شرحناه في مناسبات سابقة. وليس في آيات التوبة ولا في آيات أخرى ما يمكن أن يدل على نسخ للقلائد سواء منها ما روي أنه قلائد الحجاج أم أنه قلائد الأنعام. وقد تكون القلائد بنوعيها قد أهملت بعد الفتح لأن كلمة الله أصبحت هي العليا وسلطان النبي أصبح هو النافذ وصار الحج مقصورا على المسلمين وحظر دخول المشركين للحرم وصار الهدي والحجاج في أمن وسلام فكان القول بالنسخ تطبيقا للممارسة وليس مستندا إلى نصّ، والله تعالى أعلم. هذا، ومع خصوصية الآيتين الزمنية والموضوعية فإن الفقرات الأخيرة من الآية الثانية بخاصة احتوت تلقينا جليلا مستمر المدى. سواء أفي النهي عن التأثر ببغض قوم ما وجعله وسيلة أو مبررا للعدوان والإثم والضرر ولو كان على جماعة من غير المسلمين إذا كانوا مسالمين أو حياديين أو معاهدين، أم في بيان ما هو الأمثل بالمسلمين من التعاون على البرّ والتقوى وإيجابه، أم في تشديد الإنذار

[سورة المائدة (5) : آية 3]

والنهي عن أي تعاون وتضامن فيما هو إثم وعدوان مطلقا. ونذكر بهذه المناسبة بما نبهنا عليه في مناسبات سابقة من أن مقابلة المسلم على عدوان المعتدي الكافر بالمثل لا يعدّ عدوانا وإنما هو دفاع. والفقرة الأولى من الآية الأولى احتوت مثل هذا التلقين في أمرها بالوفاء بالعقود لأي كان. وهذا وذاك متسقان مع المبادئ القرآنية العامة التي تكرر تقريرها في مختلف السور المكية والمدنية. ولقد ساق ابن كثير بعض الأحاديث النبوية في سياق جملة وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ. منها حديث رواه الإمام أحمد وروى صيغة مقاربة له الشيخان والترمذي عن جابر وهي هذه «قال النبي صلى الله عليه وسلم لينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما. إن كان ظالما فلينهه فإنه له نصر. وإن كان مظلوما فلينصره» «1» وحديث رواه الطبراني عن شمران بن صخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإسلام» . وهناك حديث مهم يحسن أن يساق في هذا المساق رواه أبو داود عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ليس منّا من دعا إلى عصبيّة وليس منّا من قاتل على عصبيّة. وليس منّا من مات على عصبيّة. قال واثلة قلت يا رسول الله ما العصبية قال أن تعين قومك على الظلم» «2» . [سورة المائدة (5) : آية 3] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) .

_ (1) التاج ج 5 ص 48. (2) المصدر نفسه ص 21.

(1) وما أهلّ لغير الله به: وما ذبح باسم غير الله أو ما ذكر حين ذبحه اسم غير اسم الله. (2) المخنقة: المخنوقة أو الميتة خنقا. (3) الموقوذة: الميتة من الطعن والنخز والضرب. (4) المتردية: الميتة بسبب سقوطها من محلّ مرتفع. (5) النطيحة: الميتة بسبب نطح حيوان آخر لها. (6) وما أكل السبع: الذي يأكله وحش ضار. (7) إلّا ما ذكيتم: باستثناء ما ذبحتموه ذبحا شرعيا وذكرتم اسم الله عليه قبل أن يموت من تأثير العوارض المذكورة. (8) وما ذبح على النصب: وما ذبح عند الأوثان. (9) وأن تستقسموا بالأزلام: الأزلام: هي سهام كانوا يلقونها على سبيل المراهنة أو الاقتراع أو الاستخارة. والاستقسام: هو الاقتراع أو الاستخارة أو المراهنة. وسيأتي شرح ذلك بعد. (10) في مخمصة: في مجاعة. (11) غير متجانف لإثم: غير قاصد مقارفة الإثم أو متعمّد له. في الآية: (1) بيان حالات الأنعام التي حرّم الله أكلها على المسلمين. وهي التي تموت ميتة طبيعية. أو خنقا. أو سقوطا من محل مرتفع. أو نطحا. أو ضربا ووقذا. أو من نهش وحش ضار مفترس. أو التي يذكر غير اسم الله عليها حين ذبحها. أو التي تذبح عند الأوثان كقربان لها. أو التي يستقسم عليها بالأزلام. والدم ولحم الخنزير. مع استثناء أمرين في صدد محرمات الأنعام المذكورة حالاتها (الأول) في حالة بقاء رمق حياة في البهيمة التي تتعرض للموت خنقا أو

تعليق على الآية حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة.. إلخ وما فيها من أحكام وتلقين وما ورد في صددها من أقوال وأحاديث وتمحيص مسألة تاريخ نزول اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي وتعليق على مد

سقوطا أو نطحا أو وقذا أو نهشا حيث يحل أكلها إذا ذبحت ذبحا شرعيا وذكر عليها اسم الله. (والثاني) في حالة الجوع الملجئ على شرط أن لا يتجاوز الأكل إلى أكثر من دفع الحاجة والخطر وأن لا يكون فيه تعمّد إثم ومعصية. (2) إيذان تنويهي وجّه الخطاب فيه إلى المسلمين بما كان من إكمال الله لهم دينهم وإتمام نعمته عليهم وارتضاء الإسلام لهم دينا. ويأس الكفار منهم بعد ذلك. مع هتاف لهم بعدم خشيتهم من الكفار وبخشية الله تعالى وحده. ومن المحتمل أن تكون جملة ذلِكُمْ فِسْقٌ التي هي بمعنى العصيان والتمرد على الله خاصة بالمحرّمين الأخيرين وهما ما أهلّ به لغير الله والاستقسام بالأزلام، كما أن من المحتمل أن تكون شاملة لجميع المحرمات على الاعتبار نفسه. والعبارة تتحمل الاحتمالين. وقد تتحمل الاحتمال الأخير أكثر لأنها جاءت بعد ذكر جميع المحرمات. غير أن آية الأنعام [145] احتوت وصفين للنوعين حيث وصف الدم ولحم الخنزير والميتة بأنها رجس أي نجسة ووصفت ما أهل لغير الله به بأنه فسق حيث يمكن الاستئناس بهذا على أن الجملة هي خاصة بالمحرّمين الأخيرين والله أعلم. تعليق على الآية حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ.. إلخ وما فيها من أحكام وتلقين وما ورد في صددها من أقوال وأحاديث وتمحيص مسألة تاريخ نزول الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وتعليق على مدى متناولها لم يرو المفسرون مناسبة خاصة لنزول الآية كمجموعة. وإنما رووا روايات في صدد نزول مقطع الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً أو هذا المقطع الذي قبله الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ حيث روى الطبري عزوا إلى ابن عباس والسدّي

ومجاهد وقتادة وابن جريج أنه أو أنهما نزلا في حجة الوداع في يوم عرفة والنبي صلى الله عليه وسلم يلقي خطبته على المسلمين حيث نظر أمامه فلم ير إلّا موحّدا ولم ير مشركا فحمد الله فنزل عليه جبريل بالمقطع أو المقطعين، وأنه لم يعش بعد نزولهما إلّا نحو ثمانين ليلة. ومما رواه الطبري في صدد ذلك أنه لما نزلت الآية أو المقطعان منها يوم الحج الأكبر بكى عمر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ما يبكيك فقال أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا. فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص. قال له صدقت. وروى كذلك حوارا جرى بين عمر وبين كعب الأحبار رواه الشيخان والترمذي بهذه الصيغة «قال رجل من اليهود لعمر بن الخطاب لو علينا أنزلت هذه الآية الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ لاتخذنا ذلك عيدا. فقال عمر إني أعلم أيّ يوم أنزلت هذه الآية. أنزلت يوم عرفة في يوم جمعة» «1» وفي رواية الطبري زيادة غير اسم كعب وهي قول عمر وكلاهما بحمد الله لنا عيد. وننبه على أن الطبري روى حوارا مماثلا لما روي بين عمر وكعب جرى بين ابن عباس ويهودي أيضا. ويلحظ أن الروايات مع ذكرها كلمة الْيَوْمَ لم تذكر إلّا المقطعين غير مترافقين مع ما قبلهما ومع ما بعدهما. مع أنهما جزء من آية سبقه آية فيها تشريعات في صدد الحالات المحرمة من الأطعمة الحيوانية ولحقه مقطع ذو صلة وثيقة بالمقاطع السابقة له بحيث لا يفهم أية حكمة من إدماج هذا الجزء في آية يتصل أولها بآخرها اتصالا موضوعيا وثيقا لو كان نزل لحدته. وقد يقال ما دام قد ذكر (الآية) فيكون المراد بذلك جميع الآية وأن اختصاص ذكر هذا الجزء في الروايات لا يعني بالضرورة نزوله منفردا عنها. وهذا وارد. ولكن يرد معه أن الموضوع الرئيسي الذي احتوته الآية متصل بالآية الأولى من السورة اتصال توضيح وتفسير عبرت عنه جملة إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ في هذه الآية التي قال جمهور المؤولين والمفسرين إنها تعني ما جاء في الآية الثالثة من السورة وهذا يجعل

_ (1) التاج ج 4 ص 89.

احتمال نزول هذه الآية مع الآيتين السابقتين لها قوي الورود. وبقية الآية بخاصة تقوي ذلك. والآيتان السابقتان وبخاصة الثانية قد نزلتا على ما رجحناه استلهاما من فحواها بعد وقت قصير من صلح الحديبية الذي بينه وبين حجة الوداع نحو أربع سنين. وهذا يحمل على التوقف في التسليم بالروايات المروية عن نزول الآية أو المقطعين يوم عرفة في حجة الوداع. ويسوغ الترجيح بأن ما جاء في الآية من أحكام عن محرمات الذبائح هو إتمام وتوضيح لجملة أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ في الآية الأولى من السورة وبأن الآية الثالثة مع المقطعين نزلت مع الآيتين السابقتين لها وبأن حكمة التنزيل استهدفت بالمقطعين تدعيم الأوامر والنواهي والأحكام التي احتوتها الآيات الثلاث وتثبيت قلوب المسلمين حولها وحول الدين العظيم الذي جاءت لبيان مداه. وبأن من المحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تلا المقطعين في حجة الوداع في عرفة الذي يمكن أن يكون قد صادف يوم الجمعة فالتبس الأمر على الرواة. وقد يتبادر لنا احتمال آخر وهو أن تكون الآيات الثلاث نزلت أثناء زيارة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين للكعبة في السنة التالية لصلح الحديبية حسب الشروط التي تم الاتفاق عليها مع قريش حيث اقتضت حكمة التنزيل تنزيلها آمرة بالوفاء بالعهود ومنبهة على ما يحسن بالمسلمين وموضحة ما هو حلال لهم وحرام عليهم من الصيد والذبائح وهاتفة بهم فإن الله قد أكمل لهم دينهم وأتمّ عليهم نعمته وبأن الكفار قد يئسوا من إطفاء نور دينهم والتغلب عليهم فالتبس الأمر على الرواة. وهذا التخريج أو ذاك يشمل ما رواه الشيخان والترمذي من حوار بين عمر بن الخطاب واليهودي. والله تعالى أعلم. ومما يحسن التنبيه عليه أن الآية الخامسة من السورة احتوت كلمة الْيَوْمَ مع احتوائها أحكاما وتشريعات جديدة. ولم يرد في أية رواية أنها نزلت مع المقطعين أو مع الآية التي فيها المقطعان. وفحوى الآية الرابعة التي قبلها يفيد أنها نزلت هي والآية الخامسة معا بسبب سؤال عن بعض الأمور أورد من بعض المسلمين نتيجة لما احتوته الآيات السابقة من أحكام واحتوت هي الأخرى أحكاما جديدة حيث يسوغ القول إن كلمة الْيَوْمَ في الآية الثالثة والآية الخامسة معا أسلوبية.

ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن كلمة الْيَوْمَ لا تعني يوما بعينه. وقال الزمخشري إن المراد هو الزمان والحاضر وما يدانيه ويتصل به كقولك كنت بالأمس شابا وأنت اليوم أشيب حيث لا يراد بهذا تخصيص الأمس واليوم بمدلولهما الزمني. وهذا مما يؤيد قولنا إن الكلمة أسلوبية. ولقد عقب الطبري على تأويل المؤولين بأن الآية أو مقطعيها عنت إكمال فرائض الله وما للمسلمين من حاجة من أمر دينهم بعدها قائلا «إنه لا يدفع ذو علم أن الوحي لم ينقطع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قبض بل كان قبل وفاته أكثر تتابعا. ويكون بذلك معنى أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ والحالة هذه خلاف الوجه الذي تأوله من تأوله بكمال العبادات والأحكام والفرائض» . وهذا تعقيب سديد ولو أن المستفاد من كلام الطبري أنه فهم من حديث الشيخين والترمذي عن الحوار أن الآية أو المقطعين نزلا يوم عرفة في حجة الوداع. وقد تابعه معظم المفسرين لأنهم جروا على أن يكون ما ثبت عندهم من الأحاديث الصحابية أيضا هو الأولى بالتسليم في تفسير وتأويل القرآن. وهو ما نزال نراه غير متسق مع ما تلهمه الآيات فحوى ومقاما مع ما شرحناه ونرجو أن يكون فيه الصواب إن شاء الله. ولقد روى المفسرون عن ابن عباس وغيره في تأويل جملة الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ أقوالا منها أنها بمعنى أنهم يئسوا من رجوع المسلمين إلى دين الآباء القديم. ومنها أنهم يئسوا من قهر المسلمين والتغلّب عليهم. ومنها أنهم لم يبق فيهم أي قوة يخشاها المسلمون منهم على دينهم. وكل هذا وارد. والمقطعان في حدّ ذاتهما قويان رائعان في تنويههما وهتافهما ومداهما. ولعلّهما من أروع المقاطع القرآنية في بابهما. ولعل هذه الروعة والمدى هما اللذان جعلا المؤولين ينظرون إليهما نظرة خاصة مستقلة. وإن لمن شأنهما من دون ريب أن يبعثا كل الطمأنينة والرخاء والغبطة والفرح والاعتزاز في المسلمين في أي ظرف ومكان وسواء منهم أصحاب رسول الله الذين وجّه الخطاب إليهم

مباشرة أم الذين يأتون بعدهم لما خصهم الله به من السعادة والرعاية في الانضواء إلى الإسلام الذي ارتضاه لهم دينا وجعله شريعة تامة خالدة أكملها لهم وأتمّ نعمته بذلك عليهم لتستجيب إلى جميع حاجاتهم ولتحلّ جميع مشكلاتهم الروحية والمادية والدنيوية والأخروية ثم لتستجيب إلى جميع مشاكل البشر الذين رشحت لتكون لهم دينا وتحلّ جميع مشكلاتهم. وإن لمن شأنهما كذلك أن يوثقا بينهم رباط الأخوة والتضامن، وأن يبعثا فيهم القوة وعدم المبالاة بالأعداء والمضادين في تلك الظروف التي نزلا فيها وكان النضال قائما فيها بين الكفر والإيمان والشرك والتوحيد، والضلال والهدى، والظلمات والنور، والعصبية القبلية الضيقة والأخوة العامة، والتقاليد التي تحتوي كثيرا من الشذوذ والسخف والبغي والتمايز في الطبقات واستقطاب الثروة والغنى في جانب والفقر والعوز في جانب والدين الذي يدعو إلى الحق والهدى والمساواة والخير والتراحم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون على البرّ والتقوى، ويقرر أن ما في أيدي الناس من مال هو مال الله وهم مستخلفون فيه وأن فيه لحقّا معلوما للمحرومين والمعوزين يجب أداؤه إليهم بدون منّ ولا تبرّم. ويحل الطيبات ويحرم الخبائث والفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي ثم في أي ظرف آخر. لأن هذه الدعوة قد ظلت في أصولها القرآنية والنبوية صافية نقية تحتفظ بكل مزاياها وقوتها وفضائلها وعظمتها وسطوعها وسنائها. ومن العجيب أن رواة الشيعة ومفسريهم لم يتركوا هذه الآية أو هذا المقطع على روائه وسنائه وإطلاقه وهتافه العام فأولوه بما فيه تأييد لهواهم. حيث روى الطبرسي عن الإمامين أبي جعفر وأبي عبد الله «أنّ الآية نزلت بعد أن نصّب النبيّ صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه علما للأنام يوم غدير خمّ منصرفه من حجة الوداع وكان ذلك آخر فريضة أنزلها الله تعالى» كما روى قولا معزوّا إلى أبي سعيد جاء فيه «أن الآية لمّا نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضا الرب برسالتي وولاية علي بن أبي طالب من بعدي فمن كنت مولاه فعليّ مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله» .

ولقد أورد ابن كثير نصّ هذا الحديث وقال إنه غير صحيح. والهوى الشيعي بارز عليه. وننبه هنا كما نبهنا في مناسبات سابقة على أننا لسنا في صدد إنكار مزايا علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومنزلته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكما اختلف أهل التأويل من أصحاب رسول الله وتابعيهم في مدى جملة أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ اختلف فيه أصحاب المذاهب الكلامية الذين جاءوا بعدهم. حيث استدل بعضهم بالآية على أن القياس- وهو من أصول التشريع في الإسلام- باطل لأنها دلت على أن الله تعالى قد نصّ على الحكم في جميع الوقائع إذ لو بقي بعضها غير مبين الحكم لم يكن كاملا وإذا حصل النص في جميع الوقائع فالقياس إن كان على وفق ذلك كان عبثا وإن كان على خلافه كان باطلا. وحيث استدل بعضهم بها على بطلان الاجتهاد والرأي من حيث إن القرآن يذكر أن الله قد أكمل للمسلمين دينهم فلم يعد هناك مجال لاجتهاد ولا رأي. وقد ردّ عليهم مخالفوهم ردودا عديدة موجز ما تفيده أن الجملة القرآنية قد عنت الأمور العامة والعمومات الشاملة مما يحتاج إليه المسلمون في عقائدهم وعباداتهم ومعاملاتهم وعلاقاتهم دون المسائل الفردية. وإن مما يدخل في الباب ما جاء في آيات مكية من الإشارة إلى أن الله قد أنزل الكتاب تبيانا لكل شيء «1» . وأنه لم يفرط في الكتاب من شيء «2» . مع أنه لم يكن نزل من التشريعات والأحكام شيء هام لأن ذلك إنما كان في العهد المدني. وأن السنة النبوية قد احتوت أمورا كثيرة رئيسية وثانوية لم ينص عليها القرآن صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول هذه الجملة وبعدها. وأن القياس واستنباط الأحكام الجزئية والفردية من عموميات النصوص القرآنية والسنّة النبوية الثابتة لا يناقض ذلك «3» . وفي هذا من السداد والوجاهة ما هو ظاهر. وإذا كان من شيء يحسن أن نقوله أيضا فهو أن القرآن والسنة قد احتويا من المبادئ والتقريرات والقواعد والأحكام ما فيه سداد لجميع حاجات المسلمين والبشر في مختلف

_ (1) آية سورة النحل 89. (2) آية سورة الأنعام 38. (3) انظر تفسير الآية في تفسير المنار والقاسمي. [.....]

الشؤون ومختلف الأزمنة والأمكنة بوجه عام بحيث يصح القول إن الشريعة الإسلامية التي يمثلها القرآن والسنة دين كامل وشريعة تامة. ومن هذه المبادئ والتقريرات والقواعد والأحكام ما هو محدود ومنه ما هو خطوط وتلقينات عامة. ولما كانت حاجات الحياة في مختلف مجالاتها كثيرة ومتجددة ثم متبدلة بتبدل الظروف فقد اقتضت حكمة الله ورسوله أن يكون المحدود هو الأقل. وأن يترك للمسلمين أن يجدوا الحلول لمختلف حاجاتهم الأخرى بالاجتهاد والقياس والاقتباس والاستنباط على شرط أن يكون ذلك في نطاق تلك الخطوط والتلقينات العامة. ويصح أن نورد أمثلة كثيرة على ذلك. ونكتفي بمثل واحد. فالشريعة الإسلامية القرآنية والنبوية أوجبت أن يكون أمر المسلمين شورى بينهم وأمرت باستشارة المسلمين في الشؤون العامة السياسية والحربية مما شرحناه في سياق تفسير آية آل عمران [159] وسكتت عن بيان الكيفية لأن ذلك عرضة للتبدل والتطور على ما هو المتبادر. فهنا مجال اجتهاد أولي العلم والأمر والشأن من المسلمين لاختيار الطريقة المناسبة لتحقيق هذا الواجب. ولا يرد أي وارد لمنع ذلك. وقد نبهنا على كل هذا بشيء من الإسهاب أيضا في سياق تفسير آيات سورة النساء [59 و 83 و 115] . وهذا هو في صدد موضوعية الجملة الحرفية. غير أن من الحق أن ننبه مع ذلك في صدد مقام ورودها إلى ما ذكرناه قبل من أن الآية الثالثة احتوت إتماما وتوضيحا لجملة أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ في الآية الأولى من السورة ومن أن المقطعين استهدفا التدعيم والتثبيت والتنويه. وإلى ما رجحناه من نزولها بعد قليل من صلح الحديبية الذي عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعده أربع سنوات أخرى نزل في أثنائها كثير من الأحكام القرآنية وصدر عن الرسول عليه السلام كثير من البيانات في مختلف الشؤون وإلى ما أوردناه من قول الطبري من عدم اتفاق أهل التأويل في القرن الهجري الأول على كون الجملة تعني كمال العبادات والأحكام والشرائع حين نزولها حيث يسوغ القول بناء على ذلك أنها في مقامها دون موضوعها لا تستوجب الخلاف الكلامي الذي دار حولها بعد ذلك القرن. والله تعالى أعلم.

والمحرمات الأربع الأول في مطلع الآية قد ذكر تحريمها في آيات عديدة مكية ومدنية في معرض الجدل بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار على ما شرحناه في مناسبات آيات سورة البقرة [167- 176] والأنعام [125- 147] والنحل [113- 118] . ويبدو أن حكمة التنزيل اقتضت إعادة ذكرها في هذه الآية في معرض تقريري وتشريعي عام مع غيرها من المحرمات لتكون جامعة مانعة. وقد اقتضت هذه الحكمة تكرار وتوكيد ما جاء في الآيات السابقة المذكورة من الرخصة للمضطر بنفس الشروط حتى يكون التشريع متساوقا. والمتبادر أن تحريم أكل البهيمة التي تموت في الحالات الخمس هو تبع للأصل المحرم وهو أكل الميتة إطلاقا. وكان العرب يأكلونها على ما شرحناه في سياق تفسير آيات سورة الأنعام المذكورة آنفا. والمتبادر أن العرب كانوا يأكلون ميتة البهيمة في جميع حالات موتها فقضت الآية بتحريم جميع الحالات تبعا للأصل في هذه الآية التشريعية الجامعة. وكلمة وَالدَّمُ تأتي هنا بدون وصف. ومثل ذلك جاء في آية البقرة [123] وآية النحل [115] غير أنها جاءت بوصف مَسْفُوحاً في آية الأنعام [145] وهو الوصف الذي يحرم به أكل الدم مطبوخا أو شربه حسب ما كان جاريا في الجاهلية على ما عليه جمهور العلماء الذين قالوا إن فيه إخراجا للدم الذي يكون عالقا باللحم والعروق وللطحال والكبد اللذين هما دم متجمد على ما شرحناه في سياق آية الأنعام المذكورة. وفي كتب التفسير أحاديث وتأويلات متنوعة أخرى في صدد مدلول عبارات الآية وأحكامها رأينا من المفيد إيجازها والتعليق عليها بما يلي: 1- لقد روي في صدد جملة إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ أن الاستثناء شامل للحالات التي ذكرت قبلها جميعها كما روي أن الاستثناء خاص بما نهشه السبع فقط. وقد صوّب الجمهور القول الأول وهو الأوجه. 2- لقد نبّه المفسرون والمؤولون على أن كلمة السَّبُعُ تشمل كل

حيوان مفترس آكل للحوم. وهذا سديد. 3- لقد أجمعوا على أن الاستثناء لا يشمل الخنزير. لأن لحمه محرّم أصلا. وهذا حقّ وصواب. 4- مذهب الجمهور أن رمق الحياة الذي يصح أن يذكى الحيوان ليحل أكله إذا تعرض للحالات المذكورة في الآية هو أن يكون فيه على الأقل عين تطرف أو أذن أو يد أو رجل أو ذنب يتحرك. وهذا وجه يتسق مع روح الرخصة القرآنية. 5- هناك من قال إن الإصابة إذا كانت في العنق وبنهش سبع بنوع خاص وصار الحيوان في حكم المذبوح فلا يحل أكله. والمتبادر أن هذا غير متسق مع عبارة الآية وروحها المطلقين. فما دام ظل في الحيوان رمق يصح تذكيته وأكله في أي جهة منه كان أثر الحادث وبأي سبب. والله أعلم. 6- لقد رويت في مدى أداة الذبح وطريقته أحاديث عديدة. منها حديث رواه الخمسة عن رافع بن خديج جاء فيه «قلت يا رسول الله إنّا ملاقو العدوّ غدا وليست معنا مدى. قال أعجل أو أرن ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل. ليس السّنّ والظفر وسأحدثك أما السنّ فعظم. وأما الظفر فمدى الحبشة. قال وأصبنا نهب إبل وغنم فندّ منها بعير فرماه رجل بسهم فحبسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش. فإذا غلبكم منها شيء فاصنعوا به هكذا» «1» ومنها حديث رواه البخاري جاء فيه «كانت جارية لكعب بن مالك ترعى غنما له بسلع فأصيبت شاة منها فأدركتها فذبحتها بحجر فسئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال كلوها» «2» ومنها حديث رواه أبو داود جاء فيه «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان. وهي التي تذبح فيقطع الجلد ولا تفرى الأوداج ثم تترك حتى تموت. قيل يا رسول الله أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبّة قال لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك» «3» .

_ (1) التاج ج 3 ص 94 أي اذبح بأي شيء يسيل الدم بما عدا السن والظفر. وهذا يفيد أن الذبح جائز بحجر محدد أو بشق عصا وخشبة أو بكتف عظم إلخ. (2) التاج ج 3 ص 94 و 95. (3) المصدر نفسه.

7- في كتب التفسير أقوال وأحاديث عديدة في مدى الاضطرار والمخمصة الذي يحل للمسلم به أن يتناول المحرمات في الآية «1» . ولقد أوردنا طائفة منها وعلقنا عليها في سياق تفسير الآيتين [118 و 145] من سورة الأنعام فنكتفي بهذا التنبيه. 8- قال المفسرون والمؤولون إن النصب التي حرّم أكل ما ذبح عليها هي حجارة كانت تنصب عند أوثان الكعبة وغيرها. وكان المشركون يذبحون قرابينهم عندها. وكان بعضهم يتعبّد لها ويقرّب إليها رأسا أيضا. ولم تكن أصناما مخلقة. والمتبادر أن القرآن حرّم أكل الذبائح التي تذبح عندها لأنها بمثابة ذبح لغير الله. 9- إن كلام المفسرين في صدد الاستقسام بالأزلام الوارد في الآية يفيد أنه إجابة الأقداح أو السهام على سبيل الاستفتاء أو الاستخارة. ورووا بهذه المناسبة عادة عربية جاهلية في مكة وهي أنه كان عند سادن صنم (هبل) سبعة سهام أو أقداح- وهي ما تعنيه كلمة الأزلام على ما فسّره المفسرون- كتب على واحد منها (افعل) وعلى ثان منها (لا تفعل) وعلى ثالث (منكم) وعلى رابع (من غيركم) وعلى خامس (ملصق بكم) وعلى سادس (عقل) «2» وترك السابع غفلا بدون كتابة «3» . فإذا أراد امرؤ أو جماعة استفتاء الآلهة في مشكل أو موقف محرج أو محير من شؤون الدماء والأنساب والأسفار أو العزائم الأخرى جاءوا إلى السادن فطلبوا منه لقاء جعل مناسب إجالة الأقداح التي تناسب المطلب في كيس من جلد وتناولوا أحدها وعملوا بما يكون مكتوبا عليه. وإن كان السهم هو الغفل كان لهم الخيار بدون حرج. على أن في الروايات طريقة أخرى تسمى الاستقسام بالأزلام وهي من طرائق الميسر التي كان يذبح فيها بعير ثم يقترع بالسهام على من يغرم ثمنها وعلى كيفية توزيع لحمها على ما شرحناه في سياق تفسير آية البقرة [219] . والذي نرجحه أن الاستقسام الوارد في الآية قد عنى هذه الطريقة دون تلك لأنها

_ (1) انظر تفسير الطبري وابن كثير فقد استوعبا هذه الأحاديث والأقوال. (2) بمعنى أداء الدية على القتلى. (3) وهناك روايات أخرى عن العبارات المكتوبة على السهام لم نر ضرورة لذكرها.

أكثر تناسبا مع بيان ما يحرم أكله من البهائم حيث أريد بذلك تحريم لحم البهيمة التي تذبح على سبيل الميسر. وقد عزا ابن كثير إلى مجاهد أنه قال إن الذي عنته الجملة هو القمار. وهذا مؤيد لترجيحنا. ولقد روى المفسرون أحاديث نبوية عديدة في صدد الاستخارة وما يدخل في بابها أو معناها كالتنجيم والرمل والتطير والطرق والعرافة والكهانة والعيافة على هامش الجملة باعتبار أن الاستقسام يعني ذلك. فيها أحكام وتلقينات مفيدة فرأينا أن نوردها برغم ترجيحنا أن الجملة متصلة بالميسر أو القمار أو المراهنة وبعض هذه الأحاديث وارد في بعض الكتب الخمسة. منها حديث رواه أبو داود عن قبيصة قال «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول العيافة والطيرة والطرق من الجبت» «1» وحديث رواه مسلم وأحمد جاء فيه «من أتى عرّافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد» «2» وحديث أخرجه ابن مردويه عن أبي الدرداء قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يلج الدرجات من تكهّن أو استقسم أو رجع من سفر طائرا» «3» وحديث عن ابن عباس رواه أبو داود وأحمد قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد» «4» وحديث عن عمران بن حصين مرفوعا رواه البزار بإسناد حسن ورواه الطبراني بإسناد حسن كذلك جاء فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم «ليس منّا من تطيّر أو تطيّر له أو تكهّن أو تكهّن له أو سحر أو سحر له. ومن أتى كاهنا فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد» «5» . وظاهر من هذا أن الشرع الإسلامي قرآنا وسنّة يحرّم هذه الأمور. وفي ذلك من الحكمة والجلال ما لا يخفى.

_ (1) التاج ج 3 ص 201 والعيافة زجر الطير فإذا ذهب يمينا كان ذلك فألا حسنا ومضى الزاجر في عزيمته وإن ذهب شمالا تشاءم وانصرف عنها. والطيرة هي التطير والطرق ضرب بالحصى لمعرفة البخت والجبت هو الشرك أو الوثنية. (2) المصدر نفسه. (3) النص من ابن كثير. ومعنى طائرا متطيرا. (4) التاج ج 3 ص 200. (5) نقلا عن تفسير القاسمي.

على أن هناك بعض أحاديث تجيز الاستخارة والتفاؤل فمن ذلك حديث رواه الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة في الأمور كما يعلّمنا السورة من القرآن ويقول إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علّام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري- وفي رواية عاجل أمري وآجله- فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه. اللهم وإن كنت تعلم أنه شرّ لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفني عنه واصرفه عني واقدر لي الخير حيث كان. ثم رضّني به» «1» ومن ذلك حديث عن أبي هريرة رواه البخاري ومسلم والترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا طيرة وخيرها الفأل قيل يا رسول الله وما الفأل قال الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم» ، وفي رواية: «لا طيرة ويعجبني الفأل الصالح والكلمة الحسنة» «2» وحديث رواه أبو داود عن أبي هريرة أيضا «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سمع كلمة فأعجبته فقال أخذنا فالك من فيك» «3» وحديث عن بريدة رواه أبو داود والنسائي قال «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يتطير من شيء وكان إذا بعث عاملا سأل عن اسمه فإذا أعجبه فرح به ورؤي بشر ذلك في وجهه وإن كره اسمه رؤي ذلك في وجهه وإذا دخل قرية سأل عن اسمها فإن أعجبه فرح بها ورؤي بشر ذلك في وجهه وإن كره اسمها رؤي ذلك في وجهه» «4» وحديث رواه أبو داود وأحمد جاء فيه «ذكرت الطيرة عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أحسنها الفأل ولا تردّ مسلما. فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهمّ لا يأتي بالحسنات إلّا أنت ولا يدفع السيئات إلّا أنت

_ (1) نقلا عن ابن كثير. وقد عقب عليه قائلا (بلفظ الإمام أحمد وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي الموالي) . (2) التاج ج 3 ص 198. (3) المصدر نفسه. [.....] (4) التاج ج 3 ص 198- 199.

[سورة المائدة (5) : آية 4]

ولا حول ولا قوة إلّا بك» «1» وحديث رواه الترمذي جاء فيه «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه إذا خرج لحاجته أن يسمع يا راشد يا نجيح» «2» . وليس في هذه المأثورات أي تناقض مع المأثورات السابقة لأنها متصلة بعقيدة التوحيد وكون الله عز وجل وحده هو القادر الباسط القابض المعطي المانع الذي يرجع إليه المؤمنون ويستمدون منه القوة ويتوكلون عليه في شؤونهم. ولقد جعل بعضهم القرعة من باب المنهيات في حين أجازها بعضهم لتطييب نفوس أصحاب الشأن والبراءة من التهمة في الإيثار «3» . والمتبادر أن القول الثاني هو الأوجه لأن القرعة لا تدخل في الحقيقة في متناول المنهي عنه في المأثورات السابقة. والله أعلم. [سورة المائدة (5) : آية 4] يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4) . (1) الجوارح: تطلق على الحيوانات والطيور الجارحة أي ذوات الأنياب والمخالب. ويدخل في نطاق الكلمة الكلاب والذئاب والنمور والسباع والفهود والضباع والصقور والنسور والبزاة. والراجح أن الكلمة هنا للإشارة إلى الجوارح التي تستعمل في الصيد كالكلاب والصقور والبزاة. (2) مكلّبين: من التكليب وهو تعليم الكلاب للصيد في الأصل ويستعمل في تعليم الجوارح للصيد عموما. وفي اللغة (كلاب) مؤدب الكلاب والجوارح.

_ (1) التاج ج 3 ص 198- 199 ومعنى لا تردّ مسلما أي لا يجوز أن يرتد المسلم عن عزيمته بالطيرة. (2) المصدر نفسه. (3) تفسير القاسمي.

تعليق على الآية يسئلونك ماذا أحل لهم وما فيها من أحكام وتلقين

تعليق على الآية يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ وما فيها من أحكام وتلقين في الآية حكاية لسؤال وجوابه. والجواب ينطوي على تعميم وتخصيص. فقد حكت أن أناسا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عما أحلّ لهم. وأمرت بتبليغ السائلين وبالتبعية جميع المسلمين بأن الله قد أحلّ لهم كلّ طيب بصورة عامة. وبأنه قد أحلّ لهم أكل الصيد الذي تمسكه الجوارح المعلّمة على أن يذكر اسم الله عليه. مع التنبيه إلى وجوب تقوى الله والتيقّن من سرعة حسابه على أعمالهم تنبيها ينطوي على الإنذار أو التحذير من مخالفة أوامر الله. ولقد تعددت الأقوال في صرف جملة وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ «1» فقيل إنها بمعنى اذكروا اسم الله حينما ترسلون الجوارح المعلّمة لإمساك الصيد حتى إذا أتت بها ميتة جاز لكم أكلها. وقيل إنها بمعنى اذكروا اسم الله حينما تأكلونه. وقيل إنها بمعنى اذكروا اسم الله عليه حينما تذبحونه بعد إمساكه. وأوجه الأقوال هو الأول لأن حكم ما يموت بنهش السبع- والجوارح من السباع- قد تقدم ولأنه إذا لم يمت المنهوش وذكي حلّ أكله إطلاقا فلا يكون هناك حاجة إلى رخصة جديدة. ولقد روى المفسرون عدة روايات في مناسبة نزول الآية. منها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب فجاءه بعض المسلمين يسألونه عما يحلّ لهم اقتناؤه منها. ومنها أن بعض مسلمي البادية سألوه عن حكم ما تصيده جوارحهم المعلمة. وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. والآية صريحة بأنها نزلت جوابا على سؤال. ومن المحتمل أن تكون إحدى الروايتين أو كلتاهما صحيحة. كما أن من المحتمل أن يكون السؤال وقع بمناسبة ما احتوته الآية السابقة من بيان حل الحالات المحرمة أولا وما يموت من نهش السباع التي منها الجوارح ثانيا. ونحن نرجح هذا الاحتمال كمناسبة مباشرة للآية لأنه متسق مع محتوياتها ومع سياقها. ومن المحتمل أن يكون السؤال قد وقع عقب

_ (1) انظر الطبري والبغوي والطبرسي وابن كثير والخازن.

نزول الآية السابقة فوضعت الآية بعدها للمناسبة الظرفية والموضوعية وإلا فتكون قد وضعت في مكانها للمناسبة الموضوعية. ولقد أورد المفسرون أحاديث نبوية عديدة على هامش هذه الآية كانت مستندا لما وضعه الفقهاء من قواعد وأحكام في موضوع الصيد وأكله. ومن هذه الأحاديث ما ورد في الكتب الخمسة منها حديث رواه الخمسة عن عدي بن حاتم جاء فيه «قلت يا رسول الله إني أرسل الكلاب المعلّمة فيمسكن عليّ وأذكر اسم الله عليه. فقال إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل وإن قتلن، ما لم يشركها كلب ليس معها. قلت فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب فقال إذا رميت بالمعراض فخزق فكله وإن أصابه بعرضه فلا» «1» وللبخاري والترمذي «إن رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل وإن وقع في الماء فلا تأكل» «2» وللبخاري وأبي داود «يرمي الصيد فيقتفي أثره اليومين والثلاثة ثم يجده ميتا وفيه سهمه قال يأكل إن شاء الله» «3» ولمسلم وأبي داود في الذي يدرك صيده بعد ثلاث «.. فكله ما لم ينتن» «4» وروى الترمذي عن عدي قال «سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي قال ما أمسك عليك فكل» «5» . ولقد أورد ابن كثير حديث عدي بن حاتم معزوا إلى الصحيحين وفيه مباينة وزيادة لما ورد في التاج فرأينا من المفيد نقله لأن ابن كثير من أئمة الحديث «قال عدي بن حاتم قلت يا رسول الله إني أرسل الكلاب المعلمة وأذكر اسم الله فقال إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك قلت وإن قتلن. قال وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس منها فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسمّ على غيره. قلت له: فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب؟. فقال إذا رميت بالمعراض

_ (1) التاج ج 3 ص 92- 93. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه ص 92.

فخزق فكله وإن أصابه بعرض فإنه وقيذ فلا تأكله. وفي لفظ لهما إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله فإنّ أخذ الكلب ذكاته. وفي رواية لهما فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه» وقد عقب ابن كثير قائلا فهذا دليل الجمهور وهو الصحيح من مذهب الشافعي. وهو أنه إذا أكل الكلب من الصيد يحرم مطلقا ولم يستفصلوا كما ورد بذلك الحديث. ثم قال وحكي عن طائفة من السلف أنهم قالوا لا يحرم مطلقا. ثم أخذ يسوق أحاديث في تأييد جواز أكلها وفي بعض مسائل أخرى لم ترد في الكتب الخمسة ولكنه نبّه على أنها جيدة الأسناد. وأورد بعضها البغوي أيضا ونبّه التنبيه نفسه، والمفسران من أئمة الحديث. ومن هذه الأحاديث حديث عن سلمان الفارسي قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه وقد أكل منه فليأكل ما بقي» وحديث عن أبي ثعلبة الخشني قال «قلت يا رسول الله إن لي كلابا مكلبة فأفتني في صيدها. فقال كل ما أمسكن عليك. فقال ذكيا وغير ذكي وإن أكل منه. قال نعم وإن أكل منه. قلت يا رسول الله أفتني في قوسي. قال كل ما ردت عليك قوسك. قال ذكيا وغير ذكي قال نعم وإن تغيب عنك ما لم يصلّ- أي ينتن- أو تجد فيه أثر غير سهمك. قال أفتني في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها قال اغسلها وكل فيها» . وهناك صيغ أخرى لحديث أبي ثعلبة جاء في إحداها «إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فكل وإن أكل منه وكل ما ردّت عليك يدك» وفي إحداها «قلت يا رسول الله إنّا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس هو معلم وبكلبي المعلم فما يصلح لي. قال أما ما ذكرت من آنية أهل الكتاب فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها. وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل. وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله فكل. وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل» وهناك أقوال أخرى مروية عن بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم تدور في النطاق الذي دارت فيه الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم لم نر ضرورة إلى إيرادها لأن فيها تكرارا لا فائدة منه.

والأحاديث التي ساقها ابن كثير والبغوي في حلّ الصيد الذي يأكل منه الجارح أو الكلب لم تحلّ الخلاف بين الفقهاء. حيث ظل بعضهم يذهب إلى التحريم مطلقا وبعضهم إلى الحل مطلقا. وقد توسط بعضهم فقال بالحلّ في حالة الجوع. والأحاديث التي تحرم أكل ما أكل منه الكلب أقوى سندا كما هو ظاهر. والقول يحلّه في حالة الجوع وجيه ومتسق مع المبدأ العام الذي يحلّ أكل المحرم في حالة الاضطرار والمخمصة والله تعالى أعلم. هذا، ومع أن تعبير قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ قد يكون في مقامه قاصرا على الأنعام والطيور التي يسوغ أكلها فإن فيه معنى الجواب المبادر القوي العام والشامل لكل طيب. وهذا متسق مع التلقين القرآني المنطوي في آيات عديدة مكية ومدنية «1» من توخى الشريعة الإسلامية- قرآنا وسنة- تحليل الطيبات جميعها. والطيبات كما هو المتبادر هي كل ما لم ينص الشارع على تحريمه. وهي من هذا الاعتبار واسعة النطاق جدا. لأن ما نصّ الشارع من قرآن وسنّة على تحريمه محدود جدا. وهكذا ينطوي في العبارة القرآنية ما انطوى في كثير من الآيات من تيسير التشريع القرآني للمسلمين. ويلمس في كلمة الطيبات معنى تصوري رفيع في صدد تهذيب نفس المسلم وذوقه. وتنزيههما عن كل مستكره في المأكل والمشرب وسائر شؤون الحياة. وفي هذا الذي تكرر في القرآن بأساليب متنوعة ومواضيع عديدة ما فيه من روعة وجلال. وفي سياق جملة وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ واعتبارها شاملة لكل شيء حينما يراد أكله أورد ابن كثير أحاديث نبوية عديدة. منها ما ورد في بعض الكتب الخمسة. من ذلك حديث رواه الترمذي والإمام أحمد عن عائشة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل الطعام في ستة نفر من أصحابه فجاء أعرابي فأكله بلقمتين فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما إنّه لو كان ذكر اسم الله لكفاكم. فإذا أكل أحدكم طعاما فليذكر اسم الله فإن

_ (1) انظر بنوع خاص آيات سورة الأعراف [31 و 156] .

[سورة المائدة (5) : آية 5]

نسي أن يذكر اسم الله في أوله فليقل بسم الله أوّله وآخره» «1» وحديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي جاء فيه «إنّ الشيطان يستحلّ الطعام إذا لم يذكر اسم الله عليه» «2» وحديث رواه الثلاثة أنفسهم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم «إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء وإذا دخل ولم يذكر اسم الله عند دخوله قال الشيطان أدركتم المبيت فإذا لم يذكر اسم الله عند طعامه قال أدركتم العشاء» . وحديث رواه أبو داود جاء فيه «قال جماعة يا رسول الله إنا نأكل ولا نشبع. قال فلعلّكم تفترقون. قالوا نعم قال فاجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله عليه يبارك لكم فيه» «3» . وفي الأحاديث تعليم وتأديب وتوجيه نحو الله في كل ظرف وشكر نعمته وابتغاء بركته. [سورة المائدة (5) : آية 5] الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5) . تعليق على الآية الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ... إلخ وما فيها من أحكام وتلقين وصور وتمحيص دلالة أهل الكتاب فيها في الآية تقرير تشريعي وجّه الخطاب فيه إلى المسلمين واحتوى:

_ (1) التاج ج 3 ص 107. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه ص 118. [.....]

(1) توكيدا لحلّ الطيبات وإباحتها لهم بصورة عامة. (2) وحلّ طعام الكتابيين وإباحته لهم وحلّ طعامهم للكتابيين وإباحته لهم. (3) وحلّ التزوج بالمحصنات من المؤمنين والكتابيين وإباحته لهم ضمن نطاقه الشرعي من عقد ومهر ورغبة صادقة في الإحصان وليس بقصد السفاح والتخادن وقضاء الشهوة فقط. (4) وإنذار لهم بوجوب الوقوف عند حدود الله وعدم تجاوزها. وبيانا لما في تجاوزها من كفر بما آمنوا به. ولما يؤدي هذا إليه من حبوط عمل وخسران في الآخرة. ولم نطلع على رواية خاصة بمناسبة نزول الآية. غير أن الطبري روى عن قتادة أن الله لما أحلّ طعام أهل الكتاب ونساءهم في الآية قال أناس من المسلمين كيف نتزوج نساءهم وهم على غير ديننا؟ فأنزل الله عز وجل وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5) . وهذا يقتضي أن تكون الآية نزلت على دفعتين مع أن الجملة منسجمة مع شطر الآية الأول ومعطوفة عليه. ولقد أورد الطبري أقوالا عديدة معزوة إلى علماء التابعين تفيد أنهم فهموا من جملة وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ أنها في صدد ذبائح أهل الكتاب أو أوّلوها بذلك. وجاراه في ذلك معظم المفسرين بعده «1» حيث يتبادر على ضوء ذلك أن الآية متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا. وأن مضمونها يلهم أنها وما قبلها سلسلة متلاحقة. وأن إباحة التزوج بالمحصنات من المؤمنات والكتابيات قد جاء على سبيل الاستطراد. فإن لم تكن الآية نزلت مع سابقاتها فتكون قد نزلت عقبها فوضعت بعدها، أو وضعت بعدها للمناسبة الموضوعية. ومع ذلك فمن المحتمل جدا أن يكون أورد على النبي صلى الله عليه وسلم استفتاء في أمر

_ (1) انظر النيسابوري والنسفي والخازن والبغوي وابن كثير والزمخشري والطبرسي.

ذبائح أهل الكتاب ونسائهم أو وقعت وقائع متصلة بذلك فاقتضت الحكمة تنزيل الآية ولعلّ ما ذكر في الآيات السابقة من الحالات التي يحرم فيها أكل الأنعام مما أثار ذلك وقد يخطر بالبال أيضا أن يكون ذلك في مناسبة وقعة خيبر التي وقعت بعد صلح الحديبية بمدة قصيرة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الفتح استئناسا من كون الآيات قد نزلت بعد ذلك الصلح بمدة قصيرة على ما ذكرناه قبل. ولقد روي أن امرأة يهودية أهدت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة مطبوخة. وأنه تزوج صفية بنت حيي بن أخطب زعيم اليهود التي كانت بين السبايا «1» . فلعل بعض المسلمين تساءل عن الأمر فنزلت الآية تؤيد ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما تكرر وقوعه ومرت أمثلة عديدة منه. وجملة وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5) قد تكون تضمنت إيذانا بأن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان بإلهام الله تعالى لحكمة سامية. وإنذارا للمسلمين بأن عليهم أن يؤمنوا بكل ما يفعله النبي صلى الله عليه وسلم لأنه رسول الله وأن من يتردد أو يرتاب في ذلك يحبط عمله ويكون من الخاسرين في الآخرة. والله أعلم. ويلفت النظر إلى كلمة الْيَوْمَ التي استهلت بها الآية ثم إلى جملة أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ بعدها والتي احتوت مثلها الآية السابقة للآية. فهذا وذاك من القرائن التي نراها قوية على صلة الآية بما سبقها نظما وسياقا وموضوعا وعلى قوّة احتمال نزولها معها أو عقبها وعلى ضعف احتمال انصراف كلمة الْيَوْمَ في الآية الثالثة إلى يوم عرفة في حجة الوداع كيوم لنزولها. والحكمة في هذا التشريع بليغة بعيدة المدى. فالقرآن ما فتىء يقرر وحدة المنبع والهدف التي تجمع بين المسلمين وأهل الكتاب وتجعلهم بمثابة جبهة واحدة ويوجب على المسلمين احترام كتبهم وأنبيائهم. فجاء هذا التشريع المستمد من تلك الوحدة التي ينطوي فيها تقرير كون الكتابيين مؤمنين بالله على كل حال صراحة أو تأويلا ولا يشبهون المشركين والوثنيين في طعامهم وذبائحهم ومناكحهم

_ (1) انظر ابن سعد ج 3 ص 162- 163 وابن هشام ج 3 ص 388- 390.

وهذا ما علّل به المفسرون حكمة التشريع خطوة جديدة قوية في سبيل إزالة الجفوة وتوطيد التآنس والتواثق والتعامل والتقارب عمليا بينهم. ووسيلة لإظهار محاسن الإسلام ورحابة صدره. وسياق الآية يلهم بقوة أنها نزلت بعد وقعة الحديبية. أو لعلها نزلت بعد وقعة خيبر التي كانت عقب تلك الوقعة. وبعبارة ثانية بعد خضد شوكة اليهود في المدينة والقرى. وهذا يجعل من المتبادر بالإضافة إلى تلك الحكمة أن المسلمين صاروا في موقف الآمن المطمئن وبخاصة من ناحية اليهود الذين هم الكتلة الكتابية الكبرى في بيئتهم وأنه لم يبق ما يوجب التقاطع بينهم وبين المسلمين فكان ذلك من أسباب وحكمة التنزيل. وقد اختصصنا اليهود بالذكر لأنه لم يكن في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم كتلة كبيرة من النصارى تستطيع أن تلعب دورا مؤذيا ومناوئا كالدور الذي لعبه اليهود أولا. ولأن النصارى الذين كانوا في هذه البيئة كانوا على قدر كبير من الدمائة وحسن النّية والبعد عن المناوأة والعداء وقد اندمج معظمهم في الإسلام ثانيا. ولأن النصارى عامة كانوا إجمالا أكثر دماثة وأحسن أخلاقا وأصفى قلبا من اليهود. وقد فرقت إحدى آيات هذه السورة بين الفريقين في مواقفهما من النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته ومن المسلمين فقالت لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) . وأثنت آية في سورة الحديد على أخلاقهم ثناء محببا هو على الغالب سجل لما كان واقع غالبهم وخاصة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وهي قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ... هذا في حين احتوت آيات مدنية كثيرة تسجيلا لما كان من واقع غالب اليهود من أخلاق سيئة وقلوب قاسية وانحرافات خلقية ودينية خطيرة مما مرّ منه أمثلة كثيرة في سور البقرة وآل عمران والنساء والجمعة التي مرّ تفسيرها. وواضح أن صيغة الآية تشريعية عامة. وأن ما نبهنا عليه مما احتوته من

الحكم الظاهرة والمستنبطة شامل الاستمرار والمدى في كل ظروف المسلمين وأمكنتهم. وفي هذا ما فيه من التوجيه الحكيم في صدد التقريب والتيسير والتأليف والتأنيس بين المسلمين والكتابيين وبخاصة حينما يكون هؤلاء منسجمين مع المسلمين في تواد وتفاهم. ولا يكون منهم مواقف عدائية ومكائد ونوايا مريبة ضد المسلمين يخشى عواقبها في ظروف ومظاهر الحياة الخاصة والعامة. ولقد أورد المفسرون «1» أقوالا كثيرة معظمها معزو إلى ابن عباس وعلماء التابعين وتابعيهم في صدد ما انطوى في الآية من أحكام نوجزها ونعلّق عليها كما يلي: أولا: في صدد الطعام: 1- مع ما قلناه من أن أهل التأويل القدماء فهموا من جملة وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ أن المقصود هو ذبائحهم فقد رووا عن ابن عباس وأبي الدرداء والشعبي أن الجملة عامة الشمول. وفيها إباحة أكل جميع طعام أهل الكتاب على اختلاف أنواعه. واستدرك بعضهم فقالوا إن ما يحلّ لنا من طعامهم هو ما هو حلال لهم في شريعتهم. واستدرك آخرون فقالوا إن ما هو محرّم علينا نصّا يظل محرّما علينا لو قدموه لنا ولو كان حلالا في شريعتهم كالميتة حتف أنفها أو ما يموت من نهش السباع أو وقذا أو نطحا أو تردّيا أو خنقا ولحم الخنزير والدم المسفوح أو ما يدخل الخمر فيه من طعام وما ذبح على سبيل الميسر. وهذه المحرمات وردت في الآية الثالثة من السورة وآية أخرى وردت في هذه السورة وفيها إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) وهناك محرّمات أخرى وردت في أحاديث نبوية وأوردناها في سياق تفسير الآية [145] من سورة الأنعام. والقول الأول هو مقتضى الآية. والاستدراك الثاني هو حقّ وصواب. وتكون القاعدة أنه لا يجوز للمسلمين أن يأكلوا طعاما من أهل الكتاب محرّم

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي والطبرسي وابن كثير الزمخشري والخازن والنسفي والنيسابوري.

عليهم في كتاب الله وسنّة رسوله. أما الاستدراك الأول فلا يكون صوابا فيما نرى إلّا في نطاق الاستدراك الثاني. فالخمر عندهم غير محرم فلا يصح للمسلم تناوله أو تناول طعام مصنوع به. ولا مانع يمنع المسلمين من أكل طعام فيه شحوم بقر وغنم لأن هذه الشحوم غير محرمة على المسلمين، وإن كانت محرمة على الكتابيين في شريعتهم ونعني اليهود. ويقاس على هذا غيره مما هو محرم عندهم وغير محرم عند المسلمين. 2- وفي مسألة حلّ ذبائح أهل الكتاب أقوال، فالآية [121] من سورة الأنعام نهت عن أكل الذبائح التي لا يذكر اسم الله عليها. وبعض أهل التأويل قالوا مع ذلك بإباحة أكل الذبائح المنذورة للكنائس أو التي يذكر اسم المسيح عليها. ولقد روى البغوي عن ابن عمر أنه كان يحرّم ما ذكر اسم المسيح عليه ثم قال- البغوي- ولكن أكثر أهل العلم على حلّه. وروى- البغوي- أن الشعبي سئل عن ذلك فقال إنه حلّ. فقد أحلّ الله طعامهم وهو يعلم ما يقولون وروى المفسر نفسه عن الحسن أن اليهودي أو النصراني إذا ذبح فذكر اسم غير الله وأنت تسمع فلا تأكل وإذا غاب عنك فقد أحلّ لك. ولم نر قولا في الذبيحة التي لا يذكر الكتابي اسم الله ولا غيره عليها. وتقتضي الآية [121] من سورة الأنعام تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه. غير أن هناك أحاديث أوردناها في سياق تفسير هذه الآية تذكر أن المسلم إذا نسي ذكر الله حين الذبح لا يضره ذلك ويأكل مما ذبحه لأنه لا يؤمن إلا بالله وحده. ولا يكون عدم الذكر منه عمدا. وقد يصح أن يقال قياسا على ذلك والله أعلم أن ذبيحة الكتابي أيضا تؤكل إذا نسي أن يذكر اسم الله عليها نسيانا وغير متعمّد على اعتبار أنه يؤمن بالله صراحة أو تأويلا ويتعبّد له. وتبعا لذلك قد يكون في القول الثالث الوسط صواب وسداد. فلا يجوز لمسلم أن يأكل ذبيحة الكتابي إذا سمع أو تيقن أنه ذكر اسم غير اسم الله عليها أما في حالة الغياب وعدم التيقن أو النسيان غير المتعمد فيبقى الأصل هو الوارد وهو حلّها على اعتبار أن ذابحها مؤمن بالله. 3- وهناك قولان عن أهل التأويل في ذبائح النصارى واليهود الذين هم من

جنس عربي حيث يذهب بعضهم إلى أن جملة الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لا تنطبق عليهم فلا تحلّ ذبائحهم وحيث يذهب بعضهم إلى أن المقصد من الجملة هو الذي يدين بإحدى الديانتين ويدخل نصارى العرب ويهودهم في نطاق ذلك. وهذا هو الوجيه السديد فيما نرى والله أعلم. 4- والمؤولون يركزون أقوالهم على الذبائح في الدرجة الأولى لأن في الحيوانات ما هو محرّم علينا ولأن طريقة الذبح تتحمل التحريم والتحليل. والجمهور على أن طعام أهل الكتاب من غير الذبائح ومما لا يدخله خمر حلال للمسلمين.. وهذا سديد بل هو من باب أولى. 5- وجلّ المفسرين القدماء بل كلّهم يديرون الكلام في صدد أهل الكتاب على اليهود والنصارى. ونرجح أن ذلك بسبب الواقع المتمثل في كون هؤلاء هم المعروفون عند المسلمين المتصلون بهم. ولقد نبهنا قبل أن في القرآن قرائن قد تفيد أن كلمة أهل الكتاب أشمل من اليهود والنصارى فيكون الموقف من ذبائح أهل الملل التي تدعي أن عندها كتبا موحاة من الله عز وجل على بعض أنبيائها ويكون عليها سمة من سمات الكتب السماوية نفس الموقف من ذبائح اليهود والنصارى. وإذا كانت هذه الملل منحرفة أو كان في كتبها التي تدعي أنها سماوية مناقضات للقرآن فهذا شأن اليهود والنصارى وما في أيديهم الآن من كتب. ولقد عقد رشيد رضا فصلا طويلا على هذه المسألة انتهى فيه إلى ما انتهينا إليه. وقد ذكر أنه ورد عليه سؤال من «جاوة» في حكم الزواج من الجاويين غير المسلمين وأنه أفتاهم بالحل إذا كانت في أيديهم كتب يدعون أنها موحاة من الله على أنبيائهم. وقال إن هذا عام في من يدعي ذلك في الهند والصين واليابان أيضا. ولم يذكر رشيد رضا مسألة الذبائح وكلامه يقتضي أن تكون ذبائحهم أيضا حلالا مثل نسائهم في نطاق ما شرحناه سابقا. 6- ولقد استطرد بعض المفسرين المتأخرين قليلا إلى ذكر المجوس

والصابئين. فقال الزمخشري إن السنّة في المجوس هي أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم. ولم يذكر سندا لقوله. وأورد رواية عن ابن المسيب أنه قال: إذا كان المسلم مريضا فأمر المجوسي أن يذكر اسم الله ويذبح فلا بأس. وقال ابن كثير قولا مشابها مع إشارته إلى رأي فقيه من أصحاب الشافعي والحنبلي اسمه أبو ثور كان يقول بحل ذبائحهم ونسائهم لحديث مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ الجزية منهم وأنه قال سنّوا بهم سنة أهل الكتاب. ولأن الخلفاء الراشدين ساروا على ذلك. والحديث المذكور أورده الإمام أبو يوسف في كتاب الخراج في سياق ذكر موقف تردد وقفه عمر بن الخطاب في أخذ الجزية من المجوس وعدمه وقال ما أدري ما أصنع بهؤلاء فقال عبد الرحمن بن عوف «أشهد أن رسول الله قال سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب» «1» . وقد روى أبو يوسف حديثا طويلا آخر يفيد أن عليّ بن أبي طالب قال «إنه كان للمجوس كتاب يقرأونه فانحرفوا عنه وإن النبي أخذ الخراج منهم لكتابهم وحرّم ذبائحهم ونساءهم لشركهم» «2» والجملة الأخيرة من الحديث الطويل محلّ نظر. فاليهود والنصارى أهل كتاب. وقد انحرفوا ويعدون من ناحية ما مشركين على ما ذكرناه قبل ومع ذلك فليس هناك خلاف في حلّ ذبائحهم ونسائهم. وكتاب الخراج ليس بعد كتاب حديث. غير أن في الكتب الخمسة أحاديث تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه أخذوا الجزية من المجوس. منها حديث رواه البخاري وأبو داود والترمذي عن عبد الرحمن بن عوف قال «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر» «3» وحديث رواه الترمذي «أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس

_ (1) كتاب الخراج لأبي يوسف ص 72 و 73. (2) المصدر نفسه. (3) التاج ج 4 ص 347.

البحرين وأخذها عمر من فارس وأخذها عثمان من الفرس والبربر» «1» فإذا كان ما رواه أبو يوسف ثم أبو ثور من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال سنّوا بهم سنة أهل الكتاب صحيحا فيكون قول أبي ثور بحلّ ذبائحهم ونسائهم في محلّه. مع التنبيه على أن أخذ الجزية منهم وهو ما اقتصر حديثا البخاري وأبو داود والترمذي على ذكره لا يعني أنهم أهل كتاب. لأن هناك حديثا رواه الخمسة إلا البخاري عن بريدة وأوردناه في تعليق طويل لنا في سورة الكافرون يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز أخذ الجزية من المشركين أيضا «2» . ونذكر في هذه المناسبة أنه من المعلوم المشهور أنه كان في بلاد الفرس التي كانت مشهورة بأنها مجوسية رجل دين عظيم اسمه زرادشت وله كتاب. وننبه على أن بحث كتابية المجوسي وعدمها هو الآن في نطاق البحث النظري. لأنه ليس في بلاد الفرس الآن مجوس يؤخذ منهم جزية وأن الإسلام قد عمّها منذ أكثر من ألف عام. أما الصابئة فإن الزمخشري قال إن حكمهم عند أبي حنيفة هو حكم أهل الكتاب وإن صاحبيه قالا: إنهما صنفان صنف يقرؤون الزبور ويعبدون الملائكة وصنف لا يقرؤون ويعبدون النجوم. فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب. والمرجح أن المقصود بهذا التقسيم هم الطائفة التي كانت في بلاد العراق في زمن أبي حنيفة والتي تعرف اليوم باسم (الصبة) وليس هناك أثر نبوي وثيق في صددهم بحيث يمكن القول إن هذه الأقوال اجتهادية وتطبيقية مستمدة من واقع كان. 7- ولقد استطرد رشيد رضا إلى مسألة طعام غير أهل الكتاب من الوثنيين والمشركين فقال ما مفاده إن القرآن لم يحرم طعامهم نصّا كما حرّم نساءهم. وإن اقتصار الآية على تحليل طعام أهل الكتاب لا يعني بالضرورة تحريم طعام غيرهم. وإن كل ما هنالك أن القرآن حرّم أكل ما أهلّ لغير الله كما حرّم الميتة والدم ولحم

_ (1) التاج ج 4 ص 347. (2) انظر الحديث في التاج ج 4 ص 327 و 328.

الخنزير. فيكون هذا التحريم هو الضابط القرآني في صدد طعام غير أهل الكتاب. وهو قول سديد مع إضافة كون القرآن حرّم الخمر ويستتبع ذلك الطعام الذي يصنع به وأن هناك أحاديث حرّمت أكل حيوانات أخرى غير الخنزير أيضا. وعلى ضوء ذلك يصحّ أن يقال إن المشركين والوثنيين لو قدموا للمسلمين طعاما بدون لحم وخمر من خبز وتمر وحبوب وخضروات وفواكه وعسل وزيت وبيض جاز لهم أكله. 8- ونقول استطرادا إنه ليس في القرآن كما إنه ليس في السنّة فيما اطلعنا عليه تحريم على المسلمين إطعام غير المسلمين من غير الكتابيين من طعامهم، والحكمة الملموحة في النّص على تبادل الطعام بين المسلمين والكتابيين هي التأنيس وقصد حسن التواصل والتعايش بين الذين تجمعهم في العقيدة والمبادئ مصدر واحد وهو الله تعالى. ويبقى إطعام المسلمين لغير المسلمين من غير الكتابيين مباحا أيضا على اعتبار أن الأصل هو الإباحة والإطلاق ما لم يرد نصّ. لقد أباح القرآن للمسلمين أن يأكلوا من الأطعمة المحرمة إذا ما اضطروا على شرط الالتزام بقدر الضرورة وعدم تجاوزها وهذه الرخصة في نطاقها واردة بالنسبة لما يقدمه أهل الكتاب وغيرهم أو يضعونه من طعام ولو كان في أصله حرام على المسلمين بطبيعة الحال. وثانيا: في موضوع التزوج بالكتابيات في كتب التفسير أقوال عديدة في صدد الآية ومداها. ومعظمها وارد في الطبري نوجزها ونعلّق عليها بما يلي: 1- هناك خلاف بين المؤولين في المقصود بكلمة وَالْمُحْصَناتُ حيث قال بعضهم إنهن الحرائر وبعضهم بأنهن العفيفات. وأصحاب القول الأول لا يفرقون بين العفيفات وغير العفيفات وإنما يخرجون الإماء. وأصحاب القول الثاني لا يفرقون بين الحرائر والإماء وإنما يخرجون العفيفات. والكلمة تتحمل من حيث الاستعمال القرآني المعنيين. وقد جاء المعنيان في الآية [25] من سورة النساء هذه وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ

الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ حيث عنت كلمة وَالْمُحْصَناتُ الأولى (الحرائر) والثانية (العفيفات) . والكلمة تعني معنى ثالثا وهو (المتزوجات) وقد ورد هذا في الآية [24] من سورة النساء وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ وهذا المعنى غير وارد هنا لأن ورود الكلمة في آية النساء [24] هذه كان على سبيل تحريم التزوج بالمتزوجات وهو حكم محكم. ولقد قال الطبري بعد ما أورده من الأقوال «إن أولى الأقوال بالصواب أن كلمة وَالْمُحْصَناتُ تعني الحرائر سواء أكنّ عفيفات أم فاجرات. وأن الله جلّ ثناؤه شرط نكاح الإماء بالإيمان وأنه قد أحلّ لنا حرائر المؤمنات وإن أتين بفاحشة لقوله تعالى وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ فيكون قد أحلّ لنا حرائر أهل الكتاب وإن كنّ أتين بفاحشة. ويتبادر لنا أن ترجيحه لكون كلمة وَالْمُحْصَناتُ عنت الحرائر دون الإماء هو الأوجه لأن الآية تضمنت أن يكون التزوج بالكتابيات بمهر وعقد. وهو ما يتوقع بالنسبة للحرائر دون الإماء. ويبقى بذلك قيد الْمُؤْمِناتِ لمن يراد التزوج بهن من الإماء الوارد في آية سورة النساء [25] محكما والله تعالى أعلم. 2- ويقيّد الطبري الزواج بالكتابيات اللاتي أتين بفاحشة بتوبتهن ويقيس ذلك على جواز الزواج بالمؤمنات اللاتي يأتين بفاحشة إذا تبن. ويسوق بعض الأحاديث الصحابية في ذلك. وقد أوردنا هذه الأحاديث في سياق تفسير الآية الثالثة من سورة النور وعلقنا عليها وذكرنا ما هناك من خلاف في هذا الموضوع ورجحنا ما ذهب إليه الجمهور من جواز التزوج بالزانية إذا تابت. ونقول هنا إن كلام الطبري وقياسه صواب وسديد. والله تعالى أعلم.

3- يروي الطبري عن بعض أهل التأويل إباحة التزوج بالذميات دون الحربيات «1» وعن بعضهم أن الآية عنت أهل الكتاب الذين كانوا كذلك حين نزولها فلا تشمل من دخل في دينهم بعدها. وعن بعضهم أن الوصف هو في صدد الواقع السابق وأن الإجازة هي في صدد التزوج بالكتابية إذا أسلمت فلا يجوز التزوج بها وهي على دينها. وعن بعضهم إناطة الإجازة بتمسك الكتابيين بشرائعهم وهذا يشمل المرأة وأهلها بالدرجة الأولى. وعن بعضهم إجازة التزوج بالكتابيات غير العربيات فقط. وعن بعضهم أن الآية مطلقة تجيز التزوج بالحرائر من الكتابيات بدون قيد ولا تفريق ولا زمن. ولم نطلع على أثر نبوي في سياق هذه الأقوال حيث تكون على الأرجح اجتهادية. ومن المحتمل أن بعضها أي التي لا تجيز التزوج بالكتابية وهي على دينها مستلهمة من آية سورة البقرة [221] التي تنهى عن التزوج بالمشركات ومن آية سورة الممتحنة [10] التي تنهى عن التمسك بعصم الزوجات الكافرات. وأهل الكتاب يعدون كفارا لأنهم يجحدون رسالة النبي. وقد يعدون من ناحية ما مشركين لأن اليهود يقولون العزير ابن الله والنصارى يقولون المسيح ابن الله أو أن الله ثالث ثلاثة أو أن المسيح هو الله. غير أن جمهور المفسرين والفقهاء فهموا أن الآية هي في صدد جواز تزوج المسلم بالكتابية وهي على دينها بحيث يمكن القول إن في الآية تقييدا لآية البقرة والممتحنة وجعلهما قاصرتين على المشركات والوثنيات. 4- ونستطرد إلى القول إن بعض المتمحلين يقولون إنه ليس في القرآن نصّ على تحريم زواج المسلمات من الكتابيين. وهذا مردود. أولا بأن الآية بإباحتها زواج المسلمين بالكتابيات فقط قد انطوى فيها حصر ذلك في هذه الناحية. وثانيا

_ (1) الذمّيات هن اللائي تحت السلطان الإسلامي في البلاد الإسلامية. والحربيات هن اللائي من أهل بلاد خارجة عن سلطان الدولة الإسلامية. وقد نعتن بالحربيات لأن الدول المجاورة للدولة الإسلامية في زمن الخلفاء الراشدين والدولة الأموية والدولة العباسية كانت في حالة حرب مع الدولة الإسلامية ساخنة أو متوقفة بهدنة. ومن الجائز والمعقول أن تكون بلاد غير إسلامية ليس بينها وبين الدول الإسلامية حالة حرب وعداء. فتكون إجازة التزوج من كتابياتها واردة بل وأولى بطبيعة الحال.

بأن الآية في احتوائها جملة مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ قد قصدت تنبيه رجال المسلمين إلى أن هذه الإجازة مشروطة بأن يكون هدفهم الإحصان لا المسافحة ولا المخادنة اللتين كان النساء الكتابيات متعرضات لهما أكثر حيث ينطوي في هذا أيضا حصر الإجازة في رجال المسلمين. وثالثا باتفاق المسلمين على ذلك منذ العهد النبوي بدون خلاف ... وهناك حديث أورده المفسر القاسمي ومرويّا عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أحلّ لنا ذبائح أهل الكتاب وأحلّ لنا نساؤهم. وحرّم عليهم أن يتزوجوا نساءنا» والحديث لم يرد في الصحاح. ولكن القاسمي عالم في الحديث. والحديث بعد متوافق مع روح الآية بل وفحواها. وحكمة المنع ظاهرة فالرجل بطبيعته هو القوّام على الزوجة وهو ربّ الأسرة وإليه ينسب النسل. فالخوف منتف من وجهة نظر الشريعة الإسلامية أو كالمنتفي من تأثير الأم الديني. واحتمال الانتفاع بمزاياها واندماجها في الإسلام هو الأقوى. وهذا خلاف للحالة إذا ما عكست. وقد يضاف إلى هذا اعتبار مهم آخر. وهو أن المسلم يحترم أنبياء الكتابيين وكتبهم فليس للكتابية أن تشعر بحرج من التزوج به لأنها مطمئنة على احترامه لما تقدسه. في حين أن الكتابي لا يعترف بنبي المسلمة ولا بكتابها وبالتالي لا يحترمهما فيكون عليها حرج من التزوج به، لأنها لا تكون معه مطمئنة على ما تقدسه. 5- ويلحظ أن آية النساء [24] نبهت على وجوب استهداف الإحصان وإنشاء الأسرة وعدم قصد قضاء الشهوة أو المسافحة وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ. ولقد تكررت هذه العبارة في الآية التي نحن في صددها حيث يلمح في ذلك قصد توكيد هذا الأمر في حالة التزوج بالكتابيات أيضا وبالتالي عناية التنزيل القرآني بهذا الهدف الاجتماعي ووجوب ملاحظته في كل الحالات. والإخلال بهذا الهدف في حالة التزوج بالكتابيات أكثر توقعا فكان من الحكمة توكيده في هذا المقام مع زيادة مهمة وهي وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ أي لا يكون ذلك بقصد المخادنة. أي المخاللة. والفرق بين هذا والمسافحة أن المسافحة قد تكون عابرة وأن المخادنة قد تكون دائمة.

[سورة المائدة (5) : الآيات 6 إلى 7]

6- والسياق يجعلنا نذكر حالة أخرى في صدد الكتابيات. وهي استفراش الإماء الكتابيات من قبل مالكهن. ولقد أباحت آيات النساء [3 و 24] والمؤمنون [6] والأحزاب [50 و 52] والمعارج [30] استفراش المسلمين للإماء اللاتي يملكونهن دون تقيد بقيد المؤمنات. وهناك آثار نبوية تجيز استفراش المسلمين لما ملكت أيمانهم مطلقا أيضا أوردناها في سياق تفسير آيات سورة النساء [24 و 25] فيكون الإماء الكتابيات مشمولات بهذه الإباحة. 7- ولقد استطرد بعض المفسرين إلى المجوس والصابئة في سياق بحث الزواج أيضا. وهذه المسألة بحثناها في سياق مسألة الطعام فنكتفي بهذا التنبيه. 8- وما ذكرناه في بحث الطعام في صدد من يدعي أنه أهل كتاب من غير اليهود والنصارى ينسحب على هذا البحث. فنكتفي كذلك بهذا التنبيه. [سورة المائدة (5) : الآيات 6 الى 7] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) . تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ... إلخ والآية التالية لها وما فيهما من أحكام وتلقين ومسألة المسح على الخفين وما ورد في كل ذلك من أحاديث عبارة الآيتين واضحة. وقد احتوتا:

(1) خطابا موجها للمؤمنين يأمرهم عند قيامهم للصلاة أن يغسلوا أيديهم ووجوههم وأرجلهم ويمسحوا برؤوسهم. ويغتسلوا إذا كانوا جنبا. وإذا لم يجدوا ماء في سفر أو حضر أو كانوا مرضى يؤذيهم الماء ووجب عليهم الوضوء أو الاغتسال من الجنابة بسبب قضاء حاجتهم في الغائط للأول وملامسة النساء للثاني فيجزيهم أن يمسحوا أيديهم ووجوههم من صعيد طيب. (2) وتنبيها تعليليا بأن الله تعالى لم يرد بأمره إعناتا وإحراجا وإنما يريد تطهيرهم وإتمام نعمته عليهم. (3) وتذكيرا بما ارتبطوا به من ميثاق مع الله تعالى حينما آمنوا به وبرسالة رسوله وقالوا سمعنا وأطعنا لتوكيد القيام بما يؤمرون به وبوجوب تقوى الله الذي يعرف ما في الصدور كما يعرف الظواهر. ولقد روى الطبري حديثا موصولا إلى سعد بن أبي وقاص قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراق البول نكلّمه فلا يكلّمنا ونسلّم عليه فلا يردّ علينا حتى يأتي منزله فيتوضأ كوضوئه للصلاة فقلنا يا رسول الله نكلّمك فلا تكلّمنا ونسلّم عليك فلا تردّ علينا حتى نزلت آية الرخصة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ... إلخ. وروى البخاري ومسلم والترمذي حديثا عن عائشة جاء فيه «سقطت قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة فأناخ النبي صلى الله عليه وسلم ونزل فثنى رأسه في حجري راقدا وأقبل أبو بكر فلكزني لكزة شديدة وقال حبست الناس في قلادة. فأحسست بالموت لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أوجعني. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ وحضرت الصبح فالتمس الماء فلم يوجد فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ... إلخ فقال أسيد بن حضير لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر ما أنتم إلّا بركة لهم» «1» .

_ (1) التاج ج 4 ص 90.

وقد أورد الطبري وغيره من المفسرين هذا الحديث كسبب لنزول آية سورة النساء [43] التي فيها رخصة التيمم. وقد روى البخاري حديثا عن عائشة في صدد هذه الآية جاء فيه «هلكت قلادة لأسماء فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبها رجالا فحضرت الصلاة وليسوا على وضوء ولم يجدوا ماء فصلّوا على غير وضوء فأنزل الله تعالى آية التيمّم» «1» . والحادث متشابه في الحديثين مما قد يسوغ القول إنه واحد وإن من المستبعد أن تكون الآيتان نزلتا فيه مع بعد ما بين نزولهما. وحديث سعد بن أبي وقاص لم يرد في كتب الصحاح وليس فيه على احتمال صحته قرينة على أن الآية نزلت بسبب ما ذكر فيه. وكل ما يمكن أن يفيده أن النبي صلى الله عليه وسلم ظلّ على عادته بعدم ردّ السلام على أصحابه وهو على غير وضوء إلى أن نزلت الآية. ولما كان من المتفق عليه أن النبي صلّى الله عليه وسلم والمسلمين كانوا يتوضأون للصلاة في مكة واستمروا على ذلك في المدينة على ما شرحناه وأوردنا الآثار الواردة في صدده في سياق آية النساء المذكورة. ولما كان من الأرجح أن يكون الحادث المذكور في حديث عائشة قد وقع في ظروف نزول آية النساء على ما ذكرناه أيضا في سياق تفسيرها وشرحها. ولا سيما أن الطبري والبغوي وهما من أقدم المفسرين الذين وصل إلينا كتب تفسيرهم لم يورداه ولم يوردا رواية ما من بابه في سياق آية المائدة التي نحن في صددها. ثم لما كان من الملحوظ أن هذه الآية وحدة تامة منسجمة. فالذي يتبادر لنا أن فريقا من المسلمين أخذوا يتهاونون في أمر الوضوء والطهارة أو في أشكالهما وأركانهما أو لا يرون ذلك واجبا فاقتضت حكمة التنزيل تنزيل الآية للتوكيد ولبيان الأشكال والأركان مع ذكر رخصة التيمم لإتمام الموضوع.

_ (1) التاج ج 4 ص 82.

ويلحظ أن الآية الثانية منسجمة مع الآية الأولى ومعطوفة عليها حيث يتبادر أنها جاءت بمثابة تعقيب وتدعيم لما أمرت به الآية الأولى. وقد يكون منها تأييد لما قلناه من أن بعض المسلمين تهاونوا في أمر الوضوء والاغتسال من الجنابة فاقتضت حكمة التنزيل تذكيرهم بنعمة الله عليهم. وميثاقه الذي أخذه منهم على السمع لما يأمرهم به وطاعته. والتوكيد عليهم بتقواه وتنبيههم إلى أنه عليم بكل ما في نفوسهم بالإضافة إلى أعمالهم الظاهرة. والتناسب قائم بين الآيتين وما سبقهما من حيث القصد التشريعي. فإما أن تكونا نزلتا بعد الآيات السابقة مباشرة فوضعتا بأمر رسول الله بعدها للتناسب التشريعي والظرفي. أو وضعت بعدها للتناسب التشريعي وحسب. ونرجح على كل حال أنها نزلت بعد الآيات التي سبقتها إما فورا وإما بعد مدة ما والله تعالى أعلم. ولقد صرف بعض المؤولين جملة ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ في الآية الأولى إلى قصد تعليل إيجاب التيمم إذا فقد الماء أو آذى. ومنهم من صرفها إلى قصد تعليل إيجاب الوضوء. والجملة تتحمل المعنيين. وإن كان صرفها إلى تعليل التيمم أقوى لأنه الأقرب إليها تتضمن قصد إشعار المسلمين دائما بشعور الطهارة ووجوبها وليس للإحراج. ومهما يكن من أمر ففي الجملة معنى يصح أن يكون نبراسا يستمدّ منه المسلمون نورا وهدى في مختلف أمورهم وهو كون الله تعالى إنما يتوخى في تكاليفه ورخصه نفع المسلمين وطهارتهم ماديا وروحيا دون قصد الإحراج. وفي هذا من الجلال ما فيه. وأسلوب الآية الثانية قوي نافذ. ومع أنها موجهة إلى المؤمنين في عهد رسول الله في صدد ما أمروا به في الآية الأولى فإن إطلاق عبارتها يجعل ما احتوته

من هتاف وتذكير وتنبيه مستمر المدى شاملا لكل ما أمر الله به ورسمه ونهى عنه. ولقد قلنا إن الآثار تؤيد أن الوضوء كان ممارسا منذ وقت مبكر من العهد المكي. وفي نزول الآية الأولى متأخرة مع ممارسة الوضوء قبلها بمدة طويلة مشهد من المشاهد الكثيرة التي احتوت ممارسة النبي صلى الله عليه وسلم وتشريعاته لفروض وأمور وأعمال دينية وسياسية واجتماعية وحربية بدون وحي قرآني ثم ينزل الوحي القرآني مؤيدا لتلك الممارسة والتشريعات والأعمال. ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره عن أهل التأويل في مدى جملة وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا منها أنه الميثاق الذي أخذه الله من بني آدم على ما جاء في آية سورة الأعراف [169] ومنها أنها البيعة التي روي أن النبي أخذها من وفد الأوس والخزرج قبيل هجرته. والتي تمّت الهجرة بناء عليها والتي روي أن صيغتها هي صيغة آية الممتحنة هذه مع التذكير يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) ومنها ما عناه الحديث الذي رواه الشيخان والنسائي عن عبادة بن الصامت الذي جاء فيه «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وعلى ألا ننازع الأمر أهله وعلى أن نقول الحقّ أينما كنّا لا نخاف في الله لومة لائم. وفي رواية وعلى أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان» ومنها أنه ما اعتبر ميثاقا مأخوذا من كل مسلم على السمع والطاعة حين يعلن إسلامه وإيمانه وينضوي إلى الدين الإسلامي. ونحن نطمئن بالقول الأخير لأنه متساوق مع فحوى الآية التي شمل الهتاف بها لكل أمر ولكل مؤمن ولكل زمن. والله تعالى أعلم. ولقد أورد المفسرون في سياق الآية الأولى أحاديث نبوية بفضل الوضوء منها ما ورد في الكتب الخمسة منها حديث رواه الخمسة إلا أبا داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن أمتي يدعون يوم القيامة غرّا محجّلين من آثار الوضوء. فمن

استطاع منكم أن يطيل غرّته فليفعل» «1» وحديث رواه مسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أدلّكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات قالوا بلى يا رسول الله. قال إسباغ الوضوء على المكاره. وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط» «2» وحديث رواه مسلم عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من توضّأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره» «3» . وحديث رواه أبو داود والترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات» «4» وحديث رواه الخمسة إلا البخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يقبل الله صلاة بغير طهور. ولا صدقة من غلول» «5» . ومما لا ريب فيه أن الشريعة الإسلامية بإيجابها على كل مسلم ومسلمة غسل أطرافهما المكشوفة أكثر من مرة في اليوم والاغتسال من الجنابة التي يمكن أن تتكرر مرارا في الشهر بالإضافة إلى ما تضمنته آية سورة المدثر الثالثة من إيجاب تطهير ثيابهم. وإلى ما تضمنته الأحاديث النبوية العديدة في هذا الأمر «6» قد هدفت إلى جعل المسلمين مثالا في العناية بطهارة الجسد والثوب في موازاة ما هدفت إليه بالرسالة المحمدية في جعلهم مثالا في الطهارة الروحية على ما عبرت عنه آية سورة البقرة كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ

_ (1) التاج ج 1 ص 69. (2) المصدر نفسه ص 69 و 70. (3) المصدر نفسه. [.....] (4) التاج ج 1 ص 134 وهناك أحاديث أخرى في كتب الصحاح وغيرها فاكتفينا بما أوردناه. ويتبادر لنا على ضوء التقريرات القرآنية والنبوية أن ما ذكر في الأحاديث من الخطايا التي يغفرها الله إن شاء للمسلم إذا توضأ هي ما كان من باب اللمم والهفوات وما ليس من الكبائر وما ليس فيه حقّ الغير ماله وعرضه ودمه. وما ليس فيه إثم وفحش ظاهر وباطن. وإن قصد التشويق والتبشير من الحكمة الملموحة في الأحاديث والله أعلم. (5) المصدر نفسه ص 135. (6) أوردنا في سياق تفسير سورة الجمعة جملة من ذلك.

وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) . وآية سورة آل عمران [129] المماثلة لها. وفي كتب التفسير «1» أقوال كثيرة معزوة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه وتابعيهم في صدد ما انطوى في الآية الأولى من أحكام نوجزها ونعلق عليها بمايلي باستثناء ما ورد في الاغتسال والتيمم وكيفياته ونواقض الوضوء وموجبات الغسل ومدى ملامسة النساء حيث ألممنا بذلك في سياق جملة مماثلة في آية سورة النساء [43] : 1- اختلف في قراءة أَرْجُلَكُمْ حيث قرئت بفتح اللام وبكسرها. وترتب على ذلك خلاف. فمن قرأها بالكسر قال إن الآية أمرت بالمسح على الرجلين لأن الكلمة معطوفة على وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ومن قرأها بالفتح أوجب غسل الرجلين لأنها تكون معطوفة على الوجه واليدين. وعلّل أصحاب هذا القول تأخيرها للترتيب في عملية الوضوء حيث يكون غسل الرجلين آخرها واستندوا إلى أحاديث عن كيفية وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وغسله لرجليه سنوردها بعد. ومنها حديث رواه الخمسة عن أبي هريرة قال «أسبغوا الوضوء فإني سمعت أبا القاسم يقول: ويل للعراقيب من النار» «2» وحديث رواه مسلم وأبو داود عن عمر «أن رجلا توضّأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال ارجع فأحسن وضوءك، فرجع ثم صلّى» «3» وحديث رواه أبو داود والترمذي عن المستورد قال «رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يخلّل أصابع رجليه بخنصره» «4» . والأكثر على وجوب غسل الرجلين. وهو الأوجه فيما يتبادر لنا ولعلّ جملة إِلَى الْكَعْبَيْنِ قرينة قرآنية على ذلك حيث لا تبدو حكمة لو كان القصد مسحا.

_ (1) انظر الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري. وأكثرها استيعابا تفسير الطبري. (2) التاج ج 1 ص 92- 93. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه.

وهذا ما عليه جمهور أهل السنة. أما الشيعة فهم يقرأون لام أَرْجُلَكُمْ بالكسر ويقولون بالمسح دون الغسل. ولا يأخذون بالأحاديث التي لا يرويها أئمتهم. وقد روى الطبرسي عن إمامهم أبي جعفر أن شخصا سأله عن المسح على الرجلين فقال له هو الذي نزل به جبريل. 2- إن نصّ الآية يفيد أن الوضوء واجب على كل مسلم كلّما قام إلى الصلاة، وهناك رواية عن عكرمة أن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه كان يتوضأ عند كل صلاة ويقرأ الآية. ورواية عن ابن سيرين أن الخلفاء الراشدين كانوا يتوضأون لكل صلاة. ورواية عن عبد الله بن حنظلة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة فشقّ ذلك عليه فأمر بالسواك ورفع عنه الوضوء إلّا من حدث. ورواية عن ابن بريدة عن أبيه من طرق عديدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة فلما كان عام الفتح صلّى الصلوات بوضوء واحد ومسح على خفيه فقال له عمر: إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله. قال: عمدا فعلته» . ورواية عن عمرو بن عامر أنه سأل أنسا: أكان رسول الله يتوضأ عند كل صلاة؟ قال: نعم. قال: فأنتم؟ قال: كنا نصلّي الصلوات بوضوء واحد «2» . وروايات عديدة عن جابر بن عبد الله وابن عباس وعكرمة وأبي موسى وأبي العالية تفيد أن سنّة رسول الله وأصحابه لا توجب الوضوء إلّا بعد حدث وأنهم كانوا يصلّون بوضوء واحد أكثر من صلاة. ورواية عن أبي غطيف قال صليت مع ابن عمر الظهر فأتى مجلسا فجلست معه فلما نودي بالعصر دعا بوضوء فتوضأ ثم خرج إلى الصلاة ثم رجع إلى مجلسه فلما نودي بالمغرب دعا بوضوء فتوضأ فقلت: أسنّة ما أراك تصنع؟ قال: لا وإن كان وضوئي لصلاة الصبح كاف للصلوات كلّها ما لم أحدث ولكن سمعت رسول الله يقول من

_ (1) هذا الحديث من مرويات مسلم والترمذي وأبي داود والنسائي أيضا (التاج ج 1 ص 93) . (2) روى البخاري وأبو داود والنسائي والترمذي صيغة مقاربة لهذا الحديث (التاج ج 1 ص 193) . وهي هذه «كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة قلت كيف كنتم تصنعون قال يجزي أحدنا الوضوء ما لم يحدث» .

توضأ على طهر كتب له عشر حسنات فأنا رغبت في ذلك «1» . ويستفاد من حديثي أنس وأبي بريدة الصحيحين بخاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة. وكان أصحابه يحذون حذوه ثم ألهم التخفيف عن أمته فصلّى بوضوء واحد أكثر من صلاة. وفسر بعمله التخفيفي وجوب الوضوء عند القيام إلى الصلاة إذا كان المرء على غير طهر. وهذا ما عليه جمهور المسلمين بالتواتر الذي لم ينقطع من الصدر الإسلامي الأول وإن كان يستحبّ مع ذلك أن يتوضأ المسلم لكل صلاة طهرا على طهر. 3- والآية لا تذكر إلّا غسل الوجه واليدين ومسح الرأس وغسل الرجلين أو مسحهما على اختلاف القراءة. غير أن حديثا رواه الخمسة احتوى تفصيلا لكيفية الوضوء جاء فيه «أنّ عثمان دعا بوضوء فغسل كفّيه، ثلاث مرات ثم مضمض واستنثر ثم غسل وجه هـ ثلاث مرات ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات ثم غسل يده اليسرى مثل ذلك ثم مسح رأسه ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات ثم غسل اليسرى مثل ذلك ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا وقال من توضأ نحو وضوئي هذا ثم قام فركع ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه، وفي رواية مضمض واستنشق واستنثر بثلاث غرفات من ماء وفي أخرى مسح رأسه ثلاثا وفي أخرى مسح رأسه فأقبل بيديه وأدبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم رجع إلى المكان الذي بدأ منه» «2» . وإلى هذا فقد روى البخاري وأبو داود والترمذي حديثا عن عبد الله بن زيد «أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين» «3» - أي بدلا من ثلاث مرات لكل عمل- وحديثا عن ابن عباس «أن النبي توضأ مرة مرة» «4» . ومن الكيفيات المروية أيضا ما رواه أبو داود والترمذي عن أنس «أنس النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ كفّا من ماء فأدخله تحت حنكه فخلّل به

_ (1) أوردنا قبل حديثا فيه ذلك رواه أبو داود والترمذي. (2) التاج ج 1 ص 91- 93. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه.

لحيته وقال: هكذا أمرني ربّي» . وما رواه الاثنان عن أنس أيضا «قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأت فخلّل بين أصابع يديك ورجليك» «1» وما رواه الاثنان أيضا عن المستورد قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخلّل أصابع رجليه بخنصره» «2» وما رواه الاثنان كذلك عن ابن عباس «أنّ النبي مسح رأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما» «3» وما رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن المغيرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة وعلى الخفين» «4» وما رواه أبو داود «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أسبغ الوضوء وخلّل بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلّا أن تكون صائما» «5» . 4- وفي الأقوال المأثورة عن ابن عباس وغيره على ما جاء في الطبري والبغوي والخازن وابن كثير ما يفيد وجوب غسل المرفقين نفسهما وما يفيد عدم وجوب ذلك والاكتفاء بغسل اليدين إلى حد المرفقين. لأن صيغة الآية تتحمل هذا وتتحمل ذاك. وليس هناك أثر نبوي صريح وثابت في ذلك. وهذا جعل المسألة خلافية في المذاهب الفقهية. 5- وكما اختلف في دخول المرفقين في اليدين وعدمه اختلف في الكعبين أيضا لنفس السبب فكان غسلهما أو غسل الرجلين لحدودهما مسألة خلافية بدورها. 6- ولقد اختلف في الترتيب فمنهم من أوجبه ومنهم من لم يوجبه. والموجبون استندوا إلى ترتيب الآية من جهة وإلى الأحاديث في عملية وضوء النبي صلى الله عليه وسلم من جهة. وهو الأوجه فيما يتبادر لنا. 7- ولقد اصطلح الفقهاء على تسمية غسل الوجه واليدين والرجلين ومسح الرأس أركانا أو فروضا وبقية العملية سنّة. ومنهم من قال إن من يفعل الأركان

_ (1) التاج ج 1 ص 91- 93. [.....] (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه.

فقط يجزيه وتصح صلاته. غير أن الأكثر على كون بقية العملية المروية في الأحاديث واجبة مع الاختلاف في العدد من مرة لكل عمل إلى ثلاث بسبب اختلاف الروايات. 8- ولقد ذهب بعضهم إلى أن نية الوضوء للصلاة ركن من أركانه. وذهب بعضهم إلى عدم ضرورة ذلك. ولقد روى أبو داود والترمذي حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» «1» والمتبادر أن التسمية عند مباشرة الوضوء التي يوجبها هذا الحديث هي تعبير عملي عن النية. 9- ولقد رأى بعضهم في الآية دلالة على أن الوضوء لا يجب لغير الصلاة. وساق على ذلك حديثا رواه معزوا إلى أصحاب السنن عن عبد الله بن عباس جاء فيه «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء فقدّم إليه طعام فقالوا ألا نأتيك بوضوء فقال إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة» «2» . 10- ومن سنن الوضوء المستحبة الاستياك حيث روى مالك والبخاري حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه «لولا أن أشقّ على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كلّ وضوء» «3» ولقد روى البخاري والنسائي حديثا آخر عن عائشة قالت «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: السواك مطهرة للفم ومرضاة للربّ» «4» . 11- واختلف في كيفية مسح الرأس ومقداره، فمنهم من أوجب مسحه جميعا ومنهم من أوجب مسح بعضه أو ربعه لأن الأحاديث المروية في ذلك مختلفة على ما مرّ ذكره. 12- والمفسرون يستطردون في سياق تفسير هذه الآيات أو آية الوضوء بنوع خاص إلى ذكر المسح على الخفين. ومن المحتمل أن يكون ذلك بسبب اختلاف قراءة أَرْجُلَكُمْ ومجيء هذه الكلمة بعد جملة وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ

_ (1) التاج ج 1 ص 88- 89. (2) انظر تفسير القاسمي. (3) التاج ج 1 ص 88- 89. (4) المصدر نفسه.

حيث ذهب بعضهم إلى أنها معطوفة على هذه الجملة وأن مفهومها هو مسح الرجلين وليس غسلها على ما ذكرناه قبل. ولقد أوردوا في سياق ذلك أحاديث عديدة عن المسح على الخفين معظمها ورد في مساند الأحاديث الصحيحة «1» . وليس فيها أية إشارة إلى صلة هذه المسألة بقراءة أَرْجُلَكُمْ حيث يصحّ القول إنها تشريع نبوي للتخفيف والتيسير وأن ذكرها في سياق الآيات هو للمناسبة أو تطبيق متأخر. وأساس السنّة لبس الخفين على طهر فلا يكون بينها وبين روح الآية القرآنية تناقض. وقد أخذ بهذه السنة معظم المذاهب الإسلامية. ومن الأحاديث الواردة في المسح على الخفين حديث رواه الخمسة عن المغيرة بن شعبة «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج لحاجته فاتبعه المغيرة بإداوة فيها ماء فصبّ عليه حين فرغ من حاجته فتوضأ ومسح على الخفين وفي رواية لأبي داود أن المغيرة قال له يا رسول الله: نسيت، قال بل أنت نسيت، بهذا أمرني ربّي عزّ وجل» «2» . وحديث رواه أبو داود وأحمد والترمذي عن بريدة «أن النجاشي أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خفّين أسودين ساذجين فلبسهما ثم توضأ ومسح عليهما» «3» وحديث رواه البخاري ومسلم عن المغيرة قال «كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأهويت لأنزع خفّيه فقال دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما» «4» وحديث رواه أصحاب السنن عن المغيرة «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين والنعلين وعقّب أبو داود على ذلك فقال إن عليا وابن مسعود والبراء وأنسا وأبا أمامة وسهل بن سعد مسحوا على الجوربين. وعقّب الترمذي فقال إن سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق قالوا: «يمسح على الجوربين وإن لم تكن نعلين إذا كانا ثخينين» «5» . وقد روى أبو داود والترمذي

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير. (2) التاج ج 1 ص 94. (3) المصدر نفسه ص 94- 95. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه.

عن خزيمة بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «المسح على الخفّين للمسافر ثلاثة أيام وللمقيم يوم وليلة» «1» وروى مسلم والنسائي عن علي بن أبي طالب «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم جعل المسح على الخفين ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوما وليلة للمقيم» «2» . 14- ويناسب البحث الإلمام بأحكام المياه التي يصحّ الوضوء والاغتسال بها. وقد رويت أحاديث عديدة في ذلك منها ما ورد في الكتب الخمسة. وهذه جملة منها: 1- روى أصحاب السنن عن أبي هريرة قال «سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّا نركب البحر ونحمل القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته» «3» . 2- روى أصحاب السنن عن ابن عمر قال «سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الماء يكون في الفلاة وما ينوبه من الدوابّ والسباع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان الماء قلّتين لم يحمل الخبث» . وفي رواية «إذا بلغ الماء قلّتين بقلال هجر لم ينجسه شيء» «4» . 3- روى الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يبولنّ أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه وفي رواية ثم يتوضأ منه. وفي رواية نهى أن يبال في الماء الراكد» «5» .

_ (1) التاج ج 1 ص 94- 95. [.....] (2) المصدر نفسه. (3) التاج ج 1 ص 70 والمتبادر أنه يصح الاغتسال به من الجنابة والفقهاء يعرفون (الطهور) أنه الماء الذي يزيل الحدث. أما إذا استعمل الماء بوضوء أو اغتسال فيبقى طاهرا ولكنه لا يزيل الحدث مرة ثانية. (4) التاج ج 1 ص 71 و 72 وجملة (في رواية) في الذيل من الشارح وقال الشارح إن الشافعي قدر القلة بقربتين ونصف من قرب الحجاز. والقربة نحو مائة رطل بغدادي. وروى الشارح عن الشافعي وغيره أن الماء في هذا المقدار لا ينجس إذا وقع فيه نجاسة إذا لم تتغير أوصافه وينجس إذا تغيرت. (5) التاج ج 1 ص 72 و 73 والمتبادر أن الماء الدائم أو الماء الراكد هو الماء في البئر النبع الذي يبقى في العمق ولا يجري.

[سورة المائدة (5) : الآيات 8 إلى 10]

4- روى البخاري وأبو داود والنسائي عن ابن عمر قال «كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمان رسول الله جميعا من إناء واحد ندلي فيه أيدينا» «1» . 5- روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب. فقال كيف يفعل يا أبا هريرة. قال يتناوله تناولا» «2» . 6- روى أصحاب السنن عن كبشة أنها أحضرت لأبي قتادة ماء للوضوء فجاءت هرّة فشربت منه فأصغى لها الإناء حتى شربت فرآني أنظر إليه فقال أتعجبين يا بنت أخي فقلت نعم فقال إن رسول الله قال إنها ليست بنجس إنها من الطوّافين عليكم والطوافات» «3» . 7- روى الشافعي والبيهقي عن جابر قال «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتوضأ بما أفضلت الحمر فقال نعم وبما أفضلت السباع كلّها» «4» . وهناك أحاديث أخرى في الكتب الخمسة وغيرها. فاكتفينا بما تقدم مع التنبيه على أن في كتب التفسير والفقه خلافات وتفريعات نتيجة لتعدد الأحاديث واختلافها ورتبها وتفسيرها لا يتسع المنهج لتفصيلها. [سورة المائدة (5) : الآيات 8 الى 10] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10) .

_ (1) التاج ج 1 ص 72 و 73. (2) المصدر نفسه ص 73. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه.

تعليق على الآية يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ... والآيتين التاليتين لها

تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ ... والآيتين التاليتين لها عبارة الآيات واضحة. وقد احتوت أولاها هتافا للمسلمين بأن يكونوا قوامين لله فيما أمر ونهى ومراعين جانبه وحده في الشهادة بالقسط والحق والعمل بهما والتعاون على إقرارهما دون أن يكون لبغضهم لقوم ما تأثير يؤدي إلى الإخلال بواجب العدل والانحراف عن جادة القسط والحق. فهذا هو واجبهم وهو الأمثل بالمؤمنين. والمحقق لمعنى تقوى الله. والموجب لرضائه. وعليهم أن يلاحظوا دائما أنه خبير بكل ما يفعلونه. أما الآيتان الثانية والثالثة فقد احتوتا تعقيبا على ذلك الهتاف ودعما له وتثبيتا للمسلمين: فالذين آمنوا بالله ولزموا حدوده وعملوا الصالحات لهم المغفرة والأجر العظيم وعدا من الله. أما الذين يكفرون بالله ويكذبون بآياته وينحرفون عن حدوده فهم أصحاب الجحيم. ولقد روى الطبري أن الآية الأولى نزلت في اليهود حينما همّوا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه الرواية وروايات مقاربة من بابها مروية في تفسير الطبري وغيره كسبب لنزول الآية التي تأتي بعد هذه الآيات. ولم يرو المفسرون الآخرون فيما اطلعنا عليه رواية ما في صدد هذه الآيات. وفحوى الآيات يجعل المناسبة التي يرويها الطبري أكثر ملاءمة لنزول الآية التالية. ويحمل على التوقف فيها بالنسبة لهذه الآيات. والذي يتبادر لنا من روحها وفحواها أنها نزلت في مناسبة أخرى كان فيها خصومة أو مقاضاة بين فريق من المسلمين وآخر من غيرهم. وحاول الفريق المسلم أو عمد إلى الجنف على الفريق الثاني أو الشهادة في حقه شهادة غير صحيحة متأثرا بعدائه وبغضائه. بل وقد يخطر للبال أن يكون موضوع الآيات متصلا بالآية الثانية من السورة التي تحذر المسلمين من أن يحملهم بغضاؤهم لقوم على الإثم والعدوان والتعاون عليهما. فإن صحّ هذا أمكن القول أن الآيات جزء

[سورة المائدة (5) : آية 11]

من السلسلة السابقة التي يمكن أن تكون نزلت دفعة واحدة أو متلاحقة. وقد يبرر هذا ما بين الآيات من تماثل في الخطاب الموجّه للمؤمنين وفي الهدف التشريعي والتحذيري. وإن لم يصح فإن من المحتمل كثيرا أن تكون نزلت بعدها فوضعت بعدها أو وضعت بعدها للتناسب التشريعي. والله أعلم. والمبدأ الذي احتوته الآية الأولى متسق من حيث الأصل مع تقريرات القرآن ومبادئه التي تضمنتها آيات كثيرة مكية ومدنية. وقد جاء ما يقاربها بنوع خاص في آية سورة النساء [135] . غير أن الأسلوب الذي جاءت به الآية والتعقيب والتدعيم والتبشير والإنذار الذي جاء في الآيتين التاليتين لها يجعل ما احتوته قويا ساطعا، ويجعلها من أروع الآيات القرآنية وأبعدها مدى في مجال الحق والعدل والتجرد والنزاهة شهادة وعملا وقضاء وتطمينا. وفي واجب مراعاة جانب الله وحده في هذا المجال وعدم التأثر فيه بعداء وبغضاء وأحقاد. وإذا لوحظ أن الشنآن إنما كان على الأكثر واردا فيما بين المسلمين وغير المسلمين تجلّت روعة الآية ومداها أكثر. وهناك أحاديث عديدة في وجوب العدل والحكم به والشهادة به أوردناها في سياق الآية [135] من سورة النساء التي فيها أمر مماثل لما في هذه الآية فنكتفي بهذا التنبيه. [سورة المائدة (5) : آية 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ... إلخ وما فيها من تلقين عبارة الآية واضحة. وقد احتوت خطابا للمؤمنين تذكرهم فيه بما كان من

نعمة الله عليهم ورعايته لهم حينما همّ قوم أن يعتدوا عليهم فصرفهم عنهم. وانتهت بالأمر بتقوى الله ودعوة إلى الاتكال عليه. وقد روى الطبري من طرق عديدة وبصيغ مختلفة أن الآية نزلت في مناسبة ما كان من يهود بني النضير من التآمر على اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم حينما ذهب إليهم للاستعانة بهم على دية بعض القتلى حسب العهد الذي بينه وبينهم. وروى في الوقت نفسه أنها في صدد ما تعرّض له النبي والمسلمون من كسرة أمام الكفار يوم وقعة (بطن نخلة) أو تآمر من بعضهم على قتله. وقد نزل عليه جبريل وأخبره بذلك حتى صلوا صلاة الخوف. وروى أيضا أنها في صدد ما كان من أعرابي من نية غدر بالنبي صلى الله عليه وسلم حينما رآه تحت شجرة وهو في غرّة أثناء هذه الوقعة حيث عمد الأعرابي إلى سيف النبي المعلّق فأخذه وقال له من يمنعك مني. فقال الله. ولم يلبث أن شلّت يده وسقط السيف من يده. وجاء أصحاب رسول الله وهو على هذه الحالة وأرادوا الفتك به فمنعهم رسول الله وأطلقه. وعلى ما ذكره ابن سعد وابن هشام أيضا «1» . ويروي الطبري رواية أخرى مفادها أن الحادث هو محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم من قبل شخص أرسلته قريش بعد وقعة بدر التي كانت في السنة الثانية للهجرة. والمفسرون الآخرون أوردوا بدورهم هذه الروايات. ويلحظ أن الروايات تروي أحداثا وقعت في السنة الثانية للهجرة والآيات على ما يلهمه السياق نزلت بعد وقعتي الحديبية وخيبر. ولقد روي أن بعض خيالة قريش أرادوا أن يأخذوا المسلمين على غرة في الحديبية كما روي أن قبائل غطفان وأسد تجمعوا لغزو المدينة أثناء رحلة النبي والمسلمين إلى الحديبية على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة الفتح التي سبق تفسيرها قبل هذه السورة فكفّ الله أيديهم حيث يرد بالبال أن الآية بسبيل التذكير بمثل هذا الحادث القريب. ولعلّه الحادث الأول لأن روايته أوثق.

_ (1) انظر طبقات ابن سعد ج 3 ص 73 و 74 و 98- 100 وابن هشام ج 2 ص 214- 217 و 191- 212.

[سورة المائدة (5) : الآيات 12 إلى 14]

ويلحظ كذلك شيء من الانسجام بين الآية والآيات الثلاث السابقة لها بحيث يتبادر أنها نزلت معها على سبيل توكيد الله ومراقبته. وأن ما احتوته من إشارة إنما كانت على سبيل التذكير في موقف يؤمر المسلمون فيه بتقوى الله والتزام حدوده. ولقد انتهت الآية بالتنبيه إلى أن على المؤمنين أن يتوكلوا على الله ويعتمدوا عليه فهو كافيهم ومنجيهم من الأخطار. ومثل هذا تكرر كثيرا في الآيات المكية والمدنية لما في ذلك من معالجة روحية وبثّ للقوة المعنوية في المسلمين لمواجهة ما كانوا يتعرضون له من أخطار ومواقف محرجة. وتلقينها مستمر المدى للمسلمين في كل ظرف ومكان بطبيعة الحال على ما شرحناه شرحا وافيا في إحدى المناسبات السابقة. [سورة المائدة (5) : الآيات 12 الى 14] وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14) . (1) النقيب: لغة من نقب الشيء أي بحثه وفحصه، ونقيب القوم من يفحص ويبحث أحوالهم، ثم صار علما على رئيسهم وصاحب التوجيه والأمر فيهم.

تعليق على الآية ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا ... والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين

(2) خائنة: بمعنى خيانة. تعليق على الآية وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً ... والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين عبارة الآيات واضحة. وفيها تذكير بما كان من أمر بني إسرائيل والنصارى. وبما أخذه الله عليهم من ميثاق بالثبات على طريق الحقّ والقيام بالواجبات المفروضة عليهم وتصديق الرسل الذين يأتونهم بالهدى من قبل الله وتأييدهم. وبما كان من نقضهم لهذا الميثاق وانحرافهم عن جادة الحق والواجب. وما كان من تحريف اليهود لكلام الله. وما كان من نتيجة لذلك من استحقاقهم للعنته وتقسية قلوبهم. وما كان من نزاع وعداء وبغضاء بين النصارى واستمرار ذلك إلى يوم القيامة حيث ينبئهم الله ويفصل بينهم فيما كانوا يصنعونه. والمتبادر أن جملة فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ أسلوبية وأن الأولى أن تحمل على أن القصد منها هو تقرير كون ما قام بين النصارى من نزاع وبغضاء وعداء هو بسبب ما كان من إهمالهم ما أمروا به وانحرافهم عن طريق الحق. وروح العبارة وفحواها يدعمان ذلك. وفي الآية الثانية جملة اعتراضية فيها خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه ما يزال يطلع على خيانة من اليهود بسبيل توكيد استمرارهم فيما ارتكسوا فيه من انحرافات ونقض ميثاق باستثناء القليل منهم الذين يجب على النبي صلى الله عليه وسلم العفو والتسامح معهم لأن الله يحبّ المحسنين. ولم نطلع على مناسبة خاصة لنزول الآيات وورودها في الترتيب بعد السلسلة التشريعية يمكن أن يسوغ القول أنه قصد بها تذكير المسلمين بما كان من أمر أهل الكتاب وانحرافهم ونقضهم مواثيق الله وبما كان من نكال الله لهم باللعنة والبغضاء والعداوة وتقسية القلوب على سبيل العظة والدعوة إلى الاعتبار والتوكيد على الاستقامة على أوامر الله والتزام حدوده. وفي الآية السابعة من السورة تذكير

بميثاق الله الذي أخذه الله من المسلمين مما قد يقوي التوجيه، ويجعل صلة ما بين هذه الآية والآيات السابقة. وفي الآيات صور لواقع اليهود والنصارى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم استمرارا لما قبله من انحراف واختلاف وعداوة ومذاهب وأحزاب وقتال فيما بينهم مما حكته عنهم آيات كثيرة في سورة البقرة وآل عمران والنساء ببيانات أوفى وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار. ولقد ذكر الطبري عزوا إلى ابن إسحاق خبر الاثني عشر نقيبا الذين أمر الله موسى إقامتهم ليكونوا كفلاء على قومهم ثم ذكر أن موسى أرسلهم للتجسس على الأرض المقدسة وذكر أسماءهم. وذكر ذلك ابن كثير أيضا وأورد نفس الأسماء ثم قال إنه رأى في السفر الرابع من التوراة أسماء غير هذه الأسماء وأوردها. وفي سفر العدد المتداول اليوم وهو فعلا السفر الرابع من أسفار العهد القديم خبران مستقلان. واحد في الإصحاح الثاني منه يذكر خبر أمر الله لموسى بإقامة رئيس على كل سبط من أسباط بني إسرائيل الاثني عشر وأسماءهم الذين يذكر أن الله أوحى بها. وثان في الإصحاح الثالث عشر منه يذكر أن الله أوحى لموسى بانتداب رجل من كل سبط ليذهبوا ويتجسسوا على أرض كنعان. والأسماء المذكورة في صدد كل خبر مختلفة. والسفر يذكر أن الله أوحى بأسماء الخبر الأول فقط. والأسماء التي أوردها الطبري هي أسماء الخبر الثاني حيث يبدو أن ابن إسحاق الذي يعزو الطبري إليه مزج الخبرين وسمى أسماء الخبر الثاني. وأن ابن كثير ظن أنه صحح الأسماء. ولم ينتبه إلى أن في السفر خبرين لكل منهما أسماء مختلفة عن الآخر. والمتبادر أن الاثني عشر نقيبا المذكور خبرهم في الآيات هم الذين ذكر خبرهم في الإصحاح الثاني من سفر العدد لأنهم انتدبوا بوحي الله كما ذكر الإصحاح ليكونوا رؤساء لأسباطهم. ولم نر ضرورة إلى ذكر الأسماء لأن الهدف القرآني لا يقتضيه. وفي أسفار الخروج والأحبار والعدد وتثنية الاشتراع المتداولة اليوم والتي

[سورة المائدة (5) : الآيات 15 إلى 16]

تؤرخ رسالة موسى وهارون وسيرتهما وسيرة بني إسرائيل في عهدهما ثم في أسفار عديدة أخرى مما يعود إلى حقبة ما بعد موسى وهارون من أسفار العهد القديم فصول كثيرة عن لسان الله مبلغة بواسطة موسى وأنبياء بني إسرائيل الآخرين لبني إسرائيل فيها وصايا متنوعة في التزام توحيد الله وعبادته وحده والأعمال الصالحة واجتناب الشرك والأصنام والأعمال السيئة. وفي إنذار الذين ينحرفون عن ذلك عليها سمة الوحي الرباني. وفي الأناجيل المتداولة التي تحكي رسالة وسيرة المسيح عليه السلام فصول كثيرة من هذا الباب أيضا مبلّغة من المسيح لبني إسرائيل وغيرهم ممن اتبع المسيح ولم يتبعه على سمة الوحي الرباني كذلك. فالمتبادر أن ذلك هو المواثيق التي ذكرت الآيات أن الله تعالى قد أخذها من نقباء بني إسرائيل وأسباطهم ومن النصارى فانحرف معظمهم عنها فاستحقوا ما تضمنته الآيات من اللعنة والتنديد والإنذار. ولقد لحظ بعض المفسرين عدد النقباء في الآية ولحظوا أن المسيح عليه السلام اتخذ مثل عددهم تلامذة وحواريين على ما شرحناه في سياق تفسير سورة آل عمران. وأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل على جماعات الخزرج والأوس حينما بايعوه بيعة العقبة الثانية اثني عشر نقيبا على ما شرحناه في سياق سورة الأنفال حيث رأوا في هذا إلهاما ربّانيا متوافقا مع ما كان من ذلك بالنسبة لموسى أولا ولعيسى ثانيا عليهما السلام والله تعالى أعلم. [سورة المائدة (5) : الآيات 15 الى 16] يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) .

تعليق على الآية يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا ... إلخ والآية التالية لها. ومدى ما فيها من دعوة صريحة لأهل الكتاب وروعة أسلوبها وهدفها ورسل النبي صلى الله عليه وسلم وكتبه إلى ملوكهم. ومسألة تحريف وإخفاء الكتب السماوية السابقة

تعليق على الآية يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً ... إلخ والآية التالية لها. ومدى ما فيها من دعوة صريحة لأهل الكتاب وروعة أسلوبها وهدفها ورسل النبي صلى الله عليه وسلم وكتبه إلى ملوكهم. ومسألة تحريف وإخفاء الكتب السماوية السابقة الآيتان موجهتان إلى أهل الكتاب وعبارتهما واضحة. وفيهما إيذان لهم بأنه قد جاءهم رسول الله ليبين لهم كثيرا مما أخفوا وأهملوا من كتاب الله وأحكامه. وليتسامح معهم في أمور كثيرة. ومعه كتاب من الله ونور مبين من شأنهما هداية من حسنت نيته ورغب في رضاء الله ورضوانه إلى سبيل الأمن والسلام والطريق المستقيم وأخرجهم من الظلمات إلى النور. وينطوي في العبارة القرآنية تقرير كون ما جاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتاب ونور كفيلين بإنقاذ أهل الكتاب المخاطبين من الخلافات والإشكالات والانحرافات التي ارتكسوا فيها فأدّت إلى النتائج التي ذكرتها الآيات السابقة. ولقد روى الطبري عن عكرمة أن يهودا جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه عن الرجم واجتمعوا في بيت فقال لهم أيّكم أعلم فأشاروا إلى ابن صوريا فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى ورفع الطور وبالمواثيق التي أخذت عليهم أن يقول الحق. فقال إن نساءنا نساء حسان فكثر فينا القتل فاختصرنا.. فجلدنا مائة وحلقنا الرؤوس وخالفنا بين الرؤوس إلى الدواب. فحكم النبي صلى الله عليه وسلم على الزاني منهم بالرجم فأنزل الله يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ الآية وأنزل فيهم كذلك هذه الآية وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ [76] . والآية الثانية من آيات سورة البقرة. وجعلنا كمناسبة للرواية غريب. وروي مثل هذه الرواية كمناسبة لنزول آيات أخرى من هذه السورة. وفحوى الآيتين اللتين نحن في صددهما والسياق السابق لهما

يسوغ التوقف في الرواية والقول إن الآيتين متصلتان بما سبقهما وإنهما جاءتا على سبيل الاستطراد إلى دعوة أهل الكتاب عقب الآيات الثلاث التي احتوت حكاية ما كان من نقض اليهود والنصارى لمواثيق الله وانحرافهم عنها وتعرضهم لسخط الله ونقمته بسبب ذلك وتقرير ما كان من واقع أمرهم عند نزولها لتهيب بهم إلى الانضواء إلى ما جاء به رسول الله والاهتداء بهدي نور الله وكتابه. وأسلوب الدعوة في الآيتين قوي موجّه إلى العقل والقلب معا كما هو ظاهر. والمتبادر أنه ينطوي فيه قصد التأنيس والتذكير بما يجمع بين هذه الدعوة وأهل الكتاب من رسالات الله وكتبه ومواثيقه. وتقرير كونها بمثابة إنقاذ لهم مما هم فيه من خلاف ونزاع. وفرصة للسير في طريق الأمن والسلام. ودعوة أهل الكتاب في هذه الآيات إلى الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وسلم المصدقة لما عندهم ليست جديدة. فقد تكررت في القرآن المكي والمدني بأساليب متنوعة قبل هذه المرة. غير أنه يلحظ أنها جاءت هنا صريحة أكثر في بيان كون رسول الله قد أرسل إليهم وكون القرآن نورا وهدى لهم وأكثر تعميما وتوجيها في الخطاب. ولما كان فريق من أهل الكتاب من اليهود والنصارى قد آمنوا قبل نزول هذه الآية بالرسالة المحمدية في مكة ثم في المدينة نتيجة للدعوة السابقة ولما رآه الذين آمنوا من تطابق بينها وبين ما عندهم على ما ذكرته آيات عديدة مكية ومدنية أوردناها في مناسبات سابقة فتكون الدعوة في الآية استئنافية موجهة إلى الذين لم يؤمنوا بعد لأسباب متنوعة نبهنا عليها كذلك في مناسبات سابقة. ومن الغريب أن تكون هذه الصراحة في هذه الآية- وقد جاء بعد قليل آية أخرى فيها صراحة قوية بأسلوب آخر- ثم يصرّ المبشرون وبعض المستشرقين على القول إن ما في القرآن من نصوص لا يدلّ على شمول رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لغير العرب من الملل والنحل الأخرى. بل وإننا لنرى في هاتين الآيتين وفي الآية التي تأتي بعد قليل ما يمكن أن يكون فيه تأييد لما روته الروايات من إرسال النبي صلى الله عليه وسلم رسله وكتبه

إلى ملوك الأقطار المجاورة لجزيرة العرب وأكثرهم نصارى وهم ملوك الروم ومصر والحبشة وغسان والفرس يبلغهم أنه رسول الله إليهم ويدعوهم إلى الإسلام من حيث إن هذه الآيات وأمثالها وبخاصة الآيتين [66- 67] من هذه السورة اللتين سوف نشرحهما في مناسبتهما هي التي حفزت النبي صلى الله عليه وسلم إلى خطوات عملية في سبيل تبليغ دعوته إليهم وإلى غيرهم من ملوك وأمراء وزعماء الأنحاء البعيدة عن الحجاز من جزيرة العرب مثل اليمن وحضرموت والبحرين وعمان. والروايات تذكر «1» أن هذا الأمر قد وقع بعد صلح الحديبية وفراغ بال النبي من قريش واليهود في المدينة والمقري الأخرى. وهذه الآيات قد نزلت على ما يلهمه سياق السلسلة منذ بدء السورة بعد صلح الحديبية. ولقد أثرت نصوص مختلفة لكتاب الدعوة الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم للملوك وأشهرها هذا النصّ المعنون إلى هرقل (بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، السلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام. أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين. فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين «2» يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) [آل عمران: 64] ) » . ونحن نعرف أن بعض المستشرقين يشككون في ذلك بسبب ثغرات وعلل زعموها في النصوص العديدة المروية. بل وبعضهم يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم

_ (1) انظر ابن سعد ج 2 ص 23- 27 وابن هشام ج 4 ص 278- 280 وكتاب الأموال للإمام القاسم أبي عبيد ص 20- 22. والخبر ورد في سياق طويل رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس وأوردناه في سياق تفسير الآية [64] من سورة آل عمران. (2) فسر الإمام أبو عبيد الأريسيين بالأتباع والرعية. (3) هذا النص وارد في الحديث الطويل المذكور الذي يرويه البخاري ومسلم عن ابن عباس انظره في التاج ج 4 ص 65- 69.

تعليق على الآية يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب وما ينطوي فيها من قرائن وصور

لم يكن يفكر في خارج الحجاز أو على أبعد تقدير في خارج الجزيرة. ولم يكن ليجرأ على إرسال رسل وكتب إلى أكبر ملوك الأرض إذ ذاك. والثغرات المزعومة ليس من شأنها نفي أصل الخبر الذي أجمعت عليه الروايات القديمة. والقول بعدم التفكير في خارج الجزيرة يكذّبه ما يكاد يكون يقينيا من الجيش الذي سيره النبي صلى الله عليه وسلم في الظروف التي رويت فيها الروايات إلى مؤتة في البلقاء للانتقام من الذين قتلوا بعض رسل النبي صلى الله عليه وسلم ومن الجيش العظيم الذي قاده بنفسه إلى تبوك لتأديب قبائل النصارى في مشارف الشام ومقابلة ما بلغه من تجمع الروم لغزو المدينة نتيجة لغزوة مؤتة. أما القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليجرأ على إرسال رسله إلى ملوك الأرض فهو هراء بالنسبة إلى صاحب دعوة مؤمن بدعوته أعمق الإيمان ومستغرق فيها أشدّ الاستغراق ومعتقد بواجبه بنشرها في مشارق الأرض ومغاربها وإبلاغها لجميع البشر تنفيذا لأمر ربه القرآني أقوى الاعتقاد. وقد رأى علماء اليهود الراسخين في العلم قد آمنوا بها ورأى النصارى الذين هم في الحجاز قد آمنوا بها ورأى وفود النصارى الذين فيهم القسيسون والرهبان قد آمنوا بها وقد فاضت أعينهم بالدموع مما عرفوا فيها من الحق على ما ذكرته الآيات العديدة التي أوردناها في مناسبات سابقة وبخاصة في مناسبة تفسير آية الأعراف [157] . تعليق على الآية يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وما ينطوي فيها من قرائن وصور هذا، وجملة يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ جديرة بالتنبيه من حيث انطواؤها على تقرير كون أهل الكتاب كانوا يخفون كثيرا مما عندهم من كتب الله. ومع أن

تقرير القرآن فوق مستوى أي شكّ في صحته مبدئيا فإننا لا نشكّ في أن ذلك كان مما ثبت بوقائع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أهل الكتاب أيضا. ولعلّ أمر القرآن للنبي بتحدّي اليهود بالإتيان بالتوراة في موقف من مواقف مكابرة لهم على ما جاء في آيات سورة الأعراف [93 و 94] حيث شرحناه من الدلائل الحاسمة بالنسبة لليهود بخاصة. ولقد آمن فريق من أهل الكتاب بالرسالة المحمدية وبالقرآن لأنهم وجدوا بينهما وبين ما عندهم من الكتاب تطابقا وتوافقا على ما قررته آيات قرآنية عديدة منها آية الأعراف هذه الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [157] وآيات القصص هذه الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) وآيات المائدة هذه وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) «1» . ولقد قلنا قبل إن هذه الدعوة المستأنفة هي موجهة بخاصة للذين لم يكونوا قد آمنوا بعد من أهل الكتاب. فتكون الجملة قد عنت هؤلاء في الدرجة الأولى. والمتبادر أنهم كانوا ينكرون كثيرا مما عندهم ويخفونه بدافع البغي والمكابرة ولئلا يكون للنبي صلى الله عليه وسلم حجة عليهم مما أشارت إليه آيات عديدة منها آيات البقرة هذه وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا

_ (1) اقرأ أيضا آيات آل عمران [113- 114 و 199] والنساء [161] والأنعام [114] والرعد [36] والإسراء [107 و 108] والعنكبوت [47] ففيها شواهد أخرى على إيمان جماعات من أهل الكتاب وأهل العلم والراسخين في العلم بالقرآن والرسالة المحمدية وفرحهم بهما وتصديقهم بأنهما من عند الله تعالى.

بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) وهذه وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) وآيات آل عمران وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وفي آيات سورة آل عمران [93 و 94] شاهد قوي حاسم. ولقد اتهم القرآن الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب بتحريف ما عندهم من كتب لنفس الدافع على ما جاء في آيات عديدة منها آيات البقرة هذه أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) ومنها آية سورة النساء هذه مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ [46] وآية سورة المائدة [14] التي مرت قبل قليل. فجاءت هذه الجملة لتدمغهم بالإضافة إلى ذلك بإخفاء كثير مما عندهم وإنكاره أيضا لنفس الدافع. ولقد كان إيمان الذين آمنوا منهم فاضحا لهم في العملين معا ومصداقا لما قرره القرآن من ذلك بطبيعة الحال. وقد يكون في هذا وذاك من ناحية ما تأييد لما فتئنا ننبه عليه من أن ما جاء في القرآن من تقريرات إيمانية وقصص متصلة بتاريخ وعقائد أهل الكتاب ولم يرد في أسفار أهل الكتاب المتداولة اليوم هو من جملة ما كان في أيديهم وما كانوا يخفونه أو يحرفونه بسبيل الإنكار والمكابرة. وقد ظلّ هذا دأب الذين لم يؤمنوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم. ثم عدت عليه العوادي أو أبيد نتيجة لذلك فلم يصل إلى زمننا. وفي أسفار العهد القديم المتداولة اليوم دلائل عديدة على أنه كان هناك أسفار

[سورة المائدة (5) : آية 17]

أخرى لم تصل إلينا على ما ذكرناه وسميناه في تعليقنا على كلمة التوراة في سياق الآية [157] من سورة الأعراف. فيكون في ذلك دلالة من كتبهم التي يتداولونها ويقدسونها على ما قلناه. وإذا كان كثيرا مما تقدم نتيجة إلى اليهود فإنه وبخاصة الآيات التي نحن في صددها ثم آيات القصص والأعراف يصدق على النصارى أيضا. وآيات سورة المائدة [82 و 83] التي أوردناها تنطوي بخاصة على موقف فريق من النصارى بصراحة. ومع ذلك ففي تعليقنا على كلمة الإنجيل في سياق آية الأعراف [157] أوردنا كثيرا من الشواهد التي نحن في صددها على كون النصارى أيضا كانوا يخفون ويبعدون ويحرفون كثيرا من أسفار وقراطيس نتيجة لما كان بينهم من خلاف وشقاق ونزاع. وكان كل فريق منهم يتهم الفريق الآخر بتحريف ما في يده من كتب وقراطيس «1» وكان عدد الأناجيل كبيرا جدا حتى ليصل في بعض الروايات إلى عشرين وبعضها إلى أكثر فاختفى معظمها أو باد أو أبيد. وكان ذلك قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. والنص القرآني صريح بأن ذلك كان قد امتد إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم. وإذ أن طوائف كثيرة لم تؤمن بالنبي وظلّت على خلاف وشقاق فيما بينهم أيضا بعده فيكون ذلك قد امتد إلى ما بعد النبي صلى الله عليه وسلم أيضا. [سورة المائدة (5) : آية 17] لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) .

_ (1) انظر كتاب دليل الحيارى للإمام ابن قيم الجوزية والجزء الثالث من تاريخ سورية للدبس وكتابنا القرآن والمبشّرون. وقد عقد رشيد رضا في تفسيره في سياق هذه الآية فصلا طويلا على تاريخ الأناجيل وما طرأ عليها من تحريفات. وفعل مثل ذلك في سياق تفسير الآيات المماثلة في هذه السورة وفي سورة البقرة وآل عمران والنساء فليرجع إليها من أراد التوسع والاطلاع أيضا. [.....]

تعليق على الآية لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ... إلخ

تعليق على الآية لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ... إلخ عبارة الآية واضحة. وفيها بيان لأحد انحرافات النصارى وتقرير كون الذين يقولون إن الله هو المسيح ابن مريم كفارا بالله عزّ وجل. وسؤال في معرض التحدي موجّه إلى العقول والقلوب معا عما إذا كان أحد يستطيع أن يمنع الله عزّ وجل أن يهلك المسيح وأمّه ومن في الأرض جميعا. فهو صاحب ملك السموات والأرض وما بينهما خالق كلّ شيء والقادر على كل شيء. ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية لنزول هذه الآية أيضا. ويتبادر لنا أنها متصلة بالآيات السابقة سياقا وموضوعا وأنها هي الأخرى جاءت استطرادية لتشير إلى أحد انحرافات النصارى التي ارتكسوا فيها بقولهم إن الله هو المسيح نفسه بسبب عدم إدراكهم ما جاء به عيسى عليه السلام الذي أدى إلى ما أدى إليه من دبيب الخلاف والانقسامات والعداوة والبغضاء بينهم. والآية صريحة بأن النصارى كانوا حينما نزلت يعتقدون أن الله تعالى هو المسيح. والمشهور الذي تفيده سلسلة آيات سورة مريم [16- 26] التي سبق تفسيرها أنهم كانوا وما يزالون يعتقدون أنه ابن الله. ومن المشهور أيضا أنهم كانوا وما يزالون يعتقدون أن المسيح هو أحد الأقانيم الثلاثة لله الواحد. وهذا قد يستفاد من آية سورة النساء [171] ومن آيات أخرى في هذه السورة تأتي بعد. غير أن ما نقلناه عن إنجيل لوقا في سياق تفسير سورة مريم من قصة بشارة الملك لمريم بالمسيح كغلام لها وحبلها به وولادته ورسالته يستتبع أن الله تعالى الذي هو عندهم أقنوم الأب كان شيئا آخر بشكل ما غير المسيح أقنوم الابن حينما حبلت به مريم ثم وضعته إنسانا ونشأ وعاش في الدنيا كذلك. ولقد حكت الأناجيل على ما أوردناه في سياق سورة مريم أقوال المسيح التي منها أن أباه الذي في السموات هو الذي أرسله وأنه يفعل ويقول ما يأمره به حيث تستحكم العبارة القرآنية هنا في عقيدة النصارى بأن الله هو المسيح استحكاما

[سورة المائدة (5) : آية 18]

مفحما قويا. ولا سيما إنه كان بين النصارى من يعتقد أن المسيح لا يتساوى على أي حال في ألوهيته مع الله وأن طبيعته اللاهوتية والناسوتية ممتزجة بحيث لا يكون إلها كاملا ولا إنسانا كاملا. وكان هؤلاء أكثرية نصارى بلاد الشام ومصر والعراق في زمن النبي صلى الله عليه وسلم المعروفين باليعقوبيين والنسطوريين بالإضافة إلى مذاهب النصارى الأخرى فيه على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة مريم. هذا والمتبادر أن الفقرة الأخيرة هي في صدد الردّ على ما في جعل ولادة المسيح الإعجازية سببا للاعتقاد بألوهيته أو نبوّته أو جزئية إلهيته له أو دليلا عليه من حجة قاصرة في سبيل الإفحام أيضا. ولقد نبهنا في سياق وتفسير آيات النساء [171 و 172] إلى مزاعم بعضهم بكون الأقانيم هي صفات الله مثل صفات (الحيّ القيّوم العالم) التي وصف بها الله في القرآن ونبهنا على ما في هذا من تهافت ومغايرة لما جاء في الأناجيل نفسها فنكتفي هنا بهذه الإشارة. [سورة المائدة (5) : آية 18] وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) . تعليق على الآية وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ... إلخ عبارة الآية واضحة كذلك. وفيها حكاية لما كان يدعيه اليهود والنصارى من أنهم أولياء الله وذوو الحظوة عنده. وردّ إنكاري فيه تحدّ وإفحام. فالله يعذبهم كما يعذب غيرهم ولو كانوا كما يدعون لما كان ذلك. وإنهم لبشر كسائر البشر معرضون لغضب الله ورضائه وفاق أعمالهم. وإليه مصيرهم فيجزيهم عليها. وقد روى الطبري أن جماعة من اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فكلّموه وكلّمهم

ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته فقالوا ما تخوّفنا يا محمد نحن والله أبناء الله وأحبّاؤه فأنزل الله الآية وتابعه المفسرون الآخرون في رواية الرواية. ويلحظ أن الآية قد حكت قولا مشتركا منسوبا إلى اليهود والنصارى معا مما يسوغ القول أكثر أنها استمرار للسياق الاستطرادي. وأن أسلوبها وضمير الجمع المخاطب فيها من قبيل حكاية الحال والجواب عليها مما هو مألوف في النظم القرآني. وقد مرت منه أمثلة كثيرة. ولا يمنع هذا أن يكون هذا القول صدر من بعض اليهود في موقف ما وأن يكون صدر كذلك من بعض النصارى أيضا فاقتضت حكمة التنزيل حكايته في هذا السياق. والمتبادر أن هذا القول الذي كان يصدر عن اليهود والنصارى كان يصدر في معرض التبجح بأنهم على هدى من الله وبأنهم مستغنون عن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وهداه ردا على مخاطبتهم وتوجيه الدعوة إليهم بتصديق الرسالة المحمدية. وأسلوب الردّ قوي مفحم وبخاصة في هتافه بهم بأنهم ليسوا إلّا أناسا كسائر الناس فيهم قابلية الهدى والضلال والصلاح والخطأ. ولقد حكت آيات عديدة في سورة البقرة وآل عمران والجمعة تبجحات اليهود بأنهم أولياء الله من دون الناس وبأن الدار الآخرة خالصة لهم وبأنهم لن تمسّهم النار إلّا أياما معدودات كما حكت آيات أخرى في سورة البقرة تبجحات النصارى واليهود معا بأنه لن يدخل الجنة إلّا من كان على دينهم وأن من أراد الهدى فعليه أن يكون على دينهم. وتكرر الحكاية يدل على تكرر المواقف بطبيعة الحال. والقول المحكي وإن كان مطلقا فالمتبادر أنه قول الذين كانوا يصرّون على رفض الإجابة إلى الدعوة المحمدية ويقفون منها موقف العناد منهم. وقد ارعوى كثير منهم فآمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل الله عليه وتابعوه على ما ذكرته آيات عديدة مكية ومدنية أوردناها في مناسبات سابقة. ولقد كان اليهود يزعمون أنهم شعب الله المختار وينعتون الله بربّ إسرائيل وينسبون إليه الوعود المتنوعة بالعناية بهم ورعايتهم في مختلف الظروف على

[سورة المائدة (5) : آية 19]

ما يستفاد من أسفار العهد القديم المتداولة المكتوبة بأقلام متأخرة بعد موسى عليه السلام والتي تأثرت كتابتها بأحداثهم وعقدهم على ما نبهنا عليه في تعليقنا على كلمة التوراة في سياق الآية [157] من سورة الأعراف. ولقد كان النصارى يقرأون في الأناجيل المكتوبة بدورها بأقلام متأخرة بعد عيسى عليه السلام أن الذين يؤمنون بعيسى وتعاليمه يدعون أبناء الله وأن المسيح كان ينعت الله بأنه أبوهم الذي في السموات. فالمتبادر أن هذا وذاك أيضا مما كان يحفز الذين ظلوا مناوئين للرسالة المحمدية من الطائفتين إلى ذلك التبجح ويتخذونه ذريعة للمناوأة. فردّت عليهم الآية بالردّ القوي المفحم. [سورة المائدة (5) : آية 19] يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) . (1) أن تقولوا: لئلا تقولوا. تعليق على الآية يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ... إلخ عبارة الآية واضحة كذلك. وفيها عودة إلى توجيه الخطاب إلى أهل الكتاب مع تعليل جديد. فقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم على فترة وانقطاع من مجيء الرسل ليجدد عهد الله ويبين لهم حدوده. ويدعوهم إلى السير في نطاق ذلك حتى لا يبقى لهم حجة في البقاء على ما هم فيه من انحراف وشذوذ وانقسام. وحتى لا يقولوا إنه لم يأتهم بشير ونذير يبيّن لهم ما هم عليه من خطأ وضلال. والجملة الأخيرة في مقامها ذات مفهوم جديد. فالله قدير على كل شيء. ولا يحدّ قدرته شيء. وهو الذي أرسل الرسل الأولين الذين يعترفون بهم. وليس بدعا على قدرته أن يرسل رسولا من جديد. ولقد روى الطبري أن معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب قالوا

لليهود: اتقوا الله فو الله إنكم لتعلمون أنه رسول الله، ولقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه لنا بصفته. فقال رافع بن حرملة ووهب بن يهوذا: ما قلنا لكم هذا وما أنزل الله من كتاب بعد موسى ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا بعده فأنزل الله الآية. ويلحظ أن الآية موجهة إلى أهل الكتاب مثل الآية [15] المقاربة لها في الصيغة، حيث يتبادر أكثر أن تكون استمرارا في السياق الاستطرادي وجزءا منه. وهذا لا يمنع أن يكون الجماعة المذكورون في الرواية قد قالوا لجماعة اليهود ما قالوا وأن جماعة اليهود قد ردّوا عليهم بما ردّوا في موقف ما. وأسلوب الآية قوي في صدد الدعوة المحمدية وتوجيهها إلى أهل الكتاب. وفيه صراحة تدعم صراحة الآية [15] في شمول الدعوة لأهل الكتاب فضلا عن غيرهم. وعلى ضوء ما جاء في الآيتين [15- 16] يصحّ القول إنهما في صدد تقرير أن حكمة الله تعالى قد اقتضت إرسال محمد صلى الله عليه وسلم بعد فترة انقطاع الرسل بالنور والكتاب المبين ليبيّن للناس وبخاصة لأهل الكتاب حدود ويحلّ مشاكلهم ويصحح انحرافاتهم ويستجيب إلى حاجاتهم ويجمعهم جميعا تحت لواء الدين الحق الذي أرسله الله به. والآية قد جمعت تعابير (الرسول) و (البشير) و (النذير) معا على معنى أن مهمة الرسول هي التبشير والإنذار. وفي هذا ردّ على ما قاله بعض المستشرقين اعتباطا من أن القرآن كان يفرّق بين معاني النذير والرسول وأنّه مرّ على النبي صلى الله عليه وسلم فترة كان يتحاشى فيها أن يقول بأنه رسول ويكتفي بالقول إنه نذير ومنذر مع أن هذا غير صحيح أيضا لأن القرآن وصف النبي بالرسول منذ وقت مبكر في مكة وفي أوائل ما نزل من السور (الآية 15 من سورة المزمل) ثم تكرر وصفه بالرسالة في آيات كثيرة أخرى مكية ولأن في القرآن المكي آيات كثيرة تفيد أن التبشير والإنذار هما مهمة الرسول. هذا، والسلسلة التي تبتدئ بالآية [12] مصبوبة كلّها على كون مفهوم (أهل الكتاب) هم اليهود والنصارى. وفي هذا تدعيم لما قلناه في آخر تفسير الآية [5] .

[سورة المائدة (5) : الآيات 20 إلى 26]

ولقد شاءت حكمة الله تعالى أن يكون هذا الرسول البشير النذير الذي هو خاتم النبيين كما جاء في الآية [40] من سورة الأحزاب. وأن يكون هذا الدين هو جماع الهدى والحق ليكون دين الإنسانية جميعا ويظهر على الدين كلّه كما جاء في آية سورة الفتح [28] والصف [9] فشاءت حكمته تبعا لذلك أن يكون كاملا تاما مستجيبا لكل حاجات البشر وحالا لكلّ مشاكلهم على اختلاف مستوياتها وأنواعها كما جاء في الآية الثالثة من هذه السورة وآيات سورة النحل [89] والأنعام [38] والأعراف [157] . وكان في ذلك كلّه أعظم شرف للجنس العربي في دور عروبته الصريحة لأنه منه وكتابه بلغته. وقد حمل بذلك أعظم وأشرف رسالة ومسؤولية إنسانية خالدة. ولقد روى الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلّا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون ويقولون هلّا وضعت هذه اللبنة قال فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين» «1» ولقد روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» «2» . وهذا الحديث يساق في سياق الآيات التي نحن في صددها التي تهتف بأهل الكتاب الذين يستفاد من السياق السابق أن المقصود بهم اليهود والنصارى وأنه قد جاءهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم نذيرا وبشيرا على فترة من الرسل لئلّا يقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير وينبغي أن لا يكون هذا الحديث والحالة هذه حاجبا للحقيقة القرآنية المقررة في آيات كثيرة بأن مصير غيرهم من جميع النحل والملل والفئات الذين يسمعون بالنبي ولا يؤمنون به هو نفس المصير. [سورة المائدة (5) : الآيات 20 الى 26] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26) .

_ (1) التاج ج 3 ص 205. (2) التاج ج 1 ص 20.

تعليق على الآية وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمت الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا ... والآيات الست التي بعدها وما فيها من تلقين. ورد على تضليل اليهود بأن القرآن قد أقر بأن الله تعالى كتب لهم الأرض المقدسة على التأبيد. وما كتبه عل

(1) وجعلكم ملوكا: أكثر المفسرين على أن هذا التعبير قد قصد به ما تيسر لبني إسرائيل بعد خروجهم من مصر من الحرية وملك النفس بعد العبودية لفرعون مصر. وأوردوا حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه «من كان له بيت وخادم فهو ملك» وقد يوجّه هذا إطلاق العبارة على جميع بني إسرائيل. (2) من الذين يخافون: هنا محذوف مقدر أي يخافون الله. (3) أنعم الله عليهما: وهنا أيضا محذوف مقدر أي شملهما الله بنعمة الهدى والتقوى والتثبيت والاعتماد على الله. تعليق على الآية وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً ... والآيات الست التي بعدها وما فيها من تلقين. وردّ على تضليل اليهود بأن القرآن قد أقرّ بأن الله تعالى كتب لهم الأرض المقدسة على التأبيد. وما كتبه عليهم من شتات وذلّة وتسليط وغضب بسبب انحرافاتهم احتوت الآيات تذكيرا بموقف بني إسرائيل من موسى عليه السلام حينما

أخرجهم من مصر وأرادهم على الدخول إلى الأرض المقدسة. وما كان من جبنهم وخوفهم من قوة سكانها وجبروتهم. وما كان من دعوة موسى عليهم. وقضاء الله عليهم بالتيه أربعين سنة. ووصفهم بالفاسقين. وعبارتها واضحة. ولم نطلع على رواية في سبب نزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة بالسياق السابق الاستطرادي. فقد ذكر فيه ما أخذه الله من مواثيق من اليهود والنصارى وما كان من نقضهم لها إجمالا. ثم أخذ يذكر فيه بعض بيانات متصلة بمعنى النقض والانحراف. وقد ذكر شذوذ النصارى في عقيدتهم بالمسيح. فجاء هذا الفصل ليذكر بعض مواقف بني إسرائيل وشذوذهم أيضا. وهذه هي المرة الوحيدة التي يذكر فيها هذا الحادث في القرآن وهو مذكور في الإصحاحين الثالث عشر والرابع عشر من سفر العدد بشيء من التفصيل. وما ذكر هنا متطابق إجمالا لما ورد في هذا السفر. وقد جاء مقتضبا لأنه جاء في معرض التذكير والعظة وضرب المثل ولإبراز موقف الجبن والعناد والتعجيز الذي وقفه بنو إسرائيل من أمر الله ورسوله جريا على الأسلوب القصصي في القرآن. وخلاصة ما جاء في الإصحاحين المذكورين أن الله أمر موسى بإرسال وفد فيه شخص من كلّ سبط من أسباط بني إسرائيل الاثني عشر ليتجسّس حالة الأرض المقدسة. فذهبوا وعادوا يقولون إنها أرض تدرّ لبنا وعسلا وحملوا معهم قطفا عظيما من العنب للدلالة على ذلك ثم قالوا ولكن سكانها أقوياء ومنهم عمالقة من جبابرة بني عناق. ومدنهم حصينة. وقد رأينا أنفسنا كالجراد أمامهم. ففزع بنو إسرائيل وهاجوا على موسى وقالوا لنقم علينا رئيسا ونعد إلى مصر. وانفرد عنهم يوشع وكالب من الوفد فحاولا أن يهوّنا الأمر على بني إسرائيل ويبثّا فيهم الشجاعة فسخطوا عليهما وكادوا أن يرجموهما. فغضب الربّ عليهم وأقسم أن لا يدخل الأرض المقدسة الرجال الموجودون وأن يميتهم في البرية باستثناء عبديه يوشع وكالب. وهكذا ظلوا يتيهون في صحراء سيناء وأطرافها إلى أن فني الذين تمردوا على أمر الله.

وفي كتب التفسير «1» بيانات كثيرة منها ما هو مطابق مع ما جاء في سفر العدد ومنها ما لا يتطابق ومشوب بالمبالغة. ومن ذلك مثلا أن واحدا من الجبارين اسمه عوج الذي تذكر بعض الروايات «2» أن طوله كان 3333 ذراعا حمل الاثني عشر مندوبا بيده وعلى رأسه حملة حطب وانطلق بهم إلى امرأته فقال لها انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا فطرحهم بين يديها وقال لها ألا أطحنهم برجلي فقالت بل خلّ عنهم حتى يخبروا بما رأوا. والبيانات التي يوردها المفسرون معزوة إلى رواة الأخبار في الصدر الإسلامي الأول حيث يدل هذا على أن العرب في زمن النبي كانوا على علم إجمالا بهذا الحادث عن طريق اليهود كما هو المتبادر. ولقد وقف المفسرون عند جملة وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ فرووا عن ابن عباس وغيره أن الجملة تعني ما اختصوا به من تظليل الغمام وتنزيل المنّ والسلوى وتفجير عيون الماء من الحجر بضربة عصا موسى. وقالوا إلى هذا إن كلمة الْعالَمِينَ إنما تعني العالمين في ذلك الزمن وليس كل زمن لأن الله تعالى آتى أمة محمد صلى الله عليه وسلم من النعم والكرامة ما لم يؤت بني إسرائيل. والمتبادر أن هذا التأويل هو الأوجه وهو حقّ وصواب. ولقد وقفوا كذلك عند جملة وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وقالوا إنها لا تعني الملك بمعناه الشهير بدليل أن الكلمة شاملة لجميع بني إسرائيل. ولو أريد ذلك لجاءت الجملة (وجعل منكم أو فيكم ملوكا) كما جاءت الجملة التي قبلها وإنما عنت ما تيسّر لهم من حرية وملك نفس بعد الاستعباد الطويل في مصر. ورووا إلى هذا عن أنس بن عياض أنه سمع زيد بن أسلم يقول في تأويل الجملة لا أعلم إلّا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من كان له بيت وخادم فهو ملك» وأوردوا حكاية من هذا الباب جاء فيها أن عبد الله بن عمرو سأل شخصا شكى الفقر: هل لك بيت تسكنه وامرأة تأوي إليها. قال نعم. فقال له إنك لست فقيرا. فقال وإن لي خادما أيضا فقال له

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي إلخ. (2) في تفسير الطبري صور عديدة أخرى مماثلة لهذه الصورة أو بديلة عنها أيضا.

إنك من الملوك. وفي كل هذا وجاهة وسداد. ولقد وقفوا عند كلمة الْمُقَدَّسَةَ فرووا عن أهل التأويل أنها بمعنى المباركة أو المطهرة من الشرك أو أن الله قدّسها وباركها لأن حكمته شاءت أن تكون مهبط وحيه ومخرج أنبيائه. وأنها جميع بلاد الشام أو منطقة الطور. أو فلسطين والأردن. وتأويل المقدسة بالمباركة متسق مع نصوص القرآن حيث جاء في آية سورة الأعراف [137] جملة وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وفي الآية الأولى من سورة الإسراء سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ وفي آية سورة الأنبياء [71] وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها. ونصّ آية الإسراء بخاصة يفيد أن المقصود هو أرض فلسطين التي كان المسجد الأقصى فيها كما هو المتبادر.. ولقد نعتت هذه الأرض في الأسفار المتداولة بأرض كنعان نسبة إلى القوم الذين كانوا يعمرونها كما جاء ذلك في الإصحاح (12) من سفر التكوين في سياق ذكر هجرة إبراهيم وامرأته ولوط ابن أخيه. ثم ذكرت بهذا النعت مرارا في هذا السفر وفي الأسفار الأخرى، وفي سفر التكوين خبر تجلّي الله لإبراهيم ووعده له بأن تكون هذه الأرض ثم بلاد أخرى بعدها لنسله. ثم تجلّي الله لإسحاق ويعقوب وتوكيد وعده لهما. ويتخذ اليهود عبارات أسفارهم سندا لدعواهم في ملك فلسطين وما حولها شمالا وشرقا وجنوبا حتى تصل هذه الدعوى من (النيل إلى الفرات) أبديا ويتخذون عبارات القرآن وبخاصة في هذه الآيات وآية الأعراف [137] وسيلة إلى إقناع المسلمين بذلك. والأسفار التي يستندون إليها كتبت متأخرة عن موسى فضلا عن إبراهيم وإسحاق ويعقوب الذين سبقوا موسى بمئات السنين وتأثرت بالأحداث التي جرت لبني إسرائيل والتي تملّكوا نتيجة لها أرض كنعان وبعض أنحاء مما جاورها شرقا

وشمالا على ما ذكرناه في سياق تعليقنا على كلمة التوراة في سورة الأعراف. ولم تخلص لهم قط. وظل سكانها الأولون يسكنون معهم ثم بعد تشردوا عنها عن أنحاء الأرض كما هو مسجّل في أسفارهم. بحيث يصحّ القول بجزم إن تلك الدعوى لم تتحقق لهم في أي وقت ليكون لهم حقّ استئنافها. فضلا عن أن ذلك التملك كان بالقوة وإراقة الدماء ونهب الأموال ولا يمكن أن يكون العدوان مانحا لأي حق. وهذا إذا قصر الكلام على وجهة نظرهم. وبالنسبة للنصوص القرآنية فإن وجهة نظر المؤولين والمفسرين هي أن ما ورد في الآيات التي نحن في صددها وفي آية الأعراف لا يفيد تأبيدا ولا استمرارا وأنه بمثابة إيذان لموقف رباني إزاءهم مقابل موقف لهم. وبالنسبة لما مضى من الزمن والظروف وحسب. وقد تغير موقفهم بموقف الله منهم كما حكت ذلك آيات كثيرة على ما ذكرناه في تعليقنا على آية سورة الأعراف المذكورة ونصّ هذه الآية يفيد أن الله أورثهم الأرض بما صبروا. ولقد حكت أسفارهم إنذارات ربانية رهيبة لهم إذا انحرفوا عن حدود الله بالتدمير والتحطيم وسلب كل ما منحهم وتشتيتهم في الأرض وتسليط الأمم والطبيعة عليهم. ولقد انحرفوا عن وصايا الله وحدوده. على ما ذكرته آيات القرآن وأسفارهم معا «1» ففقدوا منحة الله وذلك السند القرآني. وحق عليهم الشتات والدمار والذلة والمسكنة وتسليط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة مما سجلته آيات القرآن وأسفارهم معا وشرحناه في تعليقنا على آية الأعراف المذكورة بما يغني عن التكرار إلا أن نقول إن عبارات الآيات هنا هي حكاية لقصة وردت في الأسفار المتداولة في أيدي اليهود. بقصد العبرة والموعظة «2» . وأن من الواجب على المسلمين أن ينتبهوا إلى تضليل اليهود ودعاياتهم الكاذبة ويحذروها

_ (1) انظر الإصحاح 26 من سفر الأحبار واقرأ أسفار القضاة والملوك وأخبار الأيام وارميا وحزقيال وانظر كتابنا تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم وبخاصة ص 82- 95 و 135- 195 و 272- 317 وآيات البقرة [40- 146] وآل عمران [71- 120] والنساء [43- 56] والأعراف [162- 169] . (2) انظر الإصحاحات 14 و 15 من سفر العدد.

[سورة المائدة (5) : الآيات 27 إلى 32]

وأن يعتقدوا أن ذلك الوعد القرآني قد مضى وانقضى وأن ما كتبه الله عليهم من ذلة ومسكنة وغضب وعذاب هو حقّ ومانع لكل إمكان لخلافه. وأن ما قد تيسّر لهم من نجاح في فلسطين في الوقت الحاضر هو عابر لامتحان المسلمين وحسب وأن الله محقق وعده وتقريره فيهم. ولقد نبّه المفسرون إلى ماضي ما حكته الآيات من فرض الله تعالى التيه أربعين سنة على بني إسرائيل من عبرة اجتماعية. وهي كون الجيل الذي عاش حياة المسكنة والاستعباد في مصر قد فقد قوة الإقدام على النضال فقضت حكمة الله أن يبقى في الصحراء حتى يموت وينشأ جيل جديد ويكون قد عاش تلك الحياة. وهو تنبيه وجيه يصحّ أن يساق في معرض ما احتواه القرآن من عبر وحكم اجتماعية. وفيه من جهة وفي الفصل القرآني الذي نحن في صدده بعامة من جهة أخرى تلقين مستمر المدى للمسلمين بتجنب الموقف الذي وقفه بنو إسرائيل وحكاه القرآن حكاية متطابقة لما في أسفارهم من أمر الله ورسوله. ولقد روى المفسرون ورواة الأحاديث موقفا يدلّ على ما كان لذلك التلقين من أثر في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث رووا أن المقداد بن الأسود وبعض أصحاب رسول الله حينما استشارهم النبي صلى الله عليه وسلم في مناجزة قريش في يوم بدر أو في يوم الحديبية على اختلاف الروايات «لا نقول لك كما قال قوم موسى اذهب أنت وربك فقاتلا ولكنّا نقاتل عن يمينك وشمالك وبين يديك وخلفك وفي رواية بل نقول لك اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون» فأشرق وجه النبي صلى الله عليه وسلم وكان لهذا الموقف أثر كبير في ما تمّ للمسلمين تحت رايته من فتح ونصر في ذلك اليوم «1» . [سورة المائدة (5) : الآيات 27 الى 32] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) .

_ (1) انظر التاج ج 4 ص 90 و 366 وتفسير الآيات في الطبري وابن كثير وغيرهما وقد روى البخاري الحديث الذي فيه قول المقداد في سياق غزوة بدر. والذي نرجحه أن يكون ذلك في سياق غزوة الحديبية. وأن يكون التباس في الرواية لأن آيات المائدة لم تكن نزلت والله أعلم قبل وقعة بدر.

تعليق على الآية واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق والآيات الخمس التالية لها وما فيها من تلقين وصور

(1) إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك: تبوء بمعنى تعود أو تحمل وأوجه التأويلات للجملة (إني لا أبسط يدي إليك لمقاتلتك وأفضل أن تحمل وحدك إثم قتلك إياي ثم إثم معصيتك التي لم يقبل الله قربانك بسببها) . (2) فطوعت: بمعنى أساغت ورضيت وسوّلت وزينت. (3) يبحث: يحفر وينبش. (4) سوأة: هنا كناية عن الجثة بعد الموت. (5) أو فساد في الأرض: معطوفة على بِغَيْرِ نَفْسٍ أي من قتل نفسا بقصد البغي والفساد في الأرض. (6) ومن أحياها: ومن حافظ على حياة النفس. تعليق على الآية وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ والآيات الخمس التالية لها وما فيها من تلقين وصور عبارة الآيات واضحة. وقد أمرت أولاها النبي صلى الله عليه وسلم بتلاوة نبأ ابني آدم اللذين

قرّبا لله قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبله من الآخر. واستمرت هي والآيات الأربع التالية في سرد بقية النبأ وما كان من حوار بين الأخوين وما كان من إقدام أحدهما على قتل الآخر وندمه وخسرانه. أما الآية السادسة فجاءت معقبة على النبأ مؤذنة بما كتبه الله على بني إسرائيل نتيجة لذلك. ومنددة بهم لأنهم برغم ما أرسله إليهم من رسل بالبينات لم يرعووا وكانوا مسرفين في الأرض بغيا وفسادا. ولم نطلع على رواية في مناسبة نزول الآيات. وإنما قال الطبري في سياق تفسيرها إن الله تعالى أمر رسوله بتلاوة هذه القصة على اليهود الذين همّوا أن يبسطوا أيديهم عليه وعلى أصحابه ليعرّفهم مكروه عاقبة الظلم والمكر وسوء مغبة الجور ونقض العهد وجزاء الناكث وثواب الوافي حيث يفيد هذا أن ضمير عَلَيْهِمْ عائد إلى بني إسرائيل الذين كانوا موضوع الكلام في الآيات السابقة. وتابعه في صرف الضمير إلى اليهود ابن كثير. وقد صرفه الخازن إلى قوم النبي صلى الله عليه وسلم ليكون لهم في ذلك عبرة. وصرفه الزمخشري إلى أهل الكتاب إطلاقا. وصرفه السيد رشيد رضا إلى المستمعين إطلاقا من كتابيين وغير كتابيين. ونحن نرجح كلام الطبري بقرينة الآية الأخيرة التعقيبية التي فيها تنديد باليهود. ونرجح في الوقت نفسه أنها متصلة بالسياق السابق ومعطوفة عليه. وأنها استهدفت بخاصة استئناف التنديد ببني إسرائيل الذين لم يرعووا عن انحرافهم برغم ما كان من تحذير الله لهم وإرساله رسله بالبينات إليهم. ولقد تعددت روايات المفسرين «1» في تأويل ابْنَيْ آدَمَ حيث روى الطبري عن مجاهد وقتادة وغيرهما أنهما ابنا آدم من صلبه وهما هابيل وقابيل كما روى عن الحسن أنهما رجلان من بني إسرائيل وليسا ولدي آدم من صلبه وروى في الوقت نفسه عن ابن عباس أنهما رجلان من بني آدم. وقد قال بعد أن استعرض الروايات إن القول الأول هو أولى الأقوال عنده بالصواب وهو ما عليه جمهور المؤولين والمفسّرين أيضا.

_ (1) انظر الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي.

وفي الإصحاح الرابع من سفر التكوين المتداول وهو أول أسفار العهد القديم قصة قتل قابيل لأخيه هابيل وهما الولدان الأولان لآدم. وكان قابيل البكر منهما. والقصة تتلى تلاوة تذكير على بني إسرائيل الذين كان سفر التكوين متداولا عندهم. حيث يبدو من ذلك صواب تصويب الطبري وجمهور المؤولين والمفسرين وكون القصة القرآنية هي نفس القصة. ولقد روى ابن كثير حديثا أخرجه الإمام أحمد عن ابن مسعود جاء فيه «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقتل نفس ظلما إلّا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سنّ القتل» حيث يؤيد هذا الحديث ذلك أيضا. وبين النصّ القرآني وما جاء في الإصحاح المذكور توافق في الجوهر. وملخص ما جاء فيه «أن قابيل كان يحرث الأرض وهابيل كان راعي غنم. وأن كلا منهما قدم للربّ تقدمة فتقبل الله تقدمة هابيل دون قابيل فشق ذلك على قابيل وقال لأخيه لنخرج إلى الصحراء فلما خرجا وثب عليه فقتله. وسأل الربّ قابيل ماذا صنع بأخيه وأين هو فأنكر فقال له إن دمه يصرخ إليّ من الأرض. ثم لعنه وأنذره بأن يبقى شاردا على وجه الأرض ولا تعطيه الأرض قوتها فخرج فأقام في أرض نوا شرقي عدن) وليس في الإصحاح الحوار الذي حكته الآيات إلّا قصة الغراب. ونعتقد أن هذا مما كان واردا في قراطيس أخرى ومتداولا في أوساط الكتابيين. ولقد روى الطبري وغيره عن ابن عباس وغيره بيانات مفصلة ومتنوعة على هامش هذه الآيات فيها قصة اختلاف الأخوين على تبادل أختيهما التوأمتين لتكون كل واحدة منهما زوجة للآخر واقتراح أبيهما بتقريب كل منهما قربانا إلى الله على سبيل الاحتكام إليه وتقبّل الله قربان هابيل بإنزاله نارا أكلته دون قربان قابيل وتعليم إبليس لقابيل كيفية قتله لأخيه. وإرسال الله غرابين قتل أحدهما الآخر ودفن القاتل القتيل ليكون تعليما لقابيل بدفن أخيه الذي قتله. وأغرب بعضهم فذكر شدة توجّع آدم على قتل ابنه وإنشاده شعرا عربيّا فصيحا بذلك. حيث يدل كل هذا على كل حال أن القصة وما جاء في الآيات مما ليس في سفر التكوين المتداول مما كان

متداولا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعم ما قلناه قبل. والأسلوب القرآني للقصة يدل بوضوح على أنها إنما جاءت للعظة والتذكير وهو الهدف الجوهري الذي استهدفه القرآن دائما في قصصه. وقد استهدفت آيات القصة فيما استهدفته كما هو المتبادر بيان كون الله عزّ وجل الذي يعلم نوايا الناس في أعمالهم وسلوكهم إنما يتقبل من المتقين ذوي النوايا الحسنة والرغبات الصادقة ويشملهم برضائه، ثم بيان ما ترتب على حادث عدوان الأخ على أخيه بغيا من حكم رباني عام كتبه على بني إسرائيل بأن الذي يقتل نفسا بغير حق وبقصد الفساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا. ومن عفا عن دم نفس وحماها فكأنما أحيا الناس جميعا. ثم التنديد ببني إسرائيل على عدم ارعوائهم وارتداعهم عن الإسراف في البغي والفساد برغم ما أرسله الله إليهم من رسله بالبينات. ويتضح من إنعام النظر في هذه الأهداف أنها عامة الشمول لمختلف الأمم وفي مختلف الظروف. وهي والحالة هذه شاملة لبني إسرائيل ولغيرهم وبخاصة للمسلمين الذين يجب عليهم اتخاذ ما جاء في القرآن من عظات وتلقينات هديا لهم ونبراسا. ولقد روى ابن كثير أن سائلا سأل الحسن البصري من علماء التابعين هل هذه الآية لنا كما هي لبني إسرائيل؟ فقال: إي والذي لا إله غيره. وما جعل الله دماء بني إسرائيل أكرم من دمائنا. وينطوي في جملة مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً عظات اجتماعية بالغة. فالنفس الواحدة تمثل النوع في جملته. ومستحلّ دمها مثل مستحلّ دم كل نفس أو جميع النفوس. وكذلك الأمر في احترام وحماية دم النفس الواحدة. وفيها تقرير لوحدة البشرية وإيجاب حرص كل إنسان على حياة المجموع واجتنابه ضرر كل فرد. وإيجاب التكافل والتضامن بين البشر في كل ذلك كما قال السيد رشيد رضا. وفيها بالإضافة إلى ذلك تعظيم دماء البشر على بعضهم وتعظيم عقوبة المجترئ عليها وتعظيم ثواب من يحترمها ويحميها كما قال الطبري.

واختصاص بني إسرائيل بالكلام في الآية التعقيبية التي جاءت فيها تلك الجملة ليس من شأنه أن يغطي على تلقينها الشامل المستمر لغير بني إسرائيل وبخاصة للمسلمين في كل ظرف ومكان. والمتبادر أن هذا الاختصاص هو متصل بسياق الآيات الذي احتوى تنديدا ببني إسرائيل حيث هدف إلى استئناف التنديد بهم بسبب استمرارهم على إسرافهم وبغيهم إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم برغم ما جاءهم من الله من رسل وأنذروا به من نذر. وقد لا يكون في الأسفار المتداولة اليوم جملة مماثلة للجملة التي جاءت في الآية السادسة بأن الله كتبها على بني إسرائيل. غير أن هذا ليس من شأنه أن ينقض ما جاء في القرآن من ذلك. لأن بني إسرائيل قد حرفوا وبدلوا وأخفوا وأضاعوا كثيرا مما جاءهم وبخاصة في سفر الوصايا المبلغة من الله تعالى لموسى والذي كتبه موسى وسلّمه للكهنة من اللاويين على ما ذكرناه في تعليقنا على كلمة التوراة في سورة الأعراف. ومع ذلك ففي أسفار العهد القديم العائدة إلى عهد موسى عليه السلام أو بعده تشريعات وإنذارات مشددة ورهيبة بشأن الانحرافات الدينية والاجتماعية والأخلاقية، على ما ذكرناه قبل. هذا ويلحظ أن السياق الطويل الذي بدأ من الآية (4) في صدد أهل الكتاب واليهود والنصارى لم يذكر من شذوذ النصارى إلا إشارة إلى نسيانهم حظّا مما ذكروا به ثم إلى عقيدتهم بألوهية المسيح في حين جاء الكلام مسهبا وشديدا بالنسبة لليهود. وهذا ما تكرر في القرآن ونرى في هذا قرينة على صورة كل من الفريقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حيث يبدو منها أنه لم يكن من النصارى مواقف عملية وخلقية مزعجة وخبيثة بعكس اليهود. وهذه الصورة ترى خلال ما جاء في القرآن عن النصارى واليهود بصورة عامة باستثناء ما جاء في بعض آيات سورة التوبة مما سوف نعلق عليه في مناسبته. وقد يكون في ذكر اليهود بالأسلوب الذي ذكروا فيه قرينة على أن هذه الآيات قد نزلت قبل جلاء جميع اليهود عن المدينة وعلى الأقل قبل وقعة جلاء بني

قريظة آخر من نكّل بهم منهم. وقد يكون في الآية التالية قرينة أخرى على ذلك. والله تعالى أعلم. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات بالإضافة إلى الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن مسعود وأوردناه قبل في صدد القتال والفتن بين المسلمين مما هو متناسب مع مدى الآيات التي نحن في صددها. ومن هذه الأحاديث ما ورد في الكتب الخمسة. من ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي بكرة قال «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فكلاهما من أهل النار. قيل فهذا القاتل فما بال المقتول. قال إنه أراد قتل صاحبه» «1» وحديث رواه أبو داود والترمذي عن سعد جاء فيه «قال سعد يا رسول الله أرأيت إن دخل عليّ بيتي وبسط يده ليقتلني. قال كن كابن آدم القائل لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ «2» ولقد أورد ابن كثير هذا الحديث مع زيادة مهمة برواية الإمام أحمد جاء فيها إن سعد بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان «أشهد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم خير من الماشي والماشي خير من الساعي قلت يا رسول الله أفرأيت أن دخل عليّ بيتي فبسط يده ليقتلني فقال كن كابن آدم وتلا لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) «3» . ونصوص الأحاديث النبوية تفيد أنها في صدد ما قد يقع بين المسلمين من فتن واقتتال. ومن الواجب أن ننبّه في هذه المناسبة أن القرآن والسنّة قرّرا حقّ المرء بالدفاع عن

_ (1) هذا النصّ منقول عن التاج ج 5 ص 275 والجملة الأخيرة منه في نصّ ابن كثير هكذا (إنه كان حريصا على قتل صاحبه) . (2) التاج ج 5 ص 275. (3) الشطر الأول من هذا الحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة بهذه الصيغة «قال النبي صلى الله عليه وسلم ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي. من تشرّف لها تستشرفه. فمن وجد فيها ملجأ أو معاذا فليعذ به» التاج ج 5 ص 275.

[سورة المائدة (5) : الآيات 33 إلى 34]

نفسه والانتصار من عدوان وظلم قد يوقع عليه. وجعل هذا الحقّ وسيلة لجعل الناس يرتدعون عن العدوان كما جاء في آيات سورة البقرة [190] والنساء [75] والحج [39- 41] والشورى [37- 43] التي سبق شرحها. وكما جاء في حديث رواه مسلم جاء فيه «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي. قال فلا تعطه. قال أرأيت إن قاتلني قال قاتله. قال أرأيت إن قتلني قال فأنت شهيد. قال أرأيت إن قتلته. قال هو في النار» «1» . [سورة المائدة (5) : الآيات 33 الى 34] إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) . (1) من خلاف: بمعنى المخالفة في القطع. فتقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى. (2) من قبل أن تقدروا عليهم: من قبل أن يقعوا في أيديكم وتقبضوا عليهم وتظفروا بهم. تعليق على الآية إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً ... إلخ والآية التي بعدها ومدى ما فيهما من تلقين وأحكام احتوت الآيتان تقريرا إنذاريا وتشريعيا في حقّ الذين يحاربون الله ورسوله

_ (1) التاج ج 3 ص 16.

ويسعون في الأرض فسادا حيث قررت عقوبة من يقدم على ذلك الجرم الفظيع القتل أو الصلب أو قطع الأيدي والأرجل من خلاف أو النفي من الأرض، بالإضافة إلى العذاب العظيم الذي سينالهم في الآخرة. مع استثناء الذين يتوبون قبل القدرة عليهم والتمكن منهم حيث يمكن أن ينالهم الله بغفرانه ورحمته. ولقد روى المفسرون «1» روايات عديدة كسبب لنزول الآيتين. منها أنها نزلت في قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض فخيّر الله رسوله معاقبتهم بالعقوبات المذكورة في الآية الأولى. ومنها أنها نزلت في المشركين عامة. ومنها أنها نزلت في رهط من عكل وعرينة أسلموا وأقاموا في المدينة ثم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له إنهم استوخموا الهواء فأعطاهم ذودا من إبل مع رعاته وأذن لهم بالنزول خارج المدينة وشرب ألبان الإبل فلما خرجوا قتلوا الرعاة وفي رواية سملوا عيونهم ثم قتلوهم واستاقوا الإبل وارتدوا إلى الكفر فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم خيلا وراءهم فأسروهم وأتوا بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل عيونهم وتركهم في الحرّة حتى هلكوا وفي رواية أنه أحرقهم بالنار. وهذه الرواية من مرويات البخاري بخلاف يسير «2» . ومنها أنها نزلت في قوم هلال بن عويمر الذي وادع النبي صلى الله عليه وسلم باسم قومه أن لا يعتدوا على أحد من المسلمين. أو على أحد يريد الإسلام. فمرّ بهم قوم من بني كنانة يريدون الإسلام فشدوا عليهم وقتلوهم وأخذوا أموالهم. وهناك رواية يرويها الطبري والبغوي- ويعزوها الأخير إلى الليث بن سعد- أن الآية نزلت عتابا للنبي صلى الله عليه وسلم بعد تنكيله برهط عكل وعرينة على تسميله أعينهم ولتحديد عقوبة أمثالهم

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي. (2) انظر التاج ج 4 ص 90- 91. (وهذه صيغة الحديث منقولة من التاج) عن أنس «قدم أناس من عكل أو عرينة فاجتووا المدينة فأمر لهم النبي بلقاح ليشوبوا من ألبانها وأبوالها، فانطلقوا بها فلما صحّوا قتلوا راعي النبي واستاقوا الإبل فجاء الخبر إلى النبي في أول النهار فبعث في آثارهم فلما ارتفع النهار جيء بهم فأمر بقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وألقوا في الحرة يستقون فلا يسقون حتى ماتوا. قال أبو قلابة فهؤلاء سرقوا وقتلوا أو كفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله» . [.....]

دون تسميل وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمل بعد ذلك أحدا من أعداء الله بناء على هذه الآية وأنه ما قام خطيبا إلّا نهى عن المثلة. والذي نستلهمه من روح الآيتين ونظمهما وترتيبهما أنهما جاءتا معقبتين على الآيات السابقة. وبخاصة الآية الأخيرة التي ذكرت أن كثيرا من بني إسرائيل ظلوا على إسرافهم في الفساد والاعوجاج برغم ما كتب الله عليهم من أحكام وأرسله إليهم من رسل فجاءت الآيتان تحتويان إنذارا وتنديدا جديدين لهم وتشريعا لما يجب أن يكون جزاء من يقف مثل موقفهم. ومحاربة الله ورسوله تعني كما هو المتبادر الكفر برسالة النبي صلى الله عليه وسلم ومحاربتها بالكيد والأذى والتعطيل والتضامن مع الأعداء. وهذا مما كان يفعله اليهود كما حكاه القرآن عنهم في مواضع عديدة في سور البقرة وآل عمران والنساء. وما قلناه من ترجيح كون الآيتين جاءتا معقبتين على الآيات السابقة لا يمنع أن تكونا قد نزلتا في ظرف من ظروف نكث اليهود ومظاهرتهم للمشركين وهو ما ذكرته الرواية الأولى من الروايات الواردة في سبب نزول الآيتين. وإذا صحّ هذا فيكون في الآيتين كما قلنا قبل قرينة على أنهما نزلتا في وقت كان فيه كتلة قوية من اليهود. أما حادث رهط بدو عكل وعرينة والتنكيل النبوي بهم الوارد في حديث البخاري والروايات الأخرى فمن المحتمل أن يكون وقع في ظروف نزول الآيتين فالتبس الأمر على الرواة ونقلوا أنهما نزلتا في صدده. ومن القرائن على ذلك أنه ليس في الآيتين عقوبة تسميل الأعين التي ذكرت الروايات ومنها رواية البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم أوقعها عليهم. بل ولعلّ الرواية التي تذكر أن الآيتين نزلتا بعد التنكيل وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمل بعدها وصار ينهى عن المثلة هي الصحيحة. وقد قال الطبري إن هذا هو الأولى بالصواب. وفحوى الآية الثانية من القرائن على أن الآيتين هما في صدد كفار أعداء. فمحاربة الله ورسوله لا يمكن أن تكون إلّا من كافر. والآية الثانية تؤذن بقبول توبتهم أي إسلامهم قبل القدرة عليهم أي قبل الانتصار عليهم وأسرهم. وقد جاء

هذا في آية في سورة التوبة فيها صراحة بأنها في صدد أعداء مشركين ناكثين للعهد وهي هذه فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وهذا متمثل بأسلوب آخر في آية سورة الأنفال هذه قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [37] وقد يكون في هذه الآية بخاصة تدعيم لما تبادر لنا من أن الآيات في صدد كفار أعداء. ولقد كان زعماء بني النضير اليهود حينما أجلوا عن المدينة مع قبيلتهم ذهبوا إلى خيبر وتزعموا يهودها وأخذوا يحرضون قبائل العرب المشركين على النبي والمسلمين ويغرونهم بغزو المدينة. وقد ذهبوا إلى مكة فحرضوا قريشا أيضا وأدى هذا إلى زحف قريش والأحزاب على المدينة. ولقد استمروا على حركاتهم العدوانية بعد وقعة الأحزاب والتنكيل ببني قريظة أيضا مما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يزحف على خيبر ووادي القرى وينكل بأهلها وبزعماء بني النضير بعد صلح الحديبية مع قريش على ما شرحناه في سياق تفسير سور الحشر والأحزاب والفتح. فمن الجائز أن تكون هذه الآيات بل وما قبلها في صدد ذلك وأن تكون نزلت قبل أن يزحف النبي عليهم. والله أعلم. وقد يلحظ أن العقوبات في الآية الأولى غير اعتيادية. ونميل إلى القول إنها أسلوبية بسبيل تعظيم ما كان من اليهود وزعماء بني النضير من حركات فساد وتأليب وعدوان وما كان من ذلك من خطر على المسلمين وكيانهم. وعبارة مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ في الآية ندم الأعداء الكفار وتوبتهم صدقا عن موقفهم قبل الانتصار عليهم ووقوعهم في الأسر. وينطوي في هذا مبدأ من مبادئ الجهاد في الإسلام. وتمثل التسامح الإسلامي السامي في كل المواقف المماثلة من حيث إنه يوحي بالإغضاء عما كان منهم قبل إسلامهم ما دام أنهم أسلموا من أنفسهم وقبل القدرة عليهم. وينطوي في هذا تقرير كون إصلاح الناس هو من الأهداف الرئيسية التي يهدف إليها القرآن ورسالة الإسلام ومبادئ الجهاد معا. ومن الحقّ أن ننبّه في هذه المناسبة على أن ما قلناه لا يعني أن لا تقبل توبتهم

أي إسلامهم بعد القدرة عليهم. فإن هذا من المقررات القرآنية المحكمة المتكررة بحق كل إنسان مهما عظمت جرائمه وإن وروده في حالة التوبة قبل القدرة هنا كان متناسبا مع الحالة المذكورة في الآيات كما هو المتبادر. وآية سورة التوبة التي أوردناها آنفا لم تشترط التوبة قبل القدرة وجاءت مطلقة لتشمل قبول التوبة قبل القدرة وبعدها كما هو المتبادر أيضا. والله أعلم. ومع ما قلناه من أن القرائن تدلّ على أن الآيات في صدد كفار أعداء وفي صدد مواقف اليهود العدوانية والفسادية فإن أئمة «1» التأويل والفقه رأوا على ما ذكره الطبري وغيره من المفسرين في صيغة الآيتين التشريعية التامة والمطلقة ما جعلهم يعتبرونها شاملة للمسلمين أيضا بالإضافة إلى الكفار ويصوغون لها قواعد فقهية بعنوان (الحرابة) ويرونها قابلة للتطبيق على لصوص المسلمين المجاهرين بلصوصيتهم المصرّين على ذلك وبخاصة في الصحراء والمكابرين في الفسق والفجور والحاملين للسلاح على إخوانهم المسلمين والقاطعين للسبل والمخيفين للناس مسلميهم وذمييهم والمعتدين على أموالهم وأملاكهم وأعراضهم بالإرهاب والقوة. وقد يكون فرض ظهور أفراد ينتسبون إلى الإسلام يقترفون مثل هذه الأفعال الإرهابية واردا ويكون تطبيق العقوبات الواردة في الآية الأولى عليهم وتسمية أعمالهم باسم (الحرابة) سائغا. غير أن قبول التوبة منهم قبل القدرة عليهم وهو ما تضمنته الآية الثانية يعني فيما يعنيه إسقاط قصاص القتل عنهم إذا قتلوا وحدّ القطع إذا سرقوا وحدّ الرجم والجلد إذا زنوا وهدر ما أحدثوه من جراحات ودمروه من أملاك ونهبوه من أموال. ولا يصح أن يفرض سواغ ذلك بالنسبة لمسلم تحت السلطان الإسلامي حيث يكون على هذا السلطان واجب مصادرتهم وتعقبهم وإيقاع العقوبات والحدود عليهم. وسياق الطبري وغيره يفيد أن هذه النقطة مما خطرت للفقهاء والمؤولين

_ (1) انظر تفسير البغوي وابن كثير والطبرسي والزمخشري والنسفي حيث رووا كلهم أقوالا وأوردوا كلاما وقواعد في هذا النطاق.

فاختلفوا فيها. فمنهم من قال إن التوبة التي يقبلها السلطان هي بالنسبة للكفار فقط حيث يسقط عنهم بالإسلام كل ما كانوا فعلوه إذا ما تابوا وأسلموا قبل القدرة عليهم وأن على السلطان أن يقيم الحدود على المسلمين إذا ما ارتكبوا جرائم ضد النفوس والأعراض والأموال. ومنهم من قال إن على السلطان أن يقبل التوبة من المحارب المفسد سواء أكان كافرا أم مسلما إذا ما تاب قبل القدرة عليه. وأورد هؤلاء خبر حوادث وقعت في خلافة عثمان وعلي رضي الله عنهما حيث خرج بعض المسلمين فحملوا السلاح وسفكوا الدماء ونهبوا الأموال ثم أعلنوا توبتهم وطلبوا الأمان فأعطي لهم ولم يعاقبوا على ما فعلوه. كما أوردوا في معرض ذلك ما وقع في الردة في زمن أبي بكر رضي الله عنه حيث كان يعفو عن الذين كانوا يتوبون ويعودون إلى لواء الإسلام وسلطانه دون محاسبتهم عما وقع منهم في أثناء الردة ونحن نرجح القول الأول ونقول في ما جاء من تعليلات القول الثاني إن الأحداث كانت في سياق فتنة عامة وليست فردية شخصية وأنها لا تصحّ أن تورد في معرض ما نحن فيه وأن المسلم الذي يرتكب جرائم غير عادية فيها قتل نفس وقطع سبيل وإخافة الناس وعدوان على أموالهم وأعراضهم يجب أن يكون موضع تطبيق لحدود الله ولو تاب قبل اعتقاله أي القدرة عليه وإن كل ما يمكن أن يكون في حال توبته هو احتمال عفو الله له إذا ما أقيمت عليه الحدود واستردت منه الأموال. والله أعلم. وقد يقال إن المسلم قد يرتدّ إلى الكفر ثم يرتكب الجرائم الموصوفة وهو كافر ثم يتوب قبل القدرة عليه. وواضح أن هذا المجرم لا يكون قد احتفظ بصفة المسلم ويصبح حكمه حكم كافر أو مرتد تقبل توبته إذا ما تاب وعاد إلى الإسلام قبل القدرة عليه. ولقد عزا الطبري إلى بعض الفقهاء والمؤولين قولا في صدد مثل هذا مفاده أن على الإمام أن يستردّ ما في يده من مال الناس ويردّه إلى أصحابه وأن يقيم عليه حدّ القتل إذا طلب ولي قتيل بدم قتيله وأقام البينة عليه إذا ما كان ذلك عملا شخصيا وليس في سياق حرب عامة. وهذا وجيه وقد يصح أن يطبق حتى على الكافر أصلا. وأن ينحصر سقوط ما يقع من جرائم من الكافر في الجرائم

العامة غير الشخصية والفردية. والله تعالى أعلم. والكلام دار حول توبة المحارب الساعي في الفساد قبل القدرة عليه. والقدرة عليه تعني اعتقاله وأسره حيا، فإذا ما تمّ ذلك صار موضع تطبيق العقوبات الواردة في الآية الأولى إذا كان مسلما. أما إذا كان كافرا فالذي يتبادر لنا أنه يكون موضع تطبيق العقوبات المذكورة إذا ارتكب جرائم إرهابية فوق العادة ضد المسلمين من نوع ما ذكره المفسرون. أما إذا كان عدوا عاديا وكان كل أمره أنه اشترك في عداء وقتال ضد المسلمين ثم وقع في الأسر فإنه يكون موضوع تطبيق حكم الأسر على ما شرحناه في سياق سورة محمد فإما أن يقتل وإما أن يسترق وإما أن يمنّ عليه بدون فداء أو يطلق سراحه بفداء حسب ما تقتضيه الظروف والمصلحة والأحداث، والله تعالى أعلم. هذا، وهناك خلاف بين المؤولين والفقهاء على ما ذكره الطبري وغيره في ترتيب إيقاع العقوبات المذكورة في الآية الأولى في حال القدرة على المحارب قبل توبته ناتج عن اختلافهم في مدى حرف (أو) في الآية حيث قال بعضهم إن الحرف للتخيير وإن للإمام أن يعاقب المحارب بأية عقوبة من العقوبات المذكورة في الآية. وحيث قال بعضهم إن الحرف للبيان وإن العقوبات إنما تكون حسب الجرائم فمن قتل ولم يأخذ مالا قتل. ومن قتل وأخذ مالا قطعت يده ورجله من خلاف (أي اليد اليمنى والرجل اليسرى) ثم قتل أو صلب. ومن حارب ولم يقتل ولم يأخذ مالا نفي. وقد قال الطبري الذي أورد هذه الأقوال إن أولاها بالصواب من أوجب على المحارب العقوبة على قدر استحقاقه وجعل الحكم مختلفا باختلاف الأفعال. وقد ردّ على من قال إن (أو) للتخيير بكلام طويل وأيد كونه للبيان. وأورد سبيل تأييد تصويبه الحديث النبوي الشريف الذي رواه الخمسة وجاء فيه «لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلّا الله إلّا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس والثيّب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة» «1» . ثم قال فإما أن يقتل

_ (1) التاج ج 3 ص 27.

من أجل إخافته السبيل من غير أن يقتل أو يأخذ مالا فذلك تقدم على الله ورسوله بالخلاف عليهما في الحكم. وواضح أن كلام الطبري مساق في صدد المسلم المحارب دون الكافر. وقد يكون هذا الكلام حينئذ في محلّه غير أنه لا يحجب وجاهة قول من قال إن للإمام أن يعاقب بآية عقوبة من العقوبات الواردة في الآية من حيث إن الأفعال التي عددها المفسرون والفقهاء واصطلحوا على تسميتها بالحرابة هي أعمال غير عادية من شأنها إقلاق أمن المجتمع وإثارة الاضطراب وتعريضه للخطر وإيقاع الأضرار بنفوس الناس وأموالهم وأعراضهم وتقتضي إجراءات رادعة غير عادية ولو لم ينتج عنها فعلا إزهاق أرواح وأخذ أموال. فيكون للإمام تقدير الموقف وتطبيق العقوبة الرادعة المتناسبة معها. أما الكافر الذي يقدر عليه قبل توبته فيعامل معاملة الكافر الذي سبق ذكرها. والله تعالى أعلم. ولقد أورد المفسرون تأويلات عديدة لجملتي أَوْ يُصَلَّبُوا وأَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ. فمما قيل في تأويل الأولى إن الصلب للتشهير كما قيل إن الصلب من أشكال القتل حيث يصلب المجرم حيا ثم يطعن بالرمح حتى يموت أو يترك مصلوبا إلى أن يموت. وكلا القولين سديد. ولعل مما يصح أن يزاد عليهما احتمال كونها بمعنى الشنق حيث جرت العادة من القديم على إعدام المجرمين شنقا. ومما قيل في تأويل الثانية إنها بمعنى مطاردة المحارب حتى يضطر إلى الخروج فيخلص الناس من شرّه. كما قيل إنها بمعنى إخراجه بالقوة من البلد الذي عاث فيه فسادا إلى بلد آخر وحبسه فيه حتى يتوب ويغلب صلاحه. وقد صوّب الطبري القول الثاني وروى عن الحسن وعكرمة أنهما منعا اضطرار المسلم إلى الخروج إلى دار شرك. والكلام والحالة هذه يدور حول تعليق الجملة على المسلم المحارب دون الكافر. ويكون تصويب الطبري في محلّه على شرط أن لا يكون المجرم قد قتل ونهب ودمّر وهتك عرضا وأن يكون كل عمله إخافة الناس وإثارة

الاضطراب والقلق. أما إذا فعل الأفعال المذكورة فلا يعقل أن يكون كل جزائه الاعتقال والحبس حتى يتوب ويصلح أو يستريح الناس من عيثه. ولا بدّ من مطاردته واعتقاله بالقوة وتطبق العقوبات عليه. إلا أن يضطر إلى الخروج من البلاد. ويجب مع ذلك أن يظل مرصودا للاعتقال والعقاب. أما الكافر فقد يكون اضطراره إلى الخروج من دار الإسلام نتيجة لمطاردته هو معنى نفيه. لأنه لا يصح أن يكتفي السلطان الإسلامي بنفيه إذا ما قدر عليه. حتى ولو لم يكن قد قتل أحدا أو نهب مالا أو هتك عرضا. فهو كافر عدوّ فيطبق عليه حكم الكافر إذا وقع في الأسر المشروح سابقا. والله تعالى أعلم. والجملة الأخيرة من الآية الأولى صريحة بأن العقوبات المذكورة فيها للمحارب لا تعفيه من عذاب الله العظيم في الآخرة. فهي عقوبة ردع وزجر لصلاح المجتمع فيكون ذلك خزيا له في الدنيا بالإضافة إلى عذاب الله العظيم في الآخرة. ومع الإيمان بحقيقة وعيد الله الأخروي فقد يكون من الحكمة فيه زيادة التشديد على المحارب وتعظيم جريمته وترهيبه ليرعوي عن موقفه والله أعلم. ولقد أورد ابن كثير بعض الأحاديث النبوية في سياق الآية الثانية وبخاصة الجملة الأخيرة منها، منها حديث عن عبادة بن الصامت قال إنه رواه مسلم. وقد ورد حديث مقارب له في التاج برواية البخاري ومسلم والترمذي والنسائي هذا نصّه «قال عبادة كنّا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلّا بالحقّ فمن وفى فأجره على الله ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له. ومن أصاب شيئا من ذلك فستره الله فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذّبه، فبايعناه على ذلك» «1» وحديث رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن علي قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذنب ذنبا في الدنيا فعوقب عليه فالله أعدل من أن يثنّي عقوبة على عبده ومن أذنب ذنبا في الدنيا فستره الله عليه وعفا عنه فالله أكرم من أن يعود عليه في شيء قد عفا عنه» .

_ (1) التاج ج 3 ص 34.

[سورة المائدة (5) : الآيات 35 إلى 37]

ويلوح أن ابن كثير قد أورد الأحاديث على اعتبار انطباق الآية على المسلمين. ومع ذلك فإنه يلوح أنها إنما تصحّ أن تساق في معرض ذنوب يقترفها مسلم ما في حالة اعتيادية وليس في حالة توصف بأنها محاربة الله ورسوله والسعي في الأرض فسادا. وقد يكون حينئذ من حكمتها تطمين المؤمن الصادق في إيمانه مع بثّ الخوف والرجاء في نفسه. أما على اعتبار أن الآية في صدد الكافر وبخاصة الكافر المحارب فليست الأحاديث موضع تطبيق كما هو المتبادر. فالذي يموت كافرا مخلّد في النار. حتى ولو لم يرتكب جرائم أخرى كما هو مقرر في الآيات القرآنية العديدة. [سورة المائدة (5) : الآيات 35 الى 37] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37) . (1) ابتغوا إليه الوسيلة: تحرّوا وافعلوا كلّ ما يكون فيه رضاء الله والقربى إليه. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ... إلخ والآيتين التاليتين لها. وبحث في التوسل والأحاديث الواردة في معنى الوسيلة الأخروي عبارة الآيات واضحة. وقد وجّه الخطاب فيها إلى المؤمنين حاثّا إياهم: (أولا) على تقوى الله وتحرّي كل ما فيه رضاؤه والقربى إليه والجهاد في سبيله. ومبينا لهم (ثانيا) أن في ذلك فلاحهم وسعادتهم. ومنبها إياهم (ثالثا) إلى هول

مصير الكفار يوم القيامة على سبيل التحذير والاستطراد. ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. والذي يتبادر من روحها ومضمونها وترتيبها أنها جاءت معقبة على سلسلة الآيات [12- 34] التي احتوت التذكير بانحرافات أهل الكتاب وكفرهم ونقضهم مواثيق الله وإهمالهم ما أنزل الله إليهم من كتب وإخفاء كثير منها بسبيل الإنكار والمكابرة والتي تساوقت سياقا وموضوعا على ما نبهنا عليه. فبعد أن انتهت السلسلة جاءت الآيات ملتفتة إلى المؤمنين حاثة مبينة منبهة لهم على النحو الذي شرحناه كأنما تريد أن تقول لهم إن هذا هو السبيل الأقوم لكم والأجدر بكم وعليكم أن تعتبروا بمن سبقكم وبالمصير الهائل المعدّ للكافرين والمنحرفين. والله أعلم. وواضح من روح الآيتين الثانية والثالثة أنهما بسبيل بيان وتصوير مصير الكفار الذين يموتون كفارا. وهذا يستتبع القول إن باب التوبة يظل مفتوحا للكافر والمجرم ما دام حيّا. على ما نبهنا عليه في المناسبات العديدة المماثلة. وتصوير مصير الكافرين الأخروي رهيب حقّا. فهم مخلدون في النار. ويتمنون الخروج منها وليس هناك أي إمكان لتحقيق أمنيتهم حتى ولو كان لهم ما في الأرض ومثله معه وافتدوا به. وقد تكررت هذه الصورة أكثر من مرة. والمتبادر أن من أهدافها إثارة الخوف في نفوس الكفار وحملهم على الارعواء والتوبة وهم في فرصة الحياة والعافية ثم إثارة الغبطة في نفوس المؤمنين الذين هداهم الله فجنبهم هذا المصير الرهيب وكتب لهم السعادة والنجاة. وجملة وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ في مقامها تجعل كلمة وَجاهِدُوا بمعنى أوسع من القتال وبعبارة أخرى هي بمعنى بذل كل جهد مادي ومعنوي وحربي وغير حربي وفعلي وقولي في تأييد دين الله وشريعته والتزام حدوده وتنفيذ أوامره في مختلف الظروف وتحمّل ما يمكن أن يكون من جراء ذلك من شدة وعنت بالصبر والمجاهدة. وهذا المعنى ملحوظ في آيات كثيرة وردت فيها الكلمة ومشتقاتها.

وجملة وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ أوجدت على ما يظهر في أذهان بعض المسلمين فكرة (التوسل) أي الاستشفاع بالأنبياء والأولياء وعباد الله الصالحين من أموات وأحياء لدى الله والإقسام عليه بحقهم بقضاء مطالب متنوعة من دفع ضرر وجلب نفع على اعتبار أنهم من الوسائل التي حثّت الآية على ابتغائها إليه. وبلغ الأمر إلى أن صاروا يشدّون الرحال إلى قبور الأنبياء وغيرهم من أولياء الله وينذرون لهم النذور ويقسمون على الله بحقهم أن يحقق لهم مطالبهم. وقد استشرت هذه العادة عند المسلمين في القرون المتأخرة. وكانت من أهم ما ثار عليه الإمام محمد عبد الوهاب من بدع مخالفة لروح الإسلام والتوحيد حتى أقدم متبعو دعوته تحت لواء السعوديين في القرن الماضي على هدم مزارات الأولياء في كل بلد احتلوه. ولقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صحب العباس رضي الله عنه عمّ النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاستسقاء فقال (اللهم إنّا كنّا إذا أجدبنا توسّلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعمّ نبينا فاسقنا) كما رويت بعض الآثار الأخرى التي روي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم علّم بعض أصحابه أن يدعو إلى الله بحقه فكان هذا وذاك مستندا لمن سار على هذه العادة من المسلمين. ولم نر المفسرين القدماء الذين اطلعنا على كتبهم يذكرون هذه العادة عند هذه الآية. حيث يدل هذا على أنها لم تكن في القرون الإسلامية الأولى. غير أنها صارت تمارس في القرون الإسلامية الوسطى حيث التفت إليها الإمام المصلح ابن تيمية فيما التفت إليه من بدع وألّف فيها رسالة باسم (الوسيلة والتوسل) ضمنها تحقيقا جليلا كعادته رحمة الله عليه. ولقد استطرد إلى ذكرها الإمامان رشيد رضا وجمال القاسمي في تفسيريهما. ونوّها برسالة الإمام ابن تيمية واعتبراها القول الفصل في الأمر وأوردا مقتبسات منها. ومما قرره الإمام أن لفظ التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم يراد به ثلاثة معان. (أحدها) التوسل بطاعته وهذا حقّ وأصل من أصول الدين لقول الله تعالى وَأَطِيعُوا اللَّهَ

وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ومَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ. و (ثانيها) التوسل بدعائه. وهذا إنما كان في حياته كما جاء في حديث استسقاء عمر لأنه لو كان بعد موته لكان الأولى أن يتوسل عمر به ولا يتوسل بدعاء عمه. ويكون هذا كذلك يوم القيامة بشفاعته لما ورد في هذا من الأحاديث الصحيحة «1» . و (ثالثها) التوسل به بمعنى الإقسام على الله بذاته. فهذا الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه لا في حياته ولا بعد مماته. ولا عند قبره ولا قبر غيره. ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم. وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة أو موقوفة، أو عن من ليس قوله حجة. ثم أخذ الإمام يورد أقوال أئمة الفقه والحديث بسبيل تأييد رأيه. منها ما يقرر حرمة التوسل لدى الله بحق أحد من مخلوقاته ولو كان نبيا. ومنها ما يقرر كراهية ذلك كراهة شديدة. ومنها ما يعتبره نوعا من الشرك لأنه دعاء بغير الله أو دعاء غير الله. وقد تنبه إلى أمر مماثل وفيه تأييد لرأيه وهو اتفاق الأئمة على عدم جواز الحلف بغير الله استنادا إلى أحاديث نبوية منها حديث جاء فيه «من حلف بغير الله فقد أشرك- وفي رواية- فقد كفر» ومنها حديث جاء فيه «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» «2» وأورد أقوال

_ (1) من ذلك حديث رواه الترمذي وأبو داود عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي قال محمد بن علي فقال لي جابر يا محمد من لم يكن من أهل الكبائر فما له وللشفاعة» وحديث رواه الترمذي عن عوف بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أنا آت من عند ربي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئا» التاج ج 4 ص 347- 349. وحديث رواه البخاري عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من قال حين يسمع النداء اللهم ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة الدائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلّت له شفاعتي يوم القيامة» التاج ج 1 ص 147. وهناك أحاديث صحيحة أخرى. انظر التاج ج 3 ص 349- 355. (2) في التاج ج 3 ص 67 و 68 هذه الصيغ: 1- روى الخمسة عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك عمر في ركب وهو يحلف بأبيه فناداهم رسول الله ألا إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت. 2- روى الخمسة عن ثابت بن الضحاك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من حلف بغير ملة الإسلام فهو كما قال» . 3- روى أبو داود والترمذي وأحمد عن ابن عمر قال «سمعت رسول الله يقول من حلف بغير الله فقد أشرك» .

الأئمة بعدم انعقاد اليمين الذي يحلفه المسلم بالأنبياء والصالحين والكرسي والعرش والملائكة والكعبة والمسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى. وحجة الإمام ناصعة قوية فيها القول الفصل المستند إلى النقل والعقل وجمهور الأئمّة بعدم جواز دعاء غير الله والإقسام على الله بحقّ أحد أو شيء مهما عظمت حرمته ومكانته لقضاء الحاجات والمطالب الدنيوية وبأن هذه العادة التي درج عليها عوام المسلمين في القرون الإسلامية المتأخرة ليس لها سند من سنة نبوية أو صحابية وهي بدعة مخالفة لروح الإسلام والتوحيد الصحيح. والله تعالى أعلم. هذا، وهناك بعض أحاديث نبوية تتضمن تقرير معنى غيبي لكلمة الوسيلة أوردها ابن كثير في سياق تفسير الآية. منها حديث عن جابر بن عبد الله جاء فيه «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال حين يسمع النداء «1» اللهمّ ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلّت له الشفاعة يوم القيامة» «2» . ومنها حديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول ثم صلّوا عليّ فإنه من صلّى عليّ صلاة صلّى الله عليه عشرا ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلّا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلّت عليه الشفاعة» «3» ومنها حديث رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا صلّيتم عليّ فسلوا لي الوسيلة قيل يا رسول الله وما الوسيلة؟ قال أعلى درجة في الجنة. لا ينالها إلّا رجل واحد وأرجو أن أكون أنا هو» «4» . ومنها حديث عن ابن عباس جاء فيه «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوا الله لي الوسيلة فإنه

_ (1) الأذان. (2) روى هذا الحديث البخاري والترمذي والنسائي وأبو داود أيضا عن جابر انظر التاج ج 1 ص 147. (3) روى هذا الحديث الخمسة أيضا عن أبي سعيد انظر نفس الجزء والصفحة. (4) هذه النصوص منقولة من تفسير ابن كثير.

لم يسألها لي عبد في الدنيا إلّا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة» «1» . ومنها حديث عن أبي سعيد الخدري قال «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إنّ الوسيلة درجة عند الله ليس فوقها درجة فسلوا الله أن يؤتيني الوسيلة على خلقه» «2» . والمجمع عليه عند أئمة التأويل والمفسرين بدون خلاف على ما يقوله ابن كثير أن معنى الكلمة في الآية هو القربة إلى الله تعالى بالطاعة والعمل الصالح الذي يرضيه. وأمر الله تعالى المؤمنين بابتغاء الوسيلة إليه يتضمن ذلك كما هو المتبادر ويتضمن أيضا أن ذلك مما يمكن للمؤمنين أن يحققوه. وعلى هذا فيكون ما ورد في الأحاديث أمرا آخر لا صلة له بالآية إلّا من حيث المشابهة اللفظية. ويجب التسليم به وإن لم يدرك مداه إذا صحت الأحاديث. ولقد أورد ابن كثير مع سلسلة الأحاديث المذكورة حديثين آخرين. فيهما زيادة عجيبة. منهما حديث أخرجه ابن مردويه عن علي جاء فيه «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الجنة درجة تدعى الوسيلة فإذا سألتم الله فسلوا لي الوسيلة، قالوا يا رسول الله من يسكن معك؟ قال علي وفاطمة والحسن والحسين» ومنهما حديث أخرجه ابن أبي حاتم عن علي بن الحسين الأزدي قال «سمعت علي بن أبي طالب ينادي على منبر الكوفة: يا أيها الناس إنّ في الجنة لؤلؤتين إحداهما بيضاء والأخرى صفراء. أما الصفراء فإنها إلى بطنان العرش والمقام المحمود من اللؤلؤة البيضاء سبعون ألف غرفة كل بيت منها ثلاثة أميال وغرفها وأبوابها وأسرتها وسكانها من عرق واحد واسمها الوسيلة هي لمحمد وأهل بيته. والصفراء فيها مثل ذلك هي لإبراهيم عليه السلام وأهل بيته» . وقد وصف ابن كثير الحديث الأول بأنه منكر والحديث الثاني بأنه غريب. والهوى الشيعي بارز على الحديثين.

_ (1) هذه النصوص منقولة من تفسير ابن كثير. (2) المصدر نفسه.

[سورة المائدة (5) : الآيات 38 إلى 40]

ولقد أورد الحديث الثاني المفسر الشيعي الطبرسي عن الأصبغ بن نباته. والطبرسي أقدم من ابن كثير حيث يمكن أن يكون في هذا قرينة على الصنع الشيعي. وننبه على أن الطبري والبغوي والزمخشري وهم من المفسرين المتقدمين كثيرا عن ابن كثير لم يوردوا من الأحاديث التي أوردها ابن كثير في منزلة الوسيلة الأخروية. واكتفوا بتفسير الكلمة في الآية بمعنى القربة إلى الله تعالى بما يرضيه. والطبري والبغوي بخاصة إمامان في الحديث ولا بدّ من أنهما يعرفان الأحاديث التي وردت في الكتب الخمسة حيث يبدو من هذا أنهما لم يريا صلة بين الآية والأحاديث. [سورة المائدة (5) : الآيات 38 الى 40] وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) . (1) نكالا: عقابا. تعليق على الآية وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ... والآيتين التاليتين لها وما ينطوي فيها من أحكام عبارة الآيات واضحة. وتحتوي تشريعا في حدّ السرقة بالنسبة للسارق والسارقة على السواء مع إيذان رباني بقبول توبة من تاب منهما وأصلح. ولم نطلع على رواية خاصة بمناسبة الآيات. وإنما روى الطبري أن امرأة سرقت حليا فجاء الذين سرقتهم فقالوا يا رسول الله سرقتنا هذه المرأة فقال:

اقطعوا يدها اليمنى فقالت المرأة هل من توبة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك فأنزل الله فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ. والذي يتبادر لنا أن للآيات صلة بالسياق السابق. فقد احتوت الآية [32] حكما تشريعيا في حقّ من يحارب الله ورسوله ويسعى في الأرض فسادا. وكان ذلك في ظرف ارتداد بعض البدو ونهبهم لذود الإبل الذي منحهم إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتلهم الرعاة فجاءت هذه الآيات لتستطرد إلى تشريع حدّ السرقة العادية ليكون الفرق واضحا بين عقوبة السرقة العادية التي تقع خفية وخلسة وبدون عنف ودم وبين تلك الجرائم التي تكون عادة مترافقة مع العنف والدم. ونرجح أن الآيات الثلاث نزلت معا. وأن الإيذان بقبول توبة السارق قد جاء ليتساوق مع الإيذان بقبول توبة المحارب في الآيات السابقة. ومن المحتمل أن تكون المرأة السارقة سألت عن إمكان التوبة فتليت عليها الآية فالتبس ذلك على الرواة والله أعلم. وحدّ السرقة من الحدود القليلة المعينة في القرآن لبعض الجرائم المهمة. وجريمة السرقة اعتبرت دائما وفي جميع المجتمعات والظروف من الجرائم المهمة لأن فيها عدوانا على أموال الغير التي تشغل في المجتمع مقاما رئيسيا بعد مقام الحياة والأعراض والسلامة العامة. فلا غرو أن يرتّب القرآن عليها حدّا كما رتّب على القتل والزنا والفساد في الأرض. ولا غرو أن اشتد في عقوبتها لتكون متكافئة مع خطورتها. ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث فيها دلالة على تشدده في موضوع السرقة وإقامة حدّها. منها حديث عن عائشة جاء فيه «أن قريشا أهمّهم شأن المرأة التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح، فقالوا من يكلّم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا ومن يجترىء عليه إلّا أسامة بن زيد حبّ رسول الله فأتى بها رسول الله فكلّمه فيها أسامة، فتلوّن وجه رسول الله فقال أتشفع في حدّ من حدود الله

عز وجل، فقال أسامة استغفر لي يا رسول الله فلما كان العشيّ قام رسول الله فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ وإني والذي نفسي بيده لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ثم أمر بتلك المرأة فقطعت يدها» «1» ومنها حديث عن عبد الله بن عمرو قال «سرقت امرأة على عهد رسول الله فجاء بها الذين سرقتهم فقالوا يا رسول الله إنّ هذه المرأة سرقتنا فقال قومها فنحن نفديها فقال رسول الله اقطعوا يدها فقالوا نحن نفديها بخمسمائة دينار. فقال: اقطعوا يدها فقطعت يدها اليمنى» «2» ومنها حديث عن أبي هريرة رواه الخمسة جاء فيه «قال النبي صلى الله عليه وسلم لعن الله السارق. يسرق البيضة فتقطع يده. ويسرق الحبل فتقطع يده» «3» . وفي كتب التفسير «4» بيانات متنوعة في صدد ما ينطوي في الآيات من أحكام نوجزها فيما يلي مع ما يعنّ للبال من تعليق: 1- إن حدّ السرقة لا يقام إلّا على العاقل البالغ. وهذا طبيعي. لأن العقل والبلوغ هما اللذان يجعلان الإنسان محلا للتكليف» . 2- وقال الخازن إن العلم بحرمة السرقة وحدها أيضا شرط لإقامة الحدّ. ولم يذكر سندا. ومثّل على ذلك بالمسلم الحديث العهد الذي لا يعرف أن السرقة

_ (1) النصّ من ابن كثير. والحديث الأول رواه الخمسة عن عائشة بفرق يسير انظر التاج ج 3 ص 33. (2) المصدر نفسه. (3) التاج ج 3 ص 19 وقد فسّر شراح الحديث والمفسرون (البيضة) في الحديث ببيضة الحديد أي المغفر الذي يضعه المحارب على رأسه. وهو تفسير في محله لأن قيمة بيضة الدجاجة لا تصل إلى النصاب الذي تقطع به يد السارق والذي حددته السنّة على ما سوف يأتي بعد. [.....] (4) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والقاسمي ورشيد رضا. (5) هناك حديث رواه أبو داود والنسائي والحاكم وصححه عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق» التاج ج 1 ص 133.

في الإسلام حرام تستوجب الحدّ. ولسنا نرى هذا وجيها. فالآية من جهة مطلقة، والسرقة من جهة ثانية من الجرائم العامة التي هي محرمة في كل شريعة ولا يمكن أن يجهل أحد أن فاعلها ينجو من عقاب. 3- اختلف في النصاب الذي يقطع به بسبب اختلاف المأثور من السنّة النبوية. فهناك حديث رواه الخمسة عن عائشة قالت «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقطع يد السارق إلّا في ربع دينار فصاعدا» «1» وهناك حديث عن ابن عمر رواه البخاري ومسلم والترمذي «أن رسول الله قطع سارقا في مجنّ قيمته ثلاثة دراهم» «2» وهناك حديث عن ابن عباس رواه أبو داود والنسائي «أنّ رسول الله قطع في مجنّ قيمته دينار أو عشرة دراهم» «3» فذهب بعض أئمة الفقه إلى اعتبار النصاب الأدنى ما قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم- وقيمة الدراهم الثلاثة كانت تقارب قيمة ربع الدينار- وذهب آخرون إلى اعتبار النصاب الأدنى دينارا أو عشرة دراهم. وبناء على ذلك فمن سرق دون النصاب الأدنى لا يقطع. وهذا التشريع النبوي متمم للتشريع القرآني. حيث أوضح ما سكت عنه القرآن. والمتبادر أن النصاب الأدنى سواء أكان ربع دينار أم دينارا إنما حدد حسب ظروف البيئة النبوية وهذا يورد على البال سؤالا عما إذا كان يصح أن يكون النصاب عرضة لتقدير ولي الأمر في حالة تغير الظروف والقيم وتطورها؟ ونميل إلى الإيجاب والله أعلم. ولقد لاح لنا إلى هذا حكمة سامية في جعل النصاب الذي يقطع به ضئيلا. فالذي يسرق القليل يسرق الكثير. والعقوبة إنما استهدفت زجر المجرم وردع غيره عن الجريمة. فإذا ما عرف أن اليد عرضة للقطع مقابل القليل ارتدع عن القليل والكثير معا. ولعلّ حديث أبي هريرة الذي رواه الخمسة والذي جاء فيه أن

_ (1) التاج ج 3 ص 19. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه.

النبي صلى الله عليه وسلم قال لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده» مما يدعم ذلك والله أعلم. 4- والعلماء متفقون على أن القطع إنما يكون في سرقة مال محرز أي موضوع في مكان من العادة أن يعتبر حرزا، ومسوّر عليه ولو لم يكن عليه حارس. ويدخل في ذلك الخيمة. ولا يوجبون القطع على من أخذ شيئا موضوعا في مكان غير محرز ولا حارس عليه أو بهيمة في برية لا راعي لها. ويظهر أنهم اعتبروا أن مثل ذلك لا يتصف بوصف السرقة. ولا يخلو هذا من وجاهة. لأن آخذه قد يكون أخذه على أنه مهمل متروك. 5- وهناك من أسقط القطع عن جاحد المتاع المستعار أو جاحد الأمانة أو الذي يأخذ شيئا بطريقة الاختطاف والاختلاس العياني استنادا إلى حديث رواه أصحاب السنن عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه «ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع» «1» وعلّلوا حكمة ذلك بإمكان استرداد المأخوذ خطفا أو نهبا والأمانة والمعار بالبينة. ولأن مثل هذا العمل لا يتصف بوصف السرقة. ولا يخلو القول من وجاهة. 6- ومما ذكره الخازن أن لا قطع على سرقة مال للسارق فيه شبهة حقّ كالولد يسرق من مال أبيه أو الوالد من مال ابنه أو العبد من مال سيده أو الشريك من مال شريكه. ولم يذكر المفسر سندا لقوله. ولم نر مفسرا آخر ذكر ذلك ويمكن أن تكون الأحاديث المروية في درء الحدود بالشبهات التي أوردناها في سياق تفسير الآية [24] في سورة النساء سندا لذلك. 7- وأكثر العلماء على أنه لا قطع على آكل الثمر من البستان. وقد روي في صدد ذلك حديثان. واحد رواه أصحاب السنن عن رافع بن خديج قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم لا قطع في ثمر ولا كثر» «2» . وثانيهما رواه أبو داود وأحمد والنسائي عن

_ (1) التاج ج 3 ص 21. (2) المصدر نفسه ص 20 والكثر: هو جمار التمر.

عبد الله بن عمرو قال «سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الثمر المعلّق فقال من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثله والعقوبة. ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجنّ فعليه القطع. ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثله والعقوبة» «1» . 8- ولقد فسّر شراح الحديث كلمة (العقوبة) في هذا الحديث بالتعزير حتى يرتدع السارق. ويكون في تعزيره عبرة لغيره. وقد أوجب العلماء بناء على ذلك تعزير سارق ما هو أدنى من النصاب من المال المحرز. وهذا حقّ. فالجريمة مهما تفهت لا يجوز أن تذهب بدون عقوبة. غير أن حديث عبد الله بن عمرو الذي يسمح لذي الحاجة بأكل الثمر من البستان بدون عقوبة بفتح الباب للسؤال عن حكم السارق الذي يسرق عن عوز شديد لسدّ جوعه أو جوع عياله إذا ما ثبت ذلك لدى الحاكم. ولقد أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عدم قطع سارق سرق في عام قحط ليسدّ جوعه. ولقد حرم الله أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير الله به واستثنى المضطر في حالة الجوع وخطره وعفا عنه. فهلا يصح أن يقال بجواز إعفاء مثل هذه الحالات الاضطرارية إذا ثبتت لدى الحاكم ولم تعد عند صاحبها حرفة. ولم تعد نطاق الاضطرار. ونحن نميل إلى الإيجاب استئناسا بالتلقين القرآني والنبوي والراشدي. ولا سيما إذا لاحظنا واقع أمر حكام المسلمين وأغنيائهم. فقد جعل القرآن للفقراء والمساكين والأرقاء والمعسرين أنصبة وحقا في كل مورد من موارد بيت المال من فيء وغنائم وصدقات- أي الزكاة- وأوجب على الحكام والأغنياء أداءها لهم بحيث لو فعلوا ذلك بحقّ لاكتفى كل ذي حاجة ولقضي على العوز والجوع، فلم يقوموا بما أوجبه الله عليهم وبقي الفقراء والمساكين مرتكسين في أشدّ حالات البؤس والعوز والشقاء. والله تعالى أعلم.

_ (1) التاج ج 3 ص 20. والخبنة أي أن يملأ طرف ثوبه أو إزاره أو وعاء ما والجرين محل تخزين أو تجميع التمر.

9- والعلماء متفقون على أن القطع هو عمل قضائي ينفذ بأمر ولي الأمر. وهم متفقون كذلك على أن السرقة تثبت بالاعتراف أو البينة. وهذا وذاك حقّ. 10- وقطع اليد هو قطع الرسغ أي لا يصل إلى المرفق. وهناك حديث عن فضالة بن عبد الله رواه أصحاب السنن «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بسارق فقطعت يده ثم أمر بها فعلّقت في عنقه» «1» وهذا يؤيد ذاك كما هو المتبادر. 11- وقد اختلف العلماء في تكرر القطع بتكرر الجرم. فهناك من قال بقطع اليد اليمنى في المرة الأولى والرجل اليسرى في الثانية واليد اليسرى في الثالثة والرجل اليمنى في الرابعة ثم يعزر ويحبس. ورووا في تأييد ذلك حديثا نبويا عن أبي هريرة وعن أبي بكرة لم يرد في أي من الكتب الخمسة جاء فيه «إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله ثم إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله» «2» وقد قال المفسر البغوي الذي أورد هذا الحديث إن مالكا والشافعي أخذا به. وهناك من قال تقطع اليد اليمنى في المرة الأولى والرجل اليسرى في المرة الثانية فقط فإذا تكرر حبس وعزر. ولم يورد قائلو هذا القول سندا. وهناك من قال بالاكتفاء بقطع اليد اليمنى في المرة الأولى فإذا تكرر حبس وعزر ويبدو من هذا أن أصحاب القولين الأولين لم يثبت عندهم الحديث الذي رواه البغوي. وأن أصحاب القول الثالث أخذوا بالآية التي تأمر بقطع يد السارق. ويلحظ أن قطع الأيدي والأرجل من خلاف إنما جعل عقوبة للمحاربين المفسدين. وأن تعيين عقوبة خاصة للسارق هو بسبيل إبراز الفرق بين عقوبته وعقوبة المحارب المفسد بحيث يمكن أن يقال إنه لا يصح أن يقاس السارق العادي بالمحارب المفسد. وإن القول الثالث هو الأوجه إلّا أن يقال إن تكرار إقدام السارق على السرقة يجعله في حكم المحارب المفسد ثم يؤخذ بحديث البغوي. والله أعلم.

_ (1) التاج ج 3 ص 20. (2) النصّ من تفسير البغوي.

12- واختلف في ما إذا كان القطع يسقط الغرامة عن السارق. فقال بعضهم إنه يسقطها آخذا بظاهر الآية وإطلاقها. وقال بعضهم إنه لا يسقطها. وفي الفقرة (7) حديث نبوي يقرر الغرامة على من أخذ من ثمر البستان في إزار أو وعاء فوق ما أكله ويقررها على من سرق دون ثمن المجنّ. وقد يكون في هذا الحديث ما يدعم القول الثاني حيث يبدو أن قائليه اعتبروا القطع عقوبة على الجناية واعتبروا المسروق حقا لصاحبه يجب ردّه إليه عينا إذا وجد أو قيمة. وهناك من توسط بين القولين فقال إذا وجد عين المسروق أو شيء منه وجب أخذه ورده إلى صاحبه. ونرى القول الثاني هو الأوجه إذا كان هناك إمكان لتنفيذه. 13- واختلف في ما إذا كانت التوبة أو العفو قبل القدرة على السارق أو بعدها وقبل القطع يسقطان عنه القطع. فهناك من قال بالسقوط قبل رفع الأمر للحاكم والقدرة عليه قياسا على المحارب الذي آذنت الآية [34] بقبول توبته إذا تاب قبل القدرة عليه. وهناك من قال بعدمه لأن الحدّ جزاء على الجناية والتوبة نحو الله من العمل نفسه المحظور دينا. ولقد رجحنا أن الآية [34] هي في صدد الكافر من حيث الأصل. وأوردنا في سياقها ما هناك من خلاف بين الفقهاء في قبول توبة المحارب المسلم الذي طبق الفقهاء عليه الآية قبل القدرة عليه وعدمها. ورجحنا قول من قال إن على الإمام تنفيذ الحدود عليه ولو تاب قبل القدرة عليه إذا ما طالب أصحاب الحق الشخصي بحقهم قبله وأقاموا البينة وإن توبته هي دينية لمخالفته أوامر الله تعالى. بحيث يكون هذا هو الأوجه في المسألة التي نحن في صددها أيضا. وهناك حديثان أوردهما ابن كثير فيهما تدعيم ما لهذا التوجيه منهما حديث رواه الدارقطني عن أبي هريرة جاء فيه «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بسارق سرق شملة فقال ما أخاله سرق فقال السارق بلى يا رسول الله. قال اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ثم ائتوني به فقطع فأتي به فقال تب إلى الله فقال تبت إلى الله فقال تاب الله عليك» وحديث رواه ابن ماجه عن أبي ثعلبة الأنصاري قال «إن عمرو بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني سرقت جملا لبني فلان فطهّرني. فأرسل إليهم فقالوا إنا افتقدنا جملا لنا. فأمر به فقطعت يده وهو

يقول الحمد لله الذي طهّرني منك. أردت أن تدخلي جسدي النار» والشخصان على ما تلهمه روح الحديثين قد تابا قبل أن يرفع أمرهما إلى النبي ويعتقلهما بالسرقة. ومع ذلك فقد طبق عليهما الحدّ واعتبرت توبتهما دينية لله تعالى. ولا يفوتنا أن ننوّه بما في الحديثين من صورة رائعة لما كان من تأثير القرآن والوعظ النبوي في أصحاب رسول لله صلى الله عليه وسلم حتى الثانويين منهم ... ومع ذلك فهناك حديث يرويه الإمام مالك جاء فيه «إن سارقا سرق رداء لصفوان بن أمية وهو متوسد في مسجد فلحق به فأمسكه وأخذه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بقطع يده. فقال صفوان إني لم أرد هذا يا رسول الله. هو عليه صدقة فقال رسول الله فهلّا قبل أن تأتيني به» «1» حيث ينطوي في الحديث صورة أخرى لأحكام رسول الله يستفاد منها سواغ سقوط الحدّ عن السارق إذا أسقط المسروق منه حقه قبل رفع الأمر للحاكم. 14- ولقد نبه الذين يقولون بسقوط الحدّ بالتوبة أو العفو على أن ذلك ليس من شأنه إسقاط الغرامة عن السارق. وهذا وجيه. ولعل الجملة القرآنية فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ تنطوي على ذلك بالإضافة إلى معنى إصلاح النفس بالتوبة والندم. هذا، ومن الناس من ينتقد عقوبة قطع يد السارق غير أن من المشاهد المجرب أن كثيرا من اللصوص يقدمون على السرقة كأسهل وسيلة إلى حيازة المال والاستمتاع أكثر من أن تدفعهم الحاجة الشديدة وقد أصبحوا بسبب ما يلقونه من خفة العقوبات الحديثة محترفين لا يمتنعون عن معاودة مهنتهم المرة بعد المرة مستهترين بأمن الناس وأموالهم وغير مفكرين في البحث عن الكسب الحلال وكثير منهم قادرون على ذلك. فقطع أيدي أمثال هؤلاء قد يكون أقوى رادع لهم. وفيه عبرة قوية لغيرهم من دون ريب مع التذكير بملاحظاتنا في الفقرة الثامنة.

_ (1) الموطأ ج 2 ص 236.

[سورة المائدة (5) : الآيات 41 إلى 43]

[سورة المائدة (5) : الآيات 41 الى 43] يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) . (1) السحت: قيل إنه في الأصل بمعنى المحق والاستئصال. وقد ورد في القرآن بهذا المعنى في آية سورة طه هذه قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) ثم أطلق على الرشوة والمال الحرام لأنه يمحق آخذه ويستأصله. في الآيات: (1) تسرية عن النبي صلى الله عليه وسلم: فلا موجب لحزنه من المنافقين الذين يزعمون أنهم مؤمنون به في حين أن قلوبهم غير مؤمنة ويسارعون في إظهار الكفر والجحود والشكّ في أية مناسبة. ولا من اليهود الذين يسمعون ويصدقون ما ينقله إليهم غيرهم من الأكاذيب ويشجعون عليها ويحرّفون الكلام عن مقاصده الصحيحة ولا يأتون إلى النبي ليسمعوا منه شفاها ويوسوسون للناس فيشيرون عليهم بقبول حكم النبي إذا حكم بكيت وعدم قبوله إذا حكم بكيت. (2) وحملة على هؤلاء خاصة: فإن ما يفعلونه ناشىء عن خبث نفوسهم وسوء نواياهم. وإن الله لمخزيهم في الدنيا ولمعذّبهم عذابا عظيما في الآخرة.

تعليق على الآية يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ... إلخ والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين وأحكام بالنسبة لقضايا أهل الكتاب في ظل السلطان الإسلامي

وإنهم لسمّاعون للكذب راضون به مشجعون عليه. وإنهم لأكّالون للمال الحرام. (3) وتخيير للنبي إذا جاءوا إليه ليحكم بينهم. فله أن يقضي بينهم أو يعرض عنهم وليس عليه من بأس إذا هو أعرض عنهم ولم يقبل أن يحكم بينهم. أما إذا رضي بالقضاء بينهم فعليه القضاء بالعدل والقسط. فإن الله يحب المقسطين الذين لا ينحرفون عن الحق في أي حال. (4) وسؤال إنكاري على سبيل التعقيب والتقريع والتعجب عن تحكيم اليهود للنبي والتقاضي عنده وعندهم التوراة فيها حكم الله فيما يريدون أن يتقاضوا فيه. وعن إعراضهم عنها. وتقرير بأنهم- وهذا حالهم- لا يمكن أن يعتبروا مؤمنين بما أنزل إليهم الله. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ... إلخ والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين وأحكام بالنسبة لقضايا أهل الكتاب في ظل السلطان الإسلامي قد تبدو الآيات فصلا جديدا. ومع ذلك فإن بينها وبين الفصول السابقة تناسبا ما من حيث احتواء هذه وتلك صورا من مواقف اليهود وأخلاقهم. ومن المحتمل أن يكون هذا الفصل نزل بعد الفصول السابقة فوضع في مكانه للتناسب الظرفي والموضوعي. وإلّا فيكون وضعه للتناسب الموضوعي والله أعلم. وقد روى الطبري روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات منها أنها نزلت في أبي لبابة الأنصاري الذي استشاره يهود بني قريظة في أمرهم حينما حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم فأشار إشارة فهموا منها أن النزول على حكم النبي معناه الذبح. ومنها أنها نزلت في مناسبة طلب رجل من اليهود من حليف مسلم له أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم في حكم قتيل قتله فإذا كان الحكم بالدية تقاضى عنده وإلّا فلا. ومنها أنها نزلت في عبد الله بن صوريا أحد أحبار اليهود حيث اجتمع اليهود حين قدوم النبي صلى الله عليه وسلم

إلى المدينة وكان رجل محصن منهم قد زنى بامرأة محصنة فقالوا نسأل محمدا عن الحكم فإن حكم بالجلد والتحميم والتعزير يكون ملكا لا بأس علينا منه وإن حكم بالرجم يكون نبيا فنحذره من استلاب ما في أيدينا. فأتوه فطلب منهم أن يدلوه على أعلمهم في التوراة فذكروا له عبد الله بن صوريا، فخلا به وناشده عما إذا كان يعلم أن حكم الزنا في التوراة الرجم فقال بلى. وإنهم ليعلمون أنك نبي مرسل ولكنهم يحسدونك. فأمر النبي برجمهما ولكن ابن صوريا جحد بعد ذلك ما قاله للنبي صلى الله عليه وسلم. ومنها أن النبي مرّ بيهودي محمم مجلود فدعا رجلا من علمائهم فقال أهكذا تجدون حدّ الزنا قال نعم قال فأنشدك بالذي أنزل التوراة أهكذا تجدونه فقال إن الحدّ كان الرجم ولكن الزنا كثر بين اليهود وصاروا يقيمون الحدّ على الضعيف دون القوي والشريف ثم اتفقوا على تبديل الرجم في التوراة بالجلد والتحميم «1» فقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه فأمر بالزاني فرجم. وإلى هذه الروايات فقد روى الطبري عن ابن عباس أن الآية فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ إلى جملة الْمُقْسِطِينَ نزلت في قضية قتيل من بني قريظة قتله بنو النضير. وكان بنو النضير يرون لأنفسهم فضلا على بني قريظة فإذا قتلوا منهم لم يقيدوا من أنفسهم وإنما دفعوا الدية وإذا قتل بنو قريظة منهم لا يقبلون إلا القود فأراد بنو قريظة أن يرفعوا الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويتحاكموا مع بني النضير عنده حتى يحكم لهم بالقود فقال رجل من المنافقين لبني النضير إن محمدا قد يحكم عليهم بالقود فاحذروا ولا تقبلوا المحاكمة عنده إلا إذا عرفتم أنه يقضي بالدية فأنزل الله الآية. وقد أورد المفسرون ما أورده الطبري. وأورد ابن كثير بالإضافة إلى ذلك رواية رواها الإمام أحمد عن ابن عباس مشابهة للرواية الأخيرة ولكنها تعود إلى الجاهلية حيث ذكرت ما خلاصته كسبب لنزول الآية أن طائفتين من اليهود اقتتلتا في الجاهلية فقهرت إحداهما الأخرى فاتفقتا على أن القتيل من التي قهرت يودى بمائة وسق ومن المقهورة بخمسين. وبعد قدوم النبي قتلت الذليلة واحدا من

_ (1) فسّر الطبري التحميم بتسويد الوجه بالسخام.

العزيزة فطالبت هذه بالدية المضاعفة فأبت الأولى حتى كادت الحرب تقع بينهما ثم بدا لهما أن يتحاكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدست الذليلة ناسا من المنافقين ليختبروا لهم رأى النبي فإذا كان حكم كما شاؤوا تحاكموا عنده وإلا نكصوا فأنزل الله الآية فيهم. وجمهور المفسرين بما فيهم الطبري يرجحون نزول الآيات في مناسبة قضية الزنا. ومنهم من قال إن قضية الزنا وقضية القتل بين بني النضير وبني قريظة اجتمعتا معا فأنزل الله الآيات فيهما. وقد روى البخاري ومسلم وأهل السنن عن ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بيهودي ويهودية زنيا فانطلق إلى يهود فقال ما تجدون في التوراة على من زنى؟ قالوا نسوّد وجوههما ونحمّلهما ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما قال فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين فأتوا بها فقرؤوها حتى إذا جاءت آية الرجم سترها الذي يقرأ بيده وقرأ ما قبلها وما بعدها فقال عبد الله بن سلام وهو مع النبي صلى الله عليه وسلم مره فليرفع يده فرفعها فإذا تحتها آية الرجم فأمر بهما رسول الله فرجما. قال ابن عمر كنت فيمن رجمهما. ورأيت الرجل يقي المرأة من الحجارة بنفسه» «1» وقد أورد ابن كثير هذا الحديث في سياق الآيات. ونصّ الآيات صريح بأنها في صدد حادث ندّدت بسببه بفريق من المنافقين وفريق من اليهود وأنه كان هناك قضية يهودية أريد تحكيم النبي صلى الله عليه وسلم فيها فكانت مشاورة في صدد ذلك بين الفريقين ثم مؤامرة على حكم النبي بقبوله إذا حكم كما يريدون وبرفضه إذا لم يحكم كذلك. وقد يتفق شيء من هذا مع الرواية التي تذكر أن يهوديا سأل حليفا له بالسؤال من النبي عن حكم قتيل قتله على أن يتحاكم عنده إذا كان حكمه بالدية دون القصاص كما يهوى. أو مع الروايات التي تذكر أن قسما من الآيات نزل في قتيل بني قريظة أو القتيل الذي قتلته القبيلة الذليلة من العزيزة من قبيلتي اليهود والآيات التالية لهذه الآيات تحتوي بيان ما كتبه الله تعالى على اليهود في التوراة من أحكام قتل النفس والدماء والجروح وليس فيها شيء عن حكم التوراة في الزنا بحيث يسوغ القول إن قضية الزنا ليس لها صلة بالآيات.

_ (1) التاج ج 3 ص 24.

ولعلها أقحمت عليها لأنها وردت في حديث صحيح مع أن الحديث لا يذكر بأن لها صلة بالآيات أيضا. ونظم الآيات منسجم مع بعضه بحيث يبعد أن تكون نزلت متفرقة وفي مناسبات مختلفة. ولسنا نرى في رواية أبي لبابة التي انفرد بها الطبري صلة مفهومة بالآيات. ونصّ الآيات يفيد أن الفريق المنافق قد نقل على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله أو أن الفريق اليهودي حرّف ما سمعه على لسان النبي صلى الله عليه وسلم وأن الفريقين اشتركا معا في التهويش والتشويش وأنه كان لذلك أثر شديد محزن في نفس النبي صلى الله عليه وسلم. ويلهم كذلك أن الحادث وقع في ظرف كان اليهود فيه ما يزالون في المدينة يدسّون ويتآمرون مع المنافقين. وإذا صحّ هذا فيكون هذا الفصل والفصول التي سبقته المحتوية على صور من مواقف اليهود وتاريخهم وواقعهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قد نزلت قبل صلح الحديبية الذي للفصول الأولى من السورة صلة به كما نبهنا على ذلك من قبل. ويكون في هذا دليل على ما ذكرناه في مقدمة السورة من أن في فصول السورة ما هو متقدم في النزول متأخر في الترتيب، وما هو عكس ذلك، وأنها ألّفت مؤخرا بعد أن تمّ نزول ما شاءت حكمة الله ورسوله أن تحتويه من فصول. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالحكم بالقسط بين اليهود في القضايا التي يحكمونه فيها ويريد أن يحكم فيها متسق كما هو واضح مع المبادئ القرآنية المتكررة في إيجاب العدل والقسط بخاصة مع المبدأ الذي شدد عليه في الآية الثامنة من هذه السورة وهو عدم التأثر ببغض قوم وجعله مؤثرا في العدل معهم. والروعة والتساوق يبدوان بارزين خاصة لأن الآيات حكت مواقف تهويش وشغب مقصودة وقفها اليهود. وهذا التلقين مستمر المدى كما هو واضح. وفي الآيات تخيير للنبي صلى الله عليه وسلم في الحكم بينهم إذا جاءوا إليه أو الإعراض عنهم. ولقد روى الطبري عن الشعبي وعطاء وابن جريج أن حكم الآية محكم وأن للحاكم المسلم الخيار في الحكم بين من يأتي إليه من غير المسلمين وعدم الحكم. كما روى عن مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة أن حكمها منسوخ بآيات الجزء التاسع من التفسير الحديث 9

أخرى من هذه السورة تأتي بعد قليل فيها أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يحكم بينهم بما أنزل الله ولا يتبع أهواءهم. وأن القضاء الإسلامي هو المختص بالنظر في قضايا أهل الذمة والمعاهدين من غير المسلمين الذين يعيشون في نطاق السلطان الإسلامي. وقد قال الطبري إن أولى الأقوال بالصواب أن حكم الآية ثابت لم ينسخ، وأن للحكام الخيار في الحكم وترك الحكم والنظر، وأن جملة فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ في الآيات الآتية ليست للنسخ وإنما هي للأمر بالحكم بينهم بما أنزل الله إذا اختار أن يحكم بينهم. وقد روى البغوي عن ابن عباس قولا بالنسخ ومن الأئمة من أخذ بهذا. ومنهم من أخذ بذاك ولقد قال الخازن إن مذهب الشافعي على أنه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إليه ونحن نرى في هذا الصواب. والله أعلم. ويتفرع على هذا مسألة أخرى وهي كيفية حلّ قضايا المعاهدين والذميين فيما بينهم إذا لم يرفعوها للقضاء الإسلامي. وقد روى الطبري قولا للزهري جاء فيه «مضت السنّة أن يردوا في حقوقهم ومواريثهم إلى أهل دينهم» وهذا القول متسق مع فحوى وروح الآية الأخيرة من الآيات كما هو المتبادر. حيث يفيد هذا أن للمعاهدين والذميين أن يرفعوا قضاياهم المدنية إلى رجال القضاء فيهم. وبكلمة أخرى يكون قضاؤهم هو المختص في قضاياهم إذا لم يرفعوها إلى حكام المسلمين. وهذا ما عليه الجمهور. وتظهر فيه روعة الشريعة الإسلامية في مراعاتها حرية العقيدة الدينية. فهي لا تكره أحدا على الإسلام. ولا تكره أحدا من الذين يخضعون للسلطان الإسلامي من غير المسلمين على التقاضي إلى قضائه. وفي الآيات التالية توجيه بإيجاب أن يكون قضاؤهم مستمدا من التوراة والإنجيل على ما سوف نشرحه بعد. وجملة وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ قد تكون تضمنت قرينة على ما ضمناه في تعليقنا على كلمة التوراة في سياق الآية [157] من سورة الأعراف بأن سفر الشريعة الذي كتبه موسى واحتوى تبليغات الله ووصاياه والذي

[سورة المائدة (5) : الآيات 44 إلى 45]

ذكر بعض أسفار ما بعد السبي أنه كان متداولا في أيدي اليهود قد ظلّ متداولا في أيديهم إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم وليس هو الآن في التداول فيكون قد ضاع. هذا، ومع ما قاله المؤولون والمفسرون من أن معنى السحت هو المال الحرام إطلاقا فإن الطبري والبغوي وغيرهما نقلوا عن مجاهد والحسن وقتادة أن الكلمة في مقام ورودها بالنسبة لليهود قد عنت الرشوة التي كان قضاة اليهود يأخذونها ليحكموا لمن يدفعها إليهم بالباطل ضدّ خصومهم. ولا يخلو هذا من وجاهة مستلهمة من مقام الجملة ومدى الآيات والأسلوب الذي جاءت به قد يفيد أنه كان مستشريا بينهم على نطاق واسع وفي بعض أسفار العهد القديم وفي بعض الأناجيل تنديدات باليهود على ذلك. ولقد استطرد البغوي إلى إيراد الحديث الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه الراشي والمرتشي وأوردناه في سياق الآية [188] من سورة البقرة فلم نر ضرورة لإعادة إيراده. [سورة المائدة (5) : الآيات 44 الى 45] إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) . (1) الربانيون: نسبة إلى الرب. وهي بمعنى رجال الله وعلماء كتابه. (2) الأحبار: الفقهاء أو القضاة، والحبر هو العالم الفقيه. (3) والجروح قصاص: بمعنى إذا جرح إنسان إنسانا جرحا غير ما ورد في الآية فيقتصّ منه بجرح مماثل.

تعليق على الآية إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور ... إلخ والآية التالية لها وما ينطوي فيهما من أحكام وتمحيص قاعدة (شرع ما قبلنا شرع لنا) وما ورد في صدد القصاص والجروح من أحاديث وأقوال

تعليق على الآية إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ ... إلخ والآية التالية لها وما ينطوي فيهما من أحكام وتمحيص قاعدة (شرع ما قبلنا شرع لنا) وما ورد في صدد القصاص والجروح من أحاديث وأقوال عبارة الآيتين واضحة. وقد تضمنت أولاهما: (1) تقريرا بأن الله تعالى قد أنزل التوراة فيها هدى ونور. وأوجب على النبيين والربانيين والأحبار المنقادين المسلمين إليه أن يحكموا بين اليهود بموجب ما فيها من شرائع وأحكام حيث صاروا عليها بما نالوه من علم ووصلوا إليه من مرتبة حفاظا وشهداء. وأن لا يخافوا من أحد غير الله وأن لا يبيعوا آياته وأحكامه بالثمن البخس. (2) وإيذانا بأن من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر به لا تصح منه دعوى الإيمان. وقد تضمنت ثانيتهما: (1) تقريرا بأن الله قد كتب على اليهود في التوراة قصاص النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن وقصاص الجروح الأخرى جروحا مماثلة لها. (2) وإيذانا بأن العفو جائز. وهو بمثابة صدقة يتقرب بها الذي يعفو إلى الله. وأن من يعفو عن شيء من حقه في القصاص يكون عفوه كفارة عن ذنوبه. (3) وإيذانا مكررا من الله بأن من لم يحكم بما أنزل الله فهو ظالم بانحرافه عن حدوده وشرائعه. ولقد روى الطبري عن الزهري أن الآية الأولى نزلت في صدد مراجعة اليهود في قضية الزنا حينما رفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ويلحظ أن الآية ليست وحدها وأنها

منسجمة مع الآية التي بعدها التي تذكر أحكام الدماء دون الزنا. ثم بما بعدها من الآيات التي تذكر الإنجيل ثم القرآن كسلسلة واحدة حيث يتبادر أكثر أنها استمرار للسياق السابق على سبيل البيان والاستطراد. ونرجح أن الآيتين نزلتا مع الآيات السابقة أو عقبها مباشرة. وروحهما تلهم بقوة كما قلنا قبل أن القضية التي أراد اليهود التقاضي فيها عند النبي ونشأ عنها المشهد الذي احتوته الآيات السابقة هي قضية دم. وأنهما استهدفتا تقرير كون حكم الله في قضايا الدم واضح في التوراة وكون واجب علماء اليهود وحكامهم هو الحكم بها وعدم الانحراف عنها والرضاء بذلك إذا حكم النبي صلى الله عليه وسلم بينهم بها. والتنديد بهم لمحاولتهم الانحراف عن أحكام الله وإهمالها. والعبارة القرآنية صريحة بأن الأحكام التي فيها قد كتبت على اليهود في التوراة وقد تؤيد هذه العبارة والآيات السابقة كما قلنا أن سفر التوراة الذي سجل موسى عليه السلام فيه ما بلغه الله إياه من وصايا وأحكام كان موجودا في أيدي اليهود. وفي سفري الخروج والأحبار من الأسفار المتداولة اليوم التي تحكي كثيرا مما بلّغه الله تعالى لموسى من وصايا وأحكام أحكام مماثلة لما جاء في العبارة القرآنية مع مغايرة يسيرة حيث يمكن أن يقال إن كتّاب السفرين استقوا ما كتبوه من سفر توراة موسى. وقد ورد في الإصحاح (21) من سفر الخروج من جملة الأحكام المبلّغة لموسى (نفس بنفس وعين بعين وسن بسن ورجل برجل وكيّ بكيّ وجراحة بجراحة ورضّ برضّ) وورد في الإصحاح (24) من سفر الأحبار تبليغا عن الله كذلك (من قتل إنسانا يقتل قتلا. أي إنسان أحدث عيبا في قريبه فليصنع به كما صنع الكسر بالكسر والعين بالعين والسن بالسن كالعيب الذي يحدثه في الإنسان يحدثه معه) . واستتباعا لما استلهمناه من الآيات السابقة بأن القرآن جعل لأهل الكتاب في السلطان الإسلامي أن يتقاضوا فيما بينهم وفق ما عندهم من شرائع يمكن القول إن الآيات التي نحن في صددها قد تكون انطوت على تلقين للسلطان الإسلامي بإجبار اليهود الذين يكونون في نطاق حكمه معاهدين وذميين على التقاضي وفقا لأحكام

التوراة إذا ما أرادوا التقاضي عند قضاتهم وأحبارهم وربانييهم. وقد يقال وكيف يعرف السلطان الإسلامي أحكام التوراة وسفر التوراة الذي كتبه موسى عن الله مفقود. وهذا سؤال وجيه غير أن الأسفار التي تعود إلى حقبة موسى وهي الخروج والأحبار والعدد والتثنية احتوت كثيرا من الأحكام والتشريعات محكية عن موسى عن الله حيث يمكن أن يكون كتّابها استقوها من سفر التوراة قبل فقده مهما كان شابها تحريف وتبديل. ويتبادر هنا أن حكمة الله بعد أن اقتضت جعل اليهود مخيرين وأوجبت على أحبارهم وربانييهم أن يحكموا بينهم وفاقا لأحكام التوراة صار من السائغ أن يقال إنه لا مانع من ترك الأمر في تطبيق ما في أيديهم من أسفار فيها أحكام وتشريعات محكية عن موسى عن الله تعالى دون أحكام خارجة عن نطاقها والله تعالى أعلم. هذا وفي كتب التفسير أقوال متنوعة في صدد ما في الآيتين من معان وأحكام وفي صدد تطبيق ذلك أو ما في بابه على المسلمين. فأولا: في صدد جملة يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا روى الطبري عن السدي أنها تعني النبي صلى الله عليه وسلم وروى عن قتادة حديثا مرفوعا جاء فيه «إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لما نزلت هذه الآية نحن نحكم على اليهود وعلى من سواهم من أهل الكتاب» . وروى إلى هذا عن الزهري وعكرمة أنها تعني النبيين جميعا ومنهم النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الطبري إن أولى الأقوال بالصواب عندي أن الله أخبر أن التوراة يحكم بها مسلمو الأنبياء والأحبار لليهود. ونزيد على هذا أن روح الآيتين وفحواهما قويا الدلالة على أن المقصود هم أنبياء بني إسرائيل. وأن الآية بسبيل حكاية ما كان وما ينبغي أن يكون بالنسبة لليهود. والله أعلم. وثانيا: في صدد جملة وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ وجملة وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وجملة وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ والجملتان الأخيرتان وردتا في آيات تأتي بعد هذه الآيات فقد روى الطبري عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها كلها

في الكافرين. وعن أبي مجلز والضحاك وعكرمة وغيرهم أن المقصود بها أهل الكتاب أو الكفار أو المشركون. وعن الشعبي أن الجملة الأولى في المسلمين والثانية في اليهود والثالثة في النصارى. وعن الحسن أنها وإن كانت في اليهود والنصارى فهي واجبة علينا. وعن ابن عباس أن من لم يحكم بما أنزل الله جاحدا فهو كافر وإن كان غير جاحد فهو ظالم وفاسق. وحديث البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس من الصحاح والأقوال الأخرى اجتهادية. وقد قال الطبري إن أولاها بالصواب قول من قال إنها نزلت في أهل الكتاب لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات نزلت فيهم وهم المعنيون بها. ومع ما في تصويب الطبري من وجاهة مستمدة من سياق الآيات فإن نظم الجمل يجعلها عامة الشمول لكل من لم يحكم بما أنزل الله. ويدخل في ذلك المسلمون أيضا كما هو المتبادر. ولقد روى الطبري عن ابن عباس وغيره أن الكفر والظلم والفسق في الجمل الثلاث هي كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق وأنها ليست بمعنى خروج عن الملّة حيث يفيد هذا أن المؤولين في الصدر الأول اعتبروا الجمل مطلقة وخرجوها بهذا التخريج. وهو تخريج وجيه دون ريب. ومهما يكن من أمر فإنه يتبادر لنا أولا أن الجملة جاءت في مقام تعظيم جريمة إهمال الحكم بما أنزل الله. وأعظم بذلك جريمة. وثانيا أن خروج من لم يحكم بما أنزل الله من الملّة منوط بأن يكون جاحدا لما أنزل الله مستحلا لمخالفته فإن لم يكن ذلك فيكون قد اقترف كبيرة دون أن يخرج من الملّة. وهذا متسق مع ما قاله ابن عباس وأوردناه قبل. وقد يصحّ أن يضاف إلى ذلك أن هذا أيضا يكون إذا كان الإهمال مقصورا ولم يكن للمهمل الذي يظهر إسلامه ولم يجحد ما أنزل الله تأويل أو تخريج لذلك الإهمال. والله تعالى أعلم. وثالثا: في صدد جملة فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ. فقد روى الطبري عن عبد الله بن عمرو وجابر بن زيد من طرق عديدة أنها بمعنى أن عفو

المجروح عن جارحه هو كفارة عن ذنوبه. وروى أقوالا معزوة إلى ابن عباس ومجاهد أنها بمعنى أن عفو المجروح عن جارحه هو كفارة للجارح بمعنى مسقط للقصاص والدية عنه والمتبادر أن القول الأول هو الأوجه. فالضمير ينبغي أن يعود إلى الأقرب وهو فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ. أو الذي يعفو وعفو المجني عليه مسقط لتبعة الجاني بطبيعة الحالة قصاصا كانت أم عقلا. فلا محلّ للقول الثاني من هذه الناحية. وهناك أحاديث نبوية تأتي بعد قليل فيها حثّ على العفو وبشرى للذين يعفون بغفران ذنوبهم وكون عفوهم كفارة لهم مما فيه تأييد للقول الأول. ورابعا: في صدد ما إذا كانت الآية الثانية هي المستند لقصاص الأطراف والجروح في الإسلام على قاعدة (شرع ما قبلنا شرع لنا) أم لا. والمستفاد من أقوال المفسرين ولا سيما ابن كثير والخازن أن من الأصوليين والفقهاء من قال إن النبي يتعبد بشرائع الكتب السماوية السابقة وإن ما لم ينسخه القرآن والسنّة من هذه الشرائع هو شرع للمسلمين، ووضعوا قاعدة (شرع ما قبلنا شرع لنا) وقالوا بالتبعية إن الآية هي مستند قصاص الأطراف والجروح في الإسلام. وهناك من أنكر ذلك وقال إن ما ورد في الآية هو إخبار بما كتب الله على بني إسرائيل وإن المسلمين مقيدون بما أوحى الله إلى النبي من تشريع خاص وبما صدر من النبي من تشريع خاص سواء أكان فيه إقرار ومطابقة لما في الكتب السماوية السابقة أم نسخ له. والذي يتبادر لنا أن الرأي الثاني هو الأوجه والأكثر اتساقا مع روح الآيات وسياقها ومناسبتها وهدفها بل ومضمونها أيضا إذا ما أنعم النظر فيها. ويلفت النظر خاصة إلى جملة يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وإلى جملة وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها حيث تدلان بصراحة على خصوصية الأحكام بالنسبة لليهود فقط. وفي نصوص الآيات التي تأتي بعد قليل دلائل قوية على وجاهة هذا الرأي أيضا على ما سوف نشرحه بعد. ومن الجدير بالذكر والتنبيه في هذا المقام أن في الأسفار الأربعة (الخروج والعدد والأحبار وتثنية الاشتراع) من أسفار العهد القديم نصوصا كثيرة بطقوس تعبدية وأحكام وتشريعات متنوعة بأسلوب يفيد أنها مما بلغه

الله لموسى. والراجح أنها أو أن كثيرا منها مستقى من سفر توراة موسى المفقود وليس في القرآن والحديث نصوص بنسخها منفردة أو جملة. ومع ذلك فلم يرد حديث ما عن النبي صلى الله عليه وسلم باتخاذها طقوسا وشرائع وطرائق في الإسلام ولم يمارسها النبي والمسلمون في عهده فضلا عن ما بعده. ومثل هذا يقال في أمور متنوعة أخرى وردت على لسان عيسى عليه السلام في الأناجيل كأنها أوامر ربانية أو إلهام رباني. ومع هذا فإن قصاص الأطراف والجروح في الإسلام متفق عليه عند أئمة الفقه الإسلامي. وقد ورد في ذلك أحاديث نبوية عديدة منها ما ورد في الكتب الخمسة. فهناك حديث رواه الخمسة عن أنس «أن يهوديا رضّ رأس جارية بين حجرين فقيل لها من فعل هذا بك. أفلان. أفلان؟ حتى سمّي اليهوديّ فأومأت برأسها فجيء باليهودي فاعترف فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرضّ رأسه بحجرين» «1» . وحديث رواه البخاري وأبو داود عن أنس أيضا «أنّ ابنة النضر لطمت جارية فكسرت ثنيّتها فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بالقصاص» «2» . وحديث رواه الشيخان عن أنس «أن أخت الربيع أمّ حارثة جرحت إنسانا فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال القصاص القصاص، فقالت أم الربيع يا رسول الله أيقتصّ من فلانة والله لا يقتصّ منها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله يا أم الربيع القصاص كتاب الله، قالت والله لا يقتصّ منها أبدا فما زالت حتى قبلوا الدية فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنّ من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرّه» «3» . وحديث أخرجه الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أقدني فقال له حتى تبرأ ثم جاء إليه ثانية فقال أقدني فأقاده ثم جاء فقال يا رسول الله عرجت، فقال له قد نهيتك فعصيتني فأبعدك الله وبطل عرجك ثم نهى رسول الله عن أن يقتص من جرح

_ (1) التاج ج 3 ص 7- 8. [.....] (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه وروى ابن كثير الحديث بصيغة أخرى ولكن جوهر الحديث واحد.

حتى يبرأ صاحبه» وقد صارت هذه الأحاديث- وربما كان هناك غيرها من بابها- مستندا لاتفاق أئمة الفقه على أن قصاص الجروح شرع إسلامي أيضا على ما يستفاد من كلام المفسرين وبخاصة ابن كثير والخازن. والذي يتبادر لنا بناء على ما ذكرناه قبل أن ما جاء في هذه الأحاديث لا يعدّ دليلا على صحة قاعدة (شرع من قبلنا شرع لنا) وبالتبعية على أن شريعة التوراة هي شريعة لنا. وكل ما في الأمر أنه تشريع نبوي في أمور سكت عنها القرآن ويمكن أن يكون مستوحى من هذه الشريعة. ومن الجدير بالذكر أن الطبري وهو من أقدم من وصل إلينا كتبهم في التفسير وهو من رجال القرن الثالث الذي كان بعض أئمة الفقه من رجاله أيضا لم يذكر هذه القاعدة ولم يذكر أن أئمة الفقه قد استندوا إليها في اتفاقهم على قصاص الأطراف والجروح. بل لم يذكر ذلك البغوي من رجال القرن الخامس. وأول من رأيناه يشير إلى شيء منها الزمخشري من رجال القرنين الخامس والسادس في سياق الآية [48] من السورة حيث قال إن هناك من قال إن هذه الآية دليل على أننا لا نتعبّد بشرع ما قبلنا. حيث يفيد هذا أن هذه القاعدة حديثة نوعا في أصول الفقه الإسلامي. والله أعلم. وخامسا: في صدد تنفيذ قصاص الجروح. وقد ذكر ابن كثير أن مالكا والشافعي وأحمد بن حنبل لا يرون على المجني عليه شيئا إذا اقتصّ من الجاني فمات. وأن هذا هو قول الجمهور من الصحابة والتابعين. وأن أبا حنيفة يذهب إلى أن الدية تلزم المجني عليه إذا مات الجاني من اقتصاصه استنادا إلى أقوال بعض علماء التابعين. وإلى هذا فقد ذكر هذا المفسر أن هناك من قال بسقوط دية الجرح من الدية الكاملة. ويفيد هذا في الوقت نفسه أن أئمة الفقه الإسلامي متفقون على أن المجني عليه هو صاحب الحقّ بمباشرة القصاص من الجاني. وقد يكون في الحديث المروي عن الرجل الذي ضربه رجل آخر في ركبته

وأقاده النبي صلى الله عليه وسلم من ضاربه تأييد لذلك. ولقد كان هذا بتأييد النبي صلى الله عليه وسلم وهو رئيس الدولة والمسلمين حيث تكون القاعدة أن يجري هذا بتأييد وتمكين وإشراف وليّ الأمر والسلطان. بل يتبادر لنا أن ما روي كان متساوقا مع عادات ومفاهيم أهل بيئة النبي.. وأنه ما دام ذلك قد تمّ بتمكين النبي صاحب السلطان فإن للسلطان الإسلامي أن يجعل مباشرة القصاص بإشرافه وأن لا يدعه هملا قد يؤدي إلى ما ليس حقّا وما فيه تجاوز وظلم وضرر وجنف. ولقد فرع الفقهاء على هذا التشريع فاتفقوا على ما يستفاد من ابن كثير على أن الجراح التي يكون فيها مفصل هي التي يكون فيها القصاص كاليد والرجل والكفّ والقدم. أما الجراح التي تكون في العظم باستثناء السنّ فمنهم من أوجب فيه القصاص إذا لم يكن من ذلك خطر على حياة الجاني ومنهم من لم يوجبه استنادا إلى أقوال علماء التابعين. أما السنّ فهم متفقون على القصاص فيه. وسادسا: في صدد الحثّ على العفو في الجروح: ولقد أورد المفسرون أحاديث عديدة في هذا الباب. منها حديث رواه الطبري عن أبي السفر قال (دفع رجل من قريش رجلا من الأنصار فاندقت ثنيته فرفعه الأنصاري إلى معاوية فلما ألحّ عليه قال معاوية شأنك وصاحبك، وكان أبو الدرداء عند معاوية. فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه لله إلّا رفعه الله درجة وحطّ عنه خطيئة به «1» فقال له الأنصاري أنت سمعته من رسول الله؟ قال سمعته أذناي ووعاه قلبي، فخلى سبيله فقال معاوية مروا له بمال) والحديث أيضا يؤيد كون المباشرة في الاقتصاص للمجني عليه بتأييد السلطان. ومن ذلك حديث رواه الطبري عن ابن الصامت قال «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من جرح في جسده جراحة فتصدق بها كفر عنه ذنوبه بمثل ما تصدق به» . ومن ذلك حديث رواه الطبري عن عدي بن ثابت قال «هتم رجل

_ (1) هذا الحديث ورد في التاج برواية الترمذي بهذا النص «عن النبي صلى الله عليه وسلم ما من رجل يصاب بشيء في جسده فيتصدّق به إلّا رفعه الله به درجة وحطّ عنه به خطيئة» التاج ج 3 ص 32 ومعنى فيتصدق به يعفو عنه.

على عهد معاوية فأعطي دية فلم يقبل ثم أعطي ديتين فلم يقبل ثم أعطي ثلاثا فلم يقبل فحدث رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله قال فمن تصدق بدم فما دونه كان كفارة له من يوم تصدق إلى يوم ولد فتصدق الرجل» . وفي هذه الأحاديث التي وإن كانت لم ترد في الكتب الخمسة متساوقة مع الحديث الذي يرويه الترمذي تأييد لتأويل جملة فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ بأنها تعني أن الكفارة لمن يعفو. ومن الجائز أن تكون الجملة تعقيبا أو تنبيها قرآنيا مباشرا فأخذ به النبي صلى الله عليه وسلم ومن ذلك حديث رواه ابن ماجه وأورده ابن كثير جاء فيه «أن رجلا ضرب رجلا على ساعده بالسيف من غير المفصل فقطعها فاستعدى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر له بالدية فقال يا رسول الله أريد القصاص فقال له خذ الدية بارك الله لك فيها» . وهناك حديث مهم في هذا الباب رواه أبو داود والنسائي عن أنس قال «ما رأيت رسول الله رفع إليه شيء فيه قصاص إلّا أمر بالعفو» . ففي هذه الأحاديث تلقين قوي بوجوب العدول عن القصاص في الجراحات والتسامح فيها. وسابعا: في دية الجراحات: ولقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث عديدة عن دية الجراحات. منها حديث رواه أصحاب السنن عن ابن عباس «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال في دية الأصابع اليدين والرجلين سواء عشر من الإبل لكلّ إصبع» «1» وحديث رواه أبو داود والنسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الأنف إذا جدع الدية كاملة وإن جدعت ثندؤته فنصف العقل وفي اليد إذا قطعت نصف العقل وفي الرجل نصف العقل. وفي المأمومة (وهي الشجة التي تصل إلى جلدة تسمى أم الدماغ) ثلث العقل والجائفة (وهي الشجة التي تصل إلى جوف الرأس والبطن والظهر ولم تقتل) مثل ذلك. وفي الأصابع في كلّ إصبع عشر من الإبل وفي

_ (1) التاج ج 3 ص 13.

الأسنان في كل سنّ خمس من الإبل» «1» . وحديث رواه أبو داود والنسائي كذلك عن كتاب أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن جاء فيه «أنّ في النفس الدية مائة من الإبل وفي الأنف إذا أوعب جدعه الدية وفي اللسان الدية وفي الشفتين الدية وفي البيضتين الدية وفي الذكر الدية وفي الصلب الدية وفي العينين الدية وفي الرجل الواحدة نصف الدية وفي المأمومة ثلث الدية وفي الجائفة ثلث الدية وفي المنقّلة (وهي الشجة التي يتكون بسببها قشور على العظم دون اللحم) خمس عشرة من الإبل وفي كل إصبع من اليد والرجل عشر من الإبل وفي السنّ خمس وفي الموضحة (وهي الجرح الذي يرفع اللحم عن العظم) خمس وإن الرجل يقتل بالمرأة وعلى أهل الذهب ألف دينار» «2» . وحديث رواه كذلك أبو داود والنسائي جاء فيه «قضى النبي صلى الله عليه وسلم في العين العوراء السادّة لمكانها إذا طمست بثلث ديتها وفي اليد الشلّاء إذا قطعت بثلث ديتها وفي السنّ السوداء إذا نزعت بثلث ديتها» «3» . ومنها حديث رواه أبو داود والنسائي عن عمران بن الحصين جاء فيه «أن غلاما لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله إنّا قوم فقراء فلم يجعل عليهم شيئا» «4» . ففي هذه الأحاديث تتمة للتشريع النبوي في قصاص الجروح وفيها تخفيف كبير بالنسبة لما كتب على بني إسرائيل في التوراة وذكر في الآية. لأنه ليس هناك دية بدلا من القصاص. وهذا فضلا عن ما في الأحاديث السابقة من تلقين بالعفو والتسامح وحديث الترمذي بخاصة جدير بالتنبيه ومنطو من دون ريب على تلقين مستمر المدى.

_ (1) التاج ج 3 ص 13. (2) المصدر نفسه ص 13- 14 وجملة على أهل الذهب ألف دينار تعني قيمة الدية الكاملة. وجملة (بثلث ديتها) تعني أن الدية في هذه الأعضاء المعطوبة هي ثلث مثلها إذا كانت سليمة من العطب. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه ص 12.

[سورة المائدة (5) : الآيات 46 إلى 47]

والمتبادر أن التقدير النبوي للدية متأثر بالظروف والاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية في ذلك الوقت. وقد يكون والحالة هذه مساغ للقول إن لولي أمر المسلمين حقّ الاجتهاد في التقدير بالنسبة للظروف والاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية في وقته والله أعلم. وثامنا: لقد استطرد الطبري إلى مسألتين. أولاهما نجاة الجاني من عقوبة الآخرة إذا اقتصّ منه أو أدّى دية ما جنت يده. أو عفا المصاب عنه. فقال إن هذا هو كفارته ولا عقوبة أخروية عليه على ما ثبت من حكم رسول الله في ذلك. وهذا حقّ وصواب استنادا إلى أحاديث رسول الله التي أوردناها قبل والتي ذكر فيها أن الله أعدل من أن يثني عقوبة على عبده. أما الثانية فهي ما يمكن أن يحدثه شخص في آخر من جروح خطأ بدون عمد. وقد قال الطبري إن الله سبحانه قد وضع عن عباده جناح ما أخطأوا ولم تتعمده قلوبهم «1» فلا محل لقصاص فإن عفا المصاب فيها وإلا فلا يجب على الجاني غير الدية. وهو اجتهاد وجيه. ولعلّه قاسه على القتل الخطأ الذي لا يستوجب قصاصا بل دية إن لم يعف أهل القتيل على ما مرّ شرحه في سياق الآية [42] من سورة النساء. وقد تكون الحالة هنا من باب الأولى. وقد يرد سؤال عما إذا لم يجد الجاني دية. فآية النساء شرعت في مثل هذه الحالة صيام شهرين متتابعين توبة من الله والفرق عظيم بين جرح غير مميت وبين إزهاق روح. وقد يكون في صيام الجاني مدة ما توبة له والله تعالى أعلم. [سورة المائدة (5) : الآيات 46 الى 47] وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47) .

_ (1) ورد هذا المعنى في آية سورة الأحزاب 5.

تعليق على الآية وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم والآية التالية لها وما ينطوي فيهما من أحكام

تعليق على الآية وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ والآية التالية لها وما ينطوي فيهما من أحكام عبارة الآيتين واضحة. وقد احتوتا: (1) تقريرا بأن الله قد أرسل بعد أنبياء اليهود وتوراتهم عيسى ابن مريم مصدقا ومؤيدا للتوراة وآتاه الإنجيل أيضا. وفيه هو الآخر نور وهدى وموعظة لمن يخشى الله ويتقيه ومصدق وموقت في الوقت نفسه للتوراة التي نزلت قبله. (2) وإيجابا على أهل الإنجيل بأن يحكموا بما أنزل الله فيه وإنذارا بأن من لم يحكم كذلك فهو فاسق خارج عن أمر الله. ولم نطلع على رواية في سبب نزول الآيتين. والمتبادر أنهما جاءتا في مقام الاستطراد حيث اقتضت حكمة التنزيل الاستطراد إلى ذكر عيسى عليه السلام وإنجيله بعد ذكر التوراة وأنبياء بني إسرائيل وإيجاب الحكم بالإنجيل على النصارى بعد إيجاب الحكم بالتوراة على اليهود. والمتبادر تبعا لذلك أن تكون الآيتان نزلتا عقب الآيات السابقة لها مباشرة. والله أعلم. وجملة وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ تعني آثار النبيين المذكورين في الآية [44] وهذا يعني أن المقصود بكلمة النبيين هم أنبياء بني إسرائيل ويؤيد ما قلناه قبل في سياق شرح هذه الآية. وجملة وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ قوية التأييد للرأي الثاني الذي وجهناه في الفقرة الخامسة في سياق الآيات السابقة وعدم صحة قاعدة (شرع من قبلنا شرع لنا) كما هو المتبادر. ولقد قرئت اللام في كلمة وَلْيَحْكُمْ بالسكون على معنى الأمر، كما قرئت بالكسر بمعنى (كي يحكم) . وكلتا القراءتين صحيحة المعنى في مقامها. غير أن جملة وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أولا والآية [68] من

هذه السورة التي تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ أهل الكتاب بأنهم ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل ثانيا مما يرجح القراءة الأولى. ولقد رأينا السيد رشيد رضا يورد زعم النصارى أو مغالطتهم بأن هذه الجملة تعني أنهم غير مخاطبين بالقرآن وحكمه. وهذا الزعم غير مستقيم. لأن كل ما تعنيه الجملة بالنسبة للنصارى في زمن النبي ومن بعده أن عليهم إذا أرادوا أن يحتفظوا بنصرانيتهم أن يحكموا بما في الإنجيل ويسجّل عليهم الفسق إذا خالفوه في أحكامهم. أما كونهم مخاطبين في القرآن ومدعوين إلى الإيمان به وبالرسالة المحمدية ففي القرآن آيات عديدة في ذلك من أقربها آيات هذه السورة [15- 16] و [19] . وهذه الجملة تؤيد كما يتبادر لنا وذكرناه في سياق تعليقنا على الإنجيل في سورة الأعراف أنه كان في أيدي النصارى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إنجيل لعيسى لا بدّ من أنه كان يحتوي ما أنزله الله عليه من وصايا وتعاليم وأحكام. ومن الجدير بالذكر أن في إنجيل مرقس المتداول اليوم عبارات صريحة بأنه كان لعيسى إنجيل وأمر تلامذته بالتبشير به. وفي رسائل بولس ذكر لهذا الإنجيل أيضا «1» . وليس في أيدي النصارى إلّا الأناجيل التي كتبها كتّابها بعد وفاة عيسى وضمنوها سيرته. وينطوي في الجملة أن للنصارى الذين هم في نطاق السلطان الإسلامي حق التقاضي في قضاياهم فيما بينهم أمام قضاتهم كما هو الأمر بالنسبة لليهود على ما شرحناه قبل. وما قلناه هناك يقال هنا بتمامه وبخاصة في الإيجاب على السلطان الإسلامي ملاحظة التزامهم لأحكام الإنجيل وتعاليمه في قضاياهم. وإذا كان يمكن أن يقال إن إنجيل عيسى مفقود وهو ما يقال بالنسبة لتوراة موسى أيضا فما قلناه في صدد الحالة بالنسبة لليهود يصح قوله هنا أيضا من حيث إن في الأناجيل المتداولة أشياء كثيرة من أقوال وتعاليم ووصايا وأحكام معزوة إلى عيسى أو إلى الله عن لسانه عليها سمة الوحي. فيصحّ أن يترك لهم هذا على أن يكونوا في نطاقه

_ (1) الإصحاح 1 و 16 من إنجيل مرقس والإصحاح 1 من رسالة بولس إلى أهل روما والإصحاح 9 من الرسالة الأولى إلى أهل كورنتوس.

وحسب. ومن الجدير بالذكر أن في الأناجيل المتداولة ما يفيد أن شريعة التوراة تظل شريعة للنصارى مما لم ينسخه عيسى رأسا أو بأمر الله. فيكون لهم أن يتحاكموا أيضا بشريعة التوراة والله أعلم. ولقد رأينا ابن كثير يذكر في سياق تفسير الجملة التي نحن في صددها أنها توجب على النصارى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم لأن الإنجيل يحتوي بشارة به. ومع وجاهة هذا القول في ذاته فالمتبادر أن الجملة هي في صدد التحاكم القضائي لأن هذا هو مقتضى السياق. ودعوة القرآن للنصارى إلى الإيمان برسالة النبي وكونها لهم في جملة الناس وإيجاب الإيمان بها عليهم وتقرير كونهم يجدون صفاته في التوراة والإنجيل وكون عيسى قد بشّر به قد انطوى في نصوص قرآنية بأسلوب أصرح. وقد فهمها طوائف كبيرة من النصارى على هذا الوجه وآمنوا بها على ما شرحناه في سياق تعليقنا على الآية [157] من سورة الأعراف وغيرها. هذا وهناك مسألة قد تتفرع عن السماح لليهود والنصارى بالتقاضي فيما بينهم وفق كتبهم وهي حالة غير المسلمين الذين يعيشون في كنف السلطان الإسلامي ذميين ومعاهدين فإنهم قد لا يكونون جميعا يهودا ونصارى وقد يكون منهم من هو منتسب إلى ملل أخرى. ويتبادر لنا أن حكمة اختصاص اليهود والنصارى والتوراة والإنجيل بالذكر هي كونهم الذين كان للعرب بهم الاتصال الأوثق والأوسع قبل الإسلام. وقد ألممنا بمسألة مماثلة في سياق الآية الخامسة من هذه السورة ونقول هنا ما قلناه هناك إنه إذا ادّعت ملّة من الملل التي تعيش في كنف السلطان الإسلامي أن عندها كتابا موحى به من الله إلى أحد أنبيائها فيه شرائع لها وأظهرته وكان عليه سمة من سمات الكتب السماوية بقطع النظر عما يكون فيه من مخالفات للقرآن لأن هذا شأن الأسفار التي يتداولها اليهود والنصارى أيضا فليس للمسلمين أن يكذبوها ويصحّ أن يعاملوا أهلها في هذه المسألة على ذلك الأساس أيضا. أما إذا كان هناك ملّة ليس لها كتاب تدعي أنه سماوي منزل على نبي دون دليل قوي من واقع ونصّ فينطبق عليها وصف الجاهلية الوارد في الآية [50] التي تأتي في

[سورة المائدة (5) : الآيات 48 إلى 50]

السلسلة التالية ويكون الشرع الإسلامي هو الذي يجب القضاء به في قضاياها والله تعالى أعلم. [سورة المائدة (5) : الآيات 48 الى 50] وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) . (1) شرعة ومنهاجا: الشرعة بمعنى الشريعة والمنهاج هو الطريق والسبيل والسنّة المبينة. والمستلهم من روح الآيات أن الكلمتين في مقامهما بمعنى القواعد والأحكام العملية وطريقة السير في تنفيذها والجري عليها. عبارة الآيات واضحة كذلك. وقد وجّه الخطاب فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فأولا: قد آذنته أن الله قد أنزل إليه الكتاب بالحق مصدقا ومؤيدا لما أنزله سابقا من الكتب ورقيبا مهيمنا عليها وضابطا ومرجعا لها. وثانيا: قد أمرته بأن يحكم بين الذين يتقاضون لديه من أهل الكتاب بموجب ما أنزل الله إليه وأن لا يسايرهم في أهوائهم ومآربهم مسايرة تصرفه عن الحق الذي جاءه. وثالثا: قد قررت أن الله تعالى لو شاء لجعل الناس أمة واحدة في شرائعها وطرائق تنفيذها ولكن حكمته اقتضت أن يكون لكل منهم أو لكل دور وظرف من أدوارهم وظروفهم شرائع وطرائق ليختبرهم بها في كيفية تصرفهم فيما يرسم لهم من حدود وقيود وأحكام.

تعليق على الآية وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين وأحكام وما ينطوي في جملة ومهيمنا عليه من ضابط للعقيدة الإسلامية بالنسبة للكتب السماوية

ورابعا: قد هتفت بالمخاطبين ليتسابقوا بناء على ذلك في الخيرات والفضائل. فإن مرجعهم إلى الله عز وجل. وسوف ينبئهم بما كانوا فيه يختلفون فيظهر المحقّ من المبطل والمهتدي من الضالّ. وخامسا: قد عادت فأمرت النبي ثانية بأن يحكم بينهم بما أنزل الله وبأن لا يسايرهم ولا يتبع أهواءهم وميولهم وبأن يكون على حذر من تدليسهم فلا يفتنوه ولا يجعلوه ينحرف عن بعض ما أنزل الله ويتساهل معهم. وسادسا: قد أهابت به بأن لا يحزن ولا يعبأ بهم إن هم أعرضوا عن قبول حكمه وفق ما أنزل الله. فإن إعراضهم ناشىء عما في نفوسهم من خبث ودنس قضت إرادة الله بأن يعذبهم عليه. فكثير من الناس فاسقون وخارجون عن أمر الله وحكمه. وهم من الجملة فلا موجب للحزن والاغتمام. وسابعا: قد تساءلت تساؤلا إنكاريا فيه معنى التنديد عما إذا كانوا يبغون أن يحكم النبي بينهم بحكم الجاهلية وعرفها ويدع حكم الله. تعليق على الآية وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين وأحكام وما ينطوي في جملة وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ من ضابط للعقيدة الإسلامية بالنسبة للكتب السماوية ولقد روى المفسرون «1» أن الآية الثانية نزلت في جماعة من زعماء اليهود وأحبارهم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له إننا أشراف قومنا وأحبارهم وبيننا وبين بعض قومنا خصومات ونريد أن نتحاكم إليك فإذا قضيت لنا عليهم آمنّا بك وصدقناك، وإذا فعلنا ذلك تابعنا قومنا، فنزلت الآية. ورووا أن الآية الثالثة نزلت في مناسبة طلب يهود بني النضير من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحكم لهم بدية مضاعفة لقتلاهم

_ (1) انظر الطبري والبغوي والخازن وابن كثير.

على بني قريظة لأنهم أشرف منهم وفاقا لتقاليد الجاهلية فأبى فنزلت الآية. والرواية الأخيرة رويت في مناسبة الآيات [41- 43] أيضا على ما ذكرناه قبل. وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. والمستلهم من روح الآيات ومضمونها ونظمها وعطفها على ما قبلها أنها وحدة تامة نزلت معا وأنها استمرار في السياق السابق وأسبابه وتعقيب عليه وغير منفصلة عنه لمناسبة جديدة أو مستقلة مع استثناء الآيتين [46 و 47] من السياق اللتين جاءتا استطراديتين. وأنها استهدفت تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم في موقفه والتسرية عنه وتحذيره من تدليس اليهود وتهويشهم كما استهدفت التنديد بهم. ومما يلهمه روح الآيات ومضمونها أن الحكم الذي كان يريد النبي صلى الله عليه وسلم أن يحكم به بإلهام الله في القضية التي رفعت إليه أو أريد رفعها إليه كان مغايرا لما في التوراة فاتخذ اليهود ذلك وسيلة للمشاغبة والتهويش على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أثنى بلسان القرآن على التوراة وأعلن أكثر من مرة أن القرآن جاء مصدقا ومؤيدا لها وأنه مأمور بالإيمان بما أنزل الله قبل القرآن، فاحتوت الآيات إيذانا بأن القرآن هو المرجع لكتب الله السابقة- وهذا يعني أن الكتب المتداولة في أيديهم والتي قد يكون بينها وبين القرآن مغايرة ليست عليه حجة- وأن الله تعالى قد جعل لكل أمة أو دور شرعة ومنهاجا ولم تقتض حكمته أن يجعل الناس أمة واحدة على سبيل التعليل والردّ والتوضيح. ومما يلهمه روح الآيات وفحواها وبخاصة الأخيرة منها أن اليهود كانوا ينتظرون أو يرغبون أن يقضي النبي بينهم في القضية وفقا لتقاليد الجاهلية لأنها متطابقة مع أهوائهم- وهذا مما تضمنته الرواية المروية لنزول الآية الثالثة- فكان موقف النبي مخالفا لذلك وجاءت الآية لتندد بهم ولتهتف مستنكرة عما إذا كان يصح أن يكون حكم ما أحسن من حكم الله!. ولقد تعددت الأقوال المنسوبة إلى ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن والسدي التي أوردها المفسرون في تأويل جملتي ومُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ

ووَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ حيث قيل في الأولى إنها بمعنى مؤيد لما قبله من الكتاب. أو متطابق معها. أو أن كل شيء فيه عنها هو الصدق والحق. وحيث قيل في الثانية إنها بمعنى الشاهد والرقيب والأمين والمؤتمن على الكتب السابقة وهناك من جعل الضمير عائدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث يكون كل ما تقدم صفة النبي ومهمته. مع التنبيه على أن الجمهور على أن الضمير عائد إلى القرآن، وهو الأوجه. والمتبادر لنا أن الجملتين تعنيان في مقامهما أن القرآن قد جاء ليؤيد ما كان قبله من كتب الله ويتطابق معها ويكون على ما في أيدي أهل الكتاب منها الضابط والمرجع والرقيب. فما جاء في الكتب المتداولة في أيديهم المنسوبة إلى الله من أسس ومبادئ وتلقينات مطابقا لما جاء في القرآن من ذلك أو غير متناقض معه فيجوز أن تكون نسبته إلى الله تعالى صحيحة. وما جاء فيه ولم يكن فيها من ذلك يكون هو الحق. وهذا التوجيه مؤيد بما جاء في الآيتين [15 و 16] من هذه السورة ثم بما جاء في آية سورة النمل هذه إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وفي آيات سورة النحل هذه تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) . ويكون هذا الضابط بهذا المعنى هو ضابط العقيدة الإسلامية بالنسبة للكتب المتداولة التي تحتوي كلاما مبلغا عن الله بلسان أنبيائه. لأنه ليس بين الكتب المتداولة اليوم كتب يمكن أن يكون عليها وصف كتاب الله تعالى كما يصدق على القرآن المبلغ من النبي المنزل عليه مباشرة كوحي رباني المسجّل في وقت نزوله وتبليغه كذلك والمحفوظ كذلك من ذلك الوقت. في حين أن الكتب المتداولة قد كتبت بأقلام بشرية في أوقات مختلفة بعد مدة ما من الأنبياء فيها شذرات محكي تبليغها من الله تعالى مع شذرات كثيرة من أحداث الأنبياء وكلامهم وفيما هو محكي عن الله تعالى وأنبيائه فيها ما يتنزهون عنه، ويدل على أنه محرّف أو غير صحيح عنهم.

والمتمعن في نصوص الآية الأولى بخاصة يجدها كما قلنا قبل قوية التأييد للرأي القائل أن المسلمين ليسوا مقيدين بأحكام وشرائع الكتب السابقة وإنما هم مقيدون بأحكام القرآن الذي أنزله الله على رسولهم. وقد قال رشيد رضا في تفسيره في سياق تفسير هذه الآية إنها نصّ صريح على أن (شرع من قبلنا ليس شرعا لنا) خلافا لمن قال بذلك محتجين بقوله تعالى شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ سورة الشورى: [13] وبقوله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ الأنعام [90] ثم أخذ يبين ما في الاحتجاج بذلك من مآخذ بإسهاب فيه كل القوة والوجاهة والسداد. أما واجب المسلمين تجاه الكتب السماوية السابقة فينحصر في الإيمان بما أنزل الله من كتاب وبوحدة المصدر والأهداف الرئيسية التي تجمع بين الكتب التي أنزلها الله سابقا وبين القرآن في نطاق ما شرحناه في سياق تفسير آية الشورى [15] التي تأمر النبي بأن يقول آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وآية العنكبوت [46] التي تأمر المسلمين بأن يقولوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. وقد ترد ملاحظة في صدد هذه الآيات من ناحية أخرى وهي أن في هذه الآيات وما قبلها إقرارا لأحكام التوراة والإنجيل بالنسبة لليهود والنصارى على الأقلّ أولا وتقريرا بأنها نافذة الحكم بعد البعثة النبوية ثانيا. وبأن الذين يسيرون وفقها هم على حقّ وهدى ثالثا. وقد يكون في هذا نقض لدعوة القرآن لليهود والنصارى إلى الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وسلم والسير وفق ما أتي به من أحكام وشرائع رابعا. وجوابا على هذا نقول إن الآيات هي في صدد مشهد قضائي دار فيه جدل ودسّ وتهويش. وليست بسبيل تقرير أمور تتعلق بالدعوة المحمدية. وقد جاءت لهذا بالأسلوب الذي جاءت به لتتسق مع مقتضيات ذلك المشهد. بحيث يصح القول إن الآيات في مقامها هي في صدد شؤون قضائية متصلة بما يقوم بين الناس

من خلاف ونزاع وفي صدد تقرير احتواء التوراة والإنجيل أحكاما ربانية صالحة للفصل فيما يقوم بين النصارى وبين اليهود الذين يظلون على يهوديتهم ونصرانيتهم من مثل ذلك. وبحيث يبدو من هذا أنه ليس من نقض ولا عدول فيها عن دعوة القرآن لليهود والنصارى إلى الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وسلم واتباع ما أنزل الله عليه من شرائع وأحكام. ولا سيما أن هذه الدعوة ظلت تتكرر بدون فتور في القرآن المكي والقرآن المدني وظل القرآن المكي والقرآن المدني يشير إلى انحرافهم عن دينهم وميثاق الله الذي أخذه منهم وتحريفهم لكتبهم ويندد بهم ويجدد الدعوة لهم كما ظل يسجل أثرها الإيجابي والسلبي في اليهود والنصارى على ما نبهنا عليه وأوردنا شواهده في مناسبات عديدة في سور سبق تفسيرها وفي آيات من هذه السورة سابقة أيضا. وبطبيعة الحال إن تقرير صلاحية أحكام التوراة والإنجيل لحلّ ما يتكون من قضايا بين اليهود وبين النصارى الذين يبقون على دينهم ينطوي على إقرار حرية ممارسة هذه الأحكام وحرية ممارسة الطقوس الأخرى كاملة لليهود والنصارى بصفة خاصة في نطاق السلطان الإسلامي مع التذكير بما نبهنا عليه قبل من أن جمل وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ. ووَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. ووَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ تنطوي على تلقين بحقّ السلطان الإسلامي بإجبارهم على التحاكم والعمل بمقتضى تلك الأحكام. أما إذا أرادوا التقاضي لدى القضاء الإسلامي فالآيات صريحة النصّ بأن الحكم عليهم يكون وفاق أحكام الشريعة الإسلامية. وهذا وذاك مما جرى عليه منذ العهد النبوي وفيه من الحق والعدل والتلقين الجليل ومنح الحرية لمن يدخل في ذمة السلطان الإسلامي وعهده أو ضمن رعويته من النصارى واليهود ما هو واضح. هذا، وفي الآيات أمران يجدر لفت النظر إليهما بنوع خاص. الأول التنبيه والتوكيد على النبي صلى الله عليه وسلم بوجوب التزام ما أنزل الله والحكم به لا غير. وعدم اتباع

[سورة المائدة (5) : الآيات 51 إلى 53]

هوى المتخاصمين والحذر من الوقوع في شركهم وتدليسهم وخداعهم أو التأثر بتقاليد وعادات قديمة مخالفة لأحكام الله تعالى. حيث ينطوي في هذا تلقين جليل مستمر المدى للذين يتولون الحكم والقضاء في الإسلام. والثاني جملة فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ بعد جملة وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ التي قال المفسرون والمؤولون إنها موجهة بنوع خاص إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه بعد الجملة الأولى التي عنت الجميع، وروحها يلهم صواب هذا القول حيث يسوغ القول إنها انطوت على حثّ المسلمين وقد جعل الله كتابهم هو المهيمن على الكتب السابقة ورشح دينهم ليظهره على الدين كلّه على استباق الخيرات ليبرهنوا على أنهم أهل لهذا الدين والمهمة التي حمّلهم الله إياها في نشره والله تعالى أعلم. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأخيرة حديثا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه الطبري، ورواه عنه البخاري بصيغة مقاربة هذا نصها «أبغض الناس إلى الله ثلاثة. ملحد في الحرم. ومبتغ في الإسلام سنّة الجاهلية. وطالب دم امرئ بغير حقّ ليريق دمه» حيث يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني ويوجه بنوع خاص إلى المسلمين. وقد يرد ملاحظة مهمة في صدد الآيات جملة. وهي أن الأحكام المحددة التي أنزلها الله في القرآن معدودة. وشؤون الناس كثيرة ومتطورة ومتبدلة. وقد يكون فيها ما لم يرد نصا في القرآن. ولقد بحثنا هذا الأمر في سياق الآيتين [59 و 115] في سورة النساء وأوردنا ما رأيناه حقا سائغا في ذلك فنكتفي بهذا التنبيه. [سورة المائدة (5) : الآيات 51 الى 53] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53) .

(1) أولياء: نصراء. (2) يسارعون فيهم: يشتدون في موالاتهم ومصانعتهم. (3) نخشى أن تصيبنا دائرة: نخاف أن تدور علينا الدائرة في الحرب أو تقع علينا كارثة. في الآيات: (1) نداء للمؤمنين نهوا فيه عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء ونصراء. (2) وتقرير رباني بأنهم نصراء بعضهم فقط في حقيقة الأمر وبأن من يتولاهم من المؤمنين فيعدّ منهم ويصبح في عداد الظالمين المنحرفين عن أوامر الله الذين لا ينالون رضاء الله وتوفيقه. (3) وتنديد بفريق المنافقين مرضى القلوب الذين يسارعون ويشتدون في موالاتهم ومصانعتهم والتواثق معهم. ويقولون إنهم إنما يفعلون ذلك لحماية أنفسهم من أن تدور عليهم دائرة الحرب وتحلّ فيهم كارثة من كوارثها. (4) وإنذار رباني توقعي ينطوي على التنديد بالمنافقين والبشرى للمؤمنين. فعسى الله أن ينصر المسلمين وييسّر لهم فتحا وفرجا وحدثا ليس في الحسبان فيخزى المنافقون ويندموا على ما أسروا في أنفسهم. ويشمت المؤمنون بهم حينئذ ويسألونهم على سبيل الشماتة والاستخفاف عن نتيجة الأيمان المغلظة التي حلفها لهم من اتخذوهم أولياء وسارعوا فيهم وصانعوهم من أهل الكتاب وجدواها. وتعقيب أو جواب على ذلك بأنها قد ذهبت سدى. وقد حبط جهد المنافقين وعملهم. وأصبحوا خاسرين عند الله وعند الناس.

تعليق على الآية يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ... إلخ مع الآيتين التاليتين لها وما ورد في سياقها من روايات. وما فيها من صور وتلقين. وبحث في جواز التحالف مع غير الأعداء من غير المسلمين إذا كان في ذلك مصلحة

تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ ... إلخ مع الآيتين التاليتين لها وما ورد في سياقها من روايات. وما فيها من صور وتلقين. وبحث في جواز التحالف مع غير الأعداء من غير المسلمين إذا كان في ذلك مصلحة والآيات كما تبدو فصل جديد. وقد روى المفسرون روايات عديدة في سبب نزول الآيات منها «أن عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي بن سلول اختصما وتلاحيا في صدد حلفائهم من اليهود فقال الأول إني أبرأ إلى الله ورسوله من ولايتهم، فقال الثاني ولكني لا أبرأ منهم لأني أخاف الدوائر، فلا بدّ لي منهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله يا أبا الحباب ما بخلت به من ولاية اليهود على عبادة فهو لك دونه قال إذا أقبل، فأنزل الله الآيات» . وقد رووا أن شيئا من ذلك وقع بين الرجلين بعد وقعة بدر أو في أثناء حصار النبي صلى الله عليه وسلم لبني قينقاع حلفاء الخزرج وأن عبد الله بن أبي بن سلول أمسك بدرع رسول الله وقال له أحسن في مواليّ فقال له ويحك أرسلني فقال له والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة. إني امرؤ أخشى الدوائر. وإلى هذا فإنهم رووا أنها نزلت بعد وقعة أحد حيث قال أحد المسلمين أنا ألحق بفلان اليهودي فآخذ منه أمانا أو أتهود معه. وقال واحد آخر أنا ألتحق بفلان النصراني في أرض الشام فآخذ منه أمانا أو أستنصر معه. ورووا أنها نزلت في أبي لبابة بسبب تحذيره يهود بني قريظة من النزول على حكم النبي صلى الله عليه وسلم حينما استشاروه وأشار إليهم بما يعني أن مصيرهم حينئذ هو الذبح. والروايات التي تحكي أقوال ابن أبي بن سلول سواء في موقفه مع النبي صلى الله عليه وسلم في حصار بني قينقاع أم في ملاحاته مع عبادة بن الصامت تنطبق على الآيات أكثر من الروايتين الأخيرتين كما هو المتبادر. وفي حالة صحة رواية نزول الآيات بسبب ذلك تكون الآية الأولى بمثابة تمهيد لحكاية موقف مرضى القلوب. وتكون الآيات

قد نزلت في عهد قوة اليهود في المدينة. ولقد احتوت الآيات التي سبقت هذه الآيات صورا من مواقف اليهود وانحرافاتهم وواقعهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. واستدللنا منها على أنها نزلت في عهد قوة اليهود في المدينة أيضا. وهكذا يمكن أن يكون تقارب ما بين ظروف نزول تلك الآيات وهذه الآيات وأن يكون وضع هذه الآيات عقب تلك بسبب ذلك. والله أعلم. والنهي في الآية الأولى قد شمل اليهود والنصارى في حين أن الروايات من جهة وروح الآيات ثم روح آيات أخرى تأتي بعدها من جهة تفيد أن اليهود هم أصحاب الموقف الفعلي. وهذا مما يؤيده واقع الأمر حينذاك من حيث كون اليهود هم الذين كانوا كتلا قوية في المدينة وكان بينهم وبين بطون الأوس والخزرج محالفات وهم الذين يمكن أن يتخذهم بعض المسلمين أولياء ليحتاطوا بولائهم ومصانعتهم من الطوارئ والدوائر دون النصارى الذين لم يكونوا كتلة قوية في الحجاز ولم يكن لهم نتيجة لذلك محالفات مع العرب في المدينة وسائر الحجاز وهذا يسوغ القول إن ذكر النصارى إنما جاء من قبيل الاستطراد والتعميم ليتناول النهي الحالات المماثلة مما جرى النظم القرآني عليه. وفي صدد جملة بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ قال الطبري إنها تعني أن بعض اليهود أنصار بعضهم الآخر وأن بعض النصارى أنصار بعضهم الآخر. وهذا وجيه يزول به ما قد يحيك في الصدر من إشكال كونها تعني تحالف اليهود والنصارى معا. وهو ما كان مغايرا لواقع الأمر حين نزول الآيات استمرارا لما كان قبل، حيث كان العداء قائما بين أهل الديانتين. ويلحظ أن النهي عن تولي اليهود والنصارى قد جاء بدون تعليل. وفي الآيات التالية آيتان فيهما تكرار للنهي مع بعض أسبابه وهي أنهم كانوا يتخذون دين المسلمين وأذانهم وصلاتهم هزوا ولعبا. والآيات التالية هي استمرار لهذه الآيات. وهذا يسوغ القول أن هذه الأسباب واردة بالنسبة للنهي الوارد بدون تعليل في هذه الآيات. ويسوغ القول بالتبعية أن النهي في الدرجة الأولى هو بالنسبة لمن يقف من المسلمين ودينهم هذا الموقف.

وبالإضافة إلى ما ذكرناه فإن روح الآيات صريحة الدلالة على أن النهي موجه لفريق من المسلمين وليس للمسلمين جميعهم ككيان. ومفهوم القول ولا سيما في الظروف التي نزلت فيها الآيات هو التناصر والتحالف في الحروب على الأعداء. وقد كان المسلمون كمجموع أو كيان طرفا وكل من اليهود والنصارى طرفا. والتعليل أو بعض الأسباب التي ذكرت في سياق النهي في الآيات التالية يعني أن كلا من هذين الطرفين أي النصارى واليهود يقفان موقف السخرية والانتقاص والعداء من المسلمين ودينهم كطرف أو كيان. واحتمال تطور هذا الموقف إلى حالة حرب وارد دائما بطبيعة الحال. وهو ما كان يقع فعلا. فتحالف فريق من المسلمين مع أي منهما وهو في موقف عداء وكيد للمسلمين يعني تحالفه ضد المسلمين كمجموع وكيان. ولا يمكن أن يقع هذا من مؤمن صادق وإن وقع فمن الطبيعي أن يخرجه من صف المؤمنين إلى صف الذين يحالفهم ويناصرهم على المؤمنين. وهو ما عنته جملة وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، ولقد قال الطبري إن النهي في الآية هو عن تحالف فريق من المسلمين وتناصرهم مع النصارى واليهود على أهل الإيمان بالله ورسوله. وهذا متطابق كما قررناه آنفا. وقد يصحّ القول والحالة هذه أنه ليس من تعارض بين نهي الآية وبين ما نبه عليه رشيد رضا في سياق الآية [38] من سورة آل عمران وأوردناه وصوبناه من جواز التناصر بين مجموعة المسلمين أو مجموعة منهم كطرف وكيان وبين مجموعة من أهل الكتاب ليس لها موقف كيد وعداء وطعن ضد الإسلام والمسلمين على أعداء مشتركين. وجواز التعاهد بين مجموعة المسلمين أو مجموعة منهم كطرف وكيان وبين مجموعة من غير المسلمين ليس لها موقف كيد وعداء وطعن ضد الإسلام والمسلمين تعاهد سلم أو تعاهد تعاون على أعداء مشتركين بسبيل إرهابهم. ولقد روى مسلم وأبو داود والترمذي عن عائشة قالت «خرج النبي صلى الله عليه وسلم قبل

بدر فلما كان بحرّة الوبرة أدركه رجل يذكر بالجرأة والنجدة ففرح به الأصحاب فقال للنبي جئت لأتبعك وأصيب معك. فقال تؤمن بالله ورسوله قال لا. قال فارجع فلن أستعين بمشرك ثم مضى. حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل فقال له كما قال أول مرة فردّ عليه النبي كالمرة الأولى ثم رجع فأدركنا بالبيداء فقال كالأول فقال له النبي تؤمن بالله ورسوله. قال نعم فقال له انطلق» «1» . ويتبادر لنا أن الموقف في ذلك الظرف موقف خاص ومختلف عما نذكره. فالمشركون كانوا جميعهم جاهزين للرسالة النبوية وكثير منهم في موقف عدائي صريح لها. والإسلام في أول عهده. والقرآن يشنّ أعنف حملة على الشرك والمشركين وقد كان هدف الرجل الغنيمة فقط على أحسن الفروض الظاهرة. وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في مواقف أخرى. فقد عاهد اليهود حينما قدم إلى المدينة لأول مرة. ونصّ الفقرة المتعلقة بهم في كتاب الموادعة الذي كتبه دستورا للعهد الجديد الذي بدأ تحت قيادته صريح فإنه في مثابة حلف حربي حيث جاء في الكتاب المذكور «وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين ولليهود دينهم وللمسلمين دينهم. وإن بينهم النصر على ما حارب أهل هذه الصحيفة. وإن بينهم النصح والنصيحة والبرّ دون الإثم» «2» . وبعد انعقاد صلح الحديبية بين النبي وقريش دخل بنو خزاعة كطرف مع النبي وصاروا حلفاء له ولم يكونوا مسلمين. هذا فضلا عما كان يبرمه النبي مع مشركين وكتابيين من مواثيق وعهود سلمية بدءا أو بعد حرب مما احتوت صورا كثيرة منه كتب السيرة ومما أشارت إليه بعض آيات القرآن إشارات مقتضبة «3» . ومن باب أولى أن يقال إنه ليس من تعارض بين النهي المنطوي في الآيات

_ (1) التاج ج 4 ص 321. (2) انظر ابن هشام ج 2 ص 119- 123. (3) ابن سعد ج 2 ص 25- 56 و 119 وج 3 ص 218- 221 و 339 وابن هشام ج 3 ص 169- 221 وآيات النساء [90 و 92] والأنفال [55 و 72] والتوبة [5 و 7] . [.....]

[سورة المائدة (5) : الآيات 54 إلى 58]

وبين حسن التعامل والتعايش والتعاون بين المسلمين وغيرهم إذا لم يكن بينهم حالة حرب وعداء وكان الغير كافّا لسان ويده عنهم مما قررته آية سورة الممتحنة هذه لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) . ولقد احتوت الآيتان الثانية والثالثة بشرى تطمينية بانتصار المسلمين على أعدائهم من يهود وغير يهود وبخيبة المنافقين الذين كانوا يوالونهم ويصانعونهم احتياطا للطوارىء ولقد تحققت هذه البشرى فكان ذلك من المعجزات القرآنية. [سورة المائدة (5) : الآيات 54 الى 58] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58) . (1) أذلة: هنا بمعنى مشفقين رحماء. (2) أعزة: هنا بمعنى أشداء عنفاء. (3) إذا ناديتم إلى الصلاة: كناية عن الأذان الإسلامي على ما عليه الجمهور. وفي هذه الآيات: (1) نداء للمؤمنين فيه تحذير من الارتداد عن دينهم وإنذار لهم وهوان ذلك على الله إن هم فعلوه، فارتدادهم لن يضرّ الله وإنما يضرّهم. وإن الله لقادر في مثل هذه الحالة على الإتيان بمؤمنين آخرين مخلصي الإيمان يحبهم ويحبونه. رحماء

تعليق على الآية يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه ... إلخ والآيات الأربع التي بعدها وما فيها من تلقين. وما ورد في صددها من روايات شيعية وغير شيعية

مشفقين على إخوانهم أشداء قساة على أعدائهم. يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ولا دوران دائرة. (2) وتقرير على سبيل التعقيب على النهي والتحذير وجّه فيه الخطاب إلى المؤمنين أيضا فلا يصح أن يكون لهم ولي غير الله ورسوله والمؤمنين المخلصين القائمين بجميع واجباتهم نحو الله والناس بالصلاة والزكاة. فهم فقط أولياؤهم حصرا. وإن من يتولى الله ورسوله والمؤمنين المخلصين هو من حزب الله وإنّ حزب الله هو الغالب. (3) ونهي آخر موجه للمؤمنين، كذلك بعدم اتخاذ أهل الكتاب والكفار الذين يتخذون دينهم هزوا ولعبا أولياء. وحثّ لهم على تقوى الله إن كانوا مؤمنين حقا والتزام أوامره ونواهيه. (4) وبيان تذكيري ببعض تصرفات الذين ينهون عن اتخاذهم أولياء. فهم إذا أذّن المؤذن إلى الصلاة اتخذوا ذلك وسيلة للسخرية والغمز. وهم إنما يفعلون ذلك لأنهم قوم قد ضلّت عقولهم عن فهم الحقّ واتباعه والوقوف عنده. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ... إلخ والآيات الأربع التي بعدها وما فيها من تلقين. وما ورد في صددها من روايات شيعية وغير شيعية لقد روى المفسرون روايات عديدة ومتنوعة في نزول هذه الآيات وفيما تعنيه. فروى الطبري عن الحسن ومجاهد وغيرهما أن الآية الأولى هي في حقّ الذين ارتدوا عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وفي حقّ أبي بكر وأصحابه الذين جاهدوا فيهم وردّوهم إلى الإسلام. وقال الطبري إن في الآية وعيدا لمن سبق في علم الله أنه سيرتدّ بعد وفاة رسول الله من أهل الوبر والمدر وقيام من هم خير منهم بنصرته ووفّاهم بوعده لهم ووفّى المرتدين بوعيده.

وروي مع ذلك عن عياض الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أومأ إلى أبي موسى الأشعري وقال هؤلاء قومك أو هؤلاء قوم هذا. وروى الطبري عن أبي جعفر أحد الأئمة الاثني عشر أن الآية [55] نزلت في علي بن أبي طالب لأنه تصدّق وهو راكع. وعن ابن عباس أن الآيات [57- 61] نزلت في رفاعة بن زيد التابوت وسويد بن الحرث اليهوديين اللذين كانا أظهرا الإسلام ثم نافقا وكان رجال من المسلمين يوادّونهم. وهناك رواية تذكر أن الآيات [54 و 55] نزلت في عبد الله بن سلام لما أسلم هو وبعض اليهود فقطع سائر اليهود موالاتهم لهم فأنزل الله الآيات لتطمين الذين أسلموا من اليهود. وقد أورد البغوي والخازن وابن كثير والنيسابوري هذه الروايات. منهم من أوردها جميعها ومنهم من أورد بعضها ومنهم من عزاها إلى الطبري ومنهم من أوردها من طرق أخرى. وبينما يروى الطبري أن الآية [54] عنت أبا موسى الأشعري وقومه يروي ابن كثير مع هذه الرواية رواية عن جابر بن عبد الله بأنها عنت قوما من اليمن ثم من كنده ثم من السكون ثم من تجيب. كما يروى النيسابوري حديثا عن النبي يفيد أنها عنت سلمان الفارسي وقومه. ومفسرو الشيعة ورواتهم وعلماؤهم يعلّقون أهمية كبيرة على هذه الآيات وبخاصة الآيات [54 و 55 و 56] ويرون فيها على ضوء أحاديث وروايات ينفردون في روايتها نصّا قرآنيا على ولاية علي رضي الله عنه وأولاده للمؤمنين وإمامتهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم دون غيرهم. وهذا ما يجعلنا نسهب شيئا في شرح هذا الأمر لوضع الأمر في نصابه الحق إن شاء الله. فمما أورده الطبرسي أحد مفسريهم والمعتدلين منهم «1» رواية عن علي بن إبراهيم بن هاشم أن الآية الأولى نزلت في مهدي الأمة وأصحابه وأوّلها خطاب لمن ظلم آل محمد وقتلهم وغصب حقهم. وقد عقب المفسر على الرواية قائلا وينصر هذا القول كون ما جاء في فقرتها الثانية فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ

_ (1) في تفسيره المسمّى مجمع البيان.

لم يكونوا موجودين عند نزولها ويتناول القول من يكون بعدهم بهذه الصفة إلى قيام الساعة. وروى المفسر نفسه أيضا رواية عن أبي جعفر وأبي عبد الله من الأئمة الاثني عشر أنها في أمير المؤمنين عليّ وأصحابه حين قاتل من قاتله من الناكثين والقاسطين والمارقين. وعقب المفسر على هذا بسبيل تدعيم الرواية قائلا إن النبي صلى الله عليه وسلم وصف عليا رضي الله عنه الوصف الوارد في الآية الأولى بلفظ «يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله» في حديث صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر حيث قال «لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله كرارا غير فرار لا يرجع حتى يفتح الله على يده» «1» ثم أعطاها عليا. ثم استمر المفسر فقال أما الوصف باللين على أهل الإيمان والشدّة على الكفار والجهاد في سبيل الله مع عدم الخوف فيه لومة لائم الذي جاء في الآية فمما لا يمكن أن يدع عليّ عنه بما ظهر من مقاماته المشهورة. ويروي الطبرسي عن علي أنه قال يوم البصرة أي اليوم الذي جرى حرب الجمل فيه بين عليّ وأنصاره وعائشة وطلحة والزبير وأنصارهم والله ما قوتل أهل هذه الآية حتى اليوم. يريد القول بذلك الذين عنتهم الآية الأولى لم يكونوا موجودين وإنما جاؤوا بعد النبي. وإن عليا قاتل ذلك اليوم محققا ما في الآية. ويروى عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن رسول الله أنه قال «يرد عليّ قوم من أصحابي يوم القيامة فيجلون عن الحوض فأقول يا ربّ أصحابي أصحابي فيقول إنك لا علم لك بما أحدثوا من بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى «2» .

_ (1) في التاج ج 3 ص 293- 294 حديث فيه شيء من ذلك رواه الشيخان عن سلمة بن الأكوع بهذا النص «كان عليّ قد تخلّف عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان رمدا فقال أنا أتخلف، فخرج فلحق بالنبي. فلما كان مساء الليلة التي فتح الله خيبر في صباحها قال رسول الله لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّه الله ورسوله أو قال يحبّ الله ورسوله يفتح عليه. فإذا نحن بعليّ وما نرجوه فقالوا هذا عليّ فأعطاه رسول الله الراية ففتح عليه» . وهناك حديثان آخران يرويهما الشيخان بعد هذا الحديث وفي نفس المناسبة فيهما هذا الوصف. (2) هناك حديث يرويه الشيخان عن سهل بن سعد فيه شيء من ذلك هذه صيغته «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا فرطكم على الحوض. من مرّ عليّ شرب. ومن شرب لم يظمأ أبدا. وليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم فأقول إنهم منّي فيقال لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقا سحقا لمن غيّر بعدي» وفي رواية البخاري قلت وما شأنهم قال إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى. التاج ج 5 ص 344 و 345.

ولقد أورد هذا المفسّر الرواية التي أوردها الطبري عزوا إلى أبي جعفر في صدد الآية [55] بتفصيل مثير عن السدي عن غيابة بن ربعي قال «بينا عبد الله بن عباس جالس على شفير زمزم يقول قال رسول الله إذ أقبل رجل معمم بعمامة فجعل ابن عباس لا يقول قال رسول الله إلّا قال الرجل قال رسول الله فقال له ابن عباس سألتك بالله من أنت فكشف العمامة عن وجهه وقال يا أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرّفه بنفسي أنا جندب بن جنادة البدري أبو ذر الغفاري. سمعت رسول الله بهاتين وإلّا صمّتا ورأيته بهاتين وإلّا عميتا يقول «عليّ قائد البررة وقاتل الكفرة ومنصور من نصره ومخذول من خذله. أما إني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من الأيام صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد شيئا فرفع السائل يده إلى السماء وقال اللهم اشهد. إني سألت في مسجد رسول الله فلم يعطني أحد شيئا. وكان عليّ راكعا فأومأ بخنصره اليمنى إليه وكان يتختّم فيها فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره. وذلك بعين رسول الله. فلما فرغ رسول الله من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال اللهم إن أخي موسى سألك فقال قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) فأنزلت عليه قرآنا ناطقا سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما. اللهم وأنا محمّد نبيك وصفيك اللهم فاشرح لي صدري ويسّر لي أمري واجعل لي وزيرا من أهلي عليا أشدد به ظهري. قال أبو ذر فو الله ما استتمّ رسول الله الكلمة حتى نزل عليه جبريل من عند ربّه فقال يا محمد اقرأ قال وما أقرأ قال اقرأ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ» . ومع أن الرواية تذكر أن النبي كان يصلي حينما تصدق عليّ بخاتمه فإن المفسر يروي رواية أخرى جاء فيها أن النبي خرج إلى المسجد والناس بين قائم

وراكع فبصر بسائل فقال له هل أعطاك أحد شيئا قال نعم خاتم من فضة فقال من أعطاكه قال ذلك القائم وأومأ إلى علي فقال على أي حال أعطاكه قال وهو راكع فكبّر النبي ثم قرأ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ. ومما أورده المفسر الشيعي الكاشي في سياق الآيات رواية عن الإمام الصادق في سياق تفسير الآية [55] جاء فيها أنها في حقّ إمامة علي وأولاده إلى يوم القيامة وإنه هو المقصود. بوصف الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ وأنه كان عليه حلّة قيمتها ألف دينار كان أهداها إليه النجاشي فجاء سائل إليه وهو راكع فقال السلام عليك يا وليّ الله وأولى المؤمنين من أنفسهم تصدق على مسكين فطرح الحلة إليه. فأنزل الله الآية وصير نعمة أولاده بنعمته. فكل من بلغ من أولاده مبلغ الإمامة يكون بهذه النعمة مثله. وإن السائل الذي سأل أمير المؤمنين هو من الملائكة. والذين يسألون الأئمة من أولاده يكونون من الملائكة» وروى عن الصادق عن أبيه عن أجداده (إنه لما نزلت الآية إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا التي عنت بجملة وَالَّذِينَ آمَنُوا عليا اجتمع نفر من أصحاب رسول الله في المسجد فقال بعضهم إن كفرنا بهذه الآية نكفر بسائرها وإن آمنا فإن هذا ذلّ حين يسلط علينا علي بن أبي طالب فقالوا قد علمنا أن محمدا صادق فيما يقول. ولكنا نتولاه ولا نطيع عليا فيما أمرنا قال فنزلت هذه الآية يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ [النحل: 83] يعني ولاية علي وأكثرهم الكافرون بها. ومما أورده محمد العلوي في تفسيره أن الآية [55] نزلت في علي عليه السلام وإن صيغتها تدل على إمامته دون سواه للحصر. وعدم اتصاف غيره بهذه الصفات. وقد جاءت في صيغة الجمع أي وَالَّذِينَ آمَنُوا للتعظيم أو لدخول أولاده الطاهرين معه فيها) «1» .

_ (1) ما أوردناه من روايات المفسرين الشيعة نقلناه من تفسير مجمع البيان للطبرسي ومن الجزء الثاني من كتاب التفسير والمفسرون لمحمد حسين الذهبي. ولا نشك في أن مفسري الشيعة الآخرون قد أوردوا هذه الروايات وغيرها من بابها لتوكيد كون الآيتين [55 و 56] هما في صدد إمامة علي وأولاده رضي الله عنهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم.

وتعليقا على الأحاديث والروايات نقول إن معظمها لم يرد في كتب الصحاح وما ورد منها فيها مثل حديث «لأعطين الراية رجلا يحبّ الله ورسوله» وحديث الحوض لم يذكر فيها أية صلة بينها وبين الآيات حيث يبدو أن إيرادها في مناسبة الآيات هو من قبيل التطبيق الاجتهادي. وهذا يقال في صدد صرف الآيات إلى قتال أبي بكر للمرتدين. ونرجح أن الرواية التي أوردها الطبري عن الإمام أبي جعفر مصنوعة. ونقول هذا بالنسبة للروايات التي يرويها مفسرو الشيعة من باب أولى التي يرون على ضوئها في الآيات دلالة قرآنية على إمامة علي رضي الله عنه وأولاده من بعده ففيها كثير من التناقض والمفارقة. وطابع الصنعة غير الموفقة والهوى الحزبي بارز عليها. لا يمكن أن يخفى على عاقل مجرد عن الهوى الذي يعمي صاحبه ويصمه ويسوقه إلى التعسف والتحكم. وفيها جرأة على رسول الله وعلى علي رضي الله عنه بل على الأئمة أبي جعفر وأبي عبد الله الذين نحبّ أن ننزههم عن هذا التعسف في التأويل والكذب على الله ورسوله فيه. والآية التي فيها يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ والتي يوردونها ليقولوا إنها نزلت في أصحاب رسول الله وقررت أن أكثرهم كافرون والعياذ بالله مكية بينما الآية التي تساق في صددها مدنية. والآيتان [55 و 56] اللتان يروون أنهما نزلتا لتقرير إمامة وولاية علي وأولاده جزء من سياق سابق ولاحق في صدد تولي المسلمين لليهود والنصارى. وهذا واضح بحيث يكون من التعسف بل من الغباء الشديد أن يقال إنهما نزلتا لحدتهما لتقرير ذلك. ولقد أورد ابن كثير الرواية المسهبة المروية عن أبي ذر وفندها تفنيدا سديدا سواء من ناحية اقتطاع الدلالة منها على نصّ القرآن والنبي على ولاية عليّ بعد النبي أم ناحية محتواها العجيب التركيب. أم من ناحية تناقض هذا المحتوى مع

روايات أخرى أم ناحية ضعف سندها وتهمة رواتها أم من ناحية عدم تناسبها مع السياق. وفي كتب التفسير الأخرى شيء من ذلك وإن كان ابن كثير هو الأقوى والأصرح فيه. ومما قاله الزمخشري إن الركوع لغة بمعنى الخشوع والإخبات والتواضع لله تعالى وإن معنى جملة يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ أنهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة في حالة من الخشوع والإخبات والتواضع لله. وفي هذا ما فيه من الوجاهة. ويضع الأمر الذي يخرجه رواة الشيعة عن مداه في نصابه الحق المعقول الذي يلهمه أسلوب الآية وروحها. ونحن نتوقف في الروايات التي تروي أن بعض هذه الآيات نزلت في اليهود الذين أسلموا ثم نافقوا أو في عبد الله بن سلام وجماعته إذا كان ذلك يعني أن هذه الآيات نزلت منفصلة عن غيرها. ونرى أن الآيات جميعها سياق واحد بسبيل توكيد نهي المسلمين عن اتخاذ الذين أوتوا الكتاب أولياء وبيان أسباب ذلك. ويلحظ أن الآية [57] شملت في نهيها أهل الكتاب والكفار حيث أريد بذلك النهي عن موالاة كل كافر من الكتابيين والمشركين الذين يتخذون دين الإسلام وصلاة المسلمين وأذانهم هزوا. وهذا لا يمنع أن يكون بعض اليهود آمنوا ثم نافقوا وأن اليهود قاطعوا عبد الله بن سلام وجماعته لإسلامهم فرأى أهل التأويل الأولون في الآيات تطابقا مع ذلك وقالوا إنها في حقهم من قبيل التطبيق والاجتهاد وفي سور سبق تفسيرها ما يفيد أن من اليهود من كان يفعل ذلك مثل آية [76] من سورة البقرة والآيات [72- 73 و 85- 91] من سورة آل عمران. وعلى ضوء كل ما تقدم نقول إن الآيات هي بسبيل نهي المؤمنين عن تولي اليهود والنصارى والكفار والتنديد بمن يفعل ذلك وإنذارهم ووصفهم بالارتداد وتوكيد كون الله ورسوله والمؤمنين الصادقين هم الأولى بالتولي وكون هؤلاء ومن يتولونهم هم المنصورون وكون الله سوف ينصر دينه بطوائف مخلصة في إيمانها مستعدة دائما للقتال في سبيل الله دون هوادة وتردد وخوف، تحب الله ورسوله ويحبهم الله ورسوله. وهكذا تبدو قوة روعة الآيات أسلوبا ومدى. ونضيف إلى

هذا أن الآيات متصلة بما كانت عليه الحالة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم عند نزولها. ونقول تعليقا على حديث الحوض إن من واجب المسلم الإيمان بما يثبت عن رسول الله من أخبار الآخرة مع استشفاف الحكمة من ذلك. والمتبادر أن من ذلك تحذير النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه من الشذوذ والارتداد عن ما رسم الله ورسوله من حدود دينية ودنيوية. وهذا مستمر التلقين بطبيعة الحال لكل مسلم بعد أصحاب رسول الله. هذا، ومن المؤولين والمفسرين من جعل وصف ارتداد المسلم عن دينه الوارد في الفترة الأولى من الآية الأولى متحققا في تولي أهل الكتاب بسبب خلاف الدين مطلقا. ومنهم من جعل ذلك في من يتولى الأعداء المحاربين منهم وحسب. والقول الثاني هو الأوجه الذي يتناسب أكثر مع خطورة وصف الارتداد ومع الفقرة الثانية من الآية التي تذكر أن الله سوف يأتي بأناس يقاتلون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم لأن القتال إنما يرد في صدد أعداء محاربين على ما شرحناه في مناسبات عديدة في سور سبق تفسيرها. ويلحظ أن آية آل عمران [28] قالت إن المؤمنين الذين يتولون غير المؤمنين ليسوا من الله في شيء وذكر هنا أن ذلك يكون ارتدادا. وليس من تناقض في ذلك. ولقد نهت آية آل عمران عن تولي غير المؤمنين إطلاقا. وآيات المائدة التي نحن في صددها نهت عن ذلك إطلاقا أولا ثم عادت إلى النهي مع التعليل. فيكون التعليل الذي يكون التولي والمنهي عنه به هو بالنسبة لمن يقف موقف عداء وسخرية من الإسلام والمسلمين. ويكون هذا ضابطا. وفي آيات في سورة الممتحنة يأتي هذا الضابط أقوى وأصرح على ما سوف يأتي شرحه في سياق تفسيرها الذي يأتي بعد تفسير هذه السورة مباشرة. ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها كسائر الآيات المماثلة عامة التوجيه والتلقين لجميع المسلمين في كل ظرف. وإطلاق عبارتها مما يقوي هذا التعميم أيضا. ومما ينطوي فيها من تلقين بالإضافة إلى النهي والتحذير: (أولا) تقبيح موالاة أي فريق من المسلمين للكائدين لأمته ودينه ومناصرتهم والاستنصار بهم

[سورة المائدة (5) : الآيات 59 إلى 60]

وخدمتهم ضد أمته ودينه في أي عمل وموقف. واعتبار ذلك ارتدادا عن الدين فضلا عما فيها من خيانة عظمى لأمته ووطنه. (وثانيا) بثّ القوة والطمأنينة والثبات في قلوب المؤمنين وتلقينهم أن تضامنهم فيما بينهم هو الذي يضمن لهم الفوز والنصر وأن واجبهم اللازم هو تولي بعضهم بعضا ومناصرة بعضهم بعضا. (وثالثا) وجوب تحلي المؤمنين بصفات جليلة كالاستغراق في الله ورضائه ومحبته والجهاد في سبيله. وعدم خشية أحد في ذلك. والبرّ والإشفاق بإخوانهم والشدة والعنف مع الأعداء. [سورة المائدة (5) : الآيات 59 الى 60] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60) . (1) هل تنقمون منّا: هل تحقدون علينا وتضمرون لنا الحقد والغيظ. (2) عبد الطاغوت تعددت قراءات هذه الجملة. منها ما يجعل عبد جمع عابد مثل خادم وجمعها خدم والطاغوت مضاف إليه. ومنها ما يجعل عبد فعل ماض والطاغوت مفعولا. ومنها عبدوا بدلا من عبد. والطبري رجّح القراءة الثانية. والمصحف رسم الجملة على هذه القراءة. ويتبادر لنا أن صيغة الآية تجعل القراءة الأولى أكثر وجاهة. والله أعلم. (3) الطاغوت: هنا بمعنى الأوثان أو الأصنام. وقد وردت في هذا المعنى في آية سورة النساء [51] أيضا وقد ذكرت أسفار العهد القديم مرارا عديدة عبادة بني إسرائيل للأصنام وانحرافهم عن توحيد الله. في هاتين الآيتين: (1) أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتوجيه السؤال إلى أهل الكتاب على سبيل الإنكار

تعليق على الآية قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل والآية التالية لها

والتنديد عما إذا كانت نقمتهم وحقدهم على المسلمين وغيظهم منهم ليس إلا لأنهم يعلنون إيمانهم بالله وبما أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبما أنزل على أنبيائه السابقين في حين أن أكثرهم منحرفون وفاسقون ومتمردون على الله. (2) وأمر آخر بتوجيه سؤال آخر على سبيل التنديد بهم أيضا عما إذا كانوا يودون أن ينبئهم النبي عن من هم الأولى بالنقمة والعيب والنكال عند الله. وإنهم لهم الذين لعنهم الله وغضب عليهم وجعل منهم القردة والخنازير وعباد الطاغوت. فهؤلاء هم شرّ مكانا وأضلّ عن السبيل القويم في الحقيقة وواقع الأمر والمنطق. تعليق على الآية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ والآية التالية لها لقد روى الطبري أن الآيتين نزلتا بمناسبة سؤال أورده على النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود عن من يؤمن به من الرسل فقال آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ فلما ذكر عيسى جحدوا وقالوا لا نؤمن بمن يؤمن به. وروى المفسرون الآخرون هذه الرواية. ومنهم من رواها بزيادة «1» وهي أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم «والله ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم ولا دينا شرّا من دينكم» . والرواية لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة. وتقتضي أن تكون الآيتان فصلا جديدا لا صلة له بالسياق السابق مع أنهما تلهمان بقوة أنهما متصلتان اتصالا وثيقا بالآيات السابقة. وأن الانسجام بينهما شديد بحيث يصحّ القول إنهما جاءتا على سبيل التعقيب والتنديد بموقف السخرية والهزء بدين المسلمين وأذانهم وصلاتهم المحكي في آخر آية من الآيات السابقة.

_ (1) انظر تفسير البغوي والخازن والطبرسي.

على أن هذا لا يمنع أن يكون جماعة من اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم السؤال المروي في الآية وأن يكون بدر منهم سوء أدب وبذاءة لسان في الدين الإسلامي كما بدر منهم ذلك إزاء أذان المسلمين وصلاتهم قبل نزول هذه الآيات وما قبلها فأشير إلى ذلك في معرض الكلام عن مواقفهم وواقعهم. ولقد تكررت حكاية مثل ذلك في آيات عديدة في السور السابقة «1» مما يدل على تكرر حدوثه منهم. وفي الآيتين دلالة قاطعة على أن المقصود المباشر من أهل الكتاب هم اليهود. فهم الذين تكررت الإشارة القرآنية إلى أنهم هم الذين لعنهم الله وغضب عليهم ومسخهم قردة وخنازير وإلى أنهم انحرفوا عن التوحيد إلى عبادة العجل وآمنوا بالجبت والطاغوت. وهذا قد يؤيد ما قلناه قبل من أن ذكر النصارى في السياق السابق كان على سبيل الاستطراد وأن اليهود هم أصحاب الموقف الفعلي الذي نزل بسببه النهي والتحذير. والآية الأولى قوية في أسلوبها الإنكاري والحجاجي والإفحامي على ما هو ظاهر. كما أن الآية الثانية قوية في أسلوبها التقريعي. وهذا وذاك يدلان على ما كان لموقف اليهود من إثارة واستفزاز وما كان فيه من قحة وسوء أدب اقتضت حكمة التنزيل مقابلتهم عليه بما يستحقون وبما هو من واقع تاريخهم وأخلاقهم. وواضح أن الآيتين تدلان فيما تدلان عليه على أن اليهود كانوا مغيظين محنقين من ظهور النبي صلى الله عليه وسلم وظهور دعوته وانتشار دينه واشتداد قوته وبخاصة مما في ذلك من قطع الطريق عليهم وإحباط زهوهم وحجتهم وإيقافهم في موقف المتناقض المكابر لأنها تأمر بالإيمان بالله وحده وبما أنزله على الرسل السابقين. ومما في ذلك من زعزعة لمركزهم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والديني الذي كان لهم عند العرب وكانوا يجنون بسببه كثيرا من الثمرات المادية والأدبية. وفي

_ (1) اقرأ تفسير آيات سورة آل عمران [72- 73] وسورة النساء [46- 53] .

الآيات التالية تأييدات صريحة لهذا المعنى كما أن آيات عديدة في السور السابقة احتوت مثل ذلك «1» . وهذه ثالث مرة ترد فيها الإشارة إلى مسخ بعض اليهود. غير أنها تذكر مسخهم قردة وخنازير في حين أن المرتين الأوليين في سورتي البقرة والأعراف ذكر فيهما المسخ قردة فقط. وليس في هذا تناقض أو تعديل جديد مما قد يرد على الوهم. فالإشارة القرآنية هنا وفي المرتين السابقتين لم تستهدف ذكر الحادث تاريخيا وقصصيا. وإنما استهدفت التنديد باليهود وتذكيرهم بحادث نكال وخزي رباني في بعض بني قومهم. وروحها تلهم أنهم كانوا يتناقلون خبر هذا الحادث وأن في هذا الخبر خبر مسخ بعضهم قردة وبعضهم خنازير في آن واحد. والآيات القرآنية تتلى علنا ولم يرو أن اليهود أنكروا ذلك. ولقد أورد المفسرون روايات عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم في أسباب وكيفية مسخ فريق من اليهود قردة وخنازير في دور من أدوار تاريخهم في سياق هذه الآيات كما أوردوا مثل ذلك في سياق المرات السابقة مما يدل على أن ذلك كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم: والمتبادر أن ذلك مقتبس من اليهود. ولقد علقنا على الحادث بذاته في سياق سورة الأعراف بما فيه الكفاية فلا نرى محلا للزيادة أو الإعادة. أما عبادة الطاغوت فتوجد في أسفار عديدة من أسفار العهد القديم المتداولة اليوم إشارات كثيرة جدّا إلى ما كان من انحراف بني إسرائيل عن التوحيد وعبادتهم العجل والبعل وغيره من آلهة المصريين والكنعانيين والعمونيين والمؤابيين والفينيقيين وتقديمهم القرابين لها وتنديد الله تعالى بهم وإنذاراته القارعة لهم بواسطة الأنبياء ونكال الله فيهم وتسليطه أعداءهم عليهم بسبب ذلك. وهذا مبثوث في أسفار القضاة ويشوع وصموئيل والملوك وأخبار الأيام من أسفار العهد القديم بكثرة تغني عن التمثيل. وبذلك يستحكم في بني إسرائيل التنديد القرآني الذي يأتي هنا مكررا حيث ندد فيهم من أجل ذلك في آيات عديدة في سورة البقرة التي مرّ

_ (1) اقرأ تفسير آيات البقرة [76 و 88- 91] وآل عمران [71 و 98- 100 و 119] .

[سورة المائدة (5) : الآيات 61 إلى 63]

تفسيرها. وقد جعل الخطاب في بعضها موجها إلى المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم والذين في بيئته للربط بين أخلاقهم وشذوذهم وأخلاق وشذوذ آبائهم الأولين. ولقد ورد في الآية [51] من سورة النساء نسبة هذا الشذوذ إلى هؤلاء المعاصرين المقيمين في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم حيث ذكر فيها بأسلوب التنديد والإنكار أنهم كانوا يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للكفار العرب إن ذلك أهدى مما عليه النبي والمؤمنون على ما جاء في الآية [60] حيث انطوى في ذلك تقرير استمرار الشذوذ والانحراف المحكي عن آبائهم في هؤلاء الأبناء أيضا. [سورة المائدة (5) : الآيات 61 الى 63] وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63) . في الآيات: (1) تقرير منطو على التنديد باليهود الذين هم موضوع الكلام بأنهم إذا جاءوا المسلمين أو إلى مجالس النبي صلى الله عليه وسلم قالوا صدقنا وآمنا. في حين أنهم حين دخولهم دخلوا وقلوبهم جاحدة وحين خروجهم يخرجون كفارا جاحدين. وبأن هذه هي حقيقتهم التي يعلمها الله وهو الأعلم بحقائق ما يكتمون في نفوسهم. (2) وتقرير آخر منطو على التنديد كذلك بأن المدقق في حالهم يرى كثيرا منهم يوغلون في ارتكاب الآثام والعدوان وأكل المال الحرام دون ما تورع ولا مبالاة. وأنه لبئس العمل والخلق عملهم وخلقهم. (3) وتحدّ ينطوي على التنديد بأحبارهم ورهبانهم بأنهم كان عليهم أن يزجروا بني ملتهم عن تلك الأخلاق السيئة. ولكنهم لم يفعلوا. ولبئس الصنيع صنيعهم.

تعليق على الآية وإذا جاؤكم قالوا آمنا ... إلخ والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين

تعليق على الآية وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا ... إلخ والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين وقد روى الخازن أن الآية الأولى نزلت في جماعة من اليهود كانوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيعلنونه بإيمانهم به في حين كانوا كاذبين. والرواية لم ترد في كتب الحديث المعتبرة ومع احتمال صحة الواقعة المروية التي حكت مثلها آيات أخرى في سور أخرى «1» فإننا نرى انسجاما تاما بين الآيات واتصالا وثيقا بينها وبين الآيات السابقة سياقا وموضوعا مما يسوغ القول أنها نزلت معها جملة واحدة أو نزلت عقبها لإكمال السياق. وكل ما يمكن أن يكون أن السياق احتوى فيما احتواه إشارة إلى الواقعة المحكية في الرواية في جملة الوقائع التي صدرت منهم والأخلاق التي اتصفوا بها في معرض التنديد بهم والتحذير منهم والنهي عن موالاتهم ومصانعتهم. وفي الواقعة المحكية من بشاعة سوء القصد ونية الكيد والدس ما هو واضح. وهذا من مشاهد مواقف اليهود الخبيثة إزاء النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته مضافة إلى مشاهد مواقفهم المماثلة إزاء المؤمنين. وقد تكرر هذا وذاك منهم على ما حكته آيات عديدة في سور سابقة كما قلنا. ومع ذلك فإن صدر النبي صلى الله عليه وسلم كان يحتمله منهم لأنه كان في نطاق المماحكة والمكر والكلام ولم يتبدل موقفه منهم إلّا حينما تجاوزوا هذا النطاق إلى التظاهر بالعداء والتآمر مع الأعداء على ما نبهنا عليه في سياق تفسير سورة البقرة والأنفال وآل عمران والنساء والحشر والأحزاب والجمعة والفتح. والآية الثالثة في احتوائها معنى التنديد بأحبار اليهود وربانييهم تلهم أنه كان لهم ضلع ويد بارزة في المواقف الخبيثة التي كان يقفها اليهود فضلا عما تفيده من

_ (1) انظر تفسير آيات البقرة [76 و 105] وآل عمران [71- 74] .

[سورة المائدة (5) : آية 64]

إغضائهم عما كان مستشريا في اليهود من أخلاق سيئة واستحلال مال الغير والعدوان عليه. فاقتضت الحكمة أن يغمزوا هذه الغمزة كأنه أريد أن يقال لهم إنه كان الأولى بهم والواجب عليهم أن ينهوا عامة بني ملتهم عن قول الإثم وأكل السحت. ولكنهم لم يفعلوا هذا أيضا. ولقد أشارت آيات أخرى إلى ضلع الأحبار والربانيين في مواقف العناد والدس والكيد والصد بصراحة «1» . وهكذا تؤيد الإشارات القرآنية بعضها بعضا. بل ولعل من الصواب أن يقال إن موقف عامة اليهود متأثر بموقف هؤلاء الرؤساء. ومن أجل ذلك استحقوا ما احتوته آيات القرآن من التنديد والتقريع بصورة عامة. ومهما تكن الآيات في صدد اليهود فإنّ فيها تلقينا مستمر المدى للمسلمين من حيث تقبيح استشراء الإثم والعدوان وأكل المال الحرام بين الناس. وتقبيح سكوت الرؤساء الدينيين خاصة عن ذلك وعدم نهيهم عنه. [سورة المائدة (5) : آية 64] وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) . (1) مغلولة: مقيدة. والكلمة كناية عن البخل والإمساك.

_ (1) اقرأ تفسير آيات البقرة [44] وآل عمران [187، 188] وفي سورة التوبة آيات صريحة منها هذه الآية اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [31] وهذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ... [34] .

تعليق على الآية وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم وما فيها من صور وتلقين

تعليق على الآية وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وما فيها من صور وتلقين عبارة الآية واضحة. وقد تضمنت: (1) حكاية لقول اليهود يد الله مغلولة سبحانه وتعالى. (2) وردا عنيفا عليهم: فهم المغلولة أيديهم الملعونون بما قالوا. وإن يديه لمبسوطتان ينفق كيف يشاء على من يشاء. (3) وتقريرا لما يحدثه فيهم ما ينزل الله على نبيه من آيات حيث يزيدهم كفرا وطغيانا وغيظا وسعيا في الأرض فسادا. (4) وتقريرا لما جازاهم الله وقابلهم على ذلك حيث ألقى بينهم العداوة والبغضاء وأطفأ نار الحرب كلما أوقدوها وأحبط كل كيد ومكر لهم. والله لا يحب المفسدين أمثالهم. ولقد روى المفسرون أن الآية نزلت في يهودي اسمه فنحاص قال إن يد الله مغلولة بقصد الشكوى من ضيق حالة اليهود الاقتصادية بعد أن كانوا في بحبوحة وسعة. والرواية لم ترد في الصحاح ومع احتمال صحتها فالذي يتبادر لنا أن الآية متصلة بالآيات السابقة سياقا وموضوعا وأنها احتوت الإشارة إلى هذا القول الصادر عن بعضهم والتذكير به في جملة الأخلاق التي اتصفوا بها وسوء الأدب الذي يصدر عنهم نحو الله ورسوله والمؤمنين ودينهم وصلاتهم في معرض التنديد والتحذير والنهي عن توليتهم. هذا مع التنبيه على أن نسبة القول في الآية لجميع اليهود تفيد أن القول المنسوب في الروايات إلى واحد منهم إنما كان تعبيرا عنهم جميعا. ومن هنا وجهت الحملة العنيفة عليهم جميعا. ولقد قلنا قبل إن موضوع الكلام الأصلي في السياق السابق هم اليهود واستدللنا على ذلك من فحوى بعض الآيات فذكرهم صراحة في هذه الآية مؤيد لذلك تأييدا حاسما.

والآية في حد ذاتها احتوت صورة بشعة عن سوء أدب يهود المدينة في حياة النبي في حقّ الله تعالى. وصورة ثانية عن شدة الغيظ الذي ملأ صدورهم من النبي صلى الله عليه وسلم وقوة مركزه وانتشار دعوته ورسوخ قدمه. وصورة ثالثة عن المكائد والدسائس التي ينصبونها ويبثونها ضده وضد دعوته ومركزه أيضا وصورة رابعة عن تطور حالتهم الاقتصادية من حسن إلى سوء. ولعل الكلمة التي صدرت عن بعضهم وكانت كما قلنا تعبيرا عما في صدورهم جميعهم قد صدرت في ثورة من ثورات الغيظ المشتد فيهم الذي احتوت الآية إشارة إليه. والمتبادر أن التفاف الناس حول النبي صلى الله عليه وسلم وازورارهم عن اليهود قد أثر تأثيرا غير يسير في نشاط اليهود الاقتصادي ومجال الاستغلال الذي كانوا يجولون فيه بين العرب وجعلهم يشعرون بالضيق بعد السعة التي كانوا يتبجحون بالغنى نتيجة لها حتى جعلهم ذلك يقولون كلمة بشعة أخرى فيها سوء أدب إزاء الله تعالى وهي إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ على ما حكته الآية [181] من سورة آل عمران فكان ذلك من أسباب هذا الغيظ أيضا. وفي هذا صورة من تطور حالهم. ولعل في الآيات التالية قرينة ما على ذلك. ولقد قلنا في سياق تفسير سلسلة الآيات الواردة في اليهود في سورة البقرة إن تجهمهم من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومواقفهم المناوئة له بمختلف الأساليب قد كانت متأتية من حسبانهم حساب ما سوف يكون لانتشار دعوته واشتداد قوته من أثر في المركز الممتاز الذي كان لهم بين العرب وبخاصة في المدينة اقتصاديا واجتماعيا ودينيا. وفي هذه الآية وما فيها من صور مصداق لذلك. وبعض المفسرين قالوا إن جملة وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ هي في صدد ما بين اليهود والنصارى من عداوة وبغضاء لا تنقطعان. وعزوا هذا القول إلى مجاهد. وقال بعضهم إنها في اليهود خاصة لأنهم كانوا منقسمين في الدين طوائف يعادي بعضهم بعضا «1» .

_ (1) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي ففي بعضها قول وفي بعضها القولان.

ومع أن العداوة والبغضاء لم تنقطعا بين اليهود والنصارى فإن القول الثاني هو الأرجح لأن الآية تصرح باسم اليهود وهي فيهم. ولقد كان بين يهود المدينة خصومات وعداء في عصر النبي صلى الله عليه وسلم بدليل أن منهم من كان في الجاهلية حليفا للأوس ومنهم من كان حليفا للخزرج. وكان بين الأوس والخزرج عداوة وحروب ودماء، فكان حلفاء الخزرج من اليهود يقاتلون معهم الأوس واليهود المتحالفين معهم، وكان حلفاء الأوس من اليهود يقاتلون معهم الخزرج واليهود المتحالفين معهم على ما شرحناه في سياق تفسير الآيات [84- 85] من سورة البقرة مما فيه مصداق لما جاء في الآية عما كان بينهم من عداوة وبغضاء. وكان مثل ذلك بينهم بعد موسى عليه السلام وفي عهد دولتيهم يهوذا وإسرائيل على ما هو مستفيض في أسفار الملوك وأخبار الأيام من أسفار العهد القديم «1» . وكان مثل ذلك بعد ذلك أيضا في زمن حكم الدولة السلوقية والدولة البطليوسية اليونانيتين والدولة الرومانية والدولة المكابية على ما هو مأثور من الروايات التاريخية القديمة «2» . وقد ظلوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم وما يزالون منقسمين دينيّا وسياسيا وعنصريا إلى طوائف متباغضة. وسيظل ذلك بينهم إلى يوم القيامة مصداقا لقول الله تعالى. ولقد أشار بعض المفسرين في سياق جملة كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ إلى ما كان من غزوات قديمة ضد اليهود القدماء مثل غزوة بختنصر والمجوس وما كان تسلطهم عليهم. وذهب بعضهم إلى أن المقصود بذلك الحروب التي قامت بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته من مكة إلى المدينة وكانوا هم في موقف المعتدين فيها مما فصلناه في سياق تفسير سور الأنفال والأحزاب والفتح والحشر. ومهما يكن من أمر ففي الجملة إطلاق يشمل الماضي والحاضر والمستقبل معا بحيث يقال إنهم استحقوا غضب الله تعالى بعد انحرافهم واستمرارهم فيه. وكان من نتيجة ذلك عزيمة الله تعالى على إثارة العداوة والبغضاء

_ (1) انظر كتابنا تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم ص 130، 134. (2) المصدر نفسه ص 234، 296.

[سورة المائدة (5) : الآيات 65 إلى 66]

بينهم وإحباط ما يثيرونه من حروب ومكائد ودسائس في الماضي وفي زمن النبي وفي المستقبل إلى يوم القيامة. وفي هذا ما فيه من وعد وبشرى ربانيين يضاف إليهما ما جاء في سورة الأعراف من عهد رباني بأن يبعث عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب كما جاء في الآية [165] ثم ما جاء في آيات سورة البقرة [61 و 85] وسورة آل عمران [112] من أن الله ضرب عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضبه في الدنيا بالإضافة إلى عذابه في الآخرة. مما يجب على المسلم الإيمان به رغم ما يبدو الآن من بروز وقوة لهم وتأثيرهم في بعض دول الأرض. فالله سبحانه وتعالى يمهل ولا يهمل. وقد قال ... سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم: 44 و 45] والأعراف [182 و 183] . ولقد وقف بعض المفسرين عند كلمة يَداهُ فمنهم من أوّلها بأنها كناية عن نعم الله وبأن تثنيتها في مقام التعظيم. ومنهم من أوّلها بأنها كناية عن قدرة الله. ومنهم من قال إن يد الله صفة من صفاته يجب التسليم بها دون البحث في الكيفية، على ما كان عليه السلف من أهل السنة. ولقد علقنا على هذه المسألة في سياق تفسير الآية الأخيرة من سورة القصص فلا نرى محلّا للإعادة أو ضرورة للزيادة. ولقد روى الترمذي والبخاري حديثا نبويا عن أبي هريرة في سياق تفسير هذه الآية جاء فيه «يمين الرحمن ملأى سحّاء لا يغيضها الليل والنهار. أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه وعرشه على الماء وبيده الأخرى الميزان يرفع ويخفض» «1» حيث يفيد هذا أن المقصود من الجملة القرآنية تقرير كرم الله سبحانه وسخائه غير المحدودين. وهو ما تلهمه جملة بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ ذاتها. [سورة المائدة (5) : الآيات 65 الى 66] وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66) .

_ (1) التاج ج 4 فصل التفسير ص 91، 92.

تعليق على الآية ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا ... إلخ والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين

(1) مقتصدة: معتدلة في مواقفها أو مستقيمة. أو قليلة الانحراف. في الآيتين: (1) تقرير استدراكي بأن أهل الكتاب لو آمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم واتقوا الله في سيرتهم لنالوا رضاء الله وجناته وغفرانه لسيئاتهم. وبأنهم لو اتبعوا التوراة والإنجيل وأقاموا أحكامهما واتبعوا كذلك ما أنزل إليهم من ربهم لا تسع عليهم الرزق ولأتاهم من كل جهة أو من فوقهم بما ينزل عليهم من مطر ومن تحتهم بما ينبت الله من متنوع النبات. (2) وتقرير آخر بواقع حالهم من أن أعمال الكثيرين منهم وأخلاقهم سيئة معوجة منحرفة عما أنزل الله تعالى وليس فيهم إلّا القليل الذين يسيرون بقصد واعتدال. وعدم الغلوّ في المواقف أو يسيرون سيرا مستقيما. تعليق على الآية وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا ... إلخ والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين لم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيتين والمتبادر الواضح أنهما متصلتان بالآيات السابقة لهما سياقا وموضوعا. ومع أن موضوع الحديث القريب هم اليهود فقد جاء الكلام في الآيتين عن أهل الكتاب وشملتا بذكر الإنجيل النصارى كما هو ظاهر. والذي نرجحه أن ذلك كما هو في الآيات السابقة من قبيل الاستطراد. ولا سيما أن مقام الكلام يتحمل التعميم كما يدرك ذلك عند إنعام النظر.

والمتبادر أن الآيتين قد احتوتا ردا على شكوى اليهود من الضيق بعد السعة والعسر بعد اليسر التي عبروا عنها بتلك الكلمة البذيئة في حق الله التي حكتها عنهم الآية [64] . فما وقع هو ناشىء عن انحرافهم واعوجاجهم. وليس بسبب النبي صلى الله عليه وسلم كما زعموا ولو أنهم آمنوا كما آمن الناس وأقاموا أحكام كتب الله لا تسع عليهم الرزق ودرّت عليهم الخيرات فضلا عما ينالونه من غفران الله لسيئاتهم وحسن جزائه الأخروي. ومن المؤولين من صرف جملة وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ إلى القرآن ومنهم من صرفها إلى كتب الله السابقة. والقول الأول معزوّ إلى ابن عباس. ونحن نراه الأوجه لأن ما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو منزل إلى الناس جميعا وأهل الكتاب من الجملة. ويعضد هذا الآية الأولى من الآيتين التي تقرر بأنهم لو آمنوا لكفّر الله عنهم سيئاتهم حيث إن المقصود إيمانهم برسالة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن ويعضده ذكر التوراة والإنجيل قبل الجملة، وتعضده أيضا الآيتان [15، 16] من هذه السورة حيث خوطب فيهما أهل الكتاب بأنه قد جاءهم من الله نور وكتاب مبين. وبهذا يزول ما يرد من إشكال في لوم أهل الكتاب على عدم إقامتهم التوراة والإنجيل وإيذانهم بأنهم لو أقاموا لحسنت حالتهم. فالمطلوب منهم أو الواجب عليهم أن يقيموهما ويقيموا في الوقت نفسه أحكام ما أنزل إليهم بواسطة النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو القرآن. وقد يرد إشكال آخر. فما دام أن الدعوة الإسلامية موجهة إليهم. وفي حال إيمانهم بها تكون الشريعة الإسلامية التي تقوم على القرآن والسنة النبوية القولية والفعلية هي شريعتهم فكيف يؤمرون والحالة هذه بإقامة التوراة والإنجيل؟ وجوابا على هذا نقول إن الآية قد جاءت في معرض التنديد لتقول لأهل الكتاب إن ما أصابهم من ضيق وعسر إنما أصابهم لأنهم أيضا لم يقيموا أحكام كتبهم ويتبعوا وصاياها ومن جملة ذلك الإيمان برسالة النبي الأمي الواردة صفته في التوراة والإنجيل على ما شرحناه في سياق آية سورة الأعراف [157] التي تذكر ذلك.

[سورة المائدة (5) : آية 67]

ومن المؤولين من أوّل جملة أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ بمعنى طائفة مؤمنة مسلمة. وقالوا إنها تعني الذين آمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى. ومنهم من أولها بمعنى معتدلة في موقفها غير مغالية في عدائها ومناوئتها وانحرافها «1» . وكلا التأويلين وجيه غير أن هناك بعض آيات فيها استثناء وفيها تنويه بالمؤمنين منهم على سبيل الاستدراك مثل آيات سورة آل عمران [113- 115] والنساء [46] و [162] والمائدة [13] مما قد يرجح الرأي الأول على الثاني. والله أعلم. [سورة المائدة (5) : آية 67] يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67) . تعليق على الآية يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ... وما روي في صددها وخاصة ما رواه الشيعة من سبب نزولها. وحقيقة هدفها ومداها عبارة الآية واضحة. وفيها أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بوجوب تبليغ ما أنزله الله إليه. وإيذان له بأن أي تقصير أو إهمال في ذلك يجعله غير مبلّغ لرسالة الله. وعليه أن لا يخشى في ذلك أحدا فإن الله حاميه وعاصمه من الناس. والكافرون الذين يمكن أن يأتيه أذى أو صدّ منهم لن يوفقهم الله ولن يهديهم فيما يريدون ويقصدون. ولقد تعددت الروايات في سبب ومناسبة نزول هذه الآية والمقصود منها. فقال الطبري إنها في صدد اليهود والنصارى الذين ذكروا في الآيات السابقة حيث أمره الله أن يستمر في تبليغهم ما أنزل الله ولا يبالي بمواقفهم المناوئة. وروى مع ذلك عن مجاهد أن الشطر الأول نزل لحدته فلما نزل قال إنما أنا واحد كيف أصنع فتجتمع عليّ الناس فنزل الشطر الثاني. وإلى هذا فقد روى عن ابن جريج أن

_ (1) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن. ومنهم من أورد القولين. [.....]

المقصود بها تطمينه من قريش الذين كان يهابهم. وروي عن محمد بن كعب القرظي أن جملة وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ نزلت في مناسبة مجيء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو وحده في ظل شجرة فاخترط سيفه ثم قال من يمنعك مني؟ قال: الله، فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف منه وضرب رأسه بالشجرة حتى انتثر دماغه فأنزل الله الجملة. وروى ابن كثير عن عكرمة عن ابن عباس قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس فكان أبو طالب يرسل إليه كل يوم رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت عليه هذه الآية فأراد عمّه أن يرسل معه من يحرسه فقال: إن الله قد عصمني من الجنّ والإنس» . وروى البغوي عن الحسن أن الله لما بعث رسوله ضاق ذرعا وعرف أن من الناس من يكذّبه فأنزل الله الآية. وقال البغوي بعد هذه الرواية وقيل إنها نزلت في عتب اليهود حيث دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم فاستهزأوا به وقالوا تريد أن نتخذك حنانا كما اتخذت النصارى عيسى فسكت عنهم فنزلت. وقيل إنها نزلت في قضية الرجم والزنا اليهودية. وقيل إنها نزلت في مسألة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش. وقيل في الجهاد حيث كرهه المنافقون وكان النبي يمسك أحيانا عن الحثّ عليه فأنزل الله الآية. وهناك روايات يرويها الشيعة سنوردها ونعلّق عليها فيما بعد. ونعلق على الأقوال والروايات السابقة فنقول إنه لم يرد شيء منها في الصحاح. والنفس لا تطمئن إلى معظمها التي يقتضي بعضها أن تكون الآية نزلت متفرقة في مناسبات مختلفة. ويقتضي بعضها أن تكون نزلت في مكة. والتكلف والتلفيق ظاهران فيها. وإذا كان بعض الآيات المكية احتوى إشارة إلى ما كان يعتري النبي صلى الله عليه وسلم من أسى وضيق بتكذيب الناس ومناوأتهم له فهذه الحالة لم تعد قائمة في العهد المدني الذي قويت فيه الدعوة وكثر المسلمون وتبدل حالهم من الضعف إلى القوة. ولم ترو رواية ما بأن الآية مكية. وهذا فضلا عن أن ما أشارت إليه الآيات المكية من أسى النبي صلى الله عليه وسلم وضيقه لم يكن خوفا من الناس يحمله على عدم تبليغ ما أنزل إليه. ولقد أنزل الله عليه في مكة آيات كثيرة فيها إنذارات قارعة وحملات قاصمة ونعوت لاذعة فكان يتلوها علنا دون ما خوف من زعماء قريش وأغنيائهم الأقوياء وجماهير الناس الذين رضخوا لتحريضهم

ووقفوا من الدعوة موقف الانقباض. فالقول إن الآية نزلت في أول التبليغ لأنه ضاق ذرعا بمن كان يكذبه من الناس لا يصحّ تاريخا ولا موضوعا. ومسألة قضية اليهود في الزنا والرجم ومسألة نكاح زينب بنت جحش ليس لهما محل في هذا المقام. وما سبق الآية ولحقها يسوغان الجزم بأنها جزء من موضوع السياق المتصل بالنهي عن تولي أهل الكتاب ولومهم لأنهم لم يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الشامل لهم. وهذا يجعل قول الطبري الذي أوردناه في مطلع الروايات والأقوال هو الأوجه المتسق مع السياق والفحوى. وقد عزاه الطبري إلى ابن عباس وقتادة وقال في توضيحه إن الله أمر رسوله بإبلاغ اليهود والنصارى الذين قصّ قصتهم وذكر انحرافهم ونهى عن موالاتهم ما أنزله عليه دون أن يشعر نفسه حذرا منهم أن يصيبه مكروه ولا جزع من كثرة عددهم وقلة عدد من معه وأن لا يتقي أحدا في ذات الله فإن الله تعالى كافيه كل أحد من خلقه ودافع عنه كل مكروه. وأعلمه أنه إن قصر في إبلاغ شيء مما أنزل عليه فهو في تركه شيئا من ذلك وإن قل فيكون في منزلة من لم يبلغ منه شيئا وهذا توضيح جيد يجلي الآية ومداها جلاء قويا. وقد يحسن أن نذكر في هذا المقام بالآيات الست الأخيرة من سورة الحجر حيث يصح القول إن الموقف الذي استوجب نزول هذه الآيات المكية وشرحناه في سياقها قد تكرر في العهد المدني بالنسبة لأهل الكتاب فاقتضت حكمة الله تنزيل الآية لتثبت النبي وإيذانه بأن الله عاصمه منهم كما آذنه في آيات الحجر أنه عاصمه من المشركين وأن عليه أن يستمر في مهمته وإبلاغ ما أنزل الله عليه دون خشية من أحد كتابيّ وغير كتابيّ. ولعلّ ما روي في سياق الآية من أن النبي أرسل إلى أبي طالب يخبره أن الله عاصمه وكافيه، إن صحّ، قد كان في مناسبة آيات سورة الحجر المكية فالتبس الأمر على الرواة. ومع ذلك فإنه يتبادر لنا أن في الآية تأييدا أقوى لما ذكرناه في سياق تفسير الآيتين [15، 16] من هذه السورة من احتمال صحة روايات إرسال النبي صلى الله عليه وسلم رسلا وكتبا إلى ملوك وأمراء البلاد المتاخمة ودعوتهم إلى الإسلام. وذلك باحتوائها أمرا مؤكدا للنبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ رسالته لأهل الكتاب دون أن يخشى شيئا وتطمينا بأن الله تعالى حاميه وعاصمه حيث يمكن أن

يتناسب هذا الأسلوب مع فكرة ونتائج إرسال الرسل والكتب إلى أولئك الملوك والأمراء ودعوتهم. والله تعالى أعلم. ولقد ورد في فصل التفسير في كتب البخاري ومسلم والترمذي حديثان في سياق تفسير هذه الآية رأينا أن نوردهما بدورنا على هامش تفسيرها. أحدهما رواه البخاري ومسلم والترمذي عن عائشة قالت «من حدّثك أن محمدا كتم شيئا مما أنزل عليه فقد كذب والله يقول يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ» «1» وثانيهما رواه الترمذي عن عائشة أيضا قالت «كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فأخرج النبي رأسه من القبّة فقال لهم يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله» «2» . وفي الحديث الأول توضيح وتوكيد لمعنى جوهري وأصلي في العصمة النبوية بحيث يجب على كل مسلم أن يؤمن بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلّغ كل ما أنزل إليه من ربّه. وفي الحديث الثاني صورة رائعة لعمق إيمان النبي صلى الله عليه وسلم بربّه وبما ينزله عليه. وتطبيق للآية الكريمة. ولقد روى مسلم وأبو داود عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب خطبة طويلة في حجة الوداع التي مات بعدها بنحو ثمانين ليلة فقال فيما قال «قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلّوا. كتاب الله. وأنتم تسألون عني. فما أنتم قائلون. قالوا نشهد أنك قد بلّغت وأدّيت ونصحت فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس اللهمّ اشهد. ثلاث مرات» «3» حيث ينطوي في هذا كذلك عمق إيمان النبي صلى الله عليه وسلم برسالته ومسؤوليته عنها تجاه الله عزّ وجل وحرصه على استشهاد جمهور المسلمين في موقف حافل جامع على أنه قد بلّغ رسالة ربه.

_ (1) التاج ج 4 ص 92. (2) المصدر نفسه. (3) من خطبة حجة الوداع انظرها في التاج ج 2 ص 140- 145. ولقد أورد ابن هشام خطبة حجة الوداع وفيها زيادة بعد جملة (كتاب الله) وهي (سنّة نبيه) انظر ج 4 ص 272 وما بعدها.

روايات الشيعة في صدد الآية يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ... والتعليق عليها

روايات الشيعة في صدد الآية يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ... والتعليق عليها نأتي الآن إلى روايات الشيعة في صدد هذه الآية التي يعلّقون عليها أهمية عظيمة تشابه لما يعلقونه على الآيتين [54 و 55] من هذه السورة في تثبيت إمامة عليّ رضي الله عنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم كنصّ قرآني أيضا. فقد روى الطبرسي المفسر الشيعي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وعن جابر بن عبد الله أن الله أمر رسوله بتنصيب علي رضي الله عنه إماما بعده، فتخوّف أن يقول الناس إنه حابى ابن عمه فأنزل الله الآية فأعلن النبي بعد نزولها في غدير خمّ ولاية علي، وفي رواية أنه أخذ بيد عليّ فقال من كنت مولاه فعليّ مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. وروى نفس المفسر عن إمامي الشيعة أبي جعفر وأبي عبد الله مثل ذلك. وروى المفسر الشيعي الكاشي حديثا عن النبي بدون عزو وراو وسند «أن رسول الله قال مبينا سبب نزول الآية إن جبريل هبط إليّ ثلاث مرات يأمرني بأمر ربي بأن أقوم فأعلم كل أبيض وأسود أن علي بن أبي طالب أخي ووصيي وخليفتي والإمام من بعدي الذي محله منّي محلّ هارون من موسى إلّا أنه لا نبيّ بعدي وهو وليكم بعد الله ورسوله وقد أنزل الله عليّ بذلك آية أخرى في ذلك وهي إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55) . فسألت جبريل أن يستغفر لي عن تبليغ ذلك إليكم أيها الناس لعلمي بقلة المتقين وكثرة المنافقين وإوغال الآثمين وحيل المستهترين بالإسلام. الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم والذين آذوني فسمّوني أذنا ولو شئت أن أسميهم بأسمائهم لسميت وأن أومئ إليهم بأعيانهم لأومأت فأنزل الله عليّ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك في عليّ وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس «1» . وفي كتب تفسير

_ (1) انظر هذا الحديث في الجزء 2 ص 169 من كتاب التفسير والمفسرون للذهبي.

المفسرين روايات وأحاديث أخرى من هذا الباب فاكتفينا بما أوردناه ونقول تعليقا على ذلك، إن سياق الآية السابق واللاحق والتي هي منسجمة معها أشدّ الانسجام يدلّ دلالة نعتقد أنها حاسمة على أنها نزلت آمرة النبي بتبليغ ما أنزل الله إليه إلى أهل الكتاب دون خشية وحذر وأنها نزلت في وقت كان اليهود في المدينة على شيء من الوجود القوي بحيث يمكن أن نقول إن روايات الشيعة مقحمة على الآية وسياقها إقحاما عجيبا فضلا عن نصوص بعضها العجيبة التي تبرز عليها الصنعة بروزا قويا شأن الروايات التي يسوقونها أوردناها في سياق الآيتين [54 و 55] من هذه السورة. والغاية منها ظاهرة وهي زعم كون خلافة عليّ بعد النبيّ مؤيدة بنصوص قرآنية ونبوية وزعم مخالفة الجمهور الأعظم من المهاجرين والأنصار للقرآن والنبي وتحريفهم القرآن بإسقاط اسم عليّ من الآية حاشاهم ثم حاشاهم ولا يجوز لمسلم عاقل أن يخالجه شك في أن النبي لو أمر بإعلان إمامة عليّ لأعلنها دون أي تردد. ولو وصّى بخلافته لعبد حبشي وليس لعلي بن أبي طالب الهاشمي القرشي الصحابي الجليل المجاهد العظيم والعالم الواسع العلم لتقبل أصحابه وبخاصة كبارهم وبالأخصّ أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ذلك بكل خضوع وتسليم ولنفذوا وصيته بدون أي تردد. لأن المسألة في ذلك الوقت ليست مسألة حكم وسياسة وإنما هي مسألة إيمان ودين. وكان أصحاب رسول الله وبخاصة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان والذين سجّل الله في القرآن رضاءه عنهم كانوا مستغرقين في دين الله ورسوله ورسالته وأوامره وسنته والقرآن يأمرهم بأخذ ما آتاهم النبي والانتهاء عمّا نهاهم عنه ويقول من أطاع الرسول فقد أطاع الله. والجمهور الأعظم من أصحاب رسول الله ومنهم علي بن أبي طالب بايعوا أبا بكر ثم بايعوا عمر من بعده ثم بايعوا عثمان من بعده. وعلى فرض المحال لو حدثت نفوس بعض أصحاب رسول الله بعدم تنفيذ وصية النبي لو كانت صحيحة لحاربهم جمهور أصحاب رسول الله. ولما كان يصحّ فرض تراجع عليّ عنها لأنه يكون في ذلك خالف وصية رسول الله ولحارب دونها ولوجد من المسلمين جمهورا عظيما يحاربون

معه. وهو يعد أقوى عصبة من أبي بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين. وقد يكون في كتب الحديث المعتبرة أحاديث فيها شيء خاص بالنسبة لعلي رضي الله عنه. من ذلك مثلا حديث رواه الترمذي جاء فيه «من كنت مولاه فعليّ مولاه» «1» وليس بين هذا الحديث والآية أية صلة. ولا يفيد الدلالة التي يريد الشيعة استخراجها حتى وليس في الزيادة التي زادوها عليه هذه الدلالة. ومن ذلك حديث رواه الترمذي قد يكون فيه تفسير أو توضيح للحديث السابق. جاء فيه «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا وأمّر عليهم عليا فمضى في السرية فأصاب جارية فأنكروا عليه وتعاقد أربعة منهم على أن يخبروا رسول الله إذا رجعوا. فلما قدموا سلّموا على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قام أحد الأربعة فقال يا رسول الله ألم تر إلى علي صنع كذا وكذا. فأعرض عنه ثم قام الثاني فقال مثل مقالته فأعرض عنه ثم قام الثالث فقال مثلهما فأعرض عنه ثم قام الرابع فقال مثل ما قالوا فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم والغضب يعرف في وجهه فقال ما تريدون من علي وكرّرها ثلاثا ثم قال إن عليا مني وأنا منه وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي» «2» حيث يمكن أن يستفاد من هذا الحديث إن صح أنه في معرض الدفاع عن علي رضي الله عنه وبيان علوّ منزلته عنده وحسب. ولعل الحديث الأول صدر أيضا في هذا الموقف فرواه أحدهم لحدته. ومن ذلك حديث يرويه مسلم والترمذي عن زيد بن أرقم صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم على ماء خمّ بين مكة والمدينة جاء فيه «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أوّلهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه ثم قال وأهل بيتي أذكّركم الله في أهل بيتي. أذكّركم الله في أهل بيتي. أذكّركم الله في أهل بيتي» «3» وفرق كبير بين هذه الصيغة التي يروي الشيعة صيغة أخرى عن النبي يوم غدير خمّ وما يروونه وأوردناه قبل. وليس لها صلة بالآية التي

_ (1) التاج ج 3 ص 296. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه ص 310.

[سورة المائدة (5) : آية 68]

نحن فيها. وليس فيها الدلالة التي يريد الشيعة استخراجها. ومحبة واحترام ورعاية أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر واجب على المسلمين جميعا ولو لم يرو هذا الحديث مع القول الحق إن هذا الواجب هو بالنسبة للمستقيمين المتقين الصالحين منهم الملتزمين لأوامر الله ورسوله ونواهيهما. على ما تلهمه آيات قرآنية وأحاديث نبوية عديدة. وإن للمستقيمين المتقين الصالحين منهم الحق في أن يتولوا أمر المؤمنين بالبيعة الشرعية وإن هذا ليس من شأنه أن يحجب ذلك عن المستقيمين المتقين الصالحين من غيرهم إذا ما تمّت لهم بيعة شرعية أيضا. [سورة المائدة (5) : آية 68] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68) . تعليق على الآية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ... وما فيها من أحكام ودلالات عبارة الآية واضحة كذلك. وقد احتوت: (1) أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لأهل الكتاب إنهم لن يكونوا على شيء من الهدى والحق والصواب وأسباب النجاة إلّا إذا نفذوا أحكام التوراة والإنجيل وأقاموا على أحسن وجه ثم آمنوا واتبعوا ما أنزل عليه أيضا لأن النبي واسطة من الله إليهم به. (2) وتقريرا توكيديا بأن ما ينزله الله عليه سوف يزيد كثيرا منهم طغيانا وكفرا. (3) وتسلية له على ذلك. فلا ينبغي أن يحزن أو يعبأ بموقف الكافرين منهم. ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن جماعة من اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم

فقالوا ألست تزعم أنك على ملّة إبراهيم ودينه وتؤمن بالتوراة وتشهد أنها من الله حقّ قال بلى. ولكنكم أحدثتم وجحدتم وخالفتموها وكتمتم ما أمر الله أن تبينوه منها للناس وأنا بريء من إحداثكم فقالوا له فإنا نأخذ بما في أيدينا وهو الحقّ والهدى. ولا نؤمن بك ولا نتبعك، فأنزل الله الآية. والرواية لم ترد في الصحاح، والمتبادر المستلهم من فحوى آيات السياق السابق أن الآية لم تنزل لحدتها بمناسبة ما روته الرواية. وأنها جزء من السياق واستمرار له. ففي الآيات السابقة وجّه اللوم إلى أهل الكتاب وقيل لهم لو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل الله على النبي الذي هو موجّه إليهم لحسنت حالتهم، فجاءت هذه الآية لتأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم ما احتوته. ولعل الآية السابقة لهذه الآية- على ضوء هذا الشرح الذي نرجو أن يكون صوابا- جاءت بمثابة تمهيد وتشجيع. وكأنما أرادت أن تقول للنبي صلى الله عليه وسلم إن عليه أن يقول هذا لأهل الكتاب بكل جرأة وصراحة وبدون تردد ولا حسبان ما يحدثه في كثير منهم من ازدياد الكفر والطغيان. فالله عاصمه وحاميه منهم ومن غيرهم. وهذا لا يمنع صحة المحاورة المروية في الرواية بين النبي صلى الله عليه وسلم واليهود في مجلس من المجالس قبل نزول الآيات. وإذا صحت الرواية فيكون فيها تأييد لما قلناه أكثر من مرة من أن ذكر النصارى والإنجيل في السياق قد جاء من قبيل الاستطراد والتعميم. وأن المقصود في الدرجة الأولى في السياق هم اليهود. والله أعلم. وما قلناه قبل في صدد مدى الحثّ على إقامة التوراة والإنجيل في سياق الآية [66] ينسحب على ما جاء من ذلك في هذه الآية. وجملة لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ ليس من شأنها أن تضعف ما قلناه أو تنقضه ما دامت مقترنة بنفس الجملة السابقة وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ على ما شرحناه سابقا. وشرح الآية المستلهم من روحها وفحواها بالإضافة إلى الشرح السابق للآيتين [65 و 66] المستلهم كذلك من روحهما وفحواهما ينطوي على دلالة تكاد

[سورة المائدة (5) : آية 69]

أن تكون قطعية على صواب ما قرّرناه من أن الآية [67] التي يتمسك بها الشيعة جزء من السياق وأن تمسكهم بها تعسف وتمحّل. وفي الآية نصّ صريح والحالة هذه على أن اليهود والنصارى من وجهة النظر الإسلامية ليسوا على هدى يضمن لهم النجاة عند الله ما داموا لا يؤمنون بالرسالة المحمدية والقرآن الذي أنزله الله على محمد صلوات الله عليه. وهو ما دعوا إليه مرارا. وكانت أحدث دعوة إليه قبل هذه الآية في الآية [65] وقبلها في الآيات [13- 16 و 19] من هذه السورة. ولقد روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلّا كان من أهل النار» «1» حيث ينطوي في الحديث تفسير وتوضيح لمدى الآية متساوقان مع ما استلهمناه منها. [سورة المائدة (5) : آية 69] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) . عبارة الآية واضحة. وهي مماثلة- بفرق طفيف- لآية سورة البقرة [61] التي جاءت في سياق التنديد باليهود ومواقفهم وجحودهم كما جاءت هذه هنا. وليس هناك رواية خاصة بنزولها. والمتبادر أنها متصلة بالسياق اتصال تعقيب واستطراد وتنبيه لتقرر أن رضاء الله لا ينال باليهودية والنصرانية والصابئية والإسلام وإنما ينال بالإيمان بالله إيمانا صادقا واليوم الآخر والعمل الصالح لا غير. وإن من يفعل ذلك منهم فهو الذي لا يكون عليه خوف ولا حزن من العاقبة. وما دامت الآية متصلة بالسياق فإن وجوب الإيمان بالرسالة المحمدية والقرآن منطو فيها بالنسبة لليهود والنصارى والصابئين بطبيعة الحال. ولقد شرحنا هذه المسألة شرحا أوفى في سياق تفسير آية البقرة المذكور فنكتفي بهذا التنبيه.

_ (1) التاج ج 1 ص 30.

[سورة المائدة (5) : الآيات 70 إلى 71]

[سورة المائدة (5) : الآيات 70 الى 71] لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71) . (1) وحسبوا أن لا تكون فتنة: ظنوا أنهم لا يبتلون أو لا يختبرون أو لا يؤاخذون. تعليق على الآية لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ... والآية التالية لها وما فيهما من صور في الآيتين إشارة تنديدية إلى مواقف بني إسرائيل من الرسل الذين يأتونهم من قبل الله وتقرير لواقع حالهم: (1) فلقد أخذ الله عليهم الميثاق والعهد بأن يسمعوا ويطيعوا لرسله. ولكنهم نقضوا عهد الله فكانوا كلّما جاءهم رسول بما لا يحبّون من المواعظ والأوامر والنواهي كذبوه أو قتلوه. (2) ولقد ظنوا أنهم لن يتعرضوا لابتلاء الله واختباره ومؤاخذته وعقابه فظلوا في غيّهم عميا عن رؤية الحقّ صمّا عن سماعه حتى عاقبهم الله وابتلاهم فتابوا فتاب عليهم ثم عاد كثير منهم إلى التصامم عن سماع الحق والتعامي عن رؤيته. (3) وإن الله ليعلم ما يعلمون ومحصيه عليهم وسائلهم عنه. ولم نطلع على رواية خاصة بنزول الآيتين. والمتبادر أنهما متصلتان بالسياق أيضا اتصال تنديد وتعقيب وتذكير وإنذار. ويتبادر لنا أن فيهما معنى من معاني التسرية عن النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا كان اليهود قد وقفوا منه المواقف الخبيثة والجاحدة التي وقفوها والتي حكتها الآيات السابقة

[سورة المائدة (5) : الآيات 72 إلى 76]

فإن ذلك ديدن آبائهم من قبلهم. فلا محلّ للهمّ والحزن. ولقد احتوت سلسلة آيات البقرة الواردة فيهم مثل ذلك في مقام التنديد والتسرية أيضا. ولقد علقنا على الموضوع بذاته بما يغني عن التكرار. [سورة المائدة (5) : الآيات 72 الى 76] لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) . (1) صدّيقة: شديدة الإيمان والتصديق، أو شديدة الصدق. تعليق على الآية لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلخ والآيات الأربع التي بعدها عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت: (1) تقرير كفر الذين يقولون إن الله هو المسيح والذين يقولون إنه ثالث ثلاثة. (2) وتقرير كون ذلك هو مخالف لدعوة المسيح الذي دعا بني إسرائيل إلى الله وحده ربّه وربّهم وأنذر المشركين به بالحرمان من الجنّة وبعذاب النار.

(3) وتقرير حقيقة المسيح وأمه. فهو رسول مثل سائر الرسل الذين سبقوه. وأمه صدّيقة مؤمنة. وكلاهما بشر مثل سائر البشر وكانا مثلهم يأكلان الطعام. (4) وسؤالين استنكاريين وتنديديين موجهين للنصارى: فهل يجوز أن يعبدوا من دون الله ما لا يملك لهم ضرّا ولا نفعا. وهل لا ينبغي لهم أن يثوبوا إلى رشدهم ويتوبوا إلى الله من أقوالهم. وهو الغفور الرحيم الذي يقبل توبة التائبين إليه. أما الذين يظلّون منحرفين ظالمين أنفسهم فليس لهم أنصار ينصرونهم من الله. ولم يرو المفسرون رواية خاصة بنزول هذه الآيات أيضا. والمتبادر أنها متصلة هي الأخرى بالسياق السابق اتصال تعقيب وتنديد وتذكير وإنذار. ومع أن الآية الأخيرة قد تلهم أن الخطاب الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتوجيهه فيها إلى النصارى كان وجاهيا وعلى سبيل التنديد الجدلي. فإن السياق السابق واللاحق يلهم أن هذه الآية منسجمة مع سائر الآيات. ويجعلنا نرجح أن السؤال فيها أسلوبي وعلى سبيل التنديد من جهة وعلى سبيل تعليم النبي بما يوجهه من حجة مفحمة للنصارى من جهة أخرى. ويتبادر أنها جاءت من باب الاستطراد لبيان انحراف النصارى أيضا عن الإنجيل ودعوة المسيح كما انحرف اليهود. ولتوكيد كون أهل الكتاب اليهود والنصارى معا ليسوا على شيء ما داموا لا يقيمون التوراة والإنجيل على ما قررته الآية [72] بالإضافة إلى عدم اتباع ما أنزل الله إليهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم. والفقرة الأولى من الآية الأولى وردت في الآية [17] من هذه السورة. وعلّقنا عليها بما يغني عن التكرار. ولقد علّقنا على موضوع التثليث الذي تضمنته الآية الثانية وعقيدة النصارى بأن الآلهة ثلاثة في سياق الآية [171] من سورة النساء بما يغني كذلك عن التكرار. وإن كان من شيء نزيده هنا فهو تقرير الآية هنا كفر الذين يثلثون الآلهة ويقولون إن الله الذي هو في عقيدتهم واحد من الأقانيم الثلاثة ثالث ثلاثة. فهذا التقرير هنا جديد لأن آية النساء جاءت بأسلوب التنديد والاستنكار والنهي.

ومن الجدير بالذكر أن الأناجيل المتداولة اليوم والتي يعترف بها النصارى قد احتوت أقوالا كثيرة منسوبة إلى المسيح فيها مصداق لما جاء في الآيات من حيث كونه بشرا وابن الإنسان ومن حيث إنه كان يدعو إلى الله ويصفه بأنه ربّه وربّ كل الذين يخاطبهم وربّ الناس. وقد أوردنا طائفة من هذه الأقوال في سياق تفسير سورة مريم فلا نرى حاجة إلى التكرار إلا أن نقول إنه من وجهة النظر الإسلامية أن ما يعزى في الأناجيل المتداولة إلى عيسى عليه السلام من أقوال فيها ما يمكن أن لا يتطابق مع القرآن في هذه الآيات وفي غيرها صراحة أو تأويلا من كون المسيح بشرا كسائر البشر ولد بمعجزة ورسولا كسائر الرسل دعا إلى الله وحده وكون الله عز وجل واحدا لا شريك له ولا ولد ولا يقبل التعدد والتجزؤ هو منحول أو محرف عن أصله الحقّ. ومن الجدير بالتنبيه أن الروايات القديمة ذكرت أن من رجال المذاهب النصرانية في القرون النصرانية الأولى من كان يعتقد ويقول ببشرية عيسى عليه السلام وكونه رسولا ونبيّا وحسب، وينكر ألوهيته وألوهية أمه «1» . وذكر أمّ المسيح ووصفها بالصدّيقة متصلان كما هو المتبادر بعقيدة اليهود والنصارى فيها. فالأولون بهتوها وقذفوها كما حكته الآية [159] من سورة النساء وأوردنا في سياق ما يروجونه من روايات قديمة «2» . ومن الآخرين من ألّهها وعبدها كما هو مأثور في الروايات التاريخية «3» بل وقائم إلى الآن عند بعض الطوائف النصرانية. فالإشارة القرآنية هي بسبيل الردّ على هؤلاء وهؤلاء ووضع أم المسيح في موضعها الحقّ من كونها مؤمنة مخلصة لله طاهرة من الدنس وكون الله قد جعلها محلّ عنايته وبركته واصطفاها لمعجزة ولادة المسيح بدون مسّ رجل على ما جاء في آيات آل عمران [33- 48] وآيات مريم [1- 21] وقد أوردنا ما جاء في صدد ذلك في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا في سياق تفسير سورة مريم. فنكتفي بالتنبيه إلى ذلك. وإذا كان في بعض آيات القرآن بيانات ليست واردة في هذا

_ (1) انظر تاريخ سورية للدبس مجلد 3 ج 2 ومجلد 4 ج 3. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه.

[سورة المائدة (5) : آية 77]

الإصحاح فالذي نعتقده أنها وردت في قراطيس وأناجيل أخرى لم تصل إلينا. [سورة المائدة (5) : آية 77] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77) . في الآية أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ينهى أهل الكتاب عن الغلوّ في عقائدهم الدينية غلوّا يتنافى مع الحق والحقيقة. وعن سلوك طريق سلكها قوم قبلهم اتباعا لأهوائهم فضلّوا عن الطريق القويم وأضلّوا كثيرا من غيرهم أيضا. تعليق على الآية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ ... إلخ وما فيها من تلقين وما ورد في عدم الغلوّ في الدين من أحاديث ولم نطلع على رواية خاصة بنزول الآية. والمتبادر أنها هي الأخرى متصلة بالسياق نظما وموضوعا. وقد قال الطبري إن النهي الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتوجيهه هو للنصارى في صدد انحرافهم في عقائدهم عن الحق. وإن الذين نهوا عن اتباع أهوائهم هم اليهود. وعزا القول الثاني إلى مجاهد. وقال البغوي إن المقصود بالنهي والتحذير هم رؤساء الضلال من اليهود والنصارى. وقال ابن كثير إن النهي موجّه إلى النصارى والتحذير هو من رؤسائهم المنحرفين السابقين. وما قاله الطبري هو الأوجه. فالخطاب في الآيات السابقة موجّه للنصارى. والآية استمرار لها. وتحذيرهم من قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا يدل على أن هؤلاء من غيرهم. وليس هناك غيرهم إلّا اليهود. والوصف الذي وصفوا به في شطر الآية الثانية قد وصفوا به في آيات عديدة سابقة. منها آية قريبة وهي الآية [60] من هذه السورة. ومنها آيات سورة النساء [44- 45] ولعلّ في الآية التالية قرينة على ذلك أيضا. وهكذا تكون الآية قد استهدفت تحذير النصارى من السير في طريق اليهود الذين اتبعوا فيما سبق أهواءهم فضلّوا وأضلّوا.

ومع أن أسلوب الآية قد يلهم أن الخطاب الذي أمر النبي بتوجيهه إلى أهل الكتاب كان وجاهيا وعلى سبيل التنديد فإن السياق السابق واللاحق يلهم أنه أيضا تعبير أسلوبي فيه تعليم للنبي صلى الله عليه وسلم بما يوجهه لهم من تحذير وتنبيه. ومع أن نهي الآية لأهل الكتاب عن الغلوّ في الدين في مقامه بمعنى النهي عن الانحراف في العقيدة الأصلية فقد وقف المفسّر القاسمي في (محاسن التأويل) عند الآية وأورد بعض أحاديث نبوية في سياقها حيث يبدو أنه رأى في الآية تلقينا للمسلمين أيضا والأحاديث التي أوردها ليست في معنى النهي الذي هدفت إليه الآية أي الانحراف عن العقيدة الأصلية وإنما هي في صدد التزمت والتنطع والتشدد في المبادرات الدينية المفصلة بالعبادات والمعاملات. وهناك كثيرون من المسلمين في مختلف العصور وبخاصة الأخيرة، ومنهم المتزيون بزي رجال الدين من يتجاوزون الحق والاعتدال في أقوالهم وأفعالهم وتزمتهم ويتهمون من لا يسير على طرائقهم أو يشتدون في تسيير الناس على طرائقهم دون أن يكون لهذه الطرائق سند صحيح من قرآن وسنّة. كما أن هناك كثيرين من أصحاب المذاهب الدينية المشوبة بالسياسة الذين يتبعون أهواءهم ويغلبونها على الحقّ والمنطق ويفسرون القرآن وينسبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أحاديث غير صحيحة بسبيل تأييد هذه الأهواء. والمتبادر أن المفسّر لحظ ذلك فوقف عند الآية مستطردا إلى ما عليه هؤلاء وهؤلاء من غلوّ وأورد ما أورده من أحاديث نبوية في ذلك. ولا نرى والحالة هذه بأسا في ذلك. ومن الأحاديث التي أوردها حديث رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم عن ابن عباس قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم إياكم والغلوّ في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلوّ في الدين» وحديث رواه مسلم عن ابن مسعود قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هلك المتنطعون قالها ثلاثا» والمتبادر أن في الحديث الثاني تفسيرا للحديث الأول من حيث إن المقصود به هو التزمت ومجاوزة الحق والاعتدال في الأقوال والأفعال المتصلة بالدين والتدين. ومن الجدير بالتنبيه أن في القرآن المكي والمدني آيات كثيرة في النعي الشديد على الذين يتبعون هواهم ويتخذونه إلها ويجعلونه ضابطا لسيرهم في شؤون الدين والدنيا والتنديد بهم مما

[سورة المائدة (5) : الآيات 78 إلى 79]

مرّت أمثلة كثيرة منه في السور التي سبق تفسيرها وهي عامة شاملة للمسلمين بطبيعة الحال. [سورة المائدة (5) : الآيات 78 الى 79] لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79) . تعليق على الآية لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ ... إلخ والآية التي بعدها وما فيهما من تلقين وما ورد في صدد ذلك من أحاديث عبارة الآيتين واضحة. وقد احتوتا إشارة تذكيرية لدور من أدوار تاريخ بني إسرائيل حيث كفر بعض أجيالهم فاستحقوا اللعنة على لسان داود وعيسى عليهما السلام بسبب كفرهم وعصيانهم وبغيهم وتجاوزهم حدود الله. وبسبب أن بعضهم كان يسكت عمّا يرتكبه البعض الآخر من آثام ومنكرات ولا ينهى عن ذلك أحد أحدا. ولبئس ما كانوا يفعلون. ولم نطلع على رواية خاصة بنزول الآيتين. والمتبادر أنهما متصلتان بالآيات السابقة سياقا وموضوعا أيضا. وأنهما استهدفتا بيانا توضيحيّا للآية السابقة التي حذرت من اتباع أهواء الذين ضلّوا من قبل وأضلوا. وانطوتا في الوقت نفسه على تدعيم الخطاب الموجّه إلى النصارى في صدد نهيهم عن الغلوّ والانحراف ورجوعهم إلى الحق. فلا يصح لهم أن يسيروا في الطريق التي سار فيها اليهود وأتباع الأهواء مثلهم. فمن هؤلاء من لعنوا بلسان بعض الأنبياء بسبب كفرهم وعصيانهم وتجاوزهم حدود الله وعدم تناهيهم عن الآثام والمنكرات. ولقد عزا الطبري إلى ابن عباس وابن جريج أن داود عليه السلام دعا على فريق من بني إسرائيل ولعنهم فصاروا خنازير. وأن عيسى عليه السلام دعا على

فريق منهم ولعنهم فصاروا قردة. وعزا إلى قتادة أن لعنة داود ودعاءه جعلتهم قردة ولعنة عيسى ودعاءه جعلتهم خنازير. وقال البغوي: إن اليهود لما اعتدوا في السبت في ميناء أيلة قال داود اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة وخنازير وإنهم لما كفروا بعيسى قال اللهمّ العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة خنازير. وهذه الروايات لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة فضلا عن أنها غير صادرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مما يسوغ التحفظ إزاءها. ومهما يكن من أمر فإن تخصيص لعنتي داود وعيسى عليهما السلام بالذكر متصل فيما يتبادر لنا بحوادث معينة كانت معروفة عند اليهود والنصارى. ولقد وقف بعض المفسرين عند هذه الآيات أيضا وأوردوا في سياقها أحاديث نبوية فيها تعليم للمسلمين بما يجب عليهم من التناهي عن المنكر وإنذار لمن لا يفعل ذلك حيث يبدو أنهم رأوا فيها تلقينا شاملا للمسلمين وأوردوا الأحاديث بناء على ذلك وهذا وجيه. ولا سيما إن بعض الأحاديث ينطوي على التذكير بما كان من ذلك من بني إسرائيل. ومن الأحاديث التي أوردها الطبري حديث عن ابن مسعود رواه بطرق عديدة بتباين يسير وقد ورد صيغة له في التاج برواية أبي داود والترمذي عن عبد الله بن مسعود وهذه هي «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول له يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحلّ لك. ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده. فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قرأ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79) . ثم قال والله لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر ولتأخذنّ على يدي الظالم ولتأطرنّه على الحقّ أطرا ولتقصرنّه على الحقّ قصرا أو ليضربنّ الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعننّكم كما لعنهم» «1» ومما أورده ابن كثير حديث

_ (1) التاج ج 5 ص 204.

أخرجه الإمام أحمد عن عدي بن عميرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إنّ الله لا يعذّب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه. فإذا فعلوا عذّب الله الخاصة والعامة» «1» وحديث رواه الترمذي عن حذيفة بن اليمان قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنّه فلا يستجيب لكم» «2» . وحديث رواه أبو داود عن ابن عميرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها وفي رواية فأنكرها كمن غاب عنها. ومن غاب عنها فرضيها كمن شهدها» «3» وحديث أخرجه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري قال «قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال فيما قال ألا لا يمنعنّ رجلا هيبة الناس أن يقول الحقّ إذا علمه» وحديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي سعيد قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الجهاد كلمة حقّ عند سلطان جائر» «4» وحديث رواه الإمام أحمد عن المنذر بن جرير عن أبيه قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي هم أعزّ منه وأمنع ولم يغيروا إلّا أصابهم الله منه بعذاب» وحديث رواه ابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليه فلا يغيروا عليه إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا» «5» . وهناك حديث رواه الترمذي وأبو داود فيه ما في هذا الحديث الذي لم يرد في الصحاح روياه عن أبي بكر قال «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الناس إذا رأوا ظالما فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب» «6» .

_ (1) أي إذا لم ينكروا. (2) ورد هذا النص في التاج أيضا انظر ج 5 ص 204. [.....] (3) ورد هذا الحديث في التاج أيضا انظر ج 5 ص 205. (4) وهذا أيضا انظر التاج ج 3 ص 48. (5) بعض هذه الأحاديث أوردها ابن كثير في سياق تفسير الآيات [62 و 63] من هذه السورة. (6) التاج ج 4 ص 95.

[سورة المائدة (5) : الآيات 80 إلى 81]

حيث يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني بمنتهى القوة والروعة وبخاصة في ما ينطوي في بعضها من حثّ قوي على إنكار الظلم والإثم والانحراف على الحاكم والسلطان الجائر. ولا شكّ أن في الآيات على ضوء الأحاديث النبوية التي تورد في سياقها تلقينا اجتماعيا جليلا يصحّ أن يكون منبع إلهام في كل ظرف. فمصلحة المجتمع وقوته وطمأنينته وخيره وصلاحه تقوم إلى أبعد حدّ على التعاون على الخير والمعروف والأمر بهما والتناهي عن الشرّ والمنكر وإنكارهما. والمجتمع الذي يستشري فيه الإثم والمنكر وتضعف فيه الدعوة إلى إنكارهما والنهي عنهما يكون مجتمعا فاسدا معرضا للانحلال وعرضة لنقمة الله ولعنته. ولقد تكرر في القرآن تقرير هذه المعاني بأساليب متنوعة مما مرّ منه أمثلة في السور التي سبق تفسيرها. [سورة المائدة (5) : الآيات 80 الى 81] تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81) . تعليق على الآية تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... والآية التالية لها وما فيها من صور لم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة بنزول الآيتين والمتبادر أن الضمير في مِنْهُمْ عائد إلى بني إسرائيل «1» الذين كانوا موضوع الكلام في الآيتين السابقتين. وهكذا يصح القول إن الآيتين متصلتان بالسياق السابق واستمرار له. وروح الآيتين وفحواهما يلهمان أن المقصود بهما بنو إسرائيل المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة. وهكذا ينتقل الكلام عن أخلاق اليهود ومواقفهم من الماضي

_ (1) ذكر هذا الطبري أيضا.

[سورة المائدة (5) : الآيات 82 إلى 86]

إلى الحاضر. ويربط بين أخلاق الآباء والأبناء مما جرى عليه النظم القرآني. ولقد اختلفت الأقوال في المقصود من الَّذِينَ كَفَرُوا فقيل إنهم المشركون وقيل إنهم المنافقون الذين هم كانوا كفارا في حقيقة أمرهم «1» . واليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة كانوا وراء المنافقين منذ بدء الهجرة وظلوا وراءهم على ما شرحناه في سياق تفسير آية سورة البقرة [14] وسورة الحشر [11] وتحالفوا مع مشركي العرب أيضا على ما شرحناه في سياق تفسير آية سورة النساء [51] وآيات سورة الأحزاب [11- 27] غير أننا نرجح أن المقصود هم كفار المشركين استدلالا من قرنهم مع اليهود في الآية التالية. والمتبادر أن في الآية الثانية إشارة إلى ما كان من دعاوى اليهود الكاذبة بأنهم يؤمنون برسالة النبي على ما حكته الآية [61] من هذه السورة والآية [76] من سورة البقرة والآية [77] من سورة آل عمران. وهكذا تكون الآيتان بسبيل التنديد ببني إسرائيل في المدينة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم: فهؤلاء الذين لعن الأنبياء أسلافهم بسبب أخلاقهم وتمرّدهم وعدم تناهيهم عن المنكر لم يرعووا ولم يرتدعوا. وكثير منهم يوالون الذين كفروا بالله ورسالة رسوله. وفي ذلك مناقضة لدعواهم الإيمان. لأنهم لو كانوا يؤمنون حقا بالله ورسوله وما أنزل إليهم لما فعلوا ذلك. والحقيقة من أمرهم هي أن كثيرا منهم فاسقون متمردون على الله تعالى. ولبئس ما سوّلت لهم أنفسهم من موقف خبيث استحقوا عليه سخط الله الدائم وعذاب النار الأبدي. [سورة المائدة (5) : الآيات 82 الى 86] لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86) .

_ (1) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن حيث أوردوا هذه الأقوال.

(1) قسيسين: جمع قسّ. وتعددت الأقوال في اشتقاقها ومعناها. فقيل إنها مشتقة من قسّ الإبل يقسّها بمعنى أحسن رعيها وسوقها. وقيل إنها من التقسّس بمعنى التجسّس ونشر الأخبار وتسمع الأصوات وتعرية العظم من اللحم. ولعل القول الأول هو الأنسب. وعلى كل حال فالكلمة كانت مما يعرف العرب قبل نزول القرآن أن معناها رتبة دينية عند النصارى. وقد سمّي بعضهم بها. ومن مشهوريهم قسّ بن ساعدة الإيادي الخطيب. (2) رهبان: جمع راهب. وكان يطلق على المتبتّل من النصارى المنقطع في دير، الذي نذر حرمان نفسه من التنعم بالزواج والولد ولذّات الطعام والزينة. وقيل إنها مشتقة من الرهبة بمعنى الخوف. أو من رهب الإبل بمعنى هزالها وكلالها. ولعل القول الثاني أنسب. لأن حرمان الرهبان أنفسهم من لذات الحياة يؤدي إلى هزالهم وكلالهم وإذا صح أن تكون من الرهبنة فينطوي فيها معنى الخوف من الله وكون ذلك هو الذي يجعل الرهبان يحرمون أنفسهم من متع الحياة ولذاتها. وعلى كل حال فالكلمة كانت مما يعرف العرب قبل الإسلام أنها تطلق على المتقشفين المبتعدين عن اللذائذ المتفرغين للعبادة من النصارى. وفي سورة الحديد إشارة إلى ذلك في صدد النصارى وفيها كلمة (رهبانية) وروي في مناسبتها حديثان جاء في أحدهما «لا رهبانية في الإسلام» تفسير الطبرسي وفي أحدهما «لكل أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله» تفسير ابن كثير.

تعليق على الآية لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ... والآيات الأربع التالية لها وما ينطوي فيها من صور ودلالات

تعليق على الآية لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ... والآيات الأربع التالية لها وما ينطوي فيها من صور ودلالات عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تقريرا توكيديا بأن أشدّ الناس عداوة للمسلمين هم اليهود والذين أشركوا. وأقربهم مودة هم النصارى. وتعليلا لهذه المودة وهو أنهم كانوا متواضعين لا يستكبرون عن الحق واتباعه. ومشهدا من مشاهد إيمان جماعة منهم فيهم القسيسون والرهبان كتعليل آخر. وقد تضمن المشهد صورة رائعة لإيمان هذه الجماعة. وأثر ما تلاه النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن عليهم حيث فاضت أعينهم من الدمع حينما سمعوا ذلك ابتهاجا بالحق الذي انطوى فيه وعرفوه من قبل. وحيث أعلنوا إيمانهم ودعوة الله أن يكتبهم في سجل المؤمنين الشاهدين المصدقين وتساءلوا عما إذا كان يصح أن لا يصدقوا ويؤمنوا بالله والحق الذي سمعوه عن الله في حين أنهم يأملون من الله أن يجعلهم في جملة عباده الصالحين. واحتوت الآيات تقريرا بأن الله عزّ وجل قد أثابهم على ما وقع منهم بجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وهو جزاء المحسنين وبأن الذين كفروا هم أصحاب الجحيم. وقد أورد ابن كثير حديثا رواه الطبراني عن ابن عباس جاء فيه «إن جماعة النصارى لما فاضت أعينهم وأعلنوا إيمانهم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلّكم إذا رجعتم إلى أرضكم انتقلتم إلى دينكم فقالوا لن ننتقل عن ديننا فأنزل الله وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ ... إلخ الآيات. والحديث ليس من الصحاح. ويقتضي أن تكون بعض الآيات نزل لحدته كما يفيد أن الآيات نزلت في حادث جديد. والآيات منسجمة مرتبط أولها بآخرها. والتمعن فيها وفي السياق السابق لها يسوغ الترجيح أنها لم تنزل في حادث جديد وأنها متصلة بالسياق السابق واستمرار له. فبعد أن استمرت الآيات تتوالى في وصف انحرافات الكتابيين الدينية

بصورة عامة. وفي وصف مواقف اليهود الكيدية للدعوة المحمدية والمسلمين ووصف أخلاقهم الخبيثة ومناقضتهم لمبادىء الإيمان بالله ووحدته جاءت هذه الآيات خاتمة، واحتوت موقف وحقيقة كل من اليهود والنصارى من المسلمين. وأن المشهد الواقعي الرائع الذي احتوت حكايته الآيات بإيمان جماعة من النصارى فيهم القسيسون والرهبان كان حادثا سابقا وجاء هنا من قبيل التذكير والتدعيم والتعليل لما قررته من كون النصارى أقرب مودة إلى المسلمين والله تعالى أعلم. ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون في هوية أصحاب هذا المشهد. ومن الروايات ما يؤيد ما سوغناه من أن المشهد ليس جديدا. فهناك رواية تذكر أن الآيات عنت النجاشي ملك الحبشة وأصحابه الذين آمنوا حينما سمعوا القرآن من مهاجري المسلمين. ورواية تذكر أنها في صدد إيمان وفد حبشي أرسله النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع اختلاف في عدده بين 12 وبين 70. ورواية تذكر أن هذا الوفد جاء مع جعفر بن أبي طالب ورفاقه المهاجرين في الحبشة حينما عادوا إلى المدينة بعد صلح الحديبية. ورواية تذكر أنهم جماعة من النصارى كانوا على شريعة عيسى الأصلية دون ذكر هويتهم. ورواية تذكر أنهم نصارى نجران اليمن أو وفدهم. ورواية تذكر أنهم وفد رومي قدم من الشام. والوصف يلهم أن المشهد كان في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم. والروايات تذكر أن وفد نصارى نجران رجع بدون أن يؤمن على ما شرحناه في سياق تفسير آيات سورة آل عمران [34- 64] وعلى هذا فإما أن يكون أصحاب هذا المشهد وفدا حبشيا جاء إلى المدينة مرسلا من النجاشي لمقابلة النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن عرف عنه ما عرف من المهاجرين، وربما جاء معهم حين رجعوا إلى المدينة بعد صلح الحديبية. أو وفدا من الشام وأطرافها حيث كانت النصرانية سائدة. وقد يستلهم من الوصف أن الوفد كان يفهم العربية أو كان منهم من يفهمها. فهذا التأثر الشديد يرجح أن يكون من أسلوب القرآن وفحواه وروحانيته معا مما قد يتأثر به العارف بالعربية أكثر. وهذا ما يجعلنا نرجح أن يكون من نصارى الشام أو أطرافها التي كانت مأهولة بنصارى العرب والمستعربين من الأقوام العربية الجنس.

ولقد قال ابن كثير إن هذا المشهد هو للذين ذكر إيمانهم بالنبي والقرآن في آيات آل عمران [199] والإسراء [107 و 108] والقصص [52- 55] وهذا القول يؤيد تسويغنا أيضا وإن كنا نرجح أنه مشهد آخر لوفد قادم إلى المدينة من الخارج في حين أن المشاهد المذكورة في آيات سور آل عمران والإسراء والقصص هي على الأرجح لأناس كانوا مقيمين بين ظهراني المسلمين في مكة والمدينة. وإنه ليصحّ أن يقال بناء على ذلك إن أخبار النبي صلى الله عليه وسلم قد انتشرت إلى خارج الجزيرة فأثارت الأفكار ولفتت الأنظار وجعلت بعض رهبان النصارى وقسيسيهم وبتعبير آخر علماءهم الذين يستطيعون الحجاج والجدل ووزن الأقوال ويرغبون في معرفة وقائع الأمور وحقائقها والوقوف عليها بأنفسهم يفدون إلى المدينة ليروا هذا النبي ويسمعوا منه ويحاجوه ويجادلوه. وقد تأثر الوافدون بما رأوا وسمعوا ولمسوا من قوة الحق والروحانية والتطابق مع ما جاء به رسل الله السابقون فصدقوا وآمنوا. وخطورة هذا الحادث عظيمة جدا كما هو المتبادر من حيث سير الدعوة النبوية والسيرة النبوية. ومن المحتمل جدا أن يكون لكتب النبي صلى الله عليه وسلم ورسله الذين أرسلهم أثر في هذه الوفادة. وإذا ما أضفنا هذا المشهد إلى ما احتوته آيات آل عمران والإسراء والقصص المذكورة آنفا ثم آيات البقرة [121] وآل عمران [113- 115] والنساء [162] والرعد [36] والأحقاف [10] التي تذكر إيمان بعض أهل الكتاب وأهل العلم منهم من يهود ونصارى بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالقرآن يظهر أن هذه المشاهد قد تكررت في العهدين المكي والمدني في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. وفي هذا شهادة عيان قوية صادقة على ما كان لروحانية القرآن وروحانية النبي وروحانية الدعوة من تأثير في كل من كان يسمعها بعقله وقلبه ومنطقه وكان رائده الحقّ والهدى ولم يكن خبيث الطوية متعمدا للعناد والجحود من الكتابيين وعلمائهم ورؤساء دينهم في مقدمتهم. وهذا هو الذي قرره القرآن في صدد مستمعي آيات القرآن والدعوة النبوية إذا كانوا من الفئة الأولى كما جاء في آيات عديدة منها آية سورة يس [11] هذه إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ

اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ وآية سورة السجدة إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) وإذا كان جمهرة اليهود في الحجاز الذين سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤمنوا ففي القرآن شواهد كثيرة على أن هذا كان لأسباب عديدة لا تمتّ إلى صدق دعوة النبي وروحانية رسالته. وفي السلسلة التي نحن بصددها آيات تتضمن أسباب ذلك كما أن مثل هذه الأسباب واردة في السلاسل الواردة في حق اليهود في سور البقرة وآل عمران والنساء. والآيات القرآنية المكية والمدنية تلهم أن أكثر النصارى في الحجاز آمنوا بالرسالة النبوية لأنهم لم يكن لديهم من الأسباب ما كان لدى اليهود فضلا عما كانوا عليه من دماثة خلق وحسن طوية نوّه بها القرآن في الآيات التي نحن في صددها وفي آية سورة الحديد هذه ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً [27] . ولم يمض على فتح المسلمين بلاد الشام والعراق ومصر وشمال إفريقية إلّا ردح قصير حتى أخذ النصارى فيها يقبلون على اعتناق الإسلام إلى أن اعتنقه سوادهم الأعظم. وشاء بعضهم أن يحتفظوا بدينهم فكان لهم ذلك. اتساقا مع حرية التدين التي قررها القرآن على ما شرحناه في سياق تفسير سورة (الكافرون) . ونحن نعتقد أن موقف هؤلاء كان متأثرا بأسباب مادية ودنيوية أكثر من كل شيء. وقد يكون أكثرهم من الرهبان الذين كانوا يجنون ثمرات كثيرة من موارد الأديرة التي كانت تحت أيديهم. ولعل هذا ما قررت واقعه المشاهد آية سورة التوبة هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [34] . ولقد ظلّ هذا الواقع بشكليه يتكرر في كل مكان وزمان. فمن استطاع أن يتغلب على أنانيته وهواه ويتفلّت من تأثير المنافع المادية والتعصّب الأعمى يؤمن بالقرآن ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم. ومن انساق بأنانيته وهواه فأعمياه عن الحقّ والحقيقة

وجعلاه يتعصّب تعصّبا أعمى ظل مكابرا مناوئا وظلّ يستجيب للتحريض والإغراء والتهويش والمكائد ضد الإسلام والمسلمين. وما دام القرآن قد وصف النصارى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بما وصفهم به من دماثة وخلق وحسن طوية ورحمة ورأفة وبأنهم أقرب الناس مودّة للمسلمين فيصحّ القول إن هذه الصفات المحببة هي نتيجة لتلقينات المسيحية السمحاء ولقد كان بعضهم لا يكتفون بعدم الاستجابة إلى الإسلام بل يقفون من الإسلام والمسلمين موقف المناوىء الباغي والمكابر المكائد المعادي ولا يزال هذا يظهر في كل ظرف فيكون أصحاب ذلك منحرفين عن تلك التلقينات. ووصف اليهود بأنهم أعداء المسلمين قد ورد في مواضع عديدة في سورة البقرة وآل عمران والنساء «1» . غير أن في الوصف الذي جاء في الآيات معنى خاصا حيث يفيد أنهم من أشدّ أعدائهم. وليس من ريب في أن هذا قد كان قائما على مواقف ومشاهد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. ومن المعجزات القرآنية أن هذا يتكرر اليوم بأشدّ صوره. ومهما يكن من أمر ففي الآية الأولى تلقين مستمر المدى في كون النصارى يظلون على كل حال أقرب مودة إلى المسلمين وفي واجب المسلمين بالتعامل معهم على هذا الاعتبار. وفي كون اليهود يظلون أشد الناس عداوة للمسلمين وفي واجب المسلمين بالتعامل معهم على هذا الاعتبار أيضا. ولقد أورد ابن كثير في سياق الفقرة الأولى من الآيات حديثا أخرجه الحافظ أبو بكر بن مردويه عن أبي هريرة بطرق عديدة جاء فيه «ما خلا يهوديّ بمسلم قط إلّا همّ بقتله أو إلّا حدثته نفسه بقتله» والحديث ولو لم يكن من الصحاح فإنه متساوق مع وصف الله تعالى لشدة عداوة اليهود للمسلمين في الآية في آيات السور المذكورة آنفا التي أشرنا إليها في الذيل.

_ (1) اقرأ بخاصة آيات سورة البقرة [109] وآل عمران [118- 120] والنساء [44- 46] .

[سورة المائدة (5) : الآيات 87 إلى 88]

[سورة المائدة (5) : الآيات 87 الى 88] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) . تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ... إلخ وما فيها من تلقين وما ورد في صددها من أحاديث وروايات عبارة الآية واضحة. وقد تضمنت نهيا للمسلمين عن تحريم ما أحل الله لهم من الطيبات على أنفسهم وعن تجاوز حدوده. وأمرا بالأكل مما رزقهم الله من الحلال الطيب مع التمسك بواجب تقواه وهو الذي يؤمنون به. وواضح من روح الآية ونصها أن جملة لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ لا تعني النهي عن جعل الحلال حراما دائما وإنما تعني النهي عن حرمان النفس بالاستمتاع بما هو مباح حلال من الطيبات. والآيات فصل جديد كما تبدو. وقد روى الطبري «1» عن ابن عباس وعكرمة والسدي وقتادة وغيرهم روايات عديدة مختلفة الصيغ متفقة المعنى كسبب لنزول الآيات. وهي أن جماعة من المسلمين اختلفت الروايات في أسمائهم وفيمن سمتهم من كان من كبار أصحاب رسول الله مثل عثمان بن مظعون وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود والمقداد بن الأسود أرادوا أن يقلدوا الرهبان والقسيسين فحرموا على أنفسهم النساء والمطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة وتفرغوا للعبادة من صلاة وذكر وصوم وأرادوا أن يتخذوا لأنفسهم صوامع ومنهم من حاول أن يقطع مذاكيره. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فكرهه وأغلظ لهم المقال ثم قال «إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد. شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم. وإني لأقوم وأنام وأصوم وأفطر وآتي النساء فمن أخذ بسنّتي فهو مني ومن رغب عن سنتي فليس

_ (1) لقد روى المفسرون الآخرون ما رواه الطبري فاكتفينا بالعزو إليه.

مني فلم تلبث الآيتان أن نزلتا» ، ويروي الطبري صيغا أخرى مما قاله النبي صلى الله عليه وسلم للجماعة. منها «إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد. شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم» ومنها «لا آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا» ومنها «ليس في ديني ترك النساء واللحم واتخاذ الصوامع» . وهذه الروايات كسبب لنزول الآيات لم ترد في الصحاح. وقد وردت أحاديث صحيحة فيها شيء مما في هذه الروايات دون ذكر كون الآيات نزلت في مناسبتها. من ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن عبد الله بن عمرو قال «أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أقول لأقومنّ الليل ولأصومنّ النهار ما عشت. فقال رسول الله أأنت تقول ذلك. فقلت قد قلته يا رسول الله. فقال إنك لن تستطيع. فصم وأفطر. وقم ونم. فإنّ لجسدك عليك حقا وإن لعينيك عليك حقا وإن لزوجك عليك حقا وإن لزورك عليك حقا» «1» وروى الشيخان والنسائي عن أنس قال «جاء إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة رهط يسألون عن عبادة النبي فلما أخبروا كأنهم تقالّوها فقالوا وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم فقد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر. فقال أحدهم أما أنا فإني أصلّي الليل أبدا. وقال آخر إني أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله إليهم فقال أنتم الذين قلتم كذا وكذا. أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ولكني أصوم وأفطر وأصلّي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني» «2» وروى أبو داود عن عائشة «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى عثمان بن مظعون فجاءه فقال يا عثمان أرغبت عن سنتي قال لا والله يا رسول الله ولكني سنّتك أطلب قال فإني أنام وأصلّي وأصوم وأفطر وأنكح النساء فاتق الله يا عثمان. فإن لأهلك عليك حقا وإن لنفسك عليك حقا فصم وأفطر وصلّ ونم» «3» وهناك حديث رواه الترمذي عن ابن عباس يذكر سبب نزول الآية جاء فيه «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال

_ (1) التاج ج 2 ص 90 و 91. (2) المصدر نفسه ص 254 ومعنى تقالوها استقلّوها. (3) المصدر نفسه ص 92 وعثمان بن مظعون أحد الحالفين والناذرين على ما جاء في الرواية الأولى.

يا رسول الله إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي فحرّمت عليّ اللحم فأنزل الله الآية» «1» . ومع ذلك فإن الطبري يروي رواية أخرى كسبب لنزولها جاء فيها «أن ضيفا نزل على عبد الله بن رواحة فأخرت امرأته عشاءه إلى أن يحضر زوجها لأن الطعام قليل فلما جاء وعرف ذلك غضب وقال لن أذوقه فقالت وأنا لن أذوقه ما لم تذقه فقال الضيف وأنا لن أذوقه ما لم تذوقاه. فتراجع ابن رواحة وقال لامرأته قربي طعامك وكلوا باسم الله وغدا فأخبر النبي بالأمر. فقال له أحسنت وأنزل الله الآية» ومهما يكن من أمر فالمتبادر أن الآيات نزلت في مناسبة ما مما ذكرته الأحاديث والروايات. وإن كنا نرجح الرواية الأولى التي ذكرت الأحاديث الصحيحة محتواها وبعض الأسماء التي جاءت فيها لأنها أكثر تساوقا مع فحوى الآيات وما سبقها، وإذا صحّ هذا فتكون الآيات تليت في المناسبات الأخرى فالتبس الأمر على الرواة والله أعلم. وإذا صحّ ترجيحنا فيصحّ القول إن الآيات نزلت بعد الآيات السابقة لها فوضعت بعدها. والله تعالى أعلم. والحادث الذي ذكرته الرواية الأولى وأيدت فحواه الأحاديث الصحيحة صورة رائعة لاستغراق المؤمنين الأولين في عبادة الله والرغبة في التقرّب إليه. والآيتان في حدّ ذاتهما احتوتا كما هو المتبادر تشريعا وتلقينا عامي الشمول للمسلمين. وهما رائعان ومتسقان مع المبادئ العامة التي قررها القرآن. ومتمشيان مع طبائع الأمور. ومن مرشحات الشريعة الإسلامية للخلود والظهور فهذه الشريعة لا تدعو إلى التنسك والزهد في أطايب العيش بل وتنكر ذلك. وقد استنكرته آية سورة الأعراف هذه قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [32] وقد عاتب الله رسوله على شيء منه في حادث عائلي على ما مرّ شرحه في سياق تفسير سورة التحريم. وكل ما تأمر به الشريعة الإسلامية هو مراعاة القصد والاعتدال وتحري الطيّب الحلال.

_ (1) التاج ج 4 ص 93.

[سورة المائدة (5) : آية 89]

ولقد روى ابن كثير حديثا أخرجه الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم لكلّ نبي رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله» «1» وروى الطبرسي حديثا آخر جاء فيه «لا رهبانية في الإسلام» «2» . ولقد تعددت أقوال المؤولين التي يرويها المفسرون في تأويل جملة وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ حيث قيل إنها بمعنى لا تتجاوزوا ما رسم الله من الحلال والحرام كما قيل إنها بمعنى لا تستنوا بغير سنّة الإسلام. أو إنها بمعنى لا تتجاوزوا الحلال إلى الحرام وكل هذه المعاني مما تتحمّله الجملة. وقد خطر لنا معنى آخر وهو عدم الإسراف ووجوب الاعتدال فيما أحلّه الله للمسلمين من طيبات الحياة على ضوء آية الأعراف هذه يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) والله تعالى أعلم. [سورة المائدة (5) : آية 89] لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) . (1) اللغو في أيمانكم: روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن اللغو في الأيمان هو كلام الرجل في بيته: كلا والله وبلى والله «3» . (2) بما عقدتم الأيمان: بما وثقتم الأيمان أو صممتم في أنفسكم عليه. أو

_ (1) انظر تفسير آية الحديد [27] في تفسير ابن كثير. (2) انظر تفسير الطبرسي لهذه الآية أيضا. [.....] (3) انظر التاج ج 3 ص 70.

تعليق على الآية لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ... إلخ وما ينطوي فيها من أحكام وتلقين ونبذة مقتبسة في أنواع الأقسام في الإسلام وما يجوز وما لا يجوز

أوجبتموه على أنفسكم باليمين أو تعمدتم الالتزام به. تعليق على الآية لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ... إلخ وما ينطوي فيها من أحكام وتلقين ونبذة مقتبسة في أنواع الأقسام في الإسلام وما يجوز وما لا يجوز عبارة الآية واضحة وفيها: (1) إيذان للمسلمين بأن الله تعالى لا يؤاخذكم على ما يمتزج في كلامهم من لغو الأيمان المعتاد في أساليب الخطاب. وإنما يؤاخذهم بالأيمان التي يعزمون على أنفسهم بها على أمر معين سلبا أو إيجابا وعن تصميم. (2) وبيان لما يجب عليهم في مثل هذه الحال. فإذا أقسم المسلم يمينا فيها عزيمة على الإقدام على عمل ما أو الامتناع عن عمل ما ثم بدا له أن يرجع عنها أو كان الأوجب الرجوع عنها حسب نوع العزيمة وماهيتها من الإباحة والكراهية فعليه أن يقدم كفارة عن يمينه وهي إطعام عشرة مساكين من نوع أوسط طعام أسرة الحالف أو كسوتهم أو عتق رقبة. فمن لم يستطع فعل ذلك فعليه أن يصوم بدل الكفارة ثلاثة أيام. وفي هذه الحالة لا يبقى حرج عليه من اليمين فيفعل أو لا يفعل ما حلف عليه سلبا أو إيجابا. (3) وتوصية للمسلمين بوجوب حفظ أيمانهم. وقد انتهت الآية بتقرير كون الله إنما ينزل آياته متضمنة مثل هذه الأحكام والبيانات حتى يشعر المسلمون المخاطبون بفضله ويقوموا بواجب شكره. مما جرى النظم القرآني عليه في تشريعات وتقريرات عديدة. ولقد روى الطبري عن ابن عباس أنه لما نزلت الآيات السابقة قال الذين حرموا على أنفسهم طيبات الحياة ما نصنع يا رسول الله بأيماننا التي حلفناها على ذلك؟ فأنزل الله الآية.

والرواية محتملة الصحة. ولا يبعد مع ذلك أن يكون خبر عزيمة الذين اعتزموا التنسك قد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم مع خبر اليمين وأن تكون الآية قد نزلت مع الآيتين السابقتين كفصل تام فيه نهي عن تحريم التنسك وحرمان النفس من طيبات الحياة وحثّ أو إباحة للاستمتاع بالحلال الطيب وتحلة لليمين معا. والآية في حدّ ذاتها جملة تشريعية تامة في صدد الأيمان وكفارتها. ولذلك أفردناها عن الآيتين السابقتين. وهي ثانية آية في هذا الصدد. ففي سورة البقرة آية تماثل الشطر الأول منها جاءت في معرض النهي عن اتخاذ اليمين وسيلة للامتناع عن الخير والإصلاح وتقوى الله. والآيتان متساوقتان. ويمكن أن تكون إحداهما متممة للأخرى فيما استهدفه القرآن من تلقين وتشريع في صدد أدب اليمين وتهذيب أخلاق المسلم وتوجيهه نحو الخير ومنعه أو حمايته من المزالق ومما يكرهه الله لعباده المؤمنين من أعمال ومواقف وعزائم. ولقد روى المفسرون في صدد هذه الآية حديثا نبويا رواه الخمسة عن أبي موسى جاء فيه «والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلّا أتيت الذي هو خير وتحللتها» «1» . وهكذا يظهر من هذا الحديث ومن آية سورة البقرة [224] التي جاء فيها وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ شدة التساوق بين المبادئ القرآنية والتلقينات النبوية. وكون المهم في الإسلام هو عمل الخير وعدم الوقوع في الضار أو المنكر أو المكروه. فإذا حلف امرؤ يمينا على أمر يفعله أو لا يفعله وكان في تنفيذها ضرر وشرّ ومنكر ومكروه أو كان هناك ما هو خير منها فعليه الرجوع عنها مع التكفير عنها. ولا يجوز له في حال أن يتخذ اليمين

_ (1) التاج ج 3 ص 78 وقد أورد مؤلف التاج مع هذا الحديث حديثين آخرين من بابهما واحدا رواه مسلم والنسائي جاء فيه «والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير» وآخر رواه مسلم والترمذي وأبو داود جاء فيه «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل» .

وسيلة للامتناع عن الخير والبرّ والإصلاح أو لعمل ما فيه ضرر وشرّ ومنكر ومكروه. وفي هذا من التلقين والتهذيب ما يتسق مع مصلحة الإنسانية في كل ظرف ومكان. والتكفير عن اليمين هو بمثابة توبة إلى الله واعتذار وإعلان ندم. وقد جعلت الكفارة وسيلة لعمل البرّ في الوقت نفسه. وفي هذا ما فيه من التوجيه الجليل أيضا. وقد أورد المفسرون في سياق هذه الآية أحاديث نبوية في الأيمان اللغو وفي اليمين الغموس وفي اليمين المصبورة وفي اليمين التي تحلف لاقتطاع مال المسلم وفي ما يصح الحلف به ولا يصح وفي عدم لزوم الكفارة لمن يستثني في يمينه إلخ أوردناها في سياق تفسير الآية [224] من سورة البقرة فنكتفي بهذا التنبيه دون الإعادة ولقد أوردوا أقوالا متنوعة لبعض أصحاب رسول الله وتابعيهم ولأئمة الفقه في ما في الآيات من أحكام نوجزها ونعلّق عليها فيما يلي: 1- هناك من ذهب إلى اعتبار اليمين التي يحلفها الحالف وهو يظن أنه يحلف صادقا ويكون الأمر على غير ذلك من باب اللغو أو الخطأ الذي لا يؤاخذ عليه. وهذا وجيه يؤيده نصّ آية سورة البقرة [224] . 2- هناك من ذهب إلى أن اليمين التي يحلفها الحالف ليقتطع بها مال رجل مسلم لا تفيد الكفارة في التكفير عنها ولا يخلو هذا من وجاهة مع القول إن التوبة الصادقة مع إصلاح الضرر قد يضمنان غفران الله استلهاما من آيات التوبة في القرآن على ما شرحناه في سياق سورة البروج. 3- هناك قول بأن تحريم المرء الطيبات على نفسه بدون يمين يوجب الكفارة. وقول إنه لا يوجب إذا لم يكن يمين. وهذا هو الأوجه لأن الكفارة شرعت لليمين. غير أن التحريم بدون عذر مشروع يظل مخالفا لنهي الله ومعرضا صاحبه لغضبه ما لم يتب عنه على ما هو المتبادر. 4- هناك من فسّر كلمة أَوْسَطِ بمعنى المعتدل المعتاد. وهناك من فسّرها بمعنى (خير) و (أحسن) فإذا كان أهل الحالف يأكلون اللحم والسمن والتمر والخبز

ولو لم يكن ذلك دائما فمن الواجب أن يكون طعام المساكين العشرة من ذلك. وإلى هذا فهناك اتساق على عدم جواز الإطعام من النوع الرديء الذي لا يأكله أهل الحالف عادة. وهذا وذاك حقّ متسق مع نصّ الآية وروحها. ويستتبع هذا القول إنه إذا كان طعام أهل الحالف من الأنواع الرديئة مثل خبز الذرة والشعير والملح والبصل والخلّ والزيت فلا بأس على الحالف من أن يطعم المساكين منه أيضا. عملا بالمبدأ القرآني وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها. 5- وهناك قول بأن الطعام هو وجبة واحدة مشبعة. وقول إنه قوت يوم كامل. أو غذاء أو عشاء. والآية تتحمل كل ذلك ومن السائغ القول إن على الميسور أن يفعل الأحسن. 6- وهناك قول إنه يصحّ جمع المساكين العشرة وإطعامهم أو إطعامهم متفرقين. وكل هذا وجيه. وعزا رشيد رضا إلى أبي حنيفة جواز إطعام مسكين واحد عشرة أيام ولا بأس في هذا وإن كان الأولى التزام النصّ وإطعام عشرة مساكين. 7- وأجاز بعضهم إعطاء بدل عيني. والآية تذكر الطعام الذي يمكن أن يقال إن المقصود به المهيأ للأكل. ولعلّ القائلين جوزوه لأنه يمكن أن يتحول إلى طعام مجز. وليس في هذا الرأي بأس فيما نرى. وقد اختلفوا في القدر فقيل إنه مدّ من برّ أو مدّ من تمر أو نصف صاع من برّ أو نصف صاع من تمر. أو مدّ برّ ومدّ تمر أو نصف صاع برّ ونصف صاع تمر. وروى رشيد رضا عن ابن ماجه حديثا يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كفّر بصاع من تمر وأمر به مع التنبيه على أن المفسر وصف الحديث بأنه ضعيف. ونقول هنا ما قلناه في الطعام المهيأ. وهو أن على الميسور أن يعطي الأكثر الأفضل. والمتبادر أن المقادير المروية هي ما كانت تعدّ مجزية في الظرف والعرف اللذين قدرت فيهما وهذا ما ينبغي أن يلاحظ في أي ظرف وعرف كما هو

المتبادر. والمهم على كل حال إعطاء ما يكافىء ما أوحته الآية على الوجه الأفضل الممكن. ولم نر أحدا من المفسرين فيما اطلعنا عليه يذكر جواز إعطاء ثمن الطعام نقدا. وقياسا على جواز إعطاء بدل عيني عنه نرى أن إعطاء الثمن سائغ أيضا والله تعالى أعلم. 8- وهناك قول بأن أي نوع من الكساء مجز. وقول إنه يجب أن يكون كسوة تامة. وهذا هو الأوجه المتسق مع روح الآية بل وفحواها. وهناك اختلاف في القدر. فقيل ثوبان. واحد للصيف وآخر للشتاء. وقيل إزار ورداء وقميص وسروال. وقيل إزار ورداء وقيل عمامة وعباءة. وعلى كل حال فالمهم هو كسوة تامة. وهي عرضة للتبدل بتبدل الظروف بطبيعة الحال. وهناك قول بأن وصف أَوْسَطِ يشمل الكسوة فيكون الواجب كسوة المساكين كسوة تامة من خير ما يكسي الحالف أهله. وفي هذا وجاهة ظاهرة. وقد يسوغ القول قياسا على سواغ إعطاء ثمن الطعام أن إعطاء ثمن الكسوة نقدا سائغ أيضا. والله أعلم. 9- هناك قول إن (أو) للتخيير. وهناك من قال إنها للترتيب. وهذا وذاك هما في صدد الطعام والكسوة وتحرير الرقبة. لأن الصيام إنما يجزي في حالة عدم القدرة على الطعام والكسوة والرقبة. والقولان مما يتحمله النظم القرآني. وهناك من أوجب البدء بالأعلى. فالقادر على الرقبة فعليه أن يحرر رقبة والقادر على الكسوة عليه أن يكسو إن كانت الكسوة أغلى من وجبة الطعام. ولا يخلو هذا من وجاهة. 10- هناك من قال إن من كان عنده فضل لإطعام عشرة مساكين بعد قوته وقوت عياله يوما وليلة وجب عليه ذلك ولا يجزيه الطعام ولو لم يكن ذا مال كثير. وهناك من جعل ذلك منوطا بحيازة ما فوق المائتي درهم. وهناك من جعل ذلك منوطا بفضل يزيد على رأس مال الحالف الذي يتعيش به. والرأي الأخير هو الأوجه فيما يتبادر لنا. وعلى كل حال فالصيام لا يجزي إلّا في حالة العجز عن

أقل الكفارات الأخرى قيمة. وهذا العجز يقدر حسب ظروف الحالف. وهذه مسألة إيمانية يوكل المرء فيها إلى دينه وتقواه. 11- وهناك من لم يقيد الرقبة بأي قيد من لون ودين وجنس. وهناك من قيدها بأن تكون مؤمنة استلهاما من آية النساء [92] التي تقيد الرقبة الواجب عتقها على القتل الخطأ بكونها مؤمنة. وهناك من قيدها إلى هذا بأن لا يكون فيها عيب أو عاهة من عمى وطرش وخرس وجنون أو لا يكون صغير السن. ويتبادر لنا أن قيد (المؤمنة) وجيه. ولكن إذا لم يوجد مملوك مسلم يشترى ليعتق فلا بأس فيما نرى من عتق رقبة غير مؤمنة لأن في ذلك على كل حال تحريرا للإنسان الذي كرّم الله جنسه مطلقا. وقد يكون إطلاق النصّ هذا مما يعضد هذا التسويغ. والمتبادر أن القائلين بسلامة الرقيق من العيب وبكونه كبير السن حتى لا يسترخص الحالف الرقبة التي يشتريها. ومع أن تحرير إنسان كبير وسليم قد يكون أنفع إلا أن تحرير إنسان صغير وذي عاهة ينطوي على البرّ والإشفاق أيضا مما يجعلنا لا نرى ذلك القيد وجيها وضروريا والله أعلم. 12- وهناك من أوجب أن يكون صيام الأيام الثلاثة متتابعا وعدّ الفطر في اليوم الثاني أو الثالث ناقصا يوجب الإعادة وقد روي أن كعب بن أبي أحد كبار قراء أصحاب رسول الله كان يقرأ (ثلاثة أيام متتابعات) وهناك من أجاز عدم التتابع ويلحظ أن القرآن نصّ على التتابع في صيام الشهرين اللذين يجب صيامهما على قاتل الخطأ في آية سورة النساء [92] وعلى المظاهر لزوجته في آية سورة المجادلة [4] وما دام أن المؤولين قالوا إن صفة الرقبة يجب أن تكون مؤمنة قياسا على آية سورة النساء فيسوغ أن يقاس عليها أيضا ويقال إن التتابع في صيام الأيام الثلاثة هو الأوجه والله تعالى أعلم. وفي تفسير المنار نبذتان عن أقسام الحلف. واحدة تبدو أنها للمفسر وأخرى مقتبسة من فتاوى الإمام ابن تيمية وفي كل منهما سداد وفائدة ولذلك رأينا أن نوردهما في هذه المناسبة.

ولقد جاء في الأولى أن الحلف باعتبار المحلوف عليه ينقسم إلى أقسام: 1- أن يحلف على فعل واجب وترك حرام. فهذا تأكيد لما كلّفه الله إياه فيحرم الحنث به ويكون إثمه مضاعفا. 2- أن يحلف على ترك واجب أو فعل محرم فهذا يجب عليه الحنث به لأن يمينه معصية وتجب الكفارة. 3- أن يحلف على فعل مندوب أو ترك مكروه. فهذا طاعة فيندب أو يجب الوفاء ويكره أو يحرم الحنث. 4- أن يحلف على ترك مندوب أو فعل مكروه. وهذه معصية فيجب الحنث مع الكفارة. 5- أن يحلف على ترك مباح. وهذا مختلف فيه. غير أن النهي عن تحريم ما أحلّ الله في الآية يلهم كراهية ذلك ووجوب الحنث والكفارة. أما إذا كان الحلف على شأن غير ذلك فإذا كان في الحنث فائدة كمجاملة ضيف أو إدخال سرور على الأهل أو زيارة صديق أو مباشرة عمل أو سفر فهو مستحب مع الكفارة. ولقد جاء في النبذة الثانية أن الأيمان ثلاثة أقسام: (أولاها) ما ليس من أيمان المسلمين وهو الحلف بالمخلوقات والكعبة والملائكة والمشايخ والآباء وتربتهم ونحو ذلك. فهذه أيمان غير منعقدة ولا كفارة فيها باتفاق العلماء بل هي منهي عنها باتفاق أهل العلم والنهي نهي تحريم في أصحّ قوليهم استنادا إلى ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديث منها «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» و «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم» و «ومن حلف بغير الله فقد أشرك» . (وثانيها) اليمين بالله تعالى كقوله والله لأفعلنّ فهذه يمين منعقدة، فيها الكفارة إذا حنث فيها باتفاق المسلمين. (وثالثها) أيمان المسلمين التي في معنى الحلف بالله مقصود الحالف بها

تعظيم الخالق لا الحلف بالمخلوقات كقول المرء إن فعلت كذا فعليّ صيام شهر أو الحج إلى بيت الله أو الحل عليّ حرام لا أفعل كذا. أو إن فعلت كذا فكل ما أملكه حرام. أو الطلاق يلزمني لأفعلن كذا أو لا أفعله. أو إن فعلته فنسائي طوالق وعبيدي أحرار وكل ما أملكه صدقة. فهذه الأيمان للعلماء فيها ثلاثة أقوال: (1) إذا حنث لزمه ما علقه وحلف به. (2) لا يلزمه شيء إذا حنث. (3) يلزمه كفارة يمين فقط إذا حنث، ومن العلماء من جعل النذر كاليمين وأوجب في عدم الوفاء به كفارة. وأظهر الأقوال وهو القول الموافق للأقوال الثابتة عن الصحابة وعليه يدل الكتاب والسنة والاعتبار أنه يجزئه كفارة يمين في جميع هذه الأيمان كما قال الله ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وقَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ [التحريم: 2] . وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفّر عن يمينه» . فإذا قال الحل عليّ حرام لا أفعل كذا، أو الطلاق يلزمني لا أفعل كذا أو إن فعلت كذا فعليّ الحج أو مالي صدقة أجزأه في ذلك كفارة يمين فإن كفّر كفّارة الظهار فهو أحسن. هذا، ولقد تعددت تأويلات المؤولين القدماء في معنى جملة وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ حيث أوّلها بعضهم بمعنى (لا تنقضوها) أو (كفروا عنها) وأوّلها بعضهم بمعنى (لا تكثروا من الأيمان وتروّوا فيها) . وكلا القولين محتمل وإن كنا نرجح القول الثاني والله أعلم. ولما كانت هذه الآية هي الوحيدة التي فيها تحلّة اليمين فإن فيها دليلا على أن سورة التحريم قد نزلت بعدها لأن فيها جملة قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ حيث يكون في هذا دليل آخر أو قرينة أخرى على أن بعض فصول هذه السورة نزلت قبل فصول سورة متقدمة عليها. ويقال هذا بالنسبة لفصول اليهود التي يدل فحواها على أنها نزلت قبل وقعتي الأحزاب وبني قريظة على كل حال. وهذا وذاك

[سورة المائدة (5) : الآيات 90 إلى 92]

يؤيدان ما قلنا من أن فصول هذه السورة قد ألّفت بعد تمام نزول ما اقتضت الحكمة أن تحتويه من فصول. [سورة المائدة (5) : الآيات 90 الى 92] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) . تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ ... إلخ والآيات الثلاث التي بعدها وما ينطوي فيها من دلالات وصور وأحكام وتلقين وما ورد في صددها من أحاديث عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت أمرا للمؤمنين باجتناب الخمر والميسر والأنصاب والأزلام. وبيانا بأن كلا منها رجس وشرّ واجب الاجتناب. وتنبيها على ما يؤدي إليه الخمر والميسر بخاصة بوسوسة الشيطان من العداوة والبغضاء بين المؤمنين ومنع متعاطيهما منهم عن ذكر الله وعن الصلاة. وسؤالا فيه معنى اللوم والتبكيت وإيجاب الانتهاء عمّا إذا كان المؤمنون منتهين بعد الآن عن هذين العملين المنكرين. وحثا على طاعة الله ورسوله فيما يأمرانهم به وينهيانهم عنه. وتحذيرا من المخالفة بأسلوب ينطوي على الإنذار. فإذا لم يحذروا فليس على الرسول إلّا البلاغ وأمرهم لله القادر عليهم. ولقد روى الطبري حديثا جاء فيه «قال عمر: اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت آية البقرة [219] فدعي فقرئت عليه فقال اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت آية النساء [43] فدعي فقرئت عليه فقال: اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت آية المائدة فدعي فقرئت عليه فقال: انتهينا انتهينا» «1» وإلى هذا

_ (1) هذا الحديث رواه أصحاب السنن أيضا انظر التاج ج 4 ص 94.

الحديث فإن الطبري أورد روايات أخرى كسبب لنزول الآيات. منها أن جماعة من المهاجرين والأنصار شربوا خمرا في وليمة أقامها أنصاري فانتشوا فتفاخروا فتشاجروا وضرب بعضهم سعد بن أبي وقاص على أنفه فكسره فنزلت الآيات. ومنها أن جماعة سألوا النبي عن الخمر والميسر فنزلت آية البقرة ثم سألوه فنزلت آية النساء ثم سألوه فنزلت آية المائدة «1» . وعدا الرواية الأولى التي يرويها أيضا أصحاب السنن فليس شيء من الروايات الأخرى واردا في كتب الحديث، ويلحظ أن الروايات حتى أولاها التي هي أقواها سندا مقتصرة على الخمر في حين أن الآية احتوت نهيا عن الأنصاب والأزلام. والميسر أيضا. ولقد قال الطبري حينما أورد الآية الأولى إن هذا بيان من الله تعالى للذين حرموا على أنفسهم طيبات ما أحلّ الله لهم تشبها بالقسيسين والرهبان بما هو الأولى والأوجب عليهم أن يحرموه. والقول وجيه ويربط بين هذه الآيات والآيات السابقة. مع التنبيه إلى أن حكمة التنزيل اقتض توجيه الكلام فيها إلى جميع المسلمين كما هو الشأن في الآيات السابقة جريا على النظم القرآني في المناسبات المماثلة. ولعلّ وضع الآيات بعد تلك مباشرة مما يقوي هذا التوجيه ويسوغ القول باحتمال نزولها بعدها. وهذا لا يمنع أن يكون وقع ما روي في الحديث والروايات الأخرى كلّه أو بعضه. فاقتضت حكمة التنزيل جمع الخمر والميسر والأنصاب والأزلام معا في النهي والبيان. ولقد تضمنت آية سورة البقرة المار ذكرها تنبيها إلى أن إثم الخمر والميسر أكبر من نفعهما وتضمنت آية سورة النساء المار ذكرها نهيا عن الصلاة في حالة السكر. فجاءت هذه الآيات أقوى من المرتين بل خطوة حاسمة لتحريم الخمر

_ (1) هناك روايات أخرى يرويها الطبري ويرويها المفسرون الآخرون فاكتفينا بما أوردناه لأنها متقاربة.

والميسر. حيث يصح القول بأن حالة العهد المدني صارت تتحمل هذه الخطوة الحاسمة إلى تحريم هذه الأفعال الضارة التي كان لها رسوخ شديد بين العرب ومتصلة بمصالحهم الاقتصادية في الوقت نفسه والتي اكتفي بسبب ذلك بالخطوات التمهيدية في صددها في آيتي البقرة والنساء. ولقد قال بعض المتمحلين إن أسلوب الآيات أسلوب تحذير وكراهية أكثر منه أسلوب تشريع وتحريم حاسم. وحاولوا تأييد تمحّلهم بالقول بأن حدّ شارب الخمر ليس قرآنيا وإنما هو سنّة نبوية وراشدية متموجة المقدار. وليس من حدّ على لاعب الميسر. وهذا وذاك لا يقومان على أساس صحيح لا من حيث أسلوب الآيات ولا من حيث مضمونها. بل ومن الحقّ أن يقال إن أسلوبها ومضمونها احتويا قوة في التحريم. ويكفي أن يكون الخمر والميسر قد قرنا مع الأنصاب بالذكر للتدليل على ذلك. فإنه لن يسع أحدا أن يقول مثلا إن النهي عن الأنصاب التي كان يقيم المشركون طقوسهم الدينية ويقربون قرابينهم عندها هو من قبيل التحذير والكراهية وليس من قبيل التحريم الزاجر. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات أحاديث عديدة رواها الإمام أحمد ذكر فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإهراق الخمر بعد نزول هذه الآيات. يضاف إلى هذا ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم- الذي أمر القرآن المسلمين بأخذ ما آتاهم والانتهاء عمّا نهاهم، كما أنه من الله- من أحاديث عديدة في تحريم كلّ مسكر وفي اعتبار كل مسكر خمرا وفي لعن شاربها وبائعها وحاملها وإنذار شاربيها ومستحليها ومسمى بعضها بأسماء أخرى بالنذر القاصمة. من ذلك حديث رواه أبو داود والترمذي عن ابن عمر وجاء فيه «قال النبي صلى الله عليه وسلم كلّ مسكر خمر وكلّ مسكر حرام» «1» وحديث رواه الخمسة عن عائشةو جاء فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم «كلّ شراب أسكر فهو حرام» «2» وحديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن طارق الجعفي «أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها فقال: إنما أصنعها

_ (1) التاج ج 3 ص 126- 130. (2) المصدر نفسه.

للدواء فقال: إنه ليس بدواء ولكنه داء» «1» وحديث رواه أبو داود عن ديلم الحميري قال «سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إنا يا رسول الله بأرض باردة نعالج فيها عملا شديدا وإنا نتخذ شرابا من هذا القمح نتقوّى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا، قال: هل يسكر؟ قلت: نعم، قال: فاجتنبوه، فقلت: إن الناس غير تاركيه، قال: فإن لم يتركوه فقاتلوهم» «2» وحديث رواه أصحاب السنن عن جابر قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم ما أسكر كثيره فقليله حرام» «3» وحديث رواه أبو داود والترمذي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «كلّ مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكفّ منه حرام» «4» وحديث رواه أبو داود والترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم «لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه» «5» وحديث رواه النسائي والترمذي عن ابن عمر ونفر من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من شرب الخمر فاجلدوه ثم إن شرب فاجلدوه ثم إن شرب فاجلدوه ثم إن شرب فاقتلوه، وفي رواية: فاضربوا عنقه» «6» وحديث رواه أبو داود والنسائي وابن حبان «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشربنّ ناس من أمتي الخمر يسمّونها بغير اسمها» «7» وحديث رواه أصحاب السنن «قال النبي صلى الله عليه وسلم: من شرب مسكرا بخست صلاته أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد الرابعة كان حقّا على الله أن يسقيه من طينة الخبال، قيل: وما طينة الخبال يا رسول الله؟ قال: صديد أهل النار. ومن سقاه صغيرا لا يعرف حلاله من حرامه كان حقّا على الله أن يسقيه من طينة الخبال» «8» . أما كون القرآن لم يضع حدا على شارب الخمر ولاعب الميسر

_ (1) التاج ج 3 ص 126- 130. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه. (6) المصدر نفسه. (7) المصدر نفسه. (8) المصدر نفسه. [.....]

فالمتبادر أن ذلك راجع إلى كونهما ذنبين شخصيين لا يتعلق بهما حق الغير. فالحدود القرآنية إنما تفسّر بهذا الأصل فيما يتبادر لنا في جملة ما تفسّر به أيضا. ويلحظ أن القرآن لم يعيّن حدّا على تارك الصلاة والصوم والحج والزكاة وهي أركان الإسلام مما يمكن أن يفسر بمثل ذلك. والقول بعدم حرمة المسكر والميسر كفر لا ريب فيه بإجماع علماء المسلمين في كل زمن ومكان استنادا إلى هذه الآيات وروحها والأحاديث النبوية العديدة. وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى أن يجلد شارب الخمر دون لاعب الميسر فحكمة ذلك ما في شرب الخمر من إضاعة عقل وكرامة واحتمال إقدام الشارب على أفعال ضارة به وبغيره كما هو المتبادر. ويلحظ أن المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك يجعل السنّة النبوية من باب التعزير والتأديب حيث روى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أنس «أنّ نبي الله صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال وفي رواية: أنه أتي برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين. وفي رواية للترمذي: أنه ضرب شارب الخمر بنعلين أربعين» «1» وروى البخاري وأبو داود عن أبي هريرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر فقال: اضربوه، فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله، فقال عليه الصلاة والسلام: لا تقولوا هكذا لا تعينوا عليه الشيطان» «2» وروى البخاري «أنه كان رجل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يسمّى عبد الله وكان يلقّب حمارا وكان يضحك النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد جلده في الشراب فأتي به يوما فأمر به فجلد فقال بعض القوم: اللهمّ العنه ما أكثر ما يؤتى به فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه فو الله ما علمت إلّا أنه يحبّ الله ورسوله» «3» وليس في النهي النبوي في الحديثين ما يخفف إثم شارب الخمر واستحقاقه للتعزير وكل ما في الأمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير تجاوز ذلك إلى لعنه. وفي هذا تأديب نبوي رفيع كما هو المتبادر.

_ (1) التاج ج 3 ص 28. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه.

ولقد استلهم أصحاب رسول الله سنته من بعده فروى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أنس أن أبا بكر جلد في الخمر بالجريد والنعال أربعين فلما كان عمر ودنا الناس من الريف والقرى قال ما ترون في جلد الخمر فقال عبد الرحمن بن عوف أرى أن تجعلها كأخفّ الحدود فجلد ثمانين «1» . ولقد روى الشيخان عن ابن عمر قال سمعت عمر على منبر النبي صلى الله عليه وسلم يقول «أما بعد أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير. والخمر ما خامر العقل» «2» والجملة الأخيرة من الحديث المتوافقة مع بعض الأحاديث التي أوردناها قبل تزيل الوهم بحلّ ما يمكن أن يصنع من غير المواد المذكورة من شراب مسكر كما هو ظاهر. والمتبادر أن المواد التي ذكرت في الحديث هي ما كان يصنع منه الخمر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه. هذا، وهناك أحاديث أخرى فيها بعض الأحكام في صدد الخمر أيضا. منها حديث رواه الخمسة عن عائشة قالت «قدم وفد عبد القيس على النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عن النبيذ فنهاهم أن ينتبذوا في الدّباء والنقير والمزفّت والحنتم» «3» والانتباذ هو نقع الزبيب والتمر وما من بابهما وشرب نقيعه الذي كان يسمى نبيذا. وقد روى مسلم والترمذي حديثا فيه تفسير للألفاظ عن ابن عمر لسائل سأله عنها جاء فيه «نهى النبيّ عن النبذ في الحنتم وهي الجرة والدباء وهي القرعة والمزفّت وهو المطلي بالقار والنقير وهي جذع النخلة المنقور وأمر بأن ينتبذ في الأسقية» «4» وهناك حديثان معولان للحديث النبوي روى أحدهما الخمسة إلا البخاري عن بريدة جاء فيه فيما جاء «قال النبي صلى الله عليه وسلم نهيتكم عن الأشربة إلّا في ظروف الأدم فاشربوا في كلّ وعاء غير ألّا تشربوا مسكرا» «5» وحديث رواه الخمسة جاء فيه «قال

_ (1) التاج ج 4 ص 94. (2) المصدر نفسه. (3) التاج ج 3 ص 126 وما بعدها. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه.

رسول الله صلى الله عليه وسلم نهيتكم عن الظروف. وإن ظرفا لا يحلّ شيئا ولا يحرّمه. وكلّ مسكر حرام» «1» حيث يبدو أن النبي صلى الله عليه وسلم لحظ احتمال تغير النقيع في الأوعية المذكورة حتى يصير مسكرا. ثم استدرك في الحديثين فركز النهي على المسكر. بحيث صار هذا هو القاعدة والضابط. مع ملاحظة الأحاديث السابقة التي تقول ما أسكر كثيره فقليله حرام. وهناك حديثان فيهما توضيح متسق مع هذا الاستدراك رواهما مسلم وأبو داود والنسائي أحدهما عن ابن عباس جاء فيه «كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقع له الزبيب مساء فيشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة ثم يأمر به فيسقى أو يهرق» «2» وثانيهما عن عائشة قالت «كنّا ننبذ للنبي صلى الله عليه وسلم في سقاء يوكى أعلاه وله عزلاء ننبذه غدوة فيشربه عشاء وننبذه عشاء فيشربه غدوة» «3» وهناك حديث آخر فيه توضيح آخر رواه الخمسة عن عائشة قالت «سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن البتع وهو نبيذ العسل فقال كلّ شراب أسكر فهو حرام» «4» . وهذه أحاديث نبوية أخرى فيها بعض الأحكام منها حديث رواه مسلم والترمذي عن أنس جاء فيه «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر تتخذ خلّا فقال لا» «5» وحديث رواه أبو داود عن أنس جاء فيه «إنّ أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمرا قال أهرقها. قال أفلا أجعلها خلا قال لا» «6» وروى الإمام أحمد حديثا جاء فيه «أهدى رجل زقّ خمر لصديق له بعد نزول الآيات فقال له إن الله حرّمها فاذهب فبعها. فقال رسول الله إن الذي حرّم شربها حرّم بيعها فأهرقت في البطحاء» «7» .

_ (1) التاج ج 3 ص 126 وما بعدها. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه. (6) المصدر نفسه. [.....] (7) المصدر نفسه.

وقد يرد سؤال وهو ما إذا كان للمضطر أن يشرب الخمر قياسا على إجازة القرآن للمضطر بأكل الميتة ولحم الخنزير والدم وما أهلّ لغير الله به على ما جاء في آيات عديدة منها الآية الثالثة من هذه السورة. ولقد أوردنا قبل قليل حديثا فيه جواب نبوي يفيد النهي عن صنع الخمر وشربها كدواء. ويتبادر لنا أن نصّ الحديث غير حاسم. وأن من السائغ أن يقال إن للمضطر في حالة المرض الشديد الذي لا يكون له علاج إلا الخمر وإن له في حالة العطش الشديد الذي لا يجد صاحبه ما يدفع به عطشه إلا الخمر أن يتناول من الخمر ما يشفي مرضه ويدفع عطشه في نطاق الرخصة القرآنية المنطوية في جملة فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ الأنعام [145] وفَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ المائدة [3] والله تعالى أعلم. وفي صدد الميسر نقول إننا شرحنا معناه اللغوي في سياق تفسير سورة البقرة [219] ونقول هنا إن صيغة الآية تفيد أن تحريم كلّ ما يندرج في معنى الميسر وهو أخذ مال من آخر بدون حقّ وسند شرعي وبأسلوب اللعب والرهان بخاصة هو بنفس قوة تحريم الخمر. وهناك أحاديث في صدد تحريم بعض الألعاب. منها ما رواه أصحاب الكتب الخمسة ومنها ما رواه أئمة حديث آخرون. فمن الأول حديث رواه مسلم وأبو داود عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه» «1» وحديث رواه أبو داود عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله» «2» . ومن الثاني حديثان في صيغة متقاربة أوردهما ابن كثير أخرج أحدهما الإمام أحمد عن ابن مسعود قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إياكم وهاتان الكعبتان الموسومتان اللتان تزجران زجرا فإنهما من ميسر العجم» وأخرج ثانيهما ابن أبي حاتم عن أبي موسى قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم اجتنبوا هذه الكعاب الموسومة التي يزجر بها زجرا فإنها من الميسر» وقد روى

_ (1) التاج ج 5 ص 261. (2) المصدر نفسه.

ابن كثير قولا عن عبد الله بن عمر عن الشطرنج أنه شرّ من النرد وعن عليّ أنه من الميسر. وقال إن مالكا وأبا حنيفة وأحمد حرّموه وإن الشافعي كرهه. وروى عن عطاء ومجاهد وطاووس أن كل شيء من القمار هو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز والبيض. ويصحّ أن يفرع على هذا ألعاب الورق التي لم تكن معروفة قبل. وظاهر مما تقدم أن كل ما يمارس، من ألعاب وأعمال فيها رهان وقمار وأخذ مال الغير وبنية ذلك يدخل في معنى الميسر ويتناوله الوصف والحظر القرآنيان. وفي قول مجاهد وعطاء وطاووس الذي يرويه ابن كثير دعم لذلك. وفي صدد الأزلام نقول إن المستفاد من كلام الطبري وغيره أن المقصود من الكلمة في الآية هو ما يذبح من ذبائح على سبيل الميسر. وهي الطريقة التي شرحناها في سياق آية سورة البقرة [219] حيث أريد بالعبارة القرآنية هنا التنبيه إلى أنّ كل ما يذبح من ذبائح على سبيل الميسر هو رجس حرام. وتأويل الأزلام بالذبائح التي تذبح على سبيل الميسر هنا وجيه. غير أن ذكر الأزلام مع الميسر قد يفيد أن الكلمتين غير مترادفتين. والذي يتبادر لنا أن الميسر هو القمار بصورة عامة وأن الأزلام نوع منه اختص بالذكر لأنه الأكثر ممارسة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته ممتدّا إلى ما قبل. وقد يدعم هذا الاكتفاء بذكر الميسر في الآية الثانية. والأنصاب هي ما كان العرب ينصبونه للعبادة والطقوس من حجر وشجر وكانوا يذبحون عندها قرابينهم باسم معبوداتهم التي يشركونها مع الله وقد ذكر ذلك في الآية [3] من هذه السورة. حيث حرّم ما يذبح عليها وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ولعل المقصود هنا أيضا توكيد تحريم أكل الذبائح التي تذبح عليها لأن هذا هو المتناسب مع مقام الآيات. هذا، وأسلوب الآيات شديد في الوصف والتحذير. مما قد يدلّ على قوة جذور هذه العادات وتعلّق الناس بها وبخاصة الخمر والميسر. وقد نبهت الآية الثانية إلى ما في تعاطي الخمر والميسر من مضارّ عظيمة اجتماعية وخلقية ودينية مما هو من باب حكمة التشريع ومما هو متسق مع الأسلوب القرآني بوجه عام.

[سورة المائدة (5) : آية 93]

وما احتوته الآيات من الحكمة أولا والنهي المشدد والمطلق عن الخمر والميسر ثانيا مما انفرد به القرآن. ومما هو متسق مع العقل والمصلحة الإنسانية في كل ظرف وبالتالي من مرشّحات الشريعة الإسلامية للخلود. [سورة المائدة (5) : آية 93] لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) . تعليق على الآية لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ... إلخ وما فيها من تلقين عبارة الآية واضحة. وقد روى الطبري وغيره روايات عديدة مختلفة الصيغ متفقة في الجوهر أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا النبي حينما نزلت الآيات السابقة عن حالة الذين شربوا الخمر وأكلوا لحم ذبائح الميسر منهم ومن إخوانهم الذين ماتوا قبل نزولها فنزلت الآية. والروايات لم ترد في الصحاح. ولكنها محتملة وتكون الآية بذلك متصلة بما سبقها اتصالا موضوعيا ولعلّها نزلت عقبها مباشرة قبل أن ينزل قرآن آخر والله أعلم. وقد قال الطبري في شرح مدى الآية قولين جاء في واحد منهما أن الفقرة الأولى هي بسبيل رفع الحرج عن الذين أكلوا وشربوا قبل التحريم إذا ما آمنوا واتقوا وعملوا الصالحات وخافوا الله وراقبوه باجتنابهم محارمه وثبتوا على ذلك. وجاء في ثانيهما أن الاتقاء الأول هو الاتقاء بتلقي أمر الله تعالى بالقبول والتصديق والعمل به. والثاني هو الاتقاء بالثبات على ذلك. والثالث بالإحسان والتقرب بنوافل الأعمال. وقال البغوي إن الاتقاء الأول اتقاء الشرك والثاني بمعنى الدوام في الاتقاء والثالث الإحسان في الأعمال. ومما قاله الطبري أن الأول بالنسبة للذين

[سورة المائدة (5) : الآيات 94 إلى 96]

ماتوا والثاني بالنسبة للذين ظلوا أحياء في عهد النبي والثالث للزمن المقبل. وفي كل هذه الأقوال وجاهة. ولقد انطوت الآية على رفع الحرج عن المؤمنين في زمن النبي عمّا فعلوه ولم يكن محرّما عند فعله. كما انطوت على تلقين مستمر المدى بكون المهم عند الله تعالى هو الإيمان والتصديق والاجتهاد في اتقاء حرمات الله ومحرماته واتباع أوامره واجتناب نواهيه والعمل الصالح والإحسان فيه ثم يتسامح الله عزّ وجل فيما يتناوله المؤمنون من مشروب ومطعوم بحسن نية وبغير قصد الإثم وبغير العلم بالإثم ولو كان في حقيقته فيه شبهة أو تهمة. وهذا متسق مع تلقينات القرآن العامة. ومتسق مع طبائع الأمور، ومن مرشحات الشريعة الإسلامية للخلود. وواضح من هذا أن التسامح لا يشمل الذين يتناولون المحرمات من مطعوم ومشروب عن علم خلافا لما يقوله ويفعله بعض الفسّاق والمجّان. ويظهر أن هذا قديم حيث رأينا الرازي يتصدى له ويفنده تفنيدا سديدا على ما جاء في تفسير رشيد رضا مسهبا مع تفنيده بدوره تفنيدا سديدا. ومقام الآية ونصّها لا يمكن أن يتحملا ذلك. فهي في صدد الذين تناولوا ما تناولوه قبل تحريمه وهي تشترط لرفع الجناح عنهم أن يتقوا حرمات الله بعد تحريمه ويؤمنوا ويحسنوا ويعملوا الصالحات. واستحلال ذلك بعد نزول الآيات المحرّمة كفر وتناول المحرمات مع الاعتراف بحرمتها دون استحلالها كبيرة. وكل ما يمكن أن يقال في الحالة الثانية هو أن باب التوبة مفتوح أمام المؤمن في نطاق شروطها من ندم واستغفار وعزم على عدم العودة وفي حالة الصحة. والله تعالى أعلم. [سورة المائدة (5) : الآيات 94 الى 96] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) .

(1) النعم: مرادفة للأنعام. (2) ذوا عدل: معروفين بالعدل والاستقامة. (3) السيارة: بمعنى القافلة والمسافرين. في الآيات: (1) تنبيه للمسلمين بأن الله قد يختبرهم فيجعل في متناول أيديهم ورماحهم شيئا من الصيد حتى يظهر فعلا المؤمن المخلص الذي يخاف الله ويؤمن به بالغيب ولو لم يره ويقف عند أوامره. (2) وإنذار للذين ينحرفون عند الاختبار ويتعدون حدود حرمات الله فإن لهم عنده عذابا أليما. (3) ونهي عن قتل الصيد في حالة الإحرام وتشريع الكفارة لمن يفعل ذلك. وهو تقريب قربان عند الكعبة من الأنعام معادل لما قتل أو إطعام بعض مساكين أو صيام بعض أيام تعادل ذلك ليشعر بهذا قاتل الصيد أنه اقترف محظورا وكفّر عنه. (4) وإيذان بأن الله قد عفا عما سلف من ذلك وأن من عاد إليه فإنه يكون قد عرض نفسه لانتقام الله العزيز. (5) وخطاب تشريعي للمسلمين بأن الله تعالى قد أحلّ لهم صيد البحر وأكله على أن يتمتع بهذه الرخصة المسلمون على السواء المقيم منهم والمسافر وبأنه قد حرّم عليهم صيد البرّ ما داموا حرما. وموعظة لهم فعليهم بتقوى الله الذي سيحشرون إليه ويقفون بين يديه.

تعليق على الآية يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ... والآيتين التاليتين لها وما فيها من أحكام وما ورد في صددها من أحاديث وشرح لمعنى الكعبة

تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ ... والآيتين التاليتين لها وما فيها من أحكام وما ورد في صددها من أحاديث وشرح لمعنى الكعبة وقد روى البغوي في سياق الآية الأولى أنها نزلت عام الحديبية وكان المسلمون محرمين فابتلاهم الله بالصيد وكانت الوحوش تغشى رحالهم بكثرة فهمّوا بأخذها فنزلت. وروى أن الآية الثانية نزلت في رجل يقال له أبو اليسر شدّ على حمار وحش وهو محرم فقتله. ولم نطلع على رواية في مناسبة حلّ صيد البحر وطعامه. وهذه الروايات لم ترد في الصحاح ولا في تفسير الطبري. ويلحظ أن الآيات وحدة منسجمة شكلا وموضوعا. وأن فيها موضوعا لم يذكر في روايات النزول وهو حلّ صيد البحر وطعامه مما يجعلنا نرجح نزول الآيات دفعة واحدة. ولا يمنع هذا أن يكون وقع ما ذكرته الروايات فكان ذلك مناسبة لنزول الفصل ليكون تشريعا تاما في موضوع الصيد في حالة الحرم. وقد لا تبدو صلة ظرفية بين هذا الفصل والآيات السابقة له. ولكن التناسب الموضوعي ملموح لأنه فصل تشريعي كسابقه وفيه تشريع فيما يؤول إلى الأكل وقصده وهو الصيد. والمتبادر أن وضعه في مكانه بسبب ذلك إن لم يكن قد نزل بعد الآيات السابقة مباشرة. ومع أننا لم نطلع على ما يفيد أن صيد البحر كان محظورا أو غير محظور في حالة الحرم قبل الإسلام فالذي نرجحه من مدى ومفهوم التقليد القديم في حظر الصيد المنبثق من حظر سفك الدم في حالة الإحرام أنه كان محظورا فاقتضت حكمة التنزيل إباحته ليكون ذلك تسهيلا للمسلمين عامة وللذين يأتون من المسافات البعيدة ويكون البحر طريقهم أو على طريقهم. وهذا يؤدي إلى القول أن المقصود من الجملة القرآنية إباحة صيد البحر وأكله في حالة الحرم كما هو المتبادر.

ولقد شرحنا مدى جملة وَأَنْتُمْ حُرُمٌ في سياق تفسير الآية الأولى من السورة. فلا نرى ضرورة للإعادة والزيادة. ولقد أورد المفسرون بعض الأحاديث النبوية والأقوال المعزوة إلى بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم في مدى ما ينطوي في الآيات من أحكام نوجزها ونعلق عليها فيما يلي «1» : 1- هناك من قال إن الكفارة إنما تجب على الذين يقتلون الصيد عمدا وهم ناسون أنهم في حالة الإحرام. فإذا لم يكونوا ناسين فلا يحكم عليهم بكفارة لأن ذنبهم أعظم من أن يكفر ويكونون موضع انتقام الله. وينحلّ إحرامهم ويبطل حجهم. وصرف القائلون جملة عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ إلى ما قبل نزول الآيات. وهناك من قال إن الكفارة تصحّ لمن يقتل الصيد لأول مرة عمدا في حالة الإحرام ولو كان ذاكرا أنه في هذه الحالة. فمن كرر العمل فيغدو ذنبه أعظم من أن تكفره كفارة فلا يحكم عليه ويكون موضع انتقام الله. واتفقوا مع القول الأول بصرف العفو عما سلف إلى ما قبل نزول الآيات وقالوا إن الكفارة لا تسقط ما أنذر الله به من العذاب في الآية الأولى لأنه خالفها. ونبهوا على أن على المحكّمين أن يسألا الذي يحكّمهما إن كان قتل صيدا عمدا قبل ذلك فإن قال نعم ردّاه ولم يحكما وإن قال لا حكما. وقد صوّب الطبري القول الثاني. وهو تصويب في محله إلّا في أمر عدم سقوط ذنب الذي يقتل الصيد لأول مرة بالكفارة. فالكفارة ليست تعويضا لصاحب حقّ وإنما هي بمثابة توبة لله. والله يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات كما جاء في آية سورة الشورى [25] وهناك ذنوب أعظم تسقط بالتوبة فضلا عن الكفارة على ما مرّ شرحه في سياق الآيات [33- 34] من هذه السورة وفي سياق بحث التوبة في سياق سورة الفرقان. 2- هناك من قال إن (أو) هي للتخيير. فالحكمان العدلان يحكمان بما يعادل الصيد طعاما أو صياما أو هديا. والصائد يختار إحدى هذه الثلاث للتكفير.

_ (1) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن. والطبري كعادته أكثرهم استيعابا وإسهابا.

وهناك من قال إنها للترتيب فيجب الهدي أولا فإن لم يمكن فالطعام فإن لم يمكن فالصيام. والنظم القرآني يتحمل كلا القولين. وإن كنّا نميل إلى القول إن على الميسور أن يقدم هديا إن وجد وقدر عليه وإلا فيطعم المساكين وإن لم يقدر فليصم وقد نبهوا على أن الهدي يذبح عند الكعبة. ويوزع لحمه على المساكين. 3- وقد بينوا الحدود التي يحسن أن يحكم الحكمان في نطاقها. فمن قتل حمار وحش أو بقرة وحش أو وعلا فعليه هدي بقرة أو إطعام عشرة مساكين أو صيام عشرة أيام. ومن قتل غزالا أو أرنبا أو ضبّا أو يربوعا فعليه شاة أو إطعام ستة مساكين أو صيام ستة أيام. ومن قتل دون ذلك كعصفور أو سمان أو حمامة فلا يحكم عليه بهدي لأنه ليس في الأنعام ما يعادل ذلك وإن كان يستحب أن يقرب سخلة أو شاة. ويحكم عليه بطعام ثلاثة مساكين أو صيام ثلاثة أيام. والطعام قوت يوم كامل نصف صاع أو مدّ من برّ أو تمر أو أكل جاهز. 4- ومما قالوه إن الصيد يقوّم بدراهم وهو حي ويشترى مما ندّ له من النعم إذا كان القاتل قادرا ولم يكن يملك ندا. وإن لم يجد ندا فيشترى بها حنطة أو تمر أو طعام ويوزع على المساكين. فإن لم يجد فيصوم مقابل ذلك أياما. وهناك من قال إن صيام يوم يقابل ما قيمته نصف صاع أو مدّ. وهناك من قال إن مقابل صيام اليوم ما قيمته صاع أو مدّ. والاختلاف في عدد الأصوع والأمداد هو بسبب اختلاف روايات مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم لم ترو في الصحاح. ومهما يكن من أمر فالمبدأ الذي احتوته هذه الفقرة وهو تقويم الصيد بثمنه وهو حيّ وشراء ندّ له وتقريبه وإطعامه للمساكين إذا أمكن وشراء طعام أو حنطة أو تمر بالثمن وتوزيعه على المساكين إذا كان القاتل قادرا وصيام أيام عن كل ما قيمته صاع أو مدّ أو نصف صاع أو نصف مدّ يصحّ أن يكون مبدأ عاما يطبق في كل ظرف. والله أعلم. 5- وقد نبهوا على أن النهي هو في صدد ما يؤكل من الحيوان. وأباحوا قتل المؤذي منه في حالة الحرم استنادا إلى أحاديث مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم روى واحدا منها الخمسة عن النبي جاء فيه «خمس من الدوابّ لا حرج على من قتلهنّ الغراب

والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور» . وفي رواية «خمس فواسق يقتلن في الحلّ والحرم الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحدأة» «1» ولقد ألحق الفقهاء الوحوش الضارّة والحيوانات الضارة الأخرى قياسا على هذه الأحاديث. وهو وجيه. 6- وقد نبهوا إلى جواز أكل صيد البرّ للمحرم إذا لم يصده الآكل أو يصد له. استنادا إلى حديث رواه الإمام الشافعي عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «صيد البرّ لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم» «2» ولقد روى الخمسة عن ابن عباس قال «أهدى الصعب بن جثّامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم حمار وحش وهو محرم فردّه عليه وقال لولا أنّا محرمون لقبلناه منك وفي رواية أهدي له عضو من لحم صيد فردّه وقال إنّا لا نأكله. إنّا حرم» «3» وقد فسّر المفسرون هذا الحديث بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظنّ أن هذا الصيد قد صيد له ليزيلوا التناقض بينه وبين الحديث السابق. وأوردوا بسبيل ذلك حديثا جاء فيه «إن عثمان بن عفان نزل مع ركب بالروحاء فقرّب إليهم طير وهم محرمون فقال لهم عثمان كلوا فإني غير آكله. فقال له عمرو بن العاص وكان معه أتأمرنا بما لست آكلا. فقال لولا أني أظنّ أنه صيد من أجلي لأكلت فأكل القوم» «4» . وهناك حديث مؤيد لذلك رواه البخاري والنسائي عن أبي قتادة «أنه أصاب حمارا وحشيا وهو حلال فأتى به أصحابه وهم محرمون فأكلوا منه فقال بعضهم لو سألنا النبي صلى الله عليه وسلم عنه فسألناه فقال لقد أحسنتم. هل معكم منه شيء قلنا نعم. قال فأهدوا لنا فأتيناه منه فأكل منه وهو محرم» «5» . 7- ونبهوا كذلك إلى أن صيد البحر وطعامه مباح للمحرم وغير المحرم. وسواء أخرج من الماء حيا أم ميتا. وكذلك ما قذفه البحر إلى الساحل. وما يقدد

_ (1) التاج ج 2 ص 107. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه ص 106. (4) تفسير الطبري. (5) التاج ج 3 ص 83.

[سورة المائدة (5) : الآيات 97 إلى 100]

منه وما يملح. وجعلوا الأنهار في مثابة البحار في هذا الأمر. وبعضهم استثنى الضفادع والسرطانات لأنها ليست حيوانات بحرية تماما. 8- أما الحكمان ذوا العدل فلم نطلع على شيء في صددهما. والمتبادر أن الصائد هو الذي يختارهما من ذوي العدل والخبرة ليقدروا المسألة ويشيروا على الصائد برأيهم فيها. فهذه مسألة دينية وليست مسألة قضائية حقوقية بين متخاصمين حتى يصح أن يكون لولي أمر المسلمين دخل فيها. والله أعلم. هذا، وبمناسبة ورود كلمة الكعبة لأول مرة نقول إن المفسرين قالوا إنها سميت بذلك لأنها مربعة أو مرتفعة. وإنها من كعبت المرأة إذا نتأ ثديها أو ارتفع كما قالوا إنها سميت بذلك لانفرادها عن البنيان «1» . وقد ينطوي في هذا المعنى الأول بشكل ما. ولقد أشير إليها في مواضع عديدة في السور السابقة المكية والمدنية باسم البيت والبيت الحرام والبيت العتيق وهو ما كان العرب يسمونها به قبل الإسلام. وكانوا يضعون فيها وحولها أصنامهم ويطوفون بها ويقيمون صلاتهم ويقربون قرابينهم عندها. والمأثور في الروايات العربية «2» أنها لم تكن الوحيدة في جزيرة العرب حيث كان لبعض قبائل العرب كعبات للأغراض نفسها مع اعتبارها كعبة للعرب جميعهم. وحينما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة وجد فيها وحولها 360 صنما ووجد على جدرانها صور إبراهيم وعيسى عليهما السلام حيث قد يدل هذا على أن العرب كانوا يعتبرونها كعبة عامة مشتركة ومنهم قبائل نصرانية أرادوا أن يؤيدوا ذلك بوضع نسخ من أصنامهم ومعبوداتهم فيها وحولها. ولقد ذكرنا في مناسبات سابقة ما ورد في صدد وجودها وبنائها فلا ضرورة للإعادة. [سورة المائدة (5) : الآيات 97 الى 100] جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) .

_ (1) تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير. (2) انظر العرب قبل الإسلام لجواد عليّ ج 5 ص 75 وما بعدها. وانظر الجزء الخامس من كتابنا تاريخ الجنس العربي ص 602 وما بعدها.

تعليق على الآية جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس ... إلخ والآيات الثلاث التي بعدها وما ينطوي فيها من دلالات وتلقين وحكمة الإبقاء على معظم تقاليد الحج السابقة للإسلام

(1) قياما للناس: قوام حياة الناس ومصالحهم. تعليق على الآية جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ ... إلخ والآيات الثلاث التي بعدها وما ينطوي فيها من دلالات وتلقين وحكمة الإبقاء على معظم تقاليد الحج السابقة للإسلام عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت: (1) تنبيها إلى ما في الكعبة التي هي بيت الله الحرام والأشهر الحرم والهدي والقلائد وحرماتها وتقاليدها من أسباب قوام أمور الناس ومعايشهم ومصالحهم. (2) وهتافا للمؤمنين بأن عليهم أن يتأكّدوا ويعلموا أن الله العليم بكل ما في السموات والأرض عليم بمقتضيات كل شيء وبما يقوم به أمر الناس. وأنه شديد العقاب على من يتمرد على حرماته وينقضها غفور رحيم لمن حسنت نيته وراقب الله في أعماله وندم على ما فرط منه. (3) وتنبيها آخر إلى أنه ليس على الرسول إلّا البلاغ وأن الله مراقب المخاطبين وعليم بكل ما يبدون وما يكتمون ومحصيه عليهم. (4) والتفاتا في الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يأمر به بأن يقول للناس إنه لا يصحّ في حال أن يكون الخبيث والطيب والحلال والحرام سواء ولو كان ظاهر الخبيث أو الحرام معجبا مغريا بكثرته. (5) وهتافا موجها إلى أولي العقول بتقوى الله تعالى فإن فيها الفلاح والنجاح.

ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. والمتبادر أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة على سبيل البيان والتعليل لتقاليد الحجّ المتنوعة التي من جملتها تحريم الصيد. ومن المحتمل أن تكون نزلت معها أو عقبها مباشرة. ولقد شرحنا في مناسبات سابقة من هذه السورة وقبلها مدى ودلالات وتقاليد الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد فلا ضرورة للإعادة أو الزيادة. وإنما نريد أن نلفت النظر إلى ما احتوته الآيات من تعليل رائع في مداه ومفهومه وتلقينه لتقاليد الحج. فالله عزّ وجل إنما ألهم العرب هذه التقاليد أولا وأقرّها في القرآن ثانيا من أجل ما فيها من مصالح عظيمة للناس متنوعة الأشكال والصور وخاصة وعامة ودنيوية وتعبدية معا وفيه قرينة على ما كان لهذه التقاليد من أثر صالح في حياة العرب قبل الإسلام. حيث كانت وسيلة لاجتماعهم في مناسك واحدة ومكان واحد على اختلاف عقائدهم ومعبوداتهم ومنازلهم. ومظهرا من مظاهر حركة وحدوية ظهرت فيهم. وهدنة مقدسة تتوقف فيها الحروب والمنازعات ويسود فيها الأمن والطمأنينة في تلك الربوع الشاسعة الواسعة التي ليس فيها سلطات حكومية أو قضائية نافذة. وسببا لقيام أسواق يتبادلون فيها سلعهم ويقضون حاجاتهم. ويحلّون مشاكلهم. وتتوحد لغاتهم ولهجاتهم. ويتداولون مفاخرهم. ويستمعون للمواعظ والخطب والقصائد والأخبار المتنوعة في مداها وتأثيرها مما شرحنا صوره في مناسبات سابقة وبخاصة في سياق تفسير سورتي الحج والبقرة. وفي كل هذا مظهر حركة يقظة وجيشان نفوس وأفكار سبقت البعثة النبوية. والآيات بهذا الاعتبار تنبه على أن التشريع الإسلامي إنما يستهدف مصالح الناس المادية والمعنوية. وتزيل وهما يمكن أن يقوم في الأذهان نحو تقاليد الحج التي أبقي أكثرها على ما كان عليه في الجاهلية بعد تجريدها مما فيها من شوائب ومعائب. كما أنها تحتوي تلقينا جليلا شاملا ومستمرا بإباحة توطيد وإيجاد وتيسير كل ما من شأنه أن يكون فيه قوام مصالح الناس ومعايشهم. ووسيلة إلى قوة المسلمين وعمران بلادهم. وارتقاء أحوالهم مع مراعاة حرمات الله تعالى والوقوف

تعليق على مدى جملة ما على الرسول إلا البلاغ

عند الحدود التي رسمها للحلال والحرام والطيّب والخبيث والنافع والضار والخير والشرّ. والعدل والإحسان والبغي والطغيان. ولقد أتمت الآية الأخيرة هذا التلقين بما نبهت عليه من عدم جواز إقبال الناس على الخبيث والحرام والضارّ والشرّ انخداعا بمظهره وزخرفه ولذاته وسهولة الحصول عليه. ومن وجوب التفريق بينه وبين الطيب والحلال والنافع والخير وعدم التسوية بين هذا وذاك. وفي المقطع الأخير من الآية معنى قوي حيث وجّه الخطاب فيه لذوي العقول المفكرة على اعتبار أنهم يستطيعون التمييز وإدراك ما في تنبيه القرآن من حكمة وحقّ وأسباب نجاح وفلاح ويستطيعون أن يبينوه للناس. ويتقون الله ويدعون إلى تقواه. وكل هذا متسق مع التقريرات والتلقينات القرآنية العامة على ما مرّ التنبيه إليه في مناسبات كثيرة سابقة. وكل هذا كذلك من مرشحات الشريعة الإسلامية للخلود لأنه متسق مع مصلحة الإنسانية وكرامتها وخيرها وصلاحها وطهارة روحها ولا يستطيع عاقل منصف في أي ظرف أن ينكره. تعليق على مدى جملة ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ ونقف عند مدى جملة ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ لنقول إنها في مقامها تعني أن الرسول لم يرسل ليسيطر على أفعال العباد وقلوبهم وإنما ليكون مبلّغا عن الله فيما شاء من رسوم وحدود. وقد تكرر هذا في مثل هذا المقام في سور مكية ومدنية عديدة. وليس بين هذا وبين ما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يباشره في العهد المدني بخاصة من سلطان زمني على المسلمين ومن يدخل في ذمتهم ومن أعمال فيها مهمة الدولة والسلطان مثل تسيير وقيادة الجيوش والحرب والصلح وجباية الزكاة وقبض الزكاة وخمس الغنائم والفيء والتصرف فيها حسب الحدود المرسومة والقضاء بين المسلمين فيما يشجر بينهم من مشاكل ومنازعات وإقامة الحدود إلخ. فكل هذا

[سورة المائدة (5) : الآيات 101 إلى 102]

باشره النبي بإلهام أو وحي قرآني وصار له به سلطان زمني بالإضافة إلى مهمة التبليغ عن الله. ولا يعني هذا أنه صار له على قلوب الناس وأفعالهم سيطرة مانعة لهم من أي فعل وتفكير. فقد كان وظلّ يقوم بتبليغ ما أمره الله به لهم ويعمل فيهم في نطاق ذلك. وما كان يبقى في حيز تفكيرهم رفع عنهم إثمه لأن الله قرر لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ كما جاء في الآية [286] من سورة البقرة وفي نطاق شرحنا لها. وما كانوا يفعلونه إن كان حلالا ومباحا أقرّهم عليه. وإن كان بغيا وعدوانا أقام عليهم فيه أحكام الله في نطاق تبليغاته ووحيه وإلهامه. والله تعالى أعلم. [سورة المائدة (5) : الآيات 101 الى 102] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102) . تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ... إلخ وما فيها من تلقين وما ورد في صددها من أحاديث عبارة الآية واضحة. وقد تضمنت: (1) نهيا للمسلمين عن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور بدون مناسبة وضرورة. (2) وتعليلا للنهي بأنهم قد يجابون إجابة فيها ما يكرهون أو يسيئهم بشدته ومشقته. (3) وتنبيها تدعيميّا للنهي والتعليل. فقد كان بعض من سبقهم يسألون أنبياءهم مثل هذه الأسئلة فكانت أجوبتها سببا لجحودهم وتمرّدهم. (4) وإيعازا لهم بأنهم إذا كانوا يودّون السؤال عن شيء فليسألوا عنه حين ينزل قرآن فيه مناسبة لذلك. فهذا هو ما يصحّ وما يحسن أن يسألوا عنه بدون حرج

ولا خوف عاقبة فيجابوا بما فيها البيان. (5) وإيذانا بأن الله تعالى قد عفا عمّا وقع من مثل هذه الأمور وهو الغفور الحليم. والآيات فصل مستقل كما يبدو. ولعلها نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت بعدها في ترتيب السورة. وقد روي في سبب نزولها روايات عديدة. منها رواية رواها البخاري والترمذي عن ابن عباس قال: «كان قوم يسألون رسول الله استهزاء فيقول الرجل من أبي ويقول الرجل تضلّ ناقته أين ناقتي فأنزل الله الآيات» «1» . ورواية رواها الترمذي ومسلم عن عليّ قال «لما نزلت وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قالوا يا رسول الله في كلّ عام فسكت قالوا يا رسول الله في كل عام. قال لا. ولو قلت نعم لوجبت فأنزل الله الآيات» «2» ورواية رواها البخاري ومسلم عن أنس قال «بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم عن أصحابه شيء فخطب فقال عرضت عليّ الجنة والنار فلم أر كاليوم في الخير والشرّ ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا فما أتى على الأصحاب يوم أشدّ منه حتى غطّوا رؤوسهم ولهم خنين فقام عمر فقال رضينا بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمّد نبيا فقام رجل فقال من أبي قال أبوك فلان فنزلت الآيات» «3» . ولقد أورد الطبري هذه الروايات مع شيء من الزيادة وبطرق أخرى. فالرواية الثانية رواها عن أبي هريرة فيها زيادة «ولو وجبت لكفرتم» وليس فيها أن السؤال ورد حينما نزلت الآية وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ وإنما ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قام في الناس فقال «كتب عليكم الحجّ» والرواية الأخيرة رواها بهذه الصيغة «سأل الناس النبيّ صلى الله عليه وسلم فألحفوا في المسألة فغضب فقال لا تسألوني عن شيء في مقامي إلّا أجبتكم عليه فقام رجل كان يدعى إلى غير أبيه فقال من أبي يا رسول الله فقال له أبوك حذافة. فقام رجل آخر فقال

_ (1) التاج ج 4 ص 94. (2) المصدر نفسه ص 95. (3) المصدر نفسه ص 95. [.....]

أين أبي يا رسول الله فقال له في النار، فقام عمر فقبّل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال إنّا يا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشرك فاعف عنّا عفا الله عنك فسكن غضبه، وفي رواية قال رضينا بالله ربّا وبالإسلام دينا وبنبيّنا محمد رسولا وأعوذ بالله من سوء الفتن فنزلت الآية» . وإلى هذا فإن الطبري روى عن ابن عباس أن الآيتين نزلتا بسبب سؤال بعضهم عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام التي ورد ذكرها في الآية التي تأتي بعد الآيتين اللتين نحن في صددهما. وليس في كتب التفسير زيادة عما في كتاب الطبري. ويتبادر لنا أن السؤال عن البحيرة وأخواتها لا يقتضي نهيا ولا إنذارا ولا غضبا من الله ورسوله. وهذا ما جعلنا نفرد الآيتين عن الآيات التالية لها. إلا أن يقال إن السؤال أورد في مناسبة أو في صيغة غير لائقة والله تعالى أعلم. ويلحظ أن الأحاديث التي يرويها البخاري ومسلم والترمذي متباعدة إلّا أن يقال إن من الجائز أن يكون كل ما ورد فيها كان يحدث حتى كثرت الأسئلة بدون مناسبة وضرورة وكان منها ما هو غير لائق في مداه أو صيغته فوقف النبي صلى الله عليه وسلم موقف الغاضب ونزلت الآيات ناهية منذرة معلمة. ومهما يكن من أمر فالآيتان كما هو متبادر من فحواهما بسبيل التحذير من اللجاجة والمواقف والأسئلة المثيرة التي قد يكون لها نتائج ضارة وسيئة لأصحابها وغيرهم. وفي هذا ما فيه من تلقين تأديبي وتعليمي رفيع مستمر المدى. ولقد روى مسلم عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن أمر لم يحرّم فحرّم على الناس من أجل مسألته» «1» وروى البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» «2» . ولقد أورد ابن كثير والقاسمي حديثا عزاه

_ (1) التاج ج 4 ص 95. (2) المصدر نفسه (كتاب التفسير سورة الحشر) . وقد أورد ابن كثير هذا الحديث بشيء من المغايرة وهي «ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم» وأورده البغوي والزمخشري بشيء من الزيادة وهي «فإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» .

الأخير إلى ابن ماجه والترمذي والحاكم جاء فيه «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء فقال الحلال ما أحلّ الله في كتابه والحرام ما حرّم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما قد عفا عنه فلا تتكلفوا» وأورد ابن كثير حديثا وصفه بالصحيح جاء فيه «إنّ الله تعالى فرض فرائض فلا تضيّعوها وحدّ حدودا فلا تعتدوها وحرّم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها» . وينطوي في الأحاديث تلقينات رائعة واسعة المدى متسقة مع التلقين القرآني وفيها مثل أخلاقية واجتماعية وسلوكية وتعبدية يحتذيها المسلم ويقيس عليها أمورا كثيرة من شؤون الدين والدنيا مماثلة لها في كل ظرف ومكان والله تعالى أعلم. وواضح من روح الآيات والأحاديث أن الأسئلة المكروهة هي ما كان فيه تنطّع وتكلّف وحذلقة وقصد إحراج ومماراة وجدل من دون ما ضرورة من شرع ودين ومصلحة. وأن الأسئلة التي لا يكون فيها ذلك وكان فيها رغبة معرفة حدود كتاب الله وسنّة رسوله ليست مكروهة ولا محظورة بل هي واجبة على المسلم. ولقد روى أبو داود حديثا عن جابر قال «خرجنا في سفر فأصاب رجلا منّا حجر فشجّه في رأسه ثم احتلم فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمّم. قالوا ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العيّ السؤال» «1» . هذا ولقد روى الطبري في صدد جملة قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ أنهم الذين سألوا عيسى إنزال المائدة فلما أعطوها كفروا أو إنهم قوم صالح سألوا معجزة فلما أظهر الله لهم معجزة الناقة كفروا أو إنهم بعض المنافقين واليهود طلبوا من النبي بعض الأمور فلما أجيبوا كفروا. وليس شيء من

_ (1) التاج ج 1 ص 113.

[سورة المائدة (5) : الآيات 103 إلى 104]

هذه الأقوال واردا في كتب الصحاح. ولا نرى الأمثلة تنطبق تماما على فحوى العبارة. وفي الجملة إخبار رباني وليس هناك توضيح نبوي فيوقف عند ذلك بدون تخمين كما هو الواجب في هذا وأمثاله. والله تعالى أعلم. [سورة المائدة (5) : الآيات 103 الى 104] ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104) . (1) بحيرة: من البحر وهو الشق. (2) سائبة: من السيب. وهو الترك. (3) وصيلة: من الوصل. (4) حام: من الحماية. تعليق على الآية ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ ... إلخ والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين في الآيتين: (1) تقرير بأن الله تعالى لم يشرّع شريعة البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي ولم يأمر بالجري على تقاليدها. (2) واستدراك بأن الذين يمارسون هذه الشريعة من الكفار إنما يفترون على الله الكذب حينما ينسبونها إليه وأكثرهم جاهل لا يدرك مدى ما يقول. (3) وتنديد بعقولهم وتناقضهم: فهم من جهة يسخفون في نسبة هذه الشريعة إلى الله ويدعون أنهم يسيرون عليها حسب أوامر الله بينما هم من جهة أخرى إذا

بيّن لهم ما شرع الله ورسوله مما فيه المصلحة والفائدة ودعوا إلى اتباعه أبوا وقالوا إنه يكفينا ما وجدنا عليه آباءنا. (4) وتقريع لاذع بسبيل الرد عليهم بأسلوب سؤال عما إذا كان يصحّ في العقل أن يحتجوا بآبائهم فيسيروا على ما كانوا عليه سيرا أعمى ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا وليسوا من أمرهم على هدى. ولقد ذكرنا في سياق تفسير الآيتين السابقتين أن الطبري روى أنهما نزلتا في صدد سؤال عن تقاليد البحيرة وأخواتها. وقد توقفنا في هذه الرواية. بسبب صيغتها. ولم نطلع على رواية أخرى كسبب لنزول الآيات التي نحن في صددها والتي نرجح أنها مستقلة عن ما سبقها وأنها نزلت جوابا على استفسار أورده بعضهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه التقاليد وما كان يدعيه العرب من أن ذلك تقاليد دينية شرعها الله. فنزلت الآيات موضحة نافية أن يكون ذلك من شرع الله. ومقررة أن هذه الدعوى كذب وافتراء على الله. ومن المحتمل أن تكون الآيات نزلت عقب الآيات السابقة فوضعت بعدها وظنّ بعضهم أنها نزلت بسبب السؤال الذي ترويه الرواية. أو أن تكون وضعت بعدها للتماثل بينها وبين ما قبلها من حيث احتواء السياق أوامر وتحذيرات. والله تعالى أعلم. وهناك حديث رواه الشيخان عن سعيد بن المسيب في شرح المقصود من عبارة الآية الأولى جاء فيه «البحيرة هي التي يمنع درّها للطواغيت فلا يحلبها أحد. والسائبة كانوا يسيّبونها لآلهتهم فلا يحمل عليها شيء. والوصيلة هي الناقة البكر تبكّر بأنثى ثم تثني بعد بأنثى ليس بينهما ذكر وكانوا يسيّبونها لطواغيتهم. والحامي هو فحل الإبل يضرب الضراب المعدود فإذا قضاه ودعوه للطواغيت وأعفوه من الحمل» «1» وهذه التعريفات لا توضح مدى التقاليد والاصطلاحات الجاهلية توضيحا شافيا. وفي كتب التفسير بيانات أوسع فيها صور عديدة لذلك. غير أنها

_ (1) التاج ج 4 ص 96.

[سورة المائدة (5) : آية 105]

متغايرة وليس فيها ما يساعد على ترجيح صورة على أخرى. وقد أوردنا إحداها في سياق تفسير الآيات [136- 140] من سورة الأنعام فنكتفي بذلك. وروح الآيات تلهم أن العرب قبل الإسلام كانوا يعتقدون أن هذه التقاليد من أمر الله وشرعه. ويمارسونها ويحترمونها على هذا الاعتبار بسبيل شكر الله أو التقرب إليه لتحقيق مطالبهم ورغباتهم وأنهم قد تلقوها كذلك عن آبائهم. وأنهم كانوا شديدي التعلق بتقاليد الآباء وتقديسها. وهذا مما تكرر تقريره أكثر من مرة في القرآن عنهم حيث يفيد ذلك أنهم كانوا يكررون الاحتجاج بتقاليد الآباء وقدسيتها واتصالها بالله عزّ وجل في كل مناسبة متجددة مماثلة. هذا، ولقد أورد الطبري والبغوي في سياق الآيات حديثا روياه بطرقهما عن أبي هريرة قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأكثم بن جون الخزاعي يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجرّ قصبه في النار فما رأيت من رجل أشبه به رجل منك ولا به منك. وذلك أنه أول من غير دين إسماعيل ونصب الأوثان وبحّر البحيرة وسيّب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي. فقد رأيته في النار يؤذي أهل النار بريح قصبه. فقال أكثم أيضرني شبهه يا رسول الله. فقال لا إنك مؤمن وهو كافر» وقد أورد ابن كثير هذا الحديث وأورد صيغا أخرى منها عزا بعضها إلى البخاري وبعضها إلى الإمام أحمد وبعضها إلى البزار. فلم نر ضرورة إلى إيرادها لأن حديث الطبري والبغوي أوفى. فإن صحت هذه الأحاديث فيكون فيها مشهد روحاني شهده النبي وأخبر به فيوقف عند ذلك وتستشف حكمته وهي الوعظ والإنذار وتوكيد متساوق مع توكيد الآيات بأن هذه التقاليد لا تمتّ إلى الله وإنما هي خروج عن الفطرة السليمة وانحراف نحو الشرك والوثنية. والله تعالى أعلم. [سورة المائدة (5) : آية 105] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) .

تعليق على الآية يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ... وما ورد في صددها من أحاديث وما فيها من تلقين

تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ... وما ورد في صددها من أحاديث وما فيها من تلقين في الآية هتاف للمسلمين بأنهم إذا كانوا مهتدين بهدي الله ورسوله فلا يضرّهم من كفر وسلك غير سبيل الحقّ والهدى. فالجميع مرجعهم إلى الله تعالى وحينئذ ينبئهم بما عملوا ويجزيهم عليه بما استحقوا. ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزول الآية. والمتبادر المستلهم من فحواها وروحها ومقامها أنها متصلة بالآيات السابقة اتصال تعقيب واستدراك وتسلية حيث تقول للمسلمين إن الكفار إذا كانوا يسيرون في تلك التقاليد ويعزونها إلى الله كذبا ويتمسكون بما كان عليه آباؤهم من سخف وضلال فأنتم غير مسؤولين عنهم. وإنما أنتم مسؤولون عن أنفسكم. وإن عليكم أن تسيروا وفق ما أنزل الله دون أن تأبهوا بضلال الضالين وجحود الجاحدين. على أن الآية في حدّ ذاتها جملة مستقلة تامة المدى أيضا. وقد اعتبرها المؤولون والمفسرون كذلك وأداروا الكلام في صددها على هذا الاعتبار. ولقد أورد المفسرون «1» روايات عديدة عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم في مدى هذه الآية يستفاد منها أن هناك من اعتبرها خطابا لجميع المسلمين بالنسبة لأهل الكتاب أو لأهل كلّ ملّة ضالّة. فما داموا مؤمنين مهتدين بهدى الله ورسوله فلا يضرهم ضلال غيرهم من أهل الملل الأخرى. وأن هناك من اعتبرها خطابا لجميع المسلمين بالنسبة إلى بعضهم بشرط أن يبذل المهتدون بهدى الله ورسوله منهم جهودهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإصلاح وتقويم ما يكون في جماعات من المسلمين أو أفرادهم من فساد وبغي وانحراف عن ذلك الهدى. فإن عجزوا فعليهم أنفسهم فلا يضرّهم ذلك الفساد والانحراف ما داموا مهتدين.

_ (1) الطبري أكثرهم استيعابا لها. انظر أيضا البغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.

والقول الأول فيما يتبادر لنا هو الأوجه المتسق مع روح الآية ومقام ورودها. وفيها كما قلنا تسلية لجميع المسلمين عن ضلال غيرهم من جهة وحثّ على وجوب تمسكهم بهدى الله ورسوله وعدم الانحراف عنه من جهة، وتوطيد لحرية الدين فيما يتبادر لنا من جهة، وتوكيد لما استلهمناه من آيات كثيرة سابقة ونبهنا عليه من أن المسلمين غير مكلفين بمحاربة من لم يسلم من أهل الملل الأخرى بسبب عدم إسلامه فقط. ولا يعني هذا رفع واجب الدعوة عن المسلمين إلى الإسلام. فالدعوة واجب مستمر الوجوب على المسلمين في كل ظرف ومكان. سواء في ذلك أفرادهم وهيئاتهم وحكوماتهم في النطاق القرآني وهو ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] . فوعد الله عز وجل بإظهار دينهم على الدين كلّه إنما يتحقق بذلك. وهذا فضلا عما في القرآن والسنّة من نصوص صريحة في هذا من حيث إن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم هي عامة شاملة. وقد أمر بإبلاغها وصار ذلك واجب المسلمين من بعده. على أن هذا القول لا يتعارض مع القول الثاني أيضا ولا يضعف وجاهته. ولا سيما أن هناك أحاديث نبوية وصحابية يوردها رواة الحديث ومفسرو القرآن في سياق الآية، بل فيها ما هو صريح بأنه ذو علاقة بها. منها حديثان رواهما الترمذي وأبو داود: أحدهما عن أبي بكر قال «إنكم تقرءون هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنّ الناس إذا رأوا ظالما فلم يأخذوا على يديه أو شك أن يعمّهم الله بعقاب» «1» . وثانيهما عن أبي أمية الشعباني قال «سألت أبا ثعلبة عن يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ... الآية فقال: أما والله لقد سألت عنها خبيرا، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحّا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه

_ (1) التاج ج 4 ص 95 وفي رواية الطبري أنّ أبا بكر قال «والله ما أنزل الله في كتابه أشدّ منها» .

فعليك بخاصة نفسك. ودع العوامّ. فإنّ من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم. قيل: يا رسول الله أجر خمسين منّا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين منكم» «1» . وحديث رواه النسائي وأبو داود عن عبد الله بن عمرو قال «بينما نحن حول النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذكرت الفتنة فقال إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم وخفّت أماناتهم وكانوا هكذا وشبّك بين أصابعه فقمت إليه وقلت كيف أفعل عند ذلك يا رسول الله جعلني الله فداك. قال الزم بيتك واملك عليك لسانك وخذ بما تعرف ودع ما تنكر وعليك بأمر خاصة نفسك ودع عنك أمر العامة» «2» وهناك أحاديث أخرى أوردها المفسرون هاهنا حديث رواه الطبري وأورده عن أبي بكر قال «يا أيها الناس لا تغتروا بقول الله عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ فيقول أحدكم عليّ نفسي والله لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر أو ليستعملنّ عليكم شراركم فليسومنّكم سوء العذاب ثم ليدعو خياركم الله فلا يستجيب لهم» وحديث رواه الخازن عن ابن مسعود قال «مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما قيل منكم فإن ردّ عليكم فعليكم أنفسكم» ومنها حديث رواه الطبري عن الحسن قال «إن هذه الآية قرئت على ابن مسعود فقال: ليس هذا بزمانها قولوها ما قبلت منكم فإذا ردت عليكم فعليكم أنفسكم» وحديث رواه الطبري عن سفيان بن عقال قال «قيل لابن عمر: لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه فإن الله تعالى يقول عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ فقال: إنها ليست لي ولا لأصحابي لأن رسول الله قال: ألا فليبلغ الشاهد الغائب، وكنا نحن الشهود وأنتم الغيّب ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم» . وحديث رواه البغوي عن ابن عباس في

_ (1) التاج ج 4 ص 95، 96. (2) التاج ج 5 ص 205 ويمكن أن يقال في التوفيق بين هذا الحديث والذي قبله إن النبي صلى الله عليه وسلم قصد بالثاني الحالة التي يصل الأمر فيها من الفساد وخفة الأمانة واختلاف الناس وشدة الفتنة إلى الحدّ الذي لا يسمع فيها أمر بالمعروف ونهي عن المنكر. وروح الحديث ونصه يؤيدان ذلك والله أعلم.

[سورة المائدة (5) : الآيات 106 إلى 108]

الآية «مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما قيل منكم فإن ردّ عليكم فعليكم أنفسكم» . وحديث رواه الخازن عن عبد الله بن المبارك «أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي هذه الآية، فإن الله قال فيها عليكم أنفسكم يعني أهل دينكم بأن يعظ بعضكم بعضا ويرغّبه في الخيرات وينفّره من القبائح والمكروهات» . وظاهر أن في الأحاديث ما يزيل كل وهم يمكن أن يحيك في صدر أحد بأن الآية تخاطب أفراد المسلمين وتوعز إليهم بالاكتفاء بما يكون عليه الواحد منهم من عافية في أمر دينه ودنياه وعدم الأبوه لما يكون من انحراف غيره من بني دينه وضلاله عن جادة الحق والاستقامة. ويتأكد هذا المعنى بآية آل عمران [74] التي توجب على المسلمين أن يكون منهم دائما جماعات يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وما ورد في صدد ذلك من أحاديث نبوية أوردناها في سياق تفسير هذه الآية. [سورة المائدة (5) : الآيات 106 الى 108] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108) . (1) من غيركم: من غير المسلمين على أرجح الأقوال. (2) تحبسونهما: بمعنى تجعلونهما ينتظران إلى ما بعد الصلاة ليؤديا شهادتهما.

(3) لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى: بمعنى لا نكتم شهادتنا ولا نكذب فيها مهما أعطينا من الرشوة ولو كان الحق على أقاربنا أو كانت المسألة تخصّ أقاربنا. (4) فإن عثر على أنهما استحقا إثما: فإن تبين وعرف أنهما اقترفا إثما بكتمهم الشهادة أو كذبهم فيها. (5) يقومان مقامهما: يخلفانهما في مقام الشهادة. (6) من الذين استحق عليهم الأوليان: بمعنى نالهم ضرر الإثم والحلف الكاذب في الشهادة من أولياء الميت وورثته. (7) أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم: بمعنى أن يخافوا أن يرد حق اليمين والشهادة إلى غيرهم فيكون في ذلك تكذيب وفضيحة لهم. في هذه الآيات تشريع بشأن الوصية والإشهاد عليها وتحقيق صحتها في حال الاشتباه. وقد احتوت الآيتان الأوليان منها على ما يلي: 1- أمر المسلمون بأنه إذا شعر أحد منهم بقرب أجله وكان في سفر بعيد عن أهله فعليه أن يشهد على وصيته وتركته شاهدين عدلين من المسلمين أو غير المسلمين. 2- فإذا وقع قضاء الله في الموصي وجاء الشاهدان ليسلما أهل الميت التركة أو يبلغا الوصية وارتاب هؤلاء في صحة أقوالهما فلهم أن يطلبوا منهم يمينا على صدقهما وعدم كتمانهما شيئا لأي سبب كان سواء أمن أجل منفعتهما الخاصة أم من أجل صالح قريب من أقاربهما. 3- وعلى النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن يحجزوا الشاهدين ليؤديا اليمين والشهادة بعد الصلاة. 4- فإذا ظهر بعد يمينهما وشهادتهما أنهما كاذبان أو أنهما جنفا وخانا فيهما فيصحّ أن يتقدم اثنان من أولياء الميت الذين يقع عليهم الحيف وضرر الشهادة الكاذبة فيخلفاهما في مقام الشهادة ويشهدا بما يريانه الحق ويقسما بالله على أن

تعليق على الآية يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية إلخ والآيتين التاليتين لها وما فيها من أحكام وصور وتلقين

شهادتهما أحقّ من شهادة الشاهدين الأولين. وأنهما لم يجنفا ولم يعتديا فيهما. وحينئذ تقبل هذه الشهادة وتنقض الشهادة الأولى. وقد احتوت الآية الثالثة (1) تعليلا بأن هذه الطريقة التي جعلت بها شهادة أولياء الميت حجة مقبولة ضد شهادة الشاهدين الأصليين من شأنها أن تجعلهما يتحريان الحق ويلتزمانه ويصدقان في شهادتهما خشية التكذيب والفضيحة من جراء ردّ شهادتهما وجعل حق لأولياء الميت في الشهادة بدلا منهما. (2) وتحذيرا للمسلمين. فعليهم أن يتقوا الله في حقوق بعضهم. وأن يسمعوا ويطيعوا أوامره. فإن الله لا يوفق الفاسقين عن أوامره ونواهيه. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ إلخ والآيتين التاليتين لها وما فيها من أحكام وصور وتلقين والآيات كما يبدو فصل جديد. ولعلّها نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت في مكانها أو لعلّها وضعت في مكانها للتناسب التشريعي الملموح بينها وبين سابقاتها. ولقد روى البخاري والترمذي حديثا في صدد هذه الآيات عن ابن عباس جاء فيه «خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بدّاء فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم فلما قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخوّصا بالذهب فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وجد الجام بمكة فقيل اشتريناه من عدي وتميم. فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحقّ من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم. قال وفيهم نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ الآية» «1» . وقد روى الطبري هذه الرواية مع شيء من الزيادة والبيان خلاصته أن اسم السهمي بديل وأنه كان في رحلة تجارية في الشام وأن تميم الداري وعدي بن بداء

_ (1) التاج ج 4 ص 110.

سافرا معه وكانوا على دين النصرانية حينئذ. وإنه لما مرض وشعر بدنوّ أجله كتب قائمة بمتاعه ودسّها فيه وعهد إلى رفيقيه المذكورين بتسليم متاعه إلى أهله وإنهما فتشا متاعه بعد موته فوجدا فيه الإناء المخوّص بالذهب فأخذاه لنفسهما وسلّما بقية المتاع لأهله. ثم باعاه في مكة. وفتح أهل الميت المتاع فوجدوا القائمة وسألوا الرفيقين فأنكراه. ثم وجدوا الإناء في يد شخص في مكة فقال إنه اشتراه منهما فراجعوا النبي صلى الله عليه وسلم فعقد مجلسا بعد صلاة العصر وحلّف الرجلين فأصرّا على الإنكار وفي رواية ادّعيا أن الإناء لهما فتقدم اثنان من أولياء الميت فحلفا أنه لقريبهم فقضى النبي صلى الله عليه وسلم لهم وفي رواية إن الشاهدين بعد أن حلفا تركا وشأنهما ثم إن تميما أسلم وتأثّم من عمله فأخبر أهل الميت بالحقيقة وردّ إليهم ما أخذه من ثمن الإناء فراجعوا النبي وأظهروا استعدادهم للشهادة فاستشهدهما ثم حكم على عدي بردّ ما قبضه من ثمن الإناء فانتزع منه ولم تلبث الآيات أن نزلت. وليس في هذا البيان ما يمنع صحته ولا ما يتعارض مع حديث ابن عباس. وهناك رواية تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر في المسألة وحكم فيها بعد نزول الآيات وفاقا لها. وحديث ابن عباس يذكر أن الآيات نزلت بعد النظر والحكم وسنده أقوى. وفي هذه الحالة يكون النبي صلى الله عليه وسلم نظر وحكم في المسألة بإلهام رباني ثم نزلت الآيات بإقرار ذلك وبأسلوب يجعل الأسلوب الذي نظره وحكم به النبي صلى الله عليه وسلم تشريعا عاما في الحالات المماثلة. ومثل هذا قد تكرر ونبهنا عليه في مناسبات سابقة. ولقد تعددت الأقوال التي يوردها المفسرون عزوا إلى بعض أصحاب رسول الله وعلماء التابعين وتابعيهم فيما احتوته الآيات من معان وأحكام. وقد استوعبها الطبري أكثر من غيره «1» . وهذا إيجاز لها: 1- هناك من أوّل جملة مِنْ غَيْرِكُمْ بمعنى أهل الكتاب أو بمعنى غير المسلمين إطلاقا. وهناك من قال إنها تعني من أسرة غير أسرة المتوفى أو حيّه أو عشيرته من المسلمين. وروي عن الزهري في صدد تأييد الرأي الثاني قوله إن السنة

_ (1) انظر أيضا البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي.

مضت على عدم جواز شهادة كافر على مسلم لا في حضر ولا في سفر وإن الجملة هي في المسلمين فيما بينهم. ومعظم الأقوال بأنها تعني من غير المسلمين إطلاقا. ويدخل في ذلك المجوس والمشركون والوثنيون مع أهل الكتاب. وقد صوّب الطبري هذا وفنّد صرف جملة مِنْ غَيْرِكُمْ إلى عشيرة أهل الميت أو حيّه لأن الخطاب موجّه للمؤمنين. وهو تصويب في محلّه. وقد يرد أن القسم بالله لا يتوقع الصدق فيه إلّا من مسلم. ويرد على هذا أن الكتابيين والمشركين كانوا يؤمنون بالله ويحلفون به حيث يكون توقع الصدق واردا منهم أيضا. 2- ومن أصحاب الرأي الثاني من قال: (أولا) إن إشهاد غير المسلمين في مثل هذا الموقف مشروط بأن لا يكون هناك مسلمون يمكن إشهادهم. ومنهم من قال إن (أو) للتخيير حيث يصح إشهاد مسلمين وغير مسلمين. والمتبادر أن القول الأول هو الأوجه مع تنبيه أو استدراك. فالآية تجعل صفة العدل مما يجب توفره في الشاهد بحيث يصحّ أن يقال إن للموصي إذا لم يطمئن لاستقامة وأمانة من حضره من المسلمين أن يوصي من يطمئن باستقامته وأمانته ممن حضره من غيرهم. والله أعلم. (وثانيا) إن أصحاب هذا الرأي قالوا إن إشهاد غير المسلمين إنما يجوز في السفر لأن في هذه الحالة فقط يتوقع عدم وجود مسلمين للشهادة. وقد يكون هذا متسقا مع نصّ الآيات وظرف نزولها. غير أن تعذر وجود شهود من المسلمين في بعض الظروف المستعجلة والحرجة يكون واردا. وروح الآيات تسوغ كما هو المتبادر لنا استشهاد غير المسلمين في غير السفر إذا تعذّر وجود مسلمين والله تعالى أعلم. (وثالثا) هناك من قال إن شهادة غير المسلمين كانت مقبولة في البدء ثم نسخت بآية البقرة [282] التي نزلت بعد هذه الآيات والتي قصرت الشهادة على المسلمين في جملة مِنْ رِجالِكُمْ وهناك من قال إنها محكمة لم تنسخ. والمتبادر أن هذا هو الأوجه، لأن تعذّر وجود شهود من المسلمين وارد في كل ظرف. (ورابعا) إن هناك من قال إن شهادة غير المسلم على المسلم لا تجوز إلا في قضية وصية. ويبدو مما أورده الطبري من أقوال عديدة أن هذا مجمع عليه. ولم يرد في الأقوال ما ينقضه. ولكن مما يرد على البال أن يكون

هناك حقّ لمسلم على مسلم ولا يكون لصاحب الحقّ شاهد أو شاهد عدل أمين إلّا غير مسلم. فهل يصحّ أن يقال إنه لا مانع من ضياع حقّ المسلم في مثل هذه الحالة؟ ونحن نميل إلى القول إن ذلك لا يصحّ. وورود الآية في مقام الوصية ليس من شأنه أن ينفي ذلك أو يحصره فيها. ولقد تطرقنا إلى هذه المسألة في سياق تفسير سورة البقرة المذكورة وألمعنا إلى ما ذكره رشيد رضا عزوا إلى ابن القيم وانتهينا إلى ترجيح صحة شهادة غير المسلم على المسلم إذا لم يكن إثبات حق المسلم إلا بها. فنكتفي بهذا التنبيه. والله أعلم. 3- هناك من قال إنه إذا تقدم مسلمان فشهدا خلاف ما شهد به غير المسلمين أخذ بشهادتهما وأبطلت شهادة غير المسلمين إطلاقا. ويتبادر لنا أن هذا مناف لنصّ الآيات. فالآيات تنصّ على قبول شهادة الشاهدين على الوصية إطلاقا ولو كانا غير مسلمين إذا ما تعذر وجود مسلمين وعدم ردّ شهادتهما والأخذ بشهادة غيرهما إلّا إذا ظهر أنهما أثما في شهادتهما أو ادعي أنهما آثمان وأريد إثبات ذلك. والله تعالى أعلم. 4- وفي صدد الصلاة المذكورة في الآيات فإنّ هناك من قال إنها صلاة يصليها الشاهد مسلما أم غير مسلم لتكون شهادته عقبها أدعى إلى الاطمئنان وهناك من قال إنها صلاة العصر حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يعقد مجالسه بعدها لأنها قريبة من الغروب. وأكثر الأقوال في جانب هذا. ونراه هو الأوجه ولقد صرف أكثر المؤولين جملة الصلاة الوسطى في الآية [228] من سورة البقرة إلى صلاة العصر على ما شرحناه في سياق تفسيرها حيث يتبادر أن وقتها كان مساعدا في المدينة لاجتماع الناس من حيث الطقس ومن حيث الفراغ فحثّت الآية على المحافظة عليها بصورة خاصة. 5- والمتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي روجع وحلّ المسألة على اعتباره وليّ أمر المؤمنين وصاحب السلطان فيهم بالإضافة إلى نبوّته الشريفة. والمسألة

[سورة المائدة (5) : آية 109]

هي مسألة قضائية تكون بعده من نطاق سلطان وليّ أمر المسلمين أو من ينيبه عنه كما هو المتبادر. هذا، والآيات من جهة ما تؤكد واجب الوصية المأمور بها في الآيات [180- 182] من سورة البقرة والمنوّه بها في الآيات [11، 12] من سورة النساء وضرورتها بصورة عامة. كما تؤكد واجب الإشهاد عليها تفاديا من التلاعب والتبديل فيها وفي هذا تعليم للمسلمين وحرص على نفاذ الوصية وحقوق أصحاب الحق فيها. وتلقين مستمر المدى كما هو واضح يضاف إلى التلقين المنطوي في آيات سورة البقرة والذي نوّهنا به في سياق تفسيرها بما يغني عن التكرار. وجملة إِنِ ارْتَبْتُمْ في الآية [106] جديرة بالتنويه حيث يتبادر أنّه ينطوي فيها أن اليمين لا يلزم أولا يحسن أن يطلب من الشاهد إلا في حالة الارتياب. وأنه في غير هذه الحالة يصحّ أن تقبل شهادة الشاهد بغير يمين وقد يسوغ أن يزاد إلى هذا أن الشاهد يجب أن يحلف إذا طلب صاحب الحق أن يحلف أيضا، من حيث إن طلب صاحب الحقّ قد يكون ناشئا عن الارتياب. ولسنا نرى هذا متعارضا مع الحديث الذي رواه الترمذي عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «البيّنة على المدعي واليمين على المدعى عليه» «1» أو الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي عن ابن عباس وجاء فيه «قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل حلّفه احلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عندك شيء» «2» . والشهادة هي البينة. فإذا ارتاب الحاكم أو صاحب الحق وجب على الشاهد أن يؤدي شهادته بعد اليمين. والله تعالى أعلم. [سورة المائدة (5) : آية 109] يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109) . عبارة الآية واضحة. وقد قال المفسرون «3» ما مفاده إنها تحتمل أن تكون

_ (1) التاج ج 3 ص 55. (2) المصدر نفسه. (3) انظر تفسير الطبري والخازن وابن كثير وغيرهم.

[سورة المائدة (5) : الآيات 110 إلى 120]

متصلة بسابقاتها اتصال إنذار وتعقيب فيكون معناها «إن الله تعالى لا يوفق ولا يسعد الفاسقين المتمردين على أوامر الله الذين لا يتقونه في اليوم الذي يجمع الله فيه الرسل فيسألهم عما أجيبوا» . كما قالوا إنها تحتمل أن تكون بدء الفصل التالي ومقدمة له. وكلا الاحتمالين وجيه يتحمّله أسلوب الآية وسياق الكلام وإن كنّا نرجح الثاني لأن الآيات التالية تلهم أن حكاية تذكير الله بعيسى عليه السلام ومخاطبته له مما سوف يكون في يوم القيامة فتكون الآية متسقة مع هذا أكثر لهذا السبب. وهذا الاتساق يبدو واضحا أكثر أيضا في حكاية جواب عيسى عليه السلام لله تعالى في الآيات [116- 118] إذا ما أمعن النظر فيها. وإذا صحّ توجيهنا فتكون الآية بدء فصل جديد لا تبدو صلة ما بينه وبين الآيات السابقة ويحتمل أن يكون نزل عقبها بدون فاصل فوضع بعدها والله أعلم. ولقد تعددت التأويلات المعزوة إلى علماء التأويل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم لجملة لا عِلْمَ لَنا لأن رسل الله يعلمون على الأقل ماذا أجيبوا في حياتهم. فمنهم من قال إن جوابهم نتيجة ذهول من هول الموقف. ومنهم من قال إنهم قصدوا به أن لا علم لنا إلّا علما أنت أعلم به منّا. والذي يتبادر لنا أن الجملة الجوابية جملة أسلوبية وأن المراد منها بيان كونهم لم يعرفوا إلّا القليل الظاهر في حين أن الله عزّ وجل يعلم الحقائق ما ظهر منها وما خفي وما وقع منها في حياتهم وبعدها. [سورة المائدة (5) : الآيات 110 الى 120] إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115) وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) .

(1) مائدة: قيل إنها من ماده يميده بمعنى موّنه وأطعمه مرادفا لجذر ماره يميره أو بمعنى أعطاه ورفده. وقيل إنها من ماد يميد بمعنى تحرك وإن الكلمة تعني الخوان الذي يوضع عليه الطعام لأنه يتحرك وضعا ورفعا، أو لأنها تميد بمن يتقدم إليها من الآكلين. وعلى كل حال فقد صارت بمعنى الخوان الذي يوضع عليه الطعام. (2) عيدا: معنى الكلمة في الأصل العائد ثم صارت بمعنى العائد من أسباب السرور أو الفرح، والعائد من أسباب العبادة أو من أسباب ما هو جدير بالحفاوة.

تعليق على الآية إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك ... إلخ وما بعدها لآخر السورة وما فيها من صور وأهداف وما ورد في صددها من روايات

تعليق على الآية إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ ... إلخ وما بعدها لآخر السورة وما فيها من صور وأهداف وما ورد في صددها من روايات عبارة الآيات واضحة. ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات وهي فصل جديد ولا صلة له بالآيات السابقة عدا الآية السابقة مباشرة لها من احتمال صلتها بها كمقدمة تمهيدية على ما ذكرناه ورجحناه قبل. ولقد احتوت الآيات مقطعين مختلفين في صيغة الخطاب متفقين في الموضوع والتوجيه: أولهما: تضمّن حكاية لتذكير رباني موجّه إلى عيسى عليه السلام بما كان من رعاية الله له ولأمّه ومن تأييده له وإظهار المعجزات على يديه. وإلهام الحواريين بالإيمان به وإنزال المائدة السماوية بناء على طلبهم منه والتماسه ذلك من الله عزّ وجلّ. وثانيهما: تضمّن حكاية سؤال موجّه إلى عيسى عليه السلام أيضا عما إذا كانت عقيدة النصارى بألوهيته وألوهية أمه نتيجة لقوله ذلك لهم وحكاية جواب عيسى على السؤال فيه تنصّل من ذلك وإشهاد لله على براءته منه وكونه لم يقل لهم إلّا ما أمره به أن اعبدوا الله ربي وربكم. ويتبادر لنا من أسلوب الآيات أن المقطع الأول هو تمهيد للمقطع الثاني. وأن الثاني قد تضمن فيما تضمّنه أو بعبارة أخرى استهدف فيما استهدفه التنديد بعقيدة النصارى بألوهية عيسى عليه السلام وأمّه. وتبرئة عيسى من هذه الدعوة وتحميل مسؤوليتها على المعتقدين بها. وتقرير حقيقة دعوة عيسى وكونه لم يقل إلّا ما أمره الله تعالى من أنه رسول الله وكونه إنما دعا الناس إلى عبادة الله وحده ربّه وربّهم، وكون ولادته وطفولته وكلامه الناس في هذه الطفولة وما جرى على يديه من معجزات إنما هو بإذن الله وعنايته وتأييده.

ولا نستبعد بل نرجح أن مشهدا ما قام بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين فريق من النصارى أو أن سؤالا ما وجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو أن بحثا ما أثير حول عيسى عليه السلام وشخصيته وأمّه ورسالته ومعجزاته فكان مناسبة لنزول هذه الآيات. لأن بعض ما جاء فيها بل أكثره قد جاء في آيات أخرى لمناسبات مروية ولا تبدو الحكمة في تكراره إلّا أن تكون مناسبة جديدة جريا على النظم القرآني والهدف القرآني في تكرار القصص. والقسم الأول من الآيات ورد ما يماثله بأسلوب آخر في سورة آل عمران. وكذلك ورد خبر تأييد الله تعالى عيسى عليه السلام بروح القدس في بعض آيات سورة البقرة. وعلقنا على هذا وذاك بما فيه الكفاية. والآيات هنا تلهم أنه استهدف تقرير كون ذلك إنما جرى بإذن الله تعالى. وهو ما تضمّنت الأناجيل المتداولة عبارات عديدة منسوبة لعيسى عليه السلام فيها اعترافه به. ومن الجديد في الآيات حكاية قول الذين كفروا من بني إسرائيل إن ما جاء به عيسى من الآيات والبينات هو سحر. وفي الأناجيل المتداولة اليوم حكاية قولهم حينما كان عيسى يشفي المجانين إنه يخرج الشياطين ببعل زيون رئيس الشياطين وإنّ به شيطانا «1» وكان بنو إسرائيل يعتقدون أن السحرة والعرافين يتعاملون مع الجن على ما أوردناه في سياق قصة موسى عليه السلام مع فرعون في سورة طه. وليس من مانع من أن يكون قولهم الصريح الذي حكته الآيات قد ورد في أناجيل وقراطيس لم تصل إلينا. ونحن نعتقد ذلك. والله تعالى أعلم. ومن الجديد في الآيات معجزة المائدة والتنصل المحكي على لسان عيسى عليه السلام من عقيدة النصارى بألوهيته وألوهية أمه. ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم في صدد معاني الآيات ومحتواها.

_ (1) انظر الإصحاحات 10 و 12 من إنجيل متى و 3 من مرقص و 11 من لوقا. [.....]

(فأولا) هناك رواية تذكر أن المائدة لم تنزل لأن الحواريين خافوا من إنذار الله بالعذاب بعد إنزالها فسحبوا طلبهم. ورواية أن عيسى عليه السلام قال لهم إن تصوموا ثلاثين يوما لله يؤتكم كلّ ما تسألونه فصاموا فطلبوا المائدة فأنزلها الله مع الملائكة طائرة على خوان. وجمهور المفسرين يديرون الكلام على أن المائدة قد نزلت. وقد روى الطبري بطرقه عن عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن الله أنزل عليهم مائدة من خبز ولحم وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا ولا يرفعوا لغد فخانوا وادخروا ورفعوا فمسخوا قردة وخنازير» . وقد روى هذا الحديث الترمذي أيضا عن عمار «1» . ويظهر أن هذا الحديث لم يصح عند كثير من المؤولين الأولين كابن عباس والسدّي والحسن وعكرمة وقتادة حيث روى الطبري عنهم روايات عديدة أخرى في صدد المائدة. ولو صحّ لكان الفيصل في هذه المسألة لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو صاحب الصلاحية في الإخبار عن مثل هذه الأمور الغيبية. والحديث بعد غير متطابق تماما مع فحوى الآية وما رواه أهل التأويل وأورده المفسرون، ولا يخلو من أمور غريبة عجيبة أيضا: (1) إن المائدة سمكة مشوية بدون فلوس وشوك ومعها ملح وبقل وخلّ وخبز عليه سمن وعسل وجبن وزيتون وقديد. (2) إنها سبعة أرغفة وسبعة حيتان. (3) إنها سمكة فيها طعم من كل طعام. (4) إنها من كل طعام عدا اللحم. (5) إنها من ثمار الجنة. (6) إنها خبز ورز وبقل. (7) إنها كانت تنزل حيثما نزل عيسى والحواريون إلى أن سرق بعضهم منها فانقطع نزولها. (8) لما نزلت قالوا لعيسى كن أول الآكلين منها فقال معاذ الله أن آكل منها

_ (1) التاج ج 4 ص 97.

فخاف الحواريون فلم يأكلوا منها فدعا أهل الفاقة والمرضى والمجذومين والبرص والمقعدين فأكلوا فلم يأكل فقير إلّا غني ولا مبتل إلّا عوفي، وبقيت على هيئتها ثم طارت كما نزلت. وظلت تنزل أربعين ضحى فيقبل الناس على الأكل منها ثم تبقى على هيئتها! ولم يرد شيء من ذلك في الصحاح. وننبه على أن قصة المائدة لم ترد في الأناجيل المتداولة على الوجه الذي جاءت عليه في الآيات أو مقارب له. وإنما ورد فيها قصة معجزة لعيسى عليه السلام حيث قدم لجمع يبلغ خمسة آلاف خمسة أرغفة وسمكتين بعد أن قطعها فأكلوا وشبعوا وبقي من الكسر ما ملأ اثنتي عشرة قفة أو سبعة سلال «1» . وفي الإصحاح العاشر من سفر أعمال الرسل- من ملحقات الأناجيل التي سمّي مجموعها العهد الجديد- قصة فيها شيء مقارب جاء فيها «إن سمعان أحد حواريي المسيح الملقب بطرس كان في الطريق إلى يافا فجاع ووقع عليه انجذاب فرأى السماء مفتوحة ووعاء هابطا كأنه سماط عظيم معقود من أطرافه الأربعة ومدلّى على الأرض وكان فيه من كل ذوات الأربع ودوابّ الأرض وطيور السماء وإذا بصوت يقول قم يا بطرس اذبح وكل فقال بطرس حاشا يا رب فإني لم آكل قط نجسا أو دنسا فخاطبه الصوت ثانية ما طهره الله لا تنجسه أنت. وحدث هذا ثلاث مرات ثم رفع الوعاء إلى السماء» «2» . غير أن المتبادر أن هذه القصة وتلك ليستا هما المائدة القرآنية. ويوجد في بيت المقدس مكان تقليدي يحترمه المسلمون والنصارى معا يعرف ببيت المائدة في العمارة المعروفة بالنبي داود حيث قد يفيد هذا أن النصارى أو فريقا منهم كانوا يتداولون خبر معجزة مائدة نزلت من السماء على المسيح والحواريين جيلا عن جيل. والروايات المأثورة عن زمن النبي صلى الله عليه وسلم بقطع النظر عما فيها من غرابة قد تدل على أن قصة هذه المعجزة لم تكن مجهولة. ونحن نعتقد أن أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم قد عرفوها عن طريق النصارى كما نعتقد أنها كانت واردة في بعض أسفارهم التي لم تصل إلى عهدنا. والقصة إنما ذكرت في

_ (1) انظر إنجيل متى الإصحاح 6 ويوحنا الإصحاح 15 ومرقص الإصحاح 6 ولوقا الإصحاح 9. (2) النص منقول من النسخة الكاثوليكية.

القرآن بأسلوب خاطف لا بيان فيه على سبيل التذكير والاستطراد على ما يلهمه أسلوب الآيات وفحواها. ولا بدّ من أنها كانت معروفة في الوسط الذي كانت تتلى فيه لأن هدف القرآن التذكيري إنما يتحقق بذلك. وعلى كل حال فالإيمان بما أخبر القرآن به من خبر المائدة وما دار من حوار بين عيسى عليه السلام والحواريين في صددها ودعاء عيسى لله وجواب الله واجب. مع القول إنه لا بدّ لذكر ذلك بالأسلوب الذي جاء به من حكمة. ولعلّ من ذلك التلقين بعدم التثريب على الذين يرغبون في التماسهم رؤية بعض معجزات الله لأجل تقوية اليقين وطمأنينة القلب. وهو ما ذكر منه صورة عن إبراهيم عليه السلام على ما شرحناه في سياق الآية [260] من سورة البقرة. ثم الإنذار للذين يرتابون ويكفرون بعد ذلك بالله وآياته. وفي هذا وذاك تلقين مستمر المدى للمسلمين أيضا. والله تعالى أعلم. (وثانيا) إن الجمهور على أن المقطع التذكيري الأول هو مما سوف يخاطب الله تعالى عيسى عليه السلام به يوم القيامة يوم يجمع الله الرسل. أما المقطع الثاني الذي فيه سؤال الله لعيسى وجواب عيسى عليه فهناك من قال إنه هو أيضا سيكون يوم القيامة. وهناك من قال إنه كان يوم رفع الله عيسى عليه السلام إليه. وأصحاب القول الأول أولوا جملة هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ بأنها إشارة إلى ذلك اليوم الذي سوف يأتي. وأصحاب القول الثاني أولوها بأنها تنبيه تنويهي باليوم بمعنى هذا هو اليوم الذي ينفع الصادقين صدقهم. وليس هناك أثر نبوي ليكون حاسما. وقد صوّب الطبري القول الأول. ويتبادر لنا أن القول الثاني هو الأوجه لأن الكلام سياق واحد وأسلوب واحد. فالمقطع التذكيري الأول بدأ بجملة وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى والمقطع الثاني الذي فيه السؤال والجواب بدأ بنفس الجملة. ونقول في صدد الحوار الذي حكته الآيات بين الله تعالى وعيسى عليه السلام إن الإيمان بذلك واجب. ويتبادر لنا بالإضافة إلى ذلك أن من الحكمة في ذكره بالأسلوب الذي جاء به هو ما قلناه قبل التنديد بعقيدة النصارى في عيسى وأمه. وتبرئة عيسى من مسؤولية ذلك وتقرير حقيقة ما قاله للناس. وتقرير كون كل

ما خالف ذلك فيما أيدي النصارى من أناجيل وأسفار وما هم عليه من عقائد هو مخالف لما أمر الله عيسى عليه السلام أن يقوله أو لما قاله. والجمهور على أن كلمة نَفْسِكَ بالنسبة إلى الله التي حكيت على لسان عيسى هي في مقام الذات الإلهية وهو الصواب. وهو ما تكرر كثيرا في السور السابقة في هذا المعنى على ما نبهنا عليه. أما جملة تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ فالمتبادر أنها أسلوبية للمقابلة، وبسبيل التقرير بلسان عيسى بأن الله تعالى هو وحده الذي يعلم حقا بالنفوس وخلجات الصدور. وأنه هو وبالتالي سائر عباد الله لا يعلمون من أمر الله ومغيباته شيئا بقدرتهم والله تعالى أعلم. ونقول في صدد مدى ما ورد في الآيتين [116 و 117] من سؤال الله تعالى لعيسى عليه السلام عما إذا كان قال للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله وتنصّله من ذلك إن الطوائف النصرانية تسمّي مريم أمّ الله وأمّ الربّ وتتعبّد لها كما تتعبّد لعيسى عليه السلام على اعتبار أنه إله. أو الله. حيث ينطوي في هذا مصداق الخبر القرآني كما هو واضح. وجواب عيسى عليه السلام المحكي بأنه لم يقل لهم إلا ما أمره أن يقوله وهو اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ متسق مع عبارات كثيرة وردت في الأناجيل المتداولة المعترف بها مما أوردنا نماذج منها في سياق تفسير سورة مريم. وأسلوب تنصّله المحكي قوي محكم. وموجّه إلى العقول والقلوب معا ويتبادر لنا أن هذا من أهداف الآيات لتدعيم ما قرره القرآن من نبوّة عيسى وعبوديته لله ومن وضع الأمر في شأنه في نصابه الحق. ثم لتدعيم دعوة النصارى إلى الارعواء وترك ما هم عليه من غلوّ وانحراف والرجوع إلى عقيدة وحدانية الله تعالى وتنزيهه عن كل شائبة وتعدد وكون عيسى رسولا من رسل الله وحسب دعا مثلهم إلى عبادة الله ربّه وربّ جميع الناس. وتعبير مِنْ دُونِ اللَّهِ المحكي عن لسان عيسى لا يقتضي أن يكون قال لهم اتخذوني إلها لكم بدلا من الله. ويصحّ أن يكون قصد بها (مع الله) وبهذا يزول

ما قد يورده النصارى من أن عيسى لم يقل ما جاء في القرآن بحرفيته. على أن في القرآن شواهد على أن جملة مِنْ دُونِ اللَّهِ لا تعني بدلا من الله أو مكان الله. فآية سورة الزمر هذه وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [3] . وآية سورة يونس هذه وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) صريحتان بأن الذين يعبدون من دون الله ويتخذون أولياء من دون الله لا ينكرون الله ويؤمنون به وإنما عبدوا من دون الله واتخذوا أولياء من دون الله مع الله وللاستشفاع بهم لديه. هذا، وهناك حديث يرويه الشيخان في سياق الآية [117] عن ابن عباس قال «خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا أيها الناس إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا ثم قرأ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ [الأنبياء: 104] ثم قال ألا وإنّ أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم. ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول يا ربّ أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ فيقال إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم» «1» . وهذا خبر عن مشاهد الآخرة عن رسول الله فيوقف عنده ويؤمن به كما هو شأن أمثاله من أخبار المشاهد الأخروية في القرآن والأحاديث الصحيحة. والحكمة الملموحة في الحديث بالإضافة إلى ذلك الخبر الأخروي هي التأسي بكلام عيسى المحكي في الآية بسبيل التنصّل مثله مما قد يرتكس فيه بعض أمته من بعده من انحراف وشذوذ، وإنذار لأمته بذلك بقصد حملهم على خوف الله وتقواه واجتناب الشذوذ والانحراف. والله أعلم.

_ (1) التاج ج 4 ص 111.

والآية [119] تنطوي على تنويه بالصادقين وبشرى لهم. وإطلاقها يفيد أنها في صدد كل صادق في إيمانه مستقيم على طريق الحقّ السوي. فهذا الصدق في هذا النطاق هو الكفيل بنجاة أصحابه يوم القيامة. وبنيل رضاء الله عنهم ورضائهم عنه عز وجل بما يكون لهم منه من تكريم. وطابع الختام بارز على الآية الأخيرة. مما تكرر مثله في خواتم سور عديدة. ولقد وقف ابن كثير عند الآية [118] فقال إن لها شأنا عظيما ونبأ عجيبا. ثم أخذ يورد بعض أحاديث نبوية في سياقها. منها حديث رواه الإمام أحمد عن أبي ذرّ بصيغتين هذه إحداهما «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم صلّى ذات ليلة فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها وهي إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) فلما أصبح قلت يا رسول الله ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت تركع بها وتسجد بها قال إني سألت ربي عزّ وجل الشفاعة لأمتي فأعطانيها وهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئا» ومنها حديث أخرجه ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو قال «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول عيسى إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) ، فرفع يديه فقال اللهمّ أمتي وبكى فقال الله يا جبريل اذهب إلى محمد، وربّك أعلم، فاسأله ما يبكيه فأتاه جبريل فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال. فقال الله يا جبريل اذهب إلى محمد فقل إنّا سنرضيك في أمّتك ولا نسوءك» وهذه الأحاديث لم ترد في الصحاح. ولا يمنع هذا صحتها. وفيها صورة من صور تأسي النبي صلى الله عليه وسلم بمواقف وأقوال بعض الأنبياء في مناجاة الله عزّ وجل وصورة من صور عبادة النبي صلى الله عليه وسلم وشفقته بأمّته. ومشهد من المشاهد الروحانية التي طمأنه فيها الله تعالى بأنه سيرضيه في أمته ولا يسوءه. وفيها في النهاية تطمين وبشرى لمن لا يشرك بالله شيئا من أهل هذه الأمة. والله تعالى أعلم.

سورة الممتحنة

سورة الممتحنة في السورة نهي عن موالاة الكفار الأعداء المعتدين مهما ربطت بينهم وبين المسلمين أرحام. ودعوة للتأسي بإبراهيم والمؤمنين معه في موقفهم من قومهم الكافرين. وتأميل باهتداء الكفار. وتقرير بأن النهي لا يتناول المسالمين بحيث لا حرج على المسلمين من موادة هؤلاء والبرّ بهم. وإنما يتناول الأعداء المؤذين والمتظاهرين معهم على الإسلام والمسلمين. وأمر بعدم إرجاع المسلمات المهاجرات إلى الكفار. وتحريم بقاء المسلمين مرتبطين بزوجاتهم الكافرات. وأمر بمبايعة المسلمات وأخذ العهد عليهن استقلالا. وانطوى في السورة صور عديدة من السيرة النبوية. وتلقينات جليلة المدى. وهي فصلان مستقلان في الموضوع متناسبان في الظروف. وإذا صحت الروايات التي سوف نوردها بعد فإن الأمر بمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء المسلمات يكون قد نزل بعد الفتح المكي. وعلى كل حال فالذي نرجحه أنها من السور التي ألفت تأليفا في وقت متأخر بعد نزول ما اقتضت حكمة الله ورسوله أن تحتويه من فصول. والمصحف الذي اعتمدنا عليه وكذلك روايات ترتيب النزول الأخرى «1» تذكر أن هذه السورة نزلت بعد سورة الأحزاب وقبل سورة الفتح التي احتوت إشارة إلى رحلة الحديبية وصلحها بسور عديدة. في حين أن مضامينها والروايات الواردة في صددها تسوغ القول- بقوة- بأنها نزلت بعد ذلك الصلح، بل وبين يدي فتح

_ (1) انظر روايات ترتيب نزول السور المدنية في كتابنا سيرة الرسول ج 2 ص 9.

[سورة الممتحنة (60) : الآيات 1 إلى 6]

مكة الذي كان بعد ذلك الصلح بسنتين. وهذا ما جعلنا نخالف روايات الترتيب فيها كما فعلنا في بعض السور ونؤخرها إلى ما بعد سورة الفتح التي نزلت عقب ذلك الصلح مباشرة ثم إلى ما بعد سورة المائدة التي نزل فصلها الأول كذلك عقبه على ما شرحناه في سياق تفسير السورتين. وبذلك يتم التساوق في ترتيب النزول في نطاق ما هو معروف من صحيح الوقائع. والله أعلم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الممتحنة (60) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) . (1) إن يثقفوكم: هنا بمعنى إن يلقوكم ويظفروا بكم. عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت: (1) نداء للمؤمنين فيه نهي عن اتخاذ الكفار أولياء ونصراء وعن فعل ما فيه مودة ومحبة وفائدة لهم. وتعليلا لهذا النهي: فهم أعداء الله تعالى وأعداؤهم.

كفروا بما جاءهم من عند الله من الحقّ وآذوهم وآذوا رسول الله واضطروهم إلى الخروج من وطنهم بدون ذنب بسبب إيمانهم بالله وحده. (2) وتنبيها لهم بأن فعل ما فيه مودة للكفار وبخاصة بصورة سرّية متناقض مع الإخلاص في الإيمان إذا كانوا حقّا مخلصين فيه وإذا كانوا حقّا قد هاجروا من وطنهم ابتغاء وجه الله وجهادا في سبيله. (3) وإنذارا بأن الله يعلم ما يخفون وما يعلنون وبأن من يوادّ الكفار منهم يكون قد ضلّ عن السبيل الحقّ وانحرف عن واجب الإخلاص. (4) وتذكيرا لهم بشدة حقد الكفار عليهم: فهم لو لقوهم وظفروا بهم لعاملوهم معاملة الأعداء الألداء ولبسطوا إليهم أيديهم وألسنتهم بالشرّ والأذى. وإنهم ليودّون أن يكفروا بعد إيمانهم. (5) وتقريرا بأنه لن تكون أية فائدة ونفع للأرحام والأولاد يوم القيامة وبأن الله تعالى سوف يفصل بينهم فيه حسب أعمالهم وهو البصير الرقيب على كل ما يفعلونه. (6) وضرب مثل لهم بموقف إبراهيم والذين آمنوا معه من قومهم: فقد أعلنوا جهرا ومواجهة براءتهم من قومهم وما يعبدونه من دون الله. وعالنوهم العداء والبغضاء إلى الأبد ما داموا كفارا، مقررين إيمانهم بالله وحده وإسلام النفس إليه واعتمادهم عليه. معترفين بأنه هو مرجعهم. طالبين منه المعونة. ملتمسين منه أن لا يجعلهم موضع فتنة الكفار وأذاهم. وأن يغفر لهم هفواتهم وذنوبهم. وفي هذا الأسوة الحسنة للمؤمنين المخلصين حقّا الذين يرجون رضاء الله وحسن العاقبة في اليوم الآخر. أما الذين ينحرفون عنه فهم وشأنهم والله غني عنهم حميد للمخلصين الصادقين. وقد احتوت الآية الرابعة استدراكا فيه حكاية لما وعد إبراهيم به أباه من استغفار الله له مع إعلانه أنه لا يملك له من الله شيئا.

تعليق على الآية يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ... إلخ والآيات الخمس التي بعدها وما ورد في صددها من روايات وأقوال وما انطوى فيها من صور وتلقين

تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ ... إلخ والآيات الخمس التي بعدها وما ورد في صددها من روايات وأقوال وما انطوى فيها من صور وتلقين ولقد روى المفسرون «1» بطرق عديدة المناسبة التي نزلت فيها هذه الآيات. ورواها البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود أيضا فاخترنا إيراد نصّهم حيث جاء فيه «2» عن علي بن أبي طالب أنه قال: «بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإنّ بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها، فذهبنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا أخرجي الكتاب قالت ما معي كتاب فقلنا لتخرجنّ أو لتلقينّ الثياب فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبيّ صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين ممّن بمكة يخبرهم ببعض أمر النبيّ فقال ما هذا يا حاطب؟ قال لا تعجل عليّ يا رسول الله إني كنت امرأ من قريش ولم أكن من أنفسهم. وكان المهاجرون لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة فأحببت إذ فاتني النسب فيهم أن أصطنع إليهم يدا يحمون قرابتي وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم إنه قد صدقكم، فقال عمر دعني يا رسول الله فأضرب عنقه. فقال إنه شهد بدرا وما يدريك لعلّ الله عزّ وجلّ اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فنزلت الآيات» وفي رواية أوردها الطبري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقولوا له إلّا خيرا» . ولقد روى البغوي في تعريف المرأة خبرا فيه صورة طريفة حيث روي أنها مولاة لبني عبد المطلب قدمت إلى المدينة فسألها النبي صلى الله عليه وسلم: أمسلمة جئت؟ قالت: لا، قال: أمهاجرة؟ قالت: لا، قال: فما جاء بك؟ قالت: كنتم الأهل

_ (1) انظر الطبري والبغوي والزمخشري وابن كثير والخازن والطبرسي. (2) التاج ج 4 ص 233.

والعشيرة والموالي وقد ذهبتم فاحتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني فقال لها: وأين أنت من شباب مكة- وكانت مغنية نائحة- فقالت: ما طلب مني شيء بعد بدر. فحثّ النبي صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وبني المطلب فأعطوها وكسوها وحملوها. فاغتنم حاطب عودتها فأعطاها مبلغا من المال وحملها الرسالة. ومضمون الآيات واختصاصها المهاجرين بالخطاب يؤيدان صحة الرواية. غير أن أسلوبها يلهم أن النهي والتحذير والتنبيه موجه إلى جملة من المسلمين. وإذا كانت نزلت في مناسبة رسالة حاطب- وهذا قوي الرجحان لتعدد الروايات بطرق مختلفة وعدم الاختلاف فيها- فإن أسلوبها الشديد وما ورد في مواضع عديدة من السور المدنية من آيات فيها نهي عن اتخاذ الآباء والأبناء والعشيرة والإخوان أولياء وموادتهم، وإنذار لمن يفعل ذلك كما جاء في آية سورة المجادلة هذه: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ.... وآيات سورة التوبة هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24) . فكل هذا يسوغ القول بأنه كان يعتلج من حين لآخر في نفوس بعض المهاجرين أزمات نفسية بسبب ما صار إليه الأمر من العداء والبغضاء والدماء والتناكر الشديد بينهم وبين أهل مكة الذين تربط بينهم الأرحام والعصبيات والمصالح المتنوعة في ظرف كان للأرحام وعصبيتها أثر نافذ عميق في الحياة

الاجتماعية. وأن هذا كان يسوق بعضهم إلى ما لا ينبغي من مواقف وعواطف وتصرفات فاقتضت حكمة التنزيل توجيه الخطاب إلى الجميع بما فيه من شدّة وإنذار وتنبيه. ولعل في الآيات التالية قرينة على هذا التوجيه على ما سوف نشرحه. ولقد اختلفت الروايات التي رواها المفسرون «1» عن أهل الصدر الأول في ظروف إرسال الرسالة حيث روي أن حاطب أرسلها في مناسبة اعتزام النبي صلى الله عليه وسلم تسيير جيش نحو مكة بعد وقعة بدر بسنتين. وروي أنه أرسلها في مناسبة اعتزام النبي صلى الله عليه وسلم السفر إلى مكة للعمرة وهي السفرة التي أدت إلى صلح الحديبية. وروي أنه أرسلها في مناسبة اعتزام النبي صلى الله عليه وسلم على غزو مكة لفتحها بعد هذا الصلح بسنتين. وفي المقطع الثاني من السورة قرينة تكاد تكون حاسمة على أنها نزلت بعد صلح الحديبية. وهذا ما يجعلنا نرجح الرواية الثالثة. ولعل الرواية الأولى أو الثانية هما اللتان جعلتا رواة ترتيب لنزول يرتبون نزول السورة بعد سورة الأحزاب. والله أعلم. والآيات كما هو ظاهر احتوت تعليلا لوصف الكفار بالأعداء والنهي عن موادتهم بما كان من كفرهم وبدئهم المسلمين بالأذى وإلجائهم إلى الخروج من وطنهم وإضمارهم لهم العداء والسوء وتمنّي ارتدادهم عن دينهم وكفرهم به. وهذا متسق مع ما تكرر تقريره في القرآن ونبهنا عليه من كون موقف المسلمين العدائي نحو غيرهم هو موقف دفاع ومقابلة بالمثل وحسب. وقد انطوى فيها في الوقت ذاته مبدأ في غاية العدل والحق والتمشي مع طبائع الأمور دائما وهو عدم موادة المسلمين لأناس يبدأونهم بالعدوان والأذى ويضمرون لهم الشر والسوء وعدم جواز اطلاعهم على أسرارهم. ووجوب الوقوف منهم موقف الحذر والاستعداد وفي هذا وذاك تلقين مستمر المدى للمسلمين في كل ظرف ومكان. وفي التصرف الذي تصرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم والحديث الذي قاله في حق أهل

_ (1) انظر الطبري والبغوي والنيسابوري والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري.

بدر تلقين مستمر المدى كذلك بالإغضاء عن موقف قد يصدر من بعض الناس عن ضعف نفسي مهما كان خطير المدى والأثر إذا ما كان هناك يقين بأن صاحبه مخلص غير خائن ولا غادر وله مواقف تضحية وإخلاص سابقة مشهودة. والأسوة التي دعت الآيات المسلمين إلى التأسي بها رائعة قوية الإحكام من ناحيتين. الأولى كونها عائدة إلى إبراهيم عليه السلام، والذين آمنوا معه في ظرف يتداول سامعو القرآن من المسلمين أنه أحد آبائهم ويأمر القرآن النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول إنّ ربّه هداه إلى صراط مستقيم دينا قيما ملّة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين كما جاء في الآية [161] من سورة الأنعام. والثانية شدة حسم الأسلوب الذي يعلن به إبراهيم عليه السلام والذين آمنوا معه لقومهم الكفار العداوة والبغضاء أبدا ما لم يؤمنوا بالله وحده. في ظرف تعتلج في نفوس بعض المسلمين أزمة من جراء ما بينهم وبين الكفار من قومهم من أرحام ووشائج ومصالح. وأهل التأويل من التابعين متفقون على ما ذكره المفسرون «1» على أن جملة إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ هي استثناء للأسوة أي أن المسلمين لهم أسوة بإبراهيم والذين آمنوا معه إلّا قول إبراهيم هذا فليس لهم فيه أسوة. بل قد روى الطبري عن مجاهد أن المسلمين نهوا بهذه الآية عن الاستغفار للمشركين. ونحن نتوقف في التسليم بهذا التخريج والاستنتاج. ويتبادر لنا أن الاستدراك استطرادي لحكاية وعد إبراهيم عليه السلام وحسب. ولو كان فيه معنى النهي لما أمكن أن يستغفر النبي صلى الله عليه وسلم وبعض المؤمنين لبعض أقاربهم المشركين وهو ما أشير إليه بأسلوب عتابي في آية سورة التوبة التي نزلت بعد هذه السورة وهي: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) . ويظهر أنهم فعلوا ذلك اقتداء بإبراهيم عليه السلام الذي وعد أباه بالاستغفار على ما أخبر بذلك القرآن في آية سورة مريم هذه: قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) . فاقتضت

_ (1) انظر الكتب السابقة الذكر.

[سورة الممتحنة (60) : الآيات 7 إلى 9]

حكمة التنزيل أن تنزل آية أخرى مع آية التوبة وهي: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) . فعدم التأسي وجب بناء على ذلك وليس بناء على الآية التي نحن في صددها كما يبدو ذلك بكل قوّة من آيتي سورة التوبة. والله أعلم. ولأهل التأويل من التابعين تخريجان لجملة: رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا على ما ذكره المفسرون. أحدهما أنها بمعنى (ربنا لا تصبنا ببلاء وعذاب لئلا يقولوا إنهم لو كانوا على حقّ لما أصابهم هذا البلاء والعذاب من الله) فيكون بذلك فتنة لهم تجعلهم يستمرون على كفرهم. وثانيهما بمعنى (ربنا لا تظهرهم علينا فيفتتنوا بذلك ويقولوا لو كانوا على حقّ لما غلبناهم) وكلا التخريجين وجيه. [سورة الممتحنة (60) : الآيات 7 الى 9] عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) . تعليق على الآية عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً ... إلخ والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وأحكام وتلقين عبارة الآيات واضحة. وقد انطوى في الآية الأولى تأميل للمؤمنين الذين وجّه الخطاب إليهم بأن يجعل الله بينهم وبين من عادوهم مودّة بعد العداء وتواصلا بعد الجفاء والقطيعة: فالله قدير على ذلك. وهو غفور رحيم يغلب غفرانه ورحمته في معاملة الناس. وفي الآيتين الثانية والثالثة تنبيه تقريري بأن الله لا ينهاهم عن البرّ والإقساط وحسن التعامل مع الذين لم يقاتلوهم ولم يعتدوا على حريتهم ولم

يؤذوهم بسبب دينهم ولم يضطروهم إلى الجلاء عن وطنهم من الكفار. فإن الله يحبّ المقسطين الذين يعاملون غيرهم بالعدل والقسط إذا لم يصدر منهم مثل ذلك. وإنما ينهاهم عن موالاة وموادّة الذين قاتلوهم بسبب دينهم واعتدوا على حريتهم وآذوهم واضطروهم إلى الجلاء عن وطنهم أو ساعدوا على ذلك. فمن تولى هؤلاء فهو آثم ظالم لنفسه منحرف عن أمر الله تعالى. وقد روى ابن كثير عن مقاتل أن الآية الأولى نزلت في أبي سفيان حيث تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته أم حبيبة فكان ذلك مودّة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعزا الطبري إلى أهل التأويل من التابعين أن الله تعالى أخبر بالآية بما سوف يكون من إسلام كثير منهم ومن قيام حالة سلم بين بعضهم وبين المسلمين. أما في صدد الآيتين الثانية والثالثة فقد روي عن أهل التأويل من التابعين أقوال وروايات عديدة «1» . منها أنه عني بهما المسلمون الذين ظلوا في مكة أو حيث هم. ولم يهاجروا إلى المدينة. ومنها أنه عني بهما قبيلتا خزاعة ومدلج اللتان صالحتا النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا تقاتلاه ولا تعينا عليه. ومنها أنه عني بهما مشركو مكة الذين لم يقاتلوا المسلمين ولم يؤذوهم. ومنها أنه عني بهما من لم يؤذ المسلمين ويقاتلهم من المشركين عامة. ومنها ما جاء في حديث رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن الزبير قال: إن أمّ أسماء بنت أبي بكر قتيلة- وكان أبو بكر قد تزوجها في الجاهلية وطلقها ولم تسلم- قدمت على ابنتها في المدينة ومعها هدية لها فقالت لها لا تدخلي حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت ذلك لعائشة فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآيتين «2» .

_ (1) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي. (2) هذه الرواية وردت في حديث رواه الشيخان عن أسماء وليس فيه ذكر لنزول الآيتين بمناسبة ذلك حيث جاء في الحديث «قالت أسماء قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبيها فاستفتيت رسول الله فقلت إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها. قال نعم صلي أمك» التاج ج 5 ص 4 و 5. وعهد قريش هو صلح الحديبية الذي انعقد بين النبي وبينهم. وهذا الحديث يدعم ترجيحنا نزول السورة بعد صلح الحديبية بالإضافة إلى المقطع الثاني من السورة الذي يدعمه كما قلنا.

وقد فنّد ابن كثير رواية صلة أبي سفيان بالآية الأولى. وهو على حقّ. لأن أبا سفيان كان كافرا عدوا يقود جيش قريش لقتال المسلمين حين نزلت الآية. وكان زواج النبي صلى الله عليه وسلم ببنته قد تمّ وهي في الحبشة حيث هاجرت مع زوجها فمات عنها وخطبها النبي صلى الله عليه وسلم وهي في الحبشة وعقد له عليها وقدمت رأسا إلى المدينة على ما ذكرته الروايات «1» . والروايات إلى هذا تقتضي أن تكون الآيات الثلاث نزلت متفرقة، في حين أن الانسجام بينها قائم وقوي أولا. وأن الصلة بينها وبين سابقاتها سياقا وموضوعا ملموحة بقوة ثانيا. حيث اكتفي باستعمال ضمير الجمع المخاطب على اعتبار أن صفة المخاطب واضحة في الآيات السابقة وهي مهاجر والمسلمين. وحيث اكتفي بتعبير (منهم) للدلالة على أهل مكة الكفار الذين كانوا موضوع الحديث في الآيات السابقة. وفي الآيتين الثانية والثالثة دلالة أخرى على ذلك في تعبير الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ. ويتبادر لنا بناء على ذلك ومن روح الآيات وبخاصة الأولى أن الآيات السابقة قد أثرت تأثيرها المطلوب في نفوس المهاجرين، وحزّت في الوقت نفسه في قلوبهم، وأيأستهم أو كادت من أقاربهم وذوي أرحامهم الكفار. ولعل بعضهم فاتح النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر أو سأله عما إذا كان النهي شاملا لجميع أهل مكة الباغي منهم والمسالم على السواء فاقتضت حكمة التنزيل إيحاء الآيات للتنفيس والتأميل من جهة. وللتفريق بين الباغي والمسالم ووضع الأمر في نصابه الحق من جهة أخرى. ومن الممكن في الوقت نفسه أن يلمح فيها- وبخاصة في أولاها- بشرى تطمينية بين يدي ما اعتزمه النبي صلى الله عليه وسلم من غزو مكة- والآيات قد نزلت بين يدي هذا العزم على ما رجحناه استلهاما من الآيات والروايات- من

_ (1) انظر ابن هشام ج 4 ص 323 بل هناك خبر طريف ورائع وهو أن أبا سفيان جاء إلى المدينة بعد صلح الحديبية وقبل فتح مكة ليوثق ذلك الصلح فدخل إلى ابنته فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه فقال يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟ قالت بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك نجس فلم أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم (انظر ابن هشام ج 4 ص 12، 13) .

شأنها أن تشرح صدر المسلمين المهاجرين للغزوة وتهيىء نفوسهم لها وتبعث فيهم الإقدام والشوق والأمل بحسن النتائج، وانضواء كثير من الأقارب والأصدقاء إلى الإسلام، وانقلاب العداء والجفاء إلى مودة واجتماع. كما يمكن أن يلمح في الآيتين الثانية والثالثة أنه كان بين أهل مكة أناس لم يشتركوا في أذى المسلمين والتآمر عليهم مما هو طبيعي جدّا. وهذا الشرح لا يمنع أن تكون رواية قدوم أم أسماء المدينة واستفتاء ابنتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحة فكان في الآيات فتوى لها أيضا. هذا من الوجهة الزمنية المتصلة بالسيرة النبوية. أما من النواحي العامة فالآية الأولى متسقة مع الأسلوب القرآني في جعل الباب مفتوحا أمام غير المسلمين سواء أكانوا أعداء محاربين أم غير ذلك للمسالمة والموادة والتوبة والإنابة والارعواء عن الغلو والمواقف المنبثقة من الغرض والمآرب والمكابرة والاستكبار أو الجهل مما مرّ منه في السور السابقة أمثلة كثيرة جدا نبهنا عليها في مناسباتها فلا ضرورة لتمثيل جديد. وفي عبارة الآية تلقين من شأنه أن يجعل أفق المسلمين واسعا وصدرهم رحبا ويحملهم على النظر في الأمور من أكثر من ناحية. ويبثّ فيهم أمل السلام والخير والاستبشار. ويجتث منهم العداء والحقد الشديدين. وفي هذا ما فيه من روعة وجلال. والآيتان الثانية والثالثة متسقتان بدورهما مع المبدأ القرآني العام الذي نبهنا عليه ونوهنا به في مناسبات سابقة عديدة والذي يقرر معاملة العداء للعدو المعتدي وحسب ويجعل ذلك مقابلة للعدوان وليس بدءا. أما الذين يوادون المسلمين ويكفون عنهم ألسنتهم وأيديهم من غير المسلمين فلا يعتبرون أعداء ولا مانع من برّهم والإقساط إليهم. بل إن أسلوب الآية الثانية ينطوي على الحثّ والتشويق على ذلك. وفي الآيتين إلى هذا تقرير وتنظيم للمناسبات بين المسلمين وغيرهم أولا. وفرض لوجود طبقة بين مشركي العرب وكفار الكتابيين يمكن تسميتها بالمسالمين ثانيا. وهي على ما يتبادر لنا غير طبقة المعاهدين الذين يقوم بينهم وبين المسلمين

ميثاق صلح وسلام دون خضوع وجزية وبعد عداء وقتال أو بدون قتال مثل ما صارت الحالة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش نتيجة صلح الحديبية وقبائل أخرى مما ذكرته الروايات «1» . وهي كذلك غير طبقة الذين يدخلون في ذمة المسلمين وحكمهم وحمايتهم ويؤدون إليهم الجزية سواء أكان ذلك نتيجة قتال أم لا. مثل ما كان بين النبي صلى الله عليه وسلم ونصارى نجران والمدن اليهودية والنصرانية في مشارف الشام مما ذكرته الروايات كذلك «2» . أي الطبقة التي تكفّ ألسنتها وأيديها عن المسلمين ودينهم وتقف منهم موقف الحياد والمسالمة أو المودة بدون ميثاق مكتوب. وفيهما دلالة على عدم وجاهة القول بعدم قبول شيء غير الإسلام أو القتل من مشركي العرب. وبعدم قبول شيء غير الإسلام أو الجزية من أهل الكتاب. وعلى عدم وجاهة القول بإيجاب محاربة غير المسلمين مع إطلاق القول حتى يسلموا. فالقتال والعداء كما قررنا وذكرنا في مناسبات عديدة سابقة استلهاما من آيات عديدة صريحة أو ملهمة إنما شرعا بالنسبة للبادئين بقتال المسلمين وأذيتهم وفتنتهم أو الصادين عن سبيل الله ودينه أو من يساعد على ذلك ثم لمن ينكث عهده مع المسلمين ويتحول من موقف المعاهد إلى موقف العدو. ومع هؤلاء ينتهي الأمر بالإسلام أو المعاهدة أو الجزية فقط. وطبيعي أنه ليس كل غير مسلم يكون قد آذى المسلمين وقاتلهم واعتدى عليهم وصدّ عن سبيل الله حيث لا يمكن إلّا أن يكون فئات كثيرة في كل ظرف ومكان لم تفعل ذلك ولم تساعد عليه. فهؤلاء يباح البرّ والإقساط معهم بل يستحسنان. وهذا تشريع عام محكم ومستمر وشامل وفيه من الروعة والجلال ما يغني عن الإطناب. ومما يزيد في روعته وجلاله أن الآيات مطلقة لا تشترط بدءا من غير المسلمين في البر والإقساط والموادة. فيكفي من غير المسلم أن يكون مسالما غير مؤذ بلسانه أو يده مباشرة أو غير مباشرة ليكون موضع برّ المسلم ومودته وقسطه. والأمثلة على ذلك كثيرة في السيرة النبوية وعن الخلفاء الراشدين. فلم يقاتلوا ولم يأمروا بقتال غير الأعداء الذين يقاتلونهم وتركوا وأمروا

_ (1) ابن سعد ج 3 ص 139- 150. (2) ابن سعد ج 2 ص 41 وما بعدها وج 3 ص 70. [.....]

بترك من لا يقاتلهم ومن يكفّ عنهم لسانه ويده، ومن هو غير أهل للقتال من شيوخ ونساء وصبيان ورهبان «1» . ولقد قال بعض المفسرين وعزا بعضهم إلى بعض أهل التأويل من التابعين أن الآية الأولى منسوخة بخاصة بالنسبة لمشركي العرب بآية سورة التوبة هذه: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) . ونحن لا نعتقد ذلك وسياق هذه الآية السابق واللاحق لها لا يدعمه على ما سوف نشرحه في مناسبته. ولقد أورد الطبري هذا القول أيضا ثم فنده بقوله: «وأولى الأقوال بالصواب قول من قال عني بذلك لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين من جميع أصناف الملل والأديان أن تبرّوهم وتصلوهم وتقسطوا إليهم. وقد عمّ الله عزّ وجل جميع من كان ذلك صفته فلم يخصص به بعضا دون بعض، ولا معنى لقول من قال إن ذلك منسوخ. لأن برّ المؤمن لأهل الحرب «2» ممن بينه وبينه قرابة أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب غير محرم ولا منهي عنه أصلا إذا لم يكن في ذلك دلالة لهم على عورة لأهل الإسلام أو تقوية لهم بكراع أو سلاح» وفي هذا كل الحق والصواب إن شاء الله. والله أعلم. ولقد تحقق ما توقعته الآية الأولى وأمّلت المسلمين به فدخل معظم قريش ثم معظم العرب في دين الله في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وانقلب ما كان من عداء بينهم وبين المسلمين إلى مودّة وإخاء فكان ذلك من معجزات القرآن الباهرة. ولقد ترد ملاحظة على الفرق في التعبير في الآيات. ففي الآية الثانية استعمل

_ (1) انظر ابن سعد ج 3 ص 132 وتاريخ الطبري ج 2 ص 587. (2) أهل الحرب اصطلاح فقهي كان مطلقا في العصور الإسلامية الأولى على أهل البلاد التي أهلها كفار. ولم يكن الإطلاق سليما إلا في حالة أن يكون بينهم وبين المسلمين حالة حرب وعداء. ويتبادر لنا أنه أطلق لأن البلاد التي كانت مجاورة لبلاد المسلمين كانت في حالة حرب مع المسلمين إما في حالة حرب قائمة أو في حالة حرب متوقفة بهدنة. وكلام الطبري هو في صدد من يكونون غير محاربين للمسلمين ولا متآمرين عليهم من أهل هذه البلاد.

[سورة الممتحنة (60) : الآيات 10 إلى 11]

(البرّ والإقساط) وفي الآية الثالثة استعمل (التولّي) . ومع التسليم بما بين التولّي والبرّ من فرق فإن الآيات وروحها وروح آيات أوائل السورة معا تلهم أن القصد من التولّي هنا هو فعل ما ليس فيه مصلحة وخير للمسلمين أو ما فيه ضرر وخطر. وهذا يشمل التحالف كما يشمل التعاون والتحذير والتواصل والتراسل والتوادّ. [سورة الممتحنة (60) : الآيات 10 الى 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) . (1) فامتحنوهن: اختبروا صحة دعواهن الإسلام. (2) وآتوهم ما أنفقوا: الضمير راجع إلى الكفار أزواج اللائي جئن إلى المدينة مهاجرات مؤمنات. والجمهور على أن جملة ما أَنْفَقُوا تعني مهور النساء. (3) عصم: القصد منها عقود الزوجية. (4) الكوافر: جمع كافرة. (5) وإن فاتكم: بمعنى إن ضاع عليكم أو ذهب منكم أو فرّ من عندكم. (6) فعاقبتم: فكان لكم عقبى بالنصر وحصلتم على غنائم من أعدائكم. الخطاب في الآيات موجّه إلى المسلمين. وقد تضمنت: (1) أمرا بامتحان من يأتين إليهم مؤمنات مهاجرات واختبار صحة دعواهن الإيمان أو التوثّق منها.

تعليق على الآية يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ... إلخ والآية التي بعدها وما ينطوي فيهما من أحكام وصور وتلقين

(2) ونهيا عن إعادتهنّ إلى الكفر إذا ثبتت صحة دعواهنّ لأنهنّ يكنّ قد أصبحن محرّمات على الكفار وأصبح الكفار محرّمين عليهنّ. (3) وأمرا بالتعويض على أزواجهم الكفار ما أنفقوه عليهن. (4) وإباحة لهم أن يتزوجوا باللائي جئن مؤمنات مهاجرات. (5) ونهيا لهم عن الاستمرار في التمسك بأنكحة زوجاتهم اللاتي بقين على كفرهن وتخلفن عنهم مع تقرير حق الأزواج بمطالبة ذويهن الكفار بما أنفقوا عليهن وحقّ الأزواج الكفار بالمطالبة بما أنفقوه على زوجاتهم اللاتي أسلمن وهاجرن. (6) وتقريرا لحق الأزواج المسلمين الذين تلتحق زوجاتهم بذويهن في دار الكفر باستيفاء ما أنفقوه عليهن من الغنائم التي قد تقع في أيدي المسلمين من أموال الكفار حينما يتيسر لهم ذلك. (7) وتنبيها إلى أن هذه الأحكام هي أحكام الله التي يجب السير في نطاقها وهو العليم بمقتضيات الأمور الذي يقرر ما فيه الحكمة والصواب. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ... إلخ والآية التي بعدها وما ينطوي فيهما من أحكام وصور وتلقين ولقد روى المفسرون «1» أن الآية الأولى نزلت في نسوة جئن إلى النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرات مؤمنات من مكة بعد صلح الحديبية. ومنهم من روى أنهن جئن وهو في الحديبية بعد أن تمّ الاتفاق بينه وبين قريش وقبل أن يرجع إلى المدينة، ومنهم من ذكر أسماء اختلفت باختلاف الروايات مثل سبيعة بنت الحارث الأسلمية زوجة من بني مخزوم أو زوجة صيفي الراهب أو أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت عاتقا- غير متزوجة- أو أميمة بنت بشر إحدى نساء بني أمية بن زيد بن أوس الله كانت عند ثابت بن الدحداحة، فجاء ذووهن أو أزواجهن في طلبهن استنادا إلى

_ (1) انظر الطبري والبغوي.

شروط الصلح التي تنصّ على إرجاع النبي صلى الله عليه وسلم من يأتيه من مكة بدون إذن وليّه ولو جاء مسلما. فأمر الله في الآية بعدم إرجاعهن. واحتمال صحة إحدى الروايات قوي مع ترجيحنا وقوع الحادث بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بمدة ما على ما تلهمه روح الآية ومقامها المتأخر كثيرا عن سورة الفتح. فلو لم يكن هناك عهد لما كان ضرورة للأمر بعدم الإرجاع ولما كان هناك مجال لمجيء الكفار ومطالبتهم بالإرجاع كما هو ظاهر. والآيتان وحدة تشريعية تامة ومنسجمة بحيث يسوغ ترجيح نزولهما معا بقوة. وفيهما أمور ليست من أسباب ومحتوى الرواية حيث يصحّ القول بأن حكمة التنزيل اقتضت تضمين الآيتين أحكاما متصلة بأمور عديدة من باب واحد في مناسبة إحدى الحوادث المروية. ولقد تعددت روايات المفسرين في حقيقة شروط الصلح لمعرفة ما إذا كان في الأمر بعدم الإرجاع نسخ لبعضها. فمن هذه الروايات أن النصّ كان مطلقا «لا يأتيك أحد منّا بدون إذن أهله إلّا رددته ولو كان مسلما» ومنها أنه كان بهذه الصيغة «لا يأتيك رجل منّا.. إلخ» ومنها أنه كان في شأن النساء فقط هكذا «لا تأتيك امرأة ليست على دينك إلّا رددتها إلينا فإن دخلت في دينك ولها زوج تردّ على زوجها الذي أنفق» . وليس هناك نصّ للعهد في حديث صحيح. والنفس تطمئن إلى الرواية الأولى أكثر من غيرها. ولا سيما وهناك رواية ذكرت أن أبا جندل بن سهيل بن عمرو وكان مسلما قد قيده أبوه بالحديد وحبسه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية يرسف في أغلاله، وكان أبوه هو مندوب المفاوضة مع النبي صلى الله عليه وسلم وكان الاتفاق قد تمّ على الشروط فطلب الأب ردّ الابن تنفيذا للعهد فردّه النبي صلى الله عليه وسلم على ما شرحناه في سياق سورة الفتح. والرواية الثالثة متطابقة الفحوى مع الآية الأولى فلا يكون هناك ضرورة لأمر رباني ناسخ للاتفاق. وهذا فضلا عن أن نقض العهد الصريح وعدم تنفيذه لم يكن متسقا مع المبادئ القرآنية المكررة بشأن الوفاء بالعهود والعقود. وآيات سورة المائدة الأولى بخاصة قوية

شديدة في شأن صلح الحديبية على ما شرحناه في مناسبتها. ومن جهة أخرى فإن المشركين ما كانوا ليقبلوا بذلك. وكانوا اعتبروا الصلح منقوضا وحملوا تبعة نقضه على النبي صلى الله عليه وسلم. ولم يرو شيء من ذلك. والمأثور أن العهد ظلّ محترما معتبرا إلى أن نقضه أهل مكة وحلفاؤهم بنو بكر بعد سنتين فكان ذلك سببا لزحف النبي صلى الله عليه وسلم على رأس المسلمين على مكة وفتحها. والمتبادر أن قريشا كانوا يعتبرون نصّ العهد شاملا للنساء والرجال معا. فجاء ذوو النساء المهاجرات إلى المدينة ليطالبوا بردهن. ولم يكن هذا النصّ صريح الشمول فشاءت حكمة التنزيل أن يؤمر المؤمنون بعدم إرجاعهن ما دام ليس هناك نص صريح، ثم شاءت أن يعوض أزواجهن عن النفقة التي أنفقوها والتي يتفق المؤولون على أن المراد منها الصداق إرضاء لهم لأنهم كانوا يرون في المطالبة بردهن شبهة من الحق. ولم يرو أحد أنهم رفضوا هذا الحلّ حيث ينطوي في هذا أنهم لم يكونوا يرون أنفسهم محقين أو مستندين إلى نصّ صريح. وهو بعد حلّ فيه العدل والإحسان. وفيه تلقين جليل في كل موقف مماثل. ويلفت النظر خاصة إلى جعل الحقوق متبادلة بين المسلمين والكفار في مطالبة الأزواج المسلمين تعويضا عن نسائهم اللائي تخلفن عنهم أو التحقن بذويهم ولو كن كوافر أصلا أو ارتدادا وفي مطالبة الأزواج الكفار تعويضا عن نسائهم اللائي أسلمن والتحقن بالمسلمين. ففي ذلك تسوية متقابلة عادلة إنما تكون في ظروف عهدية وسلمية مستمرة ومحترمة من طرفيها. وفي ذلك أمارة من أمارات رحابة أفق وصدر الشريعة الإسلامية في المناسبات بين المسلمين وغير المسلمين، وتلقين جليل مستمر المدى في كل موقف مماثل أيضا. والحادث الذي نزلت الآيتان في مناسبته والأمر بعدم الإرجاع يدلان على كل حال على أن موقف المسلمين صار أقوى من موقفهم أثناء عقد صلح الحديبية فاقتضت حكمة التنزيل التساهل في مسألة ليس فيها نصّ صريح. في حين لم يكونوا في تلك الأثناء من القوة ما يكفي لإصرارهم على المساواة في بعض

الشروط وبخاصة في عدم إرجاع من يأتي إليهم من ناحية المشركين مقابل عدم إرجاع هؤلاء من يأتي إليهم من ناحية المسلمين مما كان مثيرا لنفوس بعض المسلمين على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الفتح. ولقد روى المفسرون «1» روايات عديدة في كيفية الامتحان الذي أمرت الآية الأولى به. منها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحلّف المرأة بالله أنها ما خرجت من بغض زوج ولا لالتماس دنيا وإنما خرجت حبّا لله ورسوله. ومنها أنه كان يحلّفها بأنها لم تخرج إلّا للدين. ومنها أنه كان يطلب منها بيعة بصيغة الآية التالية للآيتين. وهي «أن لا تشرك بالله شيئا ولا تسرق ولا تزني ولا تقتل أولادها ولا تأتي ببهتان تفتريه بين يديها ورجليها ولا تعصيه في معروف» . وهذه الرواية بخاصة من مرويات البخاري والترمذي في سياق تفسير الآية عن عائشة حيث قالت: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية» «2» ونحن نرجح هذه الرواية لأنها أوثق سندا وبقرينة ورود الآية التي تحتوي الصيغة بعد الآيتين. ولعلّها نزلت معهما. ولقد انطوى في الآيتين صور عديدة من صور السيرة النبوية في العهد المدني زادتها الروايات جلاء: (1) من ذلك أن بعض النساء المكيّات اللاتي أسلمن ولم يستطعن الهجرة وظلّت المتزوجات منهن في كنف أزواجهم المشركين كنّ يتحيّنّ الفرصة للهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تاركات وطنهنّ وأهلهنّ وأزواجهنّ على ما كان يحفّ هذا العمل من أخطار ومصاعب. وفي هذا صورة رائعة للمرأة العربية ودورها في الدعوة الإسلامية وما بثّه الإسلام فيها من قوة وإخلاص وجرأة وإقدام وتضحية. (2) ومن ذلك أن بعض زوجات المهاجرين تخلّفن عن أزواجهنّ محتفظات بشركهن. ومؤثرات أهلهنّ على أزواجهنّ، وممن روت الروايات أسماءهن قريبة

_ (1) انظر الطبري والبغوي والزمخشري وابن كثير والطبرسي والخازن. (2) انظر التاج ج 4 ص 233.

بنت أبي أمية بن المغيرة وأم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية زوجتي عمر بن الخطاب وأروى بنت ربيعة زوجة طلحة بن عبيد الله «1» . (3) ومن ذلك أن من المهاجرات من ارتددن وفررن من المدينة ولحقن بأهلهن. وممن ذكرت الروايات أسماءهن أم الحكم بنت أبي سفيان زوجة عياض بن شداد، وبروع بنت عقبة زوجة شماس بن عثمان، وعبدة بنت عبد العزى زوجة عمرو بن عبد ود، وهند بنت أبي جهل بن هشام زوجة هشام بن العاص بن وائل «2» . (4) ومن ذلك أن بعض المسلمين ظلوا يحتفظون بعقد زوجيتهم بالكافرات اللاتي تخلفن عنهم ولم يسلمن ولم يهاجرن. وممن ذكرت الروايات أسماءهن عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله وزوجاتهم اللاتي ذكرنا أسماءهن قبل قليل فطلقاهن بناء على أمر الله في الآية الأولى «3» . (5) ومن الصور الطريفة التي رواها الطبري أن زوجة أحد المسلمين فرت إلى مكة وجاءت في هذه الأثناء امرأة من مكة مهاجرة مؤمنة فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذهبت زوجته وقال للمرأة القادمة هذا زوج التي ذهبت إلى المشركين أزوجكه. فقالت يا رسول الله عذر الله زوجة هذا أن تفرّ منه لا والله ما لي به حاجة. فدعا رجلا جسيما اسمه البختري فقال لها هذا قالت نعم. ومما يلحظ أن آية سورة البقرة [221] نهت عن نكاح المشركات. فالظاهر أن هذا النهي فهم على أنه بالنسبة للزواج بعد الإسلام وأنه ليس شاملا للعقود الزوجية السابقة فاحتفظ المسلمون بزوجاتهم الكافرات إلى أن نزلت هذه الآيات. وفي هذا مشهد من مشاهد تطور التشريع القرآني. وقد قال المؤولون على ما ذكره الطبري وغيره في جملة وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا

_ (1) انظر تفسير الطبري. (2) هذه الأسماء رواها الطبرسي عن الزهري. وقد قال الطبري إنه لم يخرج إلا امرأة واحدة ولم يذكر اسمها. (3) الطبري.

إن المرأة إذا جاءت مؤمنة مهاجرة ووجب أداء صداقها إلى زوجها الكافر أخذ هذا الصداق من المؤمن الذي يتزوجها. وهذا حلّ حقّ. غير أن هناك حالة مفروضة وهي أن لا يتيسر للمرأة زواج والمتبادر أن أداء صداقها يكون على جميع المؤمنين أو على بيت مالهم. ويكون المخاطب بالتنفيذ في هذه الحالة ولي أمر المؤمنين فيجمعه من القادرين من المؤمنين أو يؤديه من بيت مال المسلمين الذي يكون تحت إشرافه. وقد قال المؤولون كذلك في جملة: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا إنها في صدد أمر المؤمنين إعطاء صداق زوجات المؤمنين اللاتي يلحقن بالكفار مما ييسره الله من غنائم العدو. وهذا حقّ مستلهم من روح الجملة. والمتبادر أن ما يعطاه الزوج يكون غير سهمه الخاص من الغنائم. وهذا من شأن ولي أمر المؤمنين الذي تكون قسمة الغنائم إليه. هذا، وهناك أحاديث يصحّ إيرادها في هذا المقام لتناسبها مع الموضوع وفيها أحكام تشريعية نبوية. من ذلك حديث رواه أبو داود والترمذي عن ابن عباس قال: «إنّ رجلا جاء مسلما على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاءت امرأته مسلمة فقال يا رسول الله إنها كانت أسلمت معي فردّها عليّ فردّها عليه» «1» . ومن ذلك حديث رواه أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس قال: «أسلمت امرأة على عهد رسول الله فتزوّجت فجاء زوجها الأول إلى النبيّ فقال يا رسول الله إني قد كنت أسلمت وعلمت بإسلامي فانتزعها النبيّ صلى الله عليه وسلم من زوجها الثاني وردّها إلى الأول» «2» .

_ (1) التاج ج 2، ص 324 و 325. (2) المصدر نفسه.

ويبدو من روح الحديثين والحادثين أن النبي صلى الله عليه وسلم تيقّن من كلام الزوجين فأمر بما أمره. وهناك حديث رواه أبو داود والترمذي عن ابن عباس قال: «ردّ النبي صلى الله عليه وسلم زينب على أبي العاص بن الربيع بعد ستّ سنين بالنّكاح الأول ولم يحدث نكاحا» «1» وزينب هي بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر ابن هشام قصتها. وخلاصة ذلك أن زوجها وقع أسيرا في جملة أسرى بدر، وكانت هي في عصمته في مكة فأرسلت قلادتها لفدائه. فاستشار النبي أصحابه بالمنّ عليه بدون فداء فوافقوا ومنّ عليه على شرط أن يرسلها إلى المدينة ففعل. ثم وقع أسيرا مرة أخرى وجيئ به إلى المدينة فاستجار بزينب فأخبرت بذلك أباها فأجاره ولكنه نبّه عليها قائلا: «لا يخلصنّ إليك فإنّك لا تحلّين له. وقد عاد إلى مكة بعد هذا الحادث وقضى مصالحه ورجع فأسلم فردّ النبي عليه زوجته بدون نكاح جديد» «2» . وقد روى الإمام مالك حادثا مماثلا في حديث رواه عن ابن شهاب جاء فيه «أنّ صفوان بن أمية فرّ يوم الفتح فأرسل إليه النبيّ أمانا فعاد وكانت امرأته قد أسلمت قبله فردّها عليه بدون نكاح جديد» «3» . وروى البخاري حديثا عن ابن عباس قال: «إذا أسلمت النصرانية قبل زوجها بساعة حرّمت عليه» «4» . وقد يكون إسلام أبي العاص قبل نزول آيات الممتحنة التي حرّمت الزوجات المسلمات على أزواجهم الكافرين فلم يكن فيما فعله النبي نقض لأن الحكم القرآني لم يكن قد نزل. غير أن هذا ليس واردا بالنسبة لصفوان وزوجته. ويمكن والحالة هذه أن يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم فسّر جملة: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ في آية سورة الممتحنة بحرمة الوطء دون انفساخ العقد. وتكون جملة «حرّمت عليه» في

_ (1) التاج ج 1، ص 325. (2) ابن هشام ج 2، ص 296 و 297 و 302 و 303. (3) الموطأ ج 2 ص 31. (4) التاج ج 2 ص 325. [.....]

[سورة الممتحنة (60) : آية 12]

حديث ابن عباس في نفس المعنى. فلما أسلم الزوجان صار الحرام عليهما مباحا دون حاجة إلى عقد جديد. والله أعلم. والمتبادر أن بقاء الزوجتين بدون زواج هو الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم يمضي حكمه الحكيم. ولو تزوجتا قبل إسلام زوجيهما لما كان محلّ ولا إمكان لذلك. والتحريم هو تشريع مدني كما هو واضح. فليس من محلّ للسؤال عن سبب بقاء بنت رسول الله التي نعتقد أنها كانت مؤمنة في عصمة زوجها المشرك في العهد المكي ثم في شطر من العهد المدني قبل نزول التحريم. ويظل الحكم الشرعي هو التفريق بين الزوجين إذا ارتدّ أحدهما ولم يتب. أما إذا تاب فقد يكون ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم محلّ قياس فيعود الزوجان إلى زوجتيهما بدون عقد جديد. وإذا كان الزوج هو المرتدّ فتكون عودة زوجته إليه إذا تاب رهنا ببقائها غير متزوجة. فإن تزوجت فيكون الأمر قد انتهى. والله تعالى أعلم. [سورة الممتحنة (60) : آية 12] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) (1) ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن: ولا يقدمن على شيء مما تفعله الأيدي والأرجل فيه كذب وافتراء. وقد أوّلها معظم المؤولين بنسبة النساء لأزواجهم أولادا نتيجة للزنا والفاحشة. فبطنها الذي تحمل فيه ولد الزنا بين يديها، وفرجها الذي تلده منه بين رجليها «1» وهو تأويل وجيه. في الآية أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه إذا جاءه النساء المؤمنات يردن أن يبايعنه ويعطينه العهد على أنفسهن بأن لا يشركن ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا ينسبن كذبا لأزواجهن ولدا ليس منهم نتيجة للزنا والفاحشة ولا يعصينه في ما يأمر

_ (1) التفسير الأخير للنيسابوري.

تعليق على الآية يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك ... إلخ وما روي في صددها من أحاديث وروايات وما فيها من تلقين وبخاصة في صدد توطيد شخصية المرأة واستقلاليتها في المجتمع الإسلامي إزاء الرجل

به من أمر معروف متعارف أنه خير وصالح ونافع فليبايعهن وليستغفر لهن الله تعالى المتصف بالغفران والرحمة. تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ ... إلخ وما روي في صددها من أحاديث وروايات وما فيها من تلقين وبخاصة في صدد توطيد شخصية المرأة واستقلاليتها في المجتمع الإسلامي إزاء الرجل لقد أوردنا في سياق تفسير الآيات السابقة ما رواه البخاري والترمذي عن عائشة عن كيفية امتحان النبي صلى الله عليه وسلم النساء اللاتي يأتين إلى المدينة مؤمنات مهاجرات وهي مثل نصّ هذه الآية. مع التنبيه على أن صيغة حديث عائشة لا تفيد أنها أنزلت لذلك. ولم نطلع على رواية أخرى في صدد نزولها. وكل ما هناك أن المفسرين رووا روايات عديدة في تطبيقها. وقد يرد بالبال أن تكون نزلت مع الآيتين السابقتين لها لتكون صيغة الامتحان. وفي حال صحة هذا الاحتمال تكون صلتها بالآيات السابقة لها وموضوعها وثيقة. غير أن اختلاف الصيغة بين هذه الآية والآيتين السابقتين لها يجعلنا نتردد في الجزم بذلك. فالخطاب في الآيتين السابقتين يوجّه إلى المؤمنين بامتحان النساء المؤمنات اللاتي يجئن إليهم مهاجرات. والخطاب في الآية موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالاستجابة إلى النساء المؤمنات إذا جئن إليه للمبايعة. والفرق غير يسير في ما يتبادر لنا بالرغم مما يمكن أن يصح أن يقال إن الخطاب للمؤمنين يعني الخطاب للنبي. وكل هذا يجعل الاحتمال أقوى أن تكون الآية نزلت مستقلة استجابة إلى طلب تقدم به بعض المؤمنات إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن يبايعهن استقلالا عن الرجال. وقد روي شيء من ذلك في مناسبة الآية [195] من سورة آل عمران والآية [35] من سورة الأحزاب على ما أوردناه في مناسبتهما. فإذا صحت وجاهة وقوة هذا الاحتمال فتكون الآية قد نزلت في ظرف مثل هذا الطلب وقبل مجيء المؤمنات مهاجرات من مكة فجعلت صيغتها

صيغة امتحان لهن على ما ورد في حديث عائشة الصحيح ووضعت بعد الآيتين اللتين ذكرتا حادث مجيئهن للتناسب الموضوعي وهو ما نرجحه. وتكون الآية مظهرا جليلا آخر من مظاهر عناية القرآن بالمرأة المسلمة وتقرير شخصيتها وأهليتها للتكليف والخطاب والتعامل استقلالا مما فيه معنى تقرير كونها ركنا في الدولة الإسلامية كالرجل سواء بسواء. ومما فيه معنى دعم لكون قوامة الرجل عليها التي قررتها آية سورة النساء [34] هي منحصرة في الحياة الزوجية على ما شرحناه في سياقها شرحا يغني عن التكرار، وفي هذا ما فيه من روعة وجلال. على أنه لو صح الوارد الأول بكون الآية نزلت مع الآيتين السابقتين فإن هذا المظهر الجليل البعيد المدى والقوي الدلالة في نطاق شرحنا الآنف يظل ملموحا في الآية بكل روعته وجلاله. ولقد روى ابن هشام أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ البيعة من أول رهط أسلم من الأوس والخزرج قبل الهجرة إلى المدينة بصيغة هذه الآية «1» . وروى الطبري عن أم عطية أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد مقدمه إلى المدينة جمع طائفة من نساء الأنصار في بيت وجاء إليهن مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسلّم عليهن من وراء البيت وقال: أنا رسول الله، فقلن: مرحبا وحبّا، فقال: تبايعن على أن لا تشركن بالله شيئا، إلى جملة ولا تعصين في معروف، قلن: نعم. فمدّ يده من خارج الباب أو البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت ثم قال: اللهمّ فاشهد. ولقد روى المفسرون أن النبي صلى الله عليه وسلم عقب فتح مكة أخذ البيعة من الرجال ثم أخذ البيعة من النساء، وأن صيغة بيعة النساء كانت صيغة الآية. ومن طريف ما روي في صدد ذلك أن هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان من جملة من أقبل من نساء قريش على مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم وكانت متنكرة لأنها حسبت أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم حاقدا عليها وقد يقتلها لما فعلته في عمّه حمزة رضي الله عنه يوم أحد. حيث روي أنها بقرت بطنه وأخذت قطعة من قلبه أو كبده فلاكتها شفاء لنفسها من قتل أبيها

_ (1) ابن هشام ج 2 ص 41 بصيغة التذكير.

وإخوتها وابنيها في وقعة بدر «1» . وقد عرفها النبي صلى الله عليه وسلم مع ذلك فدعاها باسمها فأتت فأخذت بيده فعاذت به وقالت عفا الله عما سلف يا رسول الله فصرف وجهه عنها. ولما لقن النساء وَلا يَسْرِقْنَ قالت والله إني لأصيب من أبي سفيان الهنات ما أدري أيحلّهن لي أم لا قال أبو سفيان ما أصبت من شيء مضى أو قد بقي فهو لك حلال فضحك رسول الله. ولما لقنهن وَلا يَزْنِينَ قالت يا رسول الله وهل تزني الحرة؟ قال لا والله ما تزني الحرة. ولما لقنهن وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ ... إلخ. قالت والله إن البهتان لقبيح وما تأمرنا إلّا بالرشد ومكارم الأخلاق، ولما لقنهن وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ قالت ربيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا فأنت وهم أبصر. وضحك عمر حتى استلقى على قفاه وتبسّم النبي صلى الله عليه وسلم. ولما لقنهن وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ قالت ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء. وروايات مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم النساء بهذه الصيغة معقولة بالنسبة إلى ما بعد نزولها سواء أكان ذلك ممن كن يأتين مؤمنات مهاجرات قبل الفتح ويدعين الإسلام أم كان ذلك من نساء قريش عقب الفتح. أما روايات أخذ البيعة بنفس الصيغة قبيل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وعقب هجرته إليها ففيها نظر إلّا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد ألهم الصيغة قبل أن ينزل بها الوحي قرآنا. وفي هذا إذا صحت الروايات مشهد من مشاهد التوافق بين أقوال النبي صلى الله عليه وسلم الملهمة وبين الوحي القرآني «2» . والنهي عن قتل الأولاد متصل بعادة وأد البنات على ما ذكره المفسرون. وقد كان النساء إلى ذلك إذا ما ولدن بنتا يخنقنها حال ولادتها سخطا وكراهية ولادة

_ (1) انظر ابن هشام ج 3 ص 41، وج 2 ص 251 وما بعدها. (2) هناك حديث عن عبادة بن الصامت رواه الشيخان والترمذي والنسائي جاء فيه: «كنّا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلّا بالحق فمن وفى منكم فأجره على الله» . انظر التاج ج 3 ص 34. وعبادة بن الصامت من الذين بايعوا النبي قبيل هجرته إلى المدينة وعيّنه النبي نقيبا مع رفاق له على ما شرحناه في سياق [الآية: 30] من سورة الأنفال. وهذا الحديث الصحيح قد يفيد أن هذه البيعة تمت بعد الهجرة النبوية. والله أعلم.

البنات وتفاديا من غضب أزواجهن. ولقد ندد القرآن المكي بوأد البنات في الآية [8] من سورة التكوير والآية [59] من سورة النحل. ونهى عن قتل الأولاد من إملاق أو خشية إملاق في الآية [31] من سورة الإسراء والآية [151] من سورة الأنعام، فجاءت الآية هنا مطلقة لتؤيد الأمرين معا. فيتساوق في ذلك القرآن المدني مع القرآن المكي. وفي فقرة وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ تلقين جليل بالنسبة لظروف نزول الآية وبالنسبة لواجب المسلمين نحو أولياء أمورهم وواجب هؤلاء نحو المسلمين. حيث قرن النهي عن عصيان النبي صلى الله عليه وسلم بتعبير فِي مَعْرُوفٍ للإيذان بأنه ليس من حق ولي الأمر أن يأمر بمعصية، وأن ينتظر من الناس طاعة مطلقة بدون قيد. وبأن الطاعة الواجبة عليهم هي فيما هو متعارف عليه أو معروف بأنه خير وصلاح ومفيد ولا إثم فيه ولا منكر ولا عدوان- ولو كان النبي- وهذا من باب التعليم والتوكيد على هذا المبدأ الدستوري القرآني لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم عن الأمر بمعصية أو بما ليس فيه صلاح وخير وفائدة. وقد سبق قيد قريب من هذا في إحدى آيات سورة الأنفال [24] التي تأمر المؤمنين بالاستجابة إلى الرسول إذا دعاهم لما فيه خيرهم وحياتهم. فهذا القيد وذاك ينطويان على مبدأ دستوري قرآني عام بسبيل تنظيم الحقوق بين المسلمين وأولياء أمورهم. وبسبيل تقرير كون الحكم في الإسلام ليس مطلقا وإنما هو مقيد بأحكام الكتاب والسنّة وبما فيه الخير والحقّ والصلاح. وقد انطوى في آية سورة النساء [59] حلّ دستوري لذلك فيما إذا قام نزاع عليه بين المسلمين أو بين المسلمين وأولياء أمورهم وهو ردّ النزاع إلى الله ورسوله أي إلى كتاب الله وسنّة رسوله على ما شرحناه في سياقها. وهناك حديث رواه الخمسة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحبّ أو كره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» «1» . حيث ينطوي فيه تدعيم حاسم.

_ (1) التاج ج 3 ص 40.

ولقد روى المفسرون أحاديث وروايات في صدد هذه الجملة يكاد ظاهرها يبعدها عن المعنى الرائع الدستوري الشامل الذي نوهنا به. ويجعلها في صدد أمور ثانوية أو محددة. فقد روى الخازن عن أسيد بن أسيد عن امرأة من المبايعات قالت: «كان فيما يأخذ رسول الله من المعروف الذي أخذ علينا أن لا نعصيه فيه أن لا نخمش وجها ولا ندعو ويلا ولا نشق جيبا ولا ننشر شعرا» وعن أنس: «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ على النساء حين بايعهن أن لا ينحن. فقلن يا رسول الله نساء أسعدننا في الجاهلية- أي نحن معنا على أمواتنا- فنسعدهن؟ فقال لا إسعاد في الإسلام» «1» وروى الطبري عن أبي الجعد أن جملة وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ هي النوح. وعن ابن عباس: «ولا يعصينك في معروف أي لا ينحن» وعن زيد بن أسلم: «ولا يعصينك في معروف أي لا يخدشن وجها ولا يشققن جيبا ولا يدعون ويلا ولا ينشرن شعرا» . وعن قتادة: «أخذ عليهن لا ينحن ولا يخلون بحديث الرجال إلا مع محرم» . وهذه الروايات والأحاديث قد تكون صحيحة. غير أنها ليس فيها حديث نبوي يفسر الجملة بالمنهيات أو يحصرها فيها. وليس من شأنها بالتبعية أن تغطي على المعنى الدستوري العام المطلق الذي ينطوي في الجملة. وكل ما في الأمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى النساء حينما كان يأخذ البيعة منهن عن بعض عاداتهن المنكرة التي فيها معصية والتي هي من متناول النهي القرآني فالتبس الأمر على الرواة. ونستطرد إلى القول بأن المفسرين أوردوا أحاديث نبوية عديدة في سياق تفسير هذه الجملة في النهي عن النياحة وردت في الكتب الخمسة أيضا. وقد رأينا أن نجاريهم في إيرادها لما فيها من تأديب نبوي رائع. من ذلك حديث عن عبد الله رواه الخمسة إلّا أبا داود جاء فيه: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم ليس منّا من ضرب الخدود وشقّ

_ (1) من العجيب أن الطبري روى حديثا مناقضا لهذا الحديث عن مصعب بن نوح الأنصاري أن عجوزا لما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ على النساء عهدا بعدم النوح قالت يا رسول الله إن أناسا كانوا أسعدوني على مصائب أصابتني وقد أصابتهم مصيبة فأنا أريد أن أسعدهم فقال لها فانطلقي فكافئيهم فانطلقت ثم أتت فبايعته.

الجيوب ودعا بدعوة الجاهلية» «1» وحديث عن أبي موسى رواه الخمسة إلّا الترمذي جاء فيه: «أنّ رسول الله بريء من الصالقة والحالقة والشاقة» «2» وحديث عن أبي مالك الأشعري رواه مسلم والترمذي جاء فيه: «النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب» «3» . وحديث رواه الشيخان والترمذي عن المغيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ينح عليه يعذّب بما نيح عليه» «4» وحديث عن أبي سعيد رواه أبو داود قال: «لعن رسول الله النائحة والمستمعة» «5» . ولقد أورد المفسرون في سياق الجملة كذلك أحاديث نبوية أخرى فيها تلقينات جليلة منها حديث رواه الطبري عن أميمة التيمية قالت: «إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لنسوة جئن لمبايعته بعد أن أخذ عليهن البيعة بأن لا يعصينه في معروف: «فيما أطقتن واستطعتن» فقلن الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا» . وهذا متسق مع المبادئ القرآنية المتكررة من كون الله تعالى لا يكلّف نفسا إلّا وسعها. ومنها حديث رواه الطبري كذلك عن قتادة: «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما نهى النساء أن لا ينحن ولا يخلون مع غير المحارم من الرجال أو لا يخلونّ بحديث الرجال إلّا مع ذي محرم قال

_ (1) التاج ج 1 ص 307. (2) المصدر نفسه. والصالقة هي التي ترفع صوتها عند المصيبة، والحالقة هي التي تحلق شعرها عند المصيبة، والشاقة هي التي تمزق ثيابها عند المصيبة. (3) المصدر نفسه ص 307. (4) المصدر نفسه ص 308. (5) المصدر نفسه. وهناك حديث رواه الخمسة عن أبي موسى قال «لمّا أصيب عمر جعل صهيب يقول وا أخاه فقال عمر أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الميت يعذّب ببكاء الحي وفي رواية أن الميت يعذّب ببكاء أهله. وذكر لعائشة قول عمر فقالت رحم الله عمر، والله ما حدث رسول الله بذلك، ولكن قال: إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه. وقالت حسبكم القرآن. ولا تزر وازرة وزر أخرى. وفي رواية سمعت عائشة بقول ابن عمر الميت يعذب ببكاء أهله فقالت يغفر الله لأبي عبد الرحمن إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ. إنما مرّ النبي صلى الله عليه وسلم على يهودية يبكي عليها أهلها فقال إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها» والمتبادر أن في تصحيح عائشة رضي الله عنها تفريقا بين البكاء والنواح وجواز الأول دون الثاني. وحديث عائشة من مرويات الخمسة أيضا. انظر المصدر نفسه ص 308- 309.

[سورة الممتحنة (60) : آية 13]

عبد الرحمن بن عوف إنا نغيب يا رسول الله عن نسائنا ويكون لنا أضياف فقال ليس أولئك عنيت» حيث ينطوي في هذا توضيح نبوي لكون النهي إنما هو عن المواقف والحالات المريبة أو الداعية للفتنة والتهمة مما فيه كل الحكمة والسداد. ولقد روى الطبري أيضا حديثا عن أميمة: «أنّ النساء بعد أن بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلن يا رسول الله ألا تصافحنا؟ فقال إني لا أصافح النساء ما قولي لامرأة واحدة إلّا كقولي لمائة امرأة» . ولقد روى البخاري والترمذي عن عائشة حديثا جاء فيه: «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبايع النساء بالكلام دون أن تمسّ يده يد امرأة» «1» . ولعلّ هذه الأحاديث هي مستند الذين يحرمون أو يكرهون مصافحة الرجال للنساء. وقد يكون الاستناد في محلّه. غير أن من الحق أن نذكر أنها لا تنطوي على ما يمكن الجزم به بأن ذلك كان حراما أو مكروها. والله تعالى أعلم. [سورة الممتحنة (60) : آية 13] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13) . (1) قد يئسوا من الآخرة: من المفسرين من أوّل الجملة بمعنى قد يئسوا من رحمة الله ورضائه وثوابه في الآخرة. ومنهم من أوّلها بمعنى قد يئسوا من أي احتمال للبعث الأخروي. وكلا التأويلين وجيه تتحمّله العبارة. (2) كما يئس الكفار من أصحاب القبور: بعض المفسرين أوّل الجملة بمعنى أن الأحياء من الكفار قد يئسوا من أي احتمال لبعث الذين ماتوا وصاروا أصحاب القبور. وبعضهم أولها بمعنى أن الأموات من الكفار يئسوا من أي بعث أخروي أو من رحمة الله ورضائه في الآخرة. والتأويلات الثلاثة وجيهة ومحتملة. وفي هذه الآية نهي للمؤمنين عن موالاة أناس غضب الله عليهم فغدوا يائسين من رضاء الله في الآخرة أو ليس عندهم أي احتمال لبعث أخروي. وكان مثلهم في

_ (1) انظر التاج ج 4، ص 233.

ذلك كمثل يأس الكفار الأموات من رحمة الله ورضائه في الآخرة أو يأس الكفار الأحياء من أي احتمال لبعث الأموات. ولم يرو المفسرون «1» رواية في نزول الآية. وإنما قالوا والله إن المقصود من (قوم) هم اليهود وإنه كان أناس من فقراء المسلمين يتصلون باليهود ويخبرونهم بأخبار المسلمين فيصيبون من ثمارهم فنهاهم الله. ويلحظ أن السورة قد نزلت قبيل الفتح المكي على ما سبق ذكره. وقد كان يهود المدينة قد أجلوا قبل ذلك بنحو سنتين عنها. كما أن خيبر وغيرها من القرى كانت دخلت في حيازة النبي والمسلمين وحكمهم فلم يبق يهود يصحّ أن يتخذهم المسلمون أولياء. ولقد بدأت السورة بنهي المسلمين عن اتخاذ الكفار المشركين أولياء والمساررة إليهم بالمودة. ويتبادر لنا أن حكمة التنزيل شاءت أن تختم بالنهي نفسه حتى يجتمع طرفاها في أمر واحد. فإذا صح هذا يكون في الآية مشهد من مشاهد التأليف القرآني. ويكون القوم هم الكفار المشركون أنفسهم وهو ما نرجو أن يكون صحيحا. وليس من الضروري أن يكون وصف القوم بأنهم الذين غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مصروفا إلى اليهود ولو أن القرآن كثيرا ما وصفهم به. وهذا الاعتبار هو على الأغلب الذي أوحى بذلك. فالوصف يصح على كلّ كافر بطبيعة الحال. والله تعالى أعلم.

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير وغيرهم.

سورة الحديد

سورة الحديد في هذه السورة دعوة إلى الإخلاص في الإيمان. والبذل في سبيل الله. وتحذير للمسلمين من قسوة القلوب والاستغراق في الدنيا وأغراضها كما صار إليه أهل الكتاب. وحضّ على الخير والتسابق فيه مع الاعتماد على الله. وتنديد بالبخلاء المختالين. وتنويه بالمؤمنين المخلصين وتقريع وإنذار للمنافقين بمناسبة موقف ممضّ وقفه بعض مرضى القلوب المنافقين. وفيها تشبيهات واستطرادات إلى حكمة إرسال الرسل لهداية الناس وتوطيد العدل وما كان من أمر الأمم السابقة وانحراف أكثرهم مما فيه توطيد لفكرة السلطان وهدفه. وفيها إشارة تنويهية إلى أخلاق الذين اتبعوا عيسى عليه السلام مع الإشارة إلى فسق كثير منهم أيضا. وفصول السورة غير منقطعة عن بعضها بحيث يسوغ القول بأنها نزلت متتابعة. والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أنها نزلت بعد سورة الزلزلة التي يروى أن سورة النساء نزلت بعدها وقبل سورة محمد. ومعظم رواة ترتيب النزول يجعلون ترتيبها مثل ترتيبها في هذا المصحف «1» في حين أن فيها آية تفيد بصراحة أنها نزلت بعد الفتح الذي يتفق معظم المؤولين على أنه فتح مكة «2» . وليس في السورة ما يمكن أن يساعد على القول بأن فصولا منها نزلت قبل هذا الفتح. وهذا ما جعلنا نؤخر ترتيبها عن الترتيب المروي للتوفيق بين ظروف

_ (1) انظر روايات ترتيب نزول السور المدنية في كتابنا سيرة الرسول ج 2 ص 9. [.....] (2) انظر الطبري والنيسابوري والبغوي والزمخشري والخازن وابن كثير والطبرسي.

نزولها ونزول سورة الممتحنة التي نزلت بعد صلح الحديبية وقبيل الفتح المكي. ولقد وردت كلمة الفتح في سورة النصر، والجمهور على أنه فتح مكة أيضا غير أن الإشارة جاءت فيها بأسلوب التذكير والتنويه، والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أن السورة هي آخر سور القرآن نزولا. وقد ذكر ذلك الزمخشري. وروى ابن كثير حديثا عن ابن عمر أنها نزلت في حجة الوداع التي لم يعش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها إلا نحو ثمانين يوما. وروى حديثا عن ابن عباس أن السورة لما نزلت دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة رضي الله عنها وقال إنه قد نعيت إليّ نفسي. وحديثا عن عبد الله بن عقبة «أنّ ابن عباس سأله أتعلم آخر سورة نزلت من القرآن؟ قال نعم إنها إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ. فقال صدقت. وحديثا عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نعيت إليّ نفسي بها وإني مقبوض هذه السنة» . وقال النيسابوري: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يعش بعد نزولها إلّا سبعين يوما. حيث تتضافر هذه الروايات على أنها نزلت قبل قليل من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت بعد فتح مكة بنحو سنتين. ولقد احتوت سورة التوبة آيات تفيد بصراحة أنها نزلت بعد فتح مكة منها هذه الآية: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ... [3] وهذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ... [28] . وبناء على ما تقدم وضعنا سورة الحديد بعد سورة الممتحنة لأن الفتح المكي وقع بعد نزول هذه السورة وفي ظروف نزول سورة الحديد. والله تعالى أعلم.

[سورة الحديد (57) : الآيات 1 إلى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الحديد (57) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6) . عبارة الآيات واضحة. وباستثناء صفتي الظاهر والباطن فقد ورد مثلها في سور عديدة مكيّة ومدنيّة. وهي هنا مجموعة رائعة قوية بسبيل تعداد صفات الله تعالى وعظمته وما أودعه في كونه من نواميس وبيان شمول ملكه وعلمه وقدرته. وإحاطته بجميع ما في الكون من مخلوقات وما يقع من هذه المخلوقات من أعمال وحركات ظاهرة وخفية وباطنة. وتقرير كون مردّ كل شيء إليه أولا وآخرا. وليس هناك روايات خاصة في مناسبتها. والمتبادر أن مما استهدفته لفت نظر الإنسان وإيقاظ ضميره وتوجيهه نحو الله. وأنها مقدمة تمهيدية لما احتوته الآيات التالية من دعوة وأمر وتقرير وحثّ وعتاب. وهذا من أساليب القرآن المألوفة المتكررة. وصفتا الظَّاهِرُ وَالْباطِنُ تأتيان في الآيات لأول مرة. ولقد شرحهما الطبري فقال: إن الظاهر بمعنى الظاهر على كل شيء دونه، أو العالي فوق كل شيء فلا شيء أعلى منه. وإن الباطن بمعنى باطن جميع الأشياء فلا شيء أقرب إلى شيء منه. وروى البغوي أن عمر رضي الله عنه سأل عنها كعبا فقال: معناها أن علمه بالأول كعلمه بالآخر وعلمه بالظاهر كعلمه بالباطن. وروى بطرقه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بدعاء فيه تفسير للصفتين وهو: «اللهم ربّ السموات وربّ الأرض وربّ كل شيء فالق الحبّ والنوى منزل التوراة والإنجيل والقرآن أعوذ بك من شرّ كل ذي شرّ أنت آخذ بناصيته. أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر

[سورة الحديد (57) : الآيات 7 إلى 10]

فليس بعدك شيء. وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء. اقض عني الدين واغنني من الفقر» . وقد روى هذا الحديث مسلم والترمذي أيضا عن أبي هريرة الذي قال إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة بترديد الدعاء الذي تضمنه حينما جاءت تسأله خادما. ولقد علقنا على موضوع خلق السموات والأرض في ستة أيام في مناسبات سابقة بما يغني عن التكرار. وإن كان من شيء يحسن قوله هنا هو أن الآية التي ذكر فيها ذلك مع الآيات الأخرى هي بسبيل التنبيه على عظمة الله وقدرته وإحاطته بكل شيء في كونه وتسبيح كل ما في السموات والأرض له. وكون ذلك يوجب على الإنسان الخضوع له وتقديسه وتسبيحه من باب الأولى لما اختصه الله به من خصائص وكرم من تكرمات. [سورة الحديد (57) : الآيات 7 الى 10] آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) . تعليق على الآية آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ... إلخ والآيات الأربع التي بعدها وما فيها من صور وتلقين عبارة الآيات واضحة. والمستلهم من روحها وفحواها أنها موجهة إلى المؤمنين في الدرجة الأولى ثم إلى السامعين عامة. وقد تضمنت: (1) دعوة لهم إلى الإيمان بالله ورسوله والإنفاق من المال الذي جعلهم الله

خلفاء ووكلاء عليه. فالذين يفعلون ذلك منهم لهم أجر من الله عظيم. (2) وسؤالا استنكاريّا على سبيل الحثّ والعتاب عمّا يمنعهم عن الإيمان بالله، ورسوله يدعوهم إلى ذلك. وهو قد أخذ قبل ذلك ميثاقا به إن كانوا حينما أعطوا هذا الميثاق مؤمنين حقّا. (3) وتنبيها على أن الله تعالى إنما ينزل على عبده النبي آياته ليخرجهم بها من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم، وأنه إنما يفعل ذلك لأنه بهم رؤوف رحيم. (4) وسؤالا استنكاريّا آخر على سبيل الحثّ والعتاب أيضا عما يمنعهم عن إنفاق أموالهم في سبيل الله في حين أن كل ما في السموات والأرض هو ملك لله تعالى. (5) وتقريرا على سبيل الحثّ والبيان بأن هناك فرقا عظيما بين الذين أنفقوا أموالهم وقاتلوا قبل الفتح وبين الذين فعلوا ذلك بعده. وبأن الأولين أعظم درجة وأجرا عند الله مع تقرير كون الآخرين أيضا موعودين من الله كالأولين بالأجر والحسنى على كل حال وهو الذي يعلم علم كل ما يفعله الناس ويقدمونه بين يديهم. ويتبادر لنا أن جملة: وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ هي في مقامها في معنى (وما لكم لا تثقون ولا تتيقنون بما يأمركم الله، وتطيعونه فيه) وليست تنديدا بعدم إيمانكم مبدئيا بالله ولا دعوة لهم إلى ذلك. لأن الخطاب في الجملة والآيات عامة لأناس مؤمنين بالله ورسوله مبدئيا. فيكون العتاب الذي انطوى في الجملة هو بسبب عدم تحقق ما يوجبه الإيمان فيهم من ثقة ويقين وطاعة. وجملة: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ تدعم ذلك. كما تدعمه جملة: وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ من حيث إنها تعني (أنكم بإيمانكم الأصلي بالله ورسوله قد أعطيتم ميثاقا بالتحقيق بما يوجبه هذا الإيمان) . وبهذا الشرح الذي نرجو أن يكون صوابا يزول ما قد يورد من إشكال على صيغة الكلام. والله تعالى أعلم.

ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات إلّا ما رواه البغوي عن الكلبي من أن الآية [10] نزلت في أبي بكر رضي الله عنه لأنه أول من أسلم وأول من أنفق ماله في سبيل الله. وذبّ عن رسول الله. وقد روى المفسّر حديثا بطرقه عن ابن عمر قال: «كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر رضي الله عنه وعليه عباءة قد خلّها في صدره بخلال فنزل عليه جبريل فقال ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلّها في صدره بخلال؟ فقال أنفق ماله عليّ قبل الفتح قال فإن الله عزّ وجلّ يقول اقرأ عليه السلام وقل له أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط. فقال رسول الله يا أبا بكر إن الله عزّ وجل يقرأ عليك السلام ويقول لك أراض أنت في فقرك أم ساخط. فقال أبو بكر أأسخط على ربّي. إني عن ربّي راض. إني عن ربي راض» وفحوى الروايات لا يتضمّن مناسبة خاصة لنزول الآية كما هو واضح. والحديث بعد لم يرد في الصحاح. ومع عظم احترامنا للصدّيق رضي الله عنه وتضحياته واعتقادنا بأنه أهل لكل ثناء ورضاء ربانيين فالذي نستلهمه من روح الآيات وفحواها أن ما احتوته الآية المذكورة يشمل أكثر من شخص واحد. وأنها تعني الطبقة السابقة إلى الإيمان والبذل من مهاجرين وأنصار والذين اتبعوهم بإحسان الذين سجّل الله رضاءه عنهم ورضاءهم عنه في آية سورة التوبة هذه: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [100] . ونرجح أنها نزلت في مناسبة موقف مرجح من المواقف التي كان يقفها بعض المسلمين المستجدين وخاصة بين مرضى القلوب ويظهرون فيها ترددا في البذل في سبيل الله وتباطؤا في الجهاد وتقصيرا في الإخلاص والطاعة والتفاني الواجب عليهم نحو الله ورسوله مما حكته آيات كثيرة في سور عديدة سابقة مثل آيات سورة البقرة [264- 267] والنساء [71- 87 و 95- 100 و 114- 115 و 140- 147 ... ] وآيات من هذه السورة تأتي بعد فأوحى الله تعالى فيه إلى نبيّه بهذه الآيات لتحتوي ما احتوته من إنكار وتذكير وتنويه وعتاب وحثّ وتنديد وتنبيه بعد المقدمة السابقة

التي احتوت ما احتوته من بيان عظمة الله تعالى وقدرته ومطلق تصرفه في الكون بما في ذلك نفوس الناس وأموالهم. ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا أخرجه الإمام أحمد عن أنس قال: «كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها فبلغنا أن ذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دعوا لي أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهبا ما بلغتم أعمالهم» «1» . حيث ينطوي في هذا الحديث صورة ما من الصور التي شاءت حكمة التنزيل المقايسة بها بين الإنفاق والقتال قبل الفتح وبعده وتأييد ما لما قلناه. مع التنبيه على أننا ننزّه خالد بن الوليد رضي الله عنه عن صفة النفاق ومرض القلب. وكل ما هناك أنه قد أسلم بعد صلح الحديبية وقبل فتح مكة وأن الموقف المروي عنه إن صح فإنه نتيجة جدته في الإسلام وحسب «2» . ولقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في

_ (1) روى البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود حديثا عن أبي سعيد فيه شيء من ذلك قال: «كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف شيء فسبّه خالد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبّوا أحدا من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» التاج ج 3 ص 272. ولقد روى الطبري بطرقه عن أبي سعيد التمار «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم فقلنا من هم يا رسول الله أقريش؟ قال لا هم أرق أفئدة وألين قلوبا وأشار بيده إلى اليمن فقال هم أهل اليمن ألا إن الإيمان يمان والحكمة يمانية فقلنا يا رسول الله هم خير منا قال والذي نفسي بيده لو كان لأحدهم جبل ذهب ينفقه ما أدرك مدّ أحدكم ولا نصيفه ثم جمع أصابعه ومدّ خنصره وقال ألا إن هذا فصل ما بيننا وبين الناس لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى» وروح الأحاديث يلهم أنها في صدد السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. وهناك أحاديث أخرى في فضلهم أيضا أوردناها في سياق سورة الفتح السابقة لهذه السورة. انظر التاج ج 3 ص 270 وما بعدها. (2) مما رواه ابن هشام (ج 3 ص 319) أن كلا من عمرو بن العاص وخالد بن الوليد خرجا بعد قليل من صلح الحديبية يريد الوفود على النبي صلى الله عليه وسلم والدخول في الإسلام. وقد التقيا في الطريق فسأل عمرو خالدا إلى أين فقال له إلى المدينة فأسلم فإن الرجل نبي وحتى متى. فقال له وأنا كذلك قد خرجت لهذا. والمأثور أن النبي صلى الله عليه وسلم سمّاه سيف الله. انظر (أشهر مشاهير الإسلام ج 1 ص 149 تأليف رفيق العظم) .

المدينة مسلما باختياره وعن قناعة «1» . ورسخ في الإسلام مع الأيام حتى صار من أقوى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إيمانا وإخلاصا وجهادا. ومهما يكن من أمر فإن الآيات احتوت صورا من صور السيرة النبوية في العهد المدني ولو لم تكن بارزة الخطوط. وإن أسلوبها ومضمونها وروحها معا تلهم أنها استهدفت تقرير تقصير المخاطبين وترددهم في الإخلاص التام في الإيمان والطاعة والاستجابة والإنفاق. وقصد التنديد بهم. والتنبيه على أنهم لا عذر لهم في ذلك ولا سيما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم يتلو عليهم آيات الله ويبلغهم وحيه. وقد احتوت أسلوبا من أساليب معالجة الموقف وتهذيب أخلاق المسلمين وتنقيتها وتطهيرها ودعوة قوية إلى الإنفاق والجهاد وتصديق رسول الله والفناء فيه. كما احتوت في الوقت نفسه تنويها بالرعيل الأول السابقين وما كان منهم من تفان وإخلاص وتضحيات وبذل في أصعب الظروف وأخطر المواقف هو بمثابة تسجيل لذلك وأسباب لما قرره الله تعالى من رضائه عنهم في الآية [100] من سورة التوبة التي سبقت الإشارة إليها. ولقد احتوت الآيات التي أوردنا أرقامها قبل قليل وغيرها مثل آيات سورة البقرة [204- 206] وآل عمران [138- 168] والنور [47- 54] والمجادلة [8- 9] والصف [2- 3] صورا أوضح يمكن أن تتضح بها تلك الصور. وجميعها قد مرّ تفسيرها وشرحها. وفي سورة التوبة آيات أخرى فيها مثل هذه الصور بل آيات فيها تصنيف رائع لواقع الجماعات الإسلامية في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم على ما سوف نشرحه في مناسباتها. ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره من المفسرين «2» عن التابعين من أهل التأويل في جملة: وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ حيث قال بعضهم: إنها تعني العهد الذي أخذه الله على ذرية آدم والذي ذكره في آية سورة الأعراف هذه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا ... [172] . وحيث قال بعضهم إنها تعني ما أودع الله فيهم من عقول

_ (1) انظر أيضا البغوي والخازن والزمخشري وابن كثير والطبرسي. (2) انظر أيضا البغوي والخازن والزمخشري وابن كثير والطبرسي.

ونصب لهم من أدلة فصار كل عاقل راشد بمثابة معاهد لله على الإيمان به بما وهبه من عقل ورشد. ومن هذه الأقوال ما ساقه بعض المفسرين قولا لهم «1» . ويتبادر لنا أن الأوجه أن تكون كما ذكرنا قبل في صدد تذكيرهم بمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام حيث يكونون بذلك قد أعطوا الله عزّ وجل ميثاقا على الإيمان والإخلاص والتضحية والبذل والجهاد والطاعة في المعروف. والله أعلم. ومع أن هناك من قال إن الفتح المذكور في الآية [10] هو فتح الحديبية- وقد سماه الله فتحا في سورة الفتح- فإن معظم أهل التأويل والمفسرين متفقون على أنه فتح مكة «2» . وحديث الإمام أحمد ثم حديث أبي سعيد اللذان نقلناهما عن ابن كثير مما يؤيد ذلك لأن خالد بن الوليد كان في يوم الحديبية مشركا محاربا للنبي والمسلمين. وهذا فضلا عن أن هناك وقائع عديدة بعد الحديبية قاتل فيها النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون وبذلوا جهودا ونفقات عظيمة في سبيلها كما أن الزحف على مكة اقتضى حشدا كبيرا وجهدا بالغا ونفقات جسيمة «3» . هذا، ومع خصوصية الآيات الزمنية فإن فيها تلقينا مستمر المدى كما هو المتبادر يثير في قلوب المسلمين في كل وقت الإخلاص واليقين. ويحفزهم إلى التضحية. بالمال والنفس والتسابق في ذلك. وبخاصة في الأزمات والشدائد التي تكون مثل هذه التضحية فيها أشدّ لزاما. ولقد شاءت حكمة التنزيل مع ذلك أن تنوه بالذين يفعلون ذلك في غير الأزمات والشدائد أيضا حيث ينطوي في هذا تلقين بليغ بوجوب البذل والتضحية في كل وقت ومال واستحقاق من يفعل ذلك الحسنى من الله عزّ وجل. وجملة: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ رائعة المدى في هتافها بأصحاب الأموال بأنهم ليسوا إلا وكلاء لله تعالى وخلفاءه فيها. وبأن عليهم أن

_ (1) انظر الكتب السابقة الذكر. (2) انظر المصدر نفسه. (3) انظر طبقات ابن سعد ج 3 ص 152 وما بعدها.

استطراد إلى خبر فتح مكة وما جرى في سياقه من أحداث وما كان له من أثر

يطيعوا الله مالكها الأصلي فينفقوا في سبيله على كل ما أمرهم الإنفاق عليه من نصرة دينه ومساعدة المحتاجين من خلقه. وهو هنا قد يجعل ولي أمر المؤمنين والمحتاجين من المسلمين أقوى صوتا في مطالبة أصحاب الأموال بالإنفاق في سبيل الله والمحتاجين. استطراد إلى خبر فتح مكة وما جرى في سياقه من أحداث وما كان له من أثر والمناسبة سانحة للاستطراد إلى خبر فتح مكة فنقول إن هذا الفتح الذي تمّ بعد سنين من صلح الحديبية على جلالة شأنه وخطورته لم يرد فيه في القرآن إلا الإشارة الخاطفة التي تقرر أنه كان واقعا في الآية [10] من هذه السورة ومثلها وفي مداها في سورة النصر. ثم إشارة تدل على أن مكة قد دخلت في حوزة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين وسلطانهم في آية سورة التوبة هذه: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ... [3] . وهذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ... [28] . وكل ما يرد للبال في هذا الصدد أن حكمة التنزيل لم تر في هذا الفتح من مواضع العبرة والعظة والتعليم والتسكين والتنديد والتنويه ما يستلزم قرآنا وهي المواضع التي استهدفتها الفصول التي أشير فيها إلى وقائع الجهاد والفتح على ما شرحناه في سياق وقائع بدر وأحد والأحزاب والحديبية وبني قريظة وبني النضير في سور الأنفال وآل عمران والأحزاب والفتح والحشر. وملخص ما ذكرته الروايات عن هذا الفتح «1» أنه قد تمّ في الثلث الأخير من شهر رمضان من السنة الهجرية الثامنة. وأن السبب المباشر له نقض قبيلة بني بكر

_ (1) انظر تفسير البغوي والطبرسي وابن كثير والخازن لسورة النصر وانظر سيرة ابن هشام ج 4 ص 3- 167 وابن سعد ج 3 ص 181- 198 وتاريخ الطبري ج 2 ص 323- 344.

التي كانت داخلة في عهد قريش في ميثاق صلح الحديبية وغارتها على قبيلة بني خزاعة التي كانت داخلة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين وقتلها بعض أفرادها بمساعدة وتشجيع بعض القرشيين. وقد ذهب وفد خزاعي إلى المدينة وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما وقع عليهم وناشدوه النصرة فوعدهم خيرا. وأدركت قريش أن عملها نقض للعهد فسارع أبو سفيان إلى المدينة ليوثق العهد. فكلّم النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليه فطلب من أبي بكر التوسط فأبى ثم من عمر فأبى ثم أتى علي بن أبي طالب وفاطمة فأبيا فجاء إلى باب المسجد يائسا وهتف (أيّها الناس إني قد أجرت بين الناس) ثم عاد ولما تمّ ما أراده النبي صلى الله عليه وسلم من حشد وإعداد زحف على رأس جيش بلغت عدته نحو عشرة آلاف من مسلمي المدينة والقبائل مثل أسلم وغفار ومزينة وجهينة وأشجع وسليم وفزارة. وكان الزحف لعشر ليال خلون من رمضان. ولما علم المكيّون بمسيره استنفروا حلفاءهم من هوازن وثقيف وبني بكر والأحابيش. ووصل زحف النبي صلى الله عليه وسلم مكّة قبل أن يصل القسم الأقوى من الحلفاء أي هوازن وثقيف. فرأى أهل مكة أن لا قبل لهم بما جاءهم واستسلموا للنبي صلى الله عليه وسلم وحكمه ولم يقع إلّا اشتباك جزئي في ناحية من أنحاء مكة مع فريق من القوة الزاحفة وأسفر عن بعض القتلى. ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أرسل أمرا بالكفّ فكان. ولقد خرج أبو سفيان قبيل الإسلام ليتحسس الأخبار فلقي عمّ النبي صلى الله عليه وسلم العباس وكان قد أسلم وظل في مكة يكتم إسلامه بموافقة النبي صلى الله عليه وسلم فسأله: ما وراءك؟ فقال له: هذا رسول الله في عشرة آلاف فأسلم ثكلتك أمك وعشيرتك. ثم قال له: أنت في جواري وأردفه وراءه وذهب به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم على يديه. وكرّمه النبي صلى الله عليه وسلم فأمر مناديا ينادي «من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن» كما أمر من ينادي «من دخل الحرم فهو آمن ومن أغلق بابه عليه فهو آمن» . ولقد رأى أبو سفيان ما لا قبل له به وما لم يخطر بباله حتى لقد قال للعباس: لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما. فأجابه: ويحك هي نبوة الله ونصره. وكان سعد بن عبادة أحد زعماء الخزرج من قواد بعض الأجنحة وحملة الرايات فلما دخل مكة أخذ يهتف (اليوم يوم الملحمة. اليوم تستحلّ الحرمة) فأخبر عمر بن الخطاب النبي بهتافه

وقال له: ما نأمن أن تكون له في قريش صولة. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّا أن يدركه فيأخذ الراية منه فيكون هو الذي يدخل بها. ولما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة عمد توّا إلى الكعبة فطهرها من الأصنام. وكان في جوفها وحولها نحو 360 صنما، ووجد على جدرانها صورا لإبراهيم وهو يستقسم الأزلام، وصورا لعيسى والملائكة فأمر بطمسها. وفي ثاني يوم احتشد الناس حول الكعبة فخطب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم خطبة بدأها بقوله: «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له. صدق وعده. ونصر عبده. وهزم الأحزاب وحده» . ثم قال: «ألا كلّ مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلّا سدانة البيت وسقاية الحاج. يا معشر قريش. إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء. الناس من آدم وآدم من تراب. يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: 13] يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم. فأجابوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء» . وأخذ أهل مكة يقبلون بعد ذلك على مبايعة النبي ويعلنون إسلامهم. وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد لهدم العزّى وعمرو بن العاص لهدم سواع وسعيد بن زيد لهدم مناة في أطراف مكة. وعدا خزاعي على مشرك من هذيل في أثناء ذلك فقتله فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال: «أيها الناس. إنّ الله حبس عن مكة الفيل. وسلّط عليها رسوله والمؤمنين. ألا وإنها لم تحلّ لأحد من قبلي ولا تحلّ لأحد من بعدي. وإنما حلّت لي ساعة من نهار ثم رجعت كحرمتها بالأمس فليبلّغ الشاهد منكم الغائب. ولا يحلّ لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما ولا يعضد فيها شجرا. ثم قال: يا معشر خزاعة. ارفعوا أيديكم عن القتل. لقد قتلتم قتيلا. ولسوف أؤدي ديته. فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين إن شاءوا فدم قاتله وإن شاءوا فعقله» . ولقد كان تصرّف النبي صلى الله عليه وسلم ومواقفه في أثناء الفتح رائعة عظيمة استهدف بها تأنيس الناس بالإسلام وتوطيد كلمة الله وحرماته مع توطيد الأخوة والمساواة الإسلامية والإنسانية معا.

ولقد كان من بركات صلح الحديبية أن ازدادت قوة النبي والمسلمين واتسعت دائرة الإسلام وتمكن النبي من خضد شوكة اليهود في مستعمراتهم خارج المدينة. ولقد كان ضعف قريش يزداد موازيا لازدياد قوة النبي واتساع دائرة الإسلام فكان هذا الزحف العظيم الذي زحف النبي صلى الله عليه وسلم على رأسه بعد سنتين من ذلك الصلح، بعد أن زحفت قريش وحلفاؤها في السنة الخامسة على المدينة بزحف مماثل فكان ما عرف في تاريخ السيرة بوقعة الأحزاب التي أشير إليها في سورة الأحزاب. ولقد انهدم بفتح مكة السدّ الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والإسلام وبين سائر العرب فتدفق سيل وفودهم بعده على النبي صلى الله عليه وسلم من كل ناحية من أنحاء جزيرة العرب. ودخل معظم اليمن في دين الله وسلطانه بالإضافة إلى معظم شمال الجزيرة وشرقها وسار النبي صلى الله عليه وسلم على رأس ثلاثين ألفا نحو مشارف الشام فيما سمي في تاريخ السيرة بغزوة تبوك، فوطّد هيبة السلطان الإسلامي في هذه المشارف وأخذ الإسلام ينتشر بين قبائلها وكانت هذه الغزوة من خطوات حركة الفتح الكبرى التي تمّت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. ولقد أخذ الأنصار يتساءولون عما إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم- وقد نصره الله على قريش ويسّر له فتح مكة أم القرى- يعود ثانية إلى المدينة أم يبقى في مكة ويتخذها مقرا له فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فجمع زعماءهم وقال لهم «معاذ الله. المحيا محياكم. والممات مماتكم» حيث سجّل بهذا الموقف تقديره العظيم لما كان من نصرهم له وإيوائهم لأصحابه المهاجرين ولما كان للهجرة إلى المدينة من بركات عظمى كان هذا الفتح من بعضها. وقد عيّن النبي صلى الله عليه وسلم فتى من فتيان مكة اسمه عتّاب بن أسيد واليا. وكان في اختياره دون المسنين من رجال مكة الحكمة والسداد. وكان من بني أمية فأراد مع ذلك أن يتألف قلوبهم. ومن طريف ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم عيّن لهذا الوالي درهما كل يوم لنفقته فقام خطيبا وقال: «يا أيّها الناس أجاع الله كبد من جاع على درهم.

فقد رزقني رسول الله صلى الله عليه وسلم درهما كل يوم فليست لي حاجة إلى أحد» . ويبدو أن الفتى لم يكن من الأغنياء. ولعلّ هذا من أسباب اختياره. ومما روته الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل أشخاص ولو كانوا معلقين بستار الكعبة لما كان من شدة كفرهم وأذاهم. منهم عبد الله بن خطل الذي عدا على مولى له فقتله بدون حقّ ثم ارتدّ والتحق بالمشركين. والحويرث بن نقيذ الذي كان اعتدى على بنتي رسول الله حينما هاجرتا من مكة للالتحاق بأبيهما فتحسّس راحلتيهما وأسقطهما إلى الأرض ومقيس بن صبابة الذي قتل أنصاريا وارتدّ ولحق بالمشركين وعبد الله بن سعد أخا عثمان بن عفّان في الرضاعة الذي كان كاتبا لرسول الله فافترى على الله ورسوله وارتدّ ولحق بالمشركين وصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل اللذان كانا شديدي الخصومة للنبي صلى الله عليه وسلم في مكة. وقد نفذ أمر رسول الله بالثلاثة الأولين. وشفع عثمان بن عفان بأخيه لدى رسول الله وقال إنه ندم وعاد إلى الإسلام فقبل شفاعته «1» . وفرّ صفوان وعكرمة من مكة فلم يظفر بهما واستشفع فيهما بعض المسلمين على أن يأتيا ويسلما فقبل النبي الشفاعة فجاءا وأسلما. وروت الروايات فيما روت أن رجلين من بني مخزوم استجارا بأم هانىء عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد علي أن يقتلهما فأغلقت الباب ثم ذهبت إلى رسول الله فأخبرته. فقال قد أجرنا من أجرت وأمّنا من أمّنت. فجاء الرجلان وأسلما. وفي الكتب الخمسة أحاديث ورد فيها شيء من ما روته الروايات من الأحداث والصور. في بعضها مغايرة لما جاء في الروايات وفي بعضها صور أخرى. من ذلك حديث رواه الشيخان وأبو داود عن ابن عباس قال: «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم خرج في رمضان من المدينة ومعه عشرة آلاف على رأس ثمان سنين ونصف من

_ (1) مما روته الرواية أن النبي صمت فترة بعد استشفاع عثمان بأخيه ثم قبل الشفاعة وقال لمن حوله لقد صمت ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه فقال له رجل هلا أو مأت إليّ يا رسول الله فقال له إن النبي لا يقتل بالإشارة. فأوردنا الرواية والله أعلم بصحتها.

مقدمه المدينة فسار بمن معه من المسلمين إلى مكة يصوم ويصومون حتى بلغ الكديد فأفطر وأفطروا» «1» . وحديث رواه البخاري عن عروة بن الزبير قال: «لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح وبلغ قريشا خرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مرّ الظهران فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة فقال أبو سفيان ما هذه. لكأنها نيران عرفة. فقال بديل بن ورقاء هي نيران بني عمرو فقال أبو سفيان بنو عمرو أقلّ من ذلك فرآهم ناس من حرس رسول الله فأدركوهم فأخذوهم إلى رسول الله فأسلم أبو سفيان «2» . فلما سار قال للعباس احبس أبا سفيان عند حطم الخيل حتى ينظر إلى المسلمين فحبسه العباس فجعلت القبائل تمرّ كتيبة بعد كتيبة على أبي سفيان فمرت كتيبة فقال يا عباس من هذه قال هذه غفار قال مالي ولغفار ثم مرت جهينة فقال مثل ذلك ثم مرت سعد بن هزيم فقال مثل ذلك ومرّت سليم فقال مثل ذلك حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها قال من هذه يا عباس قال هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة. معه الراية. فقال سعد يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة التي تستحلّ الكعبة فقال أبو سفيان يا عباس هذا يوم الذمار. ثم جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب فيهم رسول الله وأصحابه وراية النبي مع الزبير بن العوام فلما مرّ رسول الله بأبي سفيان قال ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة قال ما قال قال كذا وكذا فقال كذب سعد. ولكن هذا يوم يعظّم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة. وأمر رسول الله أن تركز رايته بالحجون. وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كداء. ودخل النبي من كدا فقتل من خيل خالد يومئذ رجلان حبيش بن الأشعر وكرز بن جابر الفهري» «3» وحديث رواه البخاري عن أسامة أنه قال يوم الفتح «يا رسول الله أين تنزل غدا قال النبي صلى الله عليه وسلم وهل ترك لنا عقيل من منزل ثم قال لا يرث المؤمن الكافر ولا يرث

_ (1) التاج ج 4 ص 383. (2) لا يذكر الحديث ما كان من أمر ومصير حكيم وبديل. ولا تذكر الروايات أنهما قتلا. فإما أن يكونا أسلما مع أبي سفيان أو أسرا ثم أسلما بعد. (3) التاج ج 4 ص 383- 385.

الكافر المؤمن. قيل للزهري ومن ورث أبا طالب. قال ورثه عقيل وطالب» «1» . وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة قال: «كنا مع رسول الله يوم الفتح فجعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى وجعل الزبير على المجنبة اليسرى وجعل أبا عبيدة على البياذقة وبطن الوادي فقال يا أبا هريرة ادع لي الأنصار فدعوتهم فجاؤوا يهرولون فقال يا معشر الأنصار هل ترون أوباش قريش قالوا نعم. قال انظروا إذا لقيتموهم غدا أن تحصدوهم حصدا وأخفى بيده ووضع يمينه على شماله وقال موعدكم الصفا. فما أشرف لهم أحد يومئذ إلا أناموه. وصعد رسول الله الصفا فجاءت الأنصار فأطافوا بالصفا فجاء أبو سفيان فقال يا رسول الله أبيدت خضراء قريش. لا قريش بعد اليوم فقال رسول الله من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. ومن ألقى السلاح فهو آمن. ومن أغلق بابه فهو آمن. فقالت الأنصار أما الرجل فقد أخذته رأفة بعشيرته ورغبة في قريته. ونزل الوحي على رسول الله. قال قلتم أما الرجل فقد أخذته رأفة بعشيرته ورغبة في قريته. ألا فما اسمي إذا. أنا محمد عبد الله ورسوله. هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم والممات مماتكم. قالوا والله ما قلنا ذلك إلا ضنّا بالله ورسوله قال فإن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم» «2» . وحديث رواه الشيخان عن عبد الله قال: «دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب. فجعل يطعنها بعود في يده ويقول جاء الحقّ وزهق الباطل. جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد» «3» . وحديث رواه البخاري وأبو داود عن ابن عباس قال: «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أبي أن يدخل البيت وفيه الآلهة فأمر بها فأخرجت وفيها صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما من الأزلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قاتلهم الله. لقد علموا ما استقسما بها قط. ثم دخل البيت فكبّر في نواحيه وخرج ولم يصلّ فيه» «4» . وحديث رواه الخمسة عن ابن عمر: «أن

_ (1) التاج ج 4 ص 383- 385. [.....] (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه.

[سورة الحديد (57) : آية 11]

النبيّ صلى الله عليه وسلم أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفا أسامة بن زيد ومعه بلال وعثمان بن طلحة من الحجبة حتى أناخ في المسجد فأمره أن يأتي بمفتاح البيت فدخل رسول الله ومعه أسامة وبلال وعثمان فمكث فيه نهارا طويلا ثم خرج فاستبق الناس فكان ابن عمر أول من دخل فوجد بلالا وراء الباب قائما فسأله أين صلى النبي فأشار له إلى المكان الذي صلى فيه قال ونسيت أن أسأله كم صلى» «1» وحديث رواه الترمذي بسند صحيح عن الحارث بن مالك قال: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول يوم فتح مكة لا تغزى هذه بعد اليوم إلى يوم القيامة» «2» . وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي شريح العدوي جاء فيه: «إن النبي صلى الله عليه وسلم قام في الغد من يوم الفتح فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن مكة حرّمها الله ولم يحرمها الناس. فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة فإن أحد ترخص بقتال رسول الله فيها فقولوا له إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم. وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار. وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس وليبلغ الشاهد الغائب» «3» . [سورة الحديد (57) : آية 11] مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) . عبارة الآية واضحة. وليس هناك رواية خاصة بنزولها. ونرجح أنها نزلت مع الآيات السابقة لأن صلتها بها وثيقة. فإن لم تكن نزلت منها فيكون والله أعلم نزلت عقبها والمتبادر أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة. وبسبيل توكيد ما احتوته هذه الآيات من حثّ على البذل والهتاف بأصحاب الأموال بأن أموالهم وإن كانت هي لله وهم عليها خلفاء فإن الله تعالى ليعدّ بذلها بمثابة قرض يقرضونه له يضاعف لهم عليه الأجر الكريم.

_ (1) التاج ج 4 ص 383- 385. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه.

[سورة الحديد (57) : الآيات 12 إلى 15]

وفي هذا ما فيه من روعة وتلقين مستمر المدى. وقد تكرر فحوى الآية لتجدد المناسبات التي اقتضتها. وقد نبهنا على مداها في سياق تفسير سورة المزمل التي جاءت فيها لأول مرة بما يغني عن التكرار. [سورة الحديد (57) : الآيات 12 الى 15] يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) . (1) انظرونا: بمعنى انتظرونا. (2) نقتبس: نأخذ قبسا من نوركم نشعل به مشاعلنا. في الآيات: حكاية لما سوف يكون عليه أمر المؤمنين المخلصين والمنافقين يوم القيامة حيث يسعى النور بين يدي الأوّلين وعن أيمانهم فتضاء بذلك طريقهم ضوءا قويا ويهتف لهم بالبشرى بالخلود بالجنّات وفي ذلك ما فيه من الفوز العظيم. وحيث ينادي المنافقون المؤمنين ملتمسين انتظارهم لاقتباس نور من نورهم ليسيروا فيه فيقال لهم ارجعوا وابحثوا عن نور من مكان آخر ثم يضرب بين الفريقين بسور في إحدى ناحيته الرحمة والنعيم للمؤمنين وفي إحداهما العذاب الشديد للمنافقين. وحيث ينادي المنافقون المؤمنين مرة أخرى قائلين لهم ألم نكن معكم ومنكم في الدنيا؟ فيقولون لهم نعم ولكن قلوبكم كانت فاسدة وكنتم مرتكسين في الريبة والشك تتربصون سير الأمور. وقد غرّتكم الأماني التي كنتم تتمنوها وغركم الشيطان والغرور بالله عزّ وجل فظننتم أنكم لن تحشروا ولن يحاسبكم الله. فكان مصيركم ما ترونه الآن من حكم الله وقضائه. وحيث يقال لهم

تعليق على الآية يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ... إلخ والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين

إنه لن يؤخذ منكم ولا من الكافرين فدية ولن ينصركم ناصر. وستكون النار هي مثواكم ومولاكم وبئست هي من مثوى ومولى. ولقد قال بعض أهل التأويل من الصدر الأول على ما ذكره الطبري وغيره إن كلمة وَبِأَيْمانِهِمْ في الآية الأولى عنت كتب الأعمال التي تعطى للمؤمنين بأيديهم اليمنى على ما ذكر في آيات أخرى كما قال بعضهم إنها مع كلمة بَيْنَ أَيْدِيهِمْ عنت أن النور يكون مضيئا ساطعا للمؤمنين من جميع جوانبهم. وقد يكون هذا القول هو الأوجه الأكثر اتساقا مع فحوى الآية. وهو ما أخذنا به في شرح الآيات السابقة. ولقد ذكر الطبري والبغوي عزوا إلى ابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار أن السور المذكور في الآية الثانية هو سور بيت المقدس الشرقي باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب والظاهر هو الموقع المعروف بوادي جهنم كما يسميه اليهود. وهذا قول غريب بعيد عن فحوى الآيات التي تحكي ما سوف يكون الأمر عليه يوم القيامة. وقد توقف الطبري فيه وقال إن أولى الأقوال بالصواب أنه سور سوف يقوم حاجزا بين أهل الجنّة وأهل النار يوم القيامة. وهو الوجيه والصواب. والله أعلم. تعليق على الآية يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ ... إلخ والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين ولم نطلع على رواية في مناسبة خاصة لنزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة بسابقاتها اتصال تعقيب واستطراد. وكلمة يَوْمَ التي بدأت بها متصلة بالجملة السابقة لها مباشرة كأنما تقول إن هذا اليوم هو الذي يضاعف الله فيه للذين يقرضونه قرضا حسنا الأجر الكريم. وأسلوب الآيات أسلوب تنويه وتطمين وبشرى للمخلصين المؤمنين وتنديد

وتقريع وإنذار للمنافقين. وفيها قرائن على ما ذكرناه في سياق الآيات السابقة من أنها بسبيل الإشارة إلى مواقف مزعجة من مرضى القلوب والمستجدين. ففي تلك الآيات تنديد وعتب وتعجب ونفي لعذر المترددين والمقصرين وفي هذه الآيات حكاية لما سوف يرد به على المنافقين حينما يستغيثون بالمؤمنين ويعتبون عليهم لتخليهم عنهم. والردّ قوي لاذع متناسب مع ما تستحقه طبقة المنافقين على مواقفها الخبيثة التي فيها كيد وتشكيك وإزعاج ودس وتقصير وتثبيط وتربص وفيه تلقين مستمر المدى. فمثل هذه الطبقة لا ينعدم في المجتمعات. فيجب أن تقابل من المخلصين بالنفرة والإنكار والاشمئزاز والتنديد والتخلي والتكذيب والفضيحة. فضلا عن استحقاقها من الله تعالى الخزي والعذاب في الآخرة. وذكر المنافقات مع المنافقين قد تكرر في آيات أخرى في سور مدنيّة سابقة. ونبهنا على ما في اختصاصهن بالذكر من دلالة على نشاط المرأة العربية ومساهمتها في أعمال النفاق الخبيثة. وذكرهن في هذه السورة التي نزلت بعد الفتح المكي يدل على أن المرأة ظلت تقوم بنشاطها إلى جانب الرجل في تلك الأعمال إلى أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات حديثا أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء وأبي ذرّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا أول من يؤذن له يوم القيامة بالسجود وأول من يؤذن له برفع رأسه فانظر من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي فأعرف أمتي من بين الأمم فقال له رجل يا نبيّ الله كيف تعرف أمتك من بين الأمم ما بين أمة نوح إلى أمتك فقال أعرفهم محجلون من أثر الوضوء. ولا يكون لأحد من الأمم غيرهم وأعرفهم يؤتون كتبهم بأيمانهم وأعرفهم بسيماهم في وجوههم وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم» والحديث لم يرد في الصحاح. وإذا صحّ فإنه ينطوي فيه بالإضافة إلى الخبر الغيبي عن مشاهد الآخرة بشرى نبوية تطمينية من مقاصدها التنويه بما كان من نعمة الله على المسلمين بالهدى والحث على صالح

[سورة الحديد (57) : آية 16]

العمل لإحراز خير الدرجات عند الله في الآخرة. ولقد روى الطبري والبغوي عن قتادة في سياق هذه الآيات حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «إن من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين وصنعاء ودون ذلك وإن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلّا موضع قدميه» وروي أن عبد الله بن مسعود قال: «يؤتون من نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم وأدناهم نورا من نوره على إبهامه فيطفأ مرة ويوقد أخرى» وهذان الحديثان لم يردا في الصحاح. فإن صحا فإنه يبدو من خلالهما إشارة إلى ما هو طبيعي من تفاوت درجات المؤمنين ونورهم وقد انطويا على حثّ على صالح الأعمال وقوة الإخلاص ليكون النور ساطعا وهاجا. ولقد جاء في الآية [8] من سورة التحريم التي سبق تفسيرها جملة مشابهة لبعض ما جاء في الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها مع فرق في الأسلوب ذي مغزى ففي آية التحريم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) وليس في الآية التي نحن في صددها هذا الدعاء، وإنما بشرى بالجنّات التي تجري من تحتها الأنهار ... وقد يكون في هذا الاختلاف ما عنته الأحاديث من اختلاف الدرجات. والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت إيحاء كل منهما بالأسلوب الذي جاءت به حسب المناسبة أو الظرف الذي نزلت فيه وسياق كل منهما قد يوحي أن الظرف أو المناسبة مختلفان. والله تعالى أعلم. [سورة الحديد (57) : آية 16] أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) .

تعليق على الآية ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ... إلخ. وما فيها من تلقين وعظة

عبارة الآية واضحة. وقد تضمنت سؤالا استنكاريا ينطوي على معنى التنديد عما إذا كان لم يحن الوقت الذي تخشع فيه قلوب المؤمنين لذكر الله ويخضعون للحقّ الذي أنزله الله على رسوله. وأن يحذروا من أن يكونوا كمن سبقهم من أهل الكتاب الذين قست قلوبهم بمرور الزمن فانحرف كثير منهم عن جادة الحق وتمردوا على أوامر الله تعالى وكانوا فاسقين. تعليق على الآية أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ... إلخ. وما فيها من تلقين وعظة لم يرو الطبري روايات خاصة في سبب نزول هذه الآية. ولكن البغوي روى ثلاث روايات «1» . واحدة عن الكلبي تذكر أن الآية الأولى نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة. وذلك أنهم سألوا سلمان الفارسي أن يحدثهم عمّا في التوراة من عجائب فأنزل الله نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف: 3] فكفوا ما شاء الله ثم عادوا فسألوه فأنزل الله اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [الزمر: 23] فكفوا ما شاء الله ثم عادوا فسألوه فأنزل الله أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد: 16] . وثانية معزوة إلى ابن مسعود تذكر أنه قال ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين «2» . وثالثة معزوة إلى ابن عباس تذكر أنه قال إن الله تعالى استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم بهذه الآية على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن. والروايات الثلاث غريبة. فالأولى تذكر أن الآية في حق المنافقين في المدينة ثم تذكر نزول آيتين في مناسبة نزولها ونزولهما قبلها في المدينة أيضا. الآيتان من

_ (1) أورد الخازن وابن كثير والطبرسي هذه الروايات أيضا. وهم متأخرون عن البغوي بمدة طويلة. (2) هذا الحديث من مرويات مسلم في فصل التفسير انظر التاج ج 4 ص 227.

سورتين مكيّتين وأولاهما الآية [3] من سورة يوسف وثانيهما الآية [23] من سورة الزمر «1» . والرواية الثانية تقتضي أن تكون الآية مكيّة لأن عبد الله بن مسعود أسلم في بدء الدعوة في مكة. والعهد المكي استمر ثلاث عشرة سنة. والآية مدنيّة في سياق مدني الطابع والمدى. وهذا فضلا عما كان عليه الرعيل الأول في مكة الذين منهم ابن مسعود من استغراق في ذكر الله تعالى وعبادته وإيمان شديد بما أنزل الله. كما وصفتهم آيات مكيّة عديدة مثل آيات سورة الذاريات [17- 19] وسورة المعارج [22- 35] وسورة الزمر [23] وسورة الفرقان [63- 64] وسورة المؤمنون [1- 10] وسورة الرعد [20- 24] . والرواية الثالثة تقتضي أن تكون نزلت في السنة الأولى بعد الهجرة. وباستثناء المنافقين فقد كان المؤمنون مخلصين كل الإخلاص ومستغرقين كل الاستغراق. ولم يكن مضى على المنافقين مدة تتحمل مخاطبتهم بالأسلوب الذي جاءت به الآية الأولى. والذي يتبادر لنا أن الآية متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا ومعقبة عليها. فالآيات السابقة مباشرة انطوت على مقايسة بين حالة المؤمنين المخلصين والمنافقين يوم القيامة، وتنديد ضمني بالمنافقين المرتابين المتربصين المغترين بالأماني وإنذار لهم. والآيات التي قبل هذه الآيات انطوت على عتاب لبعض المسلمين على عدم قوة إخلاصهم ويقينهم وعدم إنفاقهم في سبيل الله. وتساؤل عمن يقرض الله فيضاعف له الأجر فجاءت هذه الآيات تهتف بالفريق المقصر المرتاب المتباخل عما إذا لم يحن وقت إخلاصه وخشوع قلبه لذكر الله وما أنزل من الحق حتى لا يكون كأهل الكتاب الذين قست قلوبهم بمرور الزمن مع توكيد التنويه بالفريق المخلص المتفاني. وترتيب السورة وذكرها الفتح يعنيان أنها نزلت في السنة الهجرية الثامنة أو التاسعة وأن معظم القرآن كان قد نزل. وهذا وقت يتحمل ذلك الهتاف بالنسبة

_ (1) روى المصحف الذي اعتمدناه أن آية سورة يوسف مدنيّة. وقد فندنا الرواية في سياق تفسير سورة يوسف. وليس هناك خلاف في مكيّة آية الزمر.

للمقصرين المرتابين الواقفين مواقف غير مستحبة من الذين عاهدوا الله ورسوله على الإسلام مما حكته الآيات الكثيرة التي نزلت قبلها والتي أوردنا أرقامها وسورها قبل قليل. ولقد ذكرنا في ذيل الصفحة السابقة أن الرواية الثانية من مرويات مسلم عن ابن مسعود. وأحاديث مسلم من الصحاح. ولكن هذا ليس من شأنه أن يمنع الاستبعاد والاستغراب بل والشك أيضا. هذا، وتحذير المؤمنين في الآية الأولى من أن يكونوا كأهل الكتاب مستمد على ما هو المتبادر من واقع أهل الكتاب بانحرافهم ونزاعهم وتحريفهم لكتب الله وبعدهم وتمردهم عن أوامر الله وشرائعه ونسيانهم كثيرا مما أنزل الله على أنبيائهم مما حكته آيات كثيرة في سور المائدة والنساء وآل عمران والبقرة. وهو تحذير مستحكم لأن هذا الواقع كان تحت نظر المسلمين ومشاهداتهم ومسموعاتهم وكان موضع انتقادهم بل موضع انتقاد العرب قبل الإسلام على ما انطوى فى بعض الآيات منها آية فاطر هذه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ [42] . وآية الأنعام أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ [157] . ومع ما لمحناه من خصوصية الظرف الذي نزلت فيه الآية وصلتها بأحوال بعض فئات المسلمين في العهد النبوي المدني فإن الهتاف الذي فيها يظل واردا داويا مستمر المدى موجها إلى جميع المسلمين في كل ظرف ومكان كلّما انحرفوا أو انحرفت منهم فئة عن كتاب الله وسنّة رسوله. مذكرا إياهم بما فيهما من المثال الذي يشاهدونه من أهل الكتاب الذين ظلوا منحرفين عن رسالات رسلهم وكتب الله المنزلة عليهم. مهيبا بهم ألا يكونوا مثلهم لئلا تفسد قلوبهم وأن يخشعوا لذكر الله وما أنزل الله على رسوله من الحق وما صدر عن رسول الله من الحكمة ليكون في ذلك هدى لهم إلى سبيل الخير والسعادة والنجاح في الدنيا والآخرة.

[سورة الحديد (57) : آية 17]

[سورة الحديد (57) : آية 17] اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) . عبارة الآية واضحة. وقد وجّه الخطاب فيها إلى مخاطبين قريبين لتلفت نظرهم إلى قدرة الله تعالى على إحياء الأرض حتى بعد موتها. وتنبههم إلى أنه تعالى إنما يضرب لهم الأمثال في آيات لعلّهم يدركون مغزاها ومرماها وينتفعون من عبرها ومواعظها. ولا يروي المفسرون في نزول الآية رواية خاصة. والراجح أن الخطاب فيها موجّه إلى المخاطبين في الآيات التي قبلها وهم المؤمنون وأنها متصلة بهذه الآيات. ولقد قال الزمخشري في تأويلها: قيل هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب وإنه يحييها كما يحيي الغيث الأرض. وروى الخازن عن ابن عباس في تأويلها قوله إن الله يلين القلوب بعد قسوتها فيجعلها لينة محببة ويحيي القلوب الميتة بالعلم والحكمة كما هو شأن المطر بالنسبة للأرض. وشيء من هذا قاله مفسرون آخرون. والمتبادر على ضوء هذا التأويل الوجيه أن في الآية معنى تعقيبيا على الآية السابقة لها مباشرة يهدف إلى فتح الأمل في الذين أوشكوا أن تقسو قلوبهم كما قست قلوب أهل الكفار من قبلهم برحمة الله ليتلاقوا أمرهم بالارعواء عن غفلتهم والاتعاظ بما أنزل الله لهم من الآيات البينات المبينات. [سورة الحديد (57) : الآيات 18 الى 19] إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19) . (1) المصدقين والمصدقات: المتصدقين والمتصدقات. (2) الصديقون: هناك من قال إن الكلمة تعني لغويا كثيري الصدق والتصديق. وأنها عنت السابقين الأولين لكثرة وشدة تصديقهم لرسول الله. وقد

تعليق على الآية إن المصدقين والمصدقات ... إلخ والآية التي بعدها

وصف مريم بالصديقة في آية سورة المائدة [75] وجاءت كلمة الصديقين في آية سورة النساء هذه: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ [69] . وقد تكون الكلمة تعني طبقة استغرقت في طاعة الله فصارت ذات حظوة عنده بعد النبيّين. ومع ذلك فمجيئها بعد جملة: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ تعني أن المخلصين من هؤلاء هم الصديقون. (3) الشهداء: هناك من قال إن الكلمة عنت الذين قتلوا في سبيل الله. وهناك من قال إنها عنت الأنبياء والملائكة الذين يشهدون على الناس يوم القيامة. وهناك من قرأ: الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ كجملة واحدة وقال إنها تفيد أن كل مؤمن مخلص صديق شهيد. وهناك من قال إن كلّا منهما تعني فئة غير الأخرى وقد رجح الطبري هذا، وترجيحه وجيه. ونرجح إلى هذا أنها عنت الذين قتلوا في سبيل الله. تعليق على الآية إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ ... إلخ والآية التي بعدها عبارة الآيتين واضحة. وقد تضمنتا تنويها بالمتصدقين والمتصدقات الذين يبذلون أموالهم في سبيل الله ويقرضونه قرضا حسنا ووعدا بالأجر المضاعف الكريم لهم عند الله. ثم تنويها بالذين آمنوا بالله ورسوله حيث يستحقون بذلك اسم (الصديقين) وبالشهداء في سبيله الذين لهم الأجر والنور عند الله في حين تكون الجحيم عقابا ومصيرا للكافرين المكذبين. ولا يروي المفسرون رواية في نزولها فيما اطلعنا عليه. وقد رأينا البغوي يروي عن الضحاك أحد علماء التابعين أن الآية الأولى عنت ثمانية نفر من الأمة سبقوا أهل الأرض في الإسلام وهم أبو بكر وعلي وزيد وعثمان وطلحة والزبير وسعد وحمزة وإن لهم تاسعا ألحقه الله بهم هو عمر بن الخطاب رضي الله عنهم جميعا.

[سورة الحديد (57) : الآيات 20 إلى 21]

ومع الاحترام العظيم للتسعة فإنه يلحظ أن هناك عددا غير يسير من الرجال والنساء قد أسلموا وصدقوا وتعرضوا للأذى قبل حمزة وعمر. منهم خديجة أم المؤمنين وعبد الرحمن بن عوف وفاطمة بنت الخطاب وعبد الله بن مسعود وخباب وعمّار وأبو سلمة وزوجته وأبو عبيدة وغيرهم وغيرهم. والآيات إلى هذا منسجمة مع بعضها وبسبيل التنويه والبشرى للفئات الثلاث مع الإنذار للكافرين والمكذبين بصورة عامة. ومثل هذا التخصيص لا يؤخذ به إلا عن رسول الله وليس هناك حديث وثيق بذلك. والآيتان على كل حال تنطويان على صور رائعة لفريق من الرجال والنساء السابقين إلى الإيمان بالله ورسوله الذين استجابوا وصدقوا وتصدقوا واستشهدوا في سبيل الله بإخلاص وفناء واستغراق. ولعل حكمة التنزيل استهدفت بهما الاستدراك على ما تضمنته الآيات السابقة من صور غير مستحبة لفريق من المسلمين استحقوا ذلك الهتاف والعتاب على ما شرحناه آنفا لتقرر أن هناك فريقا من المسلمين استجابوا وصدقوا وتصدقوا واستشهدوا وأخلصوا وفنوا في سبيل الله ودينه وطاعة رسوله. [سورة الحديد (57) : الآيات 20 الى 21] اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) . (1) الكفار: هنا بمعنى الزراع. ومن معاني كفر الأصلية ستر وغطى. والزارع يستر بذاره ويغطيه. (2) حطاما: مكسرا مهشما من اليبس بعد الاصفرار.

تعليق على الآية اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو ... إلخ والآية التالية لها وما فيهما من تلقين

عبارة الآيتين واضحة كذلك. وقد تضمنتا: (1) وصفا تقريريا للحياة الدنيا بالنسبة للبشر بكونها لعبا ولهوا وزينة وموضوع تفاخر وتكاثر في الأموال والأولاد. (2) تمثل ذلك في حقيقته ونهايته كالماء الذي ينزل إلى الأرض فينبت به نبات رائع يسرّ به الزراع ثم يتعاظم ولكنه لا يلبث أن يصفرّ ويغدو حطاما مهشّما. (3) وتقريرا تنبيهيّا آخر ينطوي على الأمر الجد وهو أمر الآخرة حيث يلقى الناس فيها مصائرهم إما عذابا شديدا وإما غفرانا من الله ورضوانا وحينئذ يدركون أن الحياة الدنيا لم تكن إلا متاعا قصيرا لأمد، خداع المظهر. (4) ودعوة تعقيبية على ذلك التقرير موجهة إلى المخاطبين بأن يسارعوا- والحالة هذه- إلى اصطناع الأسباب إلى غفران الله ورضوانه وجنّة عرضها كعرض السماء والأرض قد هيئت للذين يؤمنون بالله ورسله. وهذا من فضل الله الذي يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. تعليق على الآية اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ... إلخ والآية التالية لها وما فيهما من تلقين لم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيتين. والمتبادر أنهما متصلتان أيضا بالآيات السابقة سياقا وهدفا وأن المخاطبين فيهما هم المسلمون. وظاهر من فحواهما وروحهما أنهما بسبيل الموعظة والحثّ على التسابق إلى نيل رضاء الله عزّ وجلّ بالبذل والإخلاص. والكفّ عن التقصير والتردد اللذين ندد بهما في الآيات السابقة. ومع ما يلحظ من صلة الآيتين بالموقف الراهن في العهد النبوي حين نزولهما فإن إطلاق العبارة والنداء فيهما يجعلهما خطابا مستمر المدى لكل الناس ولكل المسلمين بخاصة في كل ظرف ومكان ليكون لهم بما فيهما من عظة وحث

[سورة الحديد (57) : الآيات 22 إلى 24]

وإيجاب للكف عن التقصير والتردد في الإخلاص والبذل والاستغراق في دين الله والطاعة لله ولرسوله، أكثر وأشد من الاستغراق في متع الحياة وزينتها والتفاخر والتكاثر في الأموال والأولاد. ولقد تكرر تمثيل الحياة الدنيا بهذا الأسلوب الذي جاءت به الآية الأولى في مواضع سابقة. وجاء هنا في معرض التنديد بالمقصرين والمترددين في الإخلاص والبذل كما جاء في المواضع السابقة في معرض الدعوة إلى الله وعدم التصامم عنها ركونا إلى ما يتمتع به المدعوون من جاء ومال وقوة دنيوية. ونقول هنا ما قلناه في المناسبات السابقة إن الآيات ليست في صدد التزهيد في الدنيا وطيباتها والكسب والمال والولد. وكل ما في الأمر أن فيها تنبيها على عدم ميل المرء إلى الدنيا وجعل أعراضها أكبر همّه وقصارى آماله. وعلى عدم الاستغراق فيها استغراقا ينسيه واجباته نحو الله ونحو الناس. ويجعله يغفل عن الآخرة وحسابها وهي دار الخلود في حين أن أمد الحياة الدنيا قصير جدا بالنسبة لكل إنسان يعيش فيها. والأسلوب بهذا البيان علاج روحاني شاف يفيد الإنسان في جميع ظروفه وبخاصة حينما تطغى المادة على الروح وتغطي أغراض الدنيا الغرارة مثل الإنسانية العليا وتقسي القلوب وتنزع منها خشية الله تعالى. [سورة الحديد (57) : الآيات 22 الى 24] ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) . (1) من قبل أن نبرأها: من قبل أن نخلقها. ومن المؤولين من جعل الضمير عائدا إلى النفس والأرض ومنهم من جعله عائدا إلى المصيبة. وضمير المفرد قد يجعل عودته إلى المصيبة أوجه.

تعليق على الآية ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها.. والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين

(2) لكيلا تأسوا: لكيلا تحزنوا. في الآيات: (1) تقرير وجه الخطاب فيه إلى مخاطبين قريبين بأن كل ما يقع على الأرض وما يصيب نفوس الناس من مصيبة هو في كتاب عند الله مكتوب قبل وقوعها. وهذا من الأمور اليسيرة على الله عزّ وجلّ المتسقة مع شمول قدرته وعلمه. (2) وتقرير آخر بأن الله تعالى يبين لهم هذه الحقيقة حتى لا يداخلهم الحزن والأسى مما يفوتهم من خيرات ولا يبطرهم الفرح بما ينالونه من خيرات. مع التنبيه إلى أن الله تعالى لا يحب المتكبرين المتفاخرين المزهوين بما قد يحرزونه من خير ثم يبخلون عن البذل ويحرضون غيرهم على احتذاء حذوهم وبأنه غني عن الذين يعرضون عن استجابة أوامره. حميد شاكر لمن يستجيب إليها. تعليق على الآية ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها.. والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيات. والمتبادر أنها هي الأخرى متصلة بالآيات السابقة سياقا وموضوعا وتعقيبا. وأن الخطاب فيها موجّه بدوره إلى المسلمين موضوع الخطاب السابق. وهي بنوع خاص على ما تلهمه روحها بسبيل تقرير كون ما يحرزه الناس من خير وسعة رزق هو من فضل الله تعالى وليس لهم فضل فيه يبرر لهم الاغترار والتبجح والزهو والبخل به عن المحتاجين وسبيل الله. وكونهم غير قادرين على منع ضياعه وتلفه فلا موجب للبخل فيه والتقصير في واجب شكر الله عليه. وقد تلمح من هنا صلة قوية بين أهداف هذه الآيات والآيات التي ندد فيها قبل ببعض الصور غير المستحبة وبخاصة الضنّ بالمال وعدم إنفاقه في سبيل الله. في حين أن المال الذي في أيدي الناس هو مال الله جعلهم مستخلفين فيه وحسب.

وروح الآيات وفحواها يلهمان أن المصيبة المذكورة فيها هي من نوع ما ليس في مقدور الناس جلبه أو دفعه. ومعظم المفسرين أداروا الكلام عليها في هذا النطاق بحيث يصح القول إنها لا صلة لها بما يصدر من الناس من أعمال يثابون ويعاقبون عليها في الدنيا والآخرة. ويلمح في الآيات صفات أخرى من صفات المنافقين المرتابين المترددين المتربصين الذين كانوا موضوع الحملة والتنديد في الآيات السابقة أريد التنويه بها والتحذير منها وهي الاختيال على الناس والكبر والغرور بما حازوه، والبخل به وأمر الناس بالبخل. وهذا يفعله البخلاء في الغالب لتبرير بخلهم. وواضح أن في الآيات تلقينات مستمرة المدى تمدّ المسلم في كل ظرف بالثقة بالله والتسليم له والصبر على ما يصيبه من بلاء وعدم الجزع والأسى والشكر على ما يناله من خير وعدم الزهو والبطر والغرور به وعدم الخوف من عواقب البذل في سبيل الله ومساعدة المحتاجين وعدم الارتكاس في رذيلة الحضّ على البخل ومنع الخير عن الغير في أي حال. وقد تكررت الآيات القرآنية التي احتوت هذه التلقينات في القرآن المكي والقرآن المدني معا حيث يبدو من ذلك التساوق في الدعوة إلى مكارم الأخلاق والنهي عن رذائلها وإسلام النفس إلى الله في كل حال وظرف. واستهداف تربية المسلم والتسامي به إلى أوج الكمال النفساني والأخلاقي. وقد أورد المفسرون أحاديث نبوية في سياق هذه الآيات بالتنديد بالبخل والاختيال والكبر والتفاخر. ولقد أوردنا طائفة من الأحاديث في ذلك في سياق سور الليل ولقمان والإسراء والنساء «1» التي ورد فيها التنديد بهذه الأخلاق البغيضة ونبهنا على ما فيها من تساوق مع التلقين القرآني فنكتفي بهذه الإشارة. هذا، ولما كانت الآيات قد جاءت بسبيل التسكين والتحذير في ظروف

_ (1) انظر تفسير آيات الليل [8] ولقمان [18 و 19] والإسراء [37] والنساء [26 و 27] .

[سورة الحديد (57) : آية 25]

خاصة على ما شرحناه استلهاما من فحواها وسياقها فنرى الأولى أن يوقف عند ذلك دون توسع في موضوع قدر الله وكون ما يصيب الناس من مصائب هي مقدرة عليهم حتما. لأن هذا ليس من مقاصد الآيات في مقامها وسياقها. وكل ما فيها هو تقرير كون ذلك بعلم الله الأزلي الذي عبّر عنه في الآية بكلمة كِتابٍ والله أعلم. وننبّه على أن المفسرين والمؤولين الذين يروي المفسرون أقوالهم قالوا إن كلمة كِتابٍ هنا عنت اللوح المحفوظ الذي كتب فيه كل ما سوف يحدث في كون الله وخلقه. ولقد قالوا مثل هذا في سياق آيات أخرى وردت فيها كلمة كِتابٍ بالمعنى الذي وردت فيه هنا. مثل آيات سورة الأنعام [59] وهود [6] والرعد [29] والحج [70] وفاطر [11] . ولقد علقنا على تعبير اللوح المحفوظ في سياق تفسير سورة البروج التي ورد فيها لأول مرة كما علقنا على ما قالوه في سياق الآيات المذكورة آنفا. فنكتفي بهذه الإشارة دون التكرار. [سورة الحديد (57) : آية 25] لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) . في الآية تقرير رباني: بأن الله قد أرسل رسله للناس بالحجج والبينات. وأنزل عليهم الكتب التي احتوت ما يجب أن يقوم به الناس لتوطيد الحق والعدل فيما بينهم. كما أنه خلق الحديد وألهمهم كيفية استعماله وفيه وسائل القوة والتنكيل كما فيه منافع أخرى للناس وقد جعل الله كل هذا اختبارا للناس وقطعا لحجتهم وأعذارهم. وليمتاز منهم الذين ينصرون الله ورسله بتصديقهم وتأييدهم بما جاءوا به من الحقائق الإيمانية ولو كانت ماهيتها غائبة عنهم وأفهامهم غير مدركة لكنهها. وهو القوي العزيز المستغني عن الناس القادر على ما يريد.

تعليق على الآية لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ... وما فيها من تلقين

تعليق على الآية لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ ... وما فيها من تلقين ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآية. ومع أنها تبدو فصلا جديدا إلّا أن احتمال اتصالها بالآيات السابقة لها اتصال تعقيب واستطراد وارد. ولا سيما أن الآيات السابقة احتوت دعوة إلى الجهاد والبذل في سبيل الله. وهذه الآية احتوت بيان هدف من أهداف هذه الدعوة وهو توطيد الحق والعدل بين الناس. والآية بحد ذاتها جملة تامة احتوت تلقينات إيمانية واجتماعية وقضائية وسلطانية. وبجملة واحدة احتوت تقرير استهداف قيام السلطان في الأرض لتوطيد الحق والعدل بين الناس: فالله تعالى لم يدع الناس بدون تعليم وتنبيه. فأرسل رسله إليهم بالبينات الواضحة. وأنزل عليهم كتبه لتوطيد الحق والعدل بينهم. وجعل القوة الممثلة في الأسلحة الحديدية من الوسائل النافعة لمن ينحرف ويكابر ويعاند ويحاول مظاهرة البغي والباطل على الحق والعدل ولا يرضخ لمقتضياتهما. وكل ذلك إنما هو لخير الناس وصلاحهم. ولقد اختلفت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره من المفسرين عن أهل التأويل الأولين في صدد الميزان والحديد اللذين أنزلهما الله على رسله» . حيث رووا أن الميزان هو الميزان المعروف الذي يتعامل الناس به في معايشهم وأن الله قد أنزله مع جبريل على نوح وأمره أن يأمر قومه بالتعامل به، وحيث رووا أيضا أن الله قد أنزل مع آدم من الحديد السندان والكلبتين والمطرقة والميقعة. وحيث رووا حديثا مرفوعا عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنزل الله أربع بركات من السماء إلى الأرض وهي الحديد والنار والماء والملح» وحيث رووا مع ذلك أن الميزان هنا بمعنى العدل وأن القصد من تعبير إنزال الحديد هو خلقه وتعليم الناس الانتفاع به في شتى الوجوه من حفر الأرض والجبال وبخاصة في صنع السلاح الذي فيه ردع للناس وهو ما عبر عنه

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي والزمخشري والطبرسي وابن كثير والخازن.

[سورة الحديد (57) : الآيات 26 إلى 27]

بجملة: فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ. والحديث النبوي لم يرد في الصحاح. والمتبادر أن التأويل الأخير هو الأوجه المتسق مع طبائع الأشياء. وقد روى المفسر القاسمي في محاسن التأويل للإمام ابن تيمية تفنيدا سديدا للتأويلات الأولى جاء فيه فيما جاء أن ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وما يروى عن ابن عباس من إنزال الأدوات الحديدية على آدم ونوح كذب. وأن الناس يشهدون بعضهم وهم يصنعون بأيديهم هذه الأدوات من حديد المعادن الذي يعثرون عليه في الأرض والجبال. وأن تلك الأقوال مكابرة للعيان. [سورة الحديد (57) : الآيات 26 الى 27] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27) . تعليق على الآية وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ ... والآية التالية لها. وما فيهما من صور وتلقين وأهداف وتنويه بأخلاق النصارى عامة وما ورد في رهبانية النصارى والإسلام من أحاديث لم نطلع على رواية خاصة في سبب نزول الآيتين. والمتبادر أنهما جاءتا معقبتين على الآية السابقة لهما تعقيبا بيانيّا تضمن تقرير كون الله- جريا على ما اقتضته حكمته من إرسال الرسل لهداية الناس وتوطيد الحق والعدل بينهم- قد أرسل نوحا وإبراهيم. وجعل في ذريتهما النبوّة والكتاب. فاهتدى من اهتدى منهم وفسق عن أمر الله وانحراف عن جادة الحق كثيرون. ثم أرسل على آثارهم ونهجهم من بعدهم رسلا كثيرين. ثم أرسل عيسى ابن مريم وآتاه الإنجيل. وجعل في قلوب

الذين اتبعوه رأفة ورحمة حتى إنهم فرضوا على أنفسهم ابتداعا شيئا لم يفرضه الله عليهم وهو الرهبانية والاعتزال للعبادة والتبتل والتعفف عن النساء ابتغاء رضوان الله تعالى وتزيدا في عبادته. ولكنهم لم يستمروا على رعايتها حق الرعاية. فمنهم من آمن وأخلص فآتاه الله أجره. وكثير منهم فسق عن أمر الله وانحرف عن جادة الحق أيضا. وينطوي في البيان التعقيبي الذي استهدفته الآيات- كما تبادر لنا- تقرير واقع الأمر عند نزول الآيتين بالنسبة لأهل الكتاب وبخاصة النصارى منهم كما هو ظاهر. ولقد أورد الطبري في سياق هذه الآيات حديثا أخرجه بطرقه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اختلف من كان قبلنا على إحدى وسبعين فرقة نجا منهم ثلاث وهلك سائرهم. وقد وازت فرقة من الثلاث الملوك وقاتلتهم على دين الله ودين عيسى فقتلهم الملوك. وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك فأقاموا بين ظهراني قومهم يدعونهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم صلوات الله عليه فقتلتهم الملوك ونشرتهم بالمناشير. وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بالمقام بين ظهراني قومهم فترهبوا فيها فهو قول الله عزّ وجلّ وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ قال: ما فعلوها إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وهم الذين آمنوا بي وصدقوني. قال: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ قال: فهم الذين جحدوني وكذبوني» . والحديث ليس من الصحاح. فإن صحّ جاء توضيحا للمقصود من الجملة الأخيرة في الآية الثانية وهم الذين آمنوا به وكفروا به فالأولون لهم أجرهم والآخرون فاسقون وهم الأكثر. وهذا كذلك متبادر من العبارة ولو لم يصح الحديث أيضا لأنها تقرر واقع النصارى عند نزول القرآن. ولا يمكن أن تنصرف عبارة الَّذِينَ آمَنُوا إلّا إلى الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم. وإيمان فريق من النصارى بالنبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه حقيقة يقينية مؤيدة بنصوص قرآنية عديدة جاءت في سور

سبق تفسيرها. ولقد كان عدد المؤمنين منهم في حياة النبي أقل من الجاحدين. وكانت النصرانية سائدة في بلاد الشام ومصر. فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم رسله وكتبه إلى ملوكهم فلم يستجيبوا إليها. وهذا وذاك مصداق ما جاء في الآية. والله تعالى أعلم. وفي الحديث إن صح بالإضافة إلى ما فيه من أخبار متسقة مع المأثورات القديمة عن سير المسيحية ونزاعاتها وفرقها وما كان من اضطهاد ملوك الرومان للنصارى أولا ثم لمن خالف مذهبهم بعد أن اعتنقوا النصرانية ثانيا وما جرى من قتال بين الفرق النصرانية «1» تفسير لجملة وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ يفيد أن الله تعالى لم يفرض عليهم الرهبانية بدءا وإنما هم ابتدعوها وفرضوها على أنفسهم فأقرهم الله عليها ابتغاء رضوانه. وهذا ملموح من فحوى الآيات وروحها وبدلالة كلمة ابْتَدَعُوها إن لم يصح الحديث. ولقد أراد فريق من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبتدعوا رهبانية في الإسلام ابتغاء رضوان الله تقليدا للرهبان والقسيسين من النصارى الذين أثنت عليهم آيات سورة المائدة [87- 89] فاقتضت حكمة التنزيل أن لا تشجعهم على ذلك لئلا يقعوا فيما وقع فيه النصارى من قبلهم. ولينصرفوا إلى ما هو الأنفع والأجدى لنشر دين الله وتعاليمه والجهاد في سبيله مما انطوى خبره وتلقينه البليغ في الآيات المذكورة وفي الأحاديث النبوية الواردة في صددها والتي منها «لكلّ أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله» على ما شرحناه في سياق تفسير الآيات المذكورة. وذكر النصارى على الوجه الذي ورد وإن كان يتبادر أنه من قبيل الاستطراد المألوف في النظم القرآني فإن فيه على كل حال معنى التنويه المستحب بما كان عليه النصارى إجمالا من دماثة خلق ورقة قلب وتسامح وتواضع بالقياس إلى اليهود الذين وصف القرآن أخلاقهم بما وصفها من قسوة وغلظة وخبث وأنانية

_ (1) انظر كتابنا تاريخ الجنس العربي ج 2 وج 4 وتاريخ سورية للدبس مجلد 3 ج 3 ومجلد 3 ج 4.

[سورة الحديد (57) : الآيات 28 إلى 29]

ودسّ وعداء شديد صريح للمسلمين. ولعل فيه كذلك إشارة تنويهية إلى تلك الفئة التي كانت تقيم في الصوامع والديارات التي كانت منثورة في براري العراق والفرات والشام والتي كان العرب يمرون بها في رحلاتهم غدوا ورواحا والتي كانوا قد فرغوا فيها للعبادة واعتزلوا شهوات الدنيا وأعراضها وشرورها وبهارجها. والله أعلم «1» . وجملة: وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ بالنسبة لنوح وإبراهيم عليهما السلام قد تفيد أن الله عزّ وجلّ اختصّ ذريتهما بذلك. وإذا صح هذا يكون ذلك لأول مرة في القرآن لأنه لم يسبق مثله. ومما يرد على البال أن مما استهدفه توكيد دخول جميع الأنبياء والرسل في مشمول ذُرِّيَّتِهِمَا فيدخل في ذلك الأنبياء الذين لم يعرف أنهم من نسل إبراهيم مثل هود وصالح وشعيب ولوط وإدريس وغيرهم ممن لم يرد ذكرهم في القرآن وإنما أشير لهم إشارة عامة في جملة: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ. في الآية [164] من سورة النساء وفي الآية [78] من سورة غافر التي احتوت جملة قريبة. ولعل مما استهدف بهذا التوكيد الردّ على بني إسرائيل الذين كانوا يدعون أن جميع الأنبياء من جنسهم ويزهون ويتبجحون بذلك على ما شرحناه في سياق آيات سورة الجمعة وغيرها وعلى ما حكته روايات عديدة أوردناها في سياق ذلك. والله أعلم. [سورة الحديد (57) : الآيات 28 الى 29] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) . (1) كفلين: بمعنى ضعفين على قول الجمهور.

_ (1) اقرأ بحث الديارات في حرف الدال في معجم البلدان لياقوت واقرأ الجزء الخامس من كتابنا تاريخ الجنس العربي أيضا.

(2) لئلا يعلم: الجمهور على أن (لا) زائدة وأن تقدير الجملة لأن يعلم أو لكي يعلم. وروح الآية يؤيد ذلك. وقد قرئت (ليعلم) وهذه في نفس المعنى المقصود. (3) أن لا يقدرون: الجمهور على أن (أن) هي مخففة من أنّ وتقدير الجملة (أنهم لا يقدرون) أي لا يقدرون على منع فضل الله عن أحد. وعدم حذف نون المضارع دليل على صحة ذلك. عبارة الآيتين واضحة. وقد تضمنت الأولى التفاتا إلى المؤمنين منطويا على التعقيب والحثّ والبشرى: فعليهم- وقد عرفوا سنّة الله تعالى وحكمته- أن يعتبروا ويتقوا الله ويلتزموا حدوده ويؤمنوا برسله إيمانا مخلصا ويتبعوا إرشاده. فإن فعلوا ضاعف الله لهم الأجر وجعل لهم نورا يمشون في ضوئه فلا يضلون عن سبيل الحق القويم وغفر لهم ذنوبهم وهو الغفور الرحيم وتضمنت الثانية شيئا من الالتفات إلى أهل الكتاب منطويا في الوقت نفسه على بشرى للمسلمين: ففي ما يوصي الله تعالى المؤمنين ويأمرهم به من تقوى الله والإيمان برسله ويعدهم به من مضاعفة الأجر لهم وتيسير النور الذي يسيرون على هداه وغفران ذنوبهم. ويكون في ذلك تنبيه لأهل الكتاب ليعلموا أنهم غير قادرين على منع فضل الله عن أحد ولا محتكريه. فالله تعالى هو صاحب الفضل وهو يتصرف فيه كما تقتضي حكمته وعدله فيؤتيه من يشاء ويصرفه عمن يشاء. وتوجيه الخطاب إلى الذين آمنوا يتضمن قرينة بل دلالة على أن جملة وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ لا تعني الإيمان البدني بالرسول لأنهم مؤمنون به حينما وصفوا ب الَّذِينَ آمَنُوا وإنما تعني الحثّ على قوة اليقين والوثوق والطاعة. وهي من هذه الناحية من باب الآيتين [7] و [8] من هذه السورة على ما شرحناه في سياقهما.

تعليق على الآية يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته إلخ والآية التالية لها. وما فيهما من تلقين وما ورد في صددهما من أحاديث

تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ إلخ والآية التالية لها. وما فيهما من تلقين وما ورد في صددهما من أحاديث روى المفسرون في سياق هذه الآيات أن وفدا من نصارى الحبشة وفد على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا. ورأوا ما عليه المسلمون من خصاصة فاستأذنوا النبي بأن يحضروا شيئا من أموالهم ويعطوها للمحتاجين فأذن لهم فذهبوا وأحضروها ووزعوها فأنزل الله آيات سورة القصص [52- 55] هذه الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55) . فصاروا يفخرون على المسلمين من العرب ويقولون لهم أجرنا مضاعف، لأننا آمنا بكتابكم وكتابنا من قبله فأنزل الله الآية الأولى من الآيتين اللتين نحن في صددهما فحسد المسلمون الحبشة المسلمين العرب فأنزل الله الآية الثانية. والرواية لم ترد في الصحاح. ولقد روي أن آيات القصص المذكورة مدنيّة. ولعل ذلك متصل بهذه الرواية. ولقد توقفنا في سياق تفسير آيات القصص في رواية مدنيتها ونبهنا على ما تبادر لنا من دلائل على مكّيتها بما يغني عن التكرار. ونزيد هنا فنقول إن فحوى الآيتين لا يمكن أن ينطبق على ما جاء في الرواية من حيث إن الرواية تقتضي أن تكون الآية الأولى ردا على فخر من بعض أهل الكتاب الذين آمنوا بالرسالة المحمدية بسبب آيات مدنيّة وضعت في سورة مكيّة. ثم وضع الردّ في سورة مدنيّة. وأن يكون أهل الكتاب الذين آمنوا قد حسدوا المسلمين العرب فأنزل الله آية فيها ردّ عليهم مع أن فحوى الآية لا يمكن أن تفيد أنها عنت جماعة مؤمنين بالرسالة المحمدية ...

والذي يتبادر لنا أن الآيتين جاءتا معقبتين على الآيات السابقة التي تحكي حالة أهل الكتاب وبخاصة النصارى في زمن النبي وقبله لتهتف بالمسلمين أن يتقوا الله ويتيقنوا ويثقوا بكل ما جاء به رسوله ودعا إليه فيستحقوا بذلك ضعفين من رحمة الله وغفرانه ونوره. ويكون في ذلك ردّ على أهل الكتاب غير المؤمنين الذين قد يحتجون بأنهم على هدى الله وأنهم الحائزون وحدهم لرحمته وفضله. والراجح أنه كان يقع حوار بين بعض المسلمين وأهل الكتاب حول من هو الأهدى والأفضل والمستحق لرحمة الله فكان في الآية الثانية ترديد لذلك ووضع للأمر في نصابه الحق. وهناك آيات في سور سبق تفسيرها تذكر ما كان من تبجح أهل الكتاب بأنهم أبناء الله وأحباؤه وبأنهم الأهدى الذين لهم الجنة وحدهم إلخ كما جاء مثلا في آيات البقرة [111 و 120 و 125] والمائدة [18] . ولقد روى الطبري عن ابن زيد في تأويل جملة: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ إنها بمعنى يؤتكم رحمته مرتين مرة في الدنيا ومرة في الآخرة. وعن الضحاك إنها بمعنى يؤتكم أجرا على إيمانكم بالكتاب الأول وأجرا على إيمانكم بالقرآن. ومع أن القول الأول أوجه من الثاني فإنه يتبادر لنا أيضا أن الجملة على سبيل البشرى والتطمين بمضاعفة الله الأجر للمؤمنين المتقين. وهو ما تكرر بأساليب متنوعة مرّت أمثلة كثيرة منها في السور التي سبق تفسيرها والله أعلم. وعلى كل حال ففي الآيتين تلقين مستمر المدى يستمد منه المسلم حافزا على تقوى الله لنيل أجره المضاعف والاهتداء بنوره الهادي. وإيذانا بأنه لا حرج على فضل الله ولا يحقّ لأحد أن يحتكره فالله هو صاحب الفضل فيؤتيه من يشاء ممن استحقه بعمله الصالح وتقواه. ولقد أورد المفسرون في سياق الآيتين بعض أحاديث نبوية فيها تمثيل مبشر للمسلمين وهي ليست من الصحاح ومع ذلك فلم نر بأسا من إيرادها لما فيها من تبشير وتطمين للمسلمين. منها حديث أخرجه الطبري عن عبد الله بن عمر قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنما آجالكم في آجال من خلا من الأمم كما بين صلاة

العصر إلى مغرب الشمس وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استأجر عمالا فقال من يعمل من بكرة إلى نصف النهار على قيراط قيراط فعملت اليهود ثم قال: من يعمل من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قراطين فعملتم» . وحديث أخرجه الطبري بطرقه عن عبد الله بن دينار قال: «سمعت ابن عمر يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذه الأمة أو قال مثل أمتي ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل قال من يعمل لي غدوة إلى نصف النهار على قيراط قال اليهود نحن فعملوا. ثم قال من يعمل من نصف النهار إلى العصر على قيراط قالت النصارى نحن فعملوا. وأنتم المسلمون تعملون من صلاة العصر إلى الليل على قيراطين» . هذا، وفي دعوة المسلمين إلى تقوى الله عزّ وجلّ والإيمان برسوله في ختام السورة تناظر مع الدعوة إلى الإيمان بالله ورسوله في أول السورة. وقد يكون في هذا مشهد من مشاهد النظم والتأليف القرآني التي تكررت في أوائل وأواخر سور عديدة على ما نبهنا عليه في مناسباته، والله أعلم.

سورة التوبة

سورة التوبة في هذه السورة فصول عديدة ومتنوعة إلّا أنها يجمعها طابع عام واحد هو الحثّ على الجهاد والحملة على المنافقين والكافرين والمشركين. والثناء على المؤمنين المخلصين. وتنطوي فصولها على: (1) التبرّؤ من المشركين الناقضين للعهد والحثّ على قتالهم إلى أن يتوبوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة مع احترام عهد المعاهدين الأوفياء لعهودهم. (2) والتنبيه على أن المشركين نجس لا يجوز أن يدخلوا منطقة البيت الحرام بعد أن صار في حوزة الإسلام ولا أن يتولوا مسجدا ويعمروه أو يعمروا المسجد الحرام. وليس لهم في ذلك حقّ وميزة. (3) وحظر تولي الآباء والأقارب الكفار ومناصرتهم والتحالف معهم وإيجاب إيثار الله ورسوله والجهاد في سبيله عليهم وعلى جميع أعراض الدنيا إذا تعارض هذا مع ذاك. (4) وحثّ على قتال أهل الكتاب الذين لا يؤمنون بالله ورسوله ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق حتى يعطوا الجزية ويخضعوا لسلطان الإسلام فيكون لهم ذلك مانعا. (5) وإقرار حرمة الأشهر الحرم الأربعة بأعيانها وتحريم النسيء والتلاعب في أوقاتها بسبيل التقديم والتأخير فيها وإخراج بعضها من الحرمة وجعل غيرها بديلا عنها.

(6) وحثّ واستنفار إلى غزوة أجمعت الروايات على أنها غزوة تبوك وتنديد بالمتثاقلين والمتخلّفين عنها بأعذار كاذبة ووصمهم بالنفاق. (7) وصور من مواقف المنافقين وأقوالهم ومكائدهم وسخريتهم وتثبيطهم وإخلافهم لوعودهم وعهودهم وتنديد باعتذاراتهم وأيمانهم الكاذبة وإنذارات قارعة لهم وإيجاب الوقوف منهم موقف الشدة والحزم. (8) وبيان لطبيعة الأعراب وشدة كفر الكافرين ونفاق المنافقين منهم بسببها مع التنويه بطبقة أخلصت في إيمانها وإسلامها وأعمالها منهم. (9) وتصنيف المنتسبين إلى الإسلام إلى مخلصين سابقين وتابعيهم بإحسان. ومنافقين متسترين، وخالطي عمل صالح بعمل سيىء. وأناس غير معروفة حقيقتهم على اليقين موكولين إلى الله. ومنافقين مجاهرين بالضرر والفساد. (10) حظر الاستغفار للمشركين والصلاة عليهم. (11) ومشاهد عن إخلاص بعض فقراء المسلمين إزاء الدعوة إلى الجهاد وشدة ندم بعض المخلصين المتخلفين وتوبة الله عليهم. (12) ومشاهد عن مواقف المنافقين عند نزول القرآن. (13) وتشريع في صدد التناوب في الجهاد. (14) وختام وصفي رائع لأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وشدة حرصه على المسلمين ورأفته ورحمته بهم. وأكثر فصول السورة معقودة على غزوة تبوك وظروفها وأحداثها. وهناك رواية غريبة تذكر أنها نزلت دفعة واحدة «1» . في حين أن مضامين فصولها تلهم بكل قوة أن منها ما نزل قبل غزوة تبوك بمدة ما. ومنها ما نزل أثناء هذه الغزوة، ومنها ما نزل بعد العودة من هذه الغزوة. حيث يسوغ القول إن الرواية المذكورة غير معقولة وغير صحيحة. وإن فصول السورة قد رتبت في وقت متأخر من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن تم نزول الفصول التي اقتضت حكمة الله ورسوله أن تحتويها. والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن آيتيها الأخيرتين مكيّتان. وهذه الرواية مروية

_ (1) انظر تفسير الزمخشري والطبرسي والمنار. [.....]

في تفسير المنار وفي الإتقان للسيوطي «1» عن ابن الفرس. وصاحب تفسير المنار يسوغ الرواية ويقول إن معنى الآيتين لا يظهر إلّا في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام في مكة في أول زمن البعثة، وهناك رواية أوردها ابن كثير تفيد أن الآيتين كانتا منسيتين فألحقتا بآخر السورة ارتجالا. وكانت هذه الرواية مما قوى تسويغ صاحب المنار. هذا في حين أن هناك روايات تذكر أن الآيتين هما آخر القرآن نزولا. وقد رجحنا أنهما جاءتا معقبتين على الآيات السابقة لهما استلهاما من فحواهما. وسنزيد الأمر بيانا في سياق تفسير الآيات. والمتواتر اليقيني أن مصحف عثمان الذي هو أصل المصاحف لم يفصل بين سورتي الأنفال وهذه السورة بالبسملة أسوة بسائر السور. وقد روى الترمذي «2» حديثا عن ابن عباس جاء فيه: «قلت لعثمان رضي الله عنه ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين «3» فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال. فقال عثمان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا وكانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها «4» فظننت أنها منها فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فلذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما بسم الله الرحمن الرحيم فوضعتها في السبعة الطوال» . وهناك روايات أخرى في صدد ذلك. منها رواية عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه جوابا على سؤال سأله ابنه محمد مفادها أن هذه السورة نزلت بالسيف وأن البسملة أمان. ورواية عن أبيّ بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان

_ (1) الإتقان ص 16. (2) التاج ج 4 ص 112، 113. (3) يسمى ما قلّت آياته عن المائة من السور ولم تكن من القصار بالمثاني، وما زادت آياته على المائة بالمئين. (4) أي فيها فصول مثلها من جهاد وعهد.

يأمر في كل سورة بكتابة بسم الله الرحمن الرحيم ولم يأمر بذلك في سورة التوبة وكانت نزلت في آخر القرآن فضمت إلى الأنفال لشبهها بها. ورواية- جاءت بصيغة قيل- تذكر أن الصحابة اختلفوا فيما إذا كانت سورتا الأنفال وبراءة واحدة أم سورتين ولم يتغلب رأي على رأي فتركوا بينهما فرجة تنبيها على قول من يقول إنهما سورتان. ولم يكتبوا البسملة تنبيها على قول من يقول إنهما سورة واحدة. وهناك رواية تذكر أن السورتين كانتا تسميان القرينتين لهذا السبب «1» . وباستثناء حديث الترمذي عن ابن عباس ليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. والمتبادر أن رواية عدم وضع البسملة بسبب كونها نزلت في القتال غير سائغة لأن هناك سورا أخرى احتوت الأمر بالقتال. وتبقى الروايات الأخرى وهي محتملة. وقد يكون فيها إزالة لإشكال ورود سورة الأنفال التي تقلّ آياتها عن المائة بين السور الطوال في حين أن ترتيب سور القرآن سار على وضع الأطول فالأطول إجمالا. ولم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع البسملة بينهما. وآياتهما معا تجعل سلكهما في سلك السور الطوال سائغا. وهذه الروايات مع حديث ابن عباس الذي رواه الترمذي تفيدنا مسألتين مهمتين في صدد تأليف وترتيب سور القرآن والمصحف والآيات، الأولى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بأن تكون كل سورة في قراطيس لحدتها مفتوحة للزيادة عليها. وكان وضع الآيات في السور بأمره. والثانية أن ترتيب السور واحدة وراء أخرى كما جاء في المصحف هو بأمره. ونرجح أن المسألة الأولى كانت بنوع خاص بالنسبة للسور المدنيّة. وأن السور المكيّة كان قد تم ترتيبها إما في مكة وإما بعد الهجرة بقليل. وكل ما هنالك أن بعض آيات مدنيّة أضيف إلى بعض هذه السور مثل الآية الأخيرة من كل من سورتي المزمل والشعراء والآيات [163- 170] من سورة الأعراف للتناسب الموضوعي. ومن المحتمل كثيرا أن تكون هذه الآيات نزلت في أوائل الهجرة. والله أعلم.

_ (1) انظر كتب تفسير البغوي والزمخشري والطبرسي والخازن والنسفي وابن كثير والنيسابوري ومن الغريب أن الطبري لم يتعرض لهذا البحث ورواياته!

[سورة التوبة (9) : الآيات 1 إلى 2]

والمصحف الذي اعتمدناه يروي ترتيب هذه السورة قبل سورة النصر التي يجعلها آخر السور المدنيّة نزولا. وبعض روايات الترتيب يجعلها بعد سورة النصر. وبعضها يجعلها ثانية عشرة سورة مدنيّة نزولا وبعضها سادسة عشرة بل وبعضها سادسة «1» ومضامينها تلهم أن الروايات الثلاث الأخيرة لا يمكن أن تكون صحيحة. وقد أخذنا برواية المصحف الذي اعتمدناه لأن فحوى وروح سورة النصر يسوغان صحة رواية هذا المصحف بكونها آخر السور المدنيّة نزولا كما أن هناك أحاديث تؤيد ذلك على ما سوف نورده في سياقها. وللسورة أسماء عديدة. المشهور منها اثنان وهما (التوبة) و (براءة) . وهما مقتبسان من ألفاظ فيها كما هو شأن معظم السور. والباقي أطلق عليها بسبب ما فيها من دلالات فهي الفاضحة لأنها فضحت المنافقين، وهي المبعثرة لأنها بعثرت أسرارهم، وهي المقشقشة لأنها تقشقش أي تبرئ المسلمين من الكفر والنفاق، وهي المدمدمة أي المهلكة، وهي الحافرة لأنها حفرت قلوب المنافقين وكشفت ما يسترونه، وهي المثيرة لأنها أثارت مخازيهم، وهي العذاب لأنها نزلت بعذاب الكفار. وهذه الأسماء التي بلغت العشرة معزوة إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم «2» . [سورة التوبة (9) : الآيات 1 الى 2] بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) . تعليق على الآيتين الأوليين من السورة ومتناولهما عبارة الآيتين واضحة. والخطاب في الآية الأولى موجّه إلى المسلمين يخبرون به بأن الله ورسوله يعلنان براءتهما من الذين عاهدوهم من المشركين

_ (1) انظر روايات ترتيب نزول السور في كتابنا سيرة الرسول. ج 2 ص 9. (2) انظر كتب التفسير السابقة. وأجمعها للأسماء تفسير الطبرسي.

وتنصلهما من عهدهم. وفي الثانية موجه إلى المشركين يؤذنون به بأن لهم أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر بأمان. مع إنذارهم بأنهم غير معجزين لله وغير فالتين منه. وأنه مخزي الكافرين في أي حال. وتوجيه الخطاب في الآية الأولى إلى المسلمين قد يبدو غريبا لأول وهلة. لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي كان يعقد العهود مع غير المسلمين. والمتبادر أن حكمة التنزيل لما اقتضت أن يقرن رسول الله مع الله عزّ وجلّ في إعلان البراءة والتنصل من هذه العهود جاءت العبارة القرآنية على النحو الذي جاءت عليه لأن العهود وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يعقدها فإنها كانت أيضا بين المسلمين والمشركين. ولقد قال الطبري إن أهل التأويل- وقد ذكر في سياق كلامه ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي ومحمد بن كعب القرظي- اختلفوا في من برىء الله ورسوله إليه من العهد فقال بعضهم هم صنفان. أحدهما كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر فأمهل أربعة أشهر لأن الآيات نزلت في شوال الذي يعقبه الأشهر الحرم الثلاثة ذو القعدة وذو الحجة والمحرم. وثانيهما كانت مدته أكثر من أربعة أشهر فقصرت على أربعة أشهر ليرتاء لنفسه ويعلم أنه على حرب إن لم يسلم. وقال بعضهم إن الآيات براءة من العهود مع المشركين عامة لأن الله تعالى علم سرائرهم وأنهم كانوا يخفون غير ما يظهرون من نية الغدر والعداء. وهذه الأقوال تتعارض كما هو المتبادر مع استثنائين وردا في آيتين تردان بعد قليل أولهما لمن عاهدهم المسلمون ووفوا بعهودهم. وقد أمر المسلمون بإتمام عهدهم إلى مدتهم التي كانت على الأرجح أكثر من أربعة أشهر لأن حكمة الأمر إنما تكون في ذلك. وثانيهما لمن عاهدهم المسلمون عند المسجد الحرام واستقاموا على عهدهم. وقد أمر المسلمون بالاستقامة لهم ما استقاموا لهم دون تحديد وتوقيت. وهذا فضلا عن تعارضها مع تكرر إيجاب الوفاء بالعهود والعقود على المسلمين في سور عديدة مكيّة ومدنيّة. ولقد لاحظ الطبري هذا. وعقب على الأقوال التي رواها قائلا إن أولى

الأقوال بالصواب أن الأجل الذي جعله الله لأهل العهد من المشركين إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته دون الذين لم ينقضوا لأن الله أمر بإتمام العهد معهم وبالاستقامة لهم ما استقاموا عليه. وفي تفسير البغوي رواية عن ابن إسحق ومجاهد تذكر أن الآيات نزلت قبل تبوك وأنها نزلت في أهل مكة. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاهد قريشا عام الحديبية على وضع الحرب عشر سنين ودخلت خزاعة في عهد رسول الله وبنو بكر في عهد قريش ثم عدا بنو بكر على خزاعة فنالوا منها وأعانتهم قريش بالسلاح وحينئذ خرج عمرو بن سالم الخزاعي إلى المدينة وناشد رسول الله النصر فقال له رسول الله لا نصرت إن لم أنصركم وتجهّز إلى مكة. والرواية تقتضي أن تكون الآيات قد نزلت قبل فتح مكة في حين أن الآية التالية لها المنسجمة معها كلّ الانسجام تدل على أنّ الآيات نزلت بعد فتح مكة. ولقد روى المفسر إلى روايته المذكورة رواية أخرى جاء فيها: «إنّ المفسرين- ويقصد أهل التفسير والتأويل في الصدر الأول- قالوا إنّ رسول الله لما خرج إلى تبوك أرجف المنافقون وأخذ المشركون ينقضون عهودهم فأنزل الله الآيات بالنسبة لهؤلاء مع إمهالهم أربعة أشهر إن كانت مدة عهدهم أقل أو قصرها على أربعة أشهر كانت أكثر» . وهذا متساوق مع ما ذهب إليه الطبري وصوّبه، وهو أن الآيات نزلت في شأن الذين بدرت منهم بوادر نقض من المشركين. والرواية تفيد أن ذلك كان بعد فتح مكة لأن سفرة تبوك كانت بعد الفتح. وهو الحق والصواب اللذان يزول بهما وهم التعارض والتناقض. وليس في كتب التفسير الأخرى شيء مهم آخر في صور الآيتين. فاكتفينا بما أورده الطبري والبغوي لأنهما من أقدم من وصل إلينا كتبهم ومعظم من أتى بعدهم من المفسرين نقلوا عنهم.

[سورة التوبة (9) : آية 3]

[سورة التوبة (9) : آية 3] وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) . تعليق على الآية وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ.. إلخ وما روي في صدد إعلانها مع غيرها يوم الحج الأكبر من روايات وتمحيصها في الآية أمر بأن يعلن للناس يوم الحج الأكبر أن الله تعالى ورسوله بريئان من المشركين وبأن ينذر المشركون بأنهم إذا تابوا فهو خير لهم. وإن أعرضوا وتصامموا فليعلموا أنهم غير معجزين لله تعالى. وأمر بتبشير الكافرين عامة بعذاب الله الأليم. والآية معطوفة على الآيتين السابقتين بحيث يصحّ القول إن المشركين فيها هم الذين ذكروا في الآيتين السابقتين. وتكرار جملة غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ قرينة على ذلك. وفي الآية دلالة قاطعة على أنها نزلت بعد فتح مكة. وفي هذا تأييد لما ذكره البغوي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد زحف إلى تبوك بعد هذا الفتح بمدة غير طويلة. والمستلهم من جملة فَإِنْ تُبْتُمْ أن إمهال المشركين الناقضين أربعة أشهر يسيحون في الأرض بأمان هو في الوقت نفسه مهلة لهم للتروي لعلّ ذلك يؤدي بهم إلى التوبة عن كفرهم وشركهم. وفي هذا ما فيه من تلقين مستمر المدى. ولقد رويت روايات عديدة في صدد إعلان هذه الآية وما قبلها وآيات عديدة أخرى بعدها أو إعلان أحكامها يوم الحج الأكبر «1» . منها أن التبليغ والإعلان كان لعشر آيات من صدر براءة، ومنها أنه كان

_ (1) انظر الطبري والنسفي والنيسابوري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.

لثلاثين، ومنها أنه كان لأربعين. ومنها أنه حينما نزلت الآيات العشر أو الثلاثون أو الأربعون الأولى من السورة أرسل النبي صلى الله عليه وسلم من ينادي في الناس بأربع مسائل وهي أن لا يطوف بالبيت عريان. وأن لا يحجّ مشرك. وأنه لا يدخل الجنة إلّا النفس المؤمنة. وأن كل عهد مؤجل إلى مدته وفي رواية إلى أربعة أشهر. وفي الآيات الثلاثين أو الأربعين الأولى مواضيع متنوعة أخرى غير أمر المشركين وإعلانهم. وليس في الآيات العشر الأولى أمر حظر المسجد الحرام على المشركين. وإنما جاء هذا في الآية [28] من السورة وهي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا «1» ثم إن الآيات بعد هذه الآية هي في موضوع قتال أهل الكتاب ثم في موضوع النسيء وتحريمه والاستنفار إلى غزوة تبوك. ولو كانت نزلت حين إرسال النداء لكان من المعقول أن ينادى على الأقل بتحريم النسيء. وهو ما لم يقع. وهذا كله يسوغ التوقف في كون النبي صلى الله عليه وسلم أرسل الآيات الثلاثين أو الأربعين للتبليغ. وكل ما يمكن أن يكون أنه أرسل يبلغ بعض ما جاء في الآيات بعد نزول الشطر الذي فيه حظر المسجد الحرام على المشركين. والله أعلم. ومن الروايات ما هو في صدد الذي قام بالتبليغ الرباني والنبوي. وهذه متعددة ومتضاربة أيضا. فمما رواه الطبري منها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحبّ أن يحج في السنة التالية لفتح مكة أي في السنة التاسعة لأنه يحضر البيت مشركون ويطوفون عراة فأرسل أبا بكر ليحجّ بالناس وأن صدر براءة نزل بعد سفره فأرسله مع علي بن أبي طالب وأمره أن ينادي بالناس بالمسائل الأربع. ومنها أن أبا بكر لما رأى عليا مقبلا ليبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع فقال للنبي هل نزل فيّ شيء قال لا ولكني أمرت أن أبلغها أنا أو رجل من أهل بيتي. ومنها أن الآيات لما نزلت قيل للنبي لو بعثت بها إلى أبي بكر فقال لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي، وروي في سياق ذلك أن أبا بكر سأل عليّا لما أقبل عليه أأميرا أم مأمورا؟ فقال له بل مأمور فأقام

_ (1) أي بعد السنة التاسعة الهجرية التي أعلن فيها ذلك على ما هو المتفق عليه.

أبو بكر للناس الحجّ وقام علي فأذّن في الناس بالمسائل الأربع. ومنها أن النبيّ أرسلها مع أبي بكر حينما أمّره على الحجّ ثم أتبعه بعليّ فأخذها منه في الطريق فرجع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال له بأبي أنت وأمي أأنزل في شأني شيء قال لا ولكن لا يبلغ عني غيري إلا رجل منّي. وفي رواية إلّا أنا أو علي. وسأله ألا ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار وأنك صاحبي على الحوض. قال بلى يا رسول الله. ومنها أن أبا بكر لما قضى يوم عرفة وخطب في الناس قال لعلي قم فأدّ رسالة رسول الله. ومنها عن أبي هريرة أنه كان مع عليّ حين بعثه النبيّ صلى الله عليه وسلم ينادي في الناس فكان إذا صحل صوته- أي صوت علي- نادى هو. وقد روى البخاري حديثا عن أبي هريرة جاء فيه: «بعثني أبو بكر في الحجة التي أمّره رسول الله عليها قبل حجة الوداع في رهط يؤذّنون في الناس بمنى ألا يحجّ بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. ثم أردف النبيّ صلى الله عليه وسلم بعلي يؤذّن ببراءة فأذّن معنا في أهل منى يوم النحر ببراءة» «1» وروى الترمذي حديثا عن أبي هريرة جاء فيه: «بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم أبا بكر وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات ثم أتبعه عليا فبينا أبو بكر في الطريق سمع رغاء ناقة رسول الله القصواء فخرج فزعا فظنّ أنه رسول الله فإذا هو علي فدفع إليه كتاب رسول الله وأمر عليا أن ينادي بهؤلاء الكلمات. فانطلقا فحجّا فقام علي أيام التشريق فنادى «ذمة الله ورسوله بريئة من كل مشرك. فسيحوا في الأرض أربعة أشهر. ولا يحجّنّ بعد العام مشرك. ولا يطوفنّ بالبيت عريان. ولا يدخل الجنة إلّا مؤمن. وكان علي ينادي فإذا عيي قام أبو بكر فنادى بها» «2» . وروى الترمذي حديثا آخر جاء فيه: «سئل علي بأي شيء بعثت في الحجّة. قال بعثت بأربع: أن لا يطوف بالبيت عريان. ومن كان بينه وبين النبي عهد فهو إلى مدته. ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر. ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة. ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا» «3» . وروى ابن سعد الحديث الذي رواه البخاري

_ (1) التاج ج 4 ص 114- 115. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه.

بدون جملة «ثم أردف النبيّ بعليّ إلخ» «1» وروى ابن كثير حديثا عن علي أخرجه الإمام أحمد جاء فيه: «لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبا بكر فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة ثم دعاني فقال أدرك أبا بكر فحيثما لحقته فخذ الكتاب منه فاذهب إلى أهل مكة فاقرأه عليه فلحقته بالجحفة فأخذت الكتاب منه ورجع أبو بكر إلى النبي فقال يا رسول الله نزل في شيء. فقال لا ولكن جبريل جاءني فقال لن يؤدي عنك إلّا أنت أو رجل منك» وروى حديثا آخر عن علي أيضا «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه ببراءة قال يا نبيّ الله إني لست باللسن ولا بالخطيب قال لا بدّ لي من أن أذهب بها أنا أو تذهب بها أنت قال فإن كان ولا بدّ فسأذهب أنا قال انطلق فإن الله يثبت لسانك ويهدي قلبك ثم وضع يده على فيه» . ونحن نخشى بل نرجح أن يكون الهوى الشيعي قد لعب دورا في بعض هذه الروايات وبخاصة في الروايات التي فيها «لا يبلّغ عني إلّا أنا أو رجل من أهل بيتي أو إلّا أنا أو عليّ أو إلّا رجل مني» والتي فيها «جاءني جبريل ... إلخ» ثم الرواية التي تذكر «أن النبي بعد أن أعطى الآيات لأبي بكر أو كلّفه بالمهمة أرسل عليّا فأخذها منه في الطريق» . ولا سيما أن الشيعة يعلقون أهمية عظمى على هذه الروايات وقد استخرجوا منها اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عليّا بما هو من خصائصه النبوية وعدّوها دليلا على أنه والنبي شيء واحد وأنه وريثه في هذه الخصائص «2» . ومن المحتمل أن يكون أهل السنّة رأوا في إناطة إمارة الحج بأبي بكر دليلا على خلافته للنبي صلى الله عليه وسلم من بعده فأراد الشيعة أن يهوّنوا من هذا الدليل أو يبطلوه. ولعلّ بعض أهل السنّة لعبوا دورا في بعض الروايات بالمقابلة في رواية كون عليّ قال لأبي بكر إنه جاء مأمورا ولم يجىء أميرا ...

_ (1) ابن سعد ج 3 ص 222. (2) في تفسير رشيد رضا فصل طويل في مزاعم الشيعة وما يعلقونه على هذا الأمر من أهمية. سواء في اختصاص النبي عليا بالتبليغ عنه أم في عدم تفويض ذلك لأبي بكر يؤيد ما قلناه من أن الهوى الشيعي الحزبي لعب دورا في بعض هذه الروايات. [.....]

فليس يعقل قط أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أن يرسل الآيات مع أبي بكر أو يكلفه بإعلان المسائل يبعث عليّا ليأخذها منه. وليس يعقل قط أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لا يبلّغ عني إلّا رجل مني أو إلّا من أهل بيتي في أمر لا صلة له بالاعتبارات الأسروية وإنما هو متصل بمهمته العظمى التي اختصه الله تعالى بها لخصائصه الذاتية التي عبّرت عنها جملة اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: 124] وجملة وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4] . ولقد كان من المعقول أكثر لو فكّر النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثل هذه الاعتبارات- وحاشاه ذلك- أن يرسل عليّا أميرا على الحجّ دون أبي بكر. وحديث البخاري عن أبي بكر الذي يعتبر أصحّ الأحاديث والروايات الواردة في هذا الصدد صريحة بأن النبي صلى الله عليه وسلم كلّف أبا بكر ببعض المسائل الواردة في الآيات ثم أرسل عليّا بمسألة أخرى رأى وجوب إعلانها أيضا. وأن الإعلان كان بإشراف أبي بكر وأمره وأن عليّا شارك أو ساعده فيه. وهذا هو الذي يعقل أن يكون وقع دون الحواشي والزوائد الواردة في الروايات الأخرى والله تعالى أعلم. ولقد تعددت الأحاديث والأقوال التي يرويها المفسرون عن رسول الله وبعض أصحابه وتابعيهم في المقصود ب يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ. وبعض الأحاديث والأقوال تروى متناقضة عن نفس الأشخاص. فقد روي عن قيس بن مخرمة أن رسول الله خطب يوم عرفة فقال: «هذا يوم الحجّ الأكبر» وروي عن ابن عمر أن رسول الله وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال: «هذا يوم الحجّ الأكبر» . وروى بعضهم عن علي أنه يوم عرفة. كما روى بعضهم عنه أنه يوم النحر. وروي عن عمر وابن الزبير أنه يوم عرفة. وعن عبد الله بن قيس والمغيرة بن شعبة وأبي هريرة أنه يوم النحر. وإلى هذه الأقوال روي عن مجاهد أن قرن الحج مع العمرة هو الحج الأكبر تمييزا له عن الإفراد بين العمرة والحج الذي يسمى الحج الأصغر. وروي عنه في الوقت نفسه أن جميع أيام منى أو أيام الحج كلها هي يوم الحج الأكبر تمييزا لها عن العمرة لحدوثها في غير موسم الحج التي كانت تسمى الحج الأصغر. وهناك قول غريب عن الحارث بن نوفل أنه يوم حج رسول الله حجة الوداع حيث اجتمع في ذلك اليوم حجّ المسلمين وحجّ اليهود وحجّ

[سورة التوبة (9) : الآيات 4 إلى 5]

النصارى. ولم يحدث هذا قبل ذلك ولا بعده. والنصوص السابقة لم ترد في أي من الكتب الخمسة. وقد ورد في جامع الترمذي وهو من هذه الكتب حديث روي عن عليّ قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يوم الحجّ الأكبر فقال يوم النحر» «1» . وقد صوب الطبري كون يوم الحج الأكبر هو يوم النحر. ولعلّه استند إلى هذا الحديث. ومع وجاهة ذلك فلسنا نرى فيه منعا لوجاهة أن يكون هذا اليوم هو يوم عرفة الذي ذكر في أحاديث نبوية وصحابية أخرى، فالحجّ لا يتمّ إلا بالوقوف في عرفة على ما ورد في أحاديث صحيحة أوردناها في سياق آيات الحج في سورة البقرة «2» . وعرفة والحالة هذه تكون مجمع جميع الحجاج الأكبر والله تعالى أعلم. [سورة التوبة (9) : الآيات 4 الى 5] إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) . (1) انسلخ: بمعنى انقضى. تعليق على الآية إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ... والآية التالية لها. وتمحيص مدى ما ورد في شأن قتال المشركين في هذه الآية إلى أن يتوبوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة عبارة الآيتين واضحة أيضا. وفي أولاهما استثناء وجّه الخطاب فيه إلى

_ (1) التاج ج 4 ص 114. (2) انظر التاج ج 2 ص 128 وج 4 ص 53.

المسلمين بالنسبة للذين عاهدوهم ووفوا بعهدهم فلم ينقضوا ولم ينقصوهم شيئا ولم يظاهروا ويناصروا أحدا عليهم حيث يؤمرون بإتمام عهدهم إلى نهاية المدة المتفق عليها بينهم. فهذا هو من التقوى والله يحبّ المتقين. وفي ثانيتهما وجّه الخطاب إلى المسلمين يؤمرون فيه بقتال المشركين بعد انقضاء الأشهر الحرم حيث وجدوهم ومطاردتهم والترصد لهم في كل مكان. وبالكفّ عنهم إذا تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة. فإن الله غفور رحيم لعباده التائبين. والآيتان كما هو ظاهر استمرار في السياق السابق وجزء منه. وقد روى الطبري عن قتادة أن المقصود من الاستثناء هم مشركو قريش الذين عاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية. وهذا غريب لأن صلح الحديبية قد انتقض في السنة الثامنة وأدى ذلك إلى زحف النبي صلى الله عليه وسلم على مكة وفتحها ودخول قريش في دين الله. في حين أن الآيات نزلت بعد فتح مكة على ما تدلّ عليه الآية [3] بصراحة. وقد روى البغوي أنهم حيّ من كنانة يقال له بنو ضمرة لم ينقضوا العهد وكان بقي من مدتهم تسعة أشهر. وخبر موادعة النبي صلى الله عليه وسلم لبني ضمرة من كنانة قد ذكره ابن سعد ولم يذكر أنه كان موقوتا «1» . وعلى كل حال فإن فحوى الآية الأولى التي فيها الاستثناء يدل على أنها في حقّ الذين بينهم وبين المسلمين عهد موقوت ولم يبد منهم نقض له بشكل ما. وقد يكون هناك من كان كذلك فعلا. وفي الاستثناء حكم مستمر المدى كما هو المتبادر. والآية الأولى هذه تؤيد الرواية التي أوردناها قبلا بكون النداء يوم الحج الأكبر الذي نادى به أبو بكر وعلي هو «من كان له عهد فلأجله» وكون الإذن والإمهال أربعة أشهر هما بالنسبة لمن كان أجله أقل من أربعة أشهر دون الرواية الأخرى التي تقول إن النداء كان «من كانت مدته أقل من أربعة أشهر فله مهلة أربعة أشهر ومن كانت مدته أكثر فتقصر على أربعة أشهر» . وروح هذه الآية بل فحواها يؤيد كذلك الرواية التي رواها البغوي والقول

_ (1) انظر طبقات ابن سعد ج 3 ص 46.

الذي قاله الطبري بأن المشركين المعاهدين الذين أعلنت براءة الله ورسوله منهم في الآية الأولى من السورة هم الناقضون لعهدهم. وهذا يستتبع القول إن الذين أمر المسلمون بقتالهم في الآية الثانية من الآيتين اللتين نحن في صدد تفسيرهما عقب انقضاء الأشهر الحرم التي في نهايتها تنتهي مدة الأشهر الأربعة- لأن الآيات نزلت في شوال كما ذكرنا- هم هؤلاء الناقضون لأنهم موضوع السياق. وفي الآيتين وما قبلهما صور من السيرة النبوية في أواخر العهد المدني حيث ينطوي فيهما أنه كان بين المسلمين والمشركين عهود سلم بعد الفتح المكي ربما كانت ممتدة إلى ما قبله وأن من المشركين من ظلوا أوفياء لعهودهم ومنهم من نقض أو ظهرت منه علائم النقض والغدر. ولقد نبهنا قبل على أن أهل التأويل والمفسرين يسمون الآية الثانية من الآيتين اللتين نحن في صددهما آية السيف ويعتبرونها ناسخة لكل آية فيها أمر بالتسامح والتساهل مع المشركين وإمهالهم والإغضاء والصفح والإعراض عنهم. وتوجب قتالهم إطلاقا. وبعضهم يستثني المعاهدين منهم إلى مدتهم، وبعضهم لا يستثنيهم ولا يجوز قبول غير الإسلام منهم بعد نزولها. ونبهنا على ما في ذلك من غلوّ ومناقضة للتقريرات القرآنية المتضمنة لأحكام محكمة بعدم قتال غير الأعداء وترك المسالمين والموادّين وبرّهم والإقساط إليهم. ولقد كرر المفسرون أقوالهم ورواياتهم عن قدماء أهل التأويل في مناسبة هذه الآية، فروى ابن كثير عن ابن عباس أن الآية أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يضع السيف في من عاهدهم حتى يدخلوا في الإسلام وأن ينقض ما كان سمّى لهم من عهد وميثاق وأنها لم تبق لأحد من المشركين عهدا ولا ذمة. وقد روى المفسر نفسه قولا عن سفيان بن عيينة جمع فيه بين هذه الآية وآيات أخرى من هذه السور وغيرها ليست في صدد قتال المشركين سماها الأسياف وقال إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليّ بن أبي طالب بها حين بعثه يؤذّن في الناس يوم الحج الأكبر منها هذه الآية وسمّاها سيفا في المشركين من العرب. ومنها آية التوبة هذه قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا

الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29) وسمّاها سيفا في قتال أهل الكتاب. ومنها هذه الآية من سورة التوبة أيضا يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) وسمّاها سيفا في قتال المنافقين. ومنها هذه الآية في سورة الحجرات وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ [9] وسمّاها سيفا في قتال أهل البغي. ومن العجيب أن الطبري ذهب إلى أن هذه الآية تشمل المعاهدين حين انتهاء مدتهم أو إذا نقضوا العهد ومن لا عهد لهم إطلاقا دون تفريق مع أنه قرر في سياق آية الممتحنة هذه لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) أنها محكمة وأن الله لا ينهى المسلمين عن البرّ والإقساط لمن يقف منهم موقف المسالمة والمحاسنة والحياد من أية ملّة كانوا. وهؤلاء قد لا يكونون معاهدين!. كل هذا والآية كما هو واضح من فحواها وسياقها هي في صدد قتال المشركين المعاهدين الناقضين لعهدهم وحسب. بحيث يسوغ القول إن اعتبارها آية سيف وجعلها شاملة لكلّ مشرك إطلاقا تحميل لها بما لا يتحمله هذا السياق والفحوى. وكذلك الأمر في اعتبارها ناسخة للتقريرات القرآنية المنطوية في آيات عديدة والتي عليها طابع المبدأ المحكم العام مثل عدم الإكراه في الدين والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن والحثّ على البرّ والإقساط لمن لا يقاتل المسلمين ولا يخرجونهم من ديارهم على ما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة. ومنها آية سورة النساء [90] التي سنورد نصّها بعد قليل والتي تذكر أن الله لم يجعل للمسلمين سبيلا على من لا يقاتلهم ومن يعتزلهم ويلقي إليهم السلم. ويأتي بعد قليل آية فيها أمر صريح للمسلمين بالاستقامة على عهدهم مع المشركين الذين عاهدوهم عند المسجد الحرام ما استقاموا لهم بدون تحديد وتوقيت. وفي هذه الآية دليل قوي على وجاهة ما نقرره إن شاء الله «1» .

_ (1) في تفسير المنار تعليق سديد على هذا الموضوع في سياق الآيتين متطابق في النتيجة مع ما قررناه.

ولقد ورد في الحديث الذي رواه الترمذي وأوردناه قبل أن عليّا أمر بأن ينادي فيما أمر به «من كان بينه وبين النبيّ عهد فهو إلى مدته ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر» ونحن نتوقف في أن يكون مدى الحديث هو الأمر بالقتال بعد انقضاء الأربعة أشهر عام ضد من لم يكن عهد من المشركين مطلقا ولو لم يكن عدوا معتديا بناء على ما شرحناه قبل. والله أعلم. ولقد وقف الطبري عند الرواية التي تذكر أن الإعلان يوم الحجّ الأكبر كان فيه إمهال للمشركين أربعة أشهر. ورأى فيها تعارضا مع عبارة فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا ... لأنه لم يكن بين الإعلان وبين نهاية الأشهر الحرم إلا خمسون يوما وقال إن في هذه الرواية وهما. وأورد صيغة أخرى للحديث المروي عن علي رواها من طرق متعددة وهي «أمرت بأربع. أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك. ولا يطوف رجل بالبيت عريانا. ولا يدخل الجنة إلّا كل نفس مسلمة. وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده» ومما قاله أن الآيات نزلت في شوال وبانتهاء الأشهر الحرم تكون مهلة الأشهر الأربعة المذكورة في الآية الثانية قد انتهت. والمتبادر أن فيما يسوقه الطبري صوابا وسدادا. لأن به وحده يزول وهم التعارض بين نصوص القرآن وبين بعض الأحاديث والروايات. والله تعالى أعلم. وقد ترد مسألتان في صدد ما ينطوي في الآيتين من أحكام. أولاهما: أن الاستثناء الوارد في أولى الآيتين محدد بانقضاء مدة العهد فهل يكون المعاهدون من المشركين حين انقضاء هذه المدة موضع براءة الله ورسوله ويجب قتالهم؟ وكلام المفسرين ينطوي على الإجابة على هذا السؤال بالإيجاب. ولم نطلع على أثر نبوي وثيق في هذا الصدد. ونرى أن كلام المفسرين يصح أن يكون محل توقف إذا أريد به الإطلاق. وأن الأمر يتحمل شيئا من التوضيح: فالمعاهدون إما أن يكونوا أعداء للمسلمين قبل العهد وقد وقع حرب وقتال بينهم ثم عاهدهم المسلمون كما كان شأن قريش وصلحهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية. وإما أن يكونوا قد رغبوا في موادعة المسلمين ومسالمتهم دون أن يكون قد وقع بينهم عداء

وقتال. وآية النساء هذه إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) . تنطوي فيها على ما نعتقد حالة واقعية مثل ذلك. وفي روايات السيرة بعض الأمثلة حيث روى ابن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم وادع بني ضمرة من كنانة أن لا يغزوهم ولا يغزوه ولا يكثروا عليه ولا يعينوا عليه عدوا وكتب بينه وبينهم كتابا بذلك. ووادع هلال بن عويمر وسراقة المدلجي وقومه بمثل ذلك «1» . وليس في الآية ولا في غيرها ما يمنع تجديد العهد أو تمديده مع هؤلاء ولا مع أولئك إذا رغبوا ولم يكن قد ظهر منهم نقض ولا نية غدر. وليس للمسلمين أن يرفضوا ذلك لأنهم إنما أمروا بقتال من يقاتلهم ويعتدي عليهم بشكل من الأشكال. وفي الآية التي تأتي بعد قليل والتي تأمر المسلمين بصراحة بالاستقامة على عهدهم مع المشركين ما استقاموا لهم قرينة على ما نقول إن شاء الله. أما المسألة الثانية فهي ما تفيده الفقرة الأخيرة من الآية الثانية من كون تخلية سبيل المشركين والكفّ عن قتالهم بسبب نقضهم منوطين بتوبتهم عن الشرك وإقامتهم الصلاة وإيتائهم الزكاة. أي بدخولهم في الدين الإسلامي. والذي يتبادر لنا في صدد هذه المسألة أن المشركين بعد أن نقضوا عهدهم وقاتلهم المسلمون فقدوا حق العهد ثانية. وصار من حق المسلمين أن يفرضوا الشرط الذي يضمن لهم الأمن والسلامة وهو توبتهم عن الشرك ودخولهم في الإسلام وقيام بواجباته التعبدية والمالية. ولا يعدّ هذا من قبيل الإكراه في الدين بقطع النظر عن أن الشرك يمثل مظاهر انحطاط الإنسانية وتسخيرها لقوى وأفكار وعقائد سخيفة مغايرة للعقل والمنطق والحق كما يمثل نظاما جاهليا فيه التقاليد الجائرة والعادات المنكرة والعصبيات الممقوتة وأن الإسلام الذي يشترط عليهم

_ (1) طبقات ابن سعد ج 3 ص 46. وانظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير لتفسير الآية [90] من سورة النساء والآيات [4 و 7] من سورة التوبة.

الدخول فيه يضمن لهم الخلاص من ذلك والارتفاع بهم إلى مستوى الكمال الإنساني عقلا وخلقا وعبادة وعقيدة وعملا. على أننا لسنا نرى في الآيات مع ذلك ما يمنع المسلمين أن يجددوا العهد مع الناكثين بعد الحرب ثانية إذا كانت مصلحتهم تقتضي ذلك. وقد لا يكونون قادرين على متابعة الحرب أو على إخضاعهم بالقوة. والله تعالى أعلم. وقد يكون في آية سورة البقرة هذه أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) وآية سورة الأنفال هذه الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) دليل على ذلك. فإن الآيتين تفيدان أن النبي صلى الله عليه وسلم عاهد الفريق الذي نبذ العهد مرة بعد مرة بالرغم من أنه كان ينقض العهد مرة بعد مرة أيضا. بل وفي آيات جاءت آية الأنفال المذكورة دعما لهذا الدليل حيث جاء فيها وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) . وجملة وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ لافتة للنظر فهي لا ترى مانعا من الجنوح للسلم وتجديد العهد حتى ولو كان من المحتمل أن يكون جنوحهم إليها من قبيل الخداع. والله أعلم. وجملة فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ تنطوي على تقرير التلازم بين اعتناق الإسلام وبين القيام بأركانه وواجباته العملية التي من أهمها إقامة الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر كما جاء في الآية [45] من سورة العنكبوت وإيتاء الزكاة التي يطهر المسلم بها نفسه وماله ويساعد بها المحتاجين من إخوانه ويؤيد بها الدعوة إلى سبيل الله ونشرها ويجاهد بها الصادقين عنها والمعتدين على أهلها. وهذا مما تكرر كثيرا جدا في السور المكيّة والمدنيّة بأساليب متنوعة تغني كثرتها عن التمثيل بحيث يصح القول إن عدم القيام بهما يجعل إسلام المسلم موضع شك. ولعل هذا هو ما جعل بعض العلماء يعتبرون تاركي الصلاة عمدا بخاصة مرتدين ويجوزون قتلهم عقوبة على ارتدادهم استنباطا من بعض الأحاديث أو

استنادا إليها حيث روى مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي حديثا عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» «1» . وروى الترمذي حديثا عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر» «2» . وقولا رواه الترمذي عن عبد الله بن شقيق جاء فيه «كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة» «3» وحديثا رواه الطبري عن أنس ورد في تفسير الآية في تفسير المنار جاء فيه «من ترك الصلاة متعمّدا فقد كفر» وحديثا رواه أصحاب مساند الحديث الصحيح الخمسة عن عبد الله قال «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يحلّ دم امرئ يشهد أن لا إله إلّا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس والثيب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة» «4» . والتارك لدينه هو المرتد. ولقد رأى المؤولون في هذا التلازم صواب عمل أبي بكر رضي الله عنه حينما قاتل الذين كان ارتدادهم قاصرا في ظاهره على الامتناع عن أداء الزكاة لبيت المال أيضا وقد روي في هذا الصدد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله فمن قالها عصم مني ماله ونفسه إلا بحقّه وحسابه على الله» «5»

_ (1) التاج ج 1 ص 124. (2) المصدر نفسه ص 124- 125. (3) المصدر نفسه ص 124- 125. (4) التاج ج 3 ص 17. (5) روى هذا الحديث الخمسة عن أبي هريرة انظر التاج ج 4 ص 325- 326 وروى أصحاب السنن حديثا آخر عن أنس فيه زيادة مهمة وهذا نصّه «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأن يستقبلوا قبلتنا وأن يأكلوا ذبيحتنا وأن يصلّوا صلاتنا فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين» «التاج ج 4 ص 326. وروى الخمسة حديثا آخر عن ابن عمر مثل الحديث الذي رووه عن أبي هريرة مع زيادة مهمة وهذا نصّه «قال النبي صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقّ الإسلام وحسابهم على الله» التاج ج 1 ص 29.

فقال أبو بكر والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حقّ المال. والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم على منعها فقال عمر فو الله ما هو إلّا أن رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال حتى عرفت أنه الحق «1» . ونقول استطرادا: إن الأحاديث النبوية- وهي من الصحاح- التي أوردناها في المتن وفي الذيل قد تثير إشكالا متصلا بالآيات التي نحن في صددها حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله ... إلخ» . وحيث يتعارض ذلك إذا أخذ على إطلاقه وظاهره مع ما تلهمه آيات قرآنية عديدة من أنه لا إكراه في الدين ومن أن الله لا ينهى المسلمين عن موادة الذين لا يقاتلونهم في الدين والبرّ إليهم. ومن أن الله إنما أمر المسلمين بقتال من يقاتلهم ويعتدي عليهم على ما قررناه قبل قليل هنا وفي مناسبات سابقة عديدة. ونقول في صدد هذا الإشكال إن النبي صلى الله عليه وسلم أجلّ من أن يناقض التقريرات القرآنية المحكمة. وأن المأثور المتواتر من سيرته وسيرة خلفائه الذين ساروا على هداه أنهم لم يقاتلوا إلّا الأعداء المعتدين على الإسلام والمسلمين بدءا أو نكثا بعد عهد. ولهذا فإن الأولى أن يفرض أن الحديثين النبويين قد قصدا قتال المعتدي والناكث. فهذا هو المتساوق مع نصوص الآيات المحكمة التي لا يمكن أن ينقضها رسول الله. وهذا هو المؤيد بالمأثور المتواتر من السيرة النبوية. ولقد محّصنا هذا الموضوع ومدى هذه الأحاديث في سياق سورتي المزمل والكافرون بشيء من الإسهاب وانتهينا إلى أنه ليس من تعارض وتناقض. والله تعالى أعلم. هذا، ولقد روى الطبري عن الضحاك أن هذه الآية قد نسخت بآية سورة محمد التي فيها فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها وعن قتادة أن آية سورة محمد هي المنسوخة بآية سورة التوبة التي نحن في صددها. ويلحظ أن آية التوبة نزلت بعد آية محمد فإن كان نسخ فالمعقول أن يكون المتأخر ناسخا للمتقدم.

_ (1) هذا الحوار منقول من البغوي. والعناق: هي الأنثى من أولاد المعز.

[سورة التوبة (9) : آية 6]

علما أن الطبري صوّب عدم النسخ وقال إنه ليس من تعارض بين الآيات. وهذا هو الأوجه. والله تعالى أعلم. [سورة التوبة (9) : آية 6] وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) . (1) أبلغه: أوصله، أو يسّر له الوصول. (2) مأمنه: المكان الذي يكون فيه آمنا على حياته. تعليق على الآية وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ ... إلخ وما روي في صددها ومدى ما فيها من تلقين ودلالات عبارة الآية واضحة. وفيها أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه إذا ما أراد أحد من المشركين أن يأتي النبي وطلب منه الجوار والحماية فعليه أن يمنحهما له حتى يتسنّى له سماع كلام الله تعالى وعليه بعد ذلك أن ييسّر له البلوغ إلى المكان الذي يكون فيه آمنا على حياته. وتعليل لذلك بأن المشركين جاهلون ومن الحق على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتيح لهم فرصة العلم وسماع كلام الله وتدبره. وقد روى الزمخشري عن سعيد بن جبير أن رجلا جاء إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين نادى يوم الحجّ الأكبر فقال إن أراد الرجل منّا أن يأتي محمدا بعد انقضاء الأجل يسمع كلام الله أو يأتيه لحاجة قتل؟ قال لا لأن الله تعالى يقول وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ... إلخ وهذه الرواية بهذه الصيغة لا تكون سبب نزول الآية. والآية بعد معطوفة على ما قبلها وجزء من السياق كما هو ظاهر حيث يتبادر لنا أن حكمة التنزيل أوحت بها في جملة السياق على سبيل الاستدراك والاستثناء في صدد حالة محتملة. وهذا لا يمنع احتمال نزولها بسبب حالة وقعت

أو سؤال ورد، ثم وضعت في السياق للتناسب. والله أعلم. ونرى في الآية قرينة أخرى على صحة ما ذكرناه قبل من أن الآية السابقة لها ليست في صدد قتل وقتال كل مشرك إطلاقا إلى أن يكفّ عن الشرك ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة. وعلى ما قررناه في مناسبات عديدة قريبة وسابقة من عدم إكراه أي مشرك غير عدو وغير محارب على الإسلام. ونرى فيها تلقينا مستمر المدى للمسلمين وأولياء أمورهم في كلّ وقت بوجوب منح الفرص لغيرهم ولو كانوا أعداء محاربين ليسمعوا منهم كلام الله ويستوعبوا منهم مبادئ وأهداف الإسلام وبوجوب قبول التجاء غيرهم إليهم وحمايتهم إذا ما كان قصدهم التعرّف على تلك المبادئ والأهداف. وضمان عودتهم إلى بلادهم آمنين. ولقد أورد المفسر القاسمي في سياق الآية حديثا رواه البخاري والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أمّن رجلا على دمه فقتله فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافرا» وحديثا آخر رواه الإمام أحمد والشيخان عن أنس قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة» . وفي الحديثين تلقين متساوق مع التلقين القرآني كما هو واضح من تشديد ضدّ من ينحرف عن هذا التلقين. ولقد روى القاسمي عن الحاكم تنبيها وجيها في هذا الصدد. وهو أن الإجارة والتأمين منوطان بالتيقن من حسن القصد. وإن جملة حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ مما يدعم ذلك. وهذا يعني عدم الإجابة لطلب الجوار إذا غلب الظن بكبر الطالب وخداعه وسوء نيته. والله أعلم. ولقد روى الطبري وغيره عن الضحاك والسدي أن الآية منسوخة بجملة فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ في الآية السابقة لها. وعن ابن زيد أنها محكمة غير منسوخة. وليس هناك أثر نبوي. وورود الآية بعد الآية التي تأمر بقتل المشركين إلى أن يتوبوا قد يكون قرينة قوية على وجاهة القول الثاني حيث يمكن أن تكون الآية قد جاءت للاستدراك. والإجابة على تساؤل ما من بعض الكفار. وروحها يدعم ذلك أيضا. لأن القتال والقتل لم يكن غاية وإنما هو مقابلة للعدوان

استطراد إلى مدى جملة كلام الله ومسألة أزلية القرآن وحدوثه

وعقوبة على النكث. والدعوة إلى الإسلام تظل قائمة لكل الناس في كل وقت. وهدف الآية إعطاء فرصة لكافر ما ولكافر عدوّ بخاصة ليسمع كلام الله لعلّه يستجيب ويؤمن. والآية السابقة للآية تأمر بالكفّ عن قتال المشركين الناكثين الأعداء إذا ما تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة. والاستجابة للاستجارة وسيلة إلى ذلك. والله أعلم. استطراد إلى مدى جملة كَلامَ اللَّهِ ومسألة أزلية القرآن وحدوثه ونرى أن نستطرد هنا بمناسبة جملة كَلامَ اللَّهِ في الآية إلى مدى هذه الجملة وما تفرع عنها من خلاف مذهبي فنقول إن هذه الجملة وردت في آيات أخرى مثل آية البقرة [75] وآية سورة الفتح [15] غير أنها هنا عنت القرآن أكثر من هذه الآيات على الأرجح وعلى ما عليه جمهور المفسرين. ووصف القرآن بأنه كَلامَ اللَّهِ أدى إلى ذلك الخلاف حيث ذهب بعض علماء الكلام إلى أن الكلام الله متصل بذات الله وذات الله أزلية فيكون كلام الله أزليّا، وما دام القرآن هو كلام الله فيكون بدوره أزليا. وحيث ذهب فريق آخر إلى كون القرآن ليس أزليا وإنما هو حادث. ولقد كان من جراء هذا الخلاف فتنة شديدة في زمن المأمون ثامن الخلفاء العباسيين وامتدت نحو عشرين عاما. واضطهد وعذّب فيها علماء كثيرون على رأسهم الإمام أحمد بن حنبل وكان أحيانا يشتبك أنصار هؤلاء وهؤلاء في نزاع دام تزهق فيه مئات الأرواح. ولقد كان المعتزلة الذين يسمون أهل العدل والتوحيد من القائلين بالقول الثاني. وكان لهم مركز الوجاهة والنفوذ عند المأمون وجعلوه يقنع بقولهم وأرادوه على حمل الإمام أحمد بن حنبل ومن يقول بقوله أي القول الأول أن يرجعوا عن قولهم ويقولوا بالقول الثاني فأبوا. وهذه المسألة متفرعة عبر مسألة أعمّ. وهي الخلاف على صفات الله تعالى بين أهل السنة والجماعة الذين كان الإمام أحمد من رؤوسهم وبين المعتزلة.

فهؤلاء قالوا إن صفات الله هي ذات الله فهو عالم بذاته قادر بذاته متكلم بذاته إلخ أي بدون علم وقدرة وكلام زائد عن ذاته أو غير ذاته على اعتبار أن الذهاب إلى كون صفات الله القديمة بقدمه هي غير ذاته يعني تعددا لله القديم الذي يستحيل عليه التعدد. في حين قال أهل السنة والجماعة إن لصفات الله تعالى معنى زائدا عن ذاته فهو عالم بعلم وقادر بقدرة ومتكلّم بكلام وحي بحياة إلخ. واحترزوا من أن يكون هذا الكلام مؤديا إلى التعدد لأنهم مثل المعتزلة يعتقدون باستحالة التعدد بحق الله تعالى فقالوا إن الله عالم بعلم غير منفك عن ذاته وقادر بقدرة غير منفكة عن ذاته ومتكلم بكلام غير منفك عن ذاته.. ثم انجرّ الخلاف إلى صفة كلام الله وماهية القرآن باعتباره كلام الله فقال فريق من أهل السنة والجماعة إن الله تكلّم بكلام أزلي قديم زائد عن ذاته وغير منفك عنها وإن القرآن معنى قائم بذات الله مع تقييدهم أنهم لا يعنون بذلك الحروف والأصوات المقروءة المسموعة المكتوبة ومثلوا على ذلك بالفرق بين ما يدور في خلد الإنسان من كلام دون أن ينطق به فهو شامل في أي وقت لجميع الكلام الذي يدور في الخلد. أما الحروف والأصوات المقروءة المسموعة المكتوبة من القرآن فإنها ليست من تلك الصفة القديمة وإنما هي من الحوادث لأنها تابعة لترتيب يتقدم فيه حرف على حرف نطقا وكتابة وسمعا وهذا من سمات الأمور الحادثة. وهناك من هذا الفريق من قال إن حروف القرآن المكتوبة المقروءة وأصواتها المسموعة غير منفكة عن كلام الله الأزلي القديم وإنها مثله قديمة أزلية أيضا ليست حادثة ولا مخلوقة. وهناك من هذا الفريق من قال إن جميع ما في المصحف هو من صفة الله القديمة حتى الورق والمداد وجلدة الغلاف ... أما المعتزلة والشيعة الإمامية الذين يذهبون إلى أكثر المذاهب الكلامية التي يذهب إليها المعتزلة فقالوا إن الله تكلم بذاته بدون كلام زائد عن هذه الذات وأنه يخلق الحروف والأصوات في الأعراض فتقرأ وتسمع وأن القرآن باعتبار أنه متصف بما هو صفة المخلوق وسمات الحدوث من تأليف وتنظيم وإنزال وتنزيل وكتابة وسماع وعروبة لسان وحفظ وناسخ ومنسوخ إلخ هو مخلوق لا يصح أن يكون قديما أزليا. ومما قالوه أن القرآن اسم لما نقل إلينا بين دفتي المصحف

تواترا. وهذا يستلزم كونه مكتوبا في المصاحف مقروءا بالألسن مسموعا بالآذان. وكل ذلك من سمات الحدوث بالضرورة. ويردّ عليهم جمهور أهل السنة بأنه كلام الله مكتوب في مصاحفنا محفوظ في قلوبنا مقروء بألسنتنا مسموع بآذاننا غير حالّ فيها بل هو معنى قديم قائم بذات الله يلفظ ويسمع بالنظم الدال عليه ويكتب بنقوش وصور وأشكال موضوعة للحروف ويكتب بالقلم. وأن المراد بأن القرآن غير مخلوق هو حقيقته الموجودة في الخارج. هذه خلاصة وجيزة جدا لرأي علماء المذاهب الكلامية. وواضح أن الجماعات المختلفة يعترفون بكمال صفات الله وأن اختلافهم هو حول آثار هذه الصفات وتخيلها وتفهمها. وأن شأنهم في هذا شأنهم في الخلافات الكلامية الأخرى المتصلة بالله تعالى وقدرته وكنهه وما ينسبه القرآن إليه من أعضاء وأفعال. منهم المعظم لله ومنهم المنزّه له. وأنهم متفقون على أن القرآن منزّل من الله تعالى على نبيّه صلى الله عليه وسلم. ونعتقد أن ثوران هذه المسألة الخلافية وما يترتب عليها من فتنة ومحنة في أوائل القرن الثالث الهجري ذو صلة بالأحداث السياسية والنحلية والطائفية والعنصرية التي حدثت في القرن الإسلامي الأول. ومن مظاهرها مسألة القدر وفرق المسلمين فيه على ما شرحناه في سياق سورة القمر مع احتمال أن يكون لتسرب الأفكار والكتب اليونانية وغير اليونانية أثر فيها. وأنها ضخّمت أكثر مما تتحمله طبيعتها. وقد يصح أن يقال مع ذلك أن للقرآن صلة وثقى بأحداث السيرة النبوية وظروف البيئة النبوية وشؤون البشر والحياة على إطلاقها وأن جلّ سوره وفصوله وآياته أو كلّها قد نزلت حسب المناسبات والأحداث والمقتضيات من هذه السيرة والظروف والشؤون. وأنه استهدف صلاح البشر وتوجيههم إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة. وكل هذا من الأمور الحادثة المتجددة المتبدلة المتطورة، ويجعل القول الثاني أكثر ورودا ووجاهة. ولا سيما إن القول الأول يؤدي إلى حرج القول أنه ما دام كلام الله صفة غير منفكة عن ذات الله وما دام القرآن هو كلام الله فيكون القرآن هو ذات الله سبحانه وتعالى ...

ومما يجعل القول الثاني أكثر ورودا ووجاهة أن ألفاظ القرآن (مفرداتها وتركيباتها) ليست أمرا قاصرا على القرآن. وإنما هي مما يستعمله الناطقون باللغة العربية للتعبير عن أفكارهم نطقا وكتابة. وكان ذلك قبل نزول القرآن واستمرّ بعده وإلى ما شاء الله. وهي ألفاظ بشرية للتعبير عن أمور وأفكار بشرية حادثة. والله ليس كمثله شيء. فله سمع وبصر ولكن ذلك غير مماثل لأي شيء كما جاء في آية سورة الشورى التي أوردناها والتي هي ضابط قرآني هام في مثل هذه المسائل. ومن ذلك فهو متكلم ولكن كلامه غير مماثل لأي شيء. وهناك أمر آخر مهم يقوي ذلك أيضا وهو أن الله عزّ وجلّ لم يكلم النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن مباشرة. ففي سورة الشعراء هذه الآيات نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) . وفي سورة النحل هذه الآيات وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) . وفي سورة البقرة هذه الآية قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) . أي إن الذي كلم النبي مباشرة وقرأ عليه القرآن ونزّله على قلبه هو جبريل الذي وصف في آيتي النحل والشعراء بالروح الأمين والروح القدس. وجبريل مخلوق مثل سائر خلق الله، ينقل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما يتلقاه من الله. أما كيف كان جبريل يتلقى القرآن من الله تعالى فقد يصحّ أن يترك تأويله لله عزّ وجلّ تبعا لمسألة الملائكة على ما شرحناه في سياق سورة المدثر. ويصح أن يقال أيضا والله أعلم أن الله يخلق معنى ما يريد وحيه قرآنا إلى نبيّه في جبريل فينزل به على قلب النبي بألفاظه العربية. ويظهر أن المفسرين الذين لم يفتهم هذا المعنى فطنوا إلى ما يمكن أن يورد عليه بما جاء في سورة القيامة فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) فقال ابن عباس في تأويل

ذلك على ما رواه الطبري وابن كثير والبغوي في تفسير هذه الآية «إذا قرأه عليك جبريل فاتبع قرآنه» فصار في هذا توفيق بين هذه الآية وآيات النحل والشعراء والبقرة. وهناك حديث رواه البخاري والترمذي عن ابن عباس في ذلك أيضا قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل جبريل بالوحي وكان مما يحرك به لسانه وشفتيه فيشتد عليه وكان يعرف منه، فأنزل الله الآيات، فكان إذا آتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعد الله» . هذا ومع تناولنا المسألة الخلافية وشرحنا لها موضوعيا في مناسبة جملة كَلامَ اللَّهِ مجاراة للمفسرين واجتهادا لوضع الأمر في نصابه فإننا نقول: أولا: إننا لا نرى جملة حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ مناسبة سائغة لذلك. فهي تعني حتى يسمع ما أوحى الله لرسوله من مبادئ وأهداف الرسالة وأن في إثارة الجدل الكلامي في مناسبتها تحميلا لها غير ما تتحمل. وثانيا: إن هذه الخلافيات والجدليات لا تتصل بآثار نبوية ولا راشدية موثقة ثابتة في ذاتها. فضلا عما كان من آثار نبوية وراشدية تنهى عن الخوض في ماهية الله والقرآن. ومن ذلك حديث رواه الشيخان وأبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا ومن خلق كذا حتى يقول من خلق ربّك. فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينتبه» وحديث رواه أبو داود عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «المراء في القرآن كفر. ما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم فردوه إلى عالمه جلّ جلاله» . وأن من الأولى أن يظل المسلم في حدود التقريرات القرآنية بأن القرآن كلام الله ومن عند الله ووحي من الله وأنزله الله ليتدبر الناس آياته وجعله عربيا ليعقله السامعون وليخرج الناس به من الظلمات إلى النور. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. وأن لله أحسن الأسماء وأكمل الصفات وأنه ليس كمثله شيء ولا تدركه الأبصار. وأن لا يتورط ويخوض في ماهيات وكيفيات متصلة بسرّ واجب الوجود وسرّ الوحي والنبوّة مما لا يستطاع إدراكه بالعقل الإنساني مع قيام البراهين عليه ومما لا طائل من ورائه. والله تعالى أعلم.

[سورة التوبة (9) : الآيات 7 إلى 12]

هذا، مع التقرير اللازم الذي يجب على المؤمن أن يؤمن به أن الله سبحانه وتعالى متصف بصفة الكلام الأزلية الأبدية القديمة مثل صفات السمع والبصر وغيرها. وأنه يراعي الضابط القرآني الوارد في آية سورة الشورى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. والكلام الذي يمكن أن يسمعه بشر لا يمكن أن يكون إلا بطريقة كلام وسمع البشر أي أصوات تخرج من شفتين وتتموج في الهواء حتى تصل إلى أداة سمع في إنسان آخر فيفهمها. وكل هذا متسم بصفة الحدوث التي تتنزه صفة كلام الله القديمة عنها. واستلهاما من ذلك كلّه يمكن أن يقال والله أعلم إن جملة كَلامَ اللَّهِ في الآية التي نحن في صددها وتأتي مكانها في القرآن تعني أحكامه وتبليغاته وتنزيلاته. وقد يرد في القرآن جمل تفيد أن الله كلّم موسى كما جاء في آية سورة الأعراف وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي [143] . وكما جاء في آية سورة النساء: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) . فيمكن أن يقال والله أعلم إن موسى مخلوق بشر ولا يسمع إلا أصواتا تأتي إلى أذنه بطريقة التصويت البشري وهذا متسم بالحدوث الذي تتنزه صفة كلام الله عنها ويمكن أن يقال إن الله سبحانه وتعالى قذف في قلبه ما أراد تبليغه له وعبّر عن ذلك في القرآن بالجمل المذكورة والله أعلم. ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا. [سورة التوبة (9) : الآيات 7 الى 12] كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) .

(1) إن يظهروا عليكم: إن يتفوقوا عليكم ويغلبوكم. (2) لا يرقبوا: لا يراعوا. (3) إلّا: عهدا. (4) اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا: بمعنى فضّلوا الثمن القليل أي متاع الدنيا وزينتها على آيات الله ودينه. في الآيات: (1) تساؤل يتضمن معنى النفي عما إذا كان يصحّ أن يكون للمشركين عهد محترم عند الله وعند رسوله. (2) واستثناء وجه الخطاب فيه للمسلمين بالنسبة للذين عاهدوهم عند المسجد الحرام. وأمر بأن يستقيموا على عهدهم معهم ما استقاموا هم عليه. فإن في هذا تقوى الله والله يحبّ المتقين. (3) وتساؤل آخر وجّه الخطاب فيه كذلك للمسلمين يتضمن أيضا معنى النفي ثم تقريرا لواقع المشركين وتعليلا لعدم استحقاق عهودهم للاحترام، فإنهم إذا ظهروا عليهم وانتصروا لا يرعون فيهم عهدا ولا ذمة ويعاملونهم معاملة العدوّ اللدود. وإنهم إنما يحاولون إرضاءهم بالكلام وقلوبهم غير صادقة ولا مخلصة. وإن أكثرهم فاسقون متمردون على الله تعالى خبثاء الطوية. وإنهم لا يرقبون في مؤمن عهدا ولا ذمة. وإنهم معتدون متجاوزون على كل حق في جميع مواقفهم. (4) وخطاب موجّه إلى المسلمين كذلك بشأنهم: فإذا تابوا عن شركهم وأسلموا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإنهم يصبحون إخوانا لهم في الدين. وفي

تعليق على الآية كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ... والآيات الخمس التالية لها وما روي في صددها من روايات وما انطوى فيها من أحكام وتلقين ودلالات.

هذا بيان يفهمه ويدرك قيمته الذين يعلمون ويدركون الأمور. أما إذا نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم الذي قطعوه على أنفسهم للمسلمين وطعنوا في دينهم فعليهم أن يقاتلوا أئمة الكفر الذين لا يقيمون وزنا لأيمانهم، لعلّ هذا القتال يضطرهم إلى الانتهاء عن موقفهم الباغي. تعليق على الآية كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ... والآيات الخمس التالية لها وما روي في صددها من روايات وما انطوى فيها من أحكام وتلقين ودلالات. ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة نزول هذه الآيات أو بعضها. وإنما رووا روايات عن المقصود منها «1» . فمن ذلك أن المقصود من الاستثناء الوارد في الآية الأولى منها أي الآية [7] هم بنو خزيمة أو بنو مدلج أو بنو الديل من بني بكر بن كنانة الذين دخلوا في صلح الحديبية مع قريش ولكنهم لم ينقضوا حينما نقض بطون أخرى من بني بكر وظاهرتهم قريش فكان ذلك سببا لحملة الفتح المكي. ومنها أن المقصود منه هم قريش الذين عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية. وبخاصة زعماءهم الذين يصحّ عليهم وصف أئمة الكفر مثل أبي سفيان وأبي جهل وأمية بن خلف وعتبة بن شيبة وسهيل بن عمرو. وذكر هذه الأسماء عجيب. لأن منهم من كان قتل يوم بدر مثل أبي جهل وأمية وعتبة. ومنها أن المقصود منه قوم في جوار منطقة المسجد الحرام كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد على أن لا يدخلوا هذه المنطقة ولا يعطوا للمسلمين جزية. ومن ذلك أن المقصود في الفقرة الأولى من الآية الأولى ثم في الآيات الأخرى هم المقصودون في آيات السورة الأولى أي المعاهدون الناقضون لعهدهم.

_ (1) أكثر المفسرين استيعابا لهذه الروايات هو الطبري.

وقد علّق الطبري على الروايات التي تقول إن المقصود في الآيات قريش فقال إن الآيات نزلت بعد فتح مكة وبعد دخول قريش في الإسلام. وهذا سديد صحيح. وقد رجح الرواية التي تقول إنهم البطن الذي لم ينقض من بني بكر حين نقض العهد البطون الأخرى مع قريش فأمر المسلمون بالاستقامة لهم ما استقاموا عليه. وهذا أيضا وجيه. ولكنه لا يمنع أن يكون أناس آخرون في جوار منطقة المسجد الحرام عاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة فاستقاموا على عهدهم فعنتهم الآية والله أعلم. والرواية التي تقول إن المقصود من الفقرة الأولى من الآية الأولى أي الآية [7] ثم الآيات الأخرى أي [8- 12] هم المشركون المعاهدون الناقضون لعهدهم محتملة ومتسقة مع فحوى الآيات وروحها. وقد انطوى فيها تبرير لإعلان براءة الله ورسوله منهم في الآية الأولى ثم في الآية الثالثة من السورة وتبرير للأمر الوارد في الآية الخامسة بقتلهم أينما وجدوا بدون هوادة إلى أن يتوبوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. وفي الآية [11] قرينة على ذلك حيث جاءت بصيغة مماثلة للفقرة الأخيرة من الآية الخامسة. وعبارات التبرير الواردة في الآيات قوية شديدة تدلّ على أن المشركين المعاهدين الذين بدا منهم النقض والغدر والذين أعلنت براءة الله ورسوله منهم كانوا على درجة شديدة من الحقد على المسلمين وتبييت المكر والشرّ والكيد لهم بحيث كان من المستبعد أن يحترموا العهد احتراما صحيحا. وبحيث انطوى فيها حكمة التنزيل في عدم الكفّ عن مطاردتهم وقتالهم وقتلهم إلّا إذا تابوا نهائيّا عن الشرك وأسلموا. والأمر بالاستقامة في العهد لمن يستقيم عليه من المشركين دليل كما نبهنا من قبل على أن المقصود من المشركين المعلن براءة الله ورسوله منهم والمأمور بقتالهم هم الناقضون البادي غدرهم. ويلحظ أن العبارة مطلقة بدون توقيت. وهذا مهمّ في بابه كما هو المتبادر. وجملة فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ بالنسبة لمن يتوبون من المشركين ويقيمون

الصلاة ويؤتون الزكاة جديرة بالتنويه حيث تلهم روحها معنى خلاص المشركين من تبعة أعمالهم ومواقفهم السابقة. وفي ذلك من التلقين والتشجيع والتسامح وفتح الباب للاندماج في الكيان الإسلامي بيسر. والعفو عما سلف ما هو جدير بالإجلال. وما فيه الدلالة على أن غاية الدعوة الإسلامية هي إنشاء كيان إسلامي قوي قائم على المبادئ القويمة السامية التي قامت عليها الدعوة الإسلامية وتيسير الاندماج فيه لكل امرئ مهما كانت حالته ومواقفه السابقة. وهذا متسق مع التقريرات القرآنية الكثيرة. وبخاصة مع الهدف والتلقين المنطويين في آيات التوبة الكثيرة على ما نبهنا عليه في مناسباته. وكلمة فَإِخْوانُكُمْ بخاصة تنطوي في مقامها على هدف التحبب والتأنيس لمن ينضوي إلى لواء الإسلام وتؤكد أخوة المنضوين الدينية التي قررتها جملة إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10] والتي تمثل أقوى الروابط الروحية الإنسانية وأعمقها لأنها رابطة العقيدة والمبدأ التي تسمو على سائر الروابط. ولقد جاء في آية سورة الأنفال قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [38] . ويبدو أن حكمة التنزيل اقتضت أن يكون المعنى هنا أقوى وأروع وأبعد مدى. وجملة وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ في [الآية: 12] قد توهم أنها في صدد معاهدين لم يكونوا نكثوا حينما نزلت الآيات. غير أن فحوى آيات السياق وروحها يلهمان بقوة أنها في صدد موضوع الكلام السابق من المعاهدين. بل إن نظم الآية قد يفيد ذلك حيث عطفت على ما قبلها والضمير فيها راجع إلى الذين هم موضوع الكلام السابق. وجملة وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ في الآية تجعل الطعن في الدين الإسلامي من أسباب قتال المسلمين للمشركين والكفار ومبرراته. وهذا حقّ لا ريب فيه. لأن الطعن يؤدي إلى الصدّ عنه. وبالتالي إنه عدوان على الدين وأهله وحرية الدعوة إليه. وجملة فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ قد تكون في صدد جميع المشركين

[سورة التوبة (9) : الآيات 13 إلى 16]

بوصفهم أئمة كفر. وقد تكون في معنى التشديد في التحريض على قتال الأشد نكاية منهم في العداء والأذى. وقد يكون سياق الآيات وروحها مما يجعل الرجحان للمعنى الأول. غير أن المعنى الثاني لا يخلو من وجاهة. لأن التنكيل بالكبار والأشد نكاية يحلّ عقدة الباقين الذين هم تبع لهم. ومتأثرون بهم. والحملة على زعماء الكفار قد تكررت في القرآن من أجل ذلك وبسببه. غير أنها لم تقتصر عليهم وإنما شملت الكفار عامة مع التشديد على الزعماء. ويصحّ أن يقال إن مدى الجملة هنا هو من هذا القبيل. والله أعلم. [سورة التوبة (9) : الآيات 13 الى 16] أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16) . (1) وليجة: مرادفة في معناها للدخيلة بمعنى الولي أو البطانة الذي يدخل في خصيصة شأن المرء. عبارة الآيات واضحة. وفيها: (1) تحريض وجه الخطاب فيه إلى المسلمين بصيغة السؤال عما إذا كان يصحّ لهم أن يترددوا ويحجموا عن قتال قوم نكثوا أيمانهم بعد العهد وكانوا من قبل يكيدون للنبي. وتآمروا على إخراجه. كما كانوا هم الذين بدأوهم بالبغي والعدوان. وعما إذا كان يصحّ أن يخشوهم في حين أن الله تعالى وحده هو الأحق بالخشية إن كانوا مؤمنين حقا. (2) وتوكيد للتحريض ينطوي على التطمين. فعليهم أن يقاتلوهم. فإنّ الله

تعليق على الآية ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم ... والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من تلقين وما ورد في صدد تأويلها من أقوال

معذبهم بأيديهم ومخزيهم وناصر المسلمين عليهم. وشاف بذلك صدور قوم منهم مغيظة محنقة مما بدا منهم نحوهم. وقد يكون هذا القتال وسيلة لهداية الله من شاء هدايته منهم وتوبته عليهم. وهو العليم بما في صدور الناس وطواياهم. الحكم الذي لا يكون في أوامره وتوجيهاته إلّا الحكمة والصواب. (3) وتنبيه بصيغة السؤال موجّه إلى المسلمين أيضا عمّا إذا كانوا يحسبون أنهم قد نالوا رضاء الله واستحقوا وعده لهم وانتهت متاعبهم بما جرى وما تمّ إلى الآن من أحداث في حين أن الله تعالى ما يزال يرى ضرورة لاختبارهم لتمييز المجاهدين المخلصين منهم الذين لم يتخذوا لهم وليا ولا معتمدا ولا بطانة غير الله ورسوله والمؤمنين ولم يجعلوا لغير هؤلاء شركة ودخلا في أنفسهم وقلوبهم. تعليق على الآية أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ ... والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من تلقين وما ورد في صدد تأويلها من أقوال ولم يرو المفسرون رواية خاصة في مناسبة نزول هذه الآيات. غير أن الأقوال التي رواها الطبري عن أهل التأويل من التابعين ومنهم السدي ومجاهد في المقصود فيها متعددة. حيث روي عن بعضهم أنها في صدد قريش والحثّ على قتالهم بعد أن نكثوا عهدهم في صلح الحديبية. كما روي عن بعض آخر أنها في صدد قتال الذين أعلنت البراءة منهم بسبب نقضهم وغدرهم وأمهلوا أربعة أشهر. وصلة الآيات بما قبلها وثيقة حتى كأنها جزء منها واستمرار لها. وهذا يجعل القول إنها في صدد مشركي قريش محلّ تساؤل وتوقف. لأن الآيات نزلت بعد فتح مكة. وقد دخلت قريش في الإسلام وانتهوا من موقف الشرك والعداء. وقد يجعل القول الثاني هو الأوجه غير أن الوصف الذي انطوى في الآية الأولى يثير الحيرة. لأن وصف وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ينطبق لأول وهلة على قريش. ولقد كان من الذين دخلوا في صلح الحديبية إلى جانب

قريش بطون بني بكر لأنهم حلفاء لهم في حين أنه دخل في هذا الصلح إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بنو خزاعة لما كان بينهم وبين بني بكر من عداء. ولقد بقي بعض بطون بني بكر أوفياء لعهدهم حينما نقضه فريق منهم بتشجيع بعض جماعة من قريش على ما ذكرناه آنفا. وكان نقض هذا الفريق سبب زحف النبي صلى الله عليه وسلم على مكة. فلعلّ من هذا البعض من بدا منهم نكث وغدر بعد الفتح المكي. وكانوا من جملة من كان موضوع البراءة. ولقد كانوا في الأصل حلفاء قريش فيمكن أن يكونوا وصفوا بما جاء في الآية على هذا الاعتبار. ولقد روى البغوي عن مجاهد أن جملة وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ قد قصد بها خزاعة حلفاء رسول الله الذين أعانت قريش أعداءهم بني بكر عليهم. وهذه الرواية قد تؤيد ما خمّنّاه من أن يكون الذين بدا منهم نكث وغدر بعد الفتح المكي هم بعض بني بكر، في حين ظل بعض آخر أوفياء لعهدهم. وتفيد الرواية كذلك أن بني خزاعة قد اعتنقوا الإسلام فصار يصح عليهم جملة وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ويمكن أن يكون هذا نتيجة لما كان من تحالف النبي معهم ثم انتصاره لهم وزحفه على مكة. والله أعلم. وفي الآية الأولى بخاصة توكيد لصواب التوجيهات التي وجهناها في سياق الآيات السابقة إن شاء الله. وهي كون الأمر بالقتال والتحريض عليه إنما كان ضد الناكثين والذين بدأوا المسلمين بالعدوان والأذى والطاعنين في دينهم. ولقد قال المفسرون إن الفقرة الأخيرة من الآية الثالثة احتوت إشارة إلى ما علم الله تعالى من دخول أهل مكة في الإسلام. والقول يكون وجيها لو كان نزول الآيات قبل الفتح المكي. وعلى كل حال فإن في الفقرة بشرى للمسلمين وتشجيعا لهم على قتال الناكثين من جهة. وإبقاء لباب التوبة والإسلام مفتوحا أمام المشركين والناكثين من جهة أخرى. وهو ما جرى عليه القرآن في مواضع ومناسبات عديدة سابقة. وفيه ما فيه من روعة وجلال من حيث تركيز كون هداية الناس بهدى الإسلام والرسالة المحمدية هي الهدف الجوهري في كلّ المواقف والمناسبات.

[سورة التوبة (9) : الآيات 17 إلى 22]

ولقد روى الطبري عن حذيفة وزيد بن وهب في صدد وصف أئمة الكفر أن أهل هذه الآية لم يقاتلوا بعد. بحيث تفيد الرواية أنهم غير أئمة الكفر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأنهم جماعة آخرون يظهرون بعد. وروى الطبرسي عن علي بن أبي طالب أنه قرأ هذه الآيات يوم البصرة الذي كانت المعركة فيه بينه مع أنصاره من جهة وبين عائشة وطلحة والزبير وأنصارهم من جهة ثم قال أما والله لقد عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليّ قال يا علي لتقاتلن الفئة الناكثة والفئة الباغية والفئة المارقة. والرواية الأولى غريبة. وغير متسقة مع فحوى الآيات وسياقها حيث إنها تتحدث عن أمور واقعة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. أما الرواية الثانية فالهوى الشيعي بارز عليها. وهي من نوع ما يرويه رواة الشيعة ومفسروهم على هامش الآيات القرآنية من روايات كثيرة بسبيل تأييد أهوائهم. [سورة التوبة (9) : الآيات 17 الى 22] ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) . (1) يعمروا، وعمارة: هنا بمعنى الخدمة والصيانة وقيل إنها تعني كذلك كثرة الغشيان للمساجد. (2) شاهدين على أنفسهم بالكفر: بعضهم أوّل الجملة بأنهم الذين كانوا يعترفون بشركهم وكفرهم. وبعضهم أولها بأن كفرهم وشركهم بمثابة شهادة

تعليق على الآية ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ... إلخ والآيات الخمس التالية لها

منهم على أنفسهم. وهذا أوجه فيما هو المتبادر. (3) سقاية الحاج: مهمة تدبير الماء للحجاج. في الآيات: (1) تقرير بأنه لا يصحّ أن يكون المشركون عمّارا لمساجد الله ومتولين لأمورها في حين أن شركهم شاهد منهم على أنفسهم بأنهم غير مؤمنين بالله وحده والمساجد مساجد الله وحده. وبأنهم مهما عملوا من أعمال يظنون أنها خدمة لله فهي حابطة ومصيرهم الخلود في النار. (2) وتعقيب تقريري بأن الذين يصحّ أن يكونوا عمّارا لمساجد الله هم الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويقيمون الصلاة وو يؤتون الزكاة ولا يخافون أحدا غير الله. فهؤلاء هم الذين يمكن أن يكونوا على هدى من الله وأن يستحقوا رضاءه. (3) وسؤال استنكاري موجّه للسامعين والراجح للمسلمين على ما يستلهم من روح الآيات عما إذا كان- والحالة هذه- يصحّ أن يجعلوا الذين يقومون بمهمة سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام من المشركين مثل الذين آمنوا بالله واليوم الآخر وجاهدوا في سبيل الله وفي درجتهم ومنزلتهم وتقرير بمثابة الإجابة بأن الفريقين لا يمكن أن يكونوا سواء عند الله. وإن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا هم الأعظم درجة عنده. وإنهم هم الفائزون المبشرون برضوانه ورحمته. والخالدون في جناته. تعليق على الآية ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ ... إلخ والآيات الخمس التالية لها وما ورد في صددها من روايات وما انطوى فيها من تلقين وصور موضوع الآيات فصل جديد، ولقد روي في مناسبة نزولها روايات عديدة ومختلفة. فقد روى الطبري أن قريشا افتخرت بما تفعله من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وقالت لا أحد أفضل منا، فأنزل الله الآيات ردا عليهم. وروي عن

النعمان بن بشير أنه كان في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند منبر رسول الله في يوم جمعة فقال رجل منهم ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلّا أن أسقي الحاج، وقال آخر بل عمارة المسجد الحرام وقال آخر بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله فاستفتيته فيما اختلفتم فيه ففعل فأنزل الله أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ الآية. وروي أن المسلمين أقبلوا يوم بدر يعيرون الأسرى من المشركين وفيهم العباس عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: لئن سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج ونفك العاني (الأسير) فأنزل الله أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ الآية. وروي أنها نزلت في العباس وعليّ وطلحة بن شيبة حيث اجتمع ثلاثتهم فقال الأول: أنا أفضلكم أنا أسقي حجاج بيت الله، وقال طلحة: أنا أعمر مسجد الله، وقال عليّ: أنا هاجرت مع رسول الله وأجاهد معه في سبيل الله، فأنزل الله الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً. وروى الطبرسي أن عليّا قال لعمّه العباس: ألا تهاجر وتلحق برسول الله، فقال: ألست في أفضل من الهجرة أعمر المسجد الحرام وأسقي حاج بيت الله فنزلت أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ.... والآيتان الأولى والثانية تنفيان حقّ المشركين وأهليتهم لعمارة مساجد الله وتقرران كون هذا الحقّ والأهلية هما للذين آمنوا بالله واليوم الآخر وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ولم يخشوا إلّا الله، حيث يلهم هذا أن أصل المفاضلة لم يكن بين مؤمنين فيما بينهم وإنما كان في صدد نفي صلاحية المشركين وحقهم في عمارة مساجد الله التي منها المسجد الحرام. فاحتوت الآية الأولى ردّا على ذلك وقررت الثانية أن المؤمنين هم الأولى به. وهذا يلحظ أيضا في الآيات الأربع التالية للآيتين لأنها تندد بجعل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام في درجة الإيمان بالله والجهاد في سبيله حيث يفيد هذا أن مؤمنين قالوا ذلك وأن المفاضلة ليست بالنسبة لمؤمنين يقومون بالمهمتين ولكنها بالنسبة لمشركين يقومون بهما لأنه ليس من

محلّ للمفاضلة لو كان هؤلاء من المؤمنين. وهذا يسوغ القول إن الروايات التي تذكر المفاضلة أو المفاخرة بين مؤمنين فيما هو الأفضل لا تنطبق تماما على مدى الآيات. وكذلك الروايات التي تذكر أقوال العباس في بدر أو لعليّ بن أبي طالب لا تنطبق. لأنه ليس فيها نسبة ذلك القول إلى مؤمنين. وهذا فضلا عن أن بعض الروايات يفيد أن الآيات نزلت قبل فتح مكة مع أن السياق جميعه هو بعد هذا الفتح. ولقد تبادر لنا احتمالات أخرى يمكن أن تنطبق على هذه الآيات أكثر. منها أن يكون وقع جدل بين مؤمنين حول ما إذا كان للذين كانوا يقومون بسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وهم على شركهم ثواب ومنزلة عند الله على اعتبار أنهم كانوا يخدمون بيته وحجاجه. فسئل رسول الله عن ذلك فنزلت الآيات للردّ والبيان وجاءت الآيتان الأوليان منها كمقدمة عامة الشمول. ومنها أن تكون حكمة التنزيل اقتضت الإيحاء بها لتبرير منع المشركين من دخول المسجد الحرام الذي كان روي أنه كان مما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان يوم الحج الأكبر ونودي به على ما ذكرناه في سياق شرح الآية الثالثة من السورة. ولعل بعض المؤمنين القرشيين أو غيرهم جادلوا في أمر منع المشركين من الدخول إلى المسجد الحرام ونوهوا بما كان يقوم به بعضهم من خدمات للمسجد الحرام وللحجاج. أو بما كان يعود على أهل هذا المسجد من الزوار المشركين من فوائد. ولقد أمرت الآية [28] من هذه السورة التي تأتي بعد قليل منع المشركين من دخول المسجد الحرام بأسلوب تشريعي حاسم. وعلّلت ذلك بأنهم رجس. وطمأنت المسلمين بأنهم إذا كانوا يخشون سوء الحالة الاقتصادية والمعاشية بسبب ذلك فإن الله كفيل بإغنائهم عنهم إن شاء حيث تبدو صلة ما بين هذه الآية والآيات التي نحن في صددها وحيث قضت الحكمة الإيحاء بها بسبيل ذلك ولتدعيم ذلك الإعلان الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحج الأكبر. والله أعلم. وبهذا البيان تبدو الصلة الموضوعية والظرفية واضحة بين هذه الآيات والسياق السابق مهما بدا عليها أنها فصل جديد.

ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية [18] حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان» . وحديثا آخر عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما عمّار المساجد هم أهل الله» . والحديث الأول رواه الترمذي أيضا بزيادة في آخره وهي «قال الله تعالى إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» «1» والحديثان متساوقان في التنويه والتلقين مع الآية الكريمة كما هو واضح. والآيات في حدّ ذاتها مطلقة العبارة وعامة الهدف والتقرير. وما احتوته متسق مع ما تكرر تقريره في القرآن كثيرا من أن الإيمان بالله واليوم الآخر والأعمال الصالحة التي تقرب إلى الله كالهجرة والجهاد بالمال والنفس في سبيله هي التي تستحق رضاء الله وتدل على الإخلاص له. وإن كل خدمة أو عمل مع الشرك بالله حابط عند الله وإنه لا يصحّ مهما عظم في الأذهان والعرف أن يقاس مع الإيمان بالله والإخلاص له والجهاد في سبيله أو يكون في منزلته. وواضح أن هذه التقريرات المتكررة بالأساليب المتنوعة تستهدف فيما تستهدفه تدعيم الدعوة إلى سبيل الله والإخلاص له وحده في كل عمل وقول. والتنويه بمن ينضوي إليها ويخلص فيها ويجاهد في سبيلها وما له عند الله من عظيم المنزلة والأجر. هذا، ومع أن ذكر السقاية والعمارة لم يقصد به مدلولهما الخاص فقط وإنما قصد به الجنس وهو خدمة المسجد الحرام وحجاجه كما تلهم روح الآيات فإن في ورود الكلمتين توكيدا وتأييدا لما روته الروايات العربية «2» من وجود مناصب ومهمات عامة في مكة قبل الإسلام ظلت إلى الفتح الإسلامي. وكان يقوم عليها زعماء البيوتات القرشية الرفيعة. وقد كانت السقاية في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في عهدة عمّه العباس بن عبد المطلب والحجابة أو مفتاح البيت في عهدة طلحة بن

_ (1) التاج ج 4 ص 115. (2) انظر مروج الذهب للمسعودي ج 1 ص 358 وما بعدها وج 2 ص 164 وما بعدها وج 3 ص 366 وما بعدها وطبقات ابن سعد ج 1 ص 46 وما بعدها وتاريخ الطبري ج 2 ص 14 وما بعدها، وتاريخ العرب قبل الإسلام- جواد علي ج 4 ص 187 وما بعدها. [.....]

عثمان بن شيبة. وقد كان من جملة تلك المناصب والمهام الرفادة واللواء والقيادة والسفارة والديات ورئاسة دار الندوة والأموال المحجرة والأعنة على ما ذكرته تلك الروايات. والسقاية هي تهيئة الماء الصالح للحجاج. والرفادة هي إكرام الحجاج وإطعام المحتاجين منهم. والديات هي جمع ما يترتب على قريش من الديات على ما يقع من بعض أفرادهم من جنايات الدم وفقا للتقاليد القبلية. واللواء هو عقد راية الحرب وتسليمها للقائد. والقيادة هي قيادة الحرب والحملات الحربية. والسفارة هي القيام بالمفاوضات والصلات بين قريش والقبائل الأخرى لحلّ المشاكل التي تقوم بين الطرفين. والأموال المحجرة هي الإشراف على ما كان يوقف وينذر من أموال الكعبة والأصنام. والأعنة هي قيادة الخيل. وقد كان يتألف من أصحاب هذه المناصب مجلس له الكلمة والنفوذ. وكان يتولى أمور مكة العامة وسياستها ومصالحها ويجتمع في دار قرب الكعبة تسمّى دار الندوة. وتروي الروايات أن هذه الأمور قد رتبت من قبل قصي بن كنانة أحد أجداد النبي صلى الله عليه وسلم وأجداد الأسر القرشية التي تلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في النسب. ويخمن وجوده قبل الإسلام بنحو مائة وخمسين سنة حيث نبغ واستطاع أن يبسط حكمه على مكة. ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبته عقب فتحه مكة: «ألا إن كلّ مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلّا سدانة البيت وسقاية الحاج» وأنه أبقى مفتاح الكعبة مع عثمان بن طلحة وقال له: خذوها يا بني طلحة تالدة خالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم وأبى أن يستجيب لعمّه العباس الذي طلب منه أن يجمع لبني عبد المطلب السدانة والسقاية. واكتفى بإقرار السقاية فيهم» «1» . ولعل اختصاص المهمتين بالذكر في الآيات بسبب ذلك بل ولعلّ هذا هو سبب الجدال حول ثواب ومنزلة من كان يقوم بهما عند الله وهو على شركه. والله أعلم.

_ (1) انظر ابن هشام ج 4 ص 32 وابن سعد ج 3 ص 232- 233.

[سورة التوبة (9) : الآيات 23 إلى 24]

[سورة التوبة (9) : الآيات 23 الى 24] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24) . (1) اقترفتموها: بمعنى كسبتموها وحزتموها. عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت: (1) نهيا للمسلمين عن اتخاذ آبائهم وإخوانهم أولياء ونصراء إذا فضلوا الكفر على الإيمان. ووصفا لمن يفعل ذلك بالظلم أي بالتمرّد على الله والانحراف عن جادة الحق والبغي على نفسه بالذات لأنه بذلك يعرضها للخطر. (2) وإنذارا لكل من يكون أبوه وأخوه وابنه وزوجته وعشيرته وأمواله وتجارته وموطنه المحبب إليه أحبّ إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله. فعلى من يكون كذلك أن ينتظر أمر الله فيه. وإن هذا لفسق، وإن الله لا يمكن أن يسعد الفاسقين ويرضى عنهم. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ والآية التي بعدها وما فيهما من صور وتلقين ودلالات لقد روى الطبري عن أهل التأويل من التابعين أن الآيات نزلت في العباس وطلحة بن شيبة حينما أمروا بالهجرة فقالوا نبقى لنقوم بمهمتنا. وأردف الطبري هذا بقوله وكان ذلك قبل الفتح! وروى كذلك عن مجاهد أن جملة فَتَرَبَّصُوا حَتَّى

يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ تعني فتح مكة. وروى البغوي أن الآيات في شأن الذين تخلفوا عن الهجرة بعد الفتح تعلقا بأبنائهم وأزواجهم وأموالهم والذين نزلت فيهم وفي أمثالهم جملة وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا في الآية [72] من سورة الأنفال. كما روي أنها في صدد النهي عن موالاة تسعة من المسلمين ارتدّوا ولحقوا بمكة. وروى هذا المفسر عن الحسن أن الجملة المذكورة آنفا هي إنذار بعقوبة عاجلة أو آجلة إطلاقا. وروى الطبرسي أن الآيات نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين أرسل إلى أهل مكة ينذرهم بعزم النبي صلى الله عليه وسلم على غزوهم. وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح وهي لا تنطبق على فحوى الآيات وروحها. وفي الآيات التالية لها دليل قاطع على أنها نزلت بعد فتح مكة لا قبله كما تذكر الروايات أو تقتضيه. لأنها تذكّر المؤمنين بما كان من نصر الله لهم في يوم حنين بعد هزيمتهم على سبيل تدعيم النهي. ويوم حنين إنما كان بعد فتح مكة. ومن العجيب أن لا ينتبه الرواة والمفسرون إلى ذلك. والصورة التي يمكن أن تنطوي في الآيات هي أنه كان لبعض المؤمنين بعد الفتح المكي أقارب ما زالوا على شركهم، وكان المؤمنون يتواصلون معهم ويعتبرونهم عصبيتهم. ومن المحتمل أن يكون لبعضهم في المكان الذي هاجروا منه أموال وأراض فكانوا يتطلعون إليها ومنهم من حاول الالتحاق بها. ومن المحتمل أن يكون هؤلاء من أهل مكة أو من القبائل المجاورة لها أو من القبائل التي لم تكن أسلمت من أطراف المدينة. ومن المحتمل أن تكون الظروف اقتضت أن يسيّر النبي صلى الله عليه وسلم بعض سراياه عليهم فاعترض أقاربهم المؤمنون أو أظهروا عصبيتهم نحوهم فاقتضت الحكمة إنزال الآيات بالأسلوب القوي الذي جاءت به ليكون زاجرا وحاسما في توطيد الرابطة الدينية والكيان الإسلامي دون أي اعتبار لشيء آخر من صلات وأنساب ومنافع. والآيات مطلقة العبارة وعامة الهدف والتقرير والتلقين مع خصوصيتها الزمنية والموضوعية. فصحة إيمان المؤمن منوطة بأن يكون الله ورسوله والجهاد في سبيله

أحبّ إليه من كل عرض دنيوي وصلة رحمية مهما عظمت في نفسه أو عظمت فيها مصلحته الشخصية. وهكذا تكون الآيات قد وضعت قياسا لإيمان المسلم وإخلاصه. وهو قياس دقيق شديد بل قياس خالد لإيمان المؤمنين وإخلاصهم لعقائدهم ومبادئهم في كلّ ظرف ومكان. وإذا لوحظ أن الآية شملت كل ما يمكن أن يكون للمرء فيه مصلحة خاصة ومحببة وصلة وشيجة من آباء وأبناء وإخوان وأزواج وعشيرة وأموال وتجارة ووطن خاص بدا مدى هذا المقياس الرقيق الشديد الخالد. وسبيل الله التي تجعل الآيات الجهاد فيها من أركان هذا القياس هي الدعوة الإسلامية وما ينطوي فيها من أوامر ونواه ومبادئ وأهداف دنيوية وأخروية بصورة عامة على ما شرحناه في مناسبات سابقة حيث يبدو من خلال ذلك شمول هذا القياس الدقيق. وينطوي في الآيات بالإضافة إلى ذلك هدف توطيد الكيان الإسلامي وتضامن المسلمين في نطاقه بقطع النظر عن أي اعتبار وصلة خارجة عنه. ومن الجدير بالذكر أن القرآن المكي وصّى الإنسان والمسلم بوالديه حسنا على أن لا يطيعهما في الشرك وأن يصاحبهما في الدنيا معروفا. كما جاء في آيات سورة الإسراء [23- 24] وسورة لقمان [13- 14] وسورة العنكبوت [8] ثم تطور هذا في الآية [22] من سورة المجادلة حيث قررت أنه لا يمكن لمؤمن صادق أن يوادّ من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم. ثم جاءت الآيات التي نحن في صدد تفسيرها تطورا آخر حاسما بنهيها صراحة عن اتخاذ الآباء والأبناء وغيرهم من ذوي الأرحام أولياء ونصراء إذا ظلوا كفارا. والفرق التطوري يلمح في كون الوصف في آية المجادلة هو مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وهذا يعني العداء في حين أن الوصف في الآيات التي نحن في صددها هو إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وهذا لا يعني العداء دائما. وحكمة التطور تلمح في تطور حالة المسلمين والإسلام وقوتهما واشتداد أمرهما كما هو المتبادر. وفي ذلك كلّه صور من صور السيرة النبوية.

[سورة التوبة (9) : الآيات 25 إلى 27]

ومن الحق أن نستدرك في هذا الصدد أمرا وهو مدلول (الأولياء) في الآيات التي نحن في صددها من حيث كونه يعني التحالف والتناصر. بحيث يمكن أن يقال إن حكم آية سورة الممتحنة لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) لم يتعطل بالآيات التي نحن في صددها وإنه ليس فيها ما يمنع البرّ بالوالدين والأقارب والإقساط إليهم فضلا عن غيرهم ولو كانوا كفارا إذا كانوا موادّين مسالمين كافّين ألسنتهم وأيديهم عن الإسلام والمسلمين. ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا رواه الإمام أحمد عن زهرة بن معبد عن جده قال: «كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال والله يا رسول الله لأنت أحبّ إليّ من كل شيء إلا من نفسي فقال رسول الله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه فقال عمر فأنت الآن والله أحبّ إليّ من نفسي فقال رسول الله الآن يا عمر» . وحديثا رواه البخاري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده وولده والناس أجمعين» وهذا الحديث رواه الشيخان والنسائي أيضا «1» وهناك حديث آخر من بابه رواه الثلاثة ومنهم الترمذي عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه من سواهما وأن يحبّ المرء لا يحبّه إلا لله تعالى وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار» «2» حيث ينطوي في الأحاديث تنبهات نبوية متساوقة مع مدى الآية. [سورة التوبة (9) : الآيات 25 الى 27] لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) .

_ (1) التاج ج 1 ص 22. (2) المصدر نفسه.

تعليق على الآية لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم.. إلخ والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين وصور وموجز الروايات عن وقعة حنين وحصار الطائف وفتحها

عبارة الآيات واضحة كذلك وقد احتوت الآيتان الأولى والثانية تذكيرا للمسلمين على سبيل المنّ الرباني بما كان من نصر الله لهم في مواطن كثيرة اشتبكوا فيها مع أعدائهم وبما كان بنوع خاص في يوم حرب حنين حيث كانوا كثيري العدد فأعجبتهم كثرتهم وداخلهم الزهو فلم تفدهم كثرتهم واشتد عليهم ضغط أعدائهم حتى ضاقت عليهم الأرض على رحبها وولوا منهزمين. ثم نظر الله إليهم برحمته فأنزل السكينة على رسوله وعلى المؤمنين المخلصين وأيدهم بجنود لم يروهم فدارت الدائرة على أعدائهم الكافرين ونالهم ما استحقوا من عذاب الله. أما الآية الثالثة فقد احتوت تطمينا عاما حيث قررت كون الله من بعد ذلك يتوب على من يشاء ممن يهتدي بهداه ويستحق رحمته وغفرانه وهو الغفور الرحيم. تعليق على الآية لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ.. إلخ والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين وصور وموجز الروايات عن وقعة حنين وحصار الطائف وفتحها ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. والمتبادر أنها جاءت استطرادا تدعيميا للآيتين السابقتين لها هادفة إلى تقرير كون الله تعالى هو الذي نصر المسلمين وينصرهم دائما. وأن هذا يغنيهم عن اتخاذ آبائهم وإخوانهم وعشيرتهم أولياء إذا استحبوا الكفر على الإيمان. وأن التكثر بهم لا يغنيهم شيئا. وقد رأوا مثالا على ذلك بما كان من كثرتهم يوم حنين وزهوهم بها وتيقنهم أنهم منتصرون على أعدائهم فانهزموا ليكون لهم بذلك درس وعبرة. ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعليهم وأيدهم بجنود من عنده فانتصروا. وواضح أن الآيات بهذا الشرح قد انطوت على تلقين وتهذيب مستمري

المدى يستمد منهما المسلم قوة روحية عظيمة ويجعلانه يدرك وجوب الاعتماد على الله والإخلاص له وحده وعدم التأثر بالمصالح الشخصية وجعلها تحرفه عن ذلك وعدم التضامن مع غير المخلصين مثله مهما اشتدت بينه وبينهم الروابط، وكون ذلك هو الذي يكفل له النصر والتأييد الربانيين بقطع النظر عن القلة والكثرة. وهذا مما تكرر في مناسبات عديدة سابقة بأساليب متنوعة. ويوم حنين المذكور في الآيات هو وقعة حربية نشبت بين المسلمين وقبائل هوازن بعد فتح مكة. وملخص ما روته الروايات عنها «1» أن هذه القبائل كانت حليفة لقريش مثل قبائل ثقيف وأن قريشا حينما علمت بزحف النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين أرسلت إليها تستنجد بها فتحركت للنجدة. ولكن زحف النبي صلى الله عليه وسلم كان أسرع وتمّ استيلاؤه على مكة قبل أن تصل النجدات فعاد فريق من ثقيف إلى منازله وبقي فريق مع هوازن وتحشدوا في وادي حنين على بعد ثلاث ليال من مكة نحو الطائف. وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم من يستطلع خبرهم فعاد الرسول يقول إنهم مجمعون على الحرب وإن المدد متواصل إليهم. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوائل شوال على رأس (12000) فيهم نحو ألفين ممن أسلم من أهل مكة حتى لقد قال النبي أو أبو بكر أو رجل من بكر على اختلاف الروايات: لن نغلب اليوم من قلة. وكان قائد القبائل مالك بن عوف. واشتبك الفريقان. وكان عدد جيش مالك نحو أربعة آلاف. غير أنه كان فيهم رماة ماهرون. فلما اشتبك الفريقان ظهر من جانب بعض المسلمين استهتار بالعدو لقلته وكثرتهم. ورشق الرماة المسلمين بمدرار من النبل فأدى هذا وذاك إلى اضطراب صفوف المسلمين وفرار أكثرهم من الميدان عدا النبي صلى الله عليه وسلم كعادته وأبي بكر وعمر والعباس وعليّ والفضل وآخرون من أصحاب رسول الله المخلصين رضي الله عنهم. وأخذ ينادي الناس بصوته: يا أنصار الله يا أنصار رسول الله. فلم يلبث المسلمون أن هدأ روعهم وأنزل الله السكينة عليهم وعادوا إلى الميدان هاتفين: لبيك لبيك ثم حملوا على المشركين حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن

_ (1) انظر ابن سعد ج 3 ص 200- 212، وابن هشام ج 4 ص 65- 149، وتاريخ الطبري ج 2 ص 344- 360. وتفسير الطبري وتفسير البغوي أيضا.

حمي الوطيس. وجعل يرتجز وهو على ظهر بغلته: أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب وأيّد الله المسلمين وقذف الرعب في قلوب المشركين فانهزموا لا يلوون على شيء واحتاز المسلمون أنعامهم وماشيتهم ونساءهم وأطفالهم، وكان عدد السبي (6000) والإبل (24000) والغنم (40000) والفضة (4000) أوقية. وقد زحف بعد ذلك في شهر شوال على الطائف لأن معظم أهلها من ثقيف الذين كانوا حلفاء قريش وهوازن وجاءوا إلى نجدتهم. وحاصرها نحو ثمانية عشر يوما وضربها بالمنجنيق حيث كانت مسورة ولم يتيسر له فتحها ولم يخرج أهلها إلى المسلمين. وتراشق الطرفان بالنبال واستشهد نحو اثني عشر من المسلمين وأمر النبي بقطع أعنابهم وتحريقها فنادوه من وراء الأسوار وناشدوه الرحم فاستجاب وقال أدعها لله والرحم، واستشار بعض أصحابه فقال له بعضهم «ثعلب في جحر إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك» فأمر رسول الله مناديا ينادي بالرحيل. وأمر الناس أن يهتفوا «آئبون تائبون عابدون لربّنا حامدون» وسألوه أن يدعو على ثقيف فقال: «اللهمّ اهد ثقيفا وائت بهم» . وهناك حديث رواه الشيخان عن عبد الله بن عمرو في صدد حصار الطائف والانصراف عنها قال: «حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف فلم ينل منهم شيئا فقال إنا قافلون إن شاء الله. قال أصحابه نرجع ولم نفتح. فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم اغدوا على القتال فغدوا عليه فأصابهم جراح فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم إنا قافلون غدا. قال فأعجبهم ذلك فضحك النبي صلى الله عليه وسلم» «1» . وفي طريق عودته توقف في الجعرانة لقسمة سبي هوازن وغنائمها. وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن ينعم منها على بعض زعماء مكة والقبائل زيادة على الأسهم العادية تألفا لقلوبهم لحداثة عهدهم بالإسلام فأعطى بعضهم مائة من الإبل وبعضهم خمسين ومنهم من أعطاه فضة ومنهم من أعطاه غنما. ثم وزع الباقي على سائر

_ (1) التاج ج 4 ص 391.

الناس بعد إفراز الخمس لبيت المال. وفعل كذلك بالسبي. أي أنه قرر استرقاق السبي- النساء والأطفال- ووزعهم كغنائم على المسلمين. ولقد أرسلت هوازن وفدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم تعلنه بإسلامها وتطلب منه ردّ أموالها وسبيها فأخبرهم أنه قد وزع السبي والأموال ثم سألهم: أبناؤكم ونساؤكم أحبّ إليكم من أموالكم؟ فقالوا بلى. فقال أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم فإذا صليت الظهر فقوموا فقولوا إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله. ففعلوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم. فقال الأنصار والمهاجرون من أصحاب رسول الله وما كان لنا فهو لرسول الله، وقال بنو سليم كذلك. وأبى بعض زعماء القبائل فقال رسول الله أما من تمسك بحقّه منكم من هذا السبي فله بكل إنسان ست فرائض من أول سبي أصيبه. فقبل الممتنعون وردّوا ما في أيديهم من السبايا. ومما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بامرأة قتيل فسأل عن شأنها فقالو اقتلها خالد بن الوليد فأمر أحد أصحابه ليدرك خالدا ويقول له إن رسول الله ينهاه عن قتل المرأة والوليد والعسيف «1» . ومما روي في سياق توزيع الغنائم أن الأنصار وجدوا في أنفسهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنح زعماءهم كما منح زعماء مكة والقبائل حتى قال قائلهم: إن رسول الله لقي قومه. ودخل عليه سعد بن عبادة زعيم الخزرج فقال: يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم في هذا الفيء الذي أصبت. قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظيمة في قبائل العرب ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء. فقال له: اجمع لي قومك فجمعهم، فأتاهم رسول الله فقال بعد حمد الله «يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم. وجدة وجدتموها عليّ في أنفسكم. ألم آتكم ضلّالا فهداكم الله. وعالة فأغناكم الله. وأعداء فألّف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. الله ورسوله أمنّ وأفضل. ثم قال ألا تجيبوني

_ (1) الخادم أو المملوك.

يا معشر الأنصار؟ قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ورسوله المنّ والفضل فقال لهم أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتم وصدّقتم: أتيتنا مكذّبا فصدّقناك. ومخذولا فنصرناك. وطريدا فآويناك. وعائلا فآسيناك. أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم. ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم. فو الذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار. ولو سلك الناس شعبا وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار. اللهمّ ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار» «1» . فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظّا فكان مشهدا من أروع مشاهد السيرة. وفيه تلقين بليغ المدى سواء أفي عظم أخلاق ووفاء السيد الرسول أم في عظم مقام الأنصار عنده أم في النظرة النبوية إلى الناس حسب قوة إيمانهم وإخلاصهم. وفي الكتب الخمسة أحاديث نبوية في بعضها تطابق لما جاء في الروايات أو إيجاز. وفي بعضها مغايرة وتوضيح. وفي بعضها صور لم ترد في الروايات. وقد رأينا من المفيد إيرادها لإكمال الصورة ولأنها الأوثق في بابها. من ذلك حديث رواه مسلم والبخاري عن أنس جاء فيه: «إنّ أناسا من الأنصار قالوا يوم حنين حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء فطفق رسول الله يعطي رجالا من قريش المائة من الإبل فقالوا يغفر الله لرسول الله يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم. فسمع رسول الله من قولهم فأرسل إلى الأنصار فقال ما حديث بلغني عنكم. فقال له فقهاء الأنصار يا رسول الله أما ذوو رأينا فلم يقولوا شيئا. وأمّا أناس منّا حديثة أسنانهم قالوا يغفر الله لرسوله يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم. فقال رسول الله: فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألّفهم. أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم

_ (1) انظر التاج ج 4 ص 389.

برسول الله. فو الله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به. فقالوا بلى يا رسول الله قد رضينا. قال فإنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة. فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله فإني على الحوض. قالوا سنصبر» «1» . وروى مسلم والبخاري عن أنس قال: «جمع رسول الله الأنصار فقال أفيكم أحد من غيركم. فقالوا لا إلا ابن أخت لنا. فقال رسول الله إنّ ابن أخت القوم منهم. فقال إن قريشا حديث عهد بجاهلية ومصيبة. وإني أردت أن أجيرهم وأتألّفهم. أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله إلى بيوتكم. لو سلك الناس واديا وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار» «2» . وروى مسلم والبخاري عن عبد الله قال: «لمّا كان يوم حنين آثر رسول الله ناسا في القسمة فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وأعطى عيينة مثل ذلك وأعطى أناسا من أشراف العرب وآثرهم يومئذ في القسمة فقال رجل والله إن هذه القسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه الله. قال فقلت والله لأخبرنّ رسول الله فأتيته فأخبرته قال فتغيّر وجهه حتى كان كالصّرف ثم قال فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله. ثم قال يرحم الله موسى. قد أوذي بأكثر من هذا فصبر. قلت لا جرم لا أرفع إليه بعدها حديثا» «3» . وروى مسلم عن رافع بن خديج قال أعطى رسول الله أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس كلّ إنسان منهم مائة من الإبل. وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك فقال عباس بن مرداس: أتجعل نهبي ونهب العبي ... د بين عيينة والأقرع فما كان بدر ولا حابس ... يفوقان مرداس في المجمع وما كنت دون امرئ منهما ... ومن تخفض اليوم لا يرفع

_ (1) التاج ج 4 ص 344 و 345 والحديث الأول يفيد أن ذوي الأسنان من الأنصار لم ينتقدوا. وهم لا شك السابقون الأولون الذين سجّل الله رضاءه عنهم ورضاءهم عنه في إحدى آيات هذه السورة. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه ص 345 و 346.

قال فأتمّ له رسول الله مائة» «1» . وروى البخاري ومسلم عن العباس قال: «شهدت مع رسول الله يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله فلم نفارقه وهو على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي. فلما التقى المسلمون والكفار ولّى المسلمون مدبرين فطفق رسول الله يركض بغلته قبل الكفار وأنا آخذ بلجامها أكفّها لئلا تسرع وأبو سفيان آخذ بركابه فقال رسول الله أي عباس ناد أصحاب السمرة «2» فقلت بأعلى صوتي أين أصحاب السمرة. قال فو الله لكأنّ عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها تعالوا يا لبيك يا لبيك فاقتتلوا والكفار والدعوة في الأنصار يقولون يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج يا بني الحارث يا بني الحارث. فنظر رسول الله إلى قتالهم وهو على بغلته وقال هذا حين حمي الوطيس. ثم أخذ رسول الله حصيات فرمى بهنّ وجوه الكفار. ثم قال انهزموا وربّ محمد. قال فذهبت انظر فإذا القتال على هيئته فيما نرى. قال فو الله ما هو إلا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى أحدّهم كليلا وأمرهم مدبرا. وفي رواية رماهم بقبضة من تراب وقال شاهت الوجوه. فولوا مدبرين وانهزموا وقسمت غنائمهم بين المسلمين» «3» . وفي رواية للبخاري «لما كان يوم حنين التقى هوازن ومع النبيّ عشرة آلاف والطلقاء فأدبروا. قال يا معشر الأنصار. قالوا لبيك يا رسول الله وسعديك. لبيك نحن بين يديك. فنزل رسول الله وقال أنا عبد الله ورسوله. فانهزم المشركون. فأعطى الطلقاء والمهاجرين ولم يعط الأنصار شيئا فقالوا في ذلك فدعاهم رسول الله فأدخلهم في قبّة. قال أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله. لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار شعبا لاخترت شعب الأنصار» وفي رواية قال: «كنّا إذا احمرّ البأس نتقي

_ (1) التاج ج 4 ص 345 و 346. (2) السمرة هي الشجرة التي بايع أصحاب رسول الله رسول الله تحتها يوم الحديبية. وهي التي عنتها آية سورة الفتح لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ. (3) التاج ج 4 ص 388 و 389.

برسول الله. وإنّ الشجاع منّا للّذي يحاذيه» «1» . وروى الشيخان عن أبي موسى قال: «لما فرغ النبيّ صلى الله عليه وسلم من حنين بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس فلقي دريد بن الصمة فقتل دريد وهزم الله أصحابه. قال أبو موسى: وبعثني النبي مع أبي عامر فرماه رجل جشميّ بسهم في ركبته فانتيهت إليه فقلت يا عمّ من رماك. فأشار إليّ فقال ذاك قاتلي الذي رماني فقصدت له فلحقته فلما رآني ولّى فاتبعته فجعلت أقول له ألا تستحي، ألا تثبت، فكفّ فاختلفنا ضربتين بالسيف فقتلته ثم رجعت لأبي عامر فقلت قتل الله صاحبك. قال فانزع هذا السهم فنزعته فنزا منه الماء. قال يا ابن أخي أقرئ النبيّ السلام وقل له استغفر لي. واستخلفني أبو عامر على الناس. فمكث يسيرا ثم مات فرجعت فدخلت على النبيّ فرأيته على سرير مرمل «2» ، وعليه فراش قد أثّر رمال السرير بظهره وجنبيه. فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر وقال قل له استغفر لي فدعا بماء فتوضأ ثم رفع يديه فقال اللهمّ اغفر لعبيد أبي عامر. اللهمّ اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك من الناس. فقلت ولي فاستغفر فقال اللهمّ اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما. قال أبو بردة إحداهما لأبي عامر والأخرى لأبي موسى» «3» . ونستطرد إلى ذكر فتح الطائف للمناسبة أيضا. ولقد كان ذلك بعد سنة من فتح مكة. وقد جاء أحد زعماء ثقيف عروة بن مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم فاستأذنه في الذهاب إلى الطائف ليدعو قومه فأذن له. فلما وصل حيّا الناس بتحية الإسلام فاستنكروا فلما طلع الفجر أذّن للصلاة من فوق غرفة له فخرج الناس منكرين عليه ورماه أحدهم بسهم فانبرت عشيرته للمقابلة وكاد الشرّ يتسع بين الناس فقال رضي الله عنه تصدقت بدمي لأصلح بين الناس وهي كرامة أكرمني الله بها وشهادة ساقها

_ (1) التاج ج 4 ص 388 و 389. [.....] (2) مشدود بحبال الحصر. (3) التاج ج 4 ص 390.

[سورة التوبة (9) : آية 28]

إلي. فلما قضى نحبه جاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع رفيق له فأسلما. واستدعى النبي مالك بن عوف فعهد إليه بثقيف فقال له أنا أكفيكهم حتى يأتوك مسلمين. ثم صار يغير على سرحهم ويقاتلهم حتى أعجزهم فاتفقوا على إرسال وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم لمفاوضته على التسليم والإسلام وجاء الوفد وكانوا سبعين رجلا وعلى رأسهم زعماؤهم عبد ياليل وابناه وكنانة وشرحبيل بن غيلان وغيرهم فسرّ النبي بمقدمهم وضرب لهم قبة في المسجد. وقد حاولوا الحصول على بعض الامتيازات فلم يتساهل معهم فاستعفوه من هدم أصنامهم بأيديهم فأعفاهم فأسلموا. وغدت الطائف في حوزة السلطان النبوي وكان ذلك في رمضان أو شوال من السنة التاسعة للهجرة «1» . [سورة التوبة (9) : آية 28] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) . (1) عيلة: فقرا أو فاقة. عبارة الآية واضحة. وقد تضمنت: (1) خطابا للمسلمين تؤذنهم فيه بأن المشركين نجس فلا ينبغي أن يقربوا المسجد الحرام بعد هذا العام الذي أنزلت فيه الآية. (2) وتطمينا لهم فإذا كانوا يخافون الفاقة وضيق العيش من هذا المنع فليطمئنوا فإن الله عزّ وجلّ قادر على إغنائهم من فضله. وإنه لهو العليم الحكيم الذي يعلم مقتضيات الأمور ويأمر بما فيه الحكمة والصواب.

_ (1) انظر تفصيل فتح الطائف في ابن هشام ج 4 ص 194- 200، وابن سعد ج 2 ص 77- 78.

تعليق على الآية يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وما روي في صددها من أقوال وما ينطوي فيها من صور وتطور وتلقين وأحكام

تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وما روي في صددها من أقوال وما ينطوي فيها من صور وتطور وتلقين وأحكام لقد روى الطبري أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بالنداء بأن لا يحجّ بعد هذا العام مشرك قال المسلمون كنّا نصيب من بياعاتهم في الموسم فأنزل الله الآية. كما روي أنه لما نزل شطر الآية الأول وشقّ على المسلمين وقالوا من يأتينا بطعامنا ومن يأتينا بالمتاع فنزل شقّها الثاني. هذا في حين أن الطبري روى في جملة ما روى في سياق الآيات الأولى من السورة أن هذه الآية نزلت مع ما قبلها من أول السورة وكان حكمها في جملة ما نودي به يوم الحج الأكبر وهو أن لا يحجّ بعد هذا العام مشرك. ومهما يكن من أمر فالذي يتبادر لنا أن الآية على كلّ حال لم تنزل لحدتها ولم تنزل مجزأة وإنما هي جزء من السياق السابق أو نتيجة من نتائجه. فالآيات السابقة أمرت بقتال المشركين الناكثين وقررت عدم أهلية المشركين كافة لعمارة مساجد الله. ولقد كان من جملة ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعلانه يوم الحج الأكبر أن لا يحج بعد الآن مشرك على ما رويناه قبل. ولقد علم الله أن حياة أهل مكة كانت تقوم على الخارج تجارة وغذاء. وأن أهلها سوف يستشعرون خوفا من أن يضيق بالمنع رزقهم ومعيشتهم فاقتضت حكمة التنزيل الإيحاء بالآية تبريرا للمنع من جهة وتطمينا لأهل مكة من جهة أخرى. ولما كان نزول الآيات والنداء يوم الحج الأكبر الذي أمرت الآية الثالثة من السورة وتنفيذ النبي صلى الله عليه وسلم له بواسطة أبي بكر وعلي رضي الله عنهما قد وقع بعد سنة من فتح مكة وبعد فتح الطائف ودخول هوازن وثقيف أقوى قبائل منطقة الحجاز في الإسلام بالإضافة إلى أهل مكة ومعظم من حولها من القبائل فإن معنى هذا أن ذلك قد وقع بعد أن صارت هذه المنطقة جميعها في حوزة السلطان الإسلامي

وصار معظم أهلها مسلمين حيث صار في الإمكان منع من بقي على شركه من العرب من دخول منطقة المسجد الحرام وممارسة طقوس تتنافى مع دين الله الذي توطّد فيها. وينطوي في هذا صورة لتطور الدعوة الإسلامية وانتشارها وقوتها وسلطانها تحت راية النبي صلى الله عليه وسلم. ولقد حجّ النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه السنة الحجة التي سميت حجة الوداع لأنه مات بعدها بقليل. ومن الممكن أن يلمح من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يحجّ ويكون في من يشهدون الحجّ مشركون فأرسل أبا بكر أميرا للحج وأرسل معه الأمر بمنع المشركين بعد هذه السنة من دخول المسجد الحرام تنفيذا لهذه الآية. فلمّا تمّ ذلك بادر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحجّ في السنة التالية حيث لم يشهد الحجّ معه إلا المسلمون. ولقد تعددت أقوال المفسرين وأهل التأويل من التابعين الذين يروي المفسرون أقوالهم في مفهومهم لنجاسة المشركين. وتحديد المنطقة المحرمة. وشمول التحريم: 1- فبالنسبة للنقطة الأولى فهناك من قال إن نجاستهم عينية كنجاسة الكلب والخنزير وإن على من يمسّهم ويصافحهم أن يغسل يده أو يتوضأ. وهناك من قال إنها نجاسة حكمية. وأكثر المذاهب الفقهية على القول الثاني. وهو الأوجه إذ المتبادر أن الوصف منبثق من ما كان عليه المشركون من عقائد باطلة. وما كانوا يمارسونه من تقاليد شنيعة من جملتها الطواف في حالة العري وأكل الميتة والتزوج بزوجات الآباء وعدم التطهر من الجنابة إلخ. وكل هذا نجاسة معنوية مما يتنافر مع قدسية المسجد الحرام وطهارته. 2- وبالنسبة للنقطة الثانية هناك حديث مرفوع أخرجه الإمام أحمد وأورده ابن كثير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يدخل مسجدنا بعد عامنا هذا إلّا أهل العهد وخدمهم» حيث يفيد ظاهر هذا الحديث أن المنع هو للمسجد. وهناك قول يرويه الزمخشري عن عطاء أحد كبار التابعين بأن المراد بالمسجد هو الحرم

أي منطقة الحرم بل هناك قول رواه الزمخشري أيضا عن مالك أن المنع شامل لكلّ مساجد المسلمين. ولما كان نصّ الآية قطعيا بأنها في صدد المسجد الحرام فإن تشميل المنع لكل مسجد أو لغير المسجد الحرام هو غلوّ لا مبرر له. ولما كان على القادم إلى مكة أن يحرم من حدود الحرم المعروفة خارج مكة فالمتبادر أن المنع هو لمنطقة الحرم ويكون قول عطاء هو الأوجه وهو ما عليه الجمهور. وليس في هذا نقض للحديث المروي عن جابر في حالة صحته. فإن روح الآيات القرآنية التي ورد فيها ذكر المسجد الحرام تلهم أن المقصد من التعبير منطقة المسجد الحرام «1» وآية العنكبوت هذه أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [67] . وآية القصص هذه وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا [57] بنوع خاص تلهمان ذلك بكل قوة. 3- وبالنسبة للمسألة الثالثة فإن الحديث الذي رواه جابر وأورده ابن كثير يفيد أن المنع للمشركين دون الذميين «2» . وقد روى الطبري عن جابر مع ذلك قولين متناقضين أحدهما يجعل المنع شاملا للذميين. وثانيهما لا يشمله. وروي عن قتادة أن المنع للمشركين وأن الذميين وعبيد المسلمين مستثنون منه. وروي أن عمر بن عبد العزيز أمر بمنع اليهود والنصارى من دخول المسجد الحرام بهذه الآية. ويظهر أنه لم يثبت عنده حديث جابر من جهة واجتهد بأن قول اليهود عزير ابن الله وقول النصارى المسيح ابن الله هو شرك بوجه ما. ومنع اليهود والنصارى بالإضافة إلى المشركين من دخول المسجد الحرام هو الذي عليه التعامل المتواتر منذ صدر الإسلام إلى اليوم. ولقد قال البغوي وتابعه الخازن إن علماء الإسلام يقسمون بلاد الإسلام بالنسبة للكفار إلى ثلاثة أقسام:

_ (1) اقرأ آيات سورة الفتح [25] وسورة الحج [75] وسورة الأنفال [34] مثلا. فالصدّ في هذه الآيات كان عن منطقة الحرم وعن الحج ويدخل في ذلك الكعبة وفناؤها. (2) والمقصود بكلمة الذميين في الأعمّ الأغلب أهل العهد من الكتابيين.

(1) الحرم المكي: فلا يجوز لكافر أن يدخله ذميا كان أو مستأمنا. وننبه على أن كلمة الكافر تطلق على كل جاحد برسالة محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن. فيدخل في ذلك أهل الكتاب وغيرهم. (2) الحجاز: فيجوز للكافر دخولها بإذن ولمدة مؤقتة دون الإقامة. لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإخراج المشركين واليهود والنصارى من جزيرة العرب. وعدم السماح بوجود دينين فيها. ومعنى هذا منعهم من الإقامة فيها. (3) سائر بلاد الإسلام: فيجوز للكافر أن يقيم فيها بذمة أو أمان. على أن لا يدخل مساجد المسلمين إلّا بإذن منهم. وهو تقسيم وجيه مع التنبيه على أن التعليل بالنسبة للقسم الثاني يقتضي أن يكون منع الإقامة الدائمة شاملا لجميع جزيرة العرب وليس للحجاز فقط. وقد يكون الجاري في الحجاز هو هذا حيث إن أهلها جميعهم مسلمون وإن غير المسلمين الذين يقيمون في جدة إنما يقيمون إقامة مؤقتة. ولا يمكن أن يقال هذا بالنسبة لليمن مثلا التي كان وما يزال يسمح لليهود بالإقامة فيها إقامة دائمة. ولعلّ شيئا من هذا جار في أنحاء جزيرة العرب الجنوبية والشرقية والغربية الأخرى. ولم يذكر أصحاب التقسيم المسجد النبوي بخاصة والمساجد في جميع جزيرة العرب بعامة. واقتصر كلامهم على أن دخول غير المسلمين إلى مساجد المسلمين في غير جزيرة العرب منوط بإذن المسلمين. وما دام النص القرآني محصورا في المسجد الحرام وليس هناك أثر ثابت صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم عن غيره فالمقتضى أن يكون دخول غير المسلمين إلى مساجد المسلمين غير محرّم باستثناء المسجد الحرام. والجاري اليوم بالنسبة للمسجد النبوي هو التحريم مع أن من المتواتر الذي بلغ حدّ اليقين أن النبي صلى الله عليه وسلم ظل يستقبل في مسجده إلى آخر حياته طوائف من الكفار مشركين وكتابيين ومعاهدين وغير معاهدين لمصالح ومقاصد متنوعة وأن خلفاءه الراشدين فعلوا ذلك أيضا. والآية [28] من هذه السورة التي تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإجارة من يستجيره من

المشركين حتى يسمع كلام الله تنطوي على قرينة قرآنية بالإباحة لأن النبي إنما كان يستقبل جميع الناس من غير المسلمين في مسجده. ولقد روى مسلم والترمذي عن عبد الله بن زيد بن عاصم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ إبراهيم حرّم مكة ودعا لأهلها. وإني حرّمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكة. وإني دعوت في صاعها ومدّها بمثلي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة» «1» . وروى البخاري ومسلم وأبو داود عن علي قال: «من زعم أن عندنا شيئا نقرأه إلّا كتاب الله وهذه الصحيفة فقد كذب. فيها أسنان الإبل وأشياء من الجراحات. وفيها قول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة حرم ما بين عير إلى ثور. فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا. وذمّة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم. زاد في رواية فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» «2» وروى الشيخان والترمذي عن أبي هريرة قال: «حرّم رسول الله ما بين لابتي المدينة. فلو وجدت الظباء ما بين لابتيها ما ذعرتها. وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة حمى» «3» . ومع أن المتبادر من هذه الأحاديث هو تحريم سفك الدماء فيها وضمان الأمن لمن يكون فيها كما هو الأمر بالنسبة للحرم المكي ومداه قد يكون ما درج عليه المسلمون منذ العهود القديمة من عدم السماح لغير المسلمين بدخول المدينة مستمدا من ذلك. والله تعالى أعلم. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم المذكور في الفقرة الثانية بعدم السماح بوجود دينين في جزيرة العرب وإخراج اليهود والنصارى منها جاء في أحاديث عديدة. منها حديث رواه ابن هشام والطبري والبلاذري ونصّه: «لا يترك بجزيرة العرب دينان» «4» .

_ (1) التاج ج 2 ص 167 و 168. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه. (4) انظر ابن هشام ج 4 ص 345 وتاريخ الطبري ج 2 ص 534 و 535 وفتوح البلدان للبلاذري ص 73.

[سورة التوبة (9) : الآيات 29 إلى 35]

وحديث رواه الإمام أبو عبيد بن القاسم في كتاب الأموال وهو «أخرجوا اليهود من الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب» «1» . وحديث رواه الشيخان وأبو داود عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» «2» . ومما لا شكّ فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد هدف بذلك إلى غاية عظيمة. وهي تحصين جزيرة العرب من تعدد الأديان وما يؤدي هذا إليه من شقاق ونزاع ودسائس ومكائد وجعلها بلادا خالصة للإسلام وحده. وهي موطن الجنس العربي الذي حمل راية الإسلام. ومهبط الوحي الإلهي على نبي الإسلام. وفي هذا كلّ الحكمة والحق. [سورة التوبة (9) : الآيات 29 الى 35] قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29) وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) .

_ (1) كتاب الأموال ص 99. (2) التاج ج 4 ص 361.

تعليق على الآية قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ... والآيات الخمس التي بعدها وما ورد في صددها من أحاديث وأقوال وما ترتب عليها من أحكام وتلقينات وبخاصة في صدد الجزية وتمحيص ما روي في صدد قتال الكتابيين ومن ملة الذميين منهم

(1) الجزية. قيل إنها من الجزاء بمعنى المكافأة والمقابلة. وقيل إنها الإجزاء بمعنى الإكفاء، وقيل إنها من الجزي بمعنى القضاء، وعلى القول الأول يكون معناها في مقامها (جزاء إقرار أهل الكتاب على ما هم عليه) وعلى القول الثاني (اجتزاء بها عن إسلامهم) وعلى القول الثالث (قضاء ما عليهم) وعلى كل حال فالكلمة اصطلاح للضريبة التي يدفعها المغلوب المستسلم لغالبه مقابل إقراره على ما هو عليه والدفاع عنه. ونرجح أنها كانت في هذا المعنى في اللغة قبل الإسلام أيضا. ولقد قال بعضهم «1» إنها فارسية معربة من لفظ (كزيت) وكان الفرس يستعملونها في المعنى المراد منها. وقد يكون هذا صحيحا. وقد تكون أصالة عروبتها هي الصحيحة. ونحن نميل إلى هذا ما دام في العروبة جذر مناسب لها ولا يبعد أن تكون دخلت إلى اللغة الفارسية وحرّفت فيما بعد. وعلى كل حال فمما لا ريب فيه أن الكلمة بصيغتها مما كان العرب قبل الإسلام يتداولونه في معناها. (2) يضاهئون: يشتبهون ويماثلون. تعليق على الآية قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ... والآيات الخمس التي بعدها وما ورد في صددها من أحاديث وأقوال وما ترتب عليها من أحكام وتلقينات وبخاصة في صدد الجزية وتمحيص ما روي في صدد قتال الكتابيين ومن ملّة الذميين منهم عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت أمرا للمسلمين بقتال الموصوفين فيها بأوصاف معينة من أهل الكتاب حتى يخضعوا لهم ويعطوهم الجزية مقهورين

_ (1) انظر تفسير رشيد رضا.

صاغرين. واستطرادات تعليلية لهذا الأمر. والآيات الست منسجمة مترابطة. وهذا ما جعلنا نوردها جملة واحدة برغم ما احتوته من أحكام متنوعة وكثيرة. ولقد روى البغوي عن الكلبي أن الآية الأولى نزلت في بني قريظة وبني النضير من اليهود فصالحهم النبي صلى الله عليه وسلم. وكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام وأول ذلّ أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين. ويقتضي هذا أن تكون الآية نزلت في السنة الثالثة أو في السنة الخامسة اللتين أجلى النبي فيهما يهود بني النضير ونكل ببني قريظة على ما شرحناه في سورتي الحشر والأحزاب. في حين أن سياق الآيات وما بعدها يلهم بقوة أنها نزلت بعد الفتح المكي وبين يدي غزوة تبوك. وهناك مأخذ آخر على رواية الكلبي وهو قوله إن النبي صالحهم على الجزية في حين أنه لم يكن صلح ولا جزية بل كان إجلاء للأولين وتنكيلا حاسما بالآخرين على ما شرحناه في السورتين المذكورتين آنفا. ولقد عقب الطبري على الآية السابقة لهذه الآيات فقال: إن لمسلمين لمّا قالوا من أين نأكل ومع من نتجر ولسوف نغدو فقراء بسبب منع المشركين عن دخول الحرم أنزل الله الآية [29] وأمرهم بغزوة تبوك ليأخذوا الجزية بدلا عما ضاع عليهم، ثم قال في سياق تفسير هذه الآية إن الآية نزلت على رسول الله بحرب الروم فغزا غزوة تبوك بعد نزولها. وعزا أقواله إلى بعض أهل التأويل من التابعين مثل الضحاك وقتادة والسدي ومجاهد. وهذه الأقوال تقتضي أن يكون الله عزّ وجلّ قد جعل الجزية التي قد تأتي من حرب الروم مقابل ما خسره المسلمون من منع المشركين من الاقتراب من المسجد الحرام، وأن يكون النبي لم يكن قد حارب الروم ثم أن لا يكون النبي قد أخذ الجزية من أهل الكتاب قبل هذه الآية. ويرد على هذا ملاحظات عديدة. فأوّلا أنه لم يقع حرب في غزوة تبوك وأخذت الجزية نتيجة لها. والعهود التي عقدها النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أهل هذه الأنحاء على ما سوف نشرحه بعد عهود مسالمة وموادعة. وما تعهدوا بأدائه لم يكن مقدارا مهمّا يسدّ ثغرة واسعة في حياة

المسلمين الاقتصادية. وهو عائد إلى بيت المال الذي كان ينفق منه على مصالح المسلمين العامة والمحتاجين منهم وحسب في حين أن التخوف المذكور في الآية السابقة [28] هو تعبير عن لسان أهل مكة الذين كانت مواسم الحج وسيلة لتكسبهم وقضاء مصالحهم المعاشية. فضلا عن أن هؤلاء كانوا أقلية بين المسلمين والجزية ليست عائدة إليهم. وثانيا أن هذه الأقوال تعني أن الله جعل الجزية هدفا للمسلمين من القتال في حين أن القرآن قرر في أكثر من موضع أن الغنائم ليست هدفا للقتال ولا يجوز أن تكون هدفا على ما مرّ شرحه في مناسبات عديدة سابقة وبخاصة في سياق تفسير الآية [94] من سورة النساء دون أن يكون ذلك نتيجة لقتال. وثالثا أن النبي صالح نصارى نجران على جزية سنوية معينة على ما شرحناه في سياق تفسير الآيات [33- 64] من سورة آل عمران. وأن روايات السيرة ذكرت أنه أرسل سريّة في السنة السادسة إلى دومة الجندل في أنحاء تبوك لتأديب قبائلها النصرانية ودعوتها إلى الإسلام فأسلم من أسلم وتعهد من أقام على دينه بالجزية «1» . ولقد سبق غزوة تبوك حركات حربية عديدة في أنحائها للمقابلة والدفاع على ما ذكرته روايات السيرة. فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلا يحملون كتبه إلى ملوك وأمراء تخوم الجزيرة العربية في السنة السادسة للهجرة فقتل والي مؤتة من قبل الروم والغسانيين رسول النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملك بصرى وهو الحارث الأزدي «2» وقتل الروم والي معان من قبلهم واسمه فروة الجذامي بسبب إسلامه «3» ، وشلّح جماعة من نصارى جذام النازلين في أنحاء تبوك دحية الكلبي رسول النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر «4» . وكانت قبائل كلب وجذام وقضاعة النصرانية تعتدي على قوافل المسلمين وتتجمع من حين إلى آخر لغزو المدينة «5» . فكان هذا مما جعل النبي صلى الله عليه وسلم

_ (1) انظر ابن سعد ج 3 ص 132. (2) المصدر نفسه ص 174. [.....] (3) ابن سعد ج 2 ص 46 و 117. (4) ابن سعد ج 3 ص 131. (5) المصدر نفسه ص 103- 104 و 177- 188.

يتحرك للمقابلة قبل نزول هذه الآيات بأربع سنين حيث قاد النبي في أول السنة الهجرية الخامسة حملة نحو دومة الجندل على بعد 15 أو 16 ليلة من المدينة وعاد منها دون اشتباك لأن قبائلها فرت وتفرقت «1» . ثم سيّر حملة بقيادة زيد بن حارثة إلى حسمي وراء وادي القرى لتأديب الجذاميين الذين شلّحوا دحية فقتل وغنم وسبى منهم «2» . ثم سيّر حملة بقيادة عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل ثانية فأسلم من أسلم وضرب على من لم يسلم الجزية «3» . ثم سيّر جيشا قويا في السنة الثامنة وقبل فتح مكة إلى مؤتة بقيادة زيد بن حارثة للثأر من واليها الذي قتل رسول النبي وقد بلغ الجيش مؤتة في ناحية البلقاء واشتبك مع الروم والقبائل النصرانية ودارت الدائرة عليه واستشهد ثلاثة قواد كانوا يتسلمون القيادة واحدا بعد آخر وهم زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم عبد الله بن رواحة رضي الله عنهم. ثم تمكن من الانسحاب بقيادة خالد بن الوليد «4» . ثم سيّر حملة بقيادة عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل لأن قضاعة كانت تتجمع للزحف على المدينة فدوخ الناحية وهرب أهلها «5» حيث يبدو من هذه السلسلة التي يصح أن يضاف إليها وقائع إجلاء وحرب النبي والمسلمين مع يهود بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وخيبر ووادي القرى أن النبي والمسلمين حاربوا أهل الكتاب وأخذوا منهم الجزية قبل نزول هذه الآيات التي نحن في صددها وأن الأقوال التي يوردها الطبري غير متسقة مع الوقائع من جهة وأن هذه الوقائع متسقة في أسبابها وظروفها مع المبادئ القرآنية التي تقرر أن الجهاد إنما شرع للدفاع ومقابلة العدوان بالمثل ولم تكن الجزية والغنائم من أهدافه من جهة أخرى. ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد استنفر المسلمين بعد نزول هذه الآيات إلى غزوة تبوك

_ (1) ابن سعد ج 3 ص 103- 104. (2) المصدر نفسه 131- 132. (3) المصدر نفسه ص 132. (4) المصدر نفسه ص 174- 177 وابن هشام ج 3 ص 427- 447. (5) ابن سعد ج 3 ص 77- 78.

وزحف على رأس حشد عظيم نحوها وبلغها على ما تذكره جميع مصادر التاريخ والتفسير القديم وتلهمه آيات السورة. ولما كان معظم منطقة تبوك وما وراءها من مشارف الشام إلى تخوم البلقاء وما بعدها من النصارى أهل الكتاب وكانوا تحت سلطان الروم من أهل الكتاب أيضا فإنه يسوغ القول بكل قوة والحالة هذه أن الآيات إنما نزلت بين يدي هذه الغزوة على سبيل الحثّ والتبرير والتعليل وحسب. والروايات تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما استنفر إليها لما بلغه من أن الروم قد حشدوا حشودا كثيرة بقصد الزحف على المدينة وانضوى إليها قبائل لخم وجذام وعامة النصرانية وأرسلوا طلائعهم إلى مشارف الشام «1» فضلا عن الأسباب السابقة وما استدعته من حركات عديدة حيث يتسق هذا مع أسباب الحركات الأولى ومع التقريرات القرآنية لأسباب ومبررات الجهاد الإسلامي وأهدافه. وقد ذكرت الروايات أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما عاد من تبوك فكّر في تسيير جيش جديد إلى مؤتة للثأر لجيش زيد بن حارثة الذي سار للثأر من والي مؤتة لقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم وعين لقيادته أسامة بن زيد حيث يدل هذا على أن النبي صلى الله عليه وسلم ظلّ يعتبر حالة الحرب قائمة بينه وبين الروم ونصارى العرب في مشارف الشام. ولقد مات النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسير هذا الجيش فسيّره خليفته الأول أبو بكر ثم لم يكد هذا الخليفة أن يقمع الحركات المهمة من حركات فتنة الردة حتى التفت نحو الشام فسيّر الجيوش العديدة استمرارا وتنفيذا لاختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبهذا يظهر بكل وضوح أن حركة الفتوح الشامية إنما كانت استمرارا لحالة الحرب التي قامت بين النبي والمسلمين وبين الروم وأعوانهم والتي كانت أسبابها ودواعيها متسقة مع التقريرات القرآنية ولم تكن بدءا هجوميا بقصد الفتح والغنائم. ويلحظ أن الآيات قد جمعت أهل الكتاب وأهل الكتاب ليسوا النصارى فقط والتعبير يشمل اليهود أيضا بل وغيرهم على ما شرحناه في سياق سورة غافر

_ (1) ابن سعد ج 2 ص 218- 221 وابن هشام ج 4 ص 169- 221 وتاريخ الطبري ج 2 ص 361- 367 والبلاذري ص 66- 69.

والشورى والمدثر. ولا نرى في هذا نقضا لما قلناه. وإذا لاحظنا أن اليهود قد أجلوا عن المدينة نهائيا وخضدت شوكتهم في خيبر والقرى الأخرى في طريق الشام في السنة الهجرية السادسة فلم يعد في الحجاز وطريق الشام يهود يصح أن يقاتلوا ولم يكن لهم دولة أو كتلة أخرى إذ ذاك يصح أن تقاتل فإنه يسوغ أن يقال حينئذ إن الأمر القرآني من حيث الواقع الموضوعي إنما كان للحثّ والتحريض على النفرة إلى غزوة تبوك لقتال الروم وقبائل النصارى. وإن استعمال تعبير أَهْلَ الْكِتابِ في الآية الأولى وذكر اليهود مع النصارى في الآيات التالية لها قد قصد به التشريع العام ليشمل اليهود والنصارى في أي ظرف آخر غير الظرف الذي نزلت الآيات فيه. ولقد جاءت الآيات بأسلوب تشريعي مطلق مما فيه تأييد لذلك. ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره «1» عن أهل التأويل من التابعين في تأويل جملة: وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وجملة: وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ. فرووا في صدد الأولى أن معناها (لا يحرمون ما حرمه نبينا صلى الله عليه وسلم) كما رووا أن معناها (لا يحرمون ما حرّمه رسلهم وكتبهم) . ورووا في صدد الثانية أن معناها (لا يطيعون الله حق الطاعة أو لا يطيعون طاعة أهل الحق) ، كما رووا أن معناها (لا يدينون بدين الإسلام) . وبعض هذه الأقوال تقتضي أن يكون المسلمون قد أمروا بالآية الأولى بمقاتلة كل كتابي على الإطلاق لا يحرّم ما حرّم الله ورسوله محمد ولا يدين بالإسلام حتى يعطي الجزية للمسلمين. وهذا في اعتقادنا وحسب ما شرحناه في مناسبات سابقة يتناقض مع المبدأ العام المحكم الذي قررته آيات سورة النساء [90- 91] وبخاصة آيات سورة الممتحنة [8- 9] والذي هو متسق مع المبادئ القرآنية الجهادية عامة على ما شرحناه في المناسبات السابقة. والذي لا يتسق عكسه مع طبائع الأمور بسبب وجود أمم بعيدة لا صلات بينها وبين المسلمين ولا صدام ولا خصام. وبسبب بعد احتمال أمر القرآن بقتال من يمكن أن يكون مسالما موادّا حسن السلوك والنيّة نحو المسلمين وبدليل ما أثر

_ (1) انظر أيضا البغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.

عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين من نهي عن قتال وقتل غير المحاربين كالنساء والأطفال والشيوخ والرهبان مما أوردنا نصوصه في تعليقنا المسهب في سورة الكافرون ومناسبات أخرى «1» . وقد يكون من الأدلة على ذلك ورود حرف (من) التبعيضية في الآية. وروح الآية والأوصاف المذكورة فيها أولا وروح الآيات الأخرى ثانيا يسوغان الأخذ بالأقوال الأخرى وهي عدم تحريم ما حرّمه الله ورسله في الكتب السماوية التي نزلت على أنبياء أهل الكتاب وعدم طاعتهم لله حقّ الطاعة وعدم احترامهم حقوق غيرهم ودمائهم وأموالهم مما يدخل فيه العدوان على القوافل وإخافتها وسلب أموالها وقتل أفرادها إلخ. وقد يدعم هذا جملة: لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ التي لا تصح على جميع أهل الكتاب الذين منهم من كان وما يزال يؤمن بالله واليوم الآخر بصورة ما. كذلك مما يدعمه ما ذكرته الآيات من إرادتهم إطفاء نور الله بأفواههم مما يتسع لمعنى تعطيل الدعوة إلى دين الله والصدّ عنه. وهذا قد نسب بصراحة إلى أحبار اليهود ورهبان النصارى في الآيات مع نسبة أكل أموال الناس بالباطل. وهو من موجبات الجهاد الإسلامي ومبرراته على ما شرحناه في المناسبات السابقة. يضاف إلى ذلك كلّه قيام حالة الحرب بين المسلمين وسكان مشارف الشام والروم منذ السنة الخامسة بسبب عدوانهم بأساليب وصور متنوعة نشأت عنها تلك السلسلة من الحركات الحربية التي ذكرناها ثم تسيير خليفة النبي بعد وفاته الجيوش. ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره عن أهل التأويل كذلك في جملة: عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ حيث رووا أن معنى عَنْ يَدٍ هو أن تدفع الجزية نقدا لا نسيئة ومن قبل المستحقة عليهم وجاها كما يقول العرب أعطيته يدا بيد وكلمته فما بفم. كما رووا أن معناها القهر لأن العرب يقولون لكل معط لقاهر

_ (1) انظر التاج ج 4 ص 327- 329 وكتاب الأموال للإمام أبي عبيد ص 37- 39 وكتاب أبي بكر الصديق لعلي الطنطاوي ص 326- 328 وسيرة أبي بكر وعمر في أشهر مشاهير الإسلام لرفيق العظم وكتاب الخراج للإمام أبي يوسف ص 118 وما بعدها ووصية أبي بكر في موطأ الإمام مالك.

له شيئا طائعا أم كارها (إعطاء عن يد) . وحيث رووا في صدد كلمة صاغِرُونَ أنها تعبير عن حالة الصغار التي يتلبس بها المعطي وأن الإعطاء هو الصغار كما رووا أنها في صدد إيجاب إعطاء الجزية من قبل أصحابها في حالة تلبس الهوان والذلة كأن يعطوها وهم واقفون لقابضها وهو جالس وكأن يدفعوا أو يلبّبوا أو يصفعوا حينما يعطونها. وقد استنكر الإمام النووي إهانة الكتابيين وصفعهم حين إعطائهم الجزية وقال إنها سيئة باطلة على ما رواه المفسر القاسمي. والذي يتبادر لنا أن الجملة أسلوبية تعني حتى يخضعوا ويستسلموا للمسلمين ويرضوا بسلطانهم عليهم، وفي هذا يتحقق هوانهم وصغارهم. ولقد روي أن عياض بن غنم رأى نبطا يعذبون في الجزية فقال للجابي إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله تبارك وتعالى يعذب يوم القيامة الذين يعذبون الناس في الدنيا» «1» . وروي أن عمر أتي بمال كثير من الجزية فقال: إني لأظنكم قد أهلكتم الناس؟ قالوا: لا. والله ما أخذنا إلا عفوا صفوا. قال بلا سوط ولا نوط. قالوا نعم قال الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني «2» . وروي أن عمر مرّ على قوم أقيموا في الشمس يصبّ فوق رؤوسهم الزيت وهو راجع من الشام فقال ما بال هؤلاء فقالوا عليهم الجزية لم يؤدوها. فهم يعذبون حتى يؤدوها فقال عمر فما يقولون ويعتذرون به. قالوا يقولون لا نجد، قال فدعوهم ولا تكلفوهم ما لا يطيقون فإني سمعت رسول الله يقول: «لا تعذبوا الناس فإن الذين يعذبون الناس في الدنيا يعذبهم الله يوم القيامة» وأمر بهم فخلّي سبيلهم «3» . ولقد قال الإمام أبو يوسف في كتابه (الخراج) الذي رفعه لهارون الرشيد عن شؤون المال والخراج إنه لا يجوز ضربهم في استيدائهم الجزية ولا يوقع عليهم في أبدانهم شيء من المكاره «4» . والصفع والتلبيب والإهانة من

_ (1) كتاب الأموال ص 43. (2) المصدر نفسه وفسّر الناشر كلمة (نوط) بالتعليق وهو على ما يبدو نوع من التعذيب. (3) كتاب الخراج للإمام أبي يوسف ص 69- 72. [.....] (4) المصدر نفسه.

التعذيب. وإذا كان عمر بن الخطاب وعياض بن غنم رضي الله عنهما وجدا تعذيب الذمّي على تأخّره في دفع الجزية منطبقا على نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تعذيب الناس وإنذاره وأنكراه. وإذا كان الإمام أبو يوسف يقول إنه لا يجوز بناء على ذلك ضرب الذمي وإحداث أي مكروه في بدنه في استيدائه الجزية. فمن باب أولى أن يكون ضربه وتعذيبه وإهانته وهو مقبل على دفعها منكرا غير جائز بل موضعا لإنكار أشد. وهو مما يقوي قول الإمام النووي رحمه الله ويدل على التسامي الإسلامي. ومن تمام هذا التسامي الحديث الذي رواه أبو يوسف عن النبي صلى الله عليه وسلم وجاء فيه: «من ظلم معاهدا أو كلّفه فوق طاقته فأنا حجيجه» . والرواية التي رواها عن عمر بن الخطاب حين حضرته الوفاة حيث قال: «أوصي الخليفة من بعدي بذمة رسول الله أن يوفي لهم بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم وأن لا يكلفوا فوق طاقتهم» «1» . وهذا يعني أن خلفاء رسول الله وكبار أصحابه الذين كانوا الأكثر اتصالا به والأفهم لمنهجه ولمدى التلقين القرآني قد فهموا أن الجزية تعني قبول دخول معطيها في ذمة المسلمين وسلطانهم وأن على المسلمين وسلطانهم الدفاع عنهم وضمان سلامتهم وحريتهم الدينية وغير الدينية ومنع الأذى عنهم. ولقد حدث حادث رائع عظيم المغزى دلّ على أن أصحاب رسول الله كانوا على هذا الهدى السامي حيث روى الإمام أبو يوسف أن أهل الذمة لما رأوا وفاء المسلمين لهم وحسن السيرة فيهم صاروا أشداء على عدو المسلمين وعونا للمسلمين على أعدائهم. وقد بعثوا رجالا من قبلهم يتحسسون أخبار الروم فرجعوا يخبرون أهل مدنهم بأن الروم قد جمعوا جمعا لم ير مثله فأتى رؤساء المدن الأمير الذي خلفه أبو عبيدة عليهم- وكان ذلك في بلاد الشام- فأخبروه فكتب وإلي كل مدينة إلى أبي عبيدة بذلك. وتتابعت الأخبار على أبي عبيدة فاشتد ذلك عليه وعلى المسلمين فكتب أبو عبيدة إلى كل وال يأمرهم أن يردوا على أهل مدنهم ما جبي منهم من جزية وخراج وأن يقولوا لهم إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه بلغنا ما جمع لنا من الجموع وإنكم اشترطتم علينا أن نمنعكم وأنا لا نقدر الآن على ذلك. ونحن لكم على الشرط وما

_ (1) كتاب الأموال ص 71.

كتبناه بيننا إن نصرنا الله عليهم. فلما فعلوا قال أهل المدن ردكم الله علينا ونصركم عليهم فلو كانوا هم لم يردوا علينا شيئا وأخذوا كل شيء بقي لنا حتى لا يدعوا شيئا «1» . وينبغي أن لا يشك في صحة هذه الرواية إجمالا. فإنها لم تسق للدفاع عن المسلمين في ذلك الوقت الذي لم يكن للدفاع محلّ. والإمام أبو يوسف كتب كتابه قبل نهاية القرن الهجري الثاني وهو من أقدم الكتب التي وصلت إلينا إن لم يكن أقدمها. ولقد أوّل ابن كثير جملة عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ بقوله: أي ذليلون حقيرون مهانون. وإن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب اشترط عليهم بناء على ذلك تلك الشروط المعروفة في إذلالهم وتصغيرهم وتحقيرهم حيث روى رواية عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال: «كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى من أهل الشام: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا لكم على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب ولا نجدد ما خرب منها ولا نحيي منها ما كان خططا للمسلمين وأن لا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل ولا نهار وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل وأن ننزل من رأينا من المسلمين ثلاثة أيام نطعمهم ولا نؤوي في كنائسنا ولا منازلنا جاسوسا ولا نكتم غشّا للمسلمين ولا نعلّم أولادنا القرآن ولا نظهر شركا ولا ندعو إليه أحدا ولا نمنع أحدا من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أرادوه. وأن نوقر المسلمين وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا نتكلم بكلامهم ولا نكتني بكناهم ولا نركب السروج ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله معنا.

_ (1) كتاب الخراج ص 80- 81 وليس هذا الحادث هو الفريد فهناك حوادث مماثلة ونصوص عديدة يشترط قواد المسلمين على أنفسهم لأهل الذمة الدفاع والمنعة. انظر أمثلة عديدة في تفسير رشيد رضا في سياق تفسير الآيات.

ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ولا نبيع الخمور وأن نجز مقاديم رؤوسنا وأن نلزم زيّنا حيثما كنا وأن نشدّ الزنانير على أوساطنا. وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا وأن لا نظهر صلبنا ولا كتبنا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلّا ضربا خفيفا. وأن لا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين ولا نخرج شعانين ولا بعوثا ولا نرفع أصواتنا. ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ولا نجاورهم بموتانا ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين وأن نرشد المسلمين ولا نطلع عليهم في منازلهم» . قال فلما أتيت عمر بالكتاب زاد فيه «ولا نضرب أحدا من المسلمين شرطنا لكم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا وقبلنا عليه الأمان فإن نحن خالفنا في شيء مما شرطناه لكم ووظفنا على أنفسنا فلا ذمة لنا وقد حلّ لكم منّا ما يحلّ من أهل المعاندة والشقاق» . وتأويل ابن كثير رحمه الله للجملة بعيد عن روح الأحاديث المروية. والكتاب الذي يورده ويقول إن الأئمة الحفاظ قد رووه والذي كتبه نصارى مدينة لم يذكر اسمها عجيب غريب في بدايته ونهايته وفحواه وأسلوبه. فهو من حيث الأصل بعيد عن روح الأحاديث المروية. وليس هناك أي سبب محتمل لكتابة أهل المدينة النصرانية لهذا الكتاب إذا كان هناك عهد سابق بينهم وبين عمر. ولم يرو التاريخ أن عمر شهد فتح وتسليم مدينة ما غير مدينة بيت المقدس. وعبارة العهد الذي روي أنه كتبه لأهلها وفحواه مناقضان مناقضة صارخة لعبارة هذا الكتاب وفحواه كما ترى فيما يلي «بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمهم وبريئهم وسائر ملتهم. أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيّزها. ولا من صلبهم ولا من شيء من أموالهم ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم. ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود. وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن. وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص. فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم. ومن أقام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية. ومن أحب من

أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وبيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم. ومن كان بها من أهل الأرض فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية. ومن شاء سار مع الروم. ومن شاء رجع إلى أهله. فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم. وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية. شهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان. وكتب وحضر سنة خمس عشرة» «1» . وكلمات (ما كان للمسلمين من خطط- أي أحياء وحارات. وأسواق المسلمين ومنازلهم) قرائن لا تدحض على افتعال الكتاب لأنه لم يكن للمسلمين قبل الفتح خطط وأسواق ومنازل. وما كان يمكن أن يفرض ذلك سلفا لأن حركة الفتح لم تكن انتهت ولم تكن احتمالات الانتكاس والانتقاض مستحيلة. ولم يكن يعرف ما هو تصرف المسلمين بعد نهاية الفتح واستقراره. والغالب أن النصارى أظهروا في دور من أدوار الحكم الإسلامي مخامرة أو أقدموا على مغامرة كان لها وقع شديد وعميق في نفوس المسلمين وحكامهم فتشدد المسلمون معهم في المقابلة وألزموهم بما ذكره الكتاب ولعل بعضهم افتعله بسبيل ذلك. ولقد روت مصادر التاريخ الإسلامية والمسيحية القديمة «2» أن الموارنة أو المردة والجراجمة ومن على مذهب الروم من النصارى «3» ناصروا الروم حينما جاءت جيوش الفتح ثم استجابوا لتحريكاتهم في أثناء المنازعات التي نشبت بين الأمويين والهاشميين في القرون الهجرية الثلاثة الأولى اغتناما لفرصة انشغال المسلمين بأنفسهم ثم ناصروا الصليبيين في حركتهم

_ (1) تاريخ الطبري ج 3 ص 105. (2) انظر كتاب تاريخ الموازنة المفصل للمطران الدبس ص 34 وما بعدها و 186 وما بعدها وفتوح البلدان للبلاذري ص 166 وما بعدها. (3) كان نصارى بلاد الشام ومصر والعراق على مذهبين مذهب الطبيعة الواحدة للمسيح التي مداها أنه ليس إلها كاملا ولا إنسانا كاملا وأنه مزيج من الناسوتية واللاهوتية. ومذهب الطبيعة الثانية التي مؤداها أن المسيح إله كامل وإنسان كامل. وكان المذهب الأول مذهب غالبية أهل هذه البلاد والثاني مذهب الروم أصحاب السلطان.

في القرن الخامس ثم في القرنين السادس والسابع الهجريين. فلعلّ ذلك مما أثار حنق المسلمين عليهم وجعلهم يلزمونهم بما جاء في الكتاب. ومن الحق أن ننبه على أن في كتاب الخراج لأبي يوسف «1» أقوالا فيها تساوق مع بعض ما جاء في الكتاب من إلزام للذميين بزي خاص وهيئة خاصة عزوا إلى عمر بن الخطاب. غير أن هذا لا يجعلنا نغير موقفنا وتوقفنا بناء على ما شرحناه من دلائل قوية. وكل ما في الأمر هو أن تكون مواقف بعض الذميين التي أثارت المسلمين كانت مبكرة فكان ذلك مؤديا إلى ردّ فعل مبكر والله تعالى أعلم. ولقد روى الطبري وغيره «2» أقوالا عديدة عن أهل التأويل كذلك في صدد الذين تقبل منهم الجزية، حيث اعتبر بعضهم على ما يستفاد منها أن النص القرآني قاصر على أخذها من الكتابيين ومنع أخذها من غيرهم وقتاله إلى أن يتوب ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة. ولم يجز بعضهم أخذها من الكتابي العربي وجعله في زمرة الغير الذي لا يقبل منه إلا الإسلام وقصر أخذها على الكتابي الأعجمي. ومنهم من أجاز أخذها من المشركين والوثنيين الأعاجم دون العرب بالإضافة إلى جواز أخذها من الكتابيين العرب والعجم. ومنهم من أجاز أخذها من جميع الكفار سواء أكانوا كتابيين أم مشركين أو وثنيين وعربا أم عجما. والذين قصروا إباحة أخذها على الكتابيين أجازوها من المجوس لورود آثار نبوية في ذلك حيث روي أن عمر بن الخطاب قال كيف نصنع بالمجوس فقال عبد الرحمن بن عوف أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب وأشهد أنه أخذها من مجوس هجر وشهد آخرون أنه أخذها من مجوس البحرين أيضا «3» . وقد رووا رواية عن علي بن أبي طالب فيها تعليل للحديث النبوي ومفادها أنهم كانوا أهل

_ (1) كتاب الخراج ص 72. (2) انظر أيضا البغوي وابن كثير والخازن والطبرسي. (3) روى هذا الإمام أبو يوسف في كتاب الخراج ص 73- 75 ورواه الإمام أبو عبيد في كتاب الأموال ص 31، 32. وانظر التاج ج 4 ص 347 أيضا فإن فيه حديثا رواه البخاري عن عبد الرحمن بن عوف أن النبي أخذ الجزية من مجوس هجر وحديثا رواه الترمذي أنه أخذها من مجوس البحرين وأن عمر أخذها من بني فارس وأن عثمان أخذها من الفرس أو البربر.

كتاب. وقد أوردنا نصّ هذه الرواية في سياق تفسير الآية [5] من سورة المائدة. والقول بعدم أخذ الجزية من كتابيي العرب ينقضه ما هو مروي بطرق وثيقة من أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من نصارى نجران على ما شرحناه في سياق تفسير سورة آل عمران. والذي يتبادر لنا إلى هذا أن الأمر بقتال أهل الكتاب الموصوفين حتى يعطوا الجزية لا يعني حصر ذلك فيهم وأنه إنما جاء في سياق استنفار المسلمين إلى قتالهم وأن الرأي الذي يقول بجواز أخذها من الكفار إطلاقا عربا كانوا أم عجما وكتابيين كانوا أم مشركين ووثنيين وهو قول الإمام مالك هو الأوجه. ولقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى الحرب بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال وشريح بن عبد كلال أقيال ذي رعين ومعافر وهمدان في أنحاء اليمن يعرض عليهم الإسلام وإن أبوا فالجزية «1» . وأنه كتب بمثل ذلك إلى أسد عمان من أهل البحرين «2» وهؤلاء لم يكونوا أهل كتاب. وقد روي أنه حين بعث معاذ بن جبل إلى اليمن أمره بأن يأخذ من كل حالم من المعافر دينارا أو عدله «3» . وهذا جزية أيضا. وهؤلاء عرب. ولم يرو أحد أنهم كتابيون. وفي حديث بريدة الذي يرويه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي والذي أوردناه في سياق تفسير سورة الكافرون إجازة نبوية بأخذ الجزية من أعداء المسلمين المشركين إذا أبوا الإسلام «4» وفي كل هذا دليل على صحة هذا القول ووجاهته. ولقد اختلفت الروايات والأقوال في مقدار الجزية ومن يجب عليهم دفعها من أهلها. وليس هناك نصوص نبويّة وراشدية صريحة باتّة في ذلك. وإنما هناك روايات عمّا فرضه النبي صلى الله عليه وسلم حيث روي أنه فرض دينارا على كلّ حالم من المعافر «5» وفرض على نصارى نجران ألفي حلّة في السنة «6» وفرض على أهل جربا

_ (1) كتاب الأموال ص 27. (2) المصدر نفسه. (3) كتاب الأموال ص 26. (4) انظر الحديث في التاج ج 4 ص 327. (5) كتاب الأموال ص 26. [.....] (6) ابن سعد ج 2 ص 120.

وأذرح مائة دينار في السنة «1» . وفرض على أهل مقنا ربع غزو لهم وربع ثمارهم «2» . ولقد روى الإمام أبو عبيد أن عمر بن الخطاب ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الورق (الفضة) أربعين درهما مع أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام. وروي أن عمر بعث عمّار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وعثمان بن حنيف إلى أهل الكوفة فوضعوا على كل رجل أربعة وعشرين درهما فأجاز عمر ذلك. وفي رواية أنه بعث عثمان بن حنيف فوضع عليهم ثمانية وأربعين درهما. وأربعة وعشرين درهما. واثني عشر درهما. وقد روى الإمام نفسه أن ابن نجيح سأل مجاهدا لم وضع عمر على أهل الشام من الجزية أكثر مما وضع النبي على أهل اليمن؟ فقال: لليسار «3» . حيث يبدو من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين كانوا يقدرون الجزية حسب حالة الناس المفروضة عليهم وطاقتهم. وقد روى الإمام أبو عبيد أن خلفاء المسلمين كانوا لا يرون الزيادة على ما وظف عمر بن الخطاب بل وكانوا يرون النقصان في ذلك إذا عجزوا عن الوظيفة. وفضلا عن ذلك فقد كانوا يعفون النساء والصبيان إطلاقا والعميان والزمنى والمقعدين والرهبان إذا لم يكن لهم مال. وكان الخلفاء يأمرون بالرفق بأصحابها وعدم الإصرار على أخذها منهم ذهبا وفضة ويأخذها بدلا من غلة الأرض والماشية وصناعة اليد على ما رواه الإمامان أبو يوسف وأبو عبيد «4» . بل كانوا يسقطونها عن العاجز عن أدائها ويرتبون لهؤلاء إذا طعنوا في السنّ مرتبات من بيت المال حيث روى الإمام أبو يوسف خبرا رائعا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء فيه أن عمر بن الخطاب مرّ بباب قوم وعليه سائل يسأل وهو شيخ كبير ضرير البصر فضرب عضده من خلفه وقال من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال يهودي قال فما ألجأك إلى ما أرى قال أسأل الجزية والحاجة والسنّ، فأخذ عمر بيده وذهب به إلى

_ (1) ابن سعد ج 2 ص 55. (2) المصدر نفسه ص 41. (3) انظر هذه الأحاديث في كتاب الأموال 39- 41 وانظر التاج ج 4 ص 347. (4) انظر كتاب الخراج لأبي يوسف ص 70- 72 وكتاب الأموال لأبي عبيد ص 36- 47.

منزله فرضخ له بشيء من المنزل ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه فو الله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم إنما الصدقات للفقراء والمساكين وهذا من المساكين ووضع عنه الجزية وعن ضربائه «1» . وحيث روى الإمام أبو عبيد أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى واليه بالبصرة أن لا يأخذ الجزية إلّا ممن أطاق حملها وأن يجري على من كبرت سنّه وضعفت قوته وولّت عنه المكاسب من أهل الذمة من بيت المال ما يصلحه لأنه بلغه أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قد فعل ذلك «2» . ومما ورد في موطأ مالك «3» قوله «مضت السنة أن لا جزية على نساء أهل الكتاب ولا على صبيانهم ولا تؤخذ إلّا من الذين بلغوا الحلم. وليس على نخلهم وكرومهم ومواشيهم صدقة (أي زكاة) لأن الصدقة قد وضعت على المسلمين تطهيرا لهم وردّا على فقرائهم. وليس على أهل الكتاب سوى الجزية. إلّا أن يتجروا في بلاد المسلمين فيؤخذ منهم العشر فيما يدبرون من تجارات. ويعامل المجوس معاملتهم» . والشاهد في هذا الكلام السنة التي استثنت النساء والصبيان من الجزية. مما هو متساوق مع المقتبسات السابقة. وفي كل هذا ما فيه من العدل والتسامح الإسلامي. ولقد رويت سنن راشدية «4» بالنهي عن إعنات دافعي الجزية وعدم التشدد في أخذها ذهبا وفضة وجواز أخذ عدلها سلعة ما من غلّة أو صنعة يد. وهذا متساوق مع ذلك العدل والتسامح. ويلحظ أن القرآن لم يذكر مصارف الجزية. وقد تكون الحكمة في ذلك أن الآية لم ترد في معرض التشريع لمورد قد تحقق كما هو الشأن في الغنائم والفيء والزكاة. والجزية من حقّ بيت مال المسلمين. ولقد ذكرت مصارف حصة بيت المال من الغنائم والفيء في آيات سورة الأنفال [41] وسورة الحشر [7] وهذه

_ (1) كتاب الخراج ص 72. (2) كتاب الخراج لأبي يوسف ص 72 وكتاب الأموال لأبي عبيد ص 45. (3) الموطأ ج 1 ص 152 و 153. (4) كتاب الأموال 43- 46 والخراج 68 وما بعدها.

الحصة توزع على مجموعتين وهما المصالح العامة والمحتاجون. ومصارف الزكاة أيضا مثل ذلك على ما سوف يأتي شرحه في سياق الآية [60] من هذه السورة. ويسوغ القول قياسا على ذلك أن مورد الجزية يصرف بدوره على المجموعتين. والله أعلم. ولقد عدّ الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام الجزية من الفيء «1» . وفي هذا تأييد لما نقول. والمتبادر أن تقرير مبدأ الصلح مع المحاربين الكفار على الجزية قد انطوى على تبرير غاية الجهاد الإسلامي وهي إخضاع المحارب وخضد شوكته حتى لا يكون قادرا على الإخلال بأمن المسلمين ومصالحهم وحريتهم وتعطيل الدعوة الإسلامية وحريتها. ونصّ الآية الأولى يلهم بقوة أنه ليس للسلطان الإسلامي أن يمتنع عن المصالحة على الجزية في حالة قهر المحارب وخضوعه واستسلامه وإعلان رغبته في الصلح واستعداده لأداء الجزية. وهذا متسق مع المبادئ القرآنية العامة أيضا. فالقتال شرّع لدفع العدوان والمقابلة من جهة وتأمين حرية الدعوة وأمن المسلمين ومصلحتهم وكرامتهم واحترام دينهم من جهة أخرى. فإذا ما أعلن المحارب خضوعه للسلطان الإسلامي وأصبح المسلمون في أمن على حريتهم ومصلحتهم وحرية الدعوة إلى دينهم واحترام دينهم دون أي عثرة ومناقضة فيكون المقصد قد حصل ولم يبق ما يسوغ تجاوزه. وآيات الأنفال هذه وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) صريحة في ذلك على ما شرحناه في سياق تفسيرها. ولقد روى الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه «إنّكم لعلّكم تقاتلون قوما فيتقونكم بأموالهم دون أنفسهم وأبنائهم ويصالحونكم على صلح. فلا تأخذوا منهم فوق ذلك فإنّه لا يحلّ لكم» «2» حيث يفيد أن إجابة المسلمين لطلب الصلح من المحارب على الجزية أمر واجب وطبيعي فضلا عن ما

_ (1) كتاب الأموال ص 18. (2) المصدر نفسه ص 143.

يفيده الحديث من حظر الطمع في أموالهم وابتزاز شيء منها فوق ما صالحوا عليه. ومن باب أولى أن يقال إن العدو إذا جنح للسلم بدون حرب على شرط الخضوع وأداء الجزية وجب مقابلته بالجنوح إليها. وقد صالح النبي صلى الله عليه وسلم طوائف عديدة على الجزية بدون حرب حينما طلبوا ذلك، منهم نصارى نجران والمعافر وأكيدر دومة ويهود فدك وتيما والجربا ويوحنه بن رؤبة ملك أيلة ويهود بني جنبه والغريض وبني عاديا والمقنا وأذرح «1» . وقد يرد سؤال وهو هل يصح لولي أمر المسلمين أن يعقد صلحا مع عدو غير مسلم أو غير كتابي بدون جزية؟ فجوابا على هذا السؤال نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم عقد صلحا بدون جزية مع أعداء محاربين وهو صلح الحديبية مع قريش. وفي آيات الأنفال [61، 62] إجازة بالجنوح إلى السلم إذا جنح لها العدو. وليس هناك قرينة على أن ذلك كان منوطا بالجزية. وقد يصح أن يقال إن الآية [29] التي نحن في صددها قد نزلت بعد ذلك. وإن المعقول أن يكون الأخير ناسخا أو معدلا للأول. غير أن المتبادر لنا أن روح آيات الأنفال وفحواها وسياقها تلهم أنها تشريع مستمر التلقين لاتساقه مع ظروف الحياة وطبائع الأمور. فهناك احتمالات دائمة لقيام ظروف لا تسمح للمسلمين بالاستمرار في قتال عدوهم إلى أن يخضع ويعطي الجزية. فمن الحقّ أن يستلهم ولي أمر المسلمين هذه الآيات في مثل هذه الظروف فيقابل جنوح العدو إلى السلم بالمثل ولو كان بدون جزية. والله تعالى أعلم. ومع أن اعتقاد اليهود ببنوة العزير غير شائع الآن فإن نصّ الآية الثانية أي [30] يدل دلالة قاطعة على أن اليهود أو بعضهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون بذلك. ولقد روى الطبري روايتين في ذلك. واحدة تذكر أن يهوديا اسمه فنحاص قال ذلك في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرى تذكر أن جماعة من اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم

_ (1) انظر التاج ج 4 ص 349 وطبقات ابن سعد ج 2 ص 41- 56 وج 3 ص 152- 163 و 218- 221 وفتوح البلدان ص 41 و 42 والخراج لأبي يوسف ص 40 وما بعدها.

كيف تريد أن نتبعك وقد تركت قبلتنا ولا تزعم أن عزرا ابن الله. ثم روى الطبري عن ابن عباس رواية تذكر أن اليهود لما أهملوا أوامر الله وشرائعه نسخ التوراة من صدورهم ورفع التابوت من بينهم. وكان عزرا حبرا صالحا فصلّى وابتهل إلى الله حتى استجاب إليه وأعاد إلى صدره التوراة فبشر بذلك قومه وأخذ يمليها عليهم ثم أعاد الله التابوت. فقالوا ما فعل الله له هذا إلّا لأنه ابنه. وروى الطبري رواية أخرى عن السدي مختلفة عن رواية ابن عباس في التفصيل متفقة في الجوهر. وبين أسفار العهد القديم سفر باسم سفر عزرا ليس فيه شيء من ذلك وإنما نعت عزرا فيه بأنه كاتب ماهر في توراة موسى وأنه وجه قلبه لالتماس شريعة الربّ. وكان يعمل ويعلم في إسرائيل بالرسوم والأحكام. وعلى كل حال فالذي نرجحه أن الروايات المروية عن ابن عباس والسدي مصدرها يهود المدينة وأنها كانت في بعض قراطيسهم التي لم تصل إلينا. كما أن مما لا شك فيه أن قول اليهود كان يمثل واقعا مسموعا. وحكاية القرآن شاهد حاسم على ذلك. وفي صدد جملة يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ روى الطبري عن أهل التأويل روايات عديدة. منها أنها للنصارى فقط. وفي مقام تقرير كونهم في قولهم إن المسيح ابن الله يشبهون اليهود الذين كفروا قبلهم وقالوا العزير ابن الله. ومنها أنها لليهود والنصارى معا في مقام تقرير كونهم في قولهم إن العزير ابن الله والمسيح ابن الله يشبهون الكفار من العرب وغيرهم الذين كانوا يعبدون الملائكة ويقولون إنهم بنات الله ويستشفون بهم لديه. ولو كان سند وثيق لكون عقيدة العرب بأن الملائكة بنات الله سابقة لعقيدتي اليهود والنصارى ببنوة العزير والمسيح لكان هذا وجيها. إلا أن يقال إن الجملة قد تعني ظروف نزولها حيث كان اليهود والنصارى في عصر النبي صلى الله عليه وسلم يقولون ذلك استمرارا للسابق. على أن اعتقاد الأمم التي كانت أقدم من عهود اليهودية والنصرانية بأنه كان للآلهة زوجات وأولاد من الحقائق التاريخية المعروفة حيث ثبت من الآثار المنقوشة أن أهل اليمن والعراق والشام ومصر واليونان القدماء كانوا يعتقدون بذلك. ونعتقد أن ذلك مما كان معروفا في عصر النبي وبيئته. والراجح أن مصدر ذلك اليهود والنصارى والله أعلم.

ولقد روى الطبري في سياق تفسير جملة اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ حديثا عن عدي بن حاتم قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك فطرحته وانتهيت إليه وهو يقرأ في سورة براءة فقرأ هذه الآية اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فقلت: يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم. فقال: أليس يحرّمون ما أحلّ الله فتحرّمونه ويحلّون ما حرّم الله فتحلّونه؟ قلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم» «1» . وروى الطبري إلى هذا أقوالا معزوة إلى حذيفة وأبي البختري وابن عباس من هذا الباب أيضا. وعلى كل حال فإن الفقرة تتضمن تقريرا لواقع مشاهد بكون عامة اليهود والنصارى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم استمرارا لما قبله قد خضعوا لتأثير وسلطان أحبارهم ورهبانهم حتى صاروا كأنما هم قد اتخذوهم أربابا من دون الله يحرّمون ما يحرّمون ويحلّلون ما يحلّلون ويفعلون ما يأمرون به ولو كان مخالفا للشرائع المسجلة في كتبهم والمبلّغة عن أنبيائهم. والآية [33] وإن كانت تضمنت حكاية لمواقف اليهود والنصارى عامة من رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بسبيل إطفاء نور الله الذي جاء به بأفواههم فإن في الفقرة الأولى من الآية [34] أي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ما يمكن أن يفيد أن تلك المواقف إنما كانت بتأثير الأحبار والرهبان على عامة بني ملتهم. وفي ذلك صورة من صور اتخاذ عامة اليهود والنصارى أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله إلّا من استطاع أن يفلت من هذا التأثير ويهتدي بهدي الله وينضوي إلى دعوة رسوله.

_ (1) روى الترمذي حديثا قريبا لهذا عن عدي نصّه «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال يا عدي اطرح عنك هذا الوثن. وسمعته يقرأ اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وقال أما إنهم لم يعبدوهم ولكنهم كانوا إذا أحلّوا لهم شيئا استحلّوه وإذا حرّموا عليهم شيئا حرّموه» التاج ج 4 ص 115.

وقد تكون جملة لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ مفسّرة لمواقف الأحبار والرهبان المناوئة للدعوة الإسلامية والصادرة لعامة اليهود والنصارى عن الانضواء إلى الإسلام حيث كانوا يستولون من بني ملتهم على أموال كثيرة بأساليب باطلة غير مشروعة وقد يكون ذلك بصورة رشاوى على تحليل الحرام وتحريم الحلال وبصورة نذور للأديرة والكنائس لا يلبثون أن يستحلوها لأنفسهم فكانوا يخشون ضياع هذه الموارد فضلا عن فقد ما كان لهم من جاه ونفوذ عظيمين. ولقد روى ابن هشام «1» عن ابن إسحق رواية لها مغزى قوي مؤيد لما نقول مفادها أن وفد نصارى نجران لما قدم على رسول الله واستمعوا له قال أسقفهم أبو حارثة لأخيه: والله إنه للنبي الذي كنّا ننتظر، فقال له أخوه وما يمنعك منه وأنت تعلم هذا فقال ما صنع بنا هؤلاء القوم شرّفونا ومولونا وأكرمونا وقد أبوا إلا خلافه فلو فعلت نزعوا منّا كل ما ترى. ولقد كانت النصرانية سائدة في بلاد الشام والعراق ومصر فأخذ عامة النصارى يقبلون على الإسلام حتى شمل أكثريتهم الساحقة. وقد شاء بعضهم الاحتفاظ بدينه فكان له ما شاء. وظل هؤلاء منثورين أسرا منفردة وسط كتل إسلامية كثيفة في ظل سلطان المسلمين القوي. والذي نعتقده أن كثيرا من هؤلاء إن لم يكن أكثرهم هم من الرهبان والقسيسين الذين كانت الأديرة والكنائس وأملاكها وإيرادها مأكلة لهم فكان ذلك مما جعلهم يشذون عن الأكثرية الساحقة. وفي جملة لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ في حدّ ذاتها توكيد للنهي المتكرر في سور سابقة عن أكل الناس أموال بعضهم بالباطل وعن الصدّ عن سبيل الله وتعطيل شرائعه والتمرد على رسالاته كمبدأ من مبادئ الرسالة الإسلامية. وتوكيد للتنديد والإنذار اللذين انطويا في الآيات التي احتوت ذلك مما فيه توكيد للتلقين القرآني المستمر في هذا الأمر. وفي نسبة ذلك إلى الأحبار والرهبان بخاصة تشديد للتلقين من حيث كون صدور ذلك من رجال الدين ورؤساء الملّة الذين يجب أن يكونوا قدوة في الصلاح والتقوى أشد جرما وإثما عند الله تعالى.

_ (1) ابن هشام ج 2 ص 204- 205. [.....]

تعليق خاص على الآية يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل والآية التالية لها وما ورد في صدد كنز الفضة والذهب وأداء الزكاة من أحاديث وأقوال وما انطوى في ذلك من صور وتلقين وتمحيص ما روي من تأخر فرض الزكا

والآيتان [32 و 33] قد وردتا بأسلوب مقارب لما ورد في سورة الصف في سياق آيات ذكر السامعون فيها بمواقف اليهود الإزعاجية والمؤذية من موسى وعيسى عليهما السلام مع فارق واحد هو أن ذلك التذكير كان للعرب والتنديد كان بهم على الراجح في حين أنهما هنا في صدد الكتابيين مباشرة. وواضح أن حكمة التنزيل اقتضت تكرارهما لمرة الثانية لبيان سوء مقاصد ونوايا ومواقف الكتابيين. والتنديد بهم والردّ عليهم بأن الله محبط لمكائدهم وبأنه يأبى إلّا أن يتم نوره ولو كرهوا. وبالطبع إنهما في حدّ ذاتهما قد احتوتا ذلك المعنى القوي الرائع الذي نوهنا به في تفسير سورة الصف بعموم الدين الإسلامي والتطمين الذي يبعث الثقة التامة في نفوس المسلمين بأن دينهم الذي ارتضاه الله لهم سيكون هو الدين الظاهر على سائر الأديان. فهو نور الله الذي لن يقدر أحد على إطفائه مهما حاول ومهما ظنّ نفسه قادرا على ذلك. وهو دين الحق الذي وعد الله تعالى بأن يظهره على الدين كلّه. ولو كره المشركون والكافرون. وسورة التوبة من أواخر ما نزل من القرآن حيث يتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت الإيحاء بالآيتين لتكونا توكيدا حاسما وجديدا لوعد الله عزّ وجلّ في أواخر حياة الرسول وأواخر ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه من القرآن. ولن يخلف الله وعده. ولقد شرحنا مدى الآيتين في سياق تفسير سورة الصف. فنكتفي بهذه الإشارة دون الإعادة. تعليق خاص على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ والآية التالية لها وما ورد في صدد كنز الفضة والذهب وأداء الزكاة من أحاديث وأقوال وما انطوى في ذلك من صور وتلقين وتمحيص ما روي من تأخر فرض الزكاة واستطراد إلى حركة أبي ذر الغفاري رضي الله عنه وأسلوب الفقرة الثانية من الآية الأولى أي وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ

وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ عام كما هو ظاهر. غير أن وصف الرهبان والأحبار بأنهم يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله في الفقرة الأولى من الآية قد يكون قرينة على أن الفقرة الثانية تعنيهم بالدرجة الأولى. فأكلهم أموال الناس بالباطل كان يؤدي إلى اكتنازهم الذهب والفضة. وصدّهم عن سبيل الله كان لاستبقاء الوسيلة إلى الاكتناز في يدهم وبذلك تكون الآية محكمة التنديد والإلزام ويكون الإنذار الرهيب المذكور فيها وفي الآية التالية لها موجها إليهم بالدرجة الأولى. على أن أسلوبها العام يسوغ القول أنها احتوت في الوقت نفسه توجيها وإنذارا عامين على سبيل الاستطراد إلى كلّ من يكتنز الذهب والفضة ولا ينفقها في سبيل الله. ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن المقصود في الآية هم أهل الكتاب ولكنها في الوقت نفسه عامة وخاصة أي فيهم وفي المسلمين معا. وهذا متطابق مع ما قررناه آنفا. ولقد روى المفسرون «1» أحاديث عديدة نبوية وصحابية في صدد ومعنى وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ وفي إباحة اكتناز المال وذمّه فقد روى أبو داود والحاكم ومالك عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما بلغ أن تؤدّى زكاته فزكّي فليس بكنز وفي رواية ما أدّي زكاته فليس بكنز» «2» . وقد أخرج الترمذي والحاكم حديثا آخر عن أبي هريرة مرفوعا جاء فيه: «إذا أدّيت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك» «3» . وروي عن ابن عمر أن الكنز هو كل مال لا تؤدى زكاته ولو كان غير مدفون وإن قلّ وأن كلّ مال تؤدى زكاته ليس كنزا ولو كان مدفونا وإن كثر. وروي مثل هذا عن ابن عباس. وروي عن ابن عمر كذلك قوله لا أبالي لو أن لي مثل أحد ذهبا أعلم عدده أزكيه وأعمل بطاعة الله فيه. وروي عن

_ (1) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري. والنصوص التي ننقلها هي من الطبري والبغوي وابن كثير. (2) التاج ج 2 ص 6. (3) تفسير القاسمي.

النبي صلى الله عليه وسلم حديث جاء فيه نعم المال الصالح للعبد الصالح. وحديث آخر أنه لما نزلت الآية كبر ذلك على أصحاب رسول الله وقالوا ما يستطيع أحد منا أن يدع لولده شيئا فذكر عمر ذلك لرسول الله وقال له إن هذه الآية قد كبرت على أصحابك يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيّب بها ما بقي من أموالكم وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم. فكبّر عمر. فقال له رسول الله ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها سرّته. وإذا أمرها أطاعته. وإذا غاب عنها حفظته» . فهذه الأحاديث تفيد كما هو واضح أنه لا حرج من حيازة المال ولو كثر إذا أديت زكاته وأن الإنذار هو للذين لا يؤدون زكاة أموالهم. وأن معنى وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يؤدون الزكاة عنها التي جعلت للإنفاق على سبيل الله. ولقد روى المفسرون «1» في سياق تفسير الآية أحاديث نبوية رهيبة الإنذار للذين لا يؤدون زكاة أموالهم منها حديث رواه أبو هريرة جاء فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثّل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوّقه يوم القيامة فيأخذ بلهزميه- أي شدقيه- ثم يقول أنا مالك. أنا كنزك» «2» . ومنها حديث آخر عن أبي هريرة أيضا جاء فيه: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدّي منها حقّها إلا إذا كان يوم القيامة صفّحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنّم فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره. كلّ ما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إمّا إلى الجنة وإمّا إلى النار. قيل يا رسول الله فالإبل؟ قال ولا صاحب إبل لا يؤدّي منها حقّها، ومن حقّها حلبها يوم وردها إلّا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلا واحدا تطؤه بأخفافها وتعضّه بأفواهها كلّما مرّ عليه أولاها ردّ عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إمّا

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والقاسمي. ومعظم ما نورده من نصوص وارد في تفسير الطبري. (2) روى هذا الحديث البخاري ومسلم والترمذي والنسائي. انظر التاج ج 2 ص 7.

إلى الجنة وإمّا إلى النار. قيل: يا رسول الله فالبقر والغنم. قال ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدّي منها حقّها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئا ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلّ ما مرّ عليه أولاها ردّ عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إمّا إلى الجنة وإمّا إلى النار» «1» . حيث يبدو من هذه الأحاديث الاهتمام العظيم الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوليه لإيتاء الزكاة اتساقا مع القرآن الذي يوليها مثل ذلك بكثرة ترديدها والتوكيد على إيتائها والتنويه بفاعليها واعتبارها دليلا لا بدّ منه على صدق إيمان المسلم. ولا غرو فهي دعامة التضامن الاجتماعي والسلطان الإسلامي في آن واحد على ما شرحناه في المناسبات العديدة السابقة. وإلى جانب الأحاديث الواردة في معنى الكنز وإباحة الاكتناز إذا أديت زكاته روى المفسرون أحاديث فيها تحديد للحدّ الأعلى الذي يكون ما فوقه كنز يحق على صاحبه الإنذار وفيها ذم لاكتناز المال والذهب والفضة إطلاقا. فقد روي عن علي بن أبي طالب قوله إن الكنز ما زاد على أربعة آلاف درهم سواء أديت زكاته أم لم تؤد وما دون ذلك نفقة لا حرج في حيازته. وأورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن عبد الرزاق عن علي بن أبي طالب جاء فيه: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تبّا للذهب، تبّا للفضة ثلاث مرات. فشقّ ذلك على أصحاب رسول الله فقالوا فأي مال نتخذ فقال عمر أنا أعلم لكم ذلك ثم أتى رسول الله فقال يا رسول الله إن أصحابك قد شقّ عليهم. قالوا أي المال نتخذ فقال رسول الله: لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وزوجة صالحة تعين أحدكم على دينه» «2» . والحديث قد يفيد أن أصحاب رسول الله فهموا أن المذموم هو نوع المال أي

_ (1) روى هذا الحديث البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. انظر التاج ج 2 ص 6- 7. (2) روى الترمذي هذا الحديث بهذه الصيغة «لما نزلت الآية قال بعض أصحاب رسول الله يا رسول الله أنزل في الذهب والفضة ما أنزل لو علمنا أي المال خير فنتخذه فقال أفضله لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة مؤمنة تعينه على إيمانه» انظر التاج ج 4 ص 116.

عين الذهب والفضة لا جنس المال فكان جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم منبها إلى أن المذموم هو الجنس على ما هو المتبادر. وفي الحديث الطويل الذي أوردناه آنفا صراحة أكثر لأنه شمل الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم. وقد روى الطبري هذا الحديث بطرق عديدة وصيغ متقاربة. وروى معه عن ثوبان حديثا جاء فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ترك بعده كنزا مثّل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يتبعه فيقول ويلك ما أنت؟ فيقول أنا كنزك الذي تركته بعدك ولا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها ثم يتبعها سائر جسده» «1» . وروي عن أبي سعيد حديث جاء فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الق الله فقيرا ولا تلقه غنيّا. قال يا رسول الله كيف لي بذلك قال ما سئلت لا تمنع ما رزقت لا تخبأ. قال يا رسول الله كيف لي بذلك قال هو ذاك وإلّا فالنار» . وروي عن قتادة «أنّ رجلا من أهل الصفّة مات فوجد في مئزره دينار فقال رسول الله «كيّة» ثم توفي رجل آخر فوجد في مئزره ديناران فقال كيّتان» . وهناك أحاديث أخرى وردت في الكتب الخمسة في ذمّ المال والاكتناز والتحذير من فتنتهما. منها حديث رواه الترمذي عن كعب بن عياض عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ لكلّ أمة فتنة وفتنة أمتي المال» «2» وحديث رواه الترمذي عن عبد الله عن النبيّ قال: «لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا» «3» . وحديث رواه البخاري عن أبي ذرّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ المكثرين هم المقلّون يوم القيامة إلّا من أعطاه الله خيرا فنفخ فيه يمينه وشماله وبين يديه ووراءه وعمل فيه خيرا» «4» . وحديث رواه مسلم والترمذي عن مطرّف عن أبيه قال: «انتهى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يقول ألهاكم التكاثر. قال يقول ابن آدم مالي مالي. وهل لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت، أو أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت» «5» . وحديث رواه أبو داود عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم

_ (1) أوردنا قبل حديثا رواه الشيخان عن أبي هريرة صيغته مقاربة لهذه الصيغة مع فارق مهم هو أن الوعيد لمن لا يؤدي زكاة كنزه. (2) التاج ج 5 ص 147- 159. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه.

قال: «أما إن كلّ بناء وبال على صاحبه إلّا ما لا، إلّا ما لا، يعني ما لا بدّ منه» «1» . وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تعس عبد الدينار والدّرهم والقطيفة والخميصة. إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض» «2» . وحديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قد أفلح من أسلم وكان رزقه كفافا وقنّعه الله» «3» . وحديث رواه الترمذي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللهمّ أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة. فقالت عائشة لم يا رسول الله؟ قال إنّهم يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا» «4» . وحديث رواه الترمذي عن عائشة عن رسول الله قال: «يا عائشة إن أردت اللحوق بي فيكفيك من الدنيا كزاد الراكب. وإيّاك ومجالسة الأغنياء ولا تستخلقي ثوبا حتى ترقعيه» «5» . وحديث رواه الترمذي عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس لابن آدم حقّ في سوى هذه الخصال بيت يسكنه، وثوب يواري عورته وجلف الخبز والماء» «6» . وحديث رواه الترمذي عن عبيد الله بن محصن عن أبيه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا» «7» . وحديث رواه الترمذي عن أبي أمامه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ. ذو حظ من الصلاة، أحسن عبادة ربّه، وأطاعه في السرّ، وكان غامضا في الناس، لا يشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافا فصبر على ذلك، ثم نفض يده فقال عجّلت منيّته. قلّت بواكيه قلّ تراثه» «8» . وحديث رواه الشيخان عن أبي سعيد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ هذا المال

_ (1) التاج ج 5 ص 147- 159. (2) المصدر نفسه. [.....] (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه. (6) المصدر نفسه. (7) المصدر نفسه. (8) المصدر نفسه.

حلو من أخذه بحقّه ووضعه في حقّه فنعم المعونة هو. ومن أخذه بغير حقّه كان كالذي يأكل ولا يشبع» «1» . وحديث رواه البغوي عن أبي ذرّ قال: «انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظلّ الكعبة فلما رآني قال: هم الأخسرون وربّ الكعبة. فجئت حتى جلست فلم أتقارّ أن قمت فقلت يا رسول الله فداك أبي وأمي من هم فقال الأكثرون أموالا إلّا من قال هكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم» . وروي عن أبي ذرّ أنه كان يقول من ترك بيضاء أو حمراء كوي به يوم القيامة. ولقد روي عن زيد بن وهب قال: «مررت على أبي ذرّ بالربذة- وهي قرية من قرى المدينة- فقلت ما أنزلك بهذه الأرض قال كنّا بالشام فقرأت: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ... فقال معاوية ما هذه فينا ما هذه إلّا في أهل الكتاب. فقلت إنها لفينا وفيهم فارتفع في ذلك بيني وبينه القول فكتب إلى عثمان يشكوني فكتب إليّ عثمان أن أقبل إليه فأقبلت إليه فلما قدمت المدينة ركبني الناس كأنهم لم يروني قبل يومئذ فشكوت ذلك إلى عثمان فقال لي تنحّ قريبا قلت والله لن أدع ما كنت أقول» «2» . ويروي الطبري في تاريخه بعض مواقف أبي ذرّ من هذا الباب

_ (1) التاج ج 5 ص 147- 159. (2) روى هذا الطبري وروى البخاري شطرا من هذا الحديث وهو هذا عن زيد بن وهب قال مررت على أبي ذر بالربذة فقلت ما أنزلك بهذه الأرض قال كنا بالشام فقرأت وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ... الآية قال معاوية ما هذه فينا ما هي إلا في أهل الكتاب قلت إنها لفينا وفيهم. وقال ابن عمر هذا قبل الزكاة. فلما أنزلت جعلها الله طهرا للأموال) التاج ج 4 ص 116 ونقول استطرادا إن كلام ابن عمر يوهم أن الزكاة فرضت بعد هذه الآية. وهناك من قال إن آية الزكاة نسخت هذه الآية وإن الزكاة فرضت في السنة التاسعة. وقال القاسمي الذي أورد هذا إن ابن كثير جزم بذلك في تاريخه. وإن بعضهم قواه بسبب كون آية الصدقات في هذه السورة قد نزلت بعد هذه الآية. والمقصود من آية الزكاة وآية الصدقات هو هذه إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) . وهذا القول غريب من نواح عديدة. فالزكاة ذكرت في سور مكيّة مبكرة ثم ظلت تذكر متلازمة مع الصلاة في السور المكيّة ثم في السور المدنيّة بأسلوب يفيد بكل قوة أنها كانت مفروضة وممارسة في العهد المكي. وهناك آيات مكيّة قوية الدلالة على أن مقدارها كان معينا وكان المسلمون يؤدونه مثل آيات سورة المعارج هذه وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وآية الصدقات أو الزكاة المذكورة ليست في صدد فرض الزكاة وإنما هي في صدد ذكر المصارف التي تصرف فيها. بل إن أسلوبها لا يدل على أن هذه المصارف تعين تعيينا جديدا. وإنما هو في صدد تقرير ذلك كأنما هو المعروف الذي يجب أن يوقف عنده. والرقاب ورد ذكرها في معرض ما يجب الإنفاق عليه في آية سورة البقرة [177] وليس في القرآن والحديث ما يفيد أن الزكاة فرضت في العهد المدني فضلا عن أواخره. ونحن نجل ابن عمر رضي الله عنه عن أن يجهل ذلك. ولذلك فإما أن يكون كلامه نقل محرفا أو أن المقصود منه هو أن الآية في حق الذين لم يؤتوا الزكاة، وأن الزكاة جعلت طهرا للأموال. وهذا هو ما جاء في الحديث النبوي المروي سابقا والله أعلم.

ويقول إن الفقراء ولعوا بما كان أبو ذر يقوله وصاروا يوجبونه على الأغنياء، حتى شكا الأغنياء ما يلقون من الناس فكان ذلك مما جعل عثمان يستدعي أبا ذرّ مع الرفق به. ومما رواه أن عثمان قال لأبي ذرّ ما لأهل الشام يشكون منك؟ فقال لا ينبغي للأغنياء أن يقتنوا مالا فقال عثمان عليّ أن أقضي ما عليّ وآخذ ما على الرعية ولا أجبرهم على الزهد ولا أدعوهم إلى الاجتهاد والاقتصاد «1» . وقد عقب المفسّر ابن كثير على حديث أبي ذرّ بقوله: «كان من مذهب أبي ذرّ رضي الله عنه تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال وكان يفتي بذلك ويحثهم عليه ويأمرهم به ويغلظ في خلافه فنهاه معاوية فلم ينته فخشي أن يضر بالناس في هذا فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين وأن يأخذه إليه فاستقدمه وأنزله بالربذة. ومما رواه هذا المفسر أن معاوية أراد أن يختبره فبعث إليه بألف دينار ففرقها من يوميه ثم بعث الذي أتاه بها ليقول له إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك فأخطأت فهات الذهب فقال له ويحك إنها خرجت. ولكن إذا جاء ما لي حاسبناك به. ولقد عقب الطبري على هذه الأحاديث والأقوال قائلا وأولى الأقوال بالصحة هو أن كلّ مال أدّيت زكاته فليس بكنز يحرّم على صاحبه اكتنازه وإن كثر، وأن كل مال لم تؤد زكاته فصاحبه معاقب وإن قلّ إذا كان مما تجب فيه الزكاة. وعقب

_ (1) تاريخ الطبري ج 3 ص 335.

البغوي قائلا إن القول الأول هو الأصح لأن الآية في منع الزكاة لا في جمع المال الحلال. وقد علّق النيسابوري والزمخشري والخازن والنسفي والطبري تعليقات مماثلة أيضا. وقد يكون هذا هو المتسق مع طبائع النفوس والأمور. فليس من ذلك أن يطلب من كل الناس أن لا يحتازوا مالا أو أن ينفقوا ما يحتازونه دون أن يدخروه أو ينفقوا معظمه. وكل ما يتسق مع ذلك هو أن يطلب منهم أداء ما فرضه الله عليهم من حقّ. وقد يكون الهدي النبوي في الأحاديث التي ذكر فيها «أن المال الذي يؤدي زكاته ليس كنزا. وأن نعم المال الصالح للعبد الصالح. وأن الله إنما فرض الزكاة ليطيّب بها ما بقي عند الناس من أموال. وأن المال الذي يفعل به الخير نعم المعونة هو» هو الاتساق مع طبائع الأمور والنفوس في شأن ليس محرما تحريما باتا. ويمكن أن يضاف إلى هذا أن الهدي القرآني لا يمنع المسلمين من الاستمتاع بزينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق إذا ما راعوا الاعتدال والقصد لأن ذلك هو المتسق مع تلك الطبائع. غير أن قوة الزجر في الآيتين اللتين نحن في صددهما والأحاديث العديدة الأخرى التي لا نرى تناقضا بينها وبين هذا الاتساق الذي يراعيه هدي القرآن والنبي معا تسوغ القول أنها تنطوي في الوقت نفسه على تلقين قوي بشجب اكتناز المال والتكالب عليه وحبسه عن سبيل الله ومصالح المسلمين ومحتاجيهم وعمل الخير حتى ولو كان ما احتازوه بطرق مشروعة ولو أدوا القدر الزهيد المفروض عليها زكاة. ومن الجدير بالذكر والتأمل: أولا: إن القليلين من الأغنياء هم الذين يؤدون الزكاة بحقها. أما الأكثر فإما أنهم لا يؤدونها بالمرة وإما أنهم يؤدون قدرا أقل من المستحق عليهم. ومعنى هذا أن أكثر الأغنياء هم موضوع الإنذار الرهيب الذي تضمنته الآيات من جهة. وقد فقدوا التكأة التي تجعل حيازتهم للكنوز سائغة على ضوء بعض الأحاديث من جهة أخرى ونعني بها إعطاء الزكاة كاملة عنها. وثانيا: إن كثرة الثروة في أيدي الأفراد مؤدية في الأعمّ الأغلب كما هو مشهود دائما في أيامنا بنوع خاص إلى التبذير والإسراف والفسق والفجور والبغي

والاستعلاء على الفقراء المحرومين وهو المستنكر المندد به والمنهي عنه في آيات وأحاديث كثيرة على ما نبهنا عليه، أوردنا نصوصه في سور سبق تفسيرها مما يجعل التلقين القرآني واللغوي أشدّ لزاما واستحكاما. وثالثا: إن سبيل الله الذي أنذرت الآيات الذين لا ينفقون أموالهم فيها ذلك الإنذار الرهيب هي الدعوة الإسلامية نفسها التي من نطاقها نشر الدعوة وحمايتها والدفاع عنها وحماية الإسلام والمسلمين من البغي والعدوان. وتوفير الكرامة والعزة والحرية لهما على ما شرحناه في سياق تفسير سورة المزمل. وكل هذا من مهام السلطان وأولي أمر المسلمين. وبناء على ذلك كلّه يسوغ القول إن لأولياء أمر المسلمين أن يعالجوا أمر استقطاب الثروة في جانب واستقطاب الفقر والعوز في جانب وتعديل الفروق بأساليب متنوعة تضمن منع الأفراد عن التبذير والسّفه والاستعلاء مع عدم الإجحاف بحق الحيازة المعتدلة وحاجات الحياة المشروعة من جهة وسدّ حاجة سبيل الله ووجوه الخير ومساعدة المحتاجين من جهة أخرى. ولعلّ الفاروق رضي الله عنه حينما قال كلمته المشهورة «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء وفرقتها على الفقراء» «1» كان يستوحي من هذا التلقين القرآني والنبوي. والله تعالى أعلم. ومن الجدير بالذكر أن آيات التوبة التي نحن في صددها ليست هي الوحيدة في بابها. فإن الآيات التي تندد بحبّ المال حبّا جمّا والتكاثر فيه والبخل به عن سبيل الله والمحتاجين وبالذين ينهجون هذا المنهج وتنذرهم قد تكررت كثيرا في سور عديدة مكيّة ومدنيّة. وكل ما في الأمر أن أسلوب آيات التوبة قد جاء على أشدّ ما يكون زجرا وإنذارا حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت ذلك في أواخر ما نزل من القرآن ليظلّ شديدا على الأسماع والأذهان والله أعلم.

_ (1) تاريخ الطبري ج 3 ص 291.

[سورة التوبة (9) : الآيات 36 إلى 37]

[سورة التوبة (9) : الآيات 36 الى 37] إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37) . (1) النسيء: من الإنساء وهو التأجيل. والتعبير اصطلاح على تقليد جاهلي لتبديل أعيان الأشهر المحرمة بالتقديم والتأخير. تعليق على الآية إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً ... والآية التي بعدها وما ورد في صددهما من روايات وما انطوى فيهما من صور ودلالات وتلقين وأحكام المستلهم من روح الآيتين وفحواهما أنهما بسبيل التنبيه على حرمة الأشهر الحرم بأعيانها وأعدادها معا. والتنديد بالنسيء الذي يؤدي إلى الإخلال بحرمة أعيانها مع محافظته على أعدادها. وأسلوب الآيتين تقريريّ يتضمن تقرير ما يلي: إن الله قد جعل للزمن منذ خلق السموات والأرض دورة تتجدد كل سنة. وجعل في كل سنة اثنتي عشرة دورة ثانية متجددة تظهر في مشاهد القمر وهي الشهور. ومن هذه الشهور أربعة محرّمة بأعيانها. وهذا هو الحق القويم ويجب على المسلمين مراعاته وعدم ظلم أنفسهم بفعل ما يخلّ به وفي عادة النسيء الذي سار عليها العرب في الجاهلية إخلال به. وفي سير الكفار عليه زيادة في الكفر لأنه وإن كان فيه رعاية للعدد فإن فيه تحليلا لأشهر حرّمها الله بأعيانها وتحريما لأشهر أحلّها الله بأعيانها والاكتفاء بالمحافظة على العدد وحسب، مع أن الواجب أن

ترعى حرمة العين كما ترعى حرمة العدد. وهذا مما زيّن للكافرين من عاداتهم السيئة فلا يجوز للمسلمين أن يتبعوه. وقد جاء في الفقرة الأخيرة من الآية الأولى حثّ للمسلمين على قتال المشركين كافة ومجتمعين ومتضامنين كما يقاتلهم المشركون كذلك. وتطمين لهم بأن الله تعالى مع المتقين لحرماته يؤيدهم وينصرهم. ولا يروي المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في سبب نزول الآيتين اللتين تبدوان في الظاهر أن لا صلة لهما بما قبلهما ولا بما بعدهما. وكل ما قاله الطبري أن فيهما حثّا للمسلمين على قتال المشركين جميعا متفقين ومؤتلفين وغير متفرقين كما يفعلون هم ذلك. ولم يذكر تأويلا لسبب ذكر عدة الشهور والأشهر الحرم والنسيء. وقال البغوي وابن كثير إن جملة وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً هي في صدد تبرير حصار النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين للطائف في شهر ذي القعدة المحرم استمرارا لما بدأ به في شوال. وحصار الطائف كان بعد قليل من فتح مكة ويوم حنين أي في السنة الثامنة على ما ذكرناه قبل. وهذه الآيات نزلت في سياق آيات أخرى بين يدي غزوة تبوك التي كانت بعد سنة تقريبا من ذلك. ولا تبدو حكمة من إقحام ذلك في هذا السياق. ولم يذكر المفسران بدورهما شيئا من أسباب وحكمة ذكر عدة الشهور والنسيء. وليس في كتب التفسير الأخرى التي بين أيدينا شيء مهم آخر في هذا الصدد. ولقد ذكرت الروايات أن غزوة تبوك قد كانت في شهر رجب من العام الهجري التاسع «1» . وذكرت كذلك أن وقفة الحجّ في الحجة التي حجّها أبو بكر رضي الله عنه في هذا العام بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ونيابة عنه كانت في شهر ذي القعدة بدلا من شهر ذي الحجة «2» بناء على إعلان إنساء في العام السابق. حيث صار بهذا الإعلان الأشهر الحرم الثلاثة المتوالية شوال وذا القعدة وذا الحجة بدلا من ذي

_ (1) انظر ابن سعد ج 3 ص 218. (2) المصدر نفسه ص 238.

القعدة وذي الحجة والمحرم وصارت الوقفة في ذي القعدة وصار المحرّم حلالا. ونتيجة لذلك تغير رجب عن مكانه الصحيح وهو رابع الأشهر الحرم بسبب موسم ديني كان يقوم في الحجاز فيه وقد سمي لذلك رجب مضر على ما شرحناه في سياق تفسير سورة البقرة. فالذي يخطر بالبال أن النبي صلى الله عليه وسلم لما استنفر الناس إلى غزوة تبوك وكان ذلك في رجب اعترض البعض على السير للقتال في هذا الشهر لأنه شهر محرم أو لاحظوا ذلك فنزلت الآيتان ليعلن بهما: أولا: إن هذا الرجب ليس هو الرجب المحرّم الأصلي وإن مكان الرجب المحرم الأصلي هو جمادى الثانية. لأن رجب يأتي بعد المحرّم بستة أشهر. وقد صار ذو الحجة في هذا العام بديلا عن المحرم فصار رجب هذا العام غير الرجب الأصلي ويكون الرجب الأصلي هو جمادى الآخرة. وثانيا: إن السير إلى غزوة تبوك في رجب هذا العام ليس فيه إحلال بحرمة شهر المحرم لأن رجب هذا العام ليس هو الشهر المحرم الأصلي. وثالثا: إن تقليد النسيء باطل وكفر وضلال ولو أن فيه مواطأة لعدة الأشهر المحرمة لأن الحرمة ليست للعدة فقط بل هي لعين الأشهر أيضا. فإذا صح هذا ونرجو أن يكون صحيحا والشرح يقوي صحته ورجحانه على أي احتمال آخر، فتكون الآيتان قد نزلتا في المناسبة التي نزلت فيها الآيات السابقة واللاحقة ويكون السياق منسجما ومتلاحقا. ولقد حجّ النبي صلى الله عليه وسلم في العام الثاني لحجة أبي بكر أي في العام العاشر للهجرة. وكان ترتيب الأشهر الحرم قد عاد إلى أصله فكان مما قاله في خطبة الوداع «إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» «1» . وهكذا حسم أمر وجوب الاحتفاظ

_ (1) روى هذا الحديث البخاري انظر التاج ج 4 ص 116، 117. وروى الطبري هذا الحديث بطرق عديدة أيضا.

بأعداد الأشهر الحرم وأعيانها وترتيبها دون أي إخلال. وجملة: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً قد تبدو ولا صلة لها بالمناسبة. غير أن المتعّن في الآية [31] يكشف عن صلتها الوثيقة بها لأنها حكت نسبة اليهود عزيرا إلى الله بالبنوّة ونسبة النصارى المسيح إلى الله بالبنوّة واتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله في حين أنهم لم يؤمروا إلّا بعبادة إله واحد ونزّهت الله تعالى عما يشركون. وبهذا دخلوا في زمرة المشركين. وهكذا يطّرد الكلام ويستقيم ويتوثق الانسجام في السياق. ولقد دأب المفسرون على وصف هذه الجملة بآية السيف مثل الآية [5] من هذه السورة وظلوا يقررون أنها ناسخة لكل ما جاء في القرآن في صدد التساهل والتعاقد مع المشركين وقبول غير الإسلام منهم على ما ذكرناه في مناسبات عديدة سابقة. ولقد أدخلت الآية [31] النصارى واليهود- أهل الكتاب- في زمرة المشركين وأذنت بالكفّ عن الأعداء المحاربين منهم إذا رضخوا للمسلمين وأعطوهم الجزية. وهذا دليل قرآني على عدم نسخ الآية للآيات الأخرى فضلا عن كون ذلك غير متسق مع المبادئ القرآنية العامة ولا مع طبائع الأمور على ما شرحناه قبل قليل. وفي الجملة تفسير لمقصدها. فالأعداء المشركون- ومنهم المنحرفون من أهل الكتاب- يقاتلون المسلمين كافة ومجتمعين وبكل حماسة فيجب أن يكون قتال المسلمين لهم مثل ذلك. وفي الجملة والحالة هذه توكيد على المبادئ القرآنية العامة التي نبهنا عليها بدلا من كونها تنقضها وتنسخها! ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره «1» عن أهل التأويل في صدد جملة فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ. فهناك من صرفها إلى جميع الأشهر. وهناك من صرفها إلى الأشهر الحرم. وهناك من أول الظلم بالإثم والمنكر عامة. والذين صرفوها إلى الأشهر الحرم وصرفوا الظلم إلى الإثم والمنكر قالوا إن النهي هو بسبب كون الظلم فيها أشدّ إثما منه في غيرها. وهناك من صرف الظلم إلى

_ (1) انظر أيضا البغوي والخازن وابن كثير. [.....]

الإخلال بحرمة الأشهر الحرم وعمل ما هو محرّم فيها مما هو غير محرّم في غيرها كالصيد والقتال أو تبديل أعيانها وجعل حلالها حراما وحرامها حلالا. وقد رجح الطبري قول من قال إنها في صدد الأشهر الحرم وتنظيم حرمتها وعدم استحلال حرامها. وهو الصواب المتبادر من مقام الجملة وروحها. والله أعلم. والنسيء تقليد جاهلي متصل بحرمة الأشهر الحرم. ويظهر من فحوى الآية وروحها أنه بدعة ابتدعت فيما بعد. ومما روي «1» عن ذلك أنه كان يتولى إعلان النسيء زعيم بيت معين من بيوتات العرب يوم الحج الأكبر إذا رأى ذلك مناسبا أو طلب منه الناس فيعلن مثلا بأن يكون شهر شوال القادم حراما فيصبح شهر المحرم حلالا ويتغير موعد الحج فتكون الوقفة في شهر ذي القعدة بدلا من ذي الحجة. ويكون ذو الحجة بديلا عن المحرم. ثم يعلن في سنة ثانية بأن يعود المحرم محرما فتعود الأشهر الحرم إلى ترتيبها أو يعلن أن صفر العام القابل محرما فيصير بدء الأشهر الحرم الثلاثة المتوالية ذا الحجة وتكون الوقفة في شهر المحرم. وقد روي أن صاحب النسيء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان أبا ثمامة جنادة بن عوف بن أمية الكناني حيث كان يوافي الموسم فينادي يوم الحج الأكبر فيقول: ألا إن أبا ثمامة لا يعاب ولا يخاب فيقال له نعم فيعلن تقديم الأشهر الحرم أو تأخيرها شهرا. ويروى أن أبا ثمامة ورث المهمة عن أبيه أمية. وهذا عن أبيه قلع وهذا عن أبيه عبّاد وهذا عن أبيه حذيفة الذي كان أول من تولّى مهمة إعلان النسيء. ومما يروى أن العرب كانوا يطلبون من صاحب النسيء إعلان ذلك ليتمكنوا من متابعة حرب تعطلت بدخول الأشهر الحرم دون انتظار طويل. ويروى إلى هذا ما يفيد أن هذا التقليد قد ابتدع لموازنة الفصول حيث كان من شأن السير في حساب أشهر السنة على حساب القمر أن تتبدل مواعيد الحج وتدور على الفصول فكان يراد بالنسيء إبقاؤه في موسم أو فصل واحد. ونحن نميل إلى ترجيح كون الأصل في النسيء هو الرواية الأخيرة لأنها متسقة مع طبائع الأشياء كما أن من الممكن الاستدلال على رجحانه

_ (1) انظر لأجل هذه النبذة تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي وتاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي ج 5 ص 234 وما بعدها.

بأسماء الأشهر نفسها. ففي أسماء الأشهر العربية المستعملة دلالات على الفصول وموسم الحج معا مثل ذي الحجة وربيع الأول وربيع الثاني ورمضان. وأسماء الأشهر المتداولة الآن مبدلة عن أسماء سابقة حيث كانت الأسماء هكذا: المؤتمر بدلا من المحرم ثم ناجر وخوات ومصان وحنتم ورباء والأصم وعاذل ونافق وغل وهواع وبرك. وهناك روايات فيها أسماء بدلا من أسماء. وفي تسمية رمضان دلالة على شدة الحرارة لأنها من الرمضاء على ما هو متفق عليه عند علماء اللغة. ويعقبه شوال وهو ليس محرما ثم تأتي الأشهر المحرمة الثلاثة وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وهي أشهر الحج. فمن المحتمل أن يكون تقليد الأشهر الحرم للحج قد ضعف لسبب ما، ثم جاءت ظروف قضت تقويته وتجديده. وربما كان ذلك لاتجاه أنظار العرب إلى الكعبة في الظرف الذي غزا الأحباش فيه اليمن وقوّضوا السلطان العربي عنها وسيطروا عليها. وكان الرومان مسيطرين على بلاد الشام وعربها والفرس مسيطرين على بلاد العراق وعربها. وكانت الحجاز وحدها تحتفظ باستقلالها. وربما كان ذلك في آخر صيف وكان رمضان يصادف شهر آب وشوال يصادف شهر أيلول فصارت أشهر الحج الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم مصادفة لأشهر تشرين أول وتشرين ثاني وكانون أول وهي أشهر معتدلة الطقس يمكن السير فيها في جزيرة العرب بسهولة ويسر. فلما أخذت الفصول تتبدل لأنها تابعة لدورة الشمس ورأى العرب أن أشهر الحج صارت تصادف موسم البرد الشديد أو الحرّ الشديد ابتدعوا تقليد النسيء وصاروا في كل بضع سنين يقدمون وقت الأشهر المحرمة شهرا أو يؤخرونه شهرا حتى تظل أشهر الحج تأتي في موسم معتدل الطقس. ولما كانت اللغة الفصحى قد صارت كذلك قبل البعثة النبوية بمائة وخمسين سنة أو نحوها ولما كانت أسماء الأشهر العربية هي من الفصحى فيمكن القول إن هذه البدعة ابتدعت من نحو مائة وخمسين سنة. وإذا صح ما روي أن حذيفة الكناني هو أول من قام بمهمة النسيء فيكون هذا التقدير في محله لأنه أعقبه إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أجيال. ولا نريد أن ننفي بترجيحنا القول الثاني نفي القول الأول. فإن ما يحتمل

كثيرا أن يكون النسيء الذي جعل في أول أمره لموازنة الفصول قد أسيء استعماله مؤخرا فصار الناس يطلبونه لأغراض حربية وثأرية. ولعل هذا كان من أسباب إلغائه المباشرة فضلا عن حكمة أخرى تنطوي في الإلغاء وهي سدّ الباب أمام الجرأة على انتقاص الحرمات والتلاعب فيها. وهذا المعنى منطو في الآية الثانية من الآيتين اللتين نحن في صددهما. والله تعالى أعلم. وتقليد الأشهر الحرم هو تقليد عربي خاص كما هو واضح في حين أن عدة الشهور اثْنا عَشَرَ شَهْراً هو ناموس كوني. ولهذا فالمتبادر أن تعبير مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ مرتبط بما بعده وليس بما قبله. وكتب التفسير تذكر تعليلا لتسمية ذي القعدة بأنه الشهر الذي كان العرب الذين يعتزمون الحج يرتحلون فيه إلى مكة ويقعدون بسبيل ذلك على رواحلهم ولتسمية ذي الحجة بأنه الشهر الذي يتمّ فيه الحج. أما تسمية المحرم الذي لا تكون فيه مناسك حجّ فقد قالوا إنها بسبيل توكيد تحريم القتال فيه. لأنّ الشهر الذي ينصرف الحجاج فيه إلى منازلهم فيكون فيه مجال اللقاء والقتال. وفي التعليلات وجاهة ظاهرة. أما تسمية رجب وهو الشهر المحرم الرابع، فهي مشتقة من الترجيب وهو التعظيم على ما قالوه فينطوي فيها سبب أو مدى تحريمه كما هو المتبادر. ولقد تعددت أقوال المؤولين في تأويل جملة ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فمنهم من قال إنها بمعنى الحساب الصحيح، أو الحقّ دون تبديل وتعديل بالنسيء. ومنهم من قال إن معناها أن ذلك هو الأصل الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل. وكلا القولين وجيه. والثاني متصل بما كان يتداوله العرب من إرجاع أصول الحج إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام على ما مرّ شرحه في مناسبات سابقة. وعلى كل حال فإن في الجملة إيذانا بأنّ هذا التقليد على وجهه المحدد هو من حيث الأصل من التقاليد الدينية الملهمة أو الموحاة من الله عزّ وجلّ. ويؤيد هذا جملة لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ وفي هذا توكيد لما قلناه في

[سورة التوبة (9) : الآيات 38 إلى 41]

المناسبات السابقة من أن العرب في الجاهلية كانوا يعتقدون أن تقاليد الحجّ هي تقاليد دينية موحاة من الله عزّ وجلّ ومن هنا استحكم فيهم التنديد. والأشهر الحرم الثلاثة هي أشهر الحج. ويبدو أنها قدرت لتكون كافية لرحلة أي عربي من أي منزل وبلد إلى الحج وعودته إلى مأمنه. أما شهر رجب فيستفاد من الروايات أنه كان يقام في أثنائه موسم ديني في الحجاز. لا صلة له بموسم الحج ولعلّه موسم زيارة الكعبة المعروفة بالعمرة. وعند المسلمين تقليد أو اصطلاح (الزيارة الرجبية) ولعلّه متصل بذلك. ويبدو من خلال الروايات ومن قصر المدة أنه كان موسما حجازيا لا يشترك فيه إلّا أهل الحجاز «1» . والله أعلم. [سورة التوبة (9) : الآيات 38 الى 41] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) . (1) اثّاقلتم إلى الأرض: أثقلتم مقاعدكم في الأرض. والجملة كناية عن عدم المسارعة إلى الاستجابة إلى دعوة النفرة في سبيل الله ومقابلتها بالبطء والتثاقل.

_ (1) انظر تاريخ العرب قبل الإسلام جواد علي ج 5 ص 237- 239.

(2) خفافا وثقالا: قيل في تأويل اللفظين إنهما بمعنى حمل السلاح خفيفه وثقيله. وقيل إنهما بمعنى النفرة إلى سبيل الله مشاة وركبانا. أو شيوخا وشبانا. أو مع أسرهم وبدونها. أو سواء أكانوا مشاغيل أم لا. أو فقراء وأغنياء. وعلى كل حال فالمراد بهما الاستجابة إلى النفرة في أي حال وإمكان وصورة وعدة. في هذه الآيات: 1- تنديد وعتاب موجّه للمسلمين على تثاقلهم وعدم نشاطهم حينما يدعون إلى النفرة إلى الجهاد في سبيل الله. 2- وسؤال على سبيل الإنكار والعتب عمّا إذا كانوا قد رضوا بالحياة الدنيا بدلا من الآخرة مع أن مدة الحياة الدنيا ومتاعها بالنسبة للآخرة قليلة تافهة. 3- وإنذار لهم بأنهم إذا لم ينفروا يعرضون أنفسهم لعذاب الله الأليم. ولغضبه واستغنائه عنهم واستبداله إياهم بغيرهم وهو القادر على كل شيء. ولن يضرّوه شيئا. 4- وتذكير منطو على العتاب والتحدي: فإذا لم ينصروا النبي ويلبّوه فإن الله ناصره وكفى به نصيرا. وهو الذي نصره حينما اضطرّه الكفار إلى الخروج فخرج ليس معه إلّا صاحبه ولبثا في الغار. وقد ألمّ بصاحبه الخوف والحزن فهتف به لا تحزن إن الله معنا. وقد أنزل الله عليه سكينته وأيّده بجنود لم يرها أحد. ثم كان من أمره أن أظهره الله على جميع أعدائه حتى صارت كلمة الله هي العليا وكلمة الكفار هي السفلى. 5- وتعقيب على هذا كلّه بأمر المسلمين بالنفرة خفافا وثقالا على كل حال وبأي إمكان وصورة وبدون أي اعتذار وتعلّل وبالجهاد بالمال والنفس في سبيل الله فذلك خير لهم لو كانوا يعلمون.

تعليق على الآية يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ... والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين وما روي في صددها من روايات وموجز خبر غزوة تبوك وأسبابها وأحداثها

تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ... والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين وما روي في صددها من روايات وموجز خبر غزوة تبوك وأسبابها وأحداثها والمفسرون «1» متفقون على أن هذه الآيات وما بعدها هي في صدد استنفار المسلمين إلى غزوة تبوك وما جرى فيها من أحداث وصور وبعض مواقف المسلمين والمنافقين في أثنائها وقبلها في سياق ذلك. وفي الآيات التالية لها بعض القرائن على ذلك. ولقد ذكرنا قبل أن منطقة تبوك وما وراءها كانت مأهولة بقبائل نصرانية وكان سلطان الروم ممتدا عليها. وأن الآية [29] وما بعدها هي بسبيل غزوة تبوك. وهكذا تكون الآيات استمرارا للسياق. والعتاب والتنديد في الآيات عام التوجيه إلى المسلمين. غير أن الآيات التالية احتوت دلائل صريحة على أن الذين وقفوا الموقف الموصوف في الآيات في مناسبة غزوة تبوك هم المسلمون المستجدون والمنافقون وذوو القلوب المريضة وفريق من الأعراب. ومثل هذا العتاب والتنديد جاء في فصول قرآنية عديدة في سور عديدة أيضا. واحتوت دلائل صريحة وضمنية على أن المقصود بهما هذه الفئات أيضا. ولما كانت غزوة تبوك هي آخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم فإن هذا يعني أن هذه الفئات التي كانت تقف المواقف المستوجبة للعتاب والتنديد ظلت تقف نفس المواقف إلى أواخر العهد المدني. وظلت من أجل ذلك عرضة للعتاب والتنديد بل للمقت الرباني الذي انطوى في آيات سورة الصف هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ

_ (1) انظر الطبري والبغوي والنسفي والنيسابوري والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري.

يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4) «1» . أما السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان فقد كانوا يسارعون إلى تلبية كل دعوة إلى الجهاد والتضحية وتنفيذ أوامر النبي صلى الله عليه وسلم في مختلف الأوقات وظلوا كذلك إلى النهاية على ما احتوت الإشارة إليه والتنويه بهم من أجله آيات كثيرة في سور سابقة وآيات أخرى في هذه السورة. والعتاب والتنديد والإنذار وتهوين أمر الدنيا في الآيات قد جاء بأسلوب قوي قارع حيث يدل هذا على أن موقف المتثاقلين المتباطئين والمنافقين ومرضى القلوب كان شديد الوقع والأثر. وفي آيات أخرى من السورة استمرار في ذلك وفضح لمواقف سابقة ولاحقة لهم حيث يوثق ذلك تلك الدلالة. ومع خصوصية الآيات الزمنية يظل ما فيها من نداء وتنديد قارعا مستمر المدى بالنسبة لكل موقف مماثل يتثاقل فيه بعض الجماعات الإسلامية عن النفرة إلى الجهاد في سبيل الله. إذا ما دعت الحاجة إليه والتضامن في الدفاع عن الإسلام ومصالح المسلمين. وغزوة تبوك التي قلنا إن المتفق عليه أن معظم هذه السورة نزلت فيها كانت كما قلنا آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم وأعظمها حشدا وأبعدها شقة. وكانت في السنة الهجرية التاسعة أي بعد فتح مكة بنحو سنة. وآيات السورة لا تذكر وقائع وإنما هي بسبيل التنويه والتعليم والعظة والتنديد بسبب ما كان في سياقها وأثنائها من مشاهد ومواقف وصور متنوعة جريا على الأسلوب القرآني. ولقد روى المفسرون ورواة السيرة والمؤرخون القدماء روايات عديدة فيها بيانات كثيرة عن هذه الغزوة. خلاصتها أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن الروم جمعت جموعا كثيرة بالشام وأجلبت معهم لخم وجذام وعاملة وغسان من العرب النصارى وقدموا طلائعهم يريدون غزو الحجاز، ولعلهم كانوا يقصدون الرد على غزوة المسلمين

_ (1) هناك آيات أخرى من هذا الباب أو قريبة منها في سور مرّ تفسيرها مثل آيات آل عمران [156 و 166- 168] والنساء [71 و 73 و 88 و 89 و 137- 143] والمائدة [52] والأحزاب [12- 20] وسيأتي في هذه السورة آيات عديدة أخرى من هذا الباب.

لمؤتة في السنة الثامنة. وهي الغزوة التي كانت تحت قيادة زيد بن حارثة. والتي أشرنا إليها في مناسبة قريبة من هذه السورة فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع أكبر عدد ممكن من المسلمين ويخرج بهم إلى مشارف الشام إرهابا للأعداء. فاستنفر الناس بدوا وحضرا واستعانهم بالمال ولم يزل بهم محرضا مرغبا ومنذرا حتى تمكن من جمع جيش عظيم بلغ على ما ذكرته الروايات ثلاثين ألفا فيه عشرة آلاف فرس. وقد سمّي الجيش بجيش العسرة بسبب كون الوقت كان صيفا قائظا وحالة المسلمين الاقتصادية سيئة والشقة بعيدة. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم اعتاد أن يكني ولا يفصح عن المكان الذي يغزوه إلّا هذه الغزوة حيث صرّح لهم بقصده ليكونوا على بينة واستعداد. وكان من مشاهد هذه الحركة أن تبرّع بعض أغنياء الصحابة المخلصين كعثمان بن عفان بمبالغ طائلة سددت ثغرات واسعة من الحاجة كما كان من مشاهدها تسابق فقراء الصحابة المخلصين إلى التبرع بجهدهم والانضمام إلى الجيش. وبكاء وحزن بعض المسلمين الذين لم يتسن لهم الاشتراك في الحملة بسبب فقرهم وعدم إمكان مساعدتهم على تحقيق رغبتهم «1» . وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم بجيشه العظيم في شهر رجب فوصل تبوك بعد عشرين يوما وعسكر فيها ولم يتعدها. ولم يجد فيها ما بلغه من جموع حيث كانوا تفرقوا حينما بلغهم مسيره. ولم يشتبك مع أحد بحرب. وقد أقام نحو شهر ثم قفل راجعا. ولم تخل الغزوة من مكاسب مادية وسياسية ومعنوية.

_ (1) روى الترمذي عن عبد الرحمن بن خباب قال شهدت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحثّ على جيش العسرة فقام عثمان فقال يا رسول الله عليّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله. ثم حضّ على الجيش فقام عثمان فقال يا رسول الله عليّ مائتي بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله. ثم حضّ على الجيش فقام عثمان فقال يا رسول الله عليّ ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله. فنزل رسول الله وهو يقول ما على عثمان ما عمل بعد هذه. وروى عبد الرحمن بن سمرة قال جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في كمّه حين جهز جيش العسرة فنثرها في حجرة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها في حجره ويقول ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم. (التاج ج 3 ص 293) . أما المشاهد الأخرى فقد أشير إليها في آيات من هذه السورة.

فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سراياه ورسله في أنحاء المنطقة. فوافاه نتيجة لذلك إلى تبوك يوحنه بن رؤبة وأهل جربا وأذرح فصالحوه على الجزية وكتب لهم كتب أمان. وسعى إليه يهود مقنا بنو جبنة وبنو العريض وبنو عاديا فوجدوه قد رجع إلى المدينة فلحقوا به وصالحوه على الجزية وأخذوا منه كتاب أمان. وقد كان من السرايا التي سيرها سرية بقيادة خالد بن الوليد إلى أكيدر صاحب دومة الجندل. وقد استطاع خالد أن ينتصر عليه ويأسره واضطره إلى الصلح على 2000 بعير و 800 رأس رقيق و 400 درع و 400 رمح وحمله معه إلى المدينة حيث أسلم على يد النبي صلى الله عليه وسلم فكتب له كتاب عهد.. وعلى كل حال فقد كانت هذه الغزوة في الجملة موطدة لهيبة النبي والمسلمين في هذه الأنحاء وقرعة قوية للأسماع والأذهان بالنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته فيها وفيما وراءها وتدشينا للخطوات التاريخية الخالدة التي خطاها خلفاؤه الراشدون من بعده. ولقد كان من بين الوفود التي تدفقت على المدينة في السنتين التاسعة والعاشرة وفود عديدة من هذه الأنحاء فبايعت النبي على الإسلام. والمستفاد من الروايات أن من المنافقين من اشترك في الحملة ومنهم من اعتذر وتخلف. وكان هذا شأن الأعراب أيضا. أما المخلصون فلم يتخلف منهم قادر بدون عذر إلّا ثلاثة. وهذا وذاك مستفاد من بعض آيات السورة أيضا على ما سوف يأتي بعد. وهذا يؤيد صحة ما روي من العدد العظيم الذي اشترك في الحملة. ولقد روى ابن هشام أن عبد الله بن أبي كبير المنافقين ضرب عسكره مع من ينضوي إليه منفردا وكان فيما يزعمون- والتعبير لابن إسحاق الذي يروي عنه ابن هشام- ليس أقل العسكرين. ثم اعتذر وتخلف مع قسم كبير من رفاقه. وقد روت بعض الروايات أن عدد المتخلفين من المنافقين وذوي القلوب المريضة بعد اعتذارهم بأعذار كاذبة وإذن النبي لهم كان نحو ثمانين «1» . والرواية السابقة التي

_ (1) ذكر هذا في حديث طويل رواه الشيخان والترمذي عن كعب بن مالك سنورده في سياق تفسير الآية [118] من هذه السورة.

شكّ فيها ابن إسحاق بحقّ لا يمكن أن تصح لأن آيات عديدة في هذه السورة وقبلها مما نزل بعد التنكيل الحاسم باليهود ذكرت ما كان يعتري المنافقين من خوف وما كان من أيمانهم المغلظة على إخلاصهم مما لا يعقل أن يكون ذلك منهم لو كانت لهم مثل هذه القوة. وكانوا قبل ذلك معتدّين بأنفسهم حتى بلغ من أمرهم أن قالوا لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ على ما شرحناه في سياق سورة المنافقون. ورواية كون عدد المتخلفين من المنافقين نحو ثمانين مما يؤيد ما نقول. وكانوا أكثرية المنافقين على ما يستفاد من آيات السورة. والرواية معقولة لأن المستفاد من الآيات أن المستأذنين المتخلفين هم ذوو الطول أي الأغنياء. وهؤلاء محدود والعدد دائما. ونكتفي بهذه الخلاصة على أن نشرح الصور والمواقف الأخرى في مناسبات الآيات التي أشير إليها فيها. ولقد روى الطبرسي عن السدي أن الآية الأخيرة قد نسخت بآية التوبة هذه لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ [91] لما علم الله من أن أصحاب هذه الأعذار عاجزون عن النفرة. وروى ابن كثير عن ابن عباس وعكرمة أنها نسخت بآية التوبة هذه وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ [122] . ومع أن الآية في مقامها هي في معرض التثريب على المتثاقلين والتحريض على النفرة فإن في الآيتين المذكورتين تعديلا أو استدراكا لحكم الآية من الناحية الموضوعية كما هو المتبادر. هذا، ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية [40] حديثا عزاه إلى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء. أي ذلك في سبيل الله. فقال من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» حيث يحتوي الحديث تنبيها على وجوب إخلاص القتال في سبيل الله.

تعليق خاص على الآية إلا تنصروه فقد نصره الله ... إلخ.

تعليق خاص على الآية إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ ... إلخ. في هذه الآية إشارة خاطفة إلى حادث خروج النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرا من مكة إلى المدينة. وقد جاءت كما شرحناه قبل على سبيل التنديد بالمتثاقلين عن النفرة إلى الجهاد وتنبههم إلى أن الله كفيل بنصر رسوله إن لم ينصروه. وقد نصره من قبل حين أخرجه الكفار من مكة. وهي الإشارة الوحيدة في القرآن الصريحة إلى هذا الحادث العظيم الذي كان له أعظم الأثر في الرسالة الإسلامية وأدى إلى اندحار الشرك وغدو كلمة الله هي العليا كما جاء في الآية. ولقد أوردنا خلاصة ما روي في صدد هذا الحادث في سياق الآية [30] من سورة الأنفال وأوردنا ما روي من أحاديث نبوية أيضا وعلقنا على كل ذلك بما يغني عن التكرار. والآية لا تذكر اسم صاحب النبي صلى الله عليه وسلم في الغار. ولكن التواتر الذي بلغ مبلغ اليقين أنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه حتى إن بعضهم قال بكفر من أنكر ذلك «1» . ولقد روى الترمذي حديثا عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي بكر أنت صاحبي على الحوض، وصاحبي في الغار «2» . وهناك حديث رواه البخاري والترمذي عن أنس جاء فيه: «إن أبا بكر حدّثه. قال قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار لو أن أحدهم ينظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه. فقال يا أبا بكر ما ظنّك باثنين الله ثالثهما» «3» . حيث ينطوي في الحديثين الصحيحين أدلة نقلية على كون أبي بكر هو صاحب رسول الله في الغار. وفي الآية صورة رائعة لعمق إيمان النبي واعتماده على الله تعالى وما انبثّ في نفسه نتيجة لذلك من رباطة جأش. وصورة رائعة لشدة إخلاص أبي بكر رضي

_ (1) انظر تفسير الآية في تفسير البغوي. (2) التاج ج 3 ص 276. (3) التاج ج 4 ص 117.

الله عنه. والحديث الذي يرويه البخاري والترمذي لا يذكر قول الرسول له «لا تحزن إنّ الله معنا» . وإن كان يذكر معنى ذلك. ويجب الإيمان بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له هذه الجملة لأنها نصّ قرآني قاطع. والتذكير في الآية قوي محكم. وبخاصة الإثارة إلى ما كان من نتائج نصر الله الباهر لنبيّه حيث خرج شريدا خائفا ثاني اثنين. فلم يزل الله تعالى يؤيده وينصره إلى أن أرغم جميع أعداء الإسلام وجعل كلمة الكفر والكفار السفلى وكلمة الله هي العليا في أنحاء جزيرة العرب، وامتد ذلك إلى أطراف الجزيرة من خارجها ثم من خارجها إلى أبعاد شاسعة في مشارق الأرض ومغاربها. ولعلّ في هذه الإشارة صورة خاطفة ولكنها قوية رائعة وتامة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرها ونتائجها. ومن المؤسف المثير أن الشيعة الذين يظهر أنهم لم يستطيعوا نفي صحبة أبي بكر لرسول الله زعموا زورا وكفرا أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخذه معه مخافة أن يشي به للمشركين والعياذ بالله من ذلك. وحاولوا تهوين شأنه في هجرته لله مع رسول الله بفسطات أشبه ما تكون بالهذيان منها بأي شيء آخر «1» متجاهلين أحاديث كثيرة صحيحة في التنويه بفضل أبي بكر وعظم قدره عند الله ورسوله. منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي سعيد قال: «خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال إن الله خيّر عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله. قال فبكى أبو بكر فعجبنا لبكائه. فكان رسول الله هو المخيّر. وكان أبو بكر أعلمنا به. فقال رسول الله إنّ من أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبا بكر. ولو كنت متخذا خليلا غير ربّي لاتخذت أبا بكر ولكن أخوّة الإسلام ومودّته. وفي رواية ولكنه أخي وصاحبي» «2» . وحديث رواه الترمذي عن عائشة قالت: «قال النبي صلى الله عليه وسلم ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه ما خلا أبا بكر فإنّ له عندنا يدا يكافئه الله بها يوم القيامة. وما نفعني مال أحد قطّ ما نفعني مال أبي بكر» «3» . وحديثان آخران رواهما الترمذي عن عائشة جاء في أحدهما «دخل أبو

_ (1) انظر تفسير الآية في تفسير المنار لرشيد رضا. (2) التاج ج 3 ص 275. (3) المصدر السابق نفسه.

[سورة التوبة (9) : الآيات 42 إلى 48]

بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أنت عتيق الله من النار قالت فمن يومئذ سمّي عتيقا» . وجاء في ثانيهما «قال النبي صلى الله عليه وسلم لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمّهم غيره» «1» . [سورة التوبة (9) : الآيات 42 الى 48] لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48) . (1) عرضا قريبا: بمعنى الهدف القريب والغنيمة السهلة المنال. (2) سفرا قاصدا: رحلة قصيرة قليلة العناء. (3) بعدت عليهم الشقة: رأوا الرحلة بعيدة شاقة. (4) انبعاثهم: خروجهم. (5) خبالا: اضطرابا وفسادا. (6) ولأوضعوا خلالكم: لسعوا بينكم بالنميمة والفساد. وأصل الإيضاع الإسراع في السعي والسير. (7) قلبوا لك الأمور: بذلوا جهدهم في الكيد لك. في هذه الآيات: تنديد بالمتثاقلين عن استجابة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى النفرة في

_ (1) المصدر السابق نفسه. وهناك أحاديث صحيحة أخرى في فضائل أبي بكر فاكتفينا بما أوردناه. انظر المصدر نفسه.

سبيل الله والمستأذنين المتخلفين عنها. وبيان لحقيقة أمرهم من جهة وتطمين وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من جهة أخرى بالتقريرات التالية: 1- لو كان ما دعوا إليه غنيمة قريبة المنال أو رحلة قصيرة المسافة قليلة العناء لاتبعوه حرصا على المنفعة الدنيوية. ولكنهم رأوا المسافة بعيدة والرحلة شاقة فبدا منهم ما بدا من الاستثقال. 2- ولسوف يحاولون الاعتذار ويحلفون أن لو استطاعوا لخرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حين أن الله تعالى يعلم أنهم كاذبون. وليست أيمانهم إلّا لتزيد في إثمهم ووسيلة جديدة لهلاكهم وعذابهم. 3- وأذن النبي لهم بالتخلّف حينما استأذنوه بذلك كان خطأ عفا الله عنه. وكان الأحرى به أن لا يأذن حتى تظهر له حقيقة أمرهم ويتبين بذلك الصادق من الكاذب. فإنه لا يمكن لمؤمن مخلص بالله واليوم الآخر أن يستأذن بالتخلف وبأعذار كاذبة عن الجهاد بماله ونفسه. والله يعلم حقيقة المتقين المخلصين ولا يتقاعد عن الجهاد ويستأذن النبي بالتخلف إلا الذين لا يؤمنون إيمانا صادقا بالله واليوم الآخر والذين ارتكسوا في الشكوك والتردد. 4- ولو أرادوا الخروج حقا وكانت معذرتهم التي أدلوا بها للتخلف طارئة حقا لكانوا أعدوا عدة الخروج. ولكنهم لم يفعلوا شيئا من هذا فدل ذلك على تصميمهم من البدء على التخلف وعدم الاستجابة وحق عليهم أن يقال لهم اقعدوا مع القاعدين العاجزين كالصبيان والنساء والطاعنين في السنّ والمرضى والزمنى والعميان ... 5- ومع ذلك فإن الله قد أراد الخير للمسلمين فيما كان منهم لأنه يعلم نواياهم. ويعلم أنهم لو خرجوا معهم لما كان منهم إلا الفساد والسعي بالنميمة وإيقاع الاضطراب في صفوف المسلمين وإثارة الفتنة بينهم. ولا سيما أن في المسلمين من له صلات بهم، يسمع كلامهم ويتأثر به «1» ولذلك لم يشأ الله تعالى

_ (1) بعض المفسرين ومنهم الطبري من أوّل جملة وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ بتأويل ثان مع التأويل الذي أولناه بها وهو أن بينكم أناس غير منافقين عيون لهم ينقلون إليهم أخباركم. والتأويل الذي اخترناه هو الأوجه لأن غير المنافق أجلّ من أن يكون عينا. والله أعلم. [.....]

تعليق على الآية لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك.. والآيات الست التي بعدها وما فيها من صور وتلقين وما روي في صددها من روايات

أن يخرجوا وثبط عزيمتهم وألهمهم التخلف والقعود. 6- ولقد كان هذا الخلق فيهم منذ البداية. فحاولوا إثارة الفتن والفساد والكيد في مختلف المناسبات وبمختلف الصور والوسائل. وإذا كان ظهر منهم شيء من المسايرة والملاينة بعد ذلك فإنما كان لأن الحق قد قوي وأمر الله قد ظهر برغم عنهم فلم يعد يسعهم إلا إظهار ما أظهروه من التزلّف وحسن القصد كذبا. تعليق على الآية لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ.. والآيات الست التي بعدها وما فيها من صور وتلقين وما روي في صددها من روايات ولم يذكر المفسرون أسماء ولا أحداثا معينة في سياق هذه الآيات. وهي كما هو المتبادر استمرار للآيات السابقة أو تعقيب عليها. والصلة بينها وبينها وثيقة وفي الآية الأولى قرينة على صحة ما اتفق عليه الرواة من أن هذه الآيات قد نزلت في مناسبة وصدد غزوة تبوك البعيدة المسافة الشاقة السفر التي لم يكن يؤمل فيها غنائم ويسر وكبير سلامة وعافية بل التي كان الخطر فيها متوقعا أكثر. وفي صيغة وَسَيَحْلِفُونَ وفي جملة عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ وجملة لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ قرائن على أن هذه الآيات قد نزلت في أثناء الرحلة. والآيات تلهم أن تخلّف المتخلفين قد أهم المسلمين بعض الشيء وجعلهم يتحدثون فيه في أثناء سفرهم فاقتضت حكمة التنزيل أن تتضمن ما تضمنته من تنديد بالمتخلفين وتطمين وتسلية للمسلمين. والوصف الذي وصف به المتخلفون يدلّ على أنهم إنما كانوا من المنافقين وذوي القلوب المريضة وإن لم يرد هذا بصراحة في هذه الآيات. وقد احتوت الآيات التالية من السلسلة ذلك صراحة على ما سوف يأتي بعد.

ومضمون الآيات قد يدل على أن فريق المنافقين قد خضدت شوكته وخفتت نأمته كثيرا بعد ما تطور موقف النبي صلى الله عليه وسلم وقوي أمره وتمّ ما تمّ من الفتح وانتشار الدعوة. وأن هذا الفريق صار يفعل ما يفعل ويقول ما يقول من أفعال وأقوال تنم عن نفاقه مواربا متماشيا أكثر من ذي قبل ويكثر الاعتذار وتوكيد حسن النية والطاعة. ولكن أمره لم يكن ليخفى فكانت تفضحه آثار النية الخبيثة والقلب المرتاب بالأقوال والأفعال. ومع أن الآية الثالثة أي الآية [44] قد وردت على سبيل بيان مظهر المؤمن المخلص ومقايسة الموقف الذي لا يمكن أن يقف غيره مع موقف المنافق فإنها احتوت على ما يتبادر لنا إشارة أو دلالة على أن المخلصين قد استجابوا إلى دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بدون تردد فكان موضع تنويه الآية بإخلاصهم وقوة إيمانهم وتفانيهم في طاعة الله ورسوله والجهاد في سبيله بالمال والنفس. وهذا يدعم من جهة الروايات التي تذكر أن عدد الجيش بلغ ثلاثين ألفا ويدل من جهة أخرى على سعة انتشار الإسلام وكون أغلبية الذين انضووا إليه من المخلصين. ولقد روى الطبري وغيره عن مجاهد أن الآية [43] نزلت في جماعة قالوا استأذنوا النبي فإن أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن فاقعدوا كما رووا أن في جملة عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ قد انطوت على عتاب رباني للنبي صلى الله عليه وسلم. وروى الطبري بعد إيراد ذلك أن الله رخص للنبي الإذن لمن شاء في آية سورة النور هذه إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) . هذا في حين أن سورة النور نزلت قبل سورة التوبة وأن آية سورة النور هذه ليست في صدد الاستئذان والإذن بالقعود عن الجهاد. وهي فضلا عن ذلك تثني على المستأذنين وتنوّه بإيمانهم بالله ورسوله. وأن آيات سورة التوبة التي نحن في صددها تنطوي على تنديد بالمستأذنين. ولقد قال البغوي الذي أورد رواية كون

الآية تنطوي على عتاب رباني «وقيل إن الله عزّ وجلّ وقّر النبي ورفع محلّه بافتتاح الكلام بالدعاء له كما يقول الرجل لمن يخاطبه إذا كان كريما عنده عفا الله عنك ما صنعت في حاجتي ورضي الله عنك ألا زرتني» ويتبادر لنا أن هذا التوجيه هو الأوجه الأكثر اتساقا مع مقام الجملة. ولقد حاول الطبرسي والزمخشري أن يوفقا بين ما ظنا أنه متناقض بين التنديد بالمتخلفين من جهة وتقرير كون تخلفهم بإلهام من الله تعالى من جهة أخرى. وقد قال الطبرسي في صدد ذلك «لا ينبغي أن يقال كره الله انبعاثهم بعد ما أمرهم به حيث يقال إنما أمر به على وجه الذبّ عن الدين ونية الجهاد وكرهه منهم على نية التخريب والفساد أو أمرهم به لأنه طاعة وثبطهم عنه لأنه علم بضرره منهم. والآيات كما قلنا قبل جاءت على سبيل التطمين والتسلية ولا نرى محلا للإشكال ولا ضرورة للتكلّف فيه. ولقد روى البغوي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف المنافقين يومئذ فأذن لمن استأذنه على اعتبار أنه صادق في اعتذاره. ومع أن في هذه السورة آية تفيد أنه كان منافقون في المدينة وفي من حولهم من الأعراب لا يعلمهم النبي وهي الآية [101] فإن هناك آيات عديدة في سور عديدة تصف المنافقين وتذكر أقوالهم وأفعالهم وتدمغهم بها دمغا يدل دلالة لا ريب فيها أن كثيرا منهم كانوا معروفين بأعيانهم وأسمائهم عند النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ولقد روى المفسرون أسماء عدد من المستأذنين منهم عبد الله بن نبتل ورفاعة بن تابوت وعبد الله بن أبي وأوس بن قيظي والجد بن قيس وجميع هؤلاء ممن عرف عنهم النفاق والمخامرة. والاحتمال الوارد هو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد أن يتشدد في أمر السفر لما يعرفه من شدة ظروف الغزوة للضرر المادي والمعنوي الذي يترتب على المكرهين عليه فأذن لمن استأذنه سواء أكانوا من المعروفين بنفاقهم أم لا. وفي الآيات [45- 47] قرائن قوية على ذلك. ولقد قال بعض المفسرين إن في الآية [43] دليلا على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد وينفذ اجتهاده. وهذا طبعا فيما لم يكن فيه وحي قرآني. وقد تكررت هذه الظاهرة في مناسبات آيات عديدة نبهنا عليها. حيث كان الوحي إما يقر النبي في اجتهاده أو

[سورة التوبة (9) : آية 49]

يسكت سكوت إقرار أو ينبّه على ما هو الأولى على ما شرحناه في تلك المناسبات. هذا، ومع خصوصية الآيات الزمنية والموضوعية فالواضح أن الصورة التي احتوتها من الصور التي يمكن أن تظهر في ظروف النضال والأزمات والأخطار في مختلف الأزمنة والأمكنة وهي من أجل ذلك يمكن أن تكون مستمد إلهام وتلقين دائم المدى والأثر في الموقف الذي يجب أن يوقف إزاء أصحاب هذه الصورة والحذر منهم وعدم الاعتماد عليهم وعدم فسح المجال لهم للتدخل في الأمور العامة والجولان بين الصفوف المخلصة لتأمين المنافع الخاصة عن طريق تضحيات وجهود المخلصين. [سورة التوبة (9) : آية 49] وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49) . في هذه الآية: 1- صورة خاصة لموقف بعض المنافقين من الدعوة إلى حملة تبوك حيث جاء بعضهم يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم بالتخلف ويرجو عدم تعريضه للفتنة والإثم. 2- وردّ عليه بأنه هو وأمثاله قد تورطوا بمواقفهم التي يقفونها في الإثم والفتنة فعلا كأنما تريد أن تقول لهم إن خوفهم من الفتنة عجيب منهم لأنهم تورطوا فيها بتلك المواقف. 3- وإنذار لهم بأن جهنّم محيطة بالكافرين في كل حال ومآل. ولقد روى الطبري روايات عديدة في صدد هذه الآية منها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في استنفاره الناس يقول انفروا تغنموا بنات بني الأصفر أو بنات الروم. ومنها أن هذا كان لمنافق اسمه الجد كان مغرما بالنساء حيث قال له النبي ذلك أو قال له هل لك بجلاد بني الأصفر فتتخذ منهم سراري ووصفاء فقال له ائذن لي بالقعود ولا تعرضني للفتنة وأنا أعينك بمالي دون نفسي. وقد تكون الروايات أو رواية الجد صحيحة في الإجمال. فإنه لا يستبعد أن

[سورة التوبة (9) : الآيات 50 إلى 52]

يكلّم النبي صلى الله عليه وسلم كل إنسان بما يعرفه فيه من ميول. ومع ذلك فإنه يتبادر لنا سبب آخر للاعتذار وهو أن يكون المعتذر قد اعتذر بشدة رغبته الجنسية وعدم إطاقته الصبر عنها طويلا. فالاستمتاع بالسبي ليس في حدّ ذاته فتنة وإثما حتى يخشى المنافق على نفسه منه. ومهما يكن من أمر فالآية لم تنزل لحدتها كما هو المتبادر من عطفها على ما قبلها وصلتها بالسياق السابق واللاحق. وإنما هي جزء من السلسلة تضمنت صورة من صور اعتذارات المنافقين على سبيل التنديد بهم. وفي الآية دلالة مؤيدة لما قلناه قبل من أن المنافقين كانوا أو كان كثير منهم معروفين بأسمائهم كما هو المتبادر. [سورة التوبة (9) : الآيات 50 الى 52] إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) . (1) حسنة ومصيبة: الكلمة الأولى في مقامها كناية عن النصر والثانية كناية عن الانكسار والهزيمة. (2) قد أخذنا أمرنا من قبل: قد احتطنا لأنفسنا حتى لا نقع فيما وقعوا فيه. (3) تربصون: تتربصون أي تنتظرون وتتوقعون. في الآيات: 1- بيان لما في نفوس المنافقين نحو النبي والمؤمنين المخلصين من نيات وعواطف أو لما هو مفروض أن يكون فيهم إزاء هذه الغزوة بحيث لو أصابهم خير

تعليق على الآية إن تصبك حسنة تسؤهم ... والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين وصور ولم يرو المفسرون شيئا خاصا في صدد الآيات. والمتبادر أنها استمرار للسياق وجزء من السلسلة

ونصر استاءوا واغتاظوا ولو أصابتهم مصيبة وهزيمة حمدوا ما كان منهم من الحذر والاحتياط والتخلف وفرحوا. 2- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يهتف قائلا لهم بلسان الحال إنه لن يصيبنا إلّا ما كتب الله لنا وإنه هو مولانا وإن على المتوكلين أن يتوكلوا عليه وحده. وإنكم مهما تربصتم بنا وانتظرتم نتائج رحلتنا فلن يصيبنا منها إلّا إحدى الحسنيين. حسنى الشهادة والثواب في حالة الموت. وحسنى الفوز والغنيمة في حالة النصر. في حين أن أمركم إلى عذاب لا معدى لكم عنه في حال. فإمّا أن يكون عقوبة مباشرة من الله تعالى وإما أن يكون على أيد منّا فلننتظر معا والأيام بيننا. وما حكي عن المنافقين من نيات هو لسان حالهم. ولهذا قلنا إن النبي أمر بأن يهتف بهم بلسان الحال بالمقابلة. ونرجو إن شاء الله أن يكون فيه الصواب. تعليق على الآية إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ... والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين وصور ولم يرو المفسرون شيئا خاصا في صدد الآيات. والمتبادر أنها استمرار للسياق وجزء من السلسلة ومع خصوصيتها الزمنية والموضوعية فإن الصورة التي ترسمها الآية الأولى من الصور التي تقع من بعض الناس دائما إزاء الآخرين. وفيها تلقين بوجوب الحذر من أصحابها. والآيتان الثانية والثالثة مستمد إلهام قوي للمؤمنين المخلصين يمدهم دائما بالطمأنينة والسكينة. ويبث فيهم الاعتماد على الله وحده. ويحفزهم على الإقدام على عظائم الأمور والتضحيات في سبيل الله ومصلحة المسلمين العامة بنوع خاص برباطة جأش وسكون نفس وقوة قلب وجميل صبر وشدة تحمل. ويجعلهم على يقين بأنهم فائزون غانمون على كل حال إن لم يكن بنصر دنيوي فبثواب الله ورحمته ورضوانه.

[سورة التوبة (9) : الآيات 53 إلى 55]

ولقد أورد البغوي في سياق هذه الآية حديثا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم روى صيغة له البخاري ومسلم مع زيادة مهمة فرأينا أن نوردها بدلا من صيغة البغوي وهي «تضمّن الله لمن يخرج في سبيله لا يخرجه إلا جهادا في سبيلي وإيمانا وتصديقا برسلي. فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل» «1» وينطوي في الحديث تساوق مع ما في الآيات من تلقين جليل مستمر المدى مع التنويه بفضل الجهاد والمجاهدين والحثّ عليه على أن يكون خالصا لوجه الله تعالى. [سورة التوبة (9) : الآيات 53 الى 55] قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (54) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55) . الخطاب في الآيات موجّه للنبي صلى الله عليه وسلم وفيها: 1- أمر بأن يعلن للمنافقين بأن الله لن يتقبل منهم ما يريدون أن ينفقوه طوعا من تلقاء أنفسهم أو رغما عنهم وكرها بضغط الظروف والموقف لأنهم قوم فاسقون. كفروا بالله ورسوله. ولا يقومون إلى الصلاة إلّا مع الكسل وعدم الرغبة الصادقة ولا ينفقون ما يريدون إنفاقه إلّا مع الكراهية والاستثقال. 2- وتسلية وتطمين له: فلا ينبغي أن يأخذه العجب من كثرة أموالهم وأولادهم. فإنما هي وسائل عذاب لهم في الدنيا حتى تزهق أنفسهم وهم كافرون جاهدون.

_ (1) التاج ج 4 ص 291 و 292.

تعليق على الآية قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم ... والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين

تعليق على الآية قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ ... والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين وقد روى الطبري وغيره «1» أن الآية الأولى نزلت بمناسبة ما وعد به المنافق الجدّ من مساعدة مالية حينما استأذن النبي صلى الله عليه وسلم بالقعود والتخلف عن الحملة. ويلحظ أن الأمر في الآية بسبيل إعلان لأكثر من شخص من المنافقين، حيث يفيد هذا أن أكثر من واحد من المنافقين المستأذنين بالتخلف أرادوا أن يجاملوا النبي صلى الله عليه وسلم بالاشتراك في نفقات الحملة. ومهما يكن من أمر فالذي نرجحه أن الآيات لم تنزل لحدتها وأنها استمرار للسياق وجزء من السلسلة. ومع أن صيغة الآيات تفيد في ظاهرها أنها أمر بتوجيه الخطاب إلى المنافقين السامعين له فالذي يتبادر لنا استلهاما من روح الآيات وفحواها وبخاصة الآية الثانية والثالثة منها ثم من نزول السلسلة في أثناء السفر على ما تلهمه بعض آياتها أن هذه الصيغة أسلوبية. وأن الآيات بسبيل التنديد والتقريع وإعلان حالة المنافقين على حقيقتها من كفر وكسل واستثقال وكره أولا ثم بسبيل التهوين مما عندهم من كثرة مال وأولاد. وفي الآيات ما يدل على أن طبقة المنافقين كانت أو كان أكثرها من ذوي اليسار والجاه. ولعل هذا من أسباب ما كان منها من مخامرة ونفاق. وكان هذا من أسباب ما لقيه النبي صلى الله عليه وسلم في مكة من مناوأة على ما شرحناه في مناسبات عديدة في السور المكيّة. والخطاب وإن كان موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه موجه إلى المسلمين من جهة وإلى المنافقين من جهة أخرى أيضا على ما يلهمه روحها وهدفها. للأولين على

_ (1) انظر أيضا البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي.

سبيل التعليم والتعليل والتلقين والتهوين والتسلية. وللآخرين على سبيل التنديد والإنذار والزراية. ولقد تعددت تخريجات المؤولين على ما يرويه المفسرون لما ظنوه إشكالا في جملة إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا من حيث إن الأموال والأولاد في الدنيا يسببون السرور لا العذاب.. من ذلك أن في الجملة تقديما وتأخيرا وأن تقديرها فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ فيصبح معناها إن الله سوف يعذبهم بها في الآخرة بسبب حبسهم أموالهم عن سبيل الله وتفاخرهم بأموالهم وأولادهم وفسادهم في الأرض. ومنها أن عذابهم بها في الدنيا هو وعيد رباني بأنه سوف يسلط عليهم بسبب مواقفهم الصادة عن سبيل الله وتفاخرهم بأموالهم وأولادهم المصائب والضرائب والحسرات. ومنها أن الجملة تنطوي على معنى كون أموالهم وأولادهم هي من قبيل الاستدراج والابتلاء وليست من قبيل الحظوة من الله على ما جاء في آيات عديدة في سور سبق تفسيرها مثل باب سورة القلم [44 و 45] وطه [131] والمؤمنون [54- 56] وآل عمران [118] فلا ينبغي أن يثير ذلك عجب النبي والمؤمنين. والتأويلان الثاني والثالث هما أوجه من التأويل الأول فيما نرى مع القول إنه يصح مزج التأويلين معا. وقد يصح أن يقال أيضا إن حكمة التنزيل هدفت إلى تهوين شأن أموال المنافقين وأولادهم وبث روح القوة والتعالي في نفوس المؤمنين المخلصين. وهو ما انطوى أيضا في الآيات المشار إلى سورها وأرقامها آنفا. وعلى كل حال إن الآيات موضوعيا هي في صدد منافقين مخامرين في إيمانهم وصلواتهم وصدقاتهم. وقد احتوت الآية [54] تعليلا قويا للوعيد الرباني الذي تضمنته الآية [55] ويجب أن يبقى ويؤخذ مدى الآيتين في هذا النطاق. وفي الآيات كما في سابقاتها تلقين مستمر المدى والأثر. فلا ينبغي أن يكون لأموال ذوي القلوب المريضة ومظاهر قوتهم تأثير في الموقف الذي يجب أن يوقف منهم إزاء ما يبدو منهم من تثاقل في أداء الواجبات ورغبة في التفلت منها.

[سورة التوبة (9) : الآيات 56 إلى 57]

ولا ينبغي أن يكون ما يقدمونه أحيانا مساعدات بضغط ظروف المجتمع وسيلة إلى الإغضاء عن المواقف التخريبية والمخامرات الضارة التي تبدر منهم. [سورة التوبة (9) : الآيات 56 الى 57] وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) . (1) يفرقون: يخافون. (2) مدخلا: مكانا يدخلون إليه ليستخفوا فيه. (3) يجمحون: يسرعون. الخطاب في الآيتين موجّه للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين يقرر به: 1- أن المنافقين يحلفون لهم بالله إنهم منهم وعلى ملتهم وهم في الحقيقة ليسوا كذلك. 2- وإنما يحملهم على ذلك فزعهم وخوفهم. وأنهم لو وجدوا ملجأ يعتصمون به أو مغارات يختفون فيها أو مدخلا ما يجعلهم في أمان لسارعوا إلى ذلك تخلّصا من الموقف الثقيل عليهم. والخطر الذي يهددهم ويحملهم على النفاق والمراءاة. تعليق على الآية وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين ولا يروي المفسرون رواية خاصة في صدد الآيتين. والمتبادر أنهما استمرار في السياق والموضوع وجزء من السلسلة. وفيهما توكيد آخر وأقوى لما قلناه قبل من تطور موقف المنافقين وخضد شوكتهم وتناقص عددهم واضطرارهم إلى

[سورة التوبة (9) : الآيات 58 إلى 60]

المجاملة والتوكيد بإخلاصهم أكثر من ذي قبل. كما أن فيهما تقريرا لحقيقة حالهم وعدم تبدلها برغم ما يظهرونه من مجاملة وتوكيد بسبيل فضيحتهم وتقريعهم والتحذير منهم. والصورة التي ترسمها الآيتان قوية رائعة حقّا. وهي من الصور التي تشاهد خاصة حينما يستعلي المخلصون في ظروف النضال. وفيهما تلقين مستمر المدى والأثر بوجوب الانتباه لهذه الفئة وعدم الانخداع بما تظهره من ضروب الرياء والمداهنة. [سورة التوبة (9) : الآيات 58 الى 60] وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) . (1) يلمزك: يطعن فيك أو يعيب عليك. ومعنى الكلمة هنا: ينسب إليك المحاباة. (2) الصدقات: هنا كناية عن الزكاة. (3) العاملين عليها: الموظفين لجبايتها. (4) المؤلّفة قلوبهم: الطبقة التي يراد تأليف قلوبهم وتقوية ارتباطهم بالإسلام ومصلحته. (5) وفي الرقاب: وفي عتق العبيد والمماليك وفكّ رقباتهم من العبودية. (6) الغارمين: المدينين المعسرين أو الذين يتحملون المغارم. في الآيات: 1- إشارة إلى صورة أخرى من صور المنافقين ومواقفهم: فإن منهم من كان

تعليق على الآية ومنهم من يلمزك في الصدقات ... والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين. وما روي في صددها من روايات وما روي من أحاديث وأقوال ومذاهب متنوعة في مصارف الزكاة وتوزيعها ونصاب الزكاة في مختلف الأنواع وجبايتها

ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم المحاباة في توزيع الصدقات ويعيب عليه ذلك. وكان هذا منهم لمنافعهم الخاصة ومآربهم الشخصية حيث كانوا يسخطون إذا لم يعطهم النبي صلى الله عليه وسلم منها ويرضون إذا أعطاهم. 2- وتنديد بهم: فقد كان الأولى بهم أن يرضوا بما آتاهم الله ورسوله وأن يعلنوا ثقتهم واكتفاءهم بفضل الله ورسوله ورغبتهم بما عند الله. 3- وتقرير لأصناف المصارف التي لا يجوز أن تصرف الصدقات إلى غيرها لتعطى لمن لا يستحقها وهي الفقراء والمساكين والموظفون القائمون بأمرها والمؤلفة قلوبهم وعتق العبيد والغارمون وفي سبيل الله وابن السبيل حيث كان هذا فرض الله الواجب الوقوف عنده وهو العليم بمقتضيات الأمور الحكيم الذي لا يأمر إلّا بما فيه الحكمة. تعليق على الآية وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ ... والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين. وما روي في صددها من روايات وما روي من أحاديث وأقوال ومذاهب متنوعة في مصارف الزكاة وتوزيعها ونصاب الزكاة في مختلف الأنواع وجبايتها ولقد روى البخاري حديثا عن أبي سعيد في سياق هذه الآية قال: «إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليه بشيء فقسمه بين أربعة وقال أتألّفهم فقال رجل: ما عدلت فقال النبي صلى الله عليه وسلم يخرج من ضئضىء هذا قوم يمرقون من الدين» «1» . وروى الطبري هذا الحديث بزيادة كبيرة عن أبي سعيد قال: «إن رسول الله كان يقسم إذ جاءه ذو

_ (1) التاج ج 4 ص 118. وروى شارح الحديث أن هذا هو ذو الخويصرة حرقوص بن زهير التميمي. وأن الأربعة الذين تألفهم النبي صلى الله عليه وسلم هم الأقرع بن حابس وعيينة بن بدر وزيد الطائي وعلقمة العامري الكلابي. وهم من مشاهير زعماء قبائل العرب.

الخويصرة التميمي فقال: اعدل يا رسول الله. فقال: ويلك ومن يعدل إن لم أعدل. فقال عمر بن الخطاب ائذن لي فأضرب عنقه، فقال دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. فينظر في قدحه فلا ينظر شيئا ثم ينظر في نصله فلا يجد شيئا ثم ينظر في رصافه فلا يجد شيئا قد سبق الفرث الدم آيتهم رجل أسود إحدى يديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة. يخرجون على حين فترة من الناس. قال أبو سعيد: أشهد أني سمعت هذا من رسول الله وأشهد أن عليا حين قتلهم- يعني الخوارج- جيء بالرجل على النعت الذي نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم» «1» . وروى الطبري أيضا أن رجلا من أهل البادية حديث عهد بالإسلام أتى نبي الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم ذهبا وفضة فقال يا محمد والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ما عدلت. فقال له ويلك فمن ذا يعدل؟ ثم قال احذروا هذا وأشباهه. فإن في أمتي أشباه هذا. يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم فإذا خرجوا فاقتلوهم ثم إذا خرجوا فاقتلوهم ثم إذا خرجوا فاقتلوهم. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: والذي نفسي بيده ما أعطيكم شيئا ولا أمنعكموه إنما أنا خازن. وروي أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بصدقة فقسمها هاهنا وهاهنا حتى ذهبت ورآه رجل من الأنصار فقال ما هذا بالعدل فنزلت الآية. وننبه على أن الطبري لم يذكر أن الآية نزلت إلا في مناسبة الرواية الأخيرة دون الروايتين السابقتين وكذلك البخاري فإنه لم يذكر في حديثه أن الرواية التي تضمنها الحديث كانت سبب نزول الآية «2» . وذو الخويصرة هو حرقوص بن زهير الذي يذكر شراح الأحاديث أنه المعني في الحديث الأول كان على رأس الجماعات التي خرجت من البصرة إلى المدينة واشتركت في الفتنة التي أدت إلى قتل عثمان رضي الله عنه. وبايع عليا رضي الله

_ (1) روى هذا الحديث الشيخان والترمذي أيضا. انظر التاج ج 5 ص 284 و 285. (2) هناك حديثان آخران من باب هذه الأحاديث يرويهما الشيخان والترمذي عن أبي سعيد وفيهما بعض الزيادات (انظر التاج ج 5 ص 283 و 284) . ولم يذكر في سياقهما أيضا أنهما في صدد نزول الآية. فلم نر إيرادهما ضرورة اكتفاء بما أوردناه.

عنه وكان في جيشه مع قومه وحارب معه في وقعة الجمل التي كانت بينه وبين الجموع التي تجمعت حول عائشة والزبير وطلحة رضي الله عنهم للمطالبة بدم عثمان والثأر من قاتليه ثم في وقعة صفين بين علي ومعاوية رضي الله عنهما. ثم كان من الذين خرجوا على عليّ لقبوله التحكيم وقتل في من قتل في وقعة النهروان التي كانت بين علي وأتباعه وبين الخوارج «1» . ولقد روى الطبري أن عليّ بن أبي طالب قال لأتباعه حين انتهت وقعة النهروان إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن قوما يخرجون من الإسلام يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية علامتهم رجل مخدج اليد، وأمر أتباعه أن يلتمسوه بين القتلى وأن يقطعوا يده ويأتوه بها إذا وجدوه. وقد وجدوا فعلا رجلا مخدج اليد بين القتلى فقطعوا يده وأتوه بها فلما رآها قال ما كذبت ولا كذبت «2» . والمشهور أن الخوارج كانوا من أشد المسلمين تعبدا بالصلاة والصيام وقراءة القرآن وتقشفا في الحياة حيث ينطبق كل ذلك على الوصف الذي احتوته الأحاديث. وإذا صح حديث عليّ الذي يرويه الطبري فيكون فيه، وعلى ضوء الأحاديث الأخرى فيكون فيها معجزة نبوية بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بغيب وقع بعد موته. هذا مع التنبيه إلى أن قولنا يصح إذا كانت الوقائع المماثلة أكثر من واحدة. لأن الأشخاص المحكية عنهم متنوعون كما هو واضح من الأحاديث ومع التنبيه كذلك إلى أن روح الآية الثانية قد تلهم أن الذي صدر منه القول أو أحد من صدر منهم القول- إذا كانت الوقائع متعددة- من منافقي المدينة. وهذا ما ينطبق على الرواية الأخيرة. والله أعلم. ومهما يكن من أمر فالذي يتبادر لنا من عطف الآيات على سابقتها. ومن ضمير الجمع الغائب الذي يعبر عن فريق كان موضوع الحديث في الآيات السابقة أن الآيات لم تنزل لمناسبة من المناسبات المروية لحدتها وأنها ليست منفصلة عن

_ (1) انظر تاريخ الطبري ج 3 ص 376 وما بعدها وج 4 ص 52- 65 وننبه على أن الطبري يسميه حرقوص بن زهير السعدي ولا ندري هل هو التميمي أم غيره. (2) المصدر نفسه ج 4 ص 68، 69.

السياق. وكل ما في الأمر أنها احتوت إشارة إلى موقف كان وقفه بعض المنافقين من نوع ما ذكرته الأحاديث في معرض التذكير بأقوال ومواقف المنافقين وتقريعهم والتنديد بهم بمناسبة تثاقلهم عن غزوة تبوك. والموقف الذي حكته الآية الأولى يدل على ما كان من جرأة المنافقين على الطعن في ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدله والتهويش عليه في سبيل منافعهم الخاصة. ويدل على ما كانوا عليه من خبث طوية وفراغ إيمان وقلة ثقة بالله ورسوله. ثم على ما كان النبي يلقاه من هذه الفئة الخبيثة. والذي نرجحه أن ذلك الموقف مما كان يبدر منهم حينما كانوا أكثر قوة أو حينما كان النبي والمسلمون أقل قوة واستعلاء مما صاروا إليه حين نزول الآيات. وقد أشير إليه هنا على سبيل التذكير والتنديد كما قلنا. والموقف المحكي هو في الآية الأولى فقط. أما الآيتان الأخريان فقد جاءتا على سبيل التعقيب والاستطراد حيث احتوت الثانية تنديدا بالمنافقين وتنبيها إلى ما كان الأولى بهم لو كانوا مخلصين حقا وحيث احتوت الثالثة تحديدا للمصارف التي لا يجوز أن تعطى الصدقات لغيرها. ومع أن الآية الثالثة قد جاءت مع الآية الثانية كما قلنا على سبيل التعقيب والاستطراد فإنها هي الوحيدة التي وردت في القرآن عن أصناف مستحقي الصدقات جميعها وكانت من أجل ذلك هي المستند التشريعي في هذا الأمر. والمجمع عليه أن الصدقات المقصودة في الآية هي الزكاة المفروضة خاصة. ولعلّ في ورود جملة فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ في الآية قرينة على ذلك. هذا مع القول إن هذه الجملة قد تكون في نفس الوقت بسبيل التشديد على واجب إبقاء الزكاة في نطاق مصارفها المعينة. والمفروض في الآية الثالثة هو مصارف الزكاة وليست الزكاة. لأن فريضة الزكاة قد فرضت كما استلهمنا من آيات مكيّة منذ أواسط العهد المكي أو قبل ذلك. وقد استلهمنا من آيات مكيّة أخرى أن مقاديرها أيضا كانت معينة في العهد

المكي على ما نبهنا عليه في سياق سور الأنعام والذاريات والمعارج والمزمل. وبناء على ذلك نعتقد أن القول بأن في الآية فرضا للزكاة هو تحميل لها غير ما تحمله نصا وروحا. وغير متسق مع الأوامر القرآنية العديدة المكيّة ثم المدنيّة التي نزلت قبل هذه الآية بمدة غير قصيرة بوجوب إيتاء الزكاة وقرنها بالصلاة واعتبارهما الركنين المتلازمين اللذين لا بد منهما لصحة دعوى الإسلام. ولقد قال بعضهم إن هذه الآية نسخت ما جاء في القرآن من أوامر الصدقة حيث قامت فريضة الزكاة مقام ذلك. وهذا القول منبثق من اعتبار الآية فرضا للزكاة. قد نبهنا على ما في هذا الاعتبار من تجوز قبل قليل. وهذا فضلا عن أن روح الآيات القرآنية الكثيرة المكيّة والمدنيّة تلهم بكل قوة أنها أوسع من أن تحصر الصدقة بالقدر المحدود المستوجب بالزكاة المفروضة. فمهما كثر مقدار هذه الزكاة فإن مجال الإنفاق في سبيل الله في معناها الشامل وفي وجوه البرّ ومساعدة المحتاجين يظل أوسع من أن يملأ ذلك القدر المحدود وتظل حكمة التنزيل مستمرة المفعول بالنسبة للصدقات التطوعية. وفي الآية [103] من هذه السورة التي نزلت بعد الآيات التي نحن في صددها دلالة قوية على ذلك حيث تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ صدقة من أموال الذين يخلطون عملا صالحا وآخر سيئا ليزكيهم ويطهرهم بها. والمتبادر أن هذه الصدقة هي غير الزكاة المفروضة. وهناك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه دليل على ذلك رواه الترمذي عن فاطمة بنت قيس قالت «سألت النبي صلى الله عليه وسلم أو سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الزكاة فقال إنّ في المال لحقّا سوى الزكاة. ثم تلا لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إلى آخر آية سورة البقرة [177] «1» وفيها أمر بإيتاء المال بالإضافة إلى ذكر الزكاة.. وفي الآية الأخيرة من سورة المزمل جملة لها مغزى عظيم في هذا الباب وهي: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً ... وكل هذا يسوغ القول إن الزكاة المفروضة المحددة المقدار بالسنّة النبوية هي

_ (1) التاج ج 2 ص 39.

الحدّ الأدنى لما يجب على صاحب المال أن يؤديه تطهيرا لماله. والزكاة واجبة على جميع الأموال التي تبلغ النصاب الأدنى المعين بالسنّة النبوية. وتشمل الغلات الزراعية شجرا أو حبا والماشية والنقود والعروض التجارية المتنوعة الأخرى كما هو المجمع عليه أيضا. والقرآن لم يعين إلا مصارفها. أما المقادير الواجبة فقد عينتها السنّة النبوية. وإذا لاحظنا أن الآية الثالثة إنما جاءت على سبيل الاستطراد والتعقيب والردّ على اللامزين ظهرت لنا حكمة عدم ذكر المقادير فيها. ويصح أن يقال إن هذا الأمر ترك للنبي صلى الله عليه وسلم يتصرف فيه بإلهام الله وفقا لما تمليه الظروف والمصلحة والإمكانيات. والمصارف الثمانية التي ذكرت في الآية قد جمعت كل وجه محتمل من وجوه الإنفاق سواء أكانت المصالح العامة للإسلام والمسلمين أم الطبقات المعوزة. وهو ما اجتمع في مصارف الغنائم والفيء على ما شرحناه في سياق تفسير آية الأنفال [41] وآية الحشر [7] حيث يبدو التساوق قويا رائعا. وقد يلحظ أن معظم المصارف المذكورة في الآية قد ذكرت في آيات أخرى وردت في سور سبق تفسيرها. منها ما ورد في آيات الغنائم والفيء في سورتي الأنفال والحشر. ومنها ما ورد في آية سورة البقرة [177] حيث جاء فيها وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ.... ويمكن أن يقال إن ما جاء في آية سورة البقرة وما من بابها قد جاء للحثّ على إعطاء الفئات المحتاجة المذكورة فيها بصورة عامة مما قد يدعمه ذكر الزكاة في آية البقرة مستقلا أيضا ثم شاءت حكمة التنزيل أن تجمع مصارف الزكاة المفروضة في آية واحدة ليكون ذلك فرضا إلزاميا فكان ذلك في الآية التي نحن في صددها التي نزلت بعد تلك الآيات. كما يمكن أن يقال في صدد تكرر ذكر بعض مصارف الغنائم والفيء في عداد مصارف الزكاة أن حكمة التنزيل لحظت احتمال عدم تيسر الغنائم والفيء دائما أو عدم كفايتهما للحاجة فشاءت زيادة في العناية

بالفئات المحتاجة أن تكرر ذكر بعض ما ذكر في آيات الغنائم والفيء والله أعلم. وقد يلحظ أيضا في الأصناف الثمانية المذكورة في الآية ثلاثة لم ترد في مصارف الفيء والغنائم. وهي المؤلفة قلوبهم والرقاب والغارمون. وقد تكون حكمة التنزيل اقتضت ذكر هذه الفئات نصّا نتيجة لتطور حالة المسلمين والسلطان الإسلامي. على أن هذه الأصناف لا تخرج في الوقت نفسه عن المجموعتين اللتين يوزع عليهما الفيء والغنائم وهما المصالح العامة والطبقات المعوزة. وقد يلحظ كذلك أنه ليس في مصارف الصدقات اسم (رسول الله) في حين كان هذا الاسم بين مصارف الغنائم والفيء. ولقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة بأوساخ الناس ونبّه على أنها لا تحلّ لمحمد ولا لآل محمد على ما رواه مسلم والنسائي عن عبد الله بن الحارث الهاشمي حيث قال: «إنّ هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس وإنها لا تحلّ لمحمد ولا لآل محمد» «1» . وكان إذا أتي بطعام سأل عنه فإن قيل هدية أكل وإن قيل صدقة لم يأكل على ما رواه الترمذي ومسلم «2» . حتى أنه لم يحلها لمولى من مواليه لأن مولى القوم من أنفسهم على ما رواه أبو داود والترمذي. حيث رويا عن أبي رافع مولى رسول الله «أنّ النبيّ بعث رجلا على الصدقة من بني مخزوم فقال له اصحبني فإنك تصيب منها قال حتى آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله فأتاه فسأله فقال: مولى القوم من أنفسهم وإنّا لا تحلّ لنا الصدقة» «3» . ويتبادر لنا إلى هذا حكمة أخرى. وهي أن خلوها من اسم رسول الله قد يكون بمثابة ردّ على ما حكته الآية من لمز النبي بالصدقات. فكأنما أريد أن يقال لهم من باب المساجلة إن رسول الله نفسه ليس له نصيب في الصدقات وإنّه والحالة هذه فوق كل مظنة وشبهة ولمز. ومسألة الأموال العامة ولا سيما التي تؤخذ من

_ (1) التاج ج 2 ص 30- 31 وفي الحديث الأخير تلقين إنساني رائع في صدد اعتبار مملوك المرء من نفسه. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه.

المسلمين مسألة حسّاسة يتسع فيها مجال التهويش والفخر فكان ذلك من أسباب ما يتبادر لنا من حكمة في تنزه رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها خلافا للغنائم والفيء التي تكسب من أموال الأعداء وتوزع على مستحقيها بقطع النظر عن فقرهم وغناهم. وفي هذا تلقين قوي لمن يتولّى أمر المسلمين ومصالحهم وأموالهم العامة أيضا مع التنبيه على علوّ مرتبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكرامته عن كلّ مرتبة وكرامة. ولقد فرق أهل التأويل «1» بين زكاة الماشية وغلة الأرض وزكاة النقد والعروض حيث ذهب بعضهم إلى أن حق بيت المال محصور في جباية زكاة الماشية وغلة الأرض طوعا أو كرها دون زكاة النقد والعروض. التي يستطيع الواجبة عليه توزيعها مباشرة ولا يحق لبيت المال جبايتها كرها. وحيث ذهب بعضهم إلى أن لبيت المال الحق في كل ما تجب فيه الزكاة. ويلحظ أن الآية مطلقة ولا تتحمل هذا التفريق. وأن تعبير وَالْعامِلِينَ عَلَيْها ما يمكن أن يسوغ القول إن جباية أنواع الزكاة حقّ لولي الأمر بواسطة عماله. ومن الذين قالوا القول الأول من استدل على قوله بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يرسل جباته لجباية زكاة الغلات والمواشي فقط. وليس هناك أحاديث نبوية تؤيد القول الأول هذا بأسلوب حاسم وقطعي. في حين أن هناك أحاديث وردت في الكتب الخمسة فيها دلالة على صحة القول الثاني، من ذلك حديث رواه أبو داود والترمذي جاء فيه «إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لعمر إنا قد أخذنا زكاة العباس عام الأول للعام» «2» والعباس لم يكن صاحب مواش وإنما كان صاحب أموال سائلة على ما هو المشهور. ومن ذلك حديث رواه الإمام مالك عن القاسم بن محمد جاء فيه «إن أبا بكر الصديق لم يكن يأخذ من مال زكاة حتى يحول عليه الحول. وكان إذا أعطى الناس أعطياتهم يسأل الرجل هل عندك من مال وجبت عليك فيه الزكاة. فإذا

_ (1) اقرأ الفصل الطويل الذي عقده الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال على الصدقة ص 349 وما بعدها وص 567 وما بعدها وانظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن. (2) التاج ج 2 ص 24 و 25.

قال نعم أخذ من عطائه زكاة ذلك وإن كان قال لا أسلم إليه عطاءه ولم يأخذ منه شيئا» «1» . وحديث رواه الإمام مالك أيضا عن عائشة بنت قدامة عن أبيها أنه قال «كنت إذا جئت عثمان بن عفّان أقبض عطائي سألني هل عندك من مال وجبت عليك فيه الزكاة فإن قلت نعم أخذ من عطائي زكاة ذلك المال وإن قلت لا دفع إليّ عطائي» «2» . وحديث رواه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام وهو من أئمة الحديث المشهورين عن عبد الرحمن بن عبيد القاري قال «كنت على بيت المال زمن عمر بن الخطاب فكان إذا خرج العطاء جمع أموال التجار ثم حسبها شاهدها وغائبها ثم أخذ الزكاة من شاهد المال على الشاهد والغائب» «3» . وإذا كان حقا أن جباة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يباشرون جباية زكاة المواشي وغلة الأرض فحسب فالمتبادر أن هذا إنما كان لأن أكثر الثروة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت هي المواشي وغلات الأرض. وفي كتاب الأموال للإمام أبي عبيد القاسم بن سلام بحث طويل «4» سرد فيه أقوال عدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم في هذا الأمر جاء في أوله عزوا إلى ابن سيرين أن الصدقة كانت تدفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو من أمر به وإلى أبي بكر وعمر وعثمان أو من أمروا به. فلما قتل عثمان اختلفوا فكان منهم من يدفعها إلى الخلفاء وكان ابن عمر ممن يدفعها إليهم. ومنهم من يوزعها بنفسه. ثم أخذ أبو عبيد يورد أقوالا أخرى لأصحاب رسول الله وتابعيهم حيث قرر بعضهم وجوب دفع الزكاة عن جميع الأموال لبيت المال وجوّزه بعضهم. وجعل بعضهم الخيار للمسلمين في زكاة النقود والعروض في أدائها لبيت المال أو توزيعها من أيديهم. ومنهم من لم يجوز دفعها لبيت المال بل قال بتوزيعها مباشرة. وقد علل أصحاب القول الأخير مذهبهم بأن بيت المال صار في يد ملك عضوض فلا يجزىء أداء الزكاة له عن

_ (1) الموطأ ج 1 ص 128. [.....] (2) المصدر نفسه. (3) كتاب الأموال ص 425. (4) المصدر نفسه ص 567 وما بعدها.

الغرض. وقد أوجب علماء الشيعة دفع جميع أنواع الزكاة للإمام العلوي الذي كان هو الإمام الشرعي عندهم ولو لم يكن يمارس سلطانا. وكانت عائشة أم المؤمنين ممن يدفع الزكاة إلى بيت المال على ما ذكره الإمام أبو عبيد في فصل كتابه المذكور آنفا. والأخذ والرد والنقاش كان يدور حول زكاة النقود والعروض كما قلنا. وجمهور المتكلمين يسلمون بجباية بيت المال لزكاة الغلات والماشية. والذين قالوا بعدم جواز دفع زكاة النقود والعروض لبيت المال في حكم الملك العضوض قالوا إن أداء زكاة الغلات والماشية اضطراري لأن هذه الزكاة لا يمكن أن تمنع إلّا بالقوة التي يمكن أن ينتج عنها فساد وفتنة بعكس زكاة النقود والعروض التي يمكن أن تمنع لأنها مما يمكن أن لا تعلم. والذين أوجبوا أو جوزوا أداء زكاة النقود والعروض لبيت المال قالوا بناء على هذا المعنى الأخير بعدم الإجبار وبتصديق من يقول أدى زكاته مباشرة. والمستفاد من كل هذا أنه لم يكن في البدء خلاف في حق ولي أمر المؤمنين في جباية جميع أنواع الزكاة. وتولّي توزيعها. وهو المستفاد من فحوى الآية وروحها. وأن ما وقع من فتن وخلافات حزبية في صدر الإسلام هو الذي أدى إلى هذا التفريق الذي كان قديما جدا والذي جرى عليه العمل منذ ذلك الزمن القديم الذي يبلغ في حساب السنين ألفا وثلاثمائة ونيفا. والراجح أن الأمويين الذين كان العمل بهذا في عهدهم واستمر بعدهم قد جنحوا فيه إلى التساهل تفاديا من الفتنة في حالة إجبار الناس عليه وقد كثرت مواردهم واكتفوا بما كان يأتيهم منه طواعية دون إكراه. ثم بزكاة الغلة والماشية التي تعرف على حقيقتها ولا يمكن إخفاؤها ولا التفلت من زكاتها. إذ يكون ذلك عصيانا يسيغ التنكيل. وكان موقف أبي بكر من مانعيها ما يزال حديث عهد اشترك في التضامن معه فيه جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولعل انحصار ثروة الوسط العربي في الماشية وغلة الأرض تقريبا في الظروف التي قامت فيها الدولة الأموية في أول عهدها مما جعل هذه الدولة قليلة الاهتمام لزكاة النقد القليلة أو سوغ انصراف الذهن عنها بعض الشيء. فكان هذا

وذاك أصلا أو مسوغا لما جرى عليه المسلمون. وقد يحسن أن يضاف إلى هذا ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث فيها إذن لبعض المسلمين بإعطاء صدقاتهم للأزواج والأقارب كالحديث المروي عن سلمان الضبي الذي جاء فيه «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم الصدقة على المسكين صدقة وهي على ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة رحم» «1» والحديث الذي قال فيه لزوجة ابن مسعود جاءت إليه تستأذنه في إعطاء صدقتها لزوجها وولدها «زوجك وولده أحقّ من تصدقت به عليهم» «2» وما أثر عن عمر رضي الله عنه من إذنه لرجل أتى إليه بزكاة ماله «بأن يذهب بها فيقسمها» «3» وما أثر عن عثمان رضي الله عنه من قوله «من تكن عنده لم تطلب منه حتى يأتي بها تطوعا» «4» حيث يسوغ أن يكون ذلك من مبررات ما كان من جعل الناس بالخيار في هذا الأمر. وعلى كل حال فليس هناك قرآن ولا سنّة تمنع الدولة من جباية جميع أنواع الزكاة من جميع ما هي مفروضة عليه من أموال المسلمين وتوزيعها على مستحقيها أسوة بالغنائم والفيء. ولقد نبهنا على خطورة تشريع الزكاة وما ينطوي فيه من حكمة ربانية جليلة تهدف إلى ضمان أمن المجتمع الإسلامي. وتخفيف أزمات المحتاجين من بنيه. وبثّ التعاون والتضامن بين أفراد هذا المجتمع في تعليقنا الأول على الزكاة في سياق تفسير سورة المزمل فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار. وفي كتب التفسير والحديث بيانات متنوعة «5» في صدد الجهات والفئات

_ (1) كتاب الأموال ص 353، هذا الحديث من مرويات الشيخين والنسائي والترمذي أيضا انظر التاج ج 2 ص 35. (2) المصدر نفسه ص 586- 587. (3) المصدر نفسه ص 571. (4) المصدر نفسه ص 437 و 531. (5) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي لتفسير هذه الآيات وانظر التاج ج 2 ص 3- 40 وكتاب الأموال ص 349- 613 وكتاب الخراج لأبي يوسف ص 43- 47.

الثمانية المذكورة في الآية الثالثة وتوزيع الزكاة عليها نوجزها فيما يلي مع ما يعنّ لنا من تعليق. مع التنبيه على أن هناك تفريعات وخلافات مذهبية لم نر ضرورة للتبسط فيها. 1- الأقوال مجمعة على أن (الفقير) و (المسكين) صنفان. وهذا ملموح في ذكر الاثنين. ومما ذكره المفسرون عزوا إلى بعض أهل التأويل أن الفقير هو المحتاج المتعفف عن السؤال وأن المسكين هو المحتاج الذي يسأل. كما رووا أن الفقير هو المحتاج من المسلمين والمسكين هو المحتاج من الذميين. مع أن هناك حديثا نبويا فيه تعريف حاسم رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس وتردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس» . وقد ورد في الآية [177] ذكر للسائلين والمساكين معا وفي هذا دعم قرآني. ولقد اختصت حكمة الله المسكين بالذكر أكثر من الفقير وجعلت له نصيبا في الفيء والغنائم كما جعلته هو الذي يجب أن يطعم ويكسى من كفارات الأيمان والظهار وقتل الصيد في حالة الحرم إلخ إلخ لأنها رأته على ضوء وصف النبي صلى الله عليه وسلم له هو الأشد حاجة والأوجب رعاية من الذي يسأل ويطوف على الناس وفي هذا ما فيه من مغزى جليل. وقد كان هذا الأمر موضوع تعليق لنا في سياق أول آية مكيّة ذكر فيها المسكين في سورة المدثر. ولقد رويت أحاديث نبوية في من تحلّ له المسألة أي سؤال الناس وفي من تجوز عليه الصدقة. منها حديث رواه أصحاب السنن عن عبد الله بن عمرو قال «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لا تحلّ الصدقة لغني ولا لذي مرّة سوي» «1» وحديث رواه أصحاب السنن أيضا عن أنس قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن المسألة لا تصلح إلّا لثلاثة: لذي

_ (1) التاج ج 2 ص 28 و 29.

فقر مدقع أو لذي غرم مفظع. أو لذي دم موجع» «1» وحديث رواه كذلك أصحاب السنن عن عبد الله قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح. قيل يا رسول الله وما يغنيه قال خمسون درهما أو قيمتها من ذهب» «2» . وحديث رواه أبو داود وابن حبان عن سهل بن الحنظلية قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم من سأل وله ما يغنيه فإنّما يستكثر من النار، وفي رواية من حجر جهنّم. قالوا يا رسول الله وما يغنيه. قال قدر ما يغديه أو يعشيه وفي رواية أن يكون له شبع يوم وليلة» «3» وحديث رواه أبو داود وأحمد والحاكم عن عطاء بن يسار قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تحلّ الصدقة لغني إلّا لخمسة: لغاز في سبيل الله أو لعامل عليها أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل كان له جار مسكين فتصدّق على المسكين فأهداها للغني» «4» . وحديث رواه الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لأن يحتطب أحدكم جزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه» «5» . وحديث رواه الإمام أبو عبيد عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده «قال قلت يا رسول الله إنا قوم نتساءل أموالنا فقال صلى الله عليه وسلم يسأل الرجل في الجائحة والفتق ليصلح بين الناس فإذا بلغ أو كرب استعفّ» «6» وحديث رواه الإمام نفسه عن عدي بن الخيار أنه حدثه رجلان قالا «جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع والناس يسألونه الصدقة. فزاحمنا عليه الناس حتى خلصنا إليه فسألناه من الصدقة فرفع البصر فينا وخفضه فرآنا جلدين. فقال إن شئتما فعلت ولا حظّ فيها لغني ولا لقوي مكتسب» «7» . وحديث أورده ابن كثير عن عمر بن الخطاب

_ (1) التاج ج 2 ص 28 و 29. (2) المصدر نفسه ص 29 و 30 و 177. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه. [.....] (6) كتاب الأموال ص 548 و 549 ومعنى إذا بلغ أو كرب استعفّ أي إذا بلغ صاحبه أو قريبا منها تعفف عن السؤال. (7) المصدر نفسه.

جاء فيه: «ليس الفقير الذي لا مال له ولكن الأخلق الذي ليس له حظّ من كسب» . وحديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن قبيصة بن مخارق الهلالي جاء فيه: «لا تحلّ المسألة إلّا لأحد ثلاثة: رجل تحمّل حمالة فحلّت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك. ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلّت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو سدادا من عيش. ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه لقد أصابت فلانا فاقة فحلّت له المسألة حتى يصيب قواما أو سدادا من عيش. فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتا يأكلها صاحبها سحتا» «1» . وروى الطبراني عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعلم صاحب المسألة ما له فيها لم يسأل» «2» . وعن أم سنان الأسلمية قالت: «جئت رسول الله فقلت يا رسول الله إني جئتك على حياء وما جئتك حتى ألجأت الحاجة فقال لو استغنيت لكان خيرا» «3» وعن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم استغنوا عن الناس ولو بشوص السواك» «4» . وروى البزار عن أبي هريرة قال: «إنّ رجلين أتيا رسول الله فسألاه فقال اذهبا إلى هذه الشعوب فاحتطبا فبيعاه فذهبا فاحتطبا ثم جاءا فباعاه فأصابا طعاما ثم ذهبا فاحتطبا أي ضا فجاءا فلم يزالا حتى ابتاعا ثوبين ثم ابتاعا حمارين فقالا قد بارك الله لنا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم» «5» وروى أبو يعلى عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفتح أحدكم على نفسه باب مسألة إلّا فتح الله عليه باب فقر» «6» . والأحاديث بسبيل تأديب المسلم ورفع مستواه الخلقي والأدبي. وتجنيبه ذلّ السؤال. وحثّه على الكسب. وهي رائعة في بابها. وفيها تلقين جليل بأن أخذ

_ (1) التاج ج 2 ص 28. (2) مجمع الزوائد ج 3 ص 93- 95. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه. (6) المصدر نفسه.

الصدقة لا يمكن ولا يصح أن يكون حلا لمشكلة الفقر وأن هذه المشكلة لا تحل إلا بالعمل والكسب. وأن الصدقة إنما هي للمحتاج غير القادر على الكسب لسبب من الأسباب. ولقد أمر الله الناس بالعمل والكسب وابتغاء فضل الله ورزقه في آيات كثيرة مبثوثة في السور المكيّة والمدنيّة التي مرّ تفسيرها حيث يتساوق التلقين القرآني والنبوي في هذا الأمر. ولقد كره بعضهم بناء على ذلك إعطاء القادر على الكسب ولو كان محتاجا. وكره بعضهم إعطاء من ليس في حاجة عاجلة ما دام عنده ما يسدّ رمقه في حالته الحاضرة. ومنهم من قدر ذلك بخمسين درهما أو عدلها ذهبا وفضة. ومنهم من قدر ذلك بشبعه وشبع عياله يوما «1» . ولقد قال الإمام أبو عبيد تعليقا على الأحاديث إنها من قبيل التغليظ على السائل والسؤال. وإن المعطي يجزئ عنه ما يعطيه للسائل. وإن هذا هو ما عليه أمر الناس وفتيا العلماء. وقد يكون هذا وجيها بخاصة بالنسبة لحاجة السائل الملحة. غير أن التلقين الذي نوهنا به يظل هو الأقوى فيما هو المتبادر. وننبه على أن الكلام هو في صدد السؤال والسائلين أما المحتاج الذي لا يسأل ولا يقدر على الكسب أو لا يتيسّر له مجال للكسب فليس من حرج في إعطائه مطلقا. وهذه صفة المسكين على ما جاء في الحديث الذي أوردناه قبل. وحقّه في الزكاة منصوص عليه والله تعالى أعلم. وهناك من كره أن يعطي الشخص الواحد من الفقراء والمساكين أكثر من خمسين درهما. وفي قول أكثر من مائة درهم. وهناك من أجاز ذلك. وقد روي في صدد الإجازة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: «إذا أعطيتم فأغنوا» «2» وقوله: «لأكررن عليهم الصدقة وإن راح على أحدهم مائة من الإبل» «3» . وفي هذا من السداد والحكمة ما فيه. بل نراه عظيم الهدف لأن به يخلص فقير من الفقر ولا يظل موضعا للصدقة.

_ (1) انظر كتاب الأموال ص 553 وما بعدها. (2) المصدر نفسه ص 565. (3) المصدر نفسه.

والأقوال مجمعة على جواز إعطاء المكلّف صدقته لأقاربه الفقراء والمساكين الذين لا تجب عليه إعالتهم شرعا. وقد روي في صدد ذلك حديث نبوي عن سلمان بن عامر الضبي جاء فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة» «1» . بل لقد روي حديث نبوي أجاز فيه إعطاء الزوجة زكاتها لزوجها وولدها الفقراء على اعتبار أنها غير مكلفة بهما شرعا حيث روي عن ابن مسعود أنه أفتى لامرأته أن تعطيه صدقتها فأبت حتى تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فجاءت فاستأذنته «فقال لها صدق ابن مسعود زوجك وولده أحقّ من تصدقت به عليهم» «2» . وهناك من أجاز إعطاء اليهودي والنصراني والمجوسي بل وغيرهم من الصدقة إذا كانوا فقراء ومساكين لإطلاق الآية. وهناك من لم يجز ذلك. وهناك من أجازه إذا لم يكن فقيرا أو مسكينا من المسلمين. ولقد روينا في سياق بحث الجزية أي في سياق الآية [29] من هذه السورة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رتب من بيت المال الذي تجتمع فيه الصدقة وغيرها ليهودي طاعن ضرير مرتبا مما يدعم القول الأول. وهناك آية في سورة البقرة فيها إشارة داعمة له أيضا على ما شرحناه في سياقها. وهي الآية [272] ومع ذلك فإن القول الثالث لا يخلو من وجاهة وصواب أيضا. 2- والأقوال مجمعة على أن وَالْعامِلِينَ عَلَيْها هم السعاة عليها قبضا وقسمة. وهناك من قال إن لهم ثمن ما يجبون. وهناك من قال إنهم يعطون أجرة مثلهم على قدر عمالتهم ولو كانوا أغنياء عنها وهو الأوجه الذي عليه الجمهور. 3- وأكثر الأقوال على أن المؤلفة قلوبهم هم الذين يتألفون على الإسلام استصلاحا لهم ولذويهم واستفادة من خدماتهم ولو كانوا أغنياء. ولقد روى

_ (1) كتاب الأموال ص 353. (2) المصدر نفسه ص 586- 587 والحديث جاء في سياق طويل اكتفينا بالجوهري المتصل بالمسألة منه.

الطبري عن الزهري أحد أئمة الحديث من التابعين أنهم أو أنه يدخل فيهم من أسلم من اليهود والنصارى ولو كانوا أغنياء. وهناك مأثورات أوردناها قبل قليل تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى لزعماء قبائل أغنياء من الصدقات لأجل هذه الغاية. وهناك أقوال عديدة بأن هذا الصنف قد بطل بعد أن أعز الله الإسلام. وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه جاءه عيينة بن بدر فقال: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ليس اليوم مؤلفة وقد قال الطبري الصواب عندي أن الله جعل الصدقة في معنيين: أحدهما سدّ خلّة المسلمين والثانية معونة الإسلام وتقويته. فما كان في معونة الإسلام وتقوية أسبابه فإنه يعطى في كل وقت وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم بعد أن فتح الله عليه الفتوح وعزّ الإسلام وقال الإمام أبو عبيد إن حكم هذا الصنف محكم ولا ناسخ له من كتاب ولا سنّة «1» . وفي هذا وجاهة وسداد ظاهران. ومعناه بعبارة أخرى أنه يجوز لولي أمر المؤمنين أن يعطي من الصدقات من يرى في إعطائه مصلحة للإسلام والمسلمين في كل وقت ومكان ولو لم يكن محتاجا. ويدخل في ذلك الرغبة في تأليف من دخل في الإسلام جديدا أو ضعفاء الإيمان من الزعماء والقائمون بأعمال نافعة للإسلام والمسلمين. وهناك من قال يدخل في هذا الباب الكفار لدفع شرّهم إذا خشي أو لجلبهم إلى الإسلام إذا رجي «2» . ولا يخلو هذا من وجاهة. وهناك من أدخل فيه من هم في حدود بلاد الأعداء من المسلمين لتقويتهم «3» . ومع وجاهة هذا القول أيضا فإنه أدخل في باب سبيل الله أكثر منه في باب المؤلفة. 4- وأكثر الأقوال على أن المقصود من وَفِي الرِّقابِ هم المكاتبون أي الذين يشترون أنفسهم من مالكيهم لقاء مبلغ يؤدونه إليهم على أقساط. وعلّل القائلون قولهم بأن الذي يعتق رقبة مباشرة يكون له حقّ ولائه وبعبارة أخرى يكون له حقّ في إرثه على ما جاءت به الآثار. فيكون في ذلك منفعة مستمرة للعاتق. في

_ (1) كتاب الأموال ص 607. [.....] (2) تفسير رشيد رضا. (3) المصدر نفسه.

حين أن الزكاة لا يجوز أن يكون فيها ذلك على ما شرحه الطبري في صدد تصويبه لهذا القول. على أن هناك من قال إن الكلمة تعني فكّ رقبة المملوك إطلاقا. وقد روي عن ابن عباس جواز عتق الرقاب من زكاة المال والإطلاق أوجه على ما يلهمه الإطلاق في الآية حيث يتناول المكاتب وغير المكاتب. فالله سبحانه حثّ على فكّ الرقاب إطلاقا وشرع بعض التشريعات بسبيل ذلك مما مرّ منه أمثلة. ففي هذا توجيه عام إلى ذلك العمل الإنساني الكبير. 5- وهناك من قال إن وَالْغارِمِينَ هم المدينون العاجزون عن الأداء الذين استدانوا لغير معصية وسرف وتبذير. وهناك من قال إنهم الذين حملوا حمالة «1» أو ضمنوا دينا وعجزوا عن تحمل ذلك من أموالهم أو أجحف أو يجحف أداء ذلك بهم. ويتبادر لنا أن النوع الثاني متفرع أو صورة ما من النوع الأول. ولقد رويت أحاديث نبوية تفيد أن التعبير يشمل النوعين حيث أبيح فيها إعطاؤهما من الصدقة. منها حديث رواه الترمذي عن أبي سعيد قال: «أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدقوا عليه فتصدق عليه الناس فلم يبلغ ذلك وفاء دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه خذوا ما وجدتم وليس لكم إلّا ذلك» «2» ومنها الذي روي عن قبيصة بن مخارق وأوردناه في الفقرة الأولى حيث وعد رسول الله فيه إعطاء الرجل الذي حمل حمّالة. وقد أجاز بعض التابعين في احتساب الدائن دينا له على مدين معسر من الزكاة «3» . وفي هذا وجاهة ظاهرة فيما نرى. وفي آية سورة البقرة هذه وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ دعم لذلك. 6- وأكثر الأقوال على أن سَبِيلِ اللَّهِ في الآية تعني الجهاد الحربي وأسبابه. وهناك من قال إن كل ما فيه برّ عام وتقوية للإسلام يدخل في هذا

_ (1) الحمّالة هي ما تحمّله الإنسان من دية قتيل أو غرامة ليصلح بين متخاصمين. (2) التاج ج 2 ص 27، 28. (3) كتاب الأموال ص 436.

التعبير. ومن ذلك تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون وعمارة المساجد ويدخل فيه بطبيعة الحال الجهاد الحربي وأسبابه. وهذا هو الأوجه كما هو المتبادر. لأن سبيل الله كما قلنا في مناسبات عديدة سابقة أشمل من الجهاد الحربي الذي ليس هو إلّا وسيلة من وسائلها. وهناك من قال إن إعانة المسلم على الحجّ يدخل في هذا الباب. وليس من سند قوي يسند هذا القول كما أن الحجّ هو فريضة على المستطيع بنفسه ولا يترتب على غير المستطيع. 7- ومعظم الأقوال على أن وَابْنِ السَّبِيلِ هو المجتاز من أرض إلى أرض وقد نفد ما في يده وأصبح محتاجا إلى مساعدة ولو كان في بلده غنيّا. وهناك من قال إنه الضيف إطلاقا. وروح الآية تجعل الرجحان للأول. على أن القول الثاني لا يبعد عن باب الأول إذا كان الضيف غريبا محتاجا كما هو الواضح. وحقّ ابن السبيل في الزكاة هو أن يعطي ما يكفيه لمعيشته وبلوغه إلى بلده. 8- والأقوال مختلفة في صدد جواز الاجتزاء بإعطاء صنف أو أصناف دون أخرى مما ذكر في الآية. حيث قال بعضهم بجواز ذلك وحيث قرر بعضهم وجوب تجزئة الصدقة وتوزيعها على الأصناف جميعها. ولقد أورد المفسرون في صدد هذه المسألة حديثا نبويا رواه أبو داود جاء فيه: «أن رجلا جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقة فقال إن الله تعالى لم يرض بحكم نبيّ ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزّأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك» «1» . وقد قال الطبري إن أولى الأقوال بالصواب أن الله جلّ ثناؤه لم يقسم صدقة الأموال بين الأصناف الثمانية على ثمانية أسهم وإنما عرف خلقه أن الصدقات لا تتجاوز هذه الأصناف إلى غيرهم. وهذا وجيه سديد كما هو المتبادر. وليس في الحديث ولا في نصّ الآية وروحها ما يؤيد القول الثاني. والأكثر على القول الأول. وقد يصح أن يقال في هذا الصدد إن القول بوجوب إعطاء الصدقة لجميع الأصناف متعسر

_ (1) هذا الحديث ورد في التاج برواية أبي داود انظر ج 2 ص 27.

التنفيذ أيضا إذا كان المعطي هو المكلّف لأنه قد لا يكون ما يجب عليه مجزيا لتوزيعه على أكثر صنف أو صنفين بل إن هذا هو الغالب. أما إذا كان بيت المال هو الذي يعطي فإنه مستطيع أن ينفق على كلّ صنف لأن الصدقات تتجمع فيه من كل نوع ومكان. ويجب عليه والحالة هذه أن ينفق على كل ما يتطلب الإنفاق من كل نوع. 9- وهناك من نبّه إلى أنه لا يجوز إعطاء حصة صنف من الأصناف إلى أقل من ثلاثة منهم. وليس في هذا أثر نبوي ولا صحابي. ونحن نراه غريبا لأنه قد لا يكون وقت الإعطاء أشخاص عديدون من صنف واحد وقد لا يكون ما يعطيه المكلف إذا أعطى صدقة بنفسه مجزيا للتوزيع على أكثر من شخص واحد. 10- وقد كره بعضهم إعطاء صدقة بلد إلى أهل بلد آخر مع وجود المستحقين في البلد واستندوا في ذلك إلى حديث نبوي يوصي فيه معاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن حيث جاء فيه: «فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة. فإن هم أطاعوا بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وتردّ على فقرائهم. فإن هم أطاعوا بذلك فإياك وكرائم أموالهم. واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب» «1» . وليس في الحديث تأييد حاسم للقول المذكور فيما نرى. لأنه إنما احتوى شرح مبادئ الإسلام والزكاة. ولا سيما أن الله قد جعل للزكاة مصارف عديدة ولم يجعلها للفقراء وحدهم. أو لعلّ بعثة معاذ قبل أن تنزل الآية التي تذكر مصارف الزكاة. وبيت مال المسلمين تتجمع فيه الصدقات من كل ناحية وتوزع منه على مصارفها في كل ناحية. فليس من حكمة لتخصيص زكاة كل بلد لأهل ذلك البلد. وقد يكون في القول وجاهة بالنسبة للمستوجب عليه الزكاة إذا أراد توزيعها بنفسه.

_ (1) رواه الخمسة عن ابن عباس انظر التاج ج 2 ص 3- 4، والقصد من النهي عن كرائم الأموال أن لا يأخذ الزكاة من أحسن ما عندهم أو من أحب ما عندهم أو أحسنه وأحبه إليهم.

استئنافا بالأحاديث النبوية التي تجعل الأولوية للأقارب وذوي الأرحام. وقد أوردنا بعضا منها قبل قليل. ونكرر هنا ما قلناه في تعليقنا الأول على الزكاة في سورة المزمل أنه ليس هناك ما يمنع أن ينشأ بمال الزكاة أو بجزء منه منشآت لمصلحة المعوزين مثل المياتم والمشافي والعيادات ودور العجزة والملاجئ والصنائع والضيافة حيث يكون هذا أدوم وأشمل وأهدى والله أعلم. هذا، ولقد شاءت حكمة التنزيل أن لا يرد في القرآن مقادير الزكاة فبينت ذلك السنّة النبوية. وهو ما كان شأن الصلاة أيضا. وقد رأينا أن نورد المبادئ الرئيسية من ذلك إتماما للكلام. مع التنبيه على أن هناك تفريعات وخلافات مذهبية لم نر أن نتبسط فيها: 1- النصاب الأدنى في الإبل السائمة خمس فلا صدقة فيما دون ذلك. وفي الخمس شاة ثم تزداد الفريضة بنسب محددة من الزيادة «1» . ويستثنى من ذلك العوامل أي التي تعمل في حرث وسقي. فزكاتها مندمجة في زكاة الغلة التي تنتج من عملها «2» . ويستثنى من ذلك الإبل المعدة للتجارة. فإن زكاتها تكون حسب قيمتها كعرض «3» . 2- النصاب الأدنى في البقر ثلاثون فلا صدقة فيما دون ذلك. وفي الثلاثين تبيع ثم تزداد الفريضة بنسب محدودة من الزيادة. والاستثناءان الواردان في صدد الإبل واردان هنا أيضا. وصدقة الجواميس مثل صدقة البقر «4» .

_ (1) كتاب الأموال 358 وما بعدها وفي هذا الفصل أحاديث وبيانات كثيرة اكتفينا بالأساس منها. وفي التاج أحاديث فيها تعيين للنسب والمقادير وما أوردناه في المتن مستخلص من كل ذلك. انظر التاج ج 2 ص 10 وما بعدها. (2) المصدر نفسه ص 381. (3) المصدر نفسه ص 382. (4) المصدر نفسه 378 وما بعدها.

3- النصاب الأدنى في الغنم- الضأن والماعز- أربعون. ولا صدقة فيما دون ذلك. وفي الأربعين شاة إلى أن تبلغ مائة وعشرين فتزداد الفريضة بنسبة الزيادة. ويستثنى من ذلك ما كان للتجارة فإنه يقوّم وتؤدى زكاته حسب قيمته «1» . 4- النصاب الأدنى في الذهب عشرون دينارا. وفي الفضة مائتا درهم. وليس فيما دون ذلك صدقة «2» . وفي النصاب وما فوقه اثنان ونصف في المائة. ولا تستحق الصدقة إلّا إذا حال على النصاب أو ما فوقه حول حيث يكون معنى ذلك أنه فائض عن نفقة الحائز كما هو المتبادر. وهناك قول بأن صدقة الذهب تعطى ذهبا وصدقة الفضة تعطى فضة، بحيث إذا ملك شخص النصاب في أحدهما ولم يملكه في الثاني يؤدي زكاة عن ما يملك نصابه دون الثاني. وهناك قول بأن الذهب والفضة يقدران معا فإذا بلغت قيمتها النصاب الذهبي أو الفضي وجب عليه الزكاة بقطع النظر عن نقص نصاب الذهب أو الفضة. وهذا هو الأوجه في ما هو المتبادر. لأن النقد ثمن السلعة وليس سلعة. والقيمة تقدر بنفعها الاستعمالي. والأقوال مجمعة على أن النصاب الذي يحول عليه الحول يجب أن يكون زائدا على الدين الذي قد يكون على مالكه. وبالنسبة للزمن الحاضر يصحّ أن تقدر قيمة العشرين مثقالا من الذهب أو المائتي درهم من الفضة بما تساويه اليوم فتكون قيمتها الحاضرة هي النصاب الواجب أداء الزكاة عنه وعن ما يزيد عليه على ما هو المتبادر. وهو ما يقرر جمهور العلماء المعاصرين. 5- هناك حديث يرويه الدارقطني والحاكم صححه عن أبي ذرّ عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «في الإبل صدقتها. وفي البقر صدقتها. وفي البزّ صدقته» «3» حيث ينطوي تشريع نبوي يجعل عروض التجارة إذا بلغت قيمتها النصاب خاضعة

_ (1) كتاب الأموال ص 382 وما بعدها و 386. (2) المصدر نفسه 408 وما بعدها والأقوال المذكورة في هذا الفصل أيضا. (3) التاج ج 2 ص 19. البزّ بالفتح الثياب أو ثياب التجارة. [.....]

للزكاة. وهو ما عليه الجمهور. والمتواتر أن هذه العروض تقوم بقيمتها حين ما يحول الحول عليها وتؤدى صدقتها يحسب ذلك كصدقة النقد. وقد روى الإمام أبو عبيد عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: «كنت على بيت المال في زمن عمر بن الخطاب فكان إذا خرج العطاء جمع أموال التجار ثم حسبها شاهدها وغائبها ثم أخذ الزكاة من شاهد المال على الشاهد والغائب» «1» وروي عن أبي عمرو بن حماس عن أبيه قال: «مرّ بي عمر فقال يا حماس أدّ زكاة مالك فقلت مالي مال إلا جعاب وأدم فقال قوّمها وأدّ زكاتها» «2» وروي عن نافع عن ابن عمر أنه قال: «ما كان من رقيق أو بزّ يراد به التجارة ففيه زكاة» «3» . والجمهور على أن الرقيق الذي تجب على قيمته الزكاة هو ما كان للتجارة «4» . وهذا في محلّه. ولقد اختلف المؤولون والفقهاء في اللؤلؤ والجواهر والمصوغات الذهبية والفضية. فهناك من أوجب على قيمتها الزكاة في أي حال. وهناك من أوجب الزكاة على ما كان منها للتجارة دون الحلية لأن الحلية في منزلة أثاث البيت ومتاعه فلا تجب عليه صدقة «5» . وقد يكون هذا هو الأوجه. وتبدو وجاهته قوية إذا ما لوحظ أنه ينفد بالزكاة في بضع سنين لأنه غير نام. والله تعالى أعلم. 6- في المال المدين أقوال عديدة «6» . منها وجوب تزكية الدين إطلاقا. ومنها أن زكاته لا تجب على صاحبه ولكنها تجب على المديون. ومنها أن لا زكاة عليه إلّا بعد قبضه. ومنها أن ما كان مرجو القبض يزكي عنه صاحبه وما لم يكن كذلك يؤجل حتى يقبض. ولعلّ أوجه الأقوال كما هو المتبادر لنا تزكية الدين

_ (1) كتاب الأموال ص 425 و 465 و 466. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه ص 129. (5) المصدر نفسه ص 441. (6) المصدر نفسه ص 425 وما بعدها.

المرجو قبضه وتأجيل غير المرجو إلى أن يقبض. 7- ليس في الخيل والبراذين والحمير زكاة إذا كانت للاستعمال وتجب عليها إذا كانت للتجارة حيث تكون كالإبل والبقر والغنم المعدة للتجارة «1» . 8- النصاب في الحنطة والشعير والتمر والزبيب خمسة أوسق. وليس فيما دون ذلك صدقة. والوسق 15 مدا والمدّ ملء إناء ماء يكفي الوضوء أو وزن رطلين أي نحو 400 غرام «2» . وفي النصاب وما فوقه العشر في ما يسقى بماء المطر والعيون. ونصف العشر فيما يسقى بماء الآبار والسواقي والنواضح «3» . أي أن زكاة هذه المواد أربعة أضعاف زكاة النقد. 9- العنب والبلح والقطاني كالحمص والعدس والعسل والزيتون والخضار مما اختلف في وجوب الصدقة فيه لاختلاف الأحاديث في ذلك حيث ذكرت في بعض الأحاديث وأغفلت في بعضها. وقال بعضهم إذا بيعت تحسب كسلعة تجارية وتؤدى صدقتها إذا بلغت نصاب النقدين. خلافا للحنطة والشعير والتمر والزبيب التي يجب أداء صدقتها إذا ما بلغت النصاب. ولو كانت لطعام صاحبها «4» . 10- وقد اختلف في وجوب أداء صدقة غلة الأرض إن كان صاحبها مدينا فقال بعضهم بوجوبها وقال بعضهم بعدم وجوبها وتوسط بعضهم بإسقاط قيمة الدين فإن بقي نصاب تؤدى زكاته «5» . وهو الأوجه. والله أعلم. 11- وأقوال العلماء القدماء على أن قيمة أدوات حرفة الصانع لا تدخل في تقويم ما يجب على صاحب الحرفة من زكاة ما يملكه من عروض ونقد في نهاية الحول. غير أن الظروف الحاضرة غيرت الصورة بعض الشيء حيث صار هناك معامل

_ (1) كتاب الأموال ص 468 وما بعدها. (2) المصدر نفسه ص 463 وما بعدها. (3) المصدر نفسه ص 468 وما بعدها. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه.

ومصانع ودور صناعة ومهن تقدر قيمتها بمبالغ كبيرة. وقد أوجب بعض العلماء المعاصرين تقويمها وأداء الزكاة عن قيمتها. واعتبرها بعضهم مالا مجمدا كالأرض وأوجب الزكاة على ما تدره من ربح بعد طرح أجور العمال وأكلاف مواد العمل إذا بلغ النصاب أو زاد عنه. وهذا القول هو صورة من صور القول القديم. فصاحب المهنة لا يدفع زكاة قيمة أدوات مهنته ولكنه يدفع ما يربحه من هذه الأدوات إذا بلغ النصاب أو زاد عنه. وهذا القول هو صورة من صور القول القديم. فصاحب المهنة لا يدفع زكاة قيمة أدوات مهنته ولكنه يدفع ما يريحه من هذه الأدوات إذا بلغ ربحه النصاب أو زاد وحال عليه الحول وكان زائدا عن حاجة معيشته أثناء السنة. ومع ذلك فقد يكون أوجه من القول بأن على صاحب المصنع الكبير تقويم قيمة مصنعه وأداء الزكاة عنها. لأنه يقتضي أن يدفع زكاة قيمة مصنعه سنويا مضافا إليها ما زاد عن حاجته من أرباحه. فيكون قد دفع مضاعفا ودفع زكاة مال مجمد يستنفده الدفع في بضع سنين أيضا والله تعالى أعلم. بل ولعل القول الثاني أوجه من باب أولى أيضا لأن الأرض ثابتة ومستمرة الإغلال في حين أن المصنع معرض للاستهلاك مع الوقت ومحتاج إلى نفقة الترميم والإصلاح مستمرة أيضا مع شيء من التعديل. فزكاة غلة الأرض تؤدى حين حصادها وهذا مستند إلى نص قرآني وهو آية الأنعام هذه: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ [141] بقطع النظر عن حيلولة الحول. ونفقة حياة صاحبها. ثم إن زكاة الأرض التي تسقى بها والسواقي والآبار والنواضح تكون نصف زكاة الأرض التي تسقى بماء المطر والضخ بدون كلفة. ويلحظ أن زكاة غلة الأرض تبلغ نحو أربعة أضعاف زكاة النقد والعروض التجارية. والحكمة المتبادرة من ذلك هي أن الأرض لا يدفع عنها زكاة مع أنها ذات قيمة كبيرة لأنها مجمدة فاقتضت الحكمة أن تكون زكاة غلتها مضاعفة بالنسبة المذكورة وأن تدفع يوم حصادها وجنيها بقطع النظر عن حيلولة العام والله أعلم. 13- وفي العصر الحديث صورة جديدة لم تكن في القديم وهي أسهم الشركات المساهمة التي يشتريها ويتداولها الناس ويأخذون ربحها حسب نتائج

وحسابات إدارة الشركات. ومع ما قد يرد على البال من فرق بين هذه وبين المصانع والعقارات المعدة للإيجار فإن الأسهم في يد صاحبها مجمدة. والجمهور على أن دور السكن لا يؤخذ عن قيمتها زكاة ولكن صار يقوم عمارات متنوعة معدة للإيجار وبيوت للسكن وفنادق وحمامات ومخازن ودكاكين وأندية ومقاهي إلخ.. وهذه ذات قيمة كبيرة. ولكن الأموال مجمدة فيها وإذا أخذ زكاة قيمتها يكون جنفا على أصحابها لأن هذه الزكاة قد تبلغ نصف الريع أو ربعه ولذلك يتبادر لنا أيضا أن أسلوب غلة الأرض ينطبق على هذه أيضا فيكون زكاة هذه العمارات مستوجبا على ريعها. ويكون مضاعفة مثل غلة الأرض وريع المعامل والمصانع. ولما كانت هذه العمارات تحتاج إلى إصلاح وتجديد فتكون زكاتها مثل زكاة غلة الأرض التي تسقى بماء الآبار والضخ والله أعلم. وقد يقال إن قياس المعامل والعمارات المعدة للإيجار على الأرض فيه تجوز لأن الأرض دائمة والمعامل والعمارات قد تزول غير أنه يتبادر لنا أن هذه العمارات والمعامل قد تدوم عشرات بل مئات السنين واستثناؤها من التعويض أكبر من نسبة النقد من جنف عن مورد الزكاة ومصارفها ولذلك لا نزال نرى أن مضاعفة زكاة ريعها يظل وجيها والله تعالى أعلم. على كل حال وربحها محدود لا يتجاوز العشرة في المائة من قيمتها. على أحسن الحالات. فيكون في إيجاب زكاتها حسب قيمتها مضاعفة لقيمة الزكاة وإجحافا لصاحبها الذي قد لا يكون له مورد آخر. ويتبادر لنا أن الزكاة الواجبة عليها هي زكاة ربحها حسب النصاب الشرعي بكامله دون المناصفة. لأن المناصفة جعلت لغلات الأرض التي تسقى بالآبار والنضح وقيس عليها المصانع والعقارات المعدة للإيجار لأنها في حاجة إلى ترميم. وهذا وذاك ليس واردا بالنسبة لإسهام الشركات والله تعالى أعلم. 14- وهناك صورة أخرى. وهي ما يتقاضاه أرباب الوظائف الحكومية وغير الحكومية من مرتبات وما يحصل عليه أصحاب المهن الممتازة كالأطباء والمحامين والمهندسين من أجور. ومن هذه وتلك ما يكون كبير المقدار. ويتبادر

لنا أن ما يبقى في يدهم في آخر كل سنة خالصا لهم تجب عليه الزكاة إذا بلغ النصاب أو زاد. والله تعالى أعلم. وهناك أحاديث عديدة في عدم التضييق والتشديد على الناس في مقاضاة الزكاة الواجبة عليهم. وفي إيجاب التزام الحق على الجباة. منها حديث رواه الإمام أبو عبيد وأبو داود أيضا عن رافع بن خديج عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العامل على الصدقة بالحق كالغازي في سبيل الله حتى يرجع إلى بيته» «1» وحديث رواه الإمام مالك ورواه الخمسة أيضا عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين بعث معاذا إلى اليمن «ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله. فإن أجابوك إلى ذلك فأعلمهم أن عليهم خمس صلوات عن كل يوم وليلة. فإن أجابوك إلى ذلك فأعلمهم أن عليهم صدقة أموالهم. فإن أقروا بذلك فخذ منهم واتق كرائم أموالهم. وإياك ودعوة المظلوم فإنه ليس لها دون الله حجاب» «2» . وحديث رواه الإمام أبو عبيد عن عروة عن أبيه قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا فقال لا تأخذ من حزازات أنفس الناس شيئا. خذ الشارف والبكر وذا العيب» «3» وفي كتاب الأموال أحاديث صحابية تحتوي صورا تطبيقية فيها التزام لوصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكيمة. ولقد أوردنا ما ورد من أحاديث نبوية في صدد وجوب أداء الزكاة وفي إنذار الذين لا يؤدونها في سياق تفسير الآية [34] من السورة. فنكتفي بهذه الإشارة لنربط بين تلك الأحاديث وبين بحث الزكاة. وختاما نقول إن فحوى الآية متسق في هدفه التشريعي مع المبادئ القرآنية العامة في إيجابها على القادرين مساعدة المحتاجين والإنفاق في سبيل الله ووجوه البرّ والصالح العام من جهة، وفي عدم هذه الجهات هنا بالتطوع والتبرع من جهة ثانية، وفي جعل هذا الواجب مما يدخل في واجبات السلطان الإسلامي وجزءا من سياسة الدولة المالية والاجتماعية من جهة ثالثة. وفي هذا من المدى والروعة

_ (1) كتاب الأموال ص 401 والتاج ج 2 ص 26. (2) كتاب الأموال والتاج ج 2 ص 3 و 4. (3) كتاب الأموال 402- 406. [.....]

[سورة التوبة (9) : آية 61]

وخصائص التشريع القرآني ما فيه مما نبهنا عليه في سياق آيات الغنائم في سورة الأنفال والفيء في سورة الحشر. [سورة التوبة (9) : آية 61] وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61) . (1) هو أذن: كناية عن وصف رسول الله بأنه يصغي ويسمع لكل ما يقال له ويصدقه. في هذه الآية: 1- صورة أخرى للمنافقين حيث إنهم كانوا يؤذون النبي بأقوالهم ويصفونه بأنه يصغي لكل ما يقال له ويصدقه. 2- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالردّ عليهم وإنذارهم. فإذا كان هو أذنا كما قالوا فإنه أذن خير للمسلمين المخلصين وليس أذن شرّ. وإنه لمؤمن بالله ومعتمد عليه وحده. وإنه لمؤمن للمسلمين المخلصين وراكن إليهم وحسن الظن فيهم. وإنه في خلقه هذا لرحمة للمسلمين المخلصين في إيمانهم ونياتهم. وإن الذين يؤذون رسول الله بأي نوع من الأذى قولا وفعلا وجهرا وسرّا مستحقون لعذاب الله الأليم. تعليق على الآية وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ ... وما فيها من تلقين وصور وقد روى الطبري وغيره «1» أن بعض المنافقين كانوا في مجالسهم الخاصة

_ (1) انظر أيضا البغوي والخازن وابن كثير.

يقدحون في النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حذر بعضهم بعضا من وصول خبر هذه المجالس إليه قالوا إنه أذن سهل الإقناع فننكر ونحلف له فيصدق ويقنع. وإلى هذه الرواية قال البغوي إن الآية نزلت في نبتل بن الحارث من المنافقين وكان مشوه الخلقة حتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عنه على ما جاء في رواية البغوي «من أحبّ أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل» وكان ينمّ حديث النبي إلى المنافقين فقيل له لا تفعل فقال: «إنما محمد أذن. فمن حدثه صدقه فنقول ما شئنا ثم نأتيه ونحلف بالله فيصدقنا» . وكل من الروايتين محتملة ومتسقة مع الآية إجمالا. وإن كان مما يتبادر لنا أن الآية يمكن أن تفيد أن المنافقين إنما كانوا يعيبون على النبي صلى الله عليه وسلم كونه سريع الاستماع والتصديق لكل ما ينقل إليه مع تقريرها حقيقة أمرهم في تعمد القدح به وإيذائه. على أن الذي نرجحه أن الآية لم تنزل لحدتها ولمناسبة ما ورد في إحدى الروايتين. وأنها جزء من السلسلة واستمرار في السياق. وعطفها على ما سبقها واستعمال ضمير الجمع الغائب والعائد إلى من هم موضوع الكلام في الآيات السابقة قرائن على ذلك. ويسوغ القول والحالة هذه أن الصورة كانت قديمة معروفة عن المنافقين فذكرت في سلسلة التنديد والتقريع والتذكير بأخلاقهم ومواقفهم التي اقتضت حكمة التنزيل وحيها أثناء غزوة تبوك للتنديد بتثاقلهم وتخلفهم عن الغزوة. والله أعلم. والردّ الذي احتوته الآية انطوى على ثناء رباني بليغ على أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وما تحلّى به من صفات كريمة محببة. وجاء الردّ بسبب ذلك قويا محكما في الوقت نفسه: فالنبي إذن خير لهم. وليس ظنان سوء بالمؤمنين المخلصين. وإنه ليراهم خليقين بالاعتماد والثقة والتصديق ولا سيما أنه يؤمن بالله ويجعل اعتماده عليه ولا يبالي ما وراء ذلك. وقد صار بهذا رحمة للمؤمنين. لأن إساءة الظن وكثرة الشك بدون موجب وخاصة في المخلصين من مفسدات الأمور ومعقدات النفوس. وقد نهى الله المؤمنين عن ذلك في سورة الحجرات على ما مرّ تفسيره. ومما لا ريب فيه أن في هذه الصفة على هذا البيان مستمد إلهام قوي لمن يتولى قيادة الأمة.

[سورة التوبة (9) : الآيات 62 إلى 63]

[سورة التوبة (9) : الآيات 62 الى 63] يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) . عبارة الآيتين واضحة. وقد تضمنتا حكاية حلف المنافقين ليرضوا المؤمنين وردّا عليهم بأنهم لو كانوا صادقين لكان الأوجب عليهم أن يرضوا الله ورسوله، وإنذارا لمن يحادد الله ورسوله بالخزي العظيم والعذاب المخلّد. تعليق على الآية يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ ... والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين روى المفسرون «1» عن قتادة أن جماعة من المنافقين منهم الجلاس بن سويد ووديعة بن ثابت وقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا إن كان ما يقول محمّد حقا فنحن شرّ من الحمير. وكان عندهم غلام من الأنصار يقال له عامر بن قيس فغضب الغلام وقال والله إن ما يقوله محمد حقّ وأنتم شرّ من الحمير ثم أتى رسول الله فأخبره. فدعا لهم فسألهم فحلفوا له أن عامرا كاذب وحلف عامر أنهم هم الكاذبون. وصدّقهم النبيّ فجعل عامر يدعو ويقول اللهمّ صدّق الصادق وكذّب الكاذب فأنزل الله الآيتين. وهناك رواية أخرى عن مقاتل يرويها المفسرون «2» أيضا تذكر أن الآيتين نزلتا في رهط من المنافقين تخلّفوا عن غزوة تبوك فلما رجع رسول الله أتوه يعتذرون ويحلفون فأنزلهما الله. وفي السياق ما يفيد أن هذه السلسلة نزلت أثناء غزوة تبوك بحيث تكون الرواية الثانية غير محتملة الصحة. والرواية الأولى متسقة مع الآيتين ومحتملة الصحة. غير أن الذي يتبادر لنا على ضوء السياق أن الآيتين متصلتان بالصورة التي

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير. (2) المصدر نفسه.

[سورة التوبة (9) : الآيات 64 إلى 66]

احتوتها الآية السابقة وبمشهد من المشاهد كان فيه بعض المؤمنين والمنافقين وجرى فيه أخذ ورد وعتاب ونقاش حول ما كان يقع من المنافقين من القدح والعيب في حقّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجالسهم الخاصة حاول المنافقون فيه التنصل والتبرّؤ مما عوتبوا عليه إرضاء للنبي صلى الله عليه وسلم والغاضبين لكرامته من المؤمنين المخلصين. ومع ما قلناه فإننا نرجّح أن الآيتين لم تنزلا لمناسبة جديدة وليستا منفصلتين عن السياق. والمشهد الذي احتوتاه كان قديما فذكر في سياق سلسلة التنديد والتقريع والتذكير بأخلاق المنافقين ومواقفهم. وعطف الآيتين على ما قبلهما وضمير الجمع الغائب من القرائن على ذلك. وفي المشهد المحكي صورة أخرى لما صار إليه موقف المنافقين من تطور إلى الخوف والرياء والرغبة في كسب رضاء النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين المخلصين. وفيه صورة تتكرر في ظروف استعلاء أصحاب الحق والمجاهدين في سبيله. وفي هذا وذاك تلقين مستمر المدى بالتحذير من الانخداع بالمنافقين الذين لم يثبتوا إخلاصهم وصدق دعواهم في المواقف والظروف الهامة. [سورة التوبة (9) : الآيات 64 الى 66] يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66) . في الآيات: 1- إشارة إلى ما كان يحذر منه المنافقون من نزول قرآن فيهم يفضح حقائق قلوبهم وأسرار مجالسهم. 2- وأمر للنبي بتوعدهم بأن الله محقق ما يتوقعون ويحذرون رغما عما يبدو في طي كلامهم من استخفاف واستهزاء.

تعليق على الآية يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة ... والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين

3- وإشارة أخرى إلى ما كانوا يعتذرون به حينما يعاتبون على ما يقع في مجالسهم حيث كانوا يقولون إنما كنّا نلهو ونمزح. 4- وسؤال استنكاري على سبيل التنديد عما إذا كان يصحّ لمؤمن مخلص أن يلهو ويخوض ويمزح ويستهزىء بالله وآياته ورسوله. 5- وإيذان لهم على سبيل الإنذار بأن اعتذارهم غير مجد لهم. فقد كفروا بعد إيمان. وإذا كان من الجائز أن يعفو الله عن بعضهم لاحتمال توبته فإنه معذب بعضهم حتما لأنهم مجرمون ومصرّون على إجرامهم. تعليق على الآية يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ ... والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين وقد روى المفسرون «1» روايات عديدة في صدد نزول هذه الآيات. منها أنها نزلت في جماعة من المنافقين كمنوا للنبي صلى الله عليه وسلم في طريق عودته من تبوك ليوقعوه عن دابته في هاوية. فعلم النبي صلى الله عليه وسلم بأمرهم وعاتبهم فأنكروا واعتذروا. ومنها أن بعض المنافقين كانوا في أثناء السفر إلى تبوك يقدحون في النبي ويستهزئون بما كان يعد من نصر الله له على الروم ويقولون أيحسب أن جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا. والله كأننا بهم غدا مقرّنين بالجبال فعلم النبي بأقوالهم فأوقف الركب وعاتبهم فأنكروا واعتذروا ومنهم من تاب وحسن إيمانه. ومنها أن رجلا من المنافقين استغاب القرّاء من أصحاب رسول الله أثناء غزوة تبوك وقال إنهم أرغبنا بطونا وأكذبنا ألسنة وأجبننا عند اللقاء فكذّبه أحد المخلصين ثم ذهب ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم به فوجد القرآن قد سبقه. ومما رواه المفسرون أن المنافقين كانوا يقولون حينما يجتمعون لاستغابة النبي والمخلصين لعلّ الله لا يفشي سرّنا. ومما رواه المفسرون في سياق الرواية الأولى أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اقترحوا

_ (1) انظر كتب التفسير السابقة الذكر أيضا.

قتل الجماعة المتآمرة فقال: «أكره أن تقول العرب لما ظفر محمّد وأصحابه أقبل يقتلهم» بل يكفيناهم الله بالدبيلة «1» . وهناك رواية تذكر أن الاستهزاء كان من ابن أبيّ بن سلول في المدينة وأن النبي عاتبه فأخذ يعتذر له ويقول إنما كنا نخوض ونمزح يا رسول الله. وقد ذكر هذا المفسّر اسم الشخص الذي تاب وكان مظهر عفو الله وهو مخشي بن حمير الأشجعي وروي أنه كان يقول: «اللهم إني لا أزال أسمع آية تقرأ أعنى بها، تقشعرّ الجلود وتجب القلوب منها. اللهمّ اجعل وفاتي قتلا في سبيلك. لا يقول أحد أنا غسلت. أنا كفنت. أنا دفنت» وأنه أصيب يوم اليمامة. وليس شيء من الروايات واردا في كتب الأحاديث المعتبرة والذي يتبادر لنا أن فحوى الآية الأولى وروحها تلهم أن الآيات في صدد مجلس من مجالس المنافقين استغابوا فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقالوا ما حكته الآية الأولى من حذرهم على سبيل الهزء والتفكّه. وعلم النبي صلى الله عليه وسلم بأمرهم فعاتبهم فاعتذروا. ومنهم من تاب وحسن إيمانه ومنهم من ظلّ مرتكسا في الكفر والنفاق. وقد يكون هذا المجلس أثناء غزوة تبوك فجاءت الآيات منسجمة مع السلسلة السابقة واللاحقة. وإن كنّا نرجح أنها لم تنزل مستقلة عن ما سبقها وأنها جزء من السلسلة وأن المجلس كان سابقا فتضمنت الآيات حكايته والتذكير به في جملة ما حكى وذكر به من مواقفهم وأخلاقهم في سياق التنديد بهم على تثاقلهم عن الغزوة. وتكون الآيات والحالة هذه قد نزلت أثناء الغزوة وإن صحّ هذا الترجيح وهو ما نرجوه تكون الرواية التي ذكر فيها اسم ابن أبي بن سلول هي المحتملة وكان هذا من المتخلّفين والله أعلم. والمشهد الذي حكته الآيات مما يمكن أن يكون من ذوي القلوب المريضة في كل ظرف. وبخاصة في الظروف العصيبة. والآيات والحالة هذه تنطوي على تلقين لذوي الشأن بوجوب الوقوف من هذه الفئة موقف اليقظة والشدة وعدم الانخداع بما يبدونه من أعذار كاذبة إلا إذا تحقق صدق اعتذارهم وتوبتهم.

_ (1) فسّر البغوي الدبيلة بأنها سراج من نار يظهر في أكتافهم حتى ينجم من صدورهم.

[سورة التوبة (9) : الآيات 67 إلى 70]

ونقف عند رواية البغوي التي تضمنت جواب النبي صلى الله عليه وسلم على اقتراح قتل المتآمرين من المنافقين لنقول إن مثل هذا الجواب صدر أيضا من النبي صلى الله عليه وسلم في حقّ عبد الله بن أبي بن سلول كبير منافقي المدينة أيضا على ما شرحناه في تفسير سورة (المنافقون) حيث يتأكد في هذا ما نبهنا عليه من الحكمة التي انطوت في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في موقفه من المنافقين وعدم البطش والتنكيل فيهم. [سورة التوبة (9) : الآيات 67 الى 70] الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) . (1) بخلاقهم: بنصيبهم. (2) وخضتم كالذي خاضوا: بمعنى وفعلتم ما فعلوه من خوض وسعي في الباطل والفساد. تعليق على الآية الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ... والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور ودلالات عبارة الآيات واضحة. ولم يرو المفسرون رواية ما في صددها. والمتبادر

أنها استمرار في السياق وجزء من السلسلة. وقد جاءت معقبة على الآيات السابقة التي احتوت ما احتوته من مشاهد مواقف المنافقين ومكائدهم وسوء أدبهم ونواياهم بسبيل تقرير أخلاقهم بصورة عامة وكونهم عصبة واحدة متضامنة نساء ورجالا في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف والبخل بما في أيديهم ونسيانهم الله وحسابه، وإنذارهم مع تهوين أمرهم وتقرير كونهم ليسوا بدعا في الأمم لا في كثرة المال والولد. ولا في متاع الدنيا والتمكن منها. ولا في ما كان منهم من كيد وخبث ومكر وكفر وخوض وتكذيب. ولقد حلّ بسابقيهم من أمثالهم الذين كانوا أشد منهم قوّة وأكثر أموالا وأولادا غضب الله وليسوا ليعجزوه. فقد حبطت أعمالهم وخسروا في الدنيا والآخرة ولهم النار مع الكفار خالدين فيها. وعليهم اللعنة. وأسلوب الآيات قوي حاسم في كل ما جاءت بسبيله من جهة وموثق من جهة أخرى لكون الآيات جميعها منذ الآية [42] بل منذ الآية [37] سلسلة متصلة الأجزاء للتنديد بالمنافقين وتقريعهم والتذكير بأخلاقهم ومكائدهم ومواقفهم التي كانت تبدر منهم قبل غزوة بدر في مناسبة الموقف الذي وقفوه من الدعوة إلى غزوة تبوك وتهرّبهم منها. ولعلّ ذكر المنافقات في الآيات تدعيم لما قررناه من حيث إنه لم يرو أحد من المنافقات من كان خرج مع من خرج من المنافقين في غزوة تبوك. وإنما أشركن بالذكر لأنهن كن يشاركن المنافقين في الدور الخبيث الذي كانوا يقومون به في المدينة. ولقد تكرر ذكر المنافقات مع المنافقين في أكثر من موضع حيث يدعم هذا ما قلناه في المناسبات السابقة من الدلالة على شخصية المرأة العربية وبروزها في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم أو على الأقل على وجود شخصيات نسائية بارزة. وهذه الدلالة منطوية في ما تكرر ذكره من المؤمنات المخلصات في مواضع عديدة أيضا. ويحسن أن ننبّه في مناسبة الآية [70] إلى أسلوب من أساليب النظم القرآني. فأخبار الأمم السابقة ورسلهم في السور المكيّة كانت تقصّ بشيء من التفصيل. وإذا اقتضت حكمة التنزيل أن تذكر اقتضابا كانت العبارة القرآنية تتضمن

[سورة التوبة (9) : الآيات 71 إلى 72]

مع ذلك شيئا ما عنها وعنهم. أما في السور المدنيّة فاكتفى بالتذكير الخاطف كما جاء في هذه الآية وفي بعض سور أخرى مثل الحديد والتغابن. ولقد أورد المفسرون في سياق هذه الآية حديثا عن أبي هريرة رواه بشيء من الخلاف في الألفاظ والترتيب الشيخان عن أبي سعيد رأينا الأفضل إيراده جاء فيه قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم لتتبعنّ سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا في جحر ضبّ لا تبعتموهم. قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى قال: فمن؟ وفي رواية قيل يا رسول الله كفارس والروم. قال ومن الناس إلّا أولئك» «1» . وأورد المفسرون الذين أوردوا صيغة أبي هريرة قوله «اقرأوا إذا شئتم كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ إلى آخر الآية» . ويلحظ أن الآيات هي في صدد المنافقين السامعين والتذكير بأن في الأمم السابقة من كان على شاكلتهم فأحبط الله أعمالهم وجعل النار دار خلود لهم وأن هذا ما سوف يكون شأن هؤلاء المنافقين بحيث يكون إيراد الحديث الذي فيه خطاب للمسلمين عامة يتحمّل التوقف. ومع ذلك ففي الحديث على كل حكمة ومعجزة. حيث انطوى على تحذير المسلمين وتنبيههم حتى لا يسيروا في كل طريق سار فيه اليهود والنصارى أو الروم والفرس مما ليس فيه فائدة أو فيه مخالفة لمبادىء الإسلام وآدابه وحيث تحقق تنبيه النبي صلى الله عليه وسلم بما كان من فئات كثيرة من مثل ذلك. [سورة التوبة (9) : الآيات 71 الى 72] وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) .

_ (1) انظر التاج ج 1 ص 36- 37.

تعليق على الآية والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض والآية التالية لها. وما فيهما من دلالة وتلقين. وبخاصة في صدد توطيد شخصية المرأة إزاء الرجل في المجتمع الإسلامي. وبعض ما ورد في سياقهما من أحاديث نبوية عن الجنة ورضوان الله

تعليق على الآية وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ والآية التالية لها. وما فيهما من دلالة وتلقين. وبخاصة في صدد توطيد شخصية المرأة إزاء الرجل في المجتمع الإسلامي. وبعض ما ورد في سياقهما من أحاديث نبوية عن الجنة ورضوان الله عبارة الآيتين واضحة أيضا. ولم يرو المفسرون رواية خاصة في صددهما. والمتبادر أنهما جاءتا استطراديتين للتنويه بالمؤمنين المخلصين وتبشيرهم مقابل ما سبقهما من التنديد بالمنافقين وإنذارهم: فالمؤمنون المخلصون من الرجال والنساء متضامنون متناصرون على كل ما فيه الخير والحقّ فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله وسيكونون بسبب ذلك موضع رحمة الله القوي الحكيم. وقد وعدهم بالخلود في مساكن طيبة من جنّات عدن فضلا عن رضوان الله الذي يفوق في مداه ومعناه نعيم الجنّات. وعلى هذا فالآيتان ليستا منفصلتين عن السياق والسلسلة. ومثل هذا الاستطراد للمقابلة مألوف في النظم القرآني مما مرّ منه أمثلة عديدة. وورود الآيتين في مقامهما يوثق ما قلناه من وحدة السلسلة وانسجام آياتها وترابطها. وذكر المؤمنات في هذا المقام يؤكد الدلالة التي نبّهنا عليها قبل قليل في صدد بروز المرأة العربية ونشاطها في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم ومشاركتها في ما كان من أحداث متنوعة في مجال الدعوة الإسلامية العظيم. وفي ذكر المؤمنات مع المؤمنين في الآيات معنى آخر نوّهنا به في مناسبات عديدة سابقة وجاءت الآيتان لتدعمه وتؤكده بقوة. وهو توطيد القرآن الكريم لشخصية المرأة إزاء الرجل في المجتمع الإسلامي. ومساواتها معه في المكانة الاجتماعية والسياسية والأهلية للتكاليف الإسلامية على أنواعها وبخاصة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتضامن والتناصر مع الرجل في كل ما يعود على المجتمع بالصلاح والخير مما هو ذو خطورة عظمى امتاز به القرآن وترشحت به

الشريعة الإسلامية للشمول والخلود. وهذه السورة من أواخر ما نزل من القرآن على ما نبهنا عليه في مقدمتها. ويتبادر لنا أن حكمة التنزيل قد شاءت بذكر المؤمنات بهذا الأسلوب القوي في آخر سور القرآن توكيد توطيد مركز المرأة وشخصيتها في المجتمع الإسلامي سياسيا واجتماعيا على قدم المساواة مع الرجل ليكون هذا الأمر محكما وحاسما. وفي هذا ما فيه من روعة وجلال. ولقد أورد المفسرون في سياق هاتين الآيتين أحاديث نبوية عديدة في وصف الجنة والمساكن الطيبة ورضوان الله، وفي بعضها حثّ على الأعمال الصالحة وترغيب فيها. من ذلك حديث رواه ابن ماجه عن أسامة بن زيد قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا هل مشمّر إلى الجنة. فإنّ الجنة لا حظر لها، هي وربّ الكعبة نور يتلألأ. وريحانة تهتزّ. وقصر مشيد ونهر مطرد. وثمرة نضيجة. وزوجة حسناء جميلة. وحلل كثيرة. ومقام في أبد في دار سليمة وفاكهة وخضرة. وحبرة ونعمة. في محلة عالية بهية. قالوا: نعم يا رسول الله نحن المشمّرون لها. قال: قولوا إن شاء الله. فقال القوم إن شاء الله» «1» . ومنها حديث رواه الترمذي عن علي رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ في الجنة لغرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها. فقام أعرابي فقال: يا رسول الله لمن هي؟ فقال: لمن طيّب الكلام وأطعم الطعام. وأدام الصيام. وصلى بالليل والناس نيام» «2» . ومنها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي سعيد قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يقول لأهل الجنة. يا أهل الجنة. فيقولون لبيك ربّنا وسعديك والخير في يديك. فيقول هل رضيتم؟ فيقولون وما لنا لا نرضى يا ربّ وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك. فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون يا ربّ وأيّ شيء أفضل من ذلك فيقول أحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا» «3» . ومنها حديث رواه الشيخان والترمذي أيضا عن عبد الله بن قيس قال:

_ (1) من تفسير ابن كثير في سياق الآيات. (2) المصدر نفسه. (3) من ابن كثير وقد ورد نصّه في التاج ج 5 ص 384.

[سورة التوبة (9) : آية 73]

«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما. وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما. وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربّهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» «1» . ومنها حديث عن أبي هريرة رواه الإمام أحمد قال: «قلنا يا رسول الله حدّثنا عن الجنة ما بناؤها قال لبنة ذهب ولبنة فضة وملاطها المسك. وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت. وترابها الزعفران. من يدخلها ينعم لا ييأس. ويخلد لا يموت ولا تبلى ثيابه. ولا يفنى شبابه» «2» . وليست هذه الأحاديث كل ما ورد في هذا الباب فهناك أحاديث كثيرة من بابها أوردها المفسرون أو وردت في كتب الحديث فاكتفينا بما أوردناه. ونكرر هنا ما قلناه في مناسبات سابقة مماثلة من أن الإيمان بما جاء في القرآن وثبت عن رسول الله من المشاهد الأخروية ونعيمها واجب. وأنه في نطاق قدرة الله وأنه لا بدّ من حكمة من ذكره بالأسلوب الذي ورد به. وفحوى الآيات والأحاديث يلهم أن من تلك الحكمة التبشير والتطمين، والترغيب والحثّ على صالح الأعمال ابتغاء رضا الله ورضوانه. [سورة التوبة (9) : آية 73] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) . عبارة الآية واضحة. ولم يرو المفسرون رواية خاصة في صددها. والمتبادر أنها بمثابة وصل بين أجزاء وموضوع السلسلة بعد الآيتين السابقتين اللتين جاءتا للاستطراد والمقابلة. والمتبادر كذلك أن هدف الآية المباشر هو تلقين الموقف الذي يجب أن يقفه النبي صلى الله عليه وسلم من المنافقين بعد سرد مواقفهم ومكائدهم وأخلاقهم ولا سيما أن

_ (1) من ابن كثير وقد ورد نصّه في التاج ج 5 ص 383. (2) من ابن كثير، وهناك أحاديث عديدة أخرى فاكتفينا بما أوردناه. انظر تفسير الطبري وانظر التاج ج 5 ص 364 وما بعدها.

السلسلة في صددهم. أما ذكر الكافرين معهم فالمتبادر أنه من قبيل التعميم. ولقد ذكرت الآية [67] من السورة التي مرّت قبل قليل مصير الفريقين معا فيكون في ذكرهما معا في هذه الآية توكيد الآخر، ولقد ورد نصّ هذه الآية في سورة التحريم التي سبق تفسيرها. ويظهر أن مناسبة السياق والكلام اقتضت إيحاءها ثانية هنا. ولقد روى الطبري في سياق الآية روايتين متعارضتين واحدة عن ابن مسعود جاء فيها أن في الآية أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بمجاهدة المنافقين بنحو ما يجاهد به المشركين والكفار، وأخرى عن ابن عباس والضحاك والحسن تفيد التفريق في المعاملة فتكون مجاهدة الكفار بالقتال والسيف والمنافقين بالإغلاظ لهم بالكلام والحدود. وقال الطبري إن أولى الأقوال بالصواب هو ما قاله ابن مسعود، فإن قاله قائل فكيف تركهم رسول الله مقيمين بين أظهر أصحابه مع علمه بهم قيل إن الله تعالى إنما أمر بقتال من أظهر كلمة الكفر منهم ثم أقام على إظهاره. وأما من إذا اطلع عليه منهم أن تكلم بكلمة الكفر وأخذ بها فأنكرها ورجع عنها وقال إني مسلم فإن حكم الله في كلّ من أظهر الإسلام بلسانه أن يحقن بذلك دمه وماله وإن كان معتقدا غير ذلك. ولقد جاء نصّ هذه الآية في سورة التحريم وهي الآية [9] وقد علقنا عليها بما يغني عن تعليق جديد آخر. والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت تكرارها لتجدد المناسبة. ولقد علقنا على موقف النبي صلى الله عليه وسلم من المنافقين في سياق تفسير بعض آيات سور البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأحزاب والمنافقون بما يغني عن تعليق جديد آخر أيضا.. وإن كان من شيء نزيده على ما قلنا سابقا هو أن النبي صلى الله عليه وسلم ظل إلى آخر حياته لا يعتبر المنافقين أعداء محاربين ولم يقاتلهم ولم يأمر بقتلهم حيث يلهم هذا أنه اعتبر الآيات الواردة بذلك من قبيل الإذن وليس من قبيل الإلزام. وأن ما كان من موقفه منهم هو ما رأى فيه الخير والمصلحة للإسلام والمسلمين. ومهما يكن من أمر فهذه الآية كمثيلاتها وعلى ضوء موقف النبي صلى الله عليه وسلم تنطوي

[سورة التوبة (9) : آية 74]

على تلقين قوي مستمر المدى بوجوب الوقوف من المنافقين وذوي القلوب المريضة في تصرفاتهم الدينية والاجتماعية والوطنية الشاذة المنحرفة عن الحق القويم موقف الشدة والتنكيل في حدود مصلحة الإسلام والمسلمين. [سورة التوبة (9) : آية 74] يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74) . في الآية: 1- حكاية لما كان المنافقون يحلفون عليه بالله من كونهم لم يقولوا ما نسب إليهم من الأقوال الخبيثة الدالة على كفرهم وعدم إخلاصهم. 2- وتكذيب رباني لهم بتوكيد كونهم قد قالوا ما به الكفر وكفروا بعد إيمانهم. وزادوا على ذلك فحاولوا محاولات عدوان أحبطها الله فلم ينالوا منها مأربا. 3- وتقرير كون مواقفهم الخبيثة الجاحدة ناشئة من طبيعة نكران الجميل والحسد المجبولة عليها نفوسهم. إذ لم يكن موجب لنقمتهم وغيظهم إلّا ما عاد عليهم من الخير والنفع والفضل من الله ورسوله مما يستوجب الشكر بدل النقمة والكفر. 4- وإنذار رادع ودعوة جديدة لهم: فباب التوبة مفتوح لهم فإن يتوبوا يكن خيرا لهم وإن يصروا على موقفهم ويعرضوا فقد استحقوا عذاب الله الشديد في الدنيا والآخرة معا ولن يجدوا لهم في الأرض وليّا ولا نصيرا يدفع عنهم العذاب. تعليق على الآية يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا.. وما فيها من صور وتلقين ولقد روى الطبري وغيره روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات. منها أن شخصا اسمه الجلاس قال إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شرّ من الحمير. فنقلها

ابن زوجته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعاتبه فحلف بأنه ما قال فنزلت الآية مكذبة له. ومنها أن الذي نقلها إلى النبي شخص آخر وكان صديقا للجلاس فقال للنبي خفت إن كتمتها أن تصيبني قارعة أو ينزل فيّ قرآن وإن الجلاس تاب بعد نزول الآية وحسن إيمانه. ومنها أن قائل ذلك القول رجل غير الجلاس فانبرى له رجل مؤمن فقال له إن ما قاله حقّ ولأنت شرّ من حمار، فهمّ المنافق مع بعض أصحابه بقتله فلما عاتبهم النبي حلفوا له ما قالوا وما فعلوا وأن الرجل القائل كان فقيرا فأغناه الله حيث قتل له مولى فأعطاه رسول الله ديته. ومنها أنها نزلت في عبد الله بن أبيّ بن سلول كبير المنافقين حيث قال: ما مثلنا ومثل محمد إلّا كما قال القائل: سمّن كلبك يأكلك. ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. وكان ذلك في أثناء غزوة من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم ومنها أنها نزلت في حق الذين استغابوا النبي أثناء غزوة تبوك وتآمروا على قتله. ومنها أن جملة وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا عنت تفكير بعضهم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم ففشلوا أو عنت ما قاله ابن أبي بن سلول. وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الأحاديث المعتبرة. وبعض هذه الروايات روي في مناسبة سابقة في هذه السورة وفي سورة (المنافقون) وعلى كل حال ففي الآية صورة من صور المنافقين ومواقفهم وأقوالهم ومسارعتهم إلى التنصّل وحلف الأيمان من جهة. وقد استهدفت التنديد بهم وفضحهم وإنذارهم وتلقين وجوب الوقوف منهم موقف الشدة من جهة أخرى. ويتبادر لنا إلى هذا أن الآية غير منفصلة عن السياق والتسلسل. وكل ما في الأمر أنها احتوت هذه الصورة على سبيل التذكير بأخلاقهم ومواقفهم في معرض التنديد. ومن المحتمل أن يكون الحادث وقع في أثناء غزوة تبوك فكانت المناسبة قائمة لذكره في السلسلة كما أن من المحتمل أن يكون وقع قبله فذكر على سبيل التذكير. ولقد تكررت حكاية مواقف مماثلة من المنافقين مما يدل على أن هذه المواقف كانت تتكرر منهم فاستحقوا ما احتوته هذه الآية وأمثالها من التنديد والإنذار. والفقرة الأخيرة قد تلهم أن المنافقين أخذوا في التناقص وعزلوا عن

المجتمع الإسلامي حتى أصبحوا لا يجدون وليا ولا نصيرا. وهذا تطور واضح في مركزهم وفي استعلاء كلمة الله ورسوله. والدعوة إلى التوبة ونصيحتهم بها حتى في مثل الظرف التطوري الذي صاروا فيه مما هو متسق مع الدعوة والنصيحة القرآنيتين المتكررتين في كل مناسبة وبالنسبة للمنافقين والكفار على السواء، ومؤكد لما نبهنا عليه في المناسبات العديدة السابقة بكون الهدف الجوهري للتنزيل القرآني والشريعة الإسلامية إنما هو إصلاح البشرية وإنقاذ الناس من الضلال والفساد والأخلاق المنكرة. ولقد ذكرنا قبل أن المفسرين رووا أن جملة وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ عنت شخصا كان فقيرا فصار غنيا بسبب دية حصل عليها بحكم رسول الله. ويتبادر لنا أنها أشمل مدى وقصد من حادثة شخص واحد. وإن ما تلهمه هو أن عهد رسول الله في المدينة قد صار إلى جانب بركته الروحية الفياضة سببا من أسباب الغنى والثروة للناس عامة ومن الجملة المنافقين. وهذا مما يتسق مع الروايات وبخاصة بعد أن أخذ سلطان الإسلام يتوطد ودعوته تنتشر وعاصمته المدينة المنورة- يثرب تزدحم بالناس من كل صوب لمختلف البواعث، والحركة الاقتصادية تقوى نتيجة لذلك. والتقريع فيها قوي يكشف عن ناحية من نواحي نفوس المنافقين ومقابلتهم الفضل بالجحود. ويكشف في الوقت نفسه عن طبيعة خبثاء الطوية لؤماء الطبع. وهي الحسد للمنعم والكيد للمتفضل والنقمة على مغدق الخير وسببه. وفي ذلك تلقين مستمر المدى بتقبيح هذه الطبيعة ووجوب الاحتراز منها. وتقرير كونها من صفات المنافقين وذوي القلوب المريضة. ويلحظ أن الآية أكدت أن المنافقين قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إيمانهم. ومع ذلك فحكمة الله اقتضت أن يظل باب التوبة مفتوحا لهم. وليس هناك أي خبر صحيح يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتلهم أو قتلهم مما فيه تدعيم لما قلناه في سياق تفسير الآية السابقة لهذه الآيات. وتوافق مع الذي علّق به الطبري وأوردناه في سياق آية

[سورة التوبة (9) : الآيات 75 إلى 78]

سورة التحريم [9] من أن القتل والقتال لمن كفر بعد إيمانه علانية وأصرّ على ذلك دون من يكون قال ذلك خفية وعلم الله به ولكنه أنكره وقال إني مسلم إذ يكون بذلك قد حقن دمه وحسابه على الله. [سورة التوبة (9) : الآيات 75 الى 78] وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78) . في هذه الآيات: 1- صورة أخرى من مواقف المنافقين حيث كان بعضهم يعاهد الله وينذر على نفسه إن آتاه الله من فضله ووسع عليه الدنيا بأن يتصدق ويخلص فلما حقق الله له أمنيته بخل وأخلف وعده. 2- وتعقيب على هذه الصورة يتضمن تقرير كون هذا الموقف قد أدى إلى اندماغ المخلف بالنفاق اندماغا مستمرا إلى يوم يلقى الله لأنه أخلف فيما وعد وكذب على الله تعالى فعاقبه الله على ذلك. 3- وسؤال استنكاري فيه إنذار ووعيد عما إذا كان المنافقون وهم يقفون مثل هذه المواقف الغادرة الكاذبة لا يعلمون أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأنه علام الغيوب لا تفوته هاجسة ولا يغرب عن علمه شيء مما يدور في خلدهم؟ تعليق على الآية وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ ... إلخ والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين ولقد روى المفسرون «1» أن شخصا اسمه ثعلبة بن حاطب طلب من رسول

_ (1) انظر الطبري والبغوي والطبرسي.

الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله ليرزقه مالا فقال له ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه. فأعاد عليه السؤال فقال له أما ترضى أن تكون مثل نبي الله والذي نفسي بيده لو شئت أن تسير معي الجبال ذهبا وفضة لسارت. فقال له والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كلّ ذي حق حقه. فقال رسول الله اللهمّ ارزق ثعلبة مالا. فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود حتى ضاقت عليه المدينة فتنحّى عنها فنزل واديا وصار يقصر في واجبات الصلاة. وظلّ ماله ينمو وعلم النبي صلى الله عليه وسلم بأمره فأرسل من يأخذ صدقة ماله منه فأبى وقال ما هذه إلا جزية أو أختها، فأنزل الله فيه الآيات. ورووا إلى هذه الرواية روايات أخرى منها أن ثعلبة نذر بما نذر أمام ملأ من قومه ثم ورث مالا فلم يف بما وعد. ومنها أن هذا النذر كان من جماعة من بني عوف فآتاهم الله من فضله فبخلوا. ومنها أنها نزلت في حاطب بن بلتعة. كان له مال في الشام فأبطأ عليه وجهد لذلك جهدا شديدا فحلف لئن أتاه ذلك المال ليصدقن فأتاه فلم يفعل. وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب أحاديث معتبرة. ولقد روينا قصة لحاطب بن بلتعة في سياق سورة الممتحنة تفيد أنه كان مخلصا وممن شهدوا بدرا. لذلك نستبعد صحة الرواية عنه. وفي الرواية التي ذكر فيها ثعلبة أن بعض أقاربه قال له ويحك قد أنزل الله فيك قرآنا فخرج حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يقبل صدقته فقال له إن الله منعني من ذلك فجعل يحثو التراب على رأسه فقال له رسول الله هذا عملك فقد أمرتك فلم تطعني. وقبض رسول الله ولم يقبض صدقته. فأتى أبا بكر فعرض عليه صدقته فقال له لم يقبلها رسول الله وأنا أقبلها مستنكرا. وقبض أبو بكر ولم يقبضها، فجاء إلى عمر فرفضها، ثم جاء بعده إلى عثمان فرفضها. ومات في زمن عثمان. وهذا التفصيل عجيب. فالروايات لا تذكر أنه كان من المنافقين. والآية السابقة تشجع المنافقين على التوبة وتعدهم بالخير إذا فعلوا. والآية الثانية إلى كل هذا تلهم أن الذين عاهدوا الله وأخلفوه أكثر من واحد وأنهم كانوا من المنافقين. وعلى كلّ حال فالآيات تضمنت حكاية مشهد أو صورة خبيثة من مشاهد

[سورة التوبة (9) : آية 79]

المنافقين ومواقفهم. والذي نرجحه أن ذلك كان مما وقع قبل غزوة تبوك فاحتوت الآيات تذكيرا بذلك في معرض سرد أخلاق المنافقين كما هو الحال في الآيات السابقة. وأن الآيات والحكمة هذه جزء من السلسلة ولم تنزل لحدتها في مناسبة إحدى الروايات المروية والله تعالى أعلم. وواضح أن الآيات تنطوي كسابقاتها على تلقين مستمر المدى بتقبيح هذه الصورة وتقرير كونها من أخلاق المنافقين. ولقد أورد الطبري في سياقها بعض الأحاديث من ذلك حديث مرفوع رواه قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تكفلوا لي بست أتكفل لكم بالجنة. قالوا ما هي يا رسول الله قال إذا حدثتم فلا تكذبوا وإذا وعدتم فلا تخلفوا وإذا اؤتمنتم فلا تخونوا وكفوا أبصاركم وأيديكم وفروجكم. أبصاركم عن الخيانة. وأيديكم عن السرقة. وفروجكم عن الزنا» وحديث مرفوع آخر رواه الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثلاث من كنّ فيه صار منافقا وإن صام وصلّى وزعم أنه مسلم. إذا حدّث كذب وإذا أؤتمن خان وإذا وعد أخلف» . وهناك حديثان من باب الثاني رواهما الشيخان والترمذي وأبو داود جاء في أحدهما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «آية المنافق ثلاث إذا حدّث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان» «1» . وثانيهما عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خلة منهنّ كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها. إذا حدّث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر» «2» . وفي الأحاديث مقاييس بليغة للمنافقين. ومن الحكمة المنطوية فيها كما هو المتبادر تقبيح هذه الصفات والتحذير منها وتقرير كونها لا يمكن أن تكون في مؤمن مخلص. [سورة التوبة (9) : آية 79] الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) .

_ (1) التاج ج 5 ص 41. (2) المصدر نفسه. [.....]

تعليق على الآية الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ... إلخ وما فيها من صور وتلقين

(1) المطوعين: المتطوعين. وروح الآية تلهم أنها هنا في معنى المتبرعين في الصدقات. في الآية: (1) صورة خبيثة أخرى للمنافقين حيث كانوا يعيبون المتبرعين من المؤمنين بالصدقات ويسخرون منهم وبخاصة من الذين يتصدقون بالقليل الذي يبلغ إليه جهدهم وطاقتهم. (2) وتعقيب تنديدي على ذلك: فهم أحق بالسخرية. وليسخرن الله منهم وليكونن لهم عنده العذاب الأليم. تعليق على الآية الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ ... إلخ وما فيها من صور وتلقين روى البخاري عن ابن مسعود حديثا جاء فيه: «لما أمرنا بالصدقة كنّا نتحامل فجاء أبو عقيل بنصف صاع وجاء إنسان بأكثر منه فقال المنافقون إنّ الله لغنيّ عن صدقة أبي عقيل. وإنّ الآخر ما فعل إلا رئاء فأنزل الله الآية» «1» ولقد أورد الطبري وغيره هذا الحديث وأوردوا معه روايات أخرى «2» مفادها أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا المسلمين إلى التصدق فأقبلوا أغنياء وفقراء كل بحسبه. فكان من الأغنياء عبد الرحمن بن عوف الذي تصدّق بنصف ماله البالغ أربعة آلاف دينار أو بأربعمائة أوقية من فضة أو بأربعين أو بمائة أوقية من ذهب. وعاصم بن عدي الذي تبرّع بمائة وسق من تمر. وعمر بن الخطاب الذي تبرّع بمال كثير. وكان من الفقراء أبو

_ (1) التاج ج 4 ص 118. (2) انظر أيضا البغوي وابن كثير والطبرسي.

[سورة التوبة (9) : آية 80]

عقيل وفي رواية أخرى أبو خيثمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له لقد أجرت نفسي ونلت صاعين من تمر فأمسكت بأحدهما وأتيتك بالآخر فأخذ المنافقون يلمزون الأغنياء بالرياء ويسخرون بأبي عقيل أو أبي خيثمة ويقولون إن الله ورسوله لغنيان عنه. وأنه لم يأت بصاعه إلّا ليذكر بين الناس. ومما رووه أيضا أن رسول الله هتف يوما قائلا من يتصدق اليوم بصدقة أشهد له بها عند الله يوم القيامة فجاء رجل ليس في البقيع رجلا أقصر منه قامة ولا أشدّ سوادا ولا أذم لعين منه يقود ناقة ليس في البقيع أحسن ولا أجمل منها فقال أصدقة يا رسول الله قال نعم قال فدونكها فألقى إليه بخطامها. فقال والله إنه ليتصدق بها ولهي خير منه. فنظر رسول الله فقال بل هو خير منك ومنها. وليس ما يمنع أن المواقف كانت تتكرر فتعددت الروايات وإن كان من الصحيح أن يؤخذ بحديث البخاري على أنه سبب نزول الآية مباشرة. ونرجح أن الوقائع المروية وقعت قبل السفر إلى تبوك. ولعلها وقعت في مناسبة الإعداد لغزوة تبوك. وأن الآية لم تنزل حين وقعت. وأنها جزء من السلسلة في معرض ذكر أخلاق ومواقف المنافقين والتنديد بهم. والصورة من الصور الخبيثة المألوفة من ذوي القلوب المريضة في مختلف الظروف حيث يبخلون بما آتاهم الله ثم يقدحون في ذوي النفوس السمحة من قبيل التعطيل والتغطية على بخلهم. وواضح أن في الآيات تلقينا مستمر المدى في تقبيح هذه الصورة وتقرير كونها من أخلاق المنافقين. [سورة التوبة (9) : آية 80] اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80) . تعليق على الآية اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ... ومداها وما ورد في صددها من أقوال وروايات وأحاديث عبارة الآية واضحة. والخطاب فيها موجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وضمير الجمع

الغائب عائد إلى المنافقين الذين هم موضوع الحديث في الآيات السابقة. وهي بسبيل تسجيل كفرهم وفسقهم وعدم إمكان شمولهم بغفران الله تعالى سواء أستغفر لهم النبي صلى الله عليه وسلم أو لم يستغفر لهم حتى ولو استغفر لهم سبعين مرة. فإن الله لا يمكن أن يوفق ويهدي الفاسقين عن أوامره. وقد روى المفسرون «1» أن المنافقين لما نزلت الآيات السابقة التي تحكي مواقفهم وتفضحهم وتندد بهم لجأوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعتذرون ويطلبون منه الاستغفار لهم وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله خيّرني أن أستغفر لهم أو لا أستغفر لهم فاستغفر لهم أو همّ بذلك فأنزل الله الآية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعدها: «لأزيدنّ على السبعين أو سأستغفر لهم سبعين وسبعين وسبعين ... » . ولقد روى الشيخان والترمذي حديثا عن ابن عمر قال: «لما توفّي عبد الله بن أبيّ بن سلول جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفّن به أباه. فأعطاه ثم سأله أن يصلّي عليه فقام رسول الله ليصلّي عليه فقام عمر فأخذ بثوب النبي فقال يا رسول الله تصلّي عليه. وقد نهاك ربّك فقال إنما خيرني الله فقال اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ وسأزيده على السبعين. قال عمر إنه منافق. قال فصلّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ» «2» . وبقطع النظر عما يتحمله هذا الحديث من ملاحظات سوف نوردها في سياق تفسير الآية: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ... التي ستأتي بعد قليل فإن خبر مسارعة المنافقين إلى الاعتذار للنبي وطلب الاستغفار منه لهم بعد نزول الآيات القارعة فيهم محتمل الصحة. وبخاصة بالنسبة للمنافقين الذين كانوا معه في غزوة تبوك. لأننا نعتقد أن هذه السلسلة نزلت أثناء هذه الغزوة على ما تلهمه القرائن العديدة في آياتها السابقة واللاحقة. غير أننا

_ (1) انظر تفسير الخازن مثلا وانظر أيضا تفسير الطبري وابن كثير والبغوي. (2) التاج ج 4 ص 118.

[سورة التوبة (9) : الآيات 81 إلى 85]

في حيرة من تتمة الروايات وبخاصة من حديث ابن عمر الذي يرويه الشيخان. فليست هذه أولى مرة يؤذن القرآن ورسول الله بأن الله لن يغفر لهم سواء استغفر لهم أم لم يستغفر حيث ورد هذا في الآية [6] من سورة المنافقون. ويصعب علينا أن نسلّم بأن رسول الله استغفر لهم أو همّ بذلك. أو حدّث نفسه، بعد هذا التوكيد الحاسم الذي جاء في الآية التي نحن في صددها بعد آية المنافقون. أو أن يكون قد فهم عبارة آية التوبة فهما عدديا. ولا سيما أنها تلهم بقوة أنها على سبيل التغليظ والتشديد. ومع ذلك فليس لنا إذا صح الحديث إلا أن نقول إن النبي صلى الله عليه وسلم قد اجتهد في الأمر ورأى أن التأييد القرآني بعدم مغفرة الله للمنافقين هو في حق أناس علم الله أنهم لا يصدقون في الندم وطلب الغفران وأن عفو الله تعالى ورحمته تتسعان لقبول استغفاره لمن يرى أن يستغفر له منهم إذا ما استغفر لهم أكثر من سبعين مرة. أو لمن يرى أنه صادق في ندمه وتوبته وطلب الغفران. ولعلّه استند في اجتهاده إلى الآية [74] التي شجعت المنافقين بعد أن قررت أنهم قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إيمانهم وهمّوا بما لم ينالوا على التوبة والندم ودعتهما إليهما وقالت إن ذلك خير لهم تساوقا مع الهدف الإصلاحي الذي استهدفته حكمة التنزيل من جعل باب التوبة مفتوحا لكل الناس مهما فعلوا على ما شرحناه في سورة البروج. وسيأتي في سياق آيات تجيء بعد قليل حديث بأن بعض المنافقين ممن لم يكن النبي يعلم نفاقهم جاؤوه نادمين وطلبوا أن يستغفر لهم فاستغفر لهم ودعا لهم مما قد يكون فيه تدعيم. والله تعالى أعلم. [سورة التوبة (9) : الآيات 81 الى 85] فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83) وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85) .

(1) المخلّفون: المخلّفون وراءك أو المتخلفون. (2) خلاف رسول الله: إما أنها بمعنى خلف أو بعد أو وراء وإما أنها بمعنى مخالفة لرسول الله. (3) مع الخالفين: قيل إنها بمعنى المخالفين. وهناك من قرأها كذلك. وقيل إنها بمعنى المتخلفين الذين تجعلهم طبيعة حالتهم يتخلفون كالنساء والصبيان والزمنى والمرضى والعميان. وهذا هو الأوجه كما هو المتبادر. عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت: 1- إشارة تنديدية إلى ما كان من فرح المتخلفين عن غزوة تبوك واغتباطهم بسبب نجاحهم في الاعتذار والتخلف كراهة منهم للجهاد بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله. وما كان من تثبيطهم غيرهم عنها بحجة شدة الحر. 2- وردّا عليهم مع الإنذار والإغلاظ. فعلى النبي أن يهتف جوابا على هذا بأن نار جهنم التي استحقوها بسبب مواقفهم أشدّ حرا لو علموا. وأنهم إذا فرحوا وضحكوا الآن فليس إلا لوقت قصير يعقبه البكاء الكثير والندم الشديد على ما اقترفوا. وعلى النبي إذا ما أعاده الله إلى المدينة سالما واستأذنه المتخلفون ليخرجوا معه في غزوة أخرى أن يرفض السماح لهم وأن يلعنهم أنهم لن يكون لهم ذلك ولن يقاتلوا معه عدوا. لأنهم رضوا بالقعود أول مرة وابتهجوا فليبقوا حيث هم مع الخالفين بعيدين عن المكرمات. ثم عليه أن لا يصلي على أحد يموت بعد الآن منهم قط. ولا يقف على قبره داعيا له. فقد كفروا بالله ورسوله وماتوا على كفرهم وفسقهم فلم يبق محل للأمل فيهم والإشفاق عليهم والاستغفار والدعاء لهم. وعليه أن لا يغترّ ويعجب بما لهم من مال وولد مهما كثر وأن لا يظن أنها نعمة من الله رآهم جديرين بها. وإنما هي ابتلاء واختبار. وستكون سببا لعذابهم في الدنيا وخروجهم منها كافرين نتيجة لما هم عليه من خبث نية وسوء طوية ومنكر أفعال ومواقف.

تعليق على الآية فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله ... والآيات الثلاث التي بعدها

تعليق على الآية فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ ... والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من دلالات وتلقينات وتمحيص وما روي من روايات عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على كبير المنافقين ابن أبيّ بن سلول روى الطبري أن رجلا من بني سلمة قال لا تنفروا في الحرّ حينما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرّ شديد إلى تبوك فأنزل الله قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا. والرواية لم ترو في كتب حديث معتبرة. والجملة جزء من آية والآية جزء من آيات تامة الانسجام وفيها إشارة صريحة إلى أنها نزلت في غزوة تبوك. فالذي يستقيم مع هذا أن يكون في الجملة ردّ على قول المنافق أو المنافقين الذين قالوا ذلك القول في سياق الحملة عليهم لتخلّفهم. ولقد روى الطبري أيضا أن ابن أبيّ بن سلول أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مريض ليأتيه فنهاه عمر ولكن النبي أتاه فلما دخل عليه قال له أهلكك حبّ اليهود فقال يا نبيّ الله إني لم أبعث إليك لتؤنبني ولكن لتستغفر لي. وسأله قميصه أن يكفن به فأعطاه إياه فكفن به حين مات ونفث في جلده وولاه في قبره. وفي رواية أخرى يرويها الطبري أن عبد الله بن أبي بن سلول وهو مؤمن مخلص هو الذي طلب من النبي حينما مات أبوه أن يعطيه قميصه ليكفنه به وأن يصلي عليه. وروى الشيخان والترمذي حديثا عن ابن عمر أوردناه في سياق تفسير الآيات السابقة فيه توافق مع ما ورد في هذه الروايات. وقد جاء فيه أن الآية: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً.. نزلت في هذه المناسبة. ونحن في حيرة من هذه الروايات وبخاصة من هذا الحديث. فالآيات جملة منسجمة وفي إحداها كما قلنا آنفا صراحة بأنها نزلت أثناء غزوة تبوك. والآية التي يروي الحديث نزولها في مناسبة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبيّ جزء من السياق والكلام. وتتبعه تتمة للكلام وتتمة للسياق. ويلحظ أن الحديث والرواية

يذكران أن عمر قال للنبي كيف تصلّي عليه وقد نهاك ربّك؟ في حين أن الحديث يذكر أن الله أنزل الآية بعد صلاة النبي عليه. ويلحظ كذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر إنما خيّرني الله استغفر لهم أو لا تستغفر لهم وسأزيده على السبعين. والفرق ظاهر بين الاستغفار والصلاة على كل حال مهما كان معنى الصلاة هو الاستغفار. وهذا فضلا عما نبّهنا عليه قبل من بعد احتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد فهم النهي عن الاستغفار على هذا الوجه الذي جاء في الحديث وأن يكون قد استغفر له أو لغيره بعد نزول الآيات. والحديث يذكر أن الآية وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً ... نزلت بعد أن صلّى النبي على ابن أبيّ بن سلول. وروايات الحديث المعتبرة تذكر أن هذا كان حيا حينما توجه النبي إلى تبوك وأنه ضرب معسكره إلى جانب معسكر النبي ثم تخلص واعتذر عن السفر على ما شرحناه قبل في سياق موجز قصة غزوة تبوك «1» . وهذا يعني إذا صحّ الحديث أنه مات بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من الغزوة. والآية جزء منسجم كل الانسجام كما هو واضح من آيات نزلت أثناء هذه الغزوة. ومن الصعب التوفيق بين كل هذا وبين الروايات المتناقضة معه وبخاصة بينه وبين الحديث الذي يرويه الشيخان والترمذي. ونميل إلى القول إن في الحديث والروايات شيئا من الالتباس والتداخل. وأن كل ما يمكن أن يكون هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب التماس عبد الله بن عبد الله بن أبيّ بن سلول المؤمن المخلص فأعطاه قميصه ليكفن به أباه الذي مات بعد العودة من تبوك تطييبا له على إخلاصه وتألفا للمترددين من قومه دون أن يكون ذلك مناسبة لنزول الآية. وفي الحديث أن عمر قال للنبي كيف تصلّي عليه وقد نهاك ربّك. وهذا يعني إذا صح أن عمر استند إلى الآية التي نزلت أثناء الغزوة في حق جميع المنافقين. ولقد ذكر الطبرسي أن النبي لم يصلّ على ابن أبيّ بن سلول ولكنه لم يسند قوله إلى سند معين. ولقد روى الطبري عن أنس أن رسول الله أراد أن يصلّي عليه فأخذ جبريل بثوبه فقال ولا تصلّ على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره. وهذه الرواية تؤيد رواية الطبرسي من جهة وتنطوي على تصحيح لما

_ (1) انظر سيرة ابن هشام ج 4 ص 173.

التبس من رواية نزول الآية في هذه المناسبة حيث تفيد إذا صحت أن جبريل إنما ذكّر بالآية تذكيرا. ونحن نميل إلى ترجيح رواية عدم الصلاة لأنها المعقولة أكثر بعد أن نهي النبي عن الصلاة عن أي منافق في آية سابقة النزول بأسلوب حاسم والله تعالى أعلم. ولقد روى المفسرون فيما رووا خبر إسلام ألف من قوم ابن أبي بن سلول نتيجة لما كان من تصرف النبي صلى الله عليه وسلم الكريم إزاءه. وروح آيات عديدة من هذه السورة تلهم بقوة كما نبهنا عليه في مناسباتها أن المنافقين قبل غزوة تبوك قد تضاءلوا عددا وشأنا. وهذا ينقض الرواية كما هو المتبادر. فألف رجل في المدينة رقم عظيم. ولا يعقل أن يكون صحيحا. والروايات التي ذكرت المعسكر الذي ضربه المنافقون وتظاهروا به أنهم خارجون إلى الغزوة مع النبي لم يكن فيه إلّا نحو ثمانين شخصا.... ويلحظ أن الآية [85] جاءت تكرارا للآية [55] من هذه السورة بفرق يسير. وقد يلمح في هذا التكرار أن كثرة الأموال والأولاد التي كانت للمنافقين كانت تشغل حيزا غير يسير في أذهان المؤمنين فاقتضت حكمة التنزيل تكرار بثّ القوة والعلوّ والتهوين في نفوسهم وتوكيد المدى الذي في الآية وأمثالها على ما شرحناه في سياق الآية [55] . وتعبير فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ يدلّ بصراحة كما قلنا أن هذه الآيات والسلسلة التي قبلها قد نزلت أثناء سفرة تبوك مستهدفة التنديد والتقريع بالمعتذرين والمتخلّفين المنافقين وفضح أخلاقهم والتذكير بمواقفهم على سبيل التوكيد والتدعيم من جهة وتثبيت المؤمنين المخلصين الذين اشتركوا في الغزوة من جهة أخرى. وتعبير لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ يؤيد ما روي من أن هذه الغزوة كانت في موسم الصيف. وفي تعبير وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ صورة لما كان يجري من تشييع الجنائز والدعاء على قبور الأموات بعد مواراتهم والجلوس عندها لتأنيسهم. والمتبادر أن هذا مما كان قبل الإسلام عند العرب أيضا.

[سورة التوبة (9) : الآيات 86 إلى 87]

والآيات قوية التلقين كسابقاتها بالموقف الحاسم الذي يجب على النبي والمسلمين أن يقفوه من المنافقين. بل فيها ما هو أشدّ مما احتوته الآيات السابقة حيث توجب اعتبارهم خارج صف المسلمين فلا يدعونهم ليشتركوا معهم في حرب ولا يجوز أن يصلّوا على أحد منهم حينما يموت ولا يقوموا على قبره. لأنهم آثروا القعود مع الضعفاء والعجزة والصبيان فيجب أن يبقوا في النطاق الذي وضعوا أنفسهم فيه، ولأن من مات منهم على حالته فقد مات كافرا فاسقا. وهذا من دون ريب متناسب مع موقفهم النفاقي وتخلفهم عن الجهاد بالمال والنفس والتثبيط عنهما مع شدة صلة ذلك بالدعوة الإسلامية ومصلحة المسلمين العامة. وفي كل هذا تلقين جليل مستمر المدى لما يجب أن يكون موقف المخلصين من أمثال هؤلاء وبخاصة حينما يتهربون من التضامن مع الناس وأداء واجباتهم في الأزمات والشدائد معتذرين بالأعذار الكاذبة ومنطلقين بمختلف أساليب المكر والحيل، والبخل والتثبيط والتعطيل والفرح بالعافية مما قد يلمّ بالناس من محن وبلاء في سبيل الله. [سورة التوبة (9) : الآيات 86 الى 87] وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) . (1) أولو الطول: ذوو القدرة والاستطاعة واليسار. (2) الخوالف: يصحّ أن يكون المقصود بالكلمة الإشارة إلى النساء اللاتي كن بطبيعتهن يتخلفن عن الحرب في البيوت دون الرجال. ويصحّ أن يكون المقصود من يتخلّف عادة من نساء ومرضى وصبيان وشيوخ بصورة عامة. وقد عبر عن ذلك في آية سابقة بكلمة الْخالِفِينَ. عبارة الآيتين واضحة. ولم يرو المفسرون رواية خاصة في نزولهما. والمتبادر أنهما استمرار في الحملة على المنافقين المتخلفين التي وردت في السياق السابق، فهم كلما أنزل الله أمرا قرآنيا بالإيمان به والجهاد في سبيله بادر ذوو القدر

[سورة التوبة (9) : الآيات 88 إلى 89]

واليسار منهم إلى الالتماس من النبي بأن يدعهم يبقون مع القاعدين عن الحرب. راضين بذلك مهانة البقاء مع الخوالف العجزة فكان ذلك مظهرا من مظاهر انغلاق قلوبهم وأفهامهم عن إدراك مغبة موقفهم ومهانته. [سورة التوبة (9) : الآيات 88 الى 89] لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) . وعبارة الآيتين كذلك واضحة. وصلتهما بالسياق قائمة من حيث ورودهما على سبيل التنويه والإشادة بموقف المخلصين الذين كانوا يلبّون دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وتنفيذ أمر الله فيسارعون معه إلى الجهاد بأموالهم وأنفسهم. والبشرى لهم. وتقرير فلاحهم وسعادتهم ورضاء الله عنهم والمقابلة لما ذكر من مواقف المنافقين وأخلاقهم، والتنديد بهم وإنذارهم في الآيات السابقة مما جرى عليه النظم القرآني في المناسبات المماثلة التي مرّت أمثلة عديدة منها. [سورة التوبة (9) : آية 90] وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90) . 1- المعذّرون: قيل إنها بمعنى (المعتذرون) أي الذين اعتذروا عن الاشتراك في غزوة تبوك. وقيل إن المعذّر هو الذي يتوسل بعذر غير قوي وغير وجيه وغير معقول. أو المقصّر في الأمر المتواني فيه. تعليق على الآية وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ.. وما روي في صددها من روايات وما انطوى فيها من صور يستفاد مما أورده المفسرون «1» في تأويل هذه الآية أنها تحتمل أن تكون

_ (1) انظر تفسيرها في الطبري والبغوي والزمخشري وابن كثير والخازن والطبرسي.

بسبيل الإشارة إلى فريقين من الأعراب. فريق جاء معتذرا طالبا الإذن له بالتخلّف عن غزوة تبوك وكانت أعذاره كاذبة وغير وجيهة. وفريق قعد وتخلّف بدون اعتذار واستئذان. ويحتمل أن تكون بسبيل الإشارة إلى فريق واحد فقط من الأعراب جاء معتذرا طالبا الإذن بالتخلّف وقعد عن الجهاد في سبيل الله وكان في اعتذاره وقعوده كاذبا فيما عاهد الله ورسوله عليه من الصدق في الإسلام والجهاد في سبيل الله. أما فقرة سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فهناك من جعلها عائدة إلى الفريق أو الفريقين واعتبر اعتذارهم الكاذب وقعودهم كفرا. وهناك من جعلها عائدة إلى الذين يصرّون على الكفر من الفريق أو الفريقين. وقد رووا ثلاث روايات في صدد المعتذرين، منها أنهم جماعة من بني غفار. ومنها أنهم جماعة من أسد وغطفان. ومنها أنهم رهط عامر بن الطفيل. ولم يذكر الذين قالوا إن الآية تحتوي إشارة إلى فريقين أي اسم للفريق الذي قعد بدون اعتذار واستئذان. وإنما قالوا إنهم منافقو الأعراب. وقد تلهم روح الآية وفحواها أن القول بأنها تحتوي إشارة إلى فريقين وأن الفقرة المذكورة عائدة إلى الذين يصرّون على الكفر منهم هو الأوجه والله أعلم. وعلى كلّ ففي الآية صورة لموقف بعض الأعراب المنضوين إلى الإسلام إزاء غزوة تبوك وكان موقفا فيه نفاق وكذب ونكث عهد فاستحقّ أصحابه ما احتوته الآيات التالية من تنديد وتوبيخ شديدين. والآية صريحة الدلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد استنفر الذين أعلنوا له إسلامهم من قبائل البدو أيضا إلى غزوة تبوك. وذكر الآية اعتذار فريق وقعود فريق منهم لا يفيد بالطبع أن جميع من استنفروا تخلّفوا. والروايات تروي أن كثيرا من البدو أجابوا واشتركوا في الحملة. والعدد العظيم المروي البالغ ثلاثين ألفا يؤيد ذلك فيما هو المتبادر.

[سورة التوبة (9) : الآيات 91 إلى 96]

[سورة التوبة (9) : الآيات 91 الى 96] لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96) . في الآيات: 1- تنبيه استدراكي بأن الله تعالى لا يؤاخذ الضعفاء ولا المرضى ولا الذين لا يجدون ما ينفقون فيمنعهم عجزهم عن الاشتراك الفعلي في الجهاد ويقعدون عنه إذا ما كانوا مخلصين حسني النية مجتهدين في النصح لله ورسوله. ولا يؤاخذ كذلك الذين راجعوا الرسول وطلبوا منه تدبير الوسائل التي تساعدهم على الاشتراك فلم يستطع النبي إجابتهم فانصرفوا باكين حزنا على فقرهم وحرمانهم من ثواب الجهاد. لأنه ليس على من أدّى واجبه على أحسن ما يقدر عليه أو أراد من كل قلبه أن يؤديه فعجز سبيل ولا حرج ولا إثم وإنما هذا على الذين يستأذنون في القعود ويتخلّفون وهم أغنياء قادرون مفضّلين البقاء مع الخوالف مهما كان في ذلك من ضعة وهوان. 2- ووصف لهؤلاء: فهم غلاظ القلوب كأنما طبع عليها فلم يدركوا ما في موقفهم من إثم وهوان.

تعليق على الآية ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج ... والآيات الخمس التي بعدها وما فيها من صور وتلقين

3- وحكاية لما سوف يكون من الأعراب المعتذرين والقاعدين حينما يعود النبي والمسلمون. حيث يسارعون إلى الاعتذار واليمين بالله لتوكيد أعذارهم ويطلبون الإغضاء والإعراض عن تعنيفهم وتقريعهم والرضاء عنهم. 4- وأوامر تقريرية لما يجب أن يقابلوا به: فعلى النبي والمخلصين أن يعلنوهم بأنهم لن يركنوا إليهم ولن يصدقوهم بعد الآن. وأن الله قد كشف لهم عن حقيقة أمرهم وكذب أخبارهم. وأنه هو ورسوله مراقبوهم وشاهدون عليهم. وأن الله سيحاسبهم حينما يقفون بين يديه ويردون إليه بما يستحقون وهو عالم الشهادة والغيب والعلن والسرّ. وعلى النبي والمخلصين أن يعرضوا عنهم إعراض تحقير ومقاطعة ونبذ فإنهم رجس ومأواهم النار. ولا يجوز لمؤمن أن يرضى عنهم. فإن فعلوا فإنما يفعلون خلاف ما يرضي الله. لأن الله لا يمكن أن يرضى عن القوم الفاسقين. تعليق على الآية لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ ... والآيات الخمس التي بعدها وما فيها من صور وتلقين روى المفسرون أن قسما من الآية [91] نزل في حقّ ابن أم كلثوم الضرير. وقسما آخر نزل في حقّ فقير اسمه أبو معقل لم يجد ما يساعده على الاشتراك في غزوة تبوك. وأن الآية [92] نزلت في جماعة التمسوا من النبي أن يدبر لهم ما يحملهم حتى يشتركوا في الغزو. فقال لهم لا أستطيع فحزنوا وبكوا حتى سمّوا البكائين لحرمانهم من الجهاد. والآيتان منسجمتان مع السياق. وروحهما ونصّهما ونصّ الآيات التي تأتي بعدهما يلهم بقوة أنهما جاءتا بمثابة تمهيد للتنديد بالقادرين بدنا ومالا على الاشتراك في الغزوة. ثم استأذنوا النبي بالقعود معتذرين بالأعذار الكاذبة. وهذا لا يمنع أن يكون ما انطوى فيهما من صور ومشاهد هي واقعية لبعض المخلصين من

فقراء ومرضى ذوي عاهات فالتبس الأمر على الرواة وحسبوا أنهما نزلتا في شأنهم خصيصا. ومعظم الروايات التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل «1» تصرف ما جاء في الآيات [93- 96] إلى المنافقين المتخلّفين في المدينة الذين يروون أن عددهم كان بضعة وثمانين. وبعضها يصرفها إلى المتخلفين بأعذار كاذبة أو بغير أعذار من أهل المدينة والأعراب عامة. ويأتي بعد هذه الآيات آيات فيها عودة إلى ذكر الأعراب حيث يلهم هذا أن الفصل جميعه من الآية [90] إلى الآية [99] في صدد المعتذرين والقاعدين من الأعراب خاصة وأن الآيات [93- 96] هي بالتبعية في صددهم أيضا. على أن الإطلاق في هذه الآيات يجعل اعتبارها شاملة لجميع المتخلفين بأعذار كاذبة أو بدون أعذار سائغا أيضا. وعلى كل حال فالآيات [91- 96] مع الآية السابقة لها ليست منفصلة عن السياق والكلام على المتخلفين والقاعدين. وتعبير إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ وتعبير إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ صريحا الدلالة على أن هذه الآيات نزلت أثناء سفرة تبوك. وهذه الصراحة منطوية في الآية [83] من الآيات السابقة حيث تتلاحق الدلالة على أن السلسلة جميعها قد نزلت في أثناء السفر دفعة واحدة أو متلاحقة. والآية الثالثة احتوت مشهدا رائعا من مشاهد إخلاص الفئة المخلصة وشدة رغبتها في الجهاد في سبيل الله. وإذا لوحظ بعد شقة الغزوة وضعف الأمل في الغنيمة ورجحان الخطر وشدة الحرّ تضاعفت روعة المشهد. ولقد روى الطبري وغيره روايات عديدة في أصحاب هذا المشهد منها أنهم نفر من بني مقرن من مزينة. ومنها أنهم سبعة من قبائل شتى. ومنها أنهم خليط من أعراب وأنصار. وقد أورد المفسرون سبعة أسماء ورووا أنها أسماؤهم. وقد عرفوا في روايات السيرة

_ (1) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي ... إلخ.

[سورة التوبة (9) : آية 97]

بالبكائين «1» . ولما كان الفصل في الأعراب فالاحتمال الأقوى أنهم أيضا من الأعراب. وإذا صح هذا كانت روعة المشهد أشدّ. وعلى كل حال فالمشهد مستمد إلهام بليغ دائم المدى. كذلك فإن في الآيات الأخرى أحكاما وتلقينات قوية من شأنها أن تكون بدورها مستمد إلهام مستمر المدى: فالضعيف والمريض والفقير لا يؤاخذ إذا لم يشترك فعلا في النضال لأنه عاجز عن وسائله أو عاجز ببنيته. ولكن إسلامه والإخلاص له يحملانه مسؤولية بذل جهده في النصيحة وفعل كل ما يقدر عليه في سبيل نفع المناضلين. فإن لم يفعل يكن مقصرا في واجبه. والمتخلف المتقاعس عن الجهاد مع القدرة عليه هو اللئيم والملوم الذي لا يجوز أن يكون محل تساهل وإغضاء ورضاء ويجب أن يكون موضع احتقار وزراية ونبذ. وظروف الشدة والنضال هي الظروف التي يمتاز فيها المخلص من المخامر. والمخامرة في هذه الظروف هي أشد أنواع المخامرات ضررا وخطرا. وتستحق من أجل ذلك أشد أنواع التنكيل والاحتقار والنبذ. [سورة التوبة (9) : آية 97] الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) . تعليق على الآية الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً ... واستطراد إلى نقد ما كان من استعمال ابن خلدون كلمة العرب محل كلمة الأعراب عبارة الآية واضحة، وهي كما يبدو تعقيب على الآيات السابقة التي احتوت

_ (1) هذه هي الأسماء التي رواها الطبري نسجّلها نحن أيضا لأن من حقّ أصحابها أن يذكروا بالتكريم على مدى الأجيال: سالم بن عمير وحرملة بن عمرو وعبد الرحمن بن كعب وسلمان بن صخر وعبد الرحمن بن يزيد وعمرو بن غنيمة وعبد الله بن عمرو المزني رضي الله عنهم.

[سورة التوبة (9) : الآيات 98 إلى 99]

تنديدا بالأعراب المعذرين والقاعدين. وعلى سبيل الاستطراد لبيان طبيعة الأعراب أكثر منها لقصد التشديد والتغليظ على ما هو المتبادر. فكافرهم يكون أشدّ كفرا ومنافقهم أشدّ نفاقا. وهم أكثر بعدا عن تقدير وإدراك وفهم حدود ما أنزل الله. وواضح أن هذا مظهر من مظاهر الاجتماع البشري وتفاوت درجاته. فالأعرابي أقسى طبعا وأجفى خلقا وأقلّ تقيّدا بالواجبات وإدراكا للحدود من الحضري. وكلما تقدّم الإنسان في سلم الحضارة لطف طبعه ودمث خلقه ولان قلبه واتسع علمه وتجربته وأفقه. وأقام صلاته بالناس على أسس الواجبات والحقوق المتبادلة. ولقد استعمل ابن خلدون لفظ العرب خطأ في مقام الأعراب أو استعمله استعمالا عاميّا كما كان شائع المفهوم في حياته وأدى هذا إلى فهم تقريراته عن البدو وطبائعهم وحياتهم وآثارهم فهما خاطئا. في حين أن ما ذكره عن نفور العرب من الحضارة وتدمير المعالم الحضرية إنما ينطبق على الأعراب لا على العرب. وهو ما يدخل في مفهومه جميع أعراب الدنيا لا أعراب العرب خاصة. ومن الغريب أن يكون هذا الفهم الخاطئ وأن يستمر إيراده في معرض وصف طبائع العرب وأخلاقهم مع ما في الأمر من بداهة ومع ما في كلام ابن خلدون من دلالات على أنه إنما قصد البدو والأعراب. ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآية حديثا رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه فيما جاء «من سكن البادية جفا» «1» حيث ينطوي فيه المعنى المراد في الآية والله أعلم. [سورة التوبة (9) : الآيات 98 الى 99] وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)

_ (1) أورد هذا الحديث عزوا إلى أبي داود والترمذي والنسائي المفسر ابن كثير في سياق تفسير الآية. وللحديث تتمة هي «ومن اتّبع الصيد غفل ومن أتى السلطان افتتن» .

تعليق على الآية ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ... إلخ والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين

(1) مغرما: خسارة لا عوض عنها. (2) يتربص بكم الدوائر: يتوقع أن تدور عليكم الدوائر السيئة لينقلبوا عليكم. في الآيتين تقسيم للأعراب الذين أعلنوا إسلامهم إلى فريقين: فريق كان لا يعتبر ما ينفق في سبيل الله أو يؤديه إلى النبي من صدقات واجبا دينيّا له ثوابه عند الله، وإنما هو ضريبة أو خسارة لا عوض لها يتحملها خوفا ورياء، ثم يتربّص أن تدور الدائرة على المسلمين فيتخلص منها أو ينقلب عليهم. وفريق مخلص في إيمانه بالله واليوم الآخر ويعتبر ما ينفق في سبيل الله أو يؤديه إلى النبي من صدقات وسيلة إلى التقرّب إلى الله ونيل رضاء رسوله ودعائه. وقد تضمنت الآيتان تعقيبا مناسبا على صفات وحالة كلّ من الفريقين. فالأول هو الذي تدور عليه دائرة السوء. وإن الله لسميع لما يقوله عليم بخبث نياته وإنه لمجزيه عليها بما يستحق. وللثاني البشرى. فاعتبارهم أن ما ينفقونه وسيلة قربى إلى الله ورسوله صادق وإنها لقربة لهم حقّا. وإن الله سيشملهم برحمته وهو الغفور الرحيم. تعليق على الآية وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً ... إلخ والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين ولم يرو المفسرون رواية خاصة في سبب نزول الآيتين. وإنما روى الطبري أن الآية الأولى عنت منافقي الأعراب والثانية عنت بني مقرن من مزينة الذين عنتهم الآية [92] . وقد روى البغوي أن الآية الأولى نزلت في أعراب أسد وغطفان وتميم، والثانية في بني مقرن من مزينة في رواية وفي قبائل أسلم وغفار وجهينة في

رواية أخرى. وروى بطرقه حديثا عن أبي هريرة قال: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم أسلم وغفار وشيء من جهينة ومزينة خير عند الله يوم القيامة من تميم وأسد بن خزيمة وهوازن وغطفان» . ومهما يكن من أمر فالمتبادر أن الآيتين استطراد إلى ذكر حالات الأعراب الذين انضووا إلى الإسلام بمناسبة ذكر المعذّرين والمتخلفين منهم عن غزوة تبوك ووصف طبيعة الأعراب عامة. فهما والحالة هذه متصلتان بالسياق وجزء من السلسلة. وفي الآية الثانية صراحة حاسمة بأنه كان من الأعراب من آمن وأخلص في إيمانه وتأييده للنبي صلى الله عليه وسلم والجهاد بماله ونفسه خلافا لما يحلو لبعض المستشرقين أن يقرروه ويعمموه على البدو بدون استثناء. ومن المتواتر أن عددا غير يسير من القبائل قد ثبت على إسلامه بعد النبي صلى الله عليه وسلم واندمج في حروب الردة تأييدا للإسلام وخليفة الرسول «1» . ولا بدّ من أن يكون المذكورون في الآية الثانية منهم أو هم إياهم. والآية الثانية إلى هذا تنطوي على مشهد تطوري لإسلام الأعراب. فمن المحتمل أن يكون إسلامهم أو إسلام معظمهم في بدء الأمر غير عميق، وتأثرا بالظروف وخوفا وطمعا. ولقد قررت آية سورة الحجرات هذه قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) ذلك عنهم وقررت قبول الله ذلك منهم إذا ما قاموا بالواجبات الدينية والمادية التي يفرضها الله ورسوله عليهم. ثم أخذ إسلامهم يقوى حتى صار إيمانا مخلصا في فريق منهم دون فريق. وهو ما احتوت الآيتان تقريره. وقد يصح القول استلهاما من روح الآيتين والآية [97] أن الكثرة الغالبة من الأعراب كانت من الفريق الأول. والله تعالى أعلم.

_ (1) اقرأ تاريخ الطبري ج 2 ص 463- 550 واقرأ فصل حروب الردة في الجزء السابع من كتابنا تاريخ الجنس العربي حيث لخصت فيه الروايات وثبت ما قلناه.

[سورة التوبة (9) : آية 100]

[سورة التوبة (9) : آية 100] وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) . تعليق على الآية وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ ... وما فيها من صور وتلقين عبارة الآية واضحة. ولم يرو المفسرون رواية ما في سبب نزولها. ويتبادر لنا من روحها وروح الآيات المتلاحقة التي بعدها ومضمونها معا أنها استمرار في ذكر صنوف المسلمين المخلصين بعد ذكر صنوف الأعراب في الآيتين السابقتين الاستطراديتين. وأنها والحالة هذه استمرار للسياق. وجزء من السلسلة. وقد احتوت ثناء محببا وبشرى للطبقات الثلاث التي ذكرتها الآية. وأعظم برضاء الله عنهم ورضائهم عنه بشرى وثناء. وهي التي أخلصت في إيمانها وتفانت في واجبها وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم وتأييده في كل المواقف والتي قام الإسلام عليها وانتصر بها بعد الله ورسوله. والتي أشير إليها بأساليب ومواضع عديدة في القرآن المكي والمدني معا. وإن كان ذكرها هنا جاء أوضح بيانا. ولقد روى الطبري بعض الروايات في من عناه تعبير وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ منها أنهم المهاجرون والأنصار الذين بايعوا بيعة الرضوان تحت الشجرة يوم الحديبية. ومنها أنهم الذين صلوا للقبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما تعبير وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ فهم على ما رواه الذين أسلموا لله إسلام السابقين وسلكوا منهاجهم في الهجرة والنصرة وأعمال الخير. وعلى كل حال فالآية اعتبرت الرعيل المخلص الأول من المؤمنين فئتين، الأولى السابقون الأولون من المهاجرين وهم الذين آمنوا في مكة وثبتوا وتحملوا

الأذى وهاجروا من مكة مفضلين الله ورسوله على الأهل والوطن والمال والراحة. والثانية السابقون الأولون من الأنصار وهم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وعاهدوه على النصرة من أهل المدينة ورحبوا بهجرته مع أصحابه إليهم وأيدوه ونصروه فعلا في أوقات الشدة. وأضافت الآية إليهما فئة ثالثة وهم الذين اتبعوا سبيل الفئتين بإحسان أي الذين أسلموا إسلام السابقين الأولين وسلكوا منهاجهم في الهجرة والنصرة وأعمال الخير كما عرّفهم الطبري. وروح الآية من جهة وروح آيات عديدة أخرى من جهة ثانية تلهم- وهذا مما نبهنا عليه في مناسبات سابقة أيضا- أن عدد هذه الفئات الثلاث كان غير يسير وأن موقفها كان خالصا لله ورسوله ومنبعثا عن إيمان وعقيدة راسختين لا يشوبهما قصد المنفعة والمسايرة خلافا لما يحلو لبعض المستشرقين أن يقرروه ويعمّموه ويوسعوا نطاقه. والراجح أن هذه الطبقة وبخاصة الفئتين الأوليين منهما هما المقصودتان في الأحاديث النبوية في فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيجاب احترامهم التي روينا طائفة منها في مناسبات سابقة. لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان يخاطب السامعين بقوله: «لا تسبّوا أحدا من أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» أو «الله الله في أصحابي. لا تتخذهم غرضا من بعدي فمن أحبّهم فبحبّي أحبّهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه» و «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» لا يعقل أن يكون قصد جميع الناس الذين رأوه وبايعوه على الإسلام لأنه لا يكون حينئذ محلا لتوجيه هذا النهي والتنبيه. وهذه الدلالة منطوية في آية في هذه السورة تأتي بعد قليل أمرت المؤمنين بأن يكونوا مع الصادقين حيث يفيد أن الأمر لعموم المسلمين ليكونوا مع الصفوة من أصحاب رسول الله. ومما لا شكّ فيه أن هذه الطبقة أهل لكل تعظيم وتوقير واقتداء واتباع. فهذا الثناء الرباني والنبوي عليهم لا بدّ من أنه بسبب إيمانهم العميق وإخلاصهم الشديد

وتفانيهم في خدمة دين الله ورسوله وتعاونهم على البرّ والتقوى وورعهم. وفي السور المكيّة والمدنيّة صور كثيرة من ذلك نبهنا عليها في مناسباتها وفي روايات السيرة صور كثيرة أيضا فيها الروائع التي تملأ النفس إجلالا وإعظاما. والآية من أواخر ما نزل من القرآن. ولهذا دلالة هامة من حيث اقتضاء حكمة الله تسجيل رضائه عن هذه الفئة في أواخر ما اقتضت حكمته إيحاءه.. ومن هنا يظهر ما في الانتقاص من قدر هذه الفئة أو معظمها وبغضها وسمها وتكفيرها وهو ما دأب وما يزال يدأب عليه طوائف الشيعة بزعم أنهم خالفوا أوامر الله ونبيه ووصاياهما وهو زعم كاذب كل الكذب من جرأة على الله ورسوله وأصحابه بل ومن كفر صريح. وجملة: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ صريحة بأنها عنت الذين سبقوا غيرهم إلى الإيمان من أهل مكة والمدينة. وفي كتب التفسير تعريفات عنهم مروية عن أهل التأويل منها أنهم أوائل الذين آمنوا من المهاجرين وأوائل الذين آمنوا من الأنصار ومنها أنهم جميع الذين هاجروا إلى المدينة وصلوا إلى القبلتين. وجميع الذين آمنوا في المدينة وصلوا إلى القبلتين. ومنها أنهم الذين بايعوا رسول الله بيعة الرضوان تحت الشجرة يوم الحديبية. ولعلّ الأوجه أنهم الذين آمنوا قبل الهجرة ثم قبل الفتح المكي من غير أهل المدينة وأنهم الذين آمنوا قبل هجرة النبي إلى المدينة وفي ظروفها الأولى من أهل المدينة. وفي سورة الحديد آية يمكن أن تكون ضابطا ما وهي لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى. وهناك حديث نبوي رواه الخمسة يمكن أن يكون فيه ضابط ما أيضا وهو «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونيّة. وإذا استنفرتم فانفروا» «1» والله تعالى أعلم. ولقد ذكر الخازن في جملة ما ذكره أن تعبير وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ

_ (1) التاج ج 3 ص 304.

[سورة التوبة (9) : آية 101]

يشمل جميع المسلمين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم سوى السابقين الأولين. وذكر الطبرسي أن هذا التعبير يشمل كل مسلم سار على طريقة أصحاب رسول الله إلى يوم القيامة. ونقول في صدد القول الأول إن في الآيات التالية لهذه الآيات ما لا يتسق معه لأن فيها تقريرا بأن من المسلمين الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من خلط عملا صالحا وآخر سيئا والمرجى لأمر الله فضلا عن المنافقين غير المعروفين. أما القول الثاني فإن الآية وإن كان من الممكن أن تلهم أن التعبير هو في صدد أناس موجودين فعلا حين نزولها. وهذا ما يلهمه كذلك تعبير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ الذي يشملهم فإن فيه وجاهة حيث يمكن أن ينطوي في الآية تلقين مستمر المدى يوجب على المسلمين في كل ظرف ومكان أن يجعلوا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار قدوة وإماما بعد الله ورسوله. ويجعل الذين يلتزمون ذلك محلّ رضاء الله سبحانه وتعالى. ويلفت النظر في هذا المقام إلى تعبير بِإِحْسانٍ فكأنما جاء ليكون شرطا للحوق الآخرين بالأولين أو لدخولهم في ساحة رضاء الله وبشراه. [سورة التوبة (9) : آية 101] وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101) . (1) مردوا: مارسوا النفاق حتى مرنوا وبرعوا فيه أو صار لهم جرأة عليه وعتوّ فيه. تعليق على الآية وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ وما فيها من صور وتلقين في الآية تنبيه وإنذار وتقرير لواقع حال: فإنه يوجد إلى جانب من كان يعرف

النبي صلى الله عليه وسلم نفاقهم أناس آخرون من أهل المدينة ومن الأعراب الذين هم حولها منافقون لا يعلمهم النبي لأنهم مرنوا على النفاق وأتقنوا دورهم فيه حتى استطاعوا أن يخفوا حقيقتهم. وإن الله تعالى يعلمهم. ولسوف يعذبهم الله مرتين قبل يوم القيامة ثم يردون إلى عذاب عظيم في ذلك اليوم جزاء خبثهم ومكرهم. ولم يرو المفسرون رواية خاصة في سبب نزول الآية. والمتبادر من أسلوبها وعطفها على ما سبقها أنها استمرار في الاستطراد وجزء من السياق السابق فيها ذكر صنف من صنوف المجتمع الإسلامي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وقد احتوت صورة طريفة لفريق من المنافقين استطاعوا أن يخفوا نفاقهم عن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين. ومن الممكن أن يستلهم من أسلوب الآية قصد الإيقاظ والتحذير من جهة وقصد التهديد بالفضيحة من جهة أخرى بالإضافة إلى بيان واقع أصحاب هذه الصورة وتقرير استحقاقهم لعذاب مضاعف. والآية تحتوي صورة من صور النفاق والمخامرة تكون في مختلف الظروف وبخاصة في ظروف النضال واستعلاء أهله. وتحتوي بالتالي إيقاظا وتلقينا مستمر المدى نحو أصحاب هذه الصورة وخطرهم وضررهم اللذين يفوقان خطر وضرر المعروفين من المنافقين. ولقد روى ابن كثير في سياق هذه الآية عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم أسرّ إلى حذيفة باثني عشر رجلا من المنافقين المجهولين للناس فقال ستة منهم تكفيهم الدبيلة. سراج من نار يأخذ في كتف أحدهم حتى يفضي إلى صدره. وستة يموتون موتا. وأن عمر بن الخطاب كان إذا مات رجل ممن يظن أنه منافق نظر إلى حذيفة فإن صلّى عليه صلّى عليه وإلّا تركه. وأن عمر نفسه ناشد حذيفة (هل هو نفسه منهم فقال له لا) . والحديث مرفوع ولم يرد في كتب حديث معتبرة. ونص الآية صريح بأن من ذكر في الآية لا يعلمهم النبي وهذا ما يوجب التوقف فيه. ويوجب التوقف فيه مناشدة عمر لحذيفة عما إذا كان هو نفسه منهم فإنه من المتواتر تواتر اليقين أن عمر كان من أخلص الرجال المؤمنين وكان له عند رسول الله مكانة عظمى وأثرت

عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة صحيحة في التنويه به. منها حديث رواه الترمذي عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو كان بعدي نبيّ لكان عمر بن الخطاب» «1» وحديث رواه الترمذي جاء فيه: «أن أبا بكر قال لعمر لقد سمعت رسول الله يقول ما طلعت الشمس على رجل خير من عمر» «2» . وحديث رواه الترمذي أن النبي قال: «إنّ الله جعل الحقّ على لسان عمر وقلبه» «3» وحديث رواه الترمذي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبيّ إلا وله وزيران من أهل السماء ووزيران من أهل الأرض ووزيراي من أهل الأرض أبو بكر وعمر» «4» . وليس من ريب عندنا أن عمر كان متيقنا من عمق إيمانه ومنزلته من رسول الله فلا يمكن أن يطرأ شكّ ما على قلبه من نفسه. ونخشى أن يكون للشيعة أثر في هذا الخبر لفش غلهم ولبغضهم له. ولقد تعددت الروايات التي أوردها الطبري وغيره عن أهل التأويل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم في تأويل جملة سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ منها أنهما عذاب الحسرة والغيظ لانتصار الإسلام والمسلمين أولا ثم عذاب القبر ثانيا قبل عذاب يوم القيامة العظيم. ومنها أنهما عذاب الفضيحة أولا ثم عذاب القبر ثانيا. ورووا عن ابن عباس في سياق الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم جمعة فقال: اخرج يا فلان فإنك منافق اخرج يا فلان فإنك منافق. فأخرج من المسجد أناسا منهم فضحهم فهذا هو العذاب الأول. ومهما يكن من أمر فالتعبير استهدف تقرير استحقاقهم العذاب مضاعفا، ليتناسب مع شدة خطرهم وبشاعة دورهم ويكون قوي الردع والزجر في الوقت نفسه. ولقد أورد ابن كثير في سياق تفسير هذه الآية حديثا من تخريج ابن عساكر عن أبي الدرداء أن رجلا يقال له حرملة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «الإيمان هاهنا وأشار إلى لسانه» و «النفاق هاهنا وأشار إلى قلبه» ولم يذكر الله إلا قليلا. فقال رسول

_ (1) التاج ج 3 ص 279. (2) المصدر نفسه ص 280- 282. (3) المصدر نفسه. [.....] (4) المصدر نفسه.

[سورة التوبة (9) : الآيات 102 إلى 105]

الله: «اللهم اجعل له لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وارزقه حبي وحبّ من يحبّني وصيّر أمره إلى خير» فقال: يا رسول الله إنه كان لي أصحاب من المنافقين وكنت رأسا فيهم. أفلا آتيك بهم قال «من أتانا استغفرنا له. ومن أصرّ فالله أولى به ولا تخرقن على أحد سترا» . ومن المحتمل أن يكون هذا الرجل قد جاء نادما مستغفرا لنفسه ولرفاقه على أثر نزول الآية. وإذا صحّ الحديث ففيه تدعيم لما ذكرناه في سياق الآية [80] من أن استغفار النبي كان لمن يرى أن توبته صادقة. ونفي الغفران الرباني هو لمن علم الله إصراره على النفاق والطوية الخبيثة. وفي الحديث تلقين جليل بإيكال من لم ينكشف نفاقه إلى الله وعدم خرق الأستار عن الناس إذا لم يكن خطرهم وضررهم مؤكدين. والله أعلم. [سورة التوبة (9) : الآيات 102 الى 105] وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) . في الآيات: 1- إشارة إلى فريق آخر أذنبوا واعترفوا بذنوبهم وكان لهم أعمال صالحة إلى جانب هذه الذنوب. 2- وبشارة وتعليم بما يجب بالنسبة إليهم: فمن الممكن أن يتوب الله عليهم إذا تابوا وهو الغفور الرحيم. وعلى النبي أن يأخذ من أموالهم صدقة لتكون كفارة عما اقترفوه من ذنوب وتطهيرا لهم. وأن يدعو لهم ففي دعائه لهم تسكين لهم وتطمين لقلوبهم. والله سميع لكل ما يقال عليم بالنيات والمقتضيات. وعليهم هم أن يطمئنوا ويعلموا أن الله يقبل التوبة من عباده ويتقبل صدقاتهم إذا ما كانت عن إخلاص وصدق نية وعلى النبي أن يشجعهم على العمل الصالح ليثبتوا به

تعليق على الآية وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا.. والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين

إخلاصهم وصدق نيتهم وتوبتهم ويقول لهم اعملوا فسيرى الله ورسوله والمؤمنون أعمالكم وستردون إلى عالم الغيب والشهادة والسرّ والعلن فينبئكم بما عملتم ويجزيكم عليه بما تستحقون. تعليق على الآية وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً.. والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين روى الطبري وغيره روايات عديدة في نزول الآيات وفي من عنته. منها أنها بشأن أبي لبابة من الأوس وحليف بني قريظة الذي أشار لهم حينما استشاروه بعد حصار النبي لهم وطلبه النزول على حكمه بإشارة تفيد أن مصيرهم الذبح. ثم شعر أنه خان الله ورسوله فربط نفسه بعمود مسجد رسول الله وقال لا أبرح حتى يتوب الله عليّ فقبل الله توبته وأطلقه النبي بيده. ومنها أنها في صدد الجماعة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك بدون عذر وجيه وكانوا مخلصين في إيمانهم حيث عمدوا حين قفل رسول الله من الغزوة إلى سواري مسجد رسول الله فربطوا أنفسهم بها ندما وتوبة وقالوا لن نبرح حتى يقبل الله توبتنا ويطلقنا رسول الله. ولم ير النبي أن يطلقهم حين عودته وقال لا أعذرهم حتى يعذرهم الله فظلوا حتى نزلت الآية وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ.. فآذنهم بقبول توبتهم وأنهم جاؤوه بعد ذلك فقالوا خذ من أموالنا ما تشاء وتصدق بها وصلّ علينا فقال لا أفعل حتى أؤمر فنزلت الآية خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً.. إلخ ومنها أن هذا كان قاصرا على أبي لبابة. وأنه لما أطلقه رسول الله جاء إلى رسول الله فقال له إن من توبتي أنخلع من مالي كله صدقة فقال له رسول الله «يجزيك الثلث» . ومن الروايات أنها نزلت بشأن جماعة من منافقي الأعراب والمدينة تابوا عن نفاقهم. وليس شيء من الروايات واردا في كتب أحاديث معتبرة. ويلحظ في صدد رواية إشارة أبي لبابة لليهود أنها بعيدة المناسبة من جهة وقد أوردت في سياق آيات سورة الأحزاب [26- 27] من جهة أخرى على ما شرحناه سابقا. ونستبعد أن تكون في صور المتخلفين عن غزوة تبوك من

[سورة التوبة (9) : آية 106]

المخلصين لأن الآية جزء من السياق الذي رجحنا أنه نزل أثناء غزوة تبوك. وقد ذكر أمر هؤلاء في آية أخرى تجيء بعد قليل. وبعد العودة من تبوك. ونستبعد أن تكون في حق منافقين لأن نصّ الآية قد يلهم أنها بحقّ مؤمنين غير منافقين. والذي يتبادر لنا من عطف الآيات على ما سبقها ومن عطف ما لحقها عليها في سياق منسجم أو أنها استمرار في السياق الاستطرادي السابق وأنها احتوت صورة أخرى من صور الناس في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وفي الآيات تلقين مستمر المدى ومعالجة روحية رائعة. فالصورة أيضا من الصور التي تظهر في مختلف الظروف فإذا ما استشعر بعض المذنبين والمقصرين بخطئهم عن حسن نية ورغبوا في إصلاح أنفسهم فيكونون ممن يرجى إخلاصهم وصلاحهم. ومثل هؤلاء يجب أن يشجعوا وتطمئن قلوبهم ويفسح لهم بين صفوف الصالحين. ويحسن بهم أن يقدموا بين يديهم صدقات تنفق في سبيل الله ووجوه البرّ تكفيرا عن ما أسلفوه من الذنوب ووسيلة قربى إلى الله تعالى. [سورة التوبة (9) : آية 106] وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) . (1) مرجون: مرجئون. أي مؤخرون وموكولون. وفي هذه الآية إشارة إلى فريق آخر من المسلمين موكولين لتقدير الله وأمره. فهو العليم بكل شيء والحكيم في كل ما يقدر ويأمر فيعاملهم بمقتضى علمه وحكمته فإما أن يراهم مستحقين للعذاب فيعذبهم أو مستحقين للرحمة والمغفرة فيرحمهم ويتوب عليهم. تعليق على الآية وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ.. وما فيها من صور وتلقين روى المفسرون أن الآية نزلت في حقّ فريق من المسلمين المخلصين تخلّفوا

[سورة التوبة (9) : الآيات 107 إلى 110]

عن غزوة تبوك ولم يسارعوا إلى الاعتذار والتوبة. فأرجأ الله أمرهم ثم شملهم بتوبته وعفوه في الآية [117] التي تأتي بعد قليل. وأوردوا ثلاثة أسماء قالوا إن الآية التي نحن في صددها فيهم. وهم هلال بن أمية ومرارة بن الربيع وكعب بن مالك. والآية [117] هي في شأن الذين اشتركوا في الغزوة. وهناك أحاديث صحيحة تذكر أن كعب بن مالك ورفيقيه هم الذين نزلت في توبتهم آية أخرى هي الآية [118] بحيث لا يبقى محل للقول إن الآية التي نحن في صددها نزلت فيهم. ولذلك فنحن نتوقف في بعض الروايات التي لم ترد في كتب حديث صحيحة أيضا والذي يتبادر لنا من روح الآية وعطفها على ما سبقها أنها هي الأخرى استمرار للسياق الاستطرادي لتشير كما قلنا إلى صنف آخر من صنوف المسلمين لم يكن أمرهم جليا من حيث النفاق أو الإخلاص. وهذه صورة مألوفة كذلك في المجتمعات البشرية. ولعلّ الآية قد تضمنت تلقينا بعدم التسرّع في حقّ أصحاب هذه الصورة ما داموا لا يجاهرون بذنب ولا يقفون موقفا منكرا وضارا ولو لم يكن أمرهم جليا كل الجلاء. وفي هذا ما فيه من الصواب والحكمة ثم التلقين المستمر المدى إزاء أصحاب هذه الصورة المألوفة في كل ظرف. [سورة التوبة (9) : الآيات 107 الى 110] وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) . (1) ضرارا: بقصد الضرر والمضارة.

(2) إرصادا: مكان انتظار وترصد أو ارتقابا. (3) شفا: الطرف الدقيق وراء الهاوية أو الحافة. (4) جرف: المكان المرتفع الرخو من تآكل السيول. (5) هار: مائل للسقوط والانهيار. (6) إلا أن تقطع: قرئت (إلّا أن) بصيغة (إلى أن) وقرئت (تقطع) بفتح التاء وبضمّها وعلى كل حال فالجمهور على أن معنى الجملة إلى أن تقطع قلوبهم بالموت. في هذه الآيات: (1) إشارة إلى فريق أنشئوا لهم مسجدا خاصا. 2- وتقرير للدافع الحقيقي لذلك. فهو لم يكن عن إخلاص وحسن نية. وإنما كان بقصد المضارة والتعطيل والتفريق بين المؤمنين. ومظهرا من مظاهر الكفر والنفاق. ومرصدا وارتقابا لأناس حاربوا الله ورسوله من قبل إنشائه بالرغم من توكيد المنشئين له بالأيمان بأنهم إنما أرادوا الخير وأنهم حسنو النية. فإن الله يشهد أنهم كاذبون. 3- وأمر للنبي بعدم الصلاة والقيام فيه. وتنبيه بأن المسجد الذي أسس على التقوى والإخلاص من أول يوم تأسيسه هو الأحقّ بذلك لأن أصحابه مخلصون. يحبون التطهر والله يحب المتطهرين. 4- وسؤال إنكاري ينطوي على التنديد بالمسجد الجديد وأصحابه. والتنويه بالمسجد الأول وأصحابه عن خير المسجدين وأصحابهما. وهل هو ذلك المسجد الذي أقامه أصحابه بقصد التقرّب إلى الله وابتغاء رضوانه أم ذلك الذي أقيم على أساس فاسد ومقصد باطل. 5- وتعقيب على السؤال بمثابة الجواب فإن هذا البنيان كمثل بنيان أقيم على حافة جرف متداع للسقوط فلا يلبث أن ينهار. وإنه قد انهار فعلا بأصحابه في نار جهنّم. وإنهم لظالمون. وإن الله لا يمكن أن يهدي ويوفق الظالمين. إن بنيانهم

تعليق على الآية والذين اتخذوا مسجدا ضرارا ... والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين وما ورد في صددها من روايات. وما احتواه الفصل الاستطرادي من الصنوف الستة للمجتمع الإسلامي في أواخر العهد النبوي

الذي أقاموه سيظل مظهرا للشك والنفاق الذي تمكن في قلوبهم إلى أن تنقطع هذه القلوب بالموت. وإن الله عليم بكل شيء ظاهر وخفي. حكيم يأمر بما فيه الصواب والحكمة. تعليق على الآية وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً ... والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين وما ورد في صددها من روايات. وما احتواه الفصل الاستطرادي من الصنوف الستة للمجتمع الإسلامي في أواخر العهد النبوي ولقد روى الطبري «1» وغيره من المفسرين بيانات كثيرة عن ابن عباس وغيره من أهل التأويل من التابعين في صدد هذه الآيات يستفاد منها أن النبي صلّى الله عليه وسلم حينما قدم مكة إلى المدينة قضى أياما في ضاحية تعرف بقباء. فأنشأ أهلها مسجدا محل صلاة النبي وبإذن منه ليقيموا فيه صلاتهم العادية وبخاصة في الليالي وفي أوقات اشتداد البرد والحرّ وقد صلّى فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم «2» وكان في الضاحية فريق من المنافقين روت بعض الروايات أنهم اثنا عشر شخصا وذكرت أسماءهم وذكر في بعضها أنهم من بني غنم بدون ذكر الأسماء والعدد. وكان يتردد عليهم شخص عرف بكرهه للنبي والإسلام وبمحاربته لهما اسمه أبو عامر من أهل المدينة أيضا. كان نبذ الشرك ووحّد ثم تنصّر وترهّب ولبس المسوح فعرف بالراهب كما عرف بالفاسق فلما قدم النبي صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة قال له ما الذي جئت به؟ قال له جئت بالحنيفية دين إبراهيم فقال أنا عليها فقال له النبي إنك لست عليها فقال بلى ولكنك أنت أدخلت عليها ما ليس فيها، فقال له ما فعلت وقد جئت بها بيضاء نقية فقال أبو عامر أمات الله الكاذب منّا طريدا شريدا وحيدا فقال النبي آمين فقال أبو عامر لا

_ (1) انظر أيضا البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي. (2) هذا الخبر مذكور في حديث الهجرة الطويل الذي رواه البخاري عن عائشة وأوردناه في سياق تعليقنا على الآيات [38- 41] من هذه السورة.

أجد قوما يقاتلونك إلّا قاتلتك معهم فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازن يئس وخرج هاربا إلى الشام وأرسل إلى المنافقين في قباء أن استعدوا ما استطعتم وابنوا مسجدا ليكون مجمعا لكم وانتظروني فإني ذاهب إلى قيصر الروم لآتي بجند نخرج به محمدا وأصحابه من المدينة. فأنشأوا مسجدا فسألهم النبي فقالوا له إن المسجد الأول بعيد عنهم وإن شيوخهم ومرضاهم لا يستطيعون الذهاب إليه. وأكدوا له حسن نيتهم وطلبوا منه أن يأتي فيصلّي فيه للبركة. فصدقهم وقال لهم إنا على سفر وحين أعود من تبوك أفعل. فلما قرب في عودته إلى المدينة جاءه بعضهم يذكرونه بوعده لهم فأنزل الله الآيات ففضحهم وأرسل النبي صلّى الله عليه وسلم بضعة أشخاص فهدموا المسجد وأحرقوه. والآيات إجمالا متطابقة مع هذا الموجز. وهكذا تكون قد انطوت على صورة من أخبث صور النفاق وأشدها خطرا وبعد مدى. ولا سيما باتخاذ مسجد الله وسيلة ودريئة. ثم على موقف من مواقف الكيد التي كان المنافقون وذوو القلوب المريضة الحاقدة يقدمون عليها ضدّ النبي ودعوته وسلطانه. فجاءت الحملة فيها قاصمة لتتناسب مع شدة خبثهم وسوء مقاصدهم التي تضمنتها العبارة القرآنية. ومع أن الآيات احتوت موضوعا خاصا روي فيه وقائع معينة فإن عطفها على ما قبلها وأسلوبها يلهمان أنها غير منفصلة عن السياق السابق وبسبيل وصف صنف من صنوف المسلمين في الوقت نفسه. ويمكن أن يستأنس على ذلك برواية نزولها في طريق عودة النبي صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة لأن هذا مما يفيده بعض الآيات الواردة في السياق. وهكذا يكون هذا الفصل الاستطرادي الذي يبدأ بالآية [98] والذي نزل في طريق عودة النبي صلّى الله عليه وسلم من تبوك إلى المدينة قد احتوى بيان الصنوف التي كان يتكون منها المجتمع الإسلامي في أواخر حياة النبي صلّى الله عليه وسلم لأنه مات بعد سنة من غزوة تبوك. وهي:

(1) أعراب مخامرون متربصون. (2) أعراب مخلصون في أيمانهم. (3) سابقون أولون من المهاجرين. (4) سابقون أولون من الأنصار. (5) مخلصون من غير السابقين سائرون على خطى وهدى السابقين. (6) منافقون من الأعراب وأهل المدينة غير مكشوف نفاقهم للناس والنبي صلّى الله عليه وسلم. (7) مخلصون في أيمانهم وإنما يخلطون بين العمل الصالح والسيّء. (8) فريق غامض الموقف مرجى لأمر الله وعلمه. (9) فريق منافق مكشوف شديد الخبث والأذى. وهذه الصنوف هي مما يتألف منه المجتمعات البشرية عامة على الأغلب الأعم وإن كان الأعراب اليوم لا يؤلفون غالبية هذه المجتمعات. فلم يخرج المجتمع الإسلامي في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم عن نطاق ذلك. والراجح الذي تفيده الروايات والمشاهد المتواترة أن الأعراب كانوا في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم يؤلفون الغالبية. ومن الحق أن يقال استئناسا بالآية [97] من هذه السورة ثم بآيات سورة الفتح [11 و 12 و 15] وسورة الحجرات [14- 17] أن غالبية هذه الغالبية لم يكونوا مخلصين في إسلامهم وطاعتهم لله ورسوله إيمانا واحتسابا. ومن الحقّ أن نذكر أن الصنوف الثلاثة التي نوّه بها في الآية [100] كانوا قاعدة المجتمع الإسلامي القوية الذين ضربوا أروع الأمثلة في الإخلاص لدين الله ورسوله والتفاني في خدمتهما ابتغاء رضوان الله وفضله فرضي الله عنهم ورضوا عنه، وكانوا عماد الدعوة الإسلامية بعد النبي صلّى الله عليه وسلم. ولقد تعددت روايات الطبري عن أهل التأويل في المسجد المنوه به في الآيات. حيث روي عن ابن عباس والحسن وابن زيد أنه مسجد قباء الأول الذي بناه بنو عوف. وحيث روي بطرق عديدة حديثا جاء فيه أنه امترى أحد بني عوف مع أبي سعيد الخدري أو غيره على اختلاف الروايات حيث قال العوفي إنه مسجد

قباء وقال صاحبه إنه مسجد النبي فأتيا النبي صلّى الله عليه وسلم فسألاه فقال هو مسجدي هذا وفي كل خير. ولقد روى الترمذي ومسلم حديثا مقاربا لهذا الحديث، صيغته «قال أبو سعيد الخدري تمارى رجلان في المسجد الذي أسّس على التقوى فقال رجل هو مسجد قباء وقال الآخر هو مسجد رسول الله فقال رسول الله هو مسجدي هذا» «1» . ومع ذلك فهناك حديث آخر رواه الترمذي والبزّار عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الآية فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا.. نزلت في أهل قباء كانوا يستنجون بالماء» «2» والضمير في (فيه) عائد إلى المسجد. ويظهر أن هذا الحديث ثبت عند الذين قالوا إن المسجد هو مسجد قباء دون الحديث الأول فاستندوا إليه في قولهم. ونحن نرى هذا هو الأوجه لأن الكلام هو في المفاضلة بين مسجدين متناظرين. وهذا إنما يصحّ في مسجدي قباء اللذين بنى أحدهما المخلصون وثانيهما المنافقون. وهناك حديث ثان رواه الإمام أحمد وأبو داود والطبراني وأورده القاسمي في تفسيره فيه تأييد لذلك جاء فيه «أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم الأنصار في مسجد قباء فقال إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم فما هو هذا الطهور الذي تطهرون به. قالوا يا رسول الله ما خرج منّا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه أو مقعدته بالماء» . وروى الطبري هذا بهذه الصيغة «إنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال لأصحاب المسجد أو الأنصار قد أحسن الله عليكم الثناء في الطهور. فماذا تصنعون. قالوا نغسل أثر الغائط والبول. وفي رواية كنا نستنجي بالماء في الجاهلية فلما جاء الإسلام لم ندعه فقال لهم لا تدعوه» . وفي هذه الأحاديث بالإضافة إلى ما فيها من تأييد لكون المسجد المراد هو مسجد قباء فإن فيها وفي الجملة القرآنية معا توجيها قرآنيا ونبويّا شاملا لكل مسلم في كلّ ظرف بوجوب التزام الطهارة في كل شيء وبخاصة الطهارة البدنية. وفي ذلك توكيد لهدف تشريع الوضوء والاغتسال على ما شرحناه في مناسبات سابقة.

_ (1) التاج ج 4 ص 119- 120. (2) المصدر نفسه.

[سورة التوبة (9) : الآيات 111 إلى 112]

وواضح أن الآيات تحتوي أيضا تلقينا قويا يظل مستمد إلهام مستمر المدى في تشنيع أعمال الدسّ والمخامرة والتآمر التي يبيتها ويقدم عليها ذوو القلوب المريضة الذين قلّما يخلو منهم مجتمع في أي ظرف وفي وجوب الوقوف منهم موقف الشدة والحسم. والانتباه لهم. وعدم الانخداع بمظاهرهم وأيمانهم الكاذبة. وفي وجوب تكريم ذوي المقاصد الحسنة والمظاهر الفاضلة. وفي وجوب مراعاة جانب الله ومراقبته وتقواه وابتغاء وجهه في ما يباشره المسلمون من أعمال ومنشآت برّ وخير فهذا هو الدائم المستوجب لرضاء الله في الدنيا والآخرة والآية [109] بخاصة قوية رائعة في صدد هذا التلقين وشموله لكل عمل وموقف. [سورة التوبة (9) : الآيات 111 الى 112] إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) . (1) السائحون: يروي المفسرون «1» عن أهل التأويل قولين في معنى الكلمة. أحدهما الذين يسيحون في الأرض للجهاد. وثانيهما أنها بمعنى الصائمين. ويروون حديثين عن النبي صلّى الله عليه وسلم أحدهما يؤيد القول الأول وثانيهما يؤيد القول الثاني. وقد جاء في أولهما «سياحة أمتي الجهاد» . وجاء في ثانيهما «سياحة هذه الأمة الصيام» والحديثان لم يردا في كتب الأحاديث المعتبرة. وهناك قول ثالث يرويه القاسمي عن الرازي وأبي مسلم وبعض المحققين وهو أنها بمعناها اللغوي المتبادر وهو السياحة في الأرض مطلقا. وسياق الكلام يسوغ ترجيح أحد المعنيين الأولين. والله أعلم.

_ (1) انظر تفسير الطبري والبغوي.

تعليق على الآية إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم ... والآية التالية لها وما فيهما من تلقين

عبارة الآيتين واضحة. وقد احتوتا بشرى ربانية للمؤمنين الذين يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم وحثّا على ذلك. وتعدادا لصفات المؤمنين المخلصين واستغراقهم في دين الله وواجباته على سبيل التنويه والتثبيت. تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ ... والآية التالية لها وما فيهما من تلقين روى الطبري أن الآية الأولى نزلت عند بيعة العقبة الكبرى التي بايع فيها وفد الأوس والخزرج النبي صلى الله عليه وسلم قبيل هجرته وهجرة أصحابه إلى المدينة حيث قال أحدهم عبد الله بن رواحة للنبي صلى الله عليه وسلم اشترط لربك ولنفسك فقال أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني ما تمنعون به أنفسكم فقالوا وما لنا إذا فعلنا ذلك؟ فقال الجنة. فقالوا ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل. فأنزل الله الآية. ومع احتمال صحة المحاورة المروية عند بيعة العقبة فإن أسلوب الآية ومضمونها يسوغان الشك في صحة رواية نزولها في ظروف بيعة العقبة. بل إن الرواية نفسها تسوغ هذا الشك لأن كل ما طلبه النبي صلى الله عليه وسلم من الوفد هو المنع والحماية بينما الآية واسعة المدى في الجهاد. ولقد ذكرنا في سياق شرح قصة وقعة بدر في تفسير سورة الأنفال أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يرى له على الأنصار إلّا الدفاع والحماية فقط. ولذلك لم يقدم على الاشتباك مع قريش إلّا بعد أن استشارهم وأظهروا استعدادهم للحرب مما فيه تأييد لذلك. ولقد ربط الطبري وغيره بين الآية الأولى والثانية وقالوا: إن الله قد بين في الثانية صفات المؤمنين الذين اشترى منهم أنفسهم. حيث يفيد هذا أن الآيتين نزلتا معا. وهو ما لم تروه الرواية. والانسجام بين الآيتين تام يؤيد ذلك. فضلا عن أن ما في الآية الثانية من صفات لم يكن بعد متحققا في الذين بايعوا بيعة العقبة. وبالإضافة إلى هذا فإننا نرى التناسب قائما بين الآيتين والسياق السابق بحيث

يسوغ ترجيح نزولهما معه أو عقبه وأن تكونا قد جاءتا على سبيل التعقيب على السياق من جهة وخاتمة للسلسلة التي استدللنا من مضامينها أنها نزلت أثناء غزوة تبوك من جهة أخرى والتي دار أساسها وفصولها على التنديد بالمتخلفين عن الجهاد بأموالهم وأنفسهم أولا وبالمخامرين المنافقين ثانيا، والتنويه بالمؤمنين المخلصين الذين يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ثالثا. ولقد جاءت الآيتان بأسلوب قوي نافذ. وجمعت الثانية منهما بخاصة كل صفات المؤمن المخلص فكانتا ختاما رائعا لهذه السلسلة وللغزوة التي نزلت فيها والتي كانت آخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وأعظمها عددا وعدة ومن أبعدها خطورة وأشدها شقة وأطولها مسافة وأمدا. وقد تلهم روحهما أنهما في صدد التنويه بأصحاب رسول الله الذين اشتركوا في غزوة تبوك أيضا. ومع ذلك فإن إطلاق عبارتهما يجعلهما تقريرا عاما موجها إلى كل مسلم في كل ظرف ومكان ليستمد منهما إلهاما فياضا في الإقدام على الجهاد بماله ونفسه وتحمل التضحيات مهما عظمت في سبيل الله ويجد فيهما مقياسا للإخلاص الذي يستحق المتحقق به لرضاء الله ويجد فيهما جماع صفات الصلاح وأسباب الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة التي يجب عليه أن يتحقق بها. ويلفت النظر بخاصة إلى ما في الآية الأولى من مغزى عظيم. حيث تتضمن تقرير أن المسلم المخلص بمجرد انتسابه للإسلام يكون قد باع نفسه لله ليجاهد في سبيله بماله ونفسه وكون الله قد اشترى ذلك بالجنة. ففي هذا ما فيه من قوة الحثّ على الجهاد والدعوة إليه. وقوة عنصر الاستجابة فيه واعتباره أقوى أركان الإسلام ودعائمه. وطبيعي أن هذا الجهاد يدور في نطاق المبادئ التي قررها القرآن وشرحناها في مناسبات عديدة سابقة. ولقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر حديثا جاء فيه «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رجع من سفر يقول آئبون تائبون إن شاء الله عابدون لربنا حامدون» «1» .

_ (1) النص من ابن كثير جاء في سياق تفسير آيات الزخرف [12- 14] وقال المفسّر إن الحديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي.

وروى ابن سعد في طبقاته عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين رجوعه من غزوة عسفان أولى غزواته «آئبون تائبون عابدون لربنا حامدون» «1» وروى ابن سعد أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قرر العودة من غزوة الطائف بعد وقعة حنين قال للمسلمين «قولوا لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده. فلما ارتحلوا قال قولوا آئبون تائبون عابدون لربنا حامدون» «2» . والفرق بين ما جاء في هذه الأحاديث والآية هو أن الصيغة في الأحاديث إعلان من النبي والمؤمنين بالتوبة والإنابة إلى الله وحمده. في حين أن صيغة الآية أشمل وأوسع. وفيها تثبيت للصفات العظيمة التي تتحقق في المؤمنين من إنابة إلى الله وتوبة وجهاد وعبادة وسجود وركوع وسياحة وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر وحفظ لحدود الله حينما يوفون ما أوجبه عليهم تعاقدهم على شراء الله منهم أنفسهم وأموالهم بالجنة من قتال في سبيله. وتنويها بهم وتبشيرا لهم حيث تكون حكمة التنزيل شاءت أن توحي قرآنا بصيغة أوسع وأشمل لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يهتف به ويأمر المسلمين بالهتاف به كلّما عاد وعادوا معه من سفر وجهاد في أعقاب غزوة تبوك آخر غزوات رسول الله وأعظمها عدد جيوش وبعد مدى وأهداف ومشقة. وهذا لا ينقض ما قلناه استئناسا بإطلاق العبارة القرآنية من شمول مدى الآية لكل مسلم حينما يقوم بواجبه من القتال في سبيل الله نتيجة لتعاقده مع الله ببيع نفسه وماله بالجنة. وفي صدد جملة وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ نقول إن القرآن احتوى آيات عديدة فيها دعوة للجهاد بالمال والنفس وحثّ عليه ووعد رباني بالنصر والجنّة للمجاهدين. ومن آخرها الآيات [88 و 89] من هذه السورة وإذا لم يكن في أسفار العهد القديم والعهد الجديد المتداولة اليوم بين أيدي اليهود والنصارى شيء صريح من ذلك فلا يعني هذا نفي ما جاء في الجملة القرآنية.

_ (1) طبقات ابن سعد ج 3 ص 122- 123 و 211. (2) المصدر نفسه.

فالتوراة والإنجيل اللذان أوحى بهما الله لموسى وعيسى عليه السلام واللذان كانا موجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مفقودان على ما شرحناه في التعليق على التوراة والإنجيل في سياق تفسير الآية [158] من سورة الأعراف. وأسفار العهد القديم التي يمكن أن يكون فيها شيء مما بلّغه الله عزّ وجلّ لموسى عليه السلام أو بلّغه موسى لبني إسرائيل قد دونت بعد موسى بمدة طويلة. وفيها متناقضات كثيرة تدل على طروء تحريف عليها فضلا عن أنه ليس هناك أي دليل على أن فيها جميع ما بلّغه الله عزّ وجلّ لموسى أو بلّغه موسى لبني إسرائيل. والأناجيل المتداولة هي ترجمة حياة عيسى عليه السلام وليس هناك أي دليل على أن فيها جميع ما بلّغه الله عزّ وجلّ لعيسى وبلّغه عيسى لبني إسرائيل وغيرهم. ولقد جعل الله القرآن مهيمنا على الكتب السابقة المنسوبة إلى الله عزّ وجلّ. ومقتضى هذا من وجهة العقيدة الإسلامية أن كل ما ورد في القرآن مما لم يرد في الأسفار المتداولة اليوم من المبادئ والأسس هو الحق على ما شرحناه في سياق تفسير الآية [48] من سورة المائدة. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا روى الشيخان صيغة مقاربة لأوله مع زيادة مهمة فرأينا أن نورد صيغة الشيخين لما في الزيادة من روعة وتلقين وهذه هي «تضمّن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهادا في سبيلي وإيمانا بي وتصديقا برسلي فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة. والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم. لونه لون دم وريحه ريح مسك. والذي نفس محمد بيده لولا أن يشقّ على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا. ولكني لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة ويشقّ عليهم أن يتخلّفوا عني. والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أحيا ثم أغزو فأقتل ثم أحيا ثم أغزو فأقتل ... » «1» .

_ (1) التاج ج 4 ص 291- 292.

[سورة التوبة (9) : الآيات 113 إلى 115]

هذا، ولقد رأينا المفسر القاسمي يقف عند كلمة السَّائِحُونَ ويروي ما قاله بعض العلماء من أنها بمعنى السياحة في الأرض مطلقا وينقل عنهم ما ذكروه من فوائد السياحة المتنوعة حيث يبدو أنهم يرون في الكلمة إيعازا قرآنيا للمسلمين بالسياحة في الأرض واجتناء فوائدها. وشيء من هذا في تفسير رشيد رضا أيضا. ومع أن فيما قالوه من فوائد السياحة وكونها مستحسنة للمسلمين وجاهة، فإنّ في الاستدلال على ذلك من الكلمة في مقامها تكلفا. ولا سيما أنها تصف المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بالجنة إذا ما قاتلوا في سبيله بأوصاف تدخل في نطاق عبادة الله والإنابة إليه. ولم تكن السياحة بمعناها هذا قد تحققت في المسلمين المخاطبين الأولين في الآية. والله تعالى أعلم. [سورة التوبة (9) : الآيات 113 الى 115] ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) . (1) أوّاه: قيل إنها بمعنى الخاشع المتضرّع إلى الله الموقن به. وقيل إنها بمعنى كثير التأوّه والخوف من الله. تعليق على الآية ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ.. والآيتين اللتين بعدها وما فيها من تلقين وما روي في صددها من روايات عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت الأولى والثانية منها تنبيها على أنه لا

ينبغي للنبي والمسلمين أن يستغفروا للمشركين الذين ماتوا على شركهم وغدت الجحيم مصيرا حتميّا لهم في الآخرة. وبيانا بأن استغفار إبراهيم لأبيه لا يصح أن يكون مثالا مبررا لذلك لأنه إنما استغفر له بناء على وعد وعده به وقبل أن يتيقّن من عدائه لله فلما تيقّن من ذلك تبرأ منه لأنه يخاف الله ولا يفعل ما لا ينبغي. أما الآية الثالثة فقد احتوت تنبيها بأن الله سبحانه اقتضت حكمته أن يبين للناس الذين هداهم بهداه الأعمال التي يجب عليهم أن يتقوها ويتجنبوها ولا يدعهم في عماية وضلال حتى يكونوا على بيّنة وهو العليم بكل شيء ومقتضيات الأمور. لقد روى الطبري روايات عديدة في سياق نزول الآية. منها رواية أنها في صدد وعد رسول الله لعمّه بالاستغفار له حينما حضرته الوفاة وأصرّ على دين آبائه بتحريض من زعماء قريش الكفار. وهذا الخبر ورد في حديث رواه الشيخان عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: «لما حضرت أبا طالب الوفاة جاء رسول الله فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال رسول الله يا عمّ قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله يا أبا طالب أترغب عن ملّة عبد المطلب. فلم يزل النبي يعرضها عليه ويعيد الاثنان عليه قولهما حتى كان آخر كلامه هو على ملّة إبراهيم وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال رسول الله والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فأنزل الله ما كانَ لِلنَّبِيِّ الآية» «1» ومنها أنه لما قدم النبي على مكة من الفتح وقف على قبر أمه حتى سخنت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها حتى نزلت ما كانَ لِلنَّبِيِّ الآية. وروى الطبري صيغة أخرى لهذا الخبر ولا يذكر أن الآية نزلت في هذا الموقف. وقد روى هذا مسلم وأبو داود والنسائي أيضا عن أبي هريرة بهذه الصيغة «زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال استأذنت ربّي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت» «2» .

_ (1) التاج ج 4 ص 120. (2) التاج ج 1 ص 345.

ومن الروايات التي يرويها الطبري أن بعض أصحاب رسول الله قالوا له يا نبيّ الله إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الأرحام ويفك العاني ويوفي الذمم أفلا نستغفر لهم. قال بلى. والله لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه فأنزل الله الآيتين الأوليين. فيهما نهي وبيان بسبب استغفار إبراهيم لأبيه وكفّه عن ذلك. ومنها أن شخصا سمع آخر يستغفر لوالديه وهما مشركان فقال له أيستغفر الرجل لوالديه وهما مشركان فقال أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فنزلت الآيتان. وروى الطبري أن الذين استغفروا لآبائهم ظنوا أنهم اقترفوا إثما بعد نزول الآيتين فأنزل الله الآية الثالثة. وروى البغوي رواية أخرى في صدد نزول الآية الثالثة وهي أن قوما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلموا ولم تكن الخمر محرّمة ولا القبلة مصروفة إلى الكعبة ثم قدموا عليه بعد مدة فوجدوا الخمر محرمة والقبلة مصروفة إلى الكعبة فقال يا رسول الله قد كنت على دين ونحن على غيره فنحن على ضلال فأنزل الله الآية الثالثة. ويلحظ أن المناسبة بعيدة بين وفاة أبي طالب والآيات. وكذلك بينها وبين زيارة النبي لقبر أمه. فضلا عن أن الآيات تشرك المؤمنين مع النبي وليست قاصرة عليه. وهذا ما يجعلنا نتوقف في روايتي أبي طالب وأم النبي ونزول الآيات في صددهما. وحديث أبي طالب الذي يرويه الشيخان عن سعيد بن المسيب والذي فيه أن الآية نزلت في صدد ذلك هو قول شخص وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة. ولا يكون حجة قاطعة على أن الآية نزلت في صدد ذلك. والحديث الذي يذكر أن الآية نزلت في صدد استغفار النبي لأمه ليس من الصحاح. والحديث الصحيح الذي يرويه مسلم وأبو داود والنسائي في ذلك ليس فيه أن الآية نزلت في ذلك. وقد تكون الرواية التي تذكر أن النبي قال لمن سأله عن صواب الاستغفار للآباء ذوي الأعمال الحسنة بلى ثم قال لأستغفرن لأبي أيضا هي أكثر الروايات اتساقا مع نصّ الآيتين وإن لم ترد في الصحاح. لأن النبي والمؤمنين معا اشتركوا

فيها. وهذا يقال بالنسبة للرواية التي يرويها البغوي كمناسبة لنزول الآية الثالثة حيث ظن النبي والسائلون أنهم أثموا بالاستغفار لآبائهم بعد نزول الآيتين فنزلت الآية الثالثة بعدهما. والله تعالى أعلم. ومع أن الآيات الثلاث تبدو كما قلنا فصلا جديدا فإنّ وضعها بعد سلسلة الآيات التي نزلت عقب غزوة تبوك قد يسوغ القول إن الحوادث التي نبهت ونهت عنها الآيات كانت بعد العودة من هذه الغزوة. والمتبادر أن وصف إبراهيم عليه السلام بالأوّاه الحليم هدف إلى التنبيه على أنه لا يمكن أن يفعل شيئا لا يرضاه الله تعالى لأنه شديد الخوف منه وإن ما كان من وعده لأبيه قبل أن يصبح عداؤه لله يقينيا إنما جاء من رأفته وحلمه وإشفاقه ولكن ذلك لم يحل دون تبرئه منه حالما تيقن من ذلك العداء. وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى كما هو ظاهر. ولقد احتوت الآية الثالثة أساسا إيمانيا وتشريعا جليلا. وهو أن الله عزّ وجلّ لا يؤاخذ مسلما على عمل لم ينه عنه. وأن كل ما لم يؤمر المسلمون باجتنابه بنصّ قرآني أو نبوي صحيح مما ليس فيه منكر وإثم وفاحشة بينة هو مباح لهم. وهذا متسق مع ما قرره القرآن في مواضع عديدة وأساليب متنوعة نبهنا عليها في مناسبات سابقة. وهناك حديث يرويه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم يصح أن يورد كضابط عظيم في هذا الصدد ونصه «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» «1» . وجملة ما كانَ لِلنَّبِيِّ قرينة قرآنية أخرى على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد يجتهد في أمر يكون غيره الأولى في غيب الله تعالى فينزل قرآن بالعتاب أو التنبيه أو النهي مع بيان ما هو الأولى. وهذا لا يتناقض مع العصمة الواجب الإيمان بها فيه

_ (1) التاج ج 1 ص 37.

[سورة التوبة (9) : آية 116]

لأن هذه العصمة هي في صدد تبليغ جميع ما أوحاه الله إليه وعدم مخالفته وعدم اقتراف أي إثم ومعصية على ما شرحناه في المناسبات السابقة. [سورة التوبة (9) : آية 116] إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116) . عبارة الآية واضحة وقد أفردناها لأن من المحتمل أن تكون معقبة على الآيات السابقة فيكون معناها إيجاب عدم تعلّق المسلمين بذوي قرباهم المشركين واستغفارهم لهم نتيجة لهذا التعلّق لأنهم ليس لأحد منهم نصير ولا ولي غير الله. ومن المحتمل أن تكون مقدمة وتمهيدا للآيات التالية لها التي قررت إعلان توبة الله على النبي والمسلمين فيكون معناها أن الله وحده هو ناصرهم ووليهم. وعليهم أن يجعلوا اعتمادهم عليه وحده. وفيها على كل حال توكيد لما تكرر كثيرا في القرآن من إيذان الناس عامة والمؤمنين خاصة أن السموات والأرض تلك لله وحده وأنه ليس لأحد من دونه ولي ولا نصير فهو وحده المرتجى. وبه وحده يتحقق النصر ولا يصح لأحد أن يتعلق بغيره. [سورة التوبة (9) : الآيات 117 الى 118] لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) . (1) وظنوا: الراجح أن الكلمة هنا بمعنى تيقنوا لأن الظن من الأضداد أحيانا، تعني الشك وتعني اليقين. وفي القرآن أمثلة من هذا الباب مثل ما جاء في آية سورة يوسف [109] وآية سورة الكهف [54] .

تعليق على الآية لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار ... والآية التالية لها. وما روي في صددهما من روايات وما انطوى فيهما من صور وتلقين

في الآيتين: 1- تطمين رباني بتوبة الله تعالى ورضائه عن النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ظرف عسير شاق حتى كاد يزيغ بعضهم فيه ويتورطون في موقف لا يرضاه الله. فثبتهم وتاب عليهم لأنه رؤوف رحيم بهم. 2- وتطمين رباني آخر بشمول توبة الله تعالى ورحمته أيضا للثلاثة المتخلفين عن رسول الله الذين استشعروا بخطئهم استشعارا جعل الأرض تضيق بهم على رحبها بل وجعل أنفسهم تضيق عليهم فلجأوا إلى الله ليعفو عنهم لأنهم تيقنوا أن لا ملجأ لهم ولا مفرّ منه إلا إليه فتاب عليهم. وهو التواب الرحيم. تعليق على الآية لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ... والآية التالية لها. وما روي في صددهما من روايات وما انطوى فيهما من صور وتلقين الآيتان تبدوان فصلا جديدا مع اتصالهما بموضوع غزوة تبوك. وفحواهما يلهم أنهما نزلتا بعد عودة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من تبوك وهو ما تفيده الروايات المروية في صددهما. والمتبادر أنهما نزلتا بعد الفصل السابق الذي رجحنا أنه نزل بعد العودة من تبوك فوضعتا بعده. ولم يرو المفسرون حادثا معينا في صدد نزول الآية الأولى وإنما رووا وصفا لظروف غزوة تبوك وما كان فيها من شدة كادت قلوب فريق من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تزيغ منها على حدّ التعبير القرآني. والمتبادر أن توبة الله المعلنة في هذه الآية هي متصلة بذلك «1» . ووصف القرآن لها بيوم العسرة مؤيد لذلك حيث كانت عسرة من شدة الحرّ وعسرة من قلة الظهر والزاد والماء حتى كان الثلاثة والأربعة

_ (1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي. [.....]

بل والعشرة منهم يتناوبون على بعير واحد. وحتى وصل العطش بهم أحيانا إلى نحر الإبل واعتصار كروشها. وحتى وصلت قلة الطعام مع بعضهم إلى الاكتفاء أحيانا بالتمرات القليلة في اليوم بل إلى المناوبة في لوك التمرة الواحدة. وقد برّح ببعضهم التعب حتى كان بعضهم يتخلف عن الركب فيخبرون النبي صلى الله عليه وسلم به فيقول دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم منه. وكان من المتخلفين ثم اللاحقين أبو ذرّ رضي الله عنه. وتخلّف من المخلصين بضعة نفر أحدهم أبو خيثمة الأنصاري الذي ندم بعد رحيل الجيش والتحق به في خبر شائق يرويه ابن هشام حيث قال «1» إنه جاء أهله في يوم حار فوجد زوجتيه في عريشين لهما في حائطه- بستانه- كل منهما قد رشت عريشها وبردت له فيه ماء وهيأت له فيه طعاما فلما دخل قام على باب العريش فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح- في الشمس- والريح والحرّ وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء في ماله مقيم. ما هذا بالنصف. ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فهيئا لي زادا ففعلتا ثم قدم ناضحه فارتحله ثم خرج في طلب رسول الله حتى أدركه حين نزل تبوك. ولقي في طريقه واحدا مثله خرج للالتحاق برسول الله وهو عمير بن وهب الجمحي فترافقا حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير: إن لي ذنبا فلا عليك أن تتخلف عني حتى آتي رسول الله قبلك ففعل حتى إذا دنا من رسول الله قال الناس: هذا راكب على الطريق مقبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كن أبا خيثمة» فقالوا: يا رسول الله هو والله أبو خيثمة فلما أناخ أقبل فسلّم على رسول الله وأخبره فدعا له بخير. وقد أورد ابن هشام أبياتا منسوبة إليه جاء فيها: لما رأيت الناس في الدين نافقوا ... أتيت التي كانت أعفّ وأكرما وبايعت باليمنى يدي لمحمّد ... فلم أكتسب إثما ولم أغش محرما تركت خضيبا في العريش وصرمة ... صفايا كراما بسرها قد تحمّما

_ (1) انظر ابن هشام ج 4 ص 174- 186.

وكنت إذا شكّ المنافق أسمحت ... إلى الدين نفسي شطره حيث يمّما ومما يلفت النظر اختصاص المهاجرين والأنصار بالذكر في الآية الأولى في حين أن الروايات تذكر أن من القبائل البدوية من اشترك في الحملة إلى جانبهم. ومما يؤيده ذكر حادث اعتذار بعض الأعراب ذوي القدرة والثروة في الآية [90] وبعدها. ويتبادر لنا أن هذا هو بسبب كون هذه الطبقة هي التي كانت العمود الحقيقي القوي الذي قامت عليه الدعوة والمجتمع الإسلامي في عهد النبي وعقب وفاته. والتي كانت تسارع إلى تأييد رسول الله والاستجابة إليه قلبا وقالبا في كل ظرف وبخاصة في الملمات فيقتدي بها سائر الناس. فالمتبادر أن حكمة التنزيل اختصتهم بالذكر استعظاما لما حكته الآية عن بعضهم كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ لأنه لم يكن يصحّ أن يصدر مثل هذا من أي فرد من هذه الطبقة. أما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم وشموله بالتوبة فقد روى بعض المفسرين عن ابن عباس وغيره أن ذلك إما بسبب موقف التساهل الذي وقفه من المستأذنين بالتخلف والإذن لهم مما حكته بعض الآيات وإما بقصد تشريف المهاجرين والأنصار وتطمينهم. وكلا القولين وجيه وإن كنا نرجح الثاني. لأن موضوع الإذن قد ذكر في آية بأسلوب تحببي عتابي مع ذكر عفو الله عنه وهي الآية [43] فلم يبق محل لتوبة أخرى والله أعلم. أما الآية الثانية فهي في حق ثلاثة من المخلصين تكاسلوا وتخلفوا في المدينة بدون عذر، وقد روى المفسرون خبرهم، وقد روى خبرهم الشيخان والترمذي في سياق تفسير الآية في حديث طويل عن كعب بن مالك أحد الثلاثة رأينا إيراده لما فيه من فوائد وصور رائعة عن أخلاق أصحاب رسول الله «1» . قال: «لم أتخلّف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلّا في غزوة تبوك. غير أني قد تخلّفت في غزوة بدر ولم يعاتب النبيّ صلى الله عليه وسلم أحدا تخلّف عنه إنما خرج النبيّ والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد. ولقد شهدت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم

_ (1) التاج ج 4 ص 122- 128.

ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحبّ أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها. وكان من خبري حين تخلّفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قطّ أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة. والله ما جمعت قبلها راحلتين قطّ حتى جمعتهما في تلك الغزوة فغزاها النبيّ في حرّ شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفازا واستقبل عددا كثيرا فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجههم الذي يريد والمسلمون مع رسول الله كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ. فقلّ رجل يريد أن يتغيب يظنّ أن ذلك سيخفى ما لم ينزل فيه وحي من الله. وكانت تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال فأنا إليها أصعر. فتجّهز النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض شيئا فأقول في نفسي أنا قادر على ذلك إذا أردت فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمرّ بالناس الجدّ فأصبح النبي صلى الله عليه وسلم غاديا والمسلمون معه. ولم أقض من جهازي شيئا ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو فهممت أن أرتحل فأدركهم ويا ليتني فعلت ثم لم يقدر ذلك لي فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلّا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء ولم يذكرني النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم ما فعل كعب بن مالك فقال رجل من بني سلمة يا رسول الله حبسه برداه والنظر في عطفيه. فقال له معاذ بن جبل بئس ما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلّا خيرا. فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فبينما هو على ذلك رأى رجلا مبيّضا يزول به السراب فقال صلى الله عليه وسلم كن أبا خيثمة فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري الذي تصدّق بصاع التمر حين لمزه المنافقون. فلما بلغني أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد توجّه قافلا من تبوك حضرني بثّي فطفقت أتذكر الكذب وأقول بم أخرج من سخطه غدا وأستعين على ذلك كلّ ذي رأي من أهلي. فلمّا قيل لي إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظلّ قادما زاح عني الباطل حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبدا فأجمعت صدقه وصبّح رسول الله قادما وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فجاء المخلّفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له

وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله حتى جئت فلما سلّمت تبسّم تبسّم المغضب ثم قال تعال فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي ما خلّفك. ألم تكن قد ابتعت ظهرك قلت يا رسول الله إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلا. ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكنّ الله أن يسخطك عليّ. ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليّ فيه إني لأرجو فيه عقبى الله. والله ما كان لي عذر والله ما كنت قطّ أقوى ولا أيسر مني حين تخلّفت عنك قال رسول الله أمّا هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك. فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا والله ما علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا. لقد عجزت في أن لا تكون اعتذرت إلى النبيّ بما اعتذر به إليه المخلّفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك قال: فو الله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأكذّب نفسي ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي من أحد. قالوا نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت فقيل لهما مثل ما قيل لك، قلت من هما قالوا مرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة فمضيت حين ذكروهما لي. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلّف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي نفسي في الأرض فما هي بالأرض التي أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان وأما أنا فكنت أشبّ القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق ولا يكلّمني أحد وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي هل حرّك شفتيه بردّ السلام أم لا ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ وإذا التفتّ نحوه أعرض عني حتى إذا طال ذلك عليّ من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحبّ الناس إليّ فسلمت عليه فو الله ما ردّ علي فقلت له يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمن أني أحبّ الله ورسوله فسكت، فعدت فناشدته فسكت، فعدت فناشدته فقال

الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي وعدت حتى تسورت الجدار فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطيّ من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدلّ على كعب بن مالك فطفق الناس يشيرون له إليّ حتى جاءني فدفع لي كتابا من ملك غسان وكنت كاتبا فقرأته فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك. فقلت حين قرأتها وهذه أيضا من البلاء فتياممت بها التنور فسجرتها بها حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن النبيّ يأمرك أن تعتزل امرأتك فقلت أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال لا بل اعتزلها فلا تقربنّها. وأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر قال فجاءت امرأة هلال بن أمية- أحد الثلاثة- رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن هلالا شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه. قال لا ولكن لا يقربنّك. فقالت إنه والله ما به حركة إلى شيء والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. قال فقال لي بعض أهلي لو استأذنت رسول الله في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه، فقلت لا أستأذن فيها رسول الله وما يدريني ما يقول لي إذا استأذنته فيها وأنا رجل شابّ. قال فلبثت بذلك عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهي عن كلامنا ثم صليت الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منّا قد ضاقت عليّ نفسي وضاقت عليّ الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على سلع يقول بأعلى صوته يا كعب بن مالك أبشر فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء فرج فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله علينا حين صلّى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا فذهب قبل صاحبيّ مبشرون وركض رجل إليّ فرسا وسعى ساع من أسلم قبلي وأوفى الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشّرني فنزعت له ثوبيّ فكسوته إياهما ببشارته والله ما أملك غيرهما يومئذ واستعرت ثوبين فلبستهما فانطلقت أتأمّم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بالتوبة ويقولون لتهنئك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد فإذا النبيّ صلى الله عليه وسلم

جالس في المسجد وحوله الناس فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنّأني والله ما قام رجل من المهاجرين غيره فكنت لا أنساها له. فلما سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه من السرور قال: أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمّك. فقلت أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ فقال لا بل من عند الله. وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا سرّ استنار وجهه كأنّ وجهه قطعة قمر وكنّا نعرف ذلك. فلما جلست بين يديه قلت يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله، فقال أمسك بعض مالك فهو خير لك. فقلت إني أمسك سهمي الذي بخيبر. وقلت يا رسول الله إن الله إنما أنجاني بالصدق وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقا ما بقيت. قال فو الله ما علمت أن أحدا من المسلمين ابتلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا أحسن مما أبلاني الله به. والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا. وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي قال فأنزل الله عزّ وجلّ: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) . قال كعب: والله ما أنعم الله عليّ من نعمة قط بعد إذ هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألّا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا. فإنّ الله أنزل الوحي فيهم بشرّ ما قال لأحد قال: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96) . وفي رواية البخاري خاصة زيادة وهي «فاجتنب الناس كلامنا فلبثت كذلك حتى طال عليّ الأمر وما من شيء أهمّ إليّ من أن أموت فلا يصلّي عليّ النبي أو يموت النبيّ فأكون من الناس بتلك

[سورة التوبة (9) : آية 119]

المنزلة فلا يكلّمني أحد منهم ولا يصلّي عليّ. فأنزل الله توبتنا على نبيّه حين بقي الثلث الآخر من الليل وهو عند أم سلمة وكانت محسنة في شأني معنية في أمري فقال رسول الله يا أمّ سلمة تيب على كعب قالت أفلا أرسل إليه فأبشّره. قال إذا يحطمكم الناس فيمنعونكم النوم سائر الليلة حتى إذا صلّى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر آذن بتوبة الله علينا. وكان إذا استبشر استنار وجهه كأنه قطعة من القمر» . والآية الثانية تلهم بقوة أن الذين تخلّفوا بغير عذر صحيح من المخلصين هم ثلاثة فقط. ويدلّ هذا على أن جميع القادرين من هؤلاء قد اشتركوا في الحملة. وقد اشترك فيها نساء أيضا على ما ذكرته الروايات كما اشترك فيها المخلصون من القبائل البدوية. وعدد المتخلفين من المنافقين في المدينة كان نحو ثمانين شخصا على ما جاء في الحديث الطويل الصحيح الذي أوردناه آنفا المروي عن كعب بن مالك. وأسلوب الآيات [90- 92] التي تندد بالمعتذرين من الأعراب يدل على أن عددهم كان قليلا أيضا. وفي كل هذا دلائل على ما كان من خطورة الحملة ومن صحة العدد العظيم الذي روى اجتماعه فيها. ولا سيما إذا لحظنا أن المدينة بعد فتح مكة أخذت تكتظّ بالوافدين إليها من كل صوب. والصورة التي رسمتها الآية الثانية عن المتخلفين الثلاثة قوية البروز تدلّ على ما كان من شدة أثر الموقف المتجهم الذي وقفه النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون منهم في نفوسهم. وهو ما زاده الحديث المروي عن كعب بيانا وقوة. وحكمة ذلك واضحة. فالتقصير في الواجب ولا سيما إذا كان من المخلص خطير شديد الأثر من حيث احتمال تذرع غير المخلص به واحتمال عدواه للمخلص في الوقت نفسه. وفي هذا تلقين مستمر المدى فيما يجب على المسلمين أن يقفوه من موقف الحزم والشدة مع الذين يشذون عن المجموع ويقصرون في واجباتهم. وبخاصة في واجب الجهاد والنضال حتى ولو لم يكونوا متهمين في إيمانهم وإخلاصهم. [سورة التوبة (9) : آية 119] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) .

تعليق على الآية يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين (119) وما فيها من تلقين

تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) وما فيها من تلقين عبارة الآية واضحة. ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزولها. وقد روى المفسرون عن أهل التأويل مثل نافع والضحاك وسعيد بن جبير أن المقصود بالصادقين في الآية هم الذين صدقوا في الاعتراف بذنبهم ولم يعتذروا بأعذار كاذبة ممن تخلفوا عن غزوة تبوك. كما رووا أنهم محمد وأصحابه الخلّص أو أبو بكر وعمر وأمثالهما. ونرى القول الثاني هو الأوجه وهو مستلهم من فحوى الآية. فالخطاب فيها موجّه للمؤمنين على سبيل حثّهم على مراقبة الله وتقواه وعلى أن يكونوا مع السابقين الأولين من أصحاب رسول الله الذين كانوا صادقين في القول والعمل والجهاد والطاعة لله ورسوله. وهذا يسوغ القول إن الآية جاءت معقبة على الآيتين السابقتين اللتين أشير فيهما إلى ما كان من تخلّف بعض المخلصين وإلى ما كاد أن يقع فيه بعض الأنصار والمهاجرين من زيغان القلب بسبب عسرة ظروف غزوة تبوك لتهيب في هذه المناسبة بجمهور المؤمنين بتقوى الله والاقتداء بأصحاب رسول الله السابقين الصادقين ويسلكوا مسلكهم. وتسوغ القول أيضا بأن هذه الطبقة من أصحاب رسول الله لم يكونوا من المعنيين بجملة مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ في الآية [117] . وإطلاق الخطاب في الآية يجعلها مستمرة التلقين بوجوب اتخاذ المخلصين في الإيمان والجهاد والإقدام والتضحية والصدق في القول والعمل قدوة وأسوة وإماما في كل ظرف ومكان. ولقد روى الطبري والبغوي أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقرأها (كونوا من الصّادقين) ويقول: «إن الكذب لا يصلح في جدّ ولا هزل ولا أن يعد أحدكم صبيه شيئا ثم لا ينجزه له، اقرأوا، إن شئتم (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا

[سورة التوبة (9) : الآيات 120 إلى 121]

من الصادقين) ومع ما في هذا من وجاهة وتلقين فإن الجمهور على أن المعني بالصادقين هم أصحاب رسول الله السابقون. [سورة التوبة (9) : الآيات 120 الى 121] ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121) . عبارة الآيتين واضحة وفيهما: 1- تنبيه إلى أنه ما كان يصحّ ولا ينبغي لأحد من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلّفوا عن رسول الله حينما يخرج إلى الجهاد. ولا أن يفضلوا أنفسهم عن نفسه ويضنوا بها عن التعرض لما يمكن أن يتعرض له من الأخطار والمشاق. 2- وتنبيه آخر فيه بشرى بما للذين يشتركون في حملات الجهاد في سبيل الله من عظيم الأجر والمنزلة مهما كان نصيبهم فيها: فإنهم لا يصيبهم في هذا السبيل ظمأ ولا نصب ولا جوع ولا يقفون موقفا يغيظ الكفار ولو لم يقع الحرب بينهم. ولا ينالون من أعدائهم نيلا ما ولا ينالهم من عدوّهم نيل ما. ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة. ولا يقطعون واديا أو يسيرون مسيرة إلّا كتب الله لهم به عملا صالحا وجازاهم عليه بما هو أحسن منه. ولا يضيع عند الله أجر المحسنين قط.

تعليق على الآية ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله.. والآية التالية لها وما فيهما من تلقين

تعليق على الآية ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ.. والآية التالية لها وما فيهما من تلقين لم نطلع على رواية خاصة في سبب نزول الآيتين كذلك. والمتبادر أنهما معقبتان أيضا على الآيات السابقة وعلى سبيل الحثّ والتنبيه والتحذير بمناسبة ما ورد في الآيات السابقة من خبر تخلّف المتخلّفين واعتذار المعتذرين من أهل المدينة والأعراب. وهما والحالة هذه متصلتان بالسياق. والراجح أنهما نزلتا بعد الآيات السابقة لهما فوضعتا مكانهما للتناسب الزمني والموضوعي. وقد قلنا في شرح الفقرة الأولى من الآية الأولى: ما كان ينبغي لأحد من أهل المدينة ومن حولها من الأعراب أنها في معنى أنه ما كان يصحّ ولا ينبغي لأحد ما أن يتخلّف عن رسول الله حين يدعو إلى الجهاد أو أن يفضل لنفسه العافية دونه، لأن روح الفقرة قصدت ذلك كما يتبادر منها ولأن الوقائع اليقينية ذكرت أن الجمهور الأعظم من أهل المدينة وكثيرا من أعرابها لم يتخلّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. واختصاص أهل المدينة ومن حولها من الأعراب بالذكر قد يكون هدف إلى التنبيه على أن واجب هؤلاء في عدم التخلف هو ألزم وأشدّ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم ولأنه إذا كان للبعيدين ما يمكن أن يكون عذر ما يسبب بعدهم وغيابهم وظروفهم فهذا ليس واردا بالنسبة للقريبين إلى النبي صلى الله عليه وسلم المتصلين به مباشرة. ولا سيما أن الدعوة تصل إليهم بيسر. ويفرض أن يكونوا ملمّين بالظروف والبواعث. والنبي عمود الدعوة والقريبون إليه هم أولى الناس بالالتفاف حوله. وهذا الاختصاص بهذا البيان لا يعني كما هو المتبادر تخفيف واجب المسلمين البعيدين. ومع خصوصية الآيتين الزمنية فإنها، فيما عدا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، محكمة الأمر عامة التوجيه مستمرة التلقين فيما هو المتبادر. فجمهور المسلمين مدعو إلى التضامن مع أولياء أمره ودعاته المخلصين في الجهاد في سبيل الله في كلّ مناسبة ملزمة. وواجب القريبين لمجالات الجهاد وظروفه وأسبابه واجب ألزم لا يصح فيه

[سورة التوبة (9) : آية 122]

تكاسل ولا تثاقل. وكل ما يقوم به المسلمون في سبيل هذا الواجب مهما كان شأنه بدنيا أو ماليا أو استعدادا أو مرابطة هو داخل في مشمول هذا الواجب ومستحق لأجر الله الموعود. [سورة التوبة (9) : آية 122] وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) . (1) فلولا: هنا في معنى الحضّ أو الاستدراك. (2) طائفة: هنا بمعنى جماعة قليلة من جماعة أكثر. في الآية: تقرير تنبيهي بأنه ليس من الضروري أن ينفر جميع المؤمنين إلى الجهاد وأنه يكفي أن ينفر من كل فريق منهم قسم. وأن من شأن ذلك أن يتيح لبعضهم التفقّه في الدين وإنذار قومهم حينما يعودون إليهم حتى يحذروا مما يجب الحذر منه. تعليق على الآية وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ... وما ينطوي فيها من صور وتلقين ولقد تعددت الروايات التي يرويها الطبري وغيره «1» في سبب نزول هذه الآية. منها أنه لما نزلت الآيات السابقة في التنديد بالمتخلّفين قال الناس هلك المتخلّفون بعد الآن فصاروا إذا دعا النبي إلى الجهاد يسارعون إلى النفرة بقضّهم وقضيضهم ولو لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم من الخارجين إلى الغزوة ولو لم تكن الحاجة ماسة. ومنها أن من قبائل البدو التي أسلمت من أخذ ينتقل إلى المدينة بقضّه وقضيضه ويقيم فيها أو حولها بحجة الرغبة في الجهاد والاستعداد له وحجة

_ (1) انظر البغوي وابن كثير والخازن والطبرسي أيضا.

مصاحبة النبي صلى الله عليه وسلم والاستماع منه والتفقّه بالدين. وكان هذا مما يضيق على أهل المدينة. ومنها أن فريقا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا إلى البادية وأصابوا خيرا فأقاموا ثم أخذوا يدعون الناس إلى الإسلام فقيل عنهم إنهم تركوا صاحبهم فوجدوا في أنفسهم وعادوا جميعا فنزلت فيهم بعذرهم وإيذانهم بكفاية وجود جماعة من كل فريق منهم عند النبي ليتعلموا منه ويعلّموا قومهم إذا رجعوا إليهم. وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب أحاديث معتبرة. والرواية الثالثة لا تتسق مع مفهوم الآية ولا مع روحها وسياقها كما هو المتبادر من حيث إن الآية في صدد جميع المؤمنين أو غالبيتهم العظمى على الأقل. والرواية الثانية ليست بعيدة الاحتمال. فإن المدينة بعد فتح مكة أخذت تعجّ بوفود قبائل العرب. وتدخل في دين الله أفواجا. فلا يبعد أن يكون منهم من حاول الإقامة في المدينة وحولها بحجة الرغبة في الجهاد والاستعداد له ومصاحبة الرسول صلى الله عليه وسلم والتفقّه بالدين فسبّب هذا ضيقا على أهل المدينة. وقد صوب الطبري الرواية الأولى. وقد يكون التصويب في محلّه مع شيء من التعديل تقتضيه الوقائع المعروفة. فلم يرو أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا بنفسه غزوة ما بعد تبوك. كما أنه لم يرو خبر سرايا عديدة سيّرها إلا ما كان من خبر سرية سيّرها إلى اليمن بقيادة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وإعداد جيش إلى البلقاء بقيادة أسامة بن زيد. ويتبادر لنا أن المسلمين خارج المدينة قد فزعوا وتحسبوا من عواقب الآيات السابقة فصاروا يقبلون على المدينة للاشتراك في الجهاد ومصاحبة النبي صلى الله عليه وسلم والاستماع له والتفقه بالدين. وكان في ذلك حرج عليهم وعلى أهل المدينة معا فاقتضت حكمة التنزيل الإيحاء بالآية على سبيل التخفيف والتطمين والتعليم. وعلى كل حال فالآية متصلة بالآيات السابقة موضوعا وسياقا مع رجحان نزولها لحدتها بعدها من حيث إنها مترتبة عليها. والله أعلم. ولقد تعددت التأويلات التي يرويها الطبري وغيره في المقصود بالجملة الثانية من الآية. منها أنهم الذين ينفرون إلى الجهاد حيث يعاينون نصر الله لأهل

دينه فيكون ذلك لهم فقه في الدين ويرون مكائد الأعداء فيكون ذلك موضوع إنذار وتحذير لقومهم حين رجوعهم إليهم. ومنها أنهم الذين يبقون حول رسول الله حيث يتفقهون بما يسمعون منه من قرآن وحكم وينذرون بذلك قوم الذين نفروا إلى الجهاد حين رجوعهم. ويتبادر لنا على ضوء الشرح المعدل الذي نقدم والذي نرجو أن يكون فيه الصواب أن الجملة عائدة للطوائف التي أذن لها أن تنفر من كل فرقة وتفد إلى المدينة لتكون مع رسول الله مقيما أو مجاهدا فتتفقه بما تسمعه من قرآن وحكم وتنذر قومها بما تعلمته حين تعود إليهم والله أعلم. والآية في حدّ ذاتها وبإطلاق عبارتها شاملة التعليم والتلقين لجميع المسلمين في مختلف ظروفهم. وفيها تعليم أسلوب من أساليب الاشتراك في الجهاد أو السعي للتفقه في الدين والوقوف على مقتضيات الأمور- حسب احتمال مضمون الآية- حيث أوجبت اشتراك جميع الفئات، دون اشتراك جميع الأفراد. ولعلّ فيها إلهاما بالمناوبة في الاشتراك بين أفراد كل فئة فلا يتعطل الجهاد والسعي للتفقه ولا تتعطل مصالح الناس معا. وقد اعتبر بعضهم الآية مستندا لوصف فرض الجهاد بأنه فرض كفاية إذا قام به فريق سقط عن الباقين «1» . وقد يكون هذا في محله إذا كان قيام فريق من المسلمين كافيا للحاجة وسادّا لها. أما في حالة الضرورة فإن هذا الفرض يكون فرض عين على كل قادر. وقد كتب على المؤمنين جميعا على ما انطوى في الآية [216] من سورة البقرة. فإذا لم يقم به حينما تدعو دواعيه من الفئات ما يسدّ الحاجة أثم القاعدون. ولقد أورد البغوي وهو إمام محدث أيضا بعض الأحاديث النبوية في سياق تفسير هذه الآية وفي صدد ما احتوته من التفقه بالدين رأينا من المفيد نقلها عنه لأن فيها تعليما وتوجيها نبويين عظيمين في هذا الصدد لكل المسلمين في كل ظرف. منها حديث عن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يرد الله به خيرا يفقّهه في

_ (1) انظر تفسير الآية في تفسير القاسمي عزوا للسيوطي.

الدين» «1» وحديث عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تجدون الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقّهوا» وعلّق البغوي على هذا الحديث تعليقا لا يخلو من الوجاهة حيث قال: «والفقه هو معرفة أحكام الدين وهو ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية. ففرض العين مثل علم الطهارة والصلاة والصوم فعلى كلّ مكلّف معرفته. وكذلك كل عبادة أوجبها الشرع على واحد يجب عليه معرفتها ومعرفة علمها مثل الزكاة إن كان له مال وعلم الحج إن وجب عليه. وأما فرض الكفاية فهو أن يتعلم حتى يبلغ درجة الاجتهاد ورتبة الفتيا فإذا قعد أهل بلد عن تعلّمه عصوا جميعا. وإذا قام من كل بلد واحد بتعلمه سقط الفرض عن الآخرين وعليهم تقليده فيما يقع لهم من الحوادث» . ومما ساقه في صدد ذلك حديث نبوي جاء فيه «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم» وحديث عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم» «2» . وحديث عن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيه واحد أشدّ على الشيطان من ألف عابد» «3» وأردف هذا بقول للشافعي وهو «طلب العلم أفضل من صلاة النافلة» «4» .

_ (1) هذا الحديث رواه الأربعة أيضا عن معاوية. وله تتمة وهي «وإنما أنا قاسم والله يعطي ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله» التاج ج 1 ص 53. (2) روى هذا الحديث الترمذي وفي روايته هذه الزيادة ثم قال: «إنّ الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلّون على معلّم الناس الخير» التاج ج 1 ص 56. (3) روى هذا أيضا الترمذي انظر المصدر نفسه. (4) ومن هذا الباب حديث رواه الترمذي وأبو داود عن أبي الدرداء جاء فيه: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من سلك طريقا يبتغي فيه علما سلك الله له طريقا إلى الجنّة وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها رضاء لطالب العلم. وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء. وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب. إنّ العلماء ورثة الأنبياء. إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما. إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر» التاج ج 1 ص 54 و 55 وعن أبي هريرة رواية الترمذي: «قال النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة ضالّة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها» وفي رواية «من طلب العلم كان كفّارة لما مضى» المصدر نفسه ص 55، 56 وروى أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه. ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه» المصدر نفسه ص 64 وروى مسلم والنسائي وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» المصدر نفسه ص 66.

[سورة التوبة (9) : آية 123]

[سورة التوبة (9) : آية 123] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) . عبارة الآية واضحة. وفيها حثّ للمسلمين على قتال الأقرب إليهم من الكفار والإغلاظ والشدة في معاملتهم وقتالهم. مع التطمين بأن الله مع الذين يتقونه ويلتزمون حدوده. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ ... وما روي فيها من أقوال وما تضمنته من تلقين وتعليم ولقد قال الطبري في صدد هذه الآية إن الله أمر المسلمين بقتال من وليهم من الكفار دون من بعد منهم. وكان الذين يلون المخاطبين في الآية يومئذ الروم لأنهم كانوا سكان الشام والشام أقرب إلى المدينة من العراق. أما بعد الفتوح فالمسلمون مأمورون أن يقاتل أهل كل ناحية من وليهم من الأعداء دون الأبعد ما لم يضطر إليهم أهل ناحية أخرى من نواحي بلاد الإسلام فإن اضطروا لزم عونهم ونصرهم. ولهذا تأول كل من تأول هذه الآية أن معناها إيجاب الفرض على أهل كلّ ناحية قتال من وليهم من الأعداء. وروى بعد هذا عن ابن عمر أنه أجاب على سؤال عن قتال الديلم فقال عليك بالروم. وروي عن الحسن أنه أجاب على سؤال عن قتال الروم والديلم فقال الديلم «1» . وروى عن ابن زيد في تأويل الآية قوله: «إن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل كفار العرب حتى فرغ منهم فلما فرغ أمر بقتال أهل الكتاب» . وقال الخازن عزوا إلى

_ (1) الراجح أن المقصود هم أهل بلاد فارس.

بعض العلماء- بدون تسمية- إن الآية نزلت قبل نزول وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً فلما نزلت هذه صارت ناسخة للآية قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ ومضى الخازن قائلا: «إنّ المحققين من العلماء لا يرون وجها للنسخ لأن الله لما أمر المسلمين بقتال المشركين كافة أرشدهم إلى الطريق الأصوب والأصلح وهو أن يبدأوا بقتال الأقرب فالأقرب حتى يصلوا إلى الأبعد فالأبعد. وبهذا يحصل الغرض من قتال المشركين كافّة. لأن قتالهم دفعة واحدة لا يتصور. ولذلك قاتل رسول الله أولا قومه ثم انتقل إلى قتال سائر العرب ثم إلى قتال أهل الكتاب الأقربين قريظة والنضير وخيبر وفدك. ثم انتقل إلى غزو الروم في الشام، ثم كان فتح الشام في زمن الصحابة. ثم انتقلوا إلى العراق، ثم إلى سائر الأمصار» . وليس في كتب التفسير الأخرى التي بين أيدينا زيادة هامة يحسن نقلها. ويلوح لنا أن معظم هذه الأقوال اجتهادي من جهة ومتأثر بالوقائع التي وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده من جهة أخرى فضلا عن ما فيها من ثغرات. لأن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل بني قريظة وبني النضير ومن قبلهم بني قينقاع ومن بعدهم خيبر وما حولها قبل أن يفرغ من قتال قومه فضلا عن فراغه من قتال سائر كفار العرب. وسار بنفسه إلى دومة الجندل وأرسل سرايا عديدة إلى مشارف الشام لقتال نصارى العرب في السنين الخامسة والسادسة والسابعة ثم سيّر جيشا بقيادة زيد بن حارثة لقتال الروم في أقصى بلاد الشام في السنة الثامنة قبل أن يفرغ من هذا وذاك على ما شرحناه في سياق تفسير الآية [29] من هذه السورة. وواضح من هذا أن المؤولين والمفسرين تلقوا الآية مستقلة وأداروا الكلام على مداها بصورة عامة متأثرين ببعض الوقائع. ولم يلتفتوا أو يلمحوا ما بينها وبين مدى سابقتها من صلة. مع أن الصلة بينهما وثيقة فيما نرى. وبها يمكن تأويلها تأويلا متسقا مع السياق والواقع الذي نزلت الآية في ظروفه. فالمسلمون خارج المدينة أخذوا يتوافدون إليها بقصد الجهاد مع رسول الله ومصاحبته. فاقتضت حكمة التنزيل الإيحاء بالآية السابقة لتنبيههم إلى أنه لا حاجة إلى قدومهم جميعهم

ويكفي أن يأتي من كل فرقة منهم طائفة ثم اقتضت هذه الحكمة الإيحاء بالآية التي نحن في صددها لتؤذن المسلمين من غير أهل المدينة بأن مما يكفيهم ويجب عليهم أن يقاتلوا من يليهم من الأعداء الكفار دون حاجة إلى مجيئهم جميعا إلى المدينة. ومع أن معظم جزيرة العرب قد أرسلت وفودها بعد غزوة تبوك وقبيلها إلى المدينة وبايعت النبي على الإسلام على ما جاء في كتب السيرة القديمة «1» فإنه بقي شراذم متفرقة مناوئة. مثل بني حنيفة بقيادة زعيمهم مسيلمة في اليمامة الذي ادعى النبوة في آخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومثل بني أسد بقيادة زعيمهم طلحة في نجد وجماعة الأسود العنسي في اليمن اللذين ادعيا النبوة كذلك في آخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وكانت حالة الحرب قائمة في الوقت نفسه بين المسلمين ونصارى الشام والروم والغساسنة أصحاب السلطان والحكم فيها. ومن المحتمل أن يكون قد وفد على المدينة جماعات من هذه الأنحاء فنزلت الآية للإيعاز لهم بما هو الأولى والألزم والله تعالى أعلم. وظروف نزول الآية وهدفها من جهة والمبادئ القرآنية الجهادية المحكمة من جهة أخرى تسوغ القول إن الكفار المقصودين في الآية هم الكفار الأعداء فحسب وليس كل الكفار إطلاقا وبدءا ولو لم يكونوا أعداء محاربين ومعتدين على الإسلام والمسلمين. وهذا متسق مع قول الطبري: «أنّ كلّ من تأوّل هذه الآية يرى أن معناها إيجاب الفرض على أهل كل ناحية قتال من وليهم من الأعداء» . والفرق واضح بين الكفار إطلاقا وبين الأعداء منهم. والآية في حدّ ذاتها مطلقة العبارة والتوجيه وعليها طابع التعليم والتشريع للمسلمين في جميع ظروفهم أيضا. ولعلّ مما تعلّمه هو السير على ما هو الأولى من قواعد الحرب وهو عدم توزيع القوى وفائدة حشدها وتوجيهها إلى الأقرب فالأقرب من الأعداء. مع التنبيه على أن ذلك يجب أن يكون متمشيا مع مقتضيات المصلحة الإسلامية التي يقررها ولي أمر المسلمين، وعلى وجاهة ما قاله الطبري

_ (1) انظر سيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد.

[سورة التوبة (9) : الآيات 124 إلى 126]

من أن هذا يكون ما لم يضطر إليه أهل ناحية أخرى من نواحي بلاد الإسلام. فإن اضطروا لزم عونهم ونصرهم، أي ولو كان ذلك في ناحية غير قريبة. والله أعلم. وجملة وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً لا تفسر فيما يتبادر لنا بالقسوة في القتل والإبادة أو بذلك وحسب بل بمعنى إظهار العزيمة والحمية والتصميم والشدة التي ترهب الأعداء أيضا. ولعلّ الجملة التي انتهت بها الآية التي فيها الجملة ممّا يبرز هذا التنبيه. وفي تفسير البغوي ورشيد رضا والقاسمي ما يتساوق مع هذا القول. وفيه والحالة هذه تلقين مستمر المدى. [سورة التوبة (9) : الآيات 124 الى 126] وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) . (1) سورة: نرجح أن معنى الكلمة في مقامها هو اللغوي الذي هو «جملة من آيات القرآن» وليس «السورة» التي صارت تطلق على سور القرآن الكاملة من بدء إلى نهاية. في هذه الآيات: 1- إشارة إلى موقف من مواقف المنافقين. حيث كان بعضهم إذا ما أوحى الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بسورة قرآنية سألوا سؤال المستهزئ الجاحد عن من استفاد منها زيادة إيمان وهدى وعلم. 2- وردّ منطو على التنديد والإنذار للمنافقين والتنويه بالمخلصين: فالذين أخلصوا في إيمانهم يزيدهم ما ينزل من القرآن يقينا واستبشارا لأنهم يرون فيه تعليما وإرشادا وهدى. وأما المنافقون ذوو القلوب المريضة فيزدادون رجسا إلى

تعليق على الآية وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا.. والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين

رجسهم بما يزدادون من شكّ وتصميم على عدم الإخلاص والتصديق حتى يموتوا كفارا جاحدين. 3- وتساؤل على سبيل التنديد من جهة والتدليل على ازديادهم رجسا إلى رجس من جهة أخرى عما إذا كانوا لا يرون أنهم يختبرون ويبتلون في كل عام مرة أو مرتين فتظهر أمارات نفاقهم وجحودهم بالمواقف التي يقفونها والأقوال التي يقولونها ويفتضح أمرهم ويتعرضون نتيجة لذلك للتقريع والخزي ثم هم لا يرعوون ولا يتوبون عن مواقفهم ولا يتذكرون ما وقع لهم فيعودون إلى الارتكاس فيها والتعرض للفضيحة والخزي والتقريع مرة بعد أخرى. تعليق على الآية وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً.. والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين الآيات فصل جديد ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزولها. وعبارتها مطلقة تلهم أن المقصودين بالتنديد هم المنافقون وأن الموقف الذي يندد بهم من أجله هو موقف متكرر دائم منهم عند نزول السور والجمل القرآنية. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآية السابقة فوضعت مكانها للتناسب الظرفي. ولعل بعض المنافقين تساءلوا تساءلهم المستهزئ الجاحد عقب نزول بعض الآيات السابقة فنزلت الآيات تفضحهم وتندد بهم وتنذرهم. ولا يبعدأن تكون الآية [122] التي احتوت تخفيفا بعد التشديد الذي سبقها كانت موضوع التساؤل. وورود الآيات عقبها قد يكون قرينة على ذلك. وإذا صحّ هذا فتكون للآيات صلة موضوعية بما سبقها أيضا. وعلى كل حال فالشدة التي جاءت في الآيات تلهم أن الموقف الذي وقفه المنافقون كان شديد الخبث والأثر. والآيات من حيث هي تحتوي تقرير مبدأ من مبادئ الإيمان والتهذيب الديني. فعلى المؤمن المخلص أن يتلقى كل ما أتى ويأتي من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم باستبشار وتصديق واعتقاد بأن فيه حكمة وهدى حتى ولو قصر ذهنه

[سورة التوبة (9) : آية 127]

عن إدراك ما فيه من حكمة أو غلق فهمه عن استكناه مداه وأن لا يرتاب فيما لا يدركه ويفهمه فيزداد بذلك يقينا وتسليما لله ورسوله. وكل شك أو تردد في ذلك متناقض مع صدق الإيمان بالله ورسوله. وهو ما لا يصدر إلّا من كافر أو منافق. والآيات والحالة هذه مستمرة الحكم والتلقين لكل مسلم في كل ظرف بالنسبة لما احتواه كتاب الله عزّ وجلّ ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من سنّة قولية وفعلية. ولقد تعددت تأويلات أهل التأويل التي أوردها الطبري عن ماهية افتتان المنافقين في السنة مرة أو مرتين. فمنها أن ذلك بالجوع والقحط والجدب. ومنها أن ذلك بالغزو والجهاد. ومنها أن ذلك بما يشيعه المشركون عن رسول الله من أكاذيب فيستبشرون بها ويظهر كذبها فيكون في ذلك فضيحة لهم. ونرجو أن يكون الصواب في التأويل الذي أوردناه في شرح الآيات إن شاء الله. [سورة التوبة (9) : آية 127] وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127) . تعليق على الآية وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ... وما فيها من صور وتلقين في الآية صورة أخرى للمنافقين. حيث كانوا حينما يسمعون النبي صلى الله عليه وسلم يتلو سورة قرآنية نزلت عليه من جديد ينظر بعضهم إلى بعض نظر المستهزئ ويتغامزون على الانصراف من مجلسه خلسة دون أن يراهم أحد ثم انصرفوا. وقد انتهت الآية بالدعاء عليهم. فليزد الله قلوبهم عمى وضلالا. فهم قوم لا يفقهون مدى الجمل القرآنية وما فيها من هدى وحكمة. ولم نطلع على رواية خاصة في نزول هذه الآية أيضا. والمتبادر أنها استمرار

[سورة التوبة (9) : الآيات 128 إلى 129]

للآيات السابقة في حكاية مواقف المنافقين حين نزول السور القرآنية. وهي متصلة بها سياقا وموضوعا وربما مناسبة أيضا. والصورة التي تحتويها الآية خبيثة كالأولى. وفيها وفي سابقتها دليل على عمق شك هذا الفريق وجحوده ونفاقه. ولما كان احتمال نزول هذه الآيات بعد غزوة تبوك قويّا وهو ما قد يلهمه ترتيبها واحتمال صدور الصور التي انطوت فيها قويّا كذلك بعد هذه الغزوة ففيها دلالة على أن هذه الفئة الفاسقة ظلت مستمرة في نفاقها وخبثها ومواقفها الجحودية والتشكيكية والتشويشية والاستهزائية إلى أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت أخذت تبالغ في الحذر والرياء والتظاهر في المسايرة والملاينة والتوكيد بإخلاصها بسبب ما صار إليه موقف النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من القوة والإسلام من الانتشار والتوطد. [سورة التوبة (9) : الآيات 128 الى 129] لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) . (1) عزيز عليه: يصعب ويشق على نفسه. (2) ما عنتّم: ما شق عليكم وسبّب لكم العنت. أو ضلالكم على رأي بعض المفسرين. وجّه الخطاب في الآية الأولى إلى السامعين والعرب عامة بأن الرسول الذي جاءهم هو منهم يشقّ عليه ضلالهم وما يصيبهم من أذى وعنت ويحرص كل الحرص على خيرهم وصالحهم. وهو شديد الرأفة والرحمة بالمؤمنين المخلصين منهم. ووجّه الخطاب في الآية الثانية إلى النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التطمين والتثبيت والاستدراك: فإذا أعرض بعض الناس عنه وعمّا يدعوهم إليه بعد ما بان لهم من شدة إشفاقه عليهم وحرصه على صالحهم وخيرهم وهدايتهم فليهتف بأن حسبي الله الذي لا إله إلا هو فهو كافيني وكاف عني وإني متوكل عليه وحده. فهو ربّ

تعليق على الآية لقد جاءكم رسول من أنفسكم.. والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين وما روي في صددهما من روايات، وتمحيص رواية مكيتهما ومدنيتهما ومسألة كونهما آخر القرآن نزولا

العرش العظيم والملك المتصرف في الأكوان مطلق التصرف. ومع اختلاف التوجيه في الخطاب فالآيتان وحدة تامة كما هو المتبادر. تعليق على الآية لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ.. والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين وما روي في صددهما من روايات، وتمحيص رواية مكيّتهما ومدنيّتهما ومسألة كونهما آخر القرآن نزولا لقد كثرت الروايات والأقوال في صدد هاتين الآيتين ومداهما. فالمصحف الذي اعتمدنا عليه يذكر أنهما مكيّتان. ولم نر في كتب التفسير تأييدا لهذه الرواية إلا في تفسير المنار عزوا إلى ابن أبي الفرس. وهذا ورد أيضا في كتب الإتقان عزوا إلى ابن الغرس «1» . ولعل أحد الاسمين مصحّف عن الثاني. ولا يذكر رشيد رضا ولا مؤلف الإتقان قبله صفة كلام ابن أبي الفرس وسنده إن كان لغيره. وقد رجح رشيد رضا مكيّة الآيتين معللا ذلك بأن معناهما لا يظهر إلا في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام في مكة في أول البعثة. ومعنى كلام ابن أبي الفرس وترجيح رشيد رضا أن الآيتين وضعتا في آخر سورة براءة دون أن تكونا منها. وهناك حديث يرويه المفسّرون في صدد وضع الآيتين في موضعهما عن عبد الله بن الزبير قال «2» أتى الحارث بن خزيمة الأنصاري بهاتين الآيتين إلى عمر بن الخطاب فقال: «من معك على هذا «3» قال لا أدري والله إني لأشهد أني سمعتهما من رسول الله ووعيتهما وحفظتهما فقال عمر إني لأشهد أني سمعتهما من

_ (1) الإتقان ج 1 ص 16. (2) النص من تفسير ابن كثير. (3) كان عمر الذي كان يشرف على جمع القرآن في زمن أبي بكر رضي الله عنهما لا يقبل من أحد ما يأتي به من قرآن إلّا إذا كان معه شاهدان على ما ذكرته الروايات.

رسول الله. ثم قال لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدتها. فانظروا سورة من القرآن فضعوها فيها فوضعوها في آخر براءة» . وهذا الحديث ليس من الصحاح. ولا يفيد أن الآيتين مكيّتان أم مدنيتان. ويفيد أنهما كانتا منفردتين لم يكن معروفا وقت نزولهما ولا السياق والسورة التي كانتا فيها. مقابل هذا هناك حديث عن أبي بن كعب أحد علماء وقرّاء القرآن من أصحاب رسول الله يرويه المفسّرون من طرق عديدة وبصيغ متقاربة. جاء في إحداها التي رواها عبد الله ابن الإمام أحمد عن عبد الله بن الزبير تفيد أن الآيتين مدنيّتان وآخر ما نزل من القرآن بل وقد تفيد بقوة أنهما كانتا في آخر سورة براءة وتقرءان بعد الآية التي قبلها وهذا نصها «1» : «إنهم جمعوا القرآن في مصاحف في خلافة أبي بكر رضي الله عنه فكان رجال يكتبون وأبي يملي عليهم فلما انتهوا إلى الآية ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127) ظنوا أن هذا آخر ما نزل من القرآن فقال لهم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأني بعدها آيتين- هما الآيتان اللتان نحن في صددهما- ثم قال هذا آخر ما نزل من القرآن» ، وهذا الحديث لم يرد في الصحاح. وهناك حديث رواه البخاري فيه حكاية لتكليف أبي بكر وعمر إيّاه بجمع القرآن وتتبعه حيث جاء فيه: «فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللّخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة براءة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره» «2» . والمهم في بحثنا هو العبارة الأخيرة التي قد تفيد أن زيدا كان يعرف أن الآيتين هما آخر سورة براءة. وتعقيبا على ما تقدم نقول: أولا: إنه ليس من الضروري أن لا يظهر معنى الآيتين إلّا في أوائل عهد مكة كما قال رشيد رضا. فإنه كان في العهد المدني مواقف من المنافقين والمشركين تتحمّل معناهما.

_ (1) النص من تفسير ابن كثير. [.....] (2) التاج ج 4 ص 28 و 29.

وثانيا: إننا نلمح بكل قوة أن الآيتين متصلتان بالسياق السابق لهما الذي احتوى صورا لمواقف خبيثة للمنافقين فأوحى الله بهما معقّبتين على هذه المواقف لتذكر أولاهما الناس بالصفات العظيمة التي اتصف بها الرسول الذي جاءهم. ولتسلي ثانيتهما النبيّ حتى لا يغتمّ ولا يعبأ بمواقف المنافقين والمشركين وأن يقول إذا أصروا عليها وتولّوا (حسبي الله وعليه توكلت) . وما روي عن أبي من أن النبي أقرأه إياهما بعد الآيتين السابقتين لهما. وما روي عن زيد قوله إنهما آخر سورة براءة يدعمان ذلك. وإذا كان حديث أبي لم يرد في الصحاح فإنه يلتقي مع حديث زيد الذي رواه البخاري. وهذا يسوغ التوقف في الحديث المروي عن عبد الله بن الزبير في صدد وضعهما في آخر سورة براءة ارتجالا. وهناك دلائل قرآنية وأحاديث نبوية وصحابية كثيرة تفيد أن القرآن كان يدون أولا بأول ثم يسجل في قراطيس وتوضع آياته وفصوله التي كانت تنزل لحدة في السور بأمر رسول الله وأن سوره رتبت حسب ما هي الآن في المصحف في أواخر حياة النبي وبأمره. وأنه كان لبعض أصحاب رسول الله مصاحف مرتبة حسب المصحف وأن أصحاب رسول الله كانوا يحفظون ويقرأون القرآن حسب ترتيب المصحف أيضا بحيث يقال في صدد ما جاء في حديث البخاري عن زيد إنما أريد تدوين مصحف إمام بعد انقطاع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وسلم ليكون محفوظا عند الخليفة ومرجعا وأنه تتبع ما عند الناس في الرقاع وفي الصدور من قرآن زيادة في الحرص على ضبط هذا المصحف وقد لا يكون أحد غير أبي خيثمة كتب الآيتين في رقعة لحدتهما فكان ذلك مما عني في الحديث. والله تعالى أعلم. ولما كنا نميل إلى اعتبار حديث أبي وصحته لاتساقه مع سياق الآيات ودعم حديث زيد الذي رواه البخاري له فإننا نميل إلى فهم قوله أن الآيتين هما آخر ما نزل من القرآن بكون سورة براءة من آخر ما نزل من القرآن فيكون آخرها كذلك. لأن هناك أحاديث عديدة منها ما ورد في الصحاح نذكر آيات أخرى كآخر ما نزل من القرآن ومن ذلك آيات الربا والدين في سورة البقرة على ما ذكرناه في سياق تفسيرها. والله تعالى أعلم.

والآية الأولى من روائع آيات القرآن في الثناء على النبي صلى الله عليه وسلم وتقرير ما اتصف به من كريم الصفات وعظيم الأخلاق وكبر القلب الذي امتلأ برّا وخيرا وحلما وإشفاقا ورأفة ورحمة وحرصا بالعرب والمؤمنين. ولعلّها من هذه الناحية أروع ما في القرآن وأدلّ ما فيه على عظمة خلق النبيّ صلى الله عليه وسلم وكمال صفاته وكبر قلبه وعمق إخلاصه وشدة رغبته في هداية العرب وخيرهم وإنقاذهم. ولما كانت هذه الآية على الأرجح من آخر ما نزل من القرآن أو آخره فهي خاتمة رائعة بعيدة المدى والمغزى لكتاب الله المجيد الذي أنزله الله تعالى على رسوله العظيم صلى الله عليه وسلم. ومع أن كمال هذه الصفات الكريمة مما يمكن أن يكون مختصا بمن علم الله أنه أهل لرسالته العظمى فإن في الآية تلقينا لما يجب أن يكون عليه أولياء أمور المسلمين من صفات وأخلاق وحثا على الاقتداء بها ما داموا قد تولوا زمام هذه الأمور وقاموا مقام النبي صلى الله عليه وسلم فيها كما أن من شأنها أن تكون مقياسا لأهلية وصلاح وإخلاص أولياء أمور المسلمين ودعاتهم وقادتهم ودليلا عليها. هذا، ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الثانية حديثا عن أبي الدرداء رواه أبو داود أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قال إذا أصبح وإذا أمسى حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو ربّ العرش العظيم سبع مرات كفاه الله ما أهمّه» «1» . والصيغة بمثابة دعاء والتماس من الله عزّ وجلّ. وقد قال الله ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ. وفيها على كلّ حال بعث لطمأنينة النفس وسكونها. ولقد وقف المفسرون عند جملة مِنْ أَنْفُسِكُمْ وأوردوا بعض الأحاديث والروايات في صدد شمول الصلات الرحمية والقبلية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومختلف قبائل العرب أو بطون قريش. وما ينطوي في ذلك من شدة الباعث على حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هداية قومه. ولقد كتبنا تعليقا على هذا في سياق الآية [113] من سورة النحل وأوردنا طائفة مما روي من أحاديث وروايات فنكتفي بهذا التنبيه.

_ (1) التاج ج 5 ص 98 و 99.

سورة النصر

سورة النصر فيها أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالتسبيح بحمد الله واستغفاره إذا ما جاء نصر الله وفتحه ورأى الناس يدخلون في دينه. والمصحف الذي اعتمدناه يروي أنها نزلت بعد سورة التوبة وبكلمة أخرى آخر السور المدنيّة نزولا. ومع أن روايات الترتيب الأخرى تذكر ترتيبها كسابعة السور المدنيّة نزولا أو كسادسة عشرة أو كثامنة عشرة «1» بل إن هناك رواية بأنها مكيّة «2» فإن هناك روايات وأحاديث عديدة بطرق مختلفة تؤيد ترتيب المصحف الذي اعتمدناه. ففي فصل التفسير من صحيح البخاري في سياق هذه السورة حديث عن ابن عباس جاء فيه «كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله فقال عمر إنه من قد علمتم فدعاه ذات يوم فأدخله معهم فما رئيت أنه دعاني يومئذ إلّا ليريهم. قال ما تقولون في قول الله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فقال بعضهم أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم. فقال لي أكذلك تقول يا ابن عباس فقلت لا. فما تقول. قلت هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه به قال إذا جاء نصر الله والفتح وذلك علامة أجلك فسبّح بحمد ربك واستغفر. إنه كان توابا فقال عمر ما أعلم منها إلّا ما تقول» «3» . وقد روى الطبري في سياقها حديثا عن ابن عباس

_ (1) انظر جدول ترتيب نزول السور المدنيّة في كتابنا سيرة الرسول ج 2 ص 9. (2) انظر تفسير النيسابوري. (3) التاج ج 4 ص 267 والحديث من مرويات الترمذي وأحمد أيضا.

جاء فيه «لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعيت إليّ نفسي كأني مقبوض في تلك السنة» . وروى الطبري والبغوي أحاديث بطرق مختلفة عن ابن عباس بالمعنى نفسه بدون عزو إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وروى الطبري عن الضحاك قوله كانت هذه السورة آية لموت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي مثل هذا عن مجاهد وعطاء أيضا. وقد ذكر الزمخشري أنها آخر السور نزولا وأنها نزلت في حجة الوداع في منى وذكر النيسابوري- مع ذكره القول إنها مكيّة- أنها نزلت في أواسط أيام التشريق «1» في منى في حجة الوداع وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعش بعدها إلّا سبعين يوما وأن السورة تسمى لذلك سورة التوديع وأن أكثر الصحابة متفقون على أنها دلت على نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى ابن كثير حديثا عن ابن عمر أخرجه البزار والبيهقي أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام التشريق فعرف أنه الوداع فأمر براحلته وخطب خطبته الشهيرة بخطبة الوداع. ولقد روى الطبري بطرقه عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر قبل أن يموت من قوله سبحانك اللهمّ وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك. فقلت يا رسول الله ما هذه الكلمات التي أراك أحدثتها قال قد جعلت لي علامة في أمتي إذا رأيتها قلتها إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ إلى آخر السورة» وعن أم سلمة قالت: «كان رسول الله في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا قال سبحان الله وبحمده فقلت يا رسول الله إنك تكثر من سبحان الله وبحمده. لا تذهب ولا تجيء ولا تقوم ولا تقعد إلا قلت سبحان الله وبحمده قال: إني أمرت بها فقال إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ إلى آخر السورة» والحديثان يؤيدان إذا صحّا كون السورة نزلت بين يدي موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلا عما انطوى فيهما من صورة رائعة لعمق شعوره بواجبه نحو الله تسبيحا وحمدا واستغفارا. وبناء على ذلك كلّه رجحنا ترتيب المصحف الذي اعتمدناه وجعلنا ترتيب هذه السورة بعد سورة التوبة وآخر السور المدنيّة.

_ (1) أيام عيد الأضحى.

[سورة النصر (110) : الآيات 1 إلى 3]

ونصّ السورة وروحها يؤيدان ذلك على ما سوف يأتي شرحه. أما القول إنها مكيّة فهو غريب ينقضه نصّها وروحها والروايات الكثيرة الأخرى التي أوردناها. وما قلناه من أن السورة هي آخر السور نزولا لا يعني أن لا يكون نزل بعدها قرآن. وكل ما هناك أنه لم ينزل سور جديدة تامة. وأن ما يحتمل أن يكون من قرآن قد نزل بعدها قد ألحق بسور أخرى بأمر النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم. وترجيح كون هذه السورة آخر السور نزولا وترجيح كون سورة الفاتحة أولى السور نزولا يدعمان بعضهما ويلهمان معجزة قرآنية ربانية. ففي سورة الفاتحة براعة استهلال للدعوة الإسلامية والقرآن وفي سورة النصر هتاف رباني بما تمّ من نصر الله للدعوة الإسلامية. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النصر (110) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3) . تعليق على آيات السورة ومداها وما روي في صددها عبارة الآيات واضحة. والخطاب فيها موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم على ما عليه الجمهور بدون خلاف. وقد ذكرنا ما ورد في صدد نزولها في المقدمة فلا ضرورة للإعادة. وواجب التسبيح لله وحمده واستغفاره أصلي غير منوط بوقت. وليس الذي هنا بسبيل ذلك كما هو المتبادر وإنما هو على سبيل تلقين توكيد وجوبه إذا ما أتمّ الله على نبيه نعمته ويسّر له الفتح والنصر وأقبل الناس على دين الله أفواجا. وكل هذا خطير يستوجب مضاعفة ذلك الواجب من دون ريب، والآيات

بهذا الاعتبار تنطوي على تلقين مستمر المدى للمسلمين كجماعات بمقابلة نعم الله عزّ وجلّ بالشكر والحمد والاستغفار وبخاصة إذا كانت عامة متصلة بمصلحة المسلمين ونصرهم وتوطد أمرهم وانتشار دين الله وكلمته. ثم لكل مسلم إذا ما صار في ظرف من الظروف موضع رعاية الله وعنايته في تحقيق أمر خطير في دينه ودنياه. وأسلوب الآيات توقيتي إذا صح التعبير، أي أنه يوجب التسبيح والاستغفار حينما يجيء نصر الله وفتحه ويدخل الناس في دين الله أفواجا. غير أن روحها يلهم أن ذلك الواجب قد وجب وأن ذلك المجيء قد جاء. والروايات والأحاديث التي أوردناها في صدد نزولها تؤيد ذلك كما هو المتبادر. ومعظم المفسرين على أن الفتح المذكور في السورة هو فتح مكة حتى إنهم جعلوا تفسيرها وسيلة لإيراد قصة هذا الفتح. ولقد تمّ هذا الفتح في رمضان في السنة الثامنة للهجرة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الحديد في حين أن النبي صلى الله عليه وسلم انتقل إلى الرفيق الأعلى في أوائل السنة الحادية عشرة. والروايات التي أوردناها في المقدمة ذكر فيها أن السورة قد نزلت قبل وفاته بمدة قصيرة أقل من ثلاثة أشهر وهذا يجعلنا نرجح أن يكون ما عنته الآيات ليس فتح مكة وحسب بل مجموعة الانتصارات والفتوحات الضخمة التي يسرها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم إلى قبيل وفاته والتي بلغت ذروتها بفتح مكة الذي شرحنا قصته في سورة الحديد وبغزوة تبوك الكبرى التي شرحنا قصتها في سورة التوبة وبفتح الطائف التي ظلت مستعصية إلى السنة الهجرية التاسعة والتي لم تقتض حكمة التنزيل أن يشار إليها في القرآن ثم بسبيل الوفود التي أخذت تتدفق من جميع أنحاء جزيرة العرب على المدينة المنورة خلال السنتين التاسعة والعاشرة لمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم والدخول في دين الله أفواجا واستمر تدفقها إلى قبيل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم بتوطد سلطان النبي والإسلام في جميع أنحاء الجزيرة العربية يمنها وتهامتها وحجازها وشرقها وشمالها مما ذكرنا بعض فصوله في سياق تفسير سورة التوبة ومما أطنبت به كتب السيرة

نبذة عن حجة الوداع النبوية

والتاريخ القديمة «1» ، وإعلان كون المشركين نجسا وحظر دخولهم المسجد الحرام، وحج النبي صلى الله عليه وسلم على رأس حشد عظيم من المسلمين روي أنه بلغ أربعين ألفا أو أكثر- وهذا رقم عظيم في ذلك الوقت- حتى هتف الله تعالى بالمؤمنين أو هتف النبي صلى الله عليه وسلم مرددا هتاف الله- الذي نزل قبل هذا اليوم على ما محصناه في سياق أوائل سورة المائدة- الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [3] . نبذة عن حجة الوداع النبوية وحجة الوداع المشار إليها قد تمّت في أواخر السنة الهجرية العاشرة. فلقد فتح الله تعالى على رسوله مكة في رمضان في السنة الثامنة. ولم يكن الشرك قد اندحر بالمرة عن ربوعها. وكان المشركون ما يزالون يقومون بطقوس حجهم فيها. فلم تشأ حكمة الله ورسوله أن يحج النبي صلى الله عليه وسلم حجته التامة والمشركون شركاء في حجه. ولما كانت مكة وما جاورها قد دخلت في سلطانه فقد عيّن وزيره الصدّيق أبا بكر رضي الله عنه أميرا على الحجّ في السنة التاسعة وأمره أن يعلن للملأ حظر دخول منطقة المسجد الحرام على المشركين وبراءة الله ورسوله منهم على ما شرحناه في سورة التوبة. فلما كانت السنة العاشرة خرج على رأس حشد عظيم من المسلمين من أهل المدينة وقبائلها ليحج بالناس حجة لا يشهدها إلّا المسلمون وهي التي عرفت بحجة الوداع لأنه مات صلى الله عليه وسلم بعدها بمدة قصيرة ونزلت فيها هذه السورة التي احتوت نعيا له وسميت سورة التوديع بسبب ذلك. وقد وافاه إلى مكة حشود عظيمة أخرى من المسلمين من مختلف أنحاء الجزيرة فكان أعظم حجّ تمّ في عهده بل نعتقد أنه كان أعظم حجّ وقع إلى عهده. وإذا كان عدد الذين اشتركوا في غزوة تبوك بلغ ثلاثين ألفا كما ذكرنا في سياق سورة التوبة فلا مبالغة في تخمين

_ (1) انظر طبقات ابن سعد ج 2 ص 25- 121 وج 3 ص 166- 241 وابن هشام ج 4 جميعه وتاريخ الطبري ج 2 ص 315 وما بعدها وملخص ذلك في الجزء السادس من كتابنا تاريخ الجنس العربي.

عدد الذين شهدوا هذا الحج بضعف هذا العدد وهو رقم عظيم جدّا في ذلك الوقت. وخبر حجة الوداع ورد مطولا بطرق مختلفة في كتب الحديث والسيرة والتاريخ القديمة مرويّا عن التابعين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد روى مسلم وأبو داود حديثا طويلا فيه وصف شائق لموكب الحجّ وكثير من أفعال وأقوال ومواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم التعليمية والتوضيحية والتشريعية والتهذيبية. فرأينا إيراده برمته. وهو مروي عن صاحب رسول الله جابر بن عبد الله في أيام شيخوخته جوابا على سؤال من أحد التابعين. وهذا نصه «1» «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحجّ «2» ثم أذّن في الناس في العاشرة أن رسول الله حاج فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتمّ برسول الله ويعمل مثل عمله. وخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس «3» محمد بن أبي بكر فأرسلت إلى رسول الله كيف أصنع؟ قال: اغتسلي واستثفري «4» بثوب وأحرمي. فصلّى رسول الله في المسجد ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مدّ بصري بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك ورسول الله بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله وما عمل به من شيء عملنا به. فأهلّ لبّيك اللهمّ لبّيك لبّيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. وأهلّ الناس بهذا الذي يهلّون به فلم يردّ رسول الله عليهم شيئا منه. ولزم رسول الله تلبيته. قال جابر: لسنا ننوي إلّا الحج لسنا نعرف العمرة «5» حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى

_ (1) التاج ج 2 ص 140- 145. (2) المحقق أن النبي صلى الله عليه وسلم زار الكعبة في السنة السابعة الهجرية بناء على اتفاقه مع قريش. ولم يكن وقت الزيارة وقت الحج. (3) زوجة أبي بكر الصديق. (4) بمعنى تحفظي من وسخ الدم. (5) هذا غريب لأن العمرة ذكرت في الآيتين [158 و 196] من سورة البقرة. والعمرة هي زيارة الكعبة والطواف حولها والأمر الرئيسي للحج هو الوقوف في عرفة فلعله أراد أن خروج الناس إنما كان للحج في الدرجة الأولى.

أربعا ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [البقرة: 125] فجعل المقام بينه وبين البيت وكان يقرأ في الركعتين قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) وقُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [البقرة: 158] ابدأوا بما بدأ الله فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحّد الله وكبّره وقال: «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. لا إله إلّا الله وحده. أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده. ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات. ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبّت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة ففعل عليها كما فعل على الصفا. حتى إذا كان آخر طوافه على المروة قال: «لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدى وجعلتها عمرة. فمن كان منكم ليس معه هدى فليحل وليجعلها عمرة، فقام سراقة بن مالك فقال: يا رسول الله العامنا هذا أم لأبد؟ فشبّك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال: دخلت العمرة في الحج، مرتين. لا بل لأبد أبد» «1» . وقدم عليّ من اليمن ببدن النبي صلى الله عليه وسلم فوجد فاطمة ممن حلّ ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت فأنكر عليها فقالت: إن أبي أمرني بهذا، قال: فكان عليّ يقول بالعراق «2» فذهبت إلى رسول الله محرّشا على فاطمة للذي صنعت مستفتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت عنه فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها فقال: صدقت صدقت ماذا قلت حين فرضت الحج؟ قلت: اللهمّ إني أهلّ بما أهلّ به رسولك قال: فإن معي الهدي فلا تحلّ. قال: فكان جماعة الهدي الذي قدم به عليّ من اليمن والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم مائة. قال: فحلّ الناس كلهم

_ (1) أراد على ما هو المتبادر عدم القرآن بين العمرة والحج حتى يستمتع بينهما على ما شرحناه في سياق آيات البقرة [196، 197] ومع ذلك فهناك حديث رواه الخمسة عن عائشة أن رسول الله أفرد للحج وفي رواية أهلّ بالحجّ مفردا (انظر التاج ج 2 ص 112) . (2) حينما كان في العراق في أيام خلافته. [.....]

وقصّروا إلّا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي. فلما كان يوم التروية «1» توجّهوا إلى منى فأهلّوا بالحج وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلّى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس وأمر بقبّة من شعر تضرب له بنمرة «2» فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشكّ قريش إلّا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت تصنع في الجاهلية «3» فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبّة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له «4» فأتى بطن الوادي «5» فخطب الناس وقال: «إن دماءكم وأموالكم «6» حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع. ودماء الجاهلية موضوعة. وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن سبيعة بن الحارث «7» كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل «8» . وربا الجاهلية موضوع. وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كلّه. اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله. ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه. فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح «9» . ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وقد تركت فيكم ما لم تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله. وأنتم تسألون عني. فما أنتم قائلون؟ قالوا

_ (1) هو اليوم الثامن من شهر ذي الحجة. (2) موضع قبيل عرفات وليس منها. (3) كان هذا شأن فريق من قريش يسمّون الأحماس على ما شرحناه في سياق تفسير الآية [199] من سورة البقرة. (4) وضع رحلها عليها ليركبها. (5) وادي عرفة على ما ذكره شارح الحديث. (6) في رواية ابن سعد زيادة وأعراضكم. (7) من بني عبد المطلب. (8) قبيلة كانت نازلة بين مكة والطائف. (9) المتبادر أن المقصد هو إدخال ناس عليهن لا يرضى أزواجهن عن دخولهن عليهن وحسب وليس هو الفاحشة لأن عقاب ذلك الرجم على ما شرحناه في سياق الآيات الأولى من سورة النور.

نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها «1» إلى الناس اللهمّ اشهد ثلاث مرات. ثم أذن ثم أقام فصلّى الظهر ثم أقام فصلّى العصر ولم يصل بينهما شيئا ثم ركب حتى أتى الموقف «2» فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس. وأردف أسامة خلفه ودفع رسول الله وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله «3» ويقول أي يشير بيده اليمنى أيها الناس السكينة السكينة كلّما أتى حبلا من الحبال «4» أرخى لها قليلا حتى تصعد إلى المزدلفة فصلّى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبّح بينهما شيئا. ثم اضطجع رسول الله حتى طلع الفجر وصلّاه حين تبيّن له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله وكبّره وهلّله ووحّده فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس وأردف الفضل بن العباس وكان رجلا حسن الشعر أبيض وسيما، فلما دفع رسول الله مرّت به ظعن «5» يجرين فطفق الفضل ينظر إليهن فوضع النبي يده على وجه الفضل فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر فحوّل رسول الله يده إلى الشق الآخر على وجه الفضل يصرف وجهه حتى أتى بطن محسر «6» فحرك قليلا ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبّر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف «7» رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بيده ثم أعطى عليّا فنحر ما غبر وأشركه في هديه ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها. ثم

_ (1) أي يردها إليهم. (2) هو جوار الصخرات في أسفل جبل الرحمة في عرفات. (3) مقدمه. (4) الحبل بمعنى التلّ الخفيف. (5) جمع ظعينة وهي المرأة في الهودج. [.....] (6) موضع قبل منى بعد عرفات. (7) حب الفول.

ركب رسول الله فأفاض إلى البيت وصلّى بمكة الظهر فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم «1» فناولوه دلوا فشرب منه» . وروى الشيخان وأحمد عن ابن عباس حديثا فيه بعض أقوال لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة وداعه جاء فيه: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر فقال يا أيها الناس أيّ يوم هذا قالوا يوم حرام. قال فأيّ بلد هذا قالوا بلد حرام. قال فأيّ شهر هذا قالوا شهر حرام قال فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا فأعادها مرارا ثم رفع رأسه فقال اللهمّ هل بلّغت اللهمّ هل بلّغت فليبلّغ الشاهد الغائب. لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض. قال ابن عباس فو الذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته» «2» . وفي رواية «وقف النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بين الجمرات في حجّته التي حجّ بها وقال هذا يوم الحجّ الأكبر. وطفق يقول اللهمّ اشهد. وودّع الناس فقالوا هذه حجّة الوداع» «3» . وفي كل من سيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد «4» فصل طويل مسلسل الرواة إلى أحد أصحاب رسول الله أو تابعيهم متطابق مع هذا الحديث مع بعض زيادات مهمة فيها تعليم وتشريع وتهذيب. فمما جاء في فضله في طبقات ابن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما شاهد الكعبة عند قدومه إلى مكة قال: «اللهمّ زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة وزد من عظّمه ممن حجّه واعتمره تشريفا وتكريما ومهابة وتعظيما وبرّا» وأنه وقف بالهضاب في عرفات وقال: «كل عرفة موقف إلا بطن عرفة» . وحينما جاء إلى المزدلفة قال: «كل المزدلفة موقف إلا بطن محسر»

_ (1) كانت وظيفة السقاية بيد العباس بن عبد المطلب والمتبادر أن النبي صلى الله عليه وسلم خشي أن يعتبر المسلمون ذلك سنّة لهم أيضا. (2) التاج ج 2 ص 135 و 136. (3) المصدر نفسه. (4) الجزء الرابع من سيرة ابن هشام ص 272- 277 والجزء الثالث من ابن سعد ص 225- 240.

وأنه بعد نحر الهدي حلق رأسه وأخذ شاربه وعارضيه وقلّم أظفاره وأمر بشعره وأظفاره أن تدفن ثم أصاب الطيب ولبس القميص ونادى مناديه «إن أيام منى هي أيام أكل وشرب» ثم أقام ثلاث ليال في مكة وقال: إنما هن ثلاث يقيمهن المهاجر بعد الصدر. ثم ودّع البيت وانصرف راجعا إلى المدينة. وروي في الفصل جواب لأنس بن مالك على سؤال عمّا إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أهلّ بالعمرة والحجّ معا أم أفرد؟ فقال إنه أهلّ بهما معا. وهذا هو المستفاد من الحديث الطويل السابق. ومما ورد في الفصل أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للمسلمين الخيار بالإفراد بين العمرة والحجّ أو القران بينهما. وقال لمن سألوه: من لم يكن معه هدي فليجعلها عمرة. وتمتّعوا بالعمرة إلى الحج. وأنه دخل الكعبة بعد أن خلع نعليه ولما عاد إلى أهله قال لعائشة فعلت أمرا ليتني لم أفعله دخلت البيت ولعلّ الرجل من أمتي لا يقدر على أن يدخله فينصرف وفي نفسه حزازة. إنما أمرنا بالطواف ولم نؤمر بالدخول. وقال حين وقف في عرفات «الحجّ عرفات أو يوم عرفة. من أدرك ليلة جمع «1» قبل الصبح فقد تمّ حجّه» وقال في موقف آخر «أيام منى ثلاثة فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه. وإنها ليست أيام صيام إنما هي أيام أكل وشرب وذكر» ومما روي من أقواله في خطبة الوداع «إن الله قسم لكل إنسان نصيبه من الميراث فلا يجوز لوارث وصية. ألا وإن الولد للفراش وللعاهر الحجر. ألا ومن ادّعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه رغبة عنهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. يا أيها الناس اسمعوا وأطيعوا وإن أمّر عليكم عبد حبشي مجدع إذا أقام فيكم كتاب الله. أرقّاءكم أرقّاءكم. أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون. وإن جاءوا بذنب لا تريدون أن تغفروه فبيعوا عباد الله ولا تعذبوهم. ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب فلعلّ بعض من يبلغه يكون أوعى له من بعض من سمعه» وقال لبعض المسلمين حين رآه يتشدد في اختيار الجمرات «إيّاكم والغلوّ في الدين إنما أهلك من كان قبلكم. بالغلوّ في الدين» .

_ (1) ليلة العيد.

ومما رواه ابن هشام من زيادة في خطبته: «أيها الناس إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا. ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم. فاحذروه على دينكم. أيها الناس إنما النسيء زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا يحلّونه عاما ويحرّمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله. وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متوالية ورجب مضر الذي بين جمادى ورجب. أيها الناس اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا. من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه. أيها الناس لتعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم وأن المسلمين أخوة. فلا يحلّ لامرىء من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه. فلا تظلمن أنفسكم. ألا إني تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلّوا أبدا. أمرا بينا. كتاب الله وسنّة نبيه. وهتف في آخر خطبته اللهمّ هل بلّغت فهتف الناس نعم فقال اللهمّ فاشهد» ومما رواه ابن هشام وفيه تعليم لمناسك الحج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج لخمس بقين من ذي القعدة. وأن عائشة رضي الله عنها حاضت وبكت وقالت والله لوددت أني لم أخرج معكم عامي هذا فقال لا تقولن ذلك فإنك تقضين كلّ ما يقضى الحج. إلا أنك لا تطوفين بالبيت «1» . وإن النبي حلّ كل من كان لا هدي له معه وحل نساءه بعمرة. ولم يحلّ هو معهم وقال إني أهديت ولبّدت فلا أحلّ حتى أنحر هديي وأن هدي رسول الله كان من البقر وقد نحره يوم النحر. وأن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه رجع من بعثه الذي بعثه به إلى اليمن أثناء الحجّ فأمره النبي أن يطوف ويحل كما فعل أصحابه. فقال له إني أهللت يا رسول الله كما أهللت فأعاد عليه القول فقال يا رسول الله إني قلت حين أحرمت اللهمّ إني أهلّ بما أهلّ به نبيك وعبدك ورسولك. فقال فهل معك من هدي قال لا فأشركه رسول الله في هديه وثبت على إحرامه. وإن رسول الله قال حين وقف على المرتفع الذي

_ (1) روى ابن هشام أنها أدت العمرة قضاء بعد طهرها.

نبذة في مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته ولحظاته الأخيرة وصفته

وقف عليه هذا الموقف ثم قال وكل عرفة موقف. وقال حين وقف على هضبة صبيحة المزدلفة هذا الموقف ثم قال وكل المزدلفة موقف. ولما نحر بالمنحر بمنى قال هذا المنحر وكل منى منحر. وهكذا كانت هذه الحجّة المباركة من أعظم مشاهد الرسالة المحمدية وتتويجا رائعا لها. نبذة في مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته ولحظاته الأخيرة وصفته وأما وفاته صلى الله عليه وسلم فقد كانت على أشهر الروايات «1» في الثاني عشر من شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة عن ثلاث وستين سنة «2» . ولا تذكر الروايات المرض الذي مات به. وكل ما جاء فيها أنه ألمّت به حمّى رافقها صداع. وأن العباس عمّه رضي الله عنه ظنّ أنها ذات الجنب ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما كان الله ليقذفني بهذا الداء. ولم يطل مرضه إلّا نحو أسبوعين. ولما شعر بثقل وجعه استأذن من نسائه بالانتقال إلى بيت عائشة تحقيقا لفكرة العدل بينهن فأذنّ له حيث مات في بيتها ودفن فيه وهو المكان المدفون فيه إلى اليوم على التحقيق صلوات الله وسلامه عليه. ومما رواه ابن هشام أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في جوف الليل مع أبي مويهبة مولاه

_ (1) انظر ابن هشام ج 4 ص 319- 345 وتاريخ الطبري ج 2 ص 430- 444 وكل من المؤلفين يسند رواياته إلى راو بعد راو إلى أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2) هناك حديث رواه الشيخان والترمذي عن ابن عباس قال: «بعث رسول الله لأربعين سنة فمكث في مكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه ثم أمر بالهجرة إلى المدينة فهاجر إليها فأقام عشر سنين ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة» . وحديث رواه مسلم عن أنس قال: «قبض رسول الله وهو ابن ثلاث وستين سنة» . وحديث رواه مسلم والترمذي عن عائشة قالت «توفي رسول الله وهو ابن ثلاث وستين سنة» . ومع ذلك فهناك حديث رواه مسلم والترمذي عن ابن عباس قال: «توفي رسول الله وهو ابن خمس وستين سنة» انظر التاج ج 5 ص 229.

وقال له إني أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي فلما وقف بين أظهرهم قال السلام عليكم يا أهل المقابر. ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه. أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها والآخرة شرّ من الأولى ثم قال يا أبا مويهبة. إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة فخيّرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة فقال أبو مويهبة بأبي أنت وأمي فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة قال لا والله يا أبا مويهبة لقد اخترت لقاء ربي والجنة. ثم استغفر لأهل البقيع ثم انصرف فبدأ برسول الله وجعه الذي قبضه الله فيه. ولقد خرج في بعض مرضه عاصبا رأسه حتى جلس على المنبر فصلّى على أصحاب أحد واستغفر لهم فأكثر من الصلاة عليهم. ثم قال: يا معشر المهاجرين استوصوا بالأنصار خيرا فإنّ الناس يزيدون وإن الأنصار على هيئتها لا تزيد وإنهم كانوا عيبتي التي أويت إليها فأحسنوا إلى محسنيهم وتجاوزوا عن مسيئيهم. ثم قال أيها الناس: إن عبدا من عباد الله خيّره الله بين الدنيا وما عنده فاختار ما عنده، ففهمها أبو بكر فبكى وقال بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا فقال على رسلك يا أبا بكر ثم قال انظروا هذه الأبواب اللافظة في المسجد فسدّوها إلّا باب أبي بكر فإني لا أعلم أحدا كان أفضل من الصحبة عندي يدا منه. وإني لو كنت متخذا من العباد خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صحبة وإخاء إيمان حتى يجمع الله بيننا عنده «1» . ولما اشتد برسول الله الوجع وجاء بلال يدعوه إلى الصلاة فقال مروا من يصلي بالناس فخرج فإذا عمر في الناس وكان أبو بكر غائبا فقلت قم يا عمر فصلّ بالناس فقام فلما كبّر سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته وكان رجلا مجهرا فقال فأين أبو بكر يأبى الله ذلك والمسلمون. يأبى الله ذلك والمسلمون. ثم بعث إلى أبي بكر فجاء بعد أن صلّى عمر الصلاة فصلّى بالناس. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد هيأ جيشا وعين لقيادته أسامة بن زيد ليذهب إلى مؤتة في البلقاء لينتقم لجيش ذهب بقيادة أبي أسامة في

_ (1) ورد معظم ما أوردناه من خطبة رسول الله وبكاء أبي بكر وكلامه وردّ النبي عليه في حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي سعيد وأوردناه في سياق تفسير الآية [40] من سورة التوبة. انظر التاج ج 3 ص 273.

السنة السابعة الهجرية واستشهد أبوه مع عدد من المسلمين فاستبطأ حركة سير الجيش وسمع أن بعض الناس ينتقدون قيادة أسامة لأنه لا يزال فتى يافعا. فخرج مرة أخرى عاصبا رأسه حتى جلس على المنبر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال أيها الناس أنفذوا بعث أسامة. فلعمري لئن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله. وإنه لخليق بالإمارة. وإن كان أبوه لخليقا بها ووصف له بعضهم دواء يسقونه إياه وهو غائب عن وعيه من الحمّى فقال عمّه لألدنّه (أي لأسقينه الدواء بالقوة) فلدّوه فلما أفاق قال من صنع بي هذا قالوا عمك. فقال العباس هذا دواء أتى به نساء جئن من الحبشة. قال ولم فعلتم ذلك؟ فقال عمّه خشينا يا رسول الله أن يكون بك ذات الجنب. فقال إن ذلك لداء ما كان الله ليقذفني به. لا يبق في البيت أحد إلّا لدّ إلّا عمي فلدّوا عقوبة لهم بما صنعوا به. وفي يوم الاثنين الذي قبض فيه خرج إلى الناس وهم يصلّون الصبح بإمامة أبي بكر فكاد المسلمون يفتتنون في صلاتهم حين رأوه فرحا به فتبسم صلوات الله عليه فرحا من هيئتهم في صلاتهم. وتفرجوا له (أوسعوا له) فأشار أن اثبتوا. وشعر أبو بكر بالحركة فعرف أنه النبي صلى الله عليه وسلم فأراد أن يتأخر له فأشار له أن يبقى ثم صلى جالسا إلى جانبه وقال أنس راوي هذا إنه لم ير رسول الله أحسن هيئة منه في تلك الساعة وقد أقبل على الناس يكلمهم بصوت مرتفع فقال: «يا أيها الناس سعرت النار وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم. وإني والله ما تمسكون علي بشيء. إني لم أحلّ إلّا ما أحلّ القرآن. ولم أحرّم إلّا ما حرّم القرآن» وقد اطمأن أبو بكر واستأذنه بالذهاب إلى بيته في محلة السنح قائلا له إني أراك بفضل الله ونعمته قد أصبحت بخير فأذن له. غير أن الضحاء لم يكد يشتد حتى توفاه الله. ومما رواه ابن هشام متسلسلا إلى عائشة أنها قالت «كان آخر عهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يترك بجزيرة العرب دينان. وآخر كلمة سمعتها منه لما حضرته الوفاة قوله «بل الرفيق الأعلى» قالت ففهمت أن الله تعالى خيّره فاختاره لأنه كان يقول إن الله لم يقبض نبيا حتى يخيّره. وما كان إلّا أن يختار الله علينا. وكان آخر ما فعله أنه رأى عود أراك في يد قريب لعائشة فنظر إليه فعرفت أنه يحبّ أن يستنّ فمضغته

له حتى لان ثم أعطته إياه فاستنّ كأشد ما رأته يستنّ بسواك قط «1» . ومما رواه ابن هشام مسلسلا إلى عبد الله بن عباس أن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه خرج من عند رسول الله في وجعه فسأله الناس كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أصبح بحمد الله بارئا فأخذ العباس بيده وقال له: أحلف بالله لقد عرفت الموت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كنت أعرفه في وجوه بني عبد المطلب. فانطلق بنا إلى رسول الله فإن كان هذا الأمر فينا عرفناه ولئن كان في غيرنا أمرناه فأوصى بنا الناس. فقال عليّ إني والله لا أفعل. والله لئن منعناه لا يؤتيناه أحد بعد. فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الضّحاء من ذلك اليوم. كان مما رواه ابن هشام أنه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم قام عمر فقال إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله قد توفي. وإن رسول الله ما مات. ولكنه ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران. فقد غاب أربعين ليلة عن قومه ثم رجع إليهم بعد أن قيل مات. والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رجع موسى فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه مات. وأقبل أبو بكر حتى نزل على باب المسجد وعمر يكلم الناس فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول

_ (1) رويت أحاديث صحيحة عديدة عن آخر لحظات النبي صلى الله عليه وسلم. منها حديث رواه مسلم عن عائشة قالت: «سمعت رسول الله يقول قبل أن يموت وهو مسند إلى صدرها اللهمّ اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى» وحديث رواه مسلم كذلك عن عائشة قالت: «كنت أسمع أنه لن يموت نبي حتى يخيّر بين الدنيا والآخرة فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه وأخذته بحّة يقول مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا قالت فظننته خيّر حينئذ» . وحديث رواه الشيخان عنها قالت: «كان رسول الله يقول وهو صحيح إنه لم يقبض نبيّ قط حتى يرى مقعده في الجنة ثم يخيّر. قالت فلما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه على فخذي غشي عليه ساعة ثم أفاق فأشخص بصره إلى السقف ثم قال اللهمّ الرفيق الأعلى قلت إذا لا يختارنا وعرفت الحديث الذي كان يذكره وهو صحيح فكان آخر كلمة تكلّم بها رسول الله اللهمّ الرفيق الأعلى» وحديث رواه البخاري عنها أيضا قالت: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء فجعل يدخل يده في الماء ويمسح بها وجهه ويقول لا إله إلا الله إن للموت سكرات ثم نصب يده فجعل يقول في الرفيق الأعلى حتى قبض ومالت يده» الأحاديث من التاج ج 3 ص 261.

الله وهو مسجى في ناحية البيت عليه برد حبرة فأقبل حتى كشف عن وجهه ثم قبّله وقال بأبي أنت وأمي. أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها ثم لن تصيبك بعدها موتة أبدا. ثم ردّ البردة على وجهه ثم خرج وعمر يكلّم الناس فقال: على رسلك يا عمر أنصت فأبى إلّا أن يتكلّم، فأقبل على الناس فلما سمعوا كلامه أقبلوا عليه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنه من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات. ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. ثم تلا قول الله: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) [آل عمران] . فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ وأخذها الناس عن أبي بكر فإنما هي في أفواههم. قال أبو هريرة: قال عمر: فو الله ما هو إلّا أن سمعت أبا بكر تلاها حتى عقرت ووقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات. وقد تولى غسل النبي صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب والفضل بن عباس وقثم بن العباس وأسامة بن زيد وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم. ولم يجردوه بتاتا بل أبقوا قميصه عليه وغسلوه من تحته. ثم كفن في ثلاثة أثواب ثوبين صحاريين «1» وبرد حبرة أدرج فيه إدراجا. ثم وضع على سريره. وأدخل الناس عليه للصلاة أرسالا. فصلّى عليه الرجال حتى إذا فرغوا أدخل النساء ثم الصبيان. ولم يؤمّ الناس أحد. واختلفوا في محل دفنه فقال أبو بكر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما قبض نبي إلّا دفن حيث يقبض» فدفن في بيت عائشة وسط الليل ليلة الأربعاء. وقد تولّى دفنه عليّ بن أبي طالب والفضل بن عباس وقثم بن عباس وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم. وما تقدم كلّه مقتبس من ابن هشام. وكثير منه وارد في تاريخ الطبري. وفي هذا بعض روايات لم ترد في ابن هشام. وهي مسلسلة الرواة إلى أحد أصحاب رسول الله. من ذلك عن عائشة والفضل بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتد به الوجع

_ (1) نسبة إلى صحار بلدة في اليمن.

فقال أهريقوا عليّ من سبع قرب من آبار شتى حتى أخرج إلى الناس فأعهد عليهم فأقعدناه في مخضب ثم صببنا عليه الماء حتى قال حسبكم حسبكم ثم خرج وقد عصب رأسه وأخذ الفضل بن العباس بيده حتى جلس على المنبر وأمر بنداء الناس فاجتمعوا فقال أما بعد أيها الناس فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو وإنه قد دنا مني حقوق من بين أظهركم فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه. ألا وإن الشحناء ليست من طبعي ولا من شأني. ألا وإن أحبّكم إليّ من أخذ مني حقا إن كان له أو حللني فلقيت الله وأنا طيّب الناس. وقد أرى أن هذا غير مغن عني حتى أقوم فيكم مرارا. ثم نزل فصلى الظهر ورجع فجلس على المنبر فعاد لمقالته الأولى فقام رجل فقال يا رسول الله إنّ لي عندك ثلاثة دراهم قال أعطه يا فضل ثم قال يا أيها الناس من كان عنده شيء فليؤده ولا يقل فضوح الدنيا ألا وإن فضوح الدنيا أيسر من فضوح الآخرة فقام رجل فقال يا رسول الله عندي ثلاثة دراهم غللتها في سبيل الله. قال ولم غللتها؟ قال كنت إليها محتاجا، قال خذها منه يا فضل. ثم قال أيها الناس من خشي من نفسه شيئا فليقم أدع له فقام رجل فقال يا رسول الله إني لكذاب إني لفاحش وإني لنؤوم فقال اللهمّ ارزقه صدقا وإيمانا وأذهب عنه النوم إذا أراد. ثم قام رجل فقال والله يا رسول الله إني لكذاب وإني لمنافق. وما من شيء إلا قد جنيته فقام عمر بن الخطاب فقال فضحت نفسك أيها الرجل فقال النبي يا ابن الخطاب فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة. اللهمّ ارزقه صدقا وإيمانا وصيّر أمره إلى خير. ومن ذلك عن عبد الله بن مسعود أن نبينا وحبيبنا نعى إلينا نفسه قبل موته بشهر فلما دنا الفراق جمعنا في بيت أمنا عائشة فنظر إلينا وشدد فدمعت عينه وقال مرحبا بكم رحمكم الله آواكم الله حفظكم الله رفعكم الله نفعكم الله وفقكم الله نصركم الله سلمكم الله قبلكم الله. أوصيكم بتقوى الله وأوصي الله بكم وأستخلفه عليكم وأؤديكم إليه. إني لكم نذير وبشير لا تعلوا على الله في عباده وبلاده فإنه قال لي ولكم: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص: 83] . وقال: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: 60] .

فقلنا: متى أجلك؟ قال: قد دنا الفراق والمنقلب إلى الله إلى سدة المنتهى. قلنا: فمن يغسلك يا نبي الله؟ قال: أهلي الأدنى فالأدنى. قلنا: ففيم نكفنك؟ قال: في ثيابي هذه إن شئتم أو في بياض مصر أو حلة يمانية. قلنا: فمن يصلي عليك. قال: مهلا غفر الله لكم وجزاكم عن نبيكم خيرا، فبكينا وبكى، وقال: إذا غسلتموني وكفنتموني فضعوني على سريري في بيتي هذا على شفير قبري ثم اخرجوا عني ساعة فإن أول من يصلّي عليّ جليسي وخليلي جبريل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم ملك الموت مع جنود كثيرة من الملائكة بأجمعها. ثم ادخلوا عليّ فوجا فوجا فصلّوا عليّ وسلّموا تسليما ولا تؤذوني بتزكية ولا برنّة ولا صيحة. وليبدأ بالصلاة عليّ رجال أهل بيتي ثم نساؤهم ثم أنتم بعد، اقرأوا أنفسكم السلام فإني أشهدكم أني قد سلمت على من بايعني على ديني من اليوم إلى يوم القيامة. قلنا: فمن يدخلك في قبرك يا نبي الله؟ قال: أهلي مع ملائكة كثيرين يرونكم من حيث لا ترونهم. ومن ذلك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: اشتدّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال: ائتوني أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعدي أبدا. فتنازعوا ولا ينبغي أن يتنازع عند نبي فقالوا: ما شأنه أهجر (يعني هل يهذي من شدة الوجع) استفهموه فذهبوا يعيدون عليه فقال: دعوني فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه. وأوصى بثلاث قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو مما كنت أجيزهم، وسكت عن الثالثة عمدا أو قال فنسيتها» . أما صفته صلى الله عليه وسلم فهناك روايات عديدة متقاربة بعضها مقتضب وبعضها مسهب وقد روى ابن سعد عن أبي هالة التميمي وصفا رواه عن ابن أخته الحسن بن علي الذي سأل خاله عن صفته وكان وصّافا فقال: «1» «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخما مفخما يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر. أطول من المربوع وأقصر من المشذب «2» . عظيم الهامة رجل الشعر إن انفرقت عقيصته «3» فرق وإلّا فلا، يجاوز شعره شحمة

_ (1) الطبقات الكبرى لابن سعد ج 2 ص 183- 188. [.....] (2) الطويل النحيف. (3) ضفيرته.

أذنيه إذا هو وفّره «1» أزهر اللون. واسع الجبين. أزج الحواجب سوابغ في غير قرن. بينهما عرق يديره الغضب أقنى «2» العرنين. له نور تعلوه يحسبه من لم يتأمله أشم. كثّ اللحية. ضليع الفهم. مفلج الأسنان دقيق المسربة. كأن عنقه جيد دمية «3» . في صفاء الفضة. معتدل الخلق. بادنا متماسكا سواء البطن والصدر. عريض الصدر. بعيد ما بين المنكبين. ضخم الكراديس «4» . أنور المتجرد «5» . موصول ما بين اللبة «6» والسرّة بشعر يجري كالخط. عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك. أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر. طويل الزندين. رحب الراحة سبط القصب. شثن الكفين والقدمين. سائل الأطراف. خمصان الأخمصين. مسيح القدمين ينبو عنهما الماء. إذا زال زال قلعا «7» . يخطو تكفؤا ويمشي هونا. ذريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من صبب. وإذا التفت التفت جميعا. خافض الطرف. نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء. يعني جلّ نظره الملاحظة. يسبق أصحابه. يبدر من لقي بالسلام. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصلا للأحزان. دائم الفكرة. ليست له راحة. لا يتكلم في غير حاجة. طويل السكت يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه. ويتكلم بجوامع الكلم فصل لا فضول ولا تقصير. دمثا ليس بالجافي ولا المهين. يعظم النعمة وإن دقت. لا يذم منها شيئا. لا يذم ذواقا. ولا يمدحه. لا تغضبه الدنيا وما كان لها فإذا تعوطي الحق لم يعرفه أحد ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له. لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها. إذا أشار أشار بكفه كلها. إذا تعجب قلبها. وإذا تحدث اتصل بها. يضرب براحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى. وإذا غضب أعرض وأشاح. وإذا فرح غضّ طرفه. جلّ

_ (1) إذا لم يقصه. (2) طويل مع رقة الأرنبة وحدب في الوسط. (3) الصورة المبالغ في صنعها. (4) رؤوس العظام أو ملتقاها. (5) مشرق الجسد. (6) المنحر. (7) مثبتا.

ضحكه التبسم. ويفتر عن مثل حبّ الغمام. وكان إذا أوى إلى منزله جزّأ دخوله ثلاثة أجزاء جزءا لله وجزءا لأهله وجزءا لنفسه. ثم جزّأ جزءه بينه وبين الناس فيسرد ذلك على العامة بالخاصة. ولا يدّخر عنهم شيئا. يؤثر أهل الفضل ناديه. وقسمه على قدر فضلهم في الدين. وكان يقول: «ليبلغ الشاهد الغائب. وأبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته. فإنه من أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها إياه ثبت الله قدميه يوم القيامة» . لا يذكر عنده إلّا ذلك ولا يقبل من أحد غيره. لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر. لا يوطن الأماكن وينهى عن إيطانها وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك. يعطي كل جلسائه بنصيبه لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه. من جالسه أو قاومه في حاجة صابره حتى يكون هو المنصرف. ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول. قد وسع الناس منه بسطه وخلقه فصار لهم أبا وصاروا في الحق عنده سواء. مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة. لا ترفع فيه الأصوات. ولا تؤبن «1» فيه الحرم ولا تثنّى فلتاته «2» متعادلين. يتفاضلون فيه بالتقوى. متواضعين يوقرون فيه الكبير. ويرحمون فيه الصغير ويؤثرون ذا الحاجة. ويحفظون أو يحوطون الغريب. وكان دائم البشر سهل الخلق. ليّن الجانب. ليس بفظّ ولا غليظ ولا صخّاب ولا فحّاش ولا عيّاب يتغافل عما لا يشتهي. ولا يدنس منه ولا يجنب فيه. قد ترك نفسه من ثلاث: المراء، والإكثار ومما لا يعنيه. وترك الناس من ثلاث. لا يذم أحدا ولا يعيره، ولا يطلب عورته. ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه. إذا تكلّم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير. فإذا سكت تكلموا. ولا يتنازعون عنده من تكلم أنصتوا له حتى يفرغ حديثهم عنده. فكان يضحك مما يضحكون ويتعجب مما يتعجبون منه ويصبر للغريب على الجفوة في منطقة ومسألته ويقول: «إذا رأيتم طالب الحاجة بطلبها فأردفوه» ولا يقبل الثناء إلا من مكافىء ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوز فيقطعه بنهي أو قيام. وكان سكوته على

_ (1) لا تذكر فيه الحرم بقبيح. (2) الفلتات: الزلات أي لم تكن في مجلسه زلات فتحكى.

أربع: على الحلم والحذر والتقرير والتفكير. فأما تقريره ففي تسوية النظر والاستماع من الناس. وأما تذكره أو تفكره ففيما يبقى ويفنى. وجمع الحلم والصبر وكان لا يغضبه شيء ولا يستفزه. وجمع له الحذر في أربع: أخذه بالحسنى ليقتدى به. وتركه القبيح ليتناهى عنه، واجتهاده الرأي فيما أصلح أمته. والقيام فيما جمع لهم الدنيا والآخرة. صلى الله عليه وسلم صلاة وتسليما دائمين متناسبين مع جلالة قدره وعظمة أخلاقه وبالغ جهده في سبيل تبليغ رسالة ربّه ونشر دينه. هذا، وبانتهاء هذا الجزء تنتهي أجزاء «التفسير الحديث» الاثنا عشر [والمقسمة إلى تسعة أجزاء في هذه الطبعة الجديدة] . وكان الفراغ منه يوم السبت الموافق الثالث من ذي الحجة لسنة 1382 هجرية وفق تاريخ 27 نيسان سنة 1963 ميلادية مسيحية. ونرى من واجبنا في هذه المناسبة أن نسجل شكرنا لدار إحياء الكتب العربية (عيسى البابي الحلبي وشركاه) ولسيادة مديرها الأستاذ محمد الحلبي على ما كان من حسن استعدادها وإقبالها على طبع أجزاء التفسير ونشاطها في سرعة إخراجها والعناية بها. كما نسجل شكرنا لفضيلة الأستاذ الشيخ الطاهر الزاوي المشرف على طبع أجزاء التفسير ولمن ساهم في طبعه من عمال المطبعة على ما كان منهم من جد كبير في إتقان الطبع وضبطه وخلو الأجزاء من الأغلاط المطبعية الهامة. سائلين الله عزّ وجلّ أن يجزيهم عن كتابه المجيد خير الجزاء. وإننا لنختم هذا الجزء بما بدأنا به الجزء الأول باسم الله عزّ وجلّ وحمده على نعمته وتوفيقه بإتمام ما فتح علينا به وألهمنا إياه. مكررين دعاءنا بأن نكون قد وفقنا فيما كتبناه إلى السداد والصواب. وأن يشملنا بعفوه ورحمته. وأن يتجاوز عما وقعنا فيه من خطأ ونسيان. وأن يتقبل منا هذه الخدمة لكتابه المجيد خالصة لوجهه الكريم، وأن ينفع به. وهو وليّ التوفيق. ولا حول ولا قوة إلا به.

«ورثة المرحوم محمد عزة دروزة المتوفى في دمشق 28 شوال 1404 الموافق 26 تموز 1984 يتوجهون بالشكر لله تعالى سبحانه على نعمته أن شرح صدر المجاهد الحاج الحبيب اللمسي صاحب دار الغرب الإسلامي للنشر، وفتح قلبه لخدمة كتاب الله سبحانه وتعالى متفضلا باستعداده تنفيذ وصية المرحوم الوالد لإعادة طباعة مؤلفه «التفسير الحديث» منقحا حيث كان المرحوم قد أنهى إعادة النظر من الطبعة الأولى وإدخال ما رآه واجب التعديل والتنقيح، كما جاء في مقدمته للطبعة الحالية، وذلك في يوم الخميس الموافق للخامس عشر من شهر محرم الحرام 1386 والسادس من أيار 1966 بحلة قشيبة وعناية فائقة. كما يجزى الشكر لفضيلة الدكتور محمد عبد الرحمن المرعشلي على تفضله بالوقوف والإشراف على التصحيح وضبط وتحرير أية أخطاء وبالشكر لصاحب المطبعة السيد صدقي كساسير والعاملين معه سائلين المولى عز وجل أن يجزيهم عن كتابه المجيد خير الجزاء» . [تم بتوفيق الله تعالى الجزء التاسع من كتاب التفسير الحديث ويليه الجزء العاشر ويضم الفهارس العامة]

فهرس محتويات الجزء التاسع

فهرس محتويات الجزء التاسع

تفسير سورة المائدة 7 تعليق على الآيتين الأوليين من السورة 12 تعليق على الآية حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ... 38 تعليق على الآية يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ 38 تعليق على الآية الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا ... 42 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ... 55 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ ... 69 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ... 70 تعليق على الآية وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ ... 73 تعليق على الآية يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا ... 76 تعليق على الآية يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ ... 79 تعليق على الآية لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ... 83 تعليق على الآية وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ ... 84 تعليق على الآية يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى ... 86 تعليق على الآية وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ ... 89 تعليق على الآية وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ ... 95 تعليق على الآية إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ ... 101 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ... 110 تعليق على الآية وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ... 116

تعليق على الآية يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ ... 126 تعليق على الآية إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ ... 132 تعليق على الآية وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ... 143 تعليق على الآية وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً ... 147 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى ... 154 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ... 159 تعليق على الآية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا ... 168 تعليق على الآية وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا ... 172 تعليق على الآية وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ... 174 تعليق على الآية وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا ... 178 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ... 180 روايات الشيعة في صدد الآية يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ... 184 تعليق على الآية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ ... 187 تعليق على الآية لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ ... 190 تعليق على الآية لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ... 191 تعليق على الآية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ... 194 تعليق على الآية لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ ... 196 تعليق على الآية تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... 199 تعليق على الآية لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ ... 202 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ... 207 تعليق على الآية لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ... 211 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ... 219 تعليق على الآية لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ ... 228 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ ... 231 تعليق على الآية جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ ... 236

تعليق على الآية ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ ... 238 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ ... 239 تعليق على الآية ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ ... 243 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ ... 246 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ... 251 تعليق على الآية إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي ... 258 تفسير سورة الممتحنة 266 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ ... 269 تعليق على الآية عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ ... 273 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ ... 280 تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ ... 288 تفسير سورة الحديد 296 تعليق على الآية آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ ... 299 استطراد إلى فتح مكة وما جرى في سياقه من أحداث 305 تعليق على الآية يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ ... 314 تعليق على الآية أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ ... 317 تعليق على الآية إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ ... 321 تعليق على الآية اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ... 323 تعليق على الآية ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ ... 325 تعليق على الآية لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ ... 328 تعليق على الآية وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا ... 329 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ... 334

تفسير سورة التوبة 337 تعليق على الآيتين الأوليين من السورة 341 تعليق على الآية وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ ... 344 تعليق على الآية إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ... 349 تعليق على الآية وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ ... 358 استطراد إلى مدى جملة كَلامَ اللَّهِ ومسألة أزلية القرآن وحدوثه 360 تعليق على الآية كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ ... 367 تعليق على الآية أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ ... 371 تعليق على الآية ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ ... 374 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ ... 379 تعليق على الآية لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ... 383 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ... 392 تعليق على الآية قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ... 398 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ ... 419 تعليق على الآية إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً ... 429 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... 438 تعليق على الآية إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ ... 443 تعليق على الآية لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً ... 447 تعليق على الآية إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ... 452 تعليق على الآية قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ ... 454 تعليق على الآية وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ ... 456 تعليق على الآية وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ ... وما روي في مصارف الزكاة 458 تعليق على الآية وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ ... 485

تعليق على الآية يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ ... 487 تعليق على الآية يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ ... 489 تعليق على الآية الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ... 491 تعليق على الآية وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ... 494 تعليق على الآية يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا ... 498 تعليق على الآية وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ ... 501 تعليق على الآية الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ ... 504 تعليق على الآية اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ... 505 تعليق على الآية فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ ... 509 تعليق على الآية وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ ... 513 تعليق على الآية لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ ... 516 تعليق على الآية الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً ... 518 تعليق على الآية وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً ... 520 تعليق على الآية وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ... 522 تعليق على الآية وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ... 525 تعليق على الآية وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً ... 529 تعليق على الآية وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ ... 530 تعليق على الآية وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً ... 533 تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ ... 538 تعليق على الآية ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا ... 542 تعليق على الآية لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ... 547 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا ... 555 تعليق على الآية ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ ... 557 تعليق على الآية وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ... 558

تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ ... 562 تعليق على الآية وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ ... 566 تعليق على الآية وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ ... 567 تعليق على الآية لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ... 569 تفسير سورة النصر 573 تعليق على آيات السورة وما روي في صددها 575 نبذة عن حجة الوداع النبوية 577 نبذة في مرض النبي ووفاته ولحظاته الأخيرة وصفاته 585

الجزء العاشر 1- نموذج عن خط المؤلف 2- التقاريظ: - محمد بهجة البيطار- مجلة المعلم العربي- عبد الفتاح أبو غدة- د. مصطفى السباعي (مجلة حضارة الإسلام) - البروفسور إسماعيل بوناولا الهندي. 3- الفتاوى- أبو اليسر عابدين (مفتي دمشق) - عبد الله القلقيلي (مفتي الأردن) 4- ترجمة المؤلف 5- الفهارس العامة

تقريظ لمحمد بهجة البيطار

تقريظ لمحمد بهجة البيطار «1» كنت وصفت تفسير العلّامة الجليل محمد عزة دروزة فيما كتبته في مجلة مجمعنا العلمي على كتابه المطبوع (القرآن المجيد) ، وقلت: إنه يفسر القرآن بالقرآن، بحيث تكون آياته في الموضوع الواحد مجموعة في مكان واحد، ومفسّرة تفسيرا يجمع بين معانيها جمعا محكما. ومن أمعن النظر في تفسيره رأى فيه فوائد جمة، ومباحث مهمة، ونظرات ثاقبة، ونقدا بالمنقول والمعقول، لبعض مروياتهم في أسباب النزول، وتفسيرا للآيات الكريمة بالظاهر المتبادر منها. وهو يرى أن السعادة لا تعود لهذه الأمة إلا إذا عادت إلى القرآن علما وعملا، وأدبا وخلقا، وله في ذلك كتاب مستقل سمّاه (الدستور القرآني في شؤون الحياة) وكنت كتبت عنه في مجلة المجمع أيضا. وأمامي الآن الجزءان الأول والثاني من هذا التفسير الكبير الذي رتبه ترتيب نزول الآيات والسور، على حسب تاريخها في الزمن. فأما الجزء الأول (البالغ 271 صفحة) فقد بدأ فيه- بعد المقدمة الوافية بالموضوع- بسورة الفاتحة التي يتلوها التالي في صلاته وغيرها، ثم شرع بتفسير سورة العلق، وفي آيها الخمس الأولى أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة، ولهذه الأمة الأمية التي أصبحت بهذا الوحي المنزل أمة كتاب وحكمة، وهدى ورحمة. وطريقة الأستاذ المفسر هي أن يفسر السورة كلها، وإن كان بين هذه الآيات الخمس وما بعدها نزول جملة من القرآن تتضمن أمرا بالدعوة، وشيئا من مبادئها

_ (1) انظر مجلة المجمع العلمي العربي، الجزء الرابع من المجلد السابع والثلاثين، تشرين الأول 1962، جمادى الأولى 1382.

وأهدافها (قال) : وإلحاق هذه الآيات بالآيات الخمس الأولى- حيث تكونت شخصية السورة- يدلّ على أن سور القرآن كانت تؤلّف أولا فأولا، وعلى أن المشهد الذي احتوته لم يتأخر كثيرا. وهكذا جرى الأستاذ دروزة في تفسير السور مرتبة على زمن النزول، ولكنه لا يفرق بين أجزاء السورة الواحدة أو آياتها مهما تقدمت في النزول أو تأخرت، حرصا على حفظ وحدة السورة وعدم توزيعها. فسّر في هذا الجزء الأول ثلاثين سورة (عدا الفاتحة) بدأها بسورة العلق وختمها بالقارعة. وأما الجزء الثاني (البالغ ما يقرب من ثلاثمائة صفحة) فقد بدأ بسورة القيامة وانتهى بسورة الفرقان، ففسر اثنتي عشرة سورة. وطريقة الأستاذ دروزة في التفسير ما يأتي: (1) تجزئة المجموعات والفصول إلى جمل تامة يصح الوقوف عندها من حيث المعنى والنظم والسياق. (2) شرح الكلمات الغريبة شرحا موجزا. (3) شرح مضمون الجملة شرحا مجملا. (4) إشارة إلى ما روي في مناسبة نزول الآيات وما قيل في مدلولها وأحكامها. (5) بيان ما تحويه الآيات من أحكام وحكم. (6) إيضاح مشاهد من السيرة النبوية. (7) قصص القرآن الحكيم. (8) الاهتمام ببيان ما بين آيات السور وفصولها من ترابط. (9) تفسير القرآن بالقرآن. (10) وضع مقدمة أو تعريف موجز للسور قبل البدء بتفسيرها. قال الأستاذ المفسّر في المقدمة: ولقد رأينا أن نجعل ترتيب التفسير وفق ترتيب نزول السورة بحيث تكون أولى السور المفسرة سورة العلق، ثم القلم ثم المزّمل، إلى أن تنتهي السور المكية، ثم سورة البقرة، فسورة الأنفال إلى أن تنتهي

السور المدنية، لأننا رأينا هذا يتّسق مع المنهج الذي اعتقدنا أنه الأفضل لفهم القرآن وخدمته اهـ. وقد استفتى في هذا بعض الأجلّاء فأفتوه بالجواز كما جاء في مقدمته. وهو يستشهد بكلام المفسرين، من قدماء ومعاصرين، كالطبري والرازي والزمخشري وابن كثير والألوسي وغيرهم، وكتفسيري المنار والقاسمي. أثاب الله تعالى المؤلف خير الثواب، ونفع بتفسيره أولي الألباب ويسّر له طبع الأجزاء كلها، بمنّه سبحانه وتوفيقه. محمد بهجة البيطار

تقريظ مجلة المعلم العربي بدمشق

تقريظ مجلّة المعلم العربي بدمشق «1» إن القرآن الكريم ليس منبتّ الصلة بتاريخ أمتنا العربية، وليس معزولا عن كل ذي فكر، وبوجه خاص عن الباحثين والمؤرخين الذين يهتمون بتوخي الحقائق واعتماد أصدق المصادر في أبحاثهم، ولا غرابة أن أقدم الأستاذ الجليل محمد عزة دروزة على إيجاد مثل هذا التفسير، فقد انصرف الأستاذ الكريم كل الانصراف إلى البحث في تاريخ العرب وأنى له أن يجد معينا ينهل منه ويستقي أحسن وأفضل وأوثق من القرآن الكريم. لقد عزم المؤلف على كتابة التفسير بعد جهود كبيرة بذلها في مطالعة الكتب والتفاسير العديدة بالإضافة إلى الجهود التي بذلها في تقديم كتبه السابقة، وفيها أداة المادة ونواة المؤلّف الجديد، ونتيجة لذلك فقد انتهج في تفسيره الخطة التالية: 1- تجزئة المجموعات والفصول إلى جمل تامة، يصح الوقوف عندها من حيث المعنى والنظم والسياق، وقد تكون الجملة آية واحدة أو آيات قليلة أو سلسلة طويلة من الآيات. 2- شرح الكلمات والتعابير الغريبة وغير الدارجة كثيرا، بإيجاز ودون تعمق لغوي ونحوي وبلاغي، إذا لم تكن هناك ضرورة ماسة. 3- شرح مدلول الجملة شرحا إجماليا، حسب المقتضى المتبادر بأداء بياني واضح، ودون تعمق كذلك في الشروح اللغوية والتنظيمية. مع الاستغناء عن هذا

_ (1) انظر العدد الثاني/ شباط- آذار- نيسان 1965 م، السنة الثامنة عشرة، دمشق.

الشرح والاكتفاء بعرض الهدف والمدلول، إذا كانت عبارة الجملة واضحة نظما ولغة. 4- إشارة موجزة إلى ما روي في مناسبة نزول الآيات أو في صددها، وما قيل في مدلولها وأحكامها، وإيراد ما يقتضي إيراده من الروايات والأقوال، والتعليق على ما يقتضي التعليق عليه منها بإيجاز. 5- تجلية ما تحتويه الجملة من أحكام ومبادئ وأهداف وتلقينات وتوجيهات تشريعية وأخلاقية واجتماعية وروحية. والاعتماد في ذلك على النظر في الدرجة الأولى، وملاحظة مقتضيات تطور الحياة والمفاهيم البشرية. وهذه نقطة أساسية وجوهرية. 6- تجلية ما تحتويه الجملة من صور ومشاهد عن السيرة النبوية والبيئة النبوية لأن هذا يساعد على تفهم ظروف الدعوة وسيرها وأطوارها، وجلاء جوّ نزول القرآن الذي ينجلي به كثير من المقاصد القرآنية. 7- التنبيه على الجمل والفصول الوسائلية والتدعيمية (وهي ما أريد به تدعيم الرسالة القرآنية ومبادئها المحكمة، مثل القصص ومشاهد الحياة الأخروية والمواقف الجدلية والأمثال والتذكير.. إلخ) وما يكون فيها من مقاصد أسلوبية كالتعقيب والتعليل والتطمين والترغيب والترهيب والتقريب والتمثيل والتنديد والتذكير والتنويه، مع إبقاء ذلك ضمن النطاق الذي جاء من أجله وعدم التطويل فيه. والتنبيه بإيجاز إلى ما ورد في صدده إذا اقتضى السياق بما لا يخرج به عن ذلك النطاق. 8- الاهتمام لبيان ما بين آيات وفصول السور من ترابط. وعطف الجمل القرآنية على بعضها سياقا أو موضوعا، كلما كان ذلك مفهوم الدلالة، لتجلية النظم القرآني والترابط الموضوعي فيه. لأن هناك من يتوهم أن آيات السور وفصولها مجموعة إلى بعضها بدون ارتباط وانسجام، في حين أن الإمعان فيها يجعلنا على يقين تام بأن أكثرها مترابط ومنسجم.

9- الاستعانة بالألفاظ والتراكيب والجمل القرآنية في صدد التفسير والشرح والسياق والتأويل والدلالات والهدف والتدعيم والصور والمشاهد. 10- العطف على ما جاء في كتاب «القرآن المجيد» من بحوث حين تفسير الجملة ومقاصدها تفاديا من التكرار والتطويل. 11- عرض المعاني بأسلوب قريب المأخذ سهل التناول والاستساغة، واجتناب الألفاظ الحوشية والخشنة والغريبة والعويصة. 12- شرح الكلمات والمدلولات والموضوعات المهمة المتكررة شرحا وافيا وخاليا من الحشو عند أول مرة ترد فيها، والعطف على الشرح الأول في المرات التالية دون تكرار شرحها في مواطن تكررها. والجدير بالذكر أن ترتيب هذا التفسير هو وفق ترتيب نزول السورة، إذ بذلك يمكن متابعة السيرة النبوية زمنا بعد زمن، كما يمكن متابعة أطوار التنزيل، وبهذا أو ذاك يندمج القارئ في جو نزول القرآن وجو ظروفه ومناسباته ومداه، ومفهوماته وتتجلى له حكمة التنزيل. ولا ريب في أن هذا العمل لا يمسّ قدسية المصحف المتداول، لأن التفسير ليس مصحفا للتلاوة من جهة، وهو عمل فني أو علمي من جهة ثانية. ولقد أثر عن علماء أعلام، قدماء ومحدثين تفسيرات لوحدات وسور قرآنية، دون وحدات وسور. كما أثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كتب مصحفا وفق نزول القرآن ولم نر نقدا أو إنكارا لهذا أو ذاك. - محمد-

تقريظ عبد الفتاح أبو غدة

تقريظ عبد الفتاح أبو غدة (بسم الله الرّحمن الرّحيم) الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين. أما بعد من عبد الفتاح أبو غدة إلى الأستاذ الفاضل السيد محمد عزة بك دروزة سلّمه المولى، ونفع به وبآثاره آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فأرجو أن تكونوا بخير من الله وعافية، تسلّمت من الأستاذ السيد عمر بك الأميري مؤلفكم العظيم «التفسير الحديث» ، وشرح لي رغبتكم في المشاركة بخدمة القرآن الكريم، وإني لحريص على أن يكون لي هذا الشرف الكبير، ولكن كما حدثت الأستاذ عمر بك: شواغلي وواجباتي كثيرة تحول بيني وبين هذه الأمنية الغالية لدي. وإني إذ أعتذر بكل أسف لعدم تمكني من القيام بهذه الخدمة الجليلة لكتاب الله تعالى، أذكر لكم أستاذا من كرام إخواني وأحبائي، وهو خير مني لهذا العمل وأجدر به، بما آتاه الله من سعة في الوقت، وبسطة في المعرفة والاطلاع، ومتانة في الأسلوب واللغة، وأناة في حلّ المشكلات وتتبع المعضلات، وهو الأستاذ الشيخ محمد فوزي فيض الله، أخي وزميلي في مراحل التحصيل كلها في حلب والأزهر، ويقوم الآن بتدريس الفقه الحنفي في كلية الشريعة بالجامعة السورية خير قيام، ولديه فوق ما ذكرت من طيب النفس وحسن السيرة ما يزيدكم حبّا به

واعتمادا عليه إلى الحدّ المرتضى إن شاء الله. وقد اتصلت به بعد زيارتكم يوم كنت بدمشق، وحدثته بهذا العمل الجليل فاعتذر أولا بمهام التدريس التي يقوم بها، ثم قبل أن يقوم بالعمل بعد أن يقف على الجهد العلمي الذي يتطلبه الكتاب، وقد اتفقت معه أن نزوركم إذا بقيت في دمشق، ثم أعجلني الوقت فسافرت ولم نتمكن من زيارتكم، وها أنا ذا أرسل هذا الكتاب مع «الجزء الأول» من التفسير إليه ليكون وسيلة طيبة لزيارتكم والالتقاء بكم. وكان الأستاذ عمر بك سألني في حديثه عن كتابكم هذا عن صنيعكم في ترتيب السور المفسرة إذ بدأتم بها حسب النزول لا حسب تدوينها الآن في المصحف الشريف، فذكرت له أني لا أرى مانعا من ذلك فيما أعلم، وعلى من قال أو رأى غير هذا الرأي أن يدلي بما يستند إليه في المنع فأكون له من الشاكرين. وحينما سعدت بزيارتكم في دمشق ذكرتم لي أن أحد أصدقائكم العلماء الأفاضل في فلسطين قد رغبتم منه أن يشارككم في خدمة هذا التفسير الكريم، فأبدى لكم أطيب الاستعداد لذلك، غير أنه توقف من أجل طريقتكم في ترتيب السور المفسرة بحسب النزول، فإنه يراها طريقة غير سائغة في رأيه، وليتني وقفت على مستنده في هذا الرأي لأرجع عن رأيي الذي لا أزال أراه صوابا حتى يقوم الدليل على خلافه. وإني أذكر لكم هنا ما يحضرني الآن مما يؤكد جواز صنيعكم، ولعل فيه مقنعا لمن قد يرى غير الذي أرى، والله ولي التسديد والتوفيق. إن شبهة المنع لهذه الطريقة آتية من جهة أنها طريقة تخالف ما عليه المصحف الشريف اليوم من الترتيب المجمع عليه والمتواتر إلى الأمة نقله جيلا بعد جيل. ودفع هذه الشبهة أن المنع يثبت فيما لو كان هذا الصنيع مسلوكا من أجل أن يكون هذا الترتيب «مصحفا» للتلاوة، أي ليتلو الناس القرآن على هذا

النحو الذي سلكتموه، أمّا وإن الغرض للمفسر والقارئ معا غير هذا، فلا مانع من سلوكه إطلاقا. ويستأنس لسواغية هذه الطريقة بما سلكه أجلّة من علماء الأمة المشهود لهم بالإمامة والقدوة من المتقدمين في تآليفهم، ولم يعلم أن أحدا أنكر عليهم ما صنعوا، ويحضرني منهم الآن الإمام ابن قتيبة المتوفى سنة 276 من الهجرة، فقد مشى في تفسير ما فسره في كتابه المطبوع «تأويل مشكل القرآن» على غير ترتيب النزول وعلى غير الترتيب المتلو الآن، ويبدو هذا جليا فيه ب ص 240- 339، ولا أشك أن هناك غيره من شاركه في هذه الطريقة من علماء عصره وما بعده، ممن لا يسعني الآن البحث عنهم، لضيق الوقت لديّ. على أن القول بالمنع تبعا لهذه النظرة الضيقة ينبغي أن يشمل ما سلكه الشيخ جلال الدين المحلّي ثم جلال الدين السيوطي في تفسيرهما المعروف بتفسير الجلالين، إذ قد بدأ الأول بالتفسير من آخر القرآن الكريم وهو صاعدا إلى سورة الكهف، ثم مات فأتم الجلال السيوطي من حيث وقف سلفه إلى أول القرآن الكريم، فهما لم يراعيا في مسلكهما هذا: البدء على ترتيب القرآن من أوله إلى آخره. وكذلك ينبغي أن يشمل ما صنعه الشيخ عبد الوهاب النجار في كتابه «قصص الأنبياء» والشيخ محمد أحمد العدوي في كتابه «دعوة الرسل إلى الله» ، فهما أيضا لم يراعيا في مواضيع كتابيهما ترتيب القرآن المتلو اليوم، بل راعيا اعتبارا آخر، وكذلك ينبغي أن يتناول المنع كتابكم «الدستور القرآني في شؤون الحياة» ، فقد سلكتم فيه نحو طريقتكم في التفسير من جمع طائفة من الآيات الكريمة في صعيد واحد، ثم تفسيرها وبيان ما تلهمه من المعاني الكريمة، فهل يصح أن يقال: إنكم مع من ذكرنا قد خالفتم ترتيب كتاب الله تعالى، وجافيتم الحق المشروع؟ فإن قيل: هناك فارق بين صنيعكم هناك في «الدستور» وصنيعكم هنا في «التفسير» ، فإن الأول يمكن أن يجعل من باب التأليف على اعتبار وحدة الموضوع

التي ينظر فيها إلى مدلول الآيات فحسب، وأما الثاني فإن النظر فيه متجه إلى مراعاة النزول فحسب، فالجواب: فليجعل هذا أيضا من باب وحدة الموضوع بين السورة والسورة من حيث زمن نزولها سابقة أو لاحقة. ثم إن المنع إنما يتجه القول به لدى قائله إذا كان ترتيب السور توقيفيا لا دخل للاجتهاد فيه، ولكن السيوطي رحمه الله تعالى قد حكى في كتابه «الإتقان» عن جمهور العلماء أن ترتيب السور اجتهاد من الصحابة، لا وليس هو بتوقيف من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا نص عبارته (1/ 62) : «وأما ترتيب السور فهل هو توقيفي أيضا أو هو باجتهاد من الصحابة؟ خلاف، فجمهور العلماء على الثاني، منهم مالك والقاضي أبو بكر في أحد قوليه، قال ابن فارس: جمع القرآن على ضربين، أحدهما تأليف السور كتقديم السبع الطوال وتعقيبها بالمئين، فهذا هو الذي تولته الصحابة، وأما الجمع الآخر، وهو جمع الآيات في السور فهو توقيفي تولاه النبي صلى الله عليه وسلم كما أخبر به جبريل عن أمر ربه، وما استدل به لذلك اختلاف مصاحف السلف في ترتيب السور، فمنهم من رتبها على النزول، ومصحف عليّ كان أوله «اقرأ» ثم المدثر ثم نون ثم المزمل ثم التكوير، وهكذا إلى آخر المكي والمدني. وكان أول مصحف ابن مسعود: البقرة ثم النساء ثم آل عمران، على اختلاف شديد وكذا مصحف أبيّ وغيره، ثم ساق السيوطي رحمه الله بعد نحو صفحتين صورة عن الترتيب الذي في مصحف أبي بن كعب ومصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما. قلت: وإذا كان الأمر في ترتيب السور في المصحف اجتهاديا، وجمهرة العلماء عليه، فلا يقوم للقول بالمنع وجه في مراعاة النزول في التفسير وفي غير المصحف. وجاء في كتاب «فرائد فوائد قلائد المرجان، وموارد مقاصد منسوخ القرآن» للشيخ مرعي بن يوسف المقدسي الحنبلي (مخطوط عندي) ما صورته:

«ذكر ترتيب السور: وقد وقع فيه خلاف كبير بين العلماء، هل هو بالنص أو بالاجتهاد؟ فمنهم من قال: إن ترتيب السور كان بتوقيف من جبريل عليه السلام، ومنهم من قال: إن زيد بن ثابت هو الذي رتب السور بمشاركة من عثمان ومن معه. قال شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى: ترتيب السور بالاجتهاد لا بالنص في قول جمهور العلماء من الحنابلة والمالكية والشافعية، فيجوز قراءة هذه قبل هذه، وكذا في الكتابة، ولهذا تنوعت مصاحف الصحابة في كتابتها، لكن لما اتفقوا على المصحف زمن عثمان صار هذا مما سنه الخلفاء الراشدون، وقد دل الحديث على أن لهم سنة يجب اتباعها» اه. وواضح كل الوضوح أن محل اتباع هذه السنة التي يجب اتباعها إنما هو في كتابة المصحف الذي يكون للتلاوة والقراءة، لا في كتابة تفسير وشرح لمعاني الآيات والسور الكريمة، فإن ذلك غير داخل في موضوع اختلاف العلماء أو اتفاقهم إطلاقا، بل هم فيما أرى متفقون على سواغيته وجوازه، والله تعالى أعلم. هذا ما حضرني الآن كتابته في هذا الصدد كتبته لكم راجيا المولى أن يسددنا إلى الحق والصواب، ويهدينا سواء السبيل. وهو حسبنا ونعم الوكيل، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. حلب البياضة الأحد 19/ من ذي القعدة سنة 1376.

تقريظ مجلة حضارة الإسلام لصاحبها الدكتور مصطفى السباعي

تقريظ مجلة حضارة الإسلام لصاحبها الدكتور مصطفى السباعي كنا قد ألمحنا إلى صدور الجزء الأول والثاني من كتاب «التفسير الحديث» للأستاذ محمد عزة دروزة في العدد الثالث من السنة الحالية لهذه المجلة، وبيّنا طرفا مما امتاز به بحث الأستاذ دروزة خصوصا في تفسيره هذا عن بقية الكاتبين من حيث الأسلوب والمعالجة والتحقيق- وإن كان ذلك قد جعله يخرج عن دائرة ما أجمع عليه جماهير العلماء في بعض الأمور الهامة- وقد ظهر اليوم الجزء الثالث من هذا التفسير، وهو كما قد قلنا سابقا قد سلك لأول مرة سبيل ترتيب النزول لا ترتيب الجمع على ما هو عليه، ولا شك أنه ينطوي بذلك على جهد ممتاز مشكور. إننا نرجو للأستاذ دروزة اضطراد التوفيق ونأمل أن تتكامل أجزاء هذا التفسير عما قريب.

ترجمة المؤلف

ترجمة المؤلف يطيب لدار الغرب الإسلامي أن تنشر في نهاية التفسير الحديث ترجمة مؤلفه الأستاذ محمد عزة دروزة. ولد المؤلف ليلة السبت الموافقة للحادي عشر من شهر شوال سنة 1305 هـ وتوافق آخر شهر حزيران- يونيو- من سنة 1887 ميلادية في مدينة نابلس- فلسطين- وأبوه عبد الهادي بن درويش بن إبراهيم بن حسن دروزة. وقد سمع من جده الذي عمّر تسعين عاما أن الأسرة تنتسب إلى عشيرة عربية اسمها الفريحات وموطنها قرية كفرنجة في لواء عجلون- الأردن-. ولا تزال العشيرة مشهورة معروفة. وأنها نزحت في القرن العاشر الهجري إلى نابلس وأن لقبها من الدرازة بمعنى الخياطة حيث كان بعض أجداده خياطا أو درازا. وكان أبوه وجدّه يتعاطيان تجارة الأقمشة في نابلس. وقد درس في مدارس الحكومة الابتدائية والرشدية والإعدادية في نابلس وتخرج سنة 1321 هـ- 1905 م- وبعد ذلك جرت حياته في ثلاثة مجار: الوظيفة. والعمل السياسي. والنشاط العلمي. ففي المجرى الأول: من سنة 1906 إلى سنة 1918 عمل في دائرة البرق والبريد العثمانية متقلبا بين وظائف عديدة مأمورا فمديرا فمفتشا فسكرتيرا لديوان المديرية العامة في بيروت. وبعد انتهاء حكم الدولة العثمانية قضى فترة قصيرة

سكرتيرا في ديوان الأمير عبد الله (سنة 1920) ثم رئيسا لمدرسة النجاح الوطنية الابتدائية والثانوية (1922- 1927) فمأمورا لأوقاف نابلس الإسلامية (1927- 1932) فمديرا عاما للأوقاف الإسلامية في فلسطين (1932- 1937) ، وفي سنة 1937 وضع الإنكليز يدهم على الأوقاف الإسلامية والمجلس الإسلامي الأعلى بسبب الثورة العربية التي اندلعت ضدهم في سنة 1936 واستمرت إلى أواخر سنة 1939 فأقالوه. ولم يعمل بعد ذلك موظفا. في المجرى السياسي: اندمج في هذا المجرى منذ إعلان الدستور العثماني (سنة 1908) فكان عضوا لفترة قصيرة في نادي الاتحاد والترقي وهو الحزب المنقلب عن جمعية (تركية الفتاة) التي كان لها اليد في ذلك الإعلان. ثم عضوا وسكرتيرا لفرع حزب الائتلاف في نابلس المعارض لذلك الحزب الذي ظهرت نواياه المريبة ضد العرب (1909) وعضوا وسكرتيرا للجمعية العلمية العربية في نابلس (1911) وعضوا في جمعية العربية الفتاة السرية (1916) وعضوا وسكرتيرا لهيئتها المركزية في دمشق (1919- 1920) وعضوا وسكرتيرا للجمعية الوطنية في نابلس (1919) ثم (من سنة 1921 إلى 1932) وعضوا وسكرتيرا للمؤتمر العربي الفلسطيني في القدس (1919) وعضوا في المؤتمر السوري العام وسكرتيرا ومقررا للدستور (1919- 1920) وعضوا مؤسسا في حزب الاستقلال العربي في دمشق (1919- 1920) وعضوا مؤسسا للجمعية الفلسطينية العربية في دمشق (1919- 1920) وعضوا في المؤتمرات العربية الفلسطينية خلال (1921- 1927) وعضوا في لجانها التنفيذية لغاية سنة 1933 ورئيسا لجمعية الشبان المسلمين بنابلس (1928) وعضوا في اللجنة التحضيرية للمؤتمر الإسلامي العام المنعقد في القدس سنة 1930 وعضوا وسكرتيرا للمؤتمر عند انعقاده وعضوا في المؤتمر العربي العام في القدس وعضو لجنته التنفيذية (1931- 1932) ومؤسسا وعضوا لحزب الاستقلال العربي في فلسطين وأمينا لماله (1932- 1936) وممثلا لحزب الاستقلال في اللجنة العربية العليا لفلسطين وسكرتيرا لها (1936) وعضوا في وفد اللجنة إلى ملوك العراق والسعودية (1937) وأحد ممثلي اللجنة والناطقين باسمها

النشاط العلمي

أمام لجنة التحقيق الملكية الإنكليزية (1937) ومندوبا للجنة في المؤتمر العربي العام في بلودان بسورية وسكرتيرا عاما للمؤتمر (1937) والعضو المنتدب في دمشق لإدارة وتمويل وتجهيز حركة الثورة العربية في فلسطين (1937- 1939) وقد اعتقل وحوكم أكثر من مرة. وشجّ رأسه في مظاهرات عام 1933 التي قادها ضد الإنكليز في يافا مع زملائه أعضاء اللجنة التنفيذية. وحاكمته السلطات الفرنسية في محكمة عسكرية في دمشق بسبب نشاطه في تغذية وإدارة ثورة فلسطين وحكمت عليه بالسجن خمس سنين قضى منها 16 شهرا في سجني المزة والقلعة في دمشق وأفرج عنه سنة 1940 بعد انهيار فرنسا في الحرب. وفي سنة 1941 نزح عن دمشق ولجأ إلى تركية على أثر الغزوة الإنكليزية لسورية وعاد سنة 1945 إلى دمشق بعد نهاية الحرب العالمية وما زال فيها. وانتدب لعضوية الهيئة العربية العليا ولتمثيلها في دمشق وفي مجلس الجامعة العربية واللجنة السياسية والعسكرية فيها (1946- 1947) . ومرض في سنة 1948 وأجريت له عملية جراحية كبيرة أدت إلى ضعف بنيته وصار النشاط الجسماني متعبا له. واشتد في هذه الأثناء ثقل سمعه الذي بدأ في سنة 1932 فقل نشاطه البدني في المجال السياسي والوطني واقتصر ذلك على ما كان يكتبه ويتلقاه من رسائل وينشره من مقالات وبحوث ويجريه من مقابلات ويوجهه من تذكير وتحذير حسب مجرى الأحداث والمناسبات. وصرف أكثر جهده ووقته إلى النشاط العلمي حيث ظل الله عز وجل مديما نعمته عليه في النشاط الذهني وقوة الحفظ والذاكرة. النشاط العلمي : لم يقدر له الاستمرار في الدراسة في مدارس أخرى بعد المدرسة الإعدادية في نابلس ولكنه منذ تخرجه من هذه المدرسة سنة (1905) وكان عمره حينئذ ست عشرة سنة انكب على المطالعة والدراسة الشخصية بدون انقطاع. وقد تسنى له أن يقرأ عددا كبيرا من الكتب العربية في اللغة والأدب والشعر والتاريخ والاجتماع

والفلسفة والتفسير والحديث والفقه والكلام وقرأ فيما قرأ من ذلك كتبا كثيرة باللغة التركية التي كان يجيدها كما قرأ كثيرا من كتب مترجمة عن اللغات الأجنبية في مواضيع مختلفة. وكان نتيجة ذلك عدد كبير من المؤلفات والمخطوطات وعشرات المحاضرات في أندية فلسطين وسوريا وعشرات المقالات في جرائد ومجلات فلسطين وسوريا ولبنان والعراق ومصر وعشرات الأحاديث الإذاعية من محطتي دمشق ومكة. وقد انتخب لسنة 1960 عضوا مراسلا لمجمع اللغة العربية في القاهرة. وعضوا في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية للجمهورية العربية المتحدة ومقررا لشعبة التاريخ فيه. وقد اعتذر عن ممارسة هذه الواجبات بسبب حالته الصحية. وانتسب إلى اتحاد الكتاب العرب في سوريا. ورشحه هذا الاتحاد لجائزة الدولة التقديرية سنة 1969 على مجمل نشاطه العلمي والثقافي والسياسي والوطني. ولقد حفظ القرآن الكريم في سجنه في دمشق وكتب خلال مدته أصول كتبه القرآنية الثلاثة وهي عصر النبي عليه السلام وبيئته قبل البعثة من القرآن. وسيرة الرسول عليه السلام من القرآن. والدستور القرآني في شؤون الحياة. وفي هجرته إلى تركيا كتب أصول التفسير وكتابه القرآن المجيد الذي جعله بمثابة مقدمة للتفسير بالإضافة إلى أصول كتبه حول الحركة العربية الحديثة وتركية الحديثة وبواعث الحرب العالمية. وهذه أسماء مؤلفاته المطبوعة مرتبة حسب سني طبعتها الأولى مع مكانها: 1- وفود النعمان على كسرى أنو شروان سنة 1911 بيروت. 2- مختصر تاريخ العرب والإسلام (جزآن) سنة 1925 القاهرة. 3- دروس في فن التربية مترجم عن الإفرنسية سنة 1927 في بغداد. 4- دروس التاريخ العربي سنة 1932 القاهرة. 5- دروس التاريخ المتوسط والحديث سنة 1932 القاهرة.

6- دروس التاريخ القديم سنة 1932 القاهرة. 7- تركية الحديثة سنة 1946 بيروت. 8- بواعث الحرب العالمية الأولى. مترجم عن التركية سنة 1946 بيروت. 9- عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته قبل الإسلام. مقتبس من القرآن 507 صفحات سنة 1946 دمشق. وطبع طبعة ثانية موسعة سنة 1965 بلغت صفحاتها 848. 10- سيرة الرسول (جزآن) . مقتبس من القرآن. 718 صفحة سنة 1948 القاهرة. وطبع طبعة ثانية منقحة في سنة 1965 بلغت صفحاتها 832. 11- القرآن واليهود سنة 1949 دمشق. 12- القرآن والمرأة سنة 1951 صيدا وطبع طبعة ثانية بعنوان المرأة في القرآن والسنة سنة 1967 بلغت صفحاتها 273. 13- القرآن والضمان الاجتماعي سنة 1951 صيدا. 14- القرآن المجيد. مباحث متنوعة في القرآن. وهو بمثابة مقدمة للتفسير سنة 1952 صيدا. 15- حول الحركة العربية الحديثة. ستة أجزاء سنة 1950- 1952 صيدا. الأول: في انبعاث الحركة في زمن العثمانيين إلى آخر عهد حكومة فيصل في دمشق. الثاني: في الاستعمار الفرنسي في سوريا ولبنان وبلاد المغرب وكفاح العرب ضده وتحرر لبنان وسورية منه. الثالث والرابع والخامس: في تاريخ الإنكليز والصهيونية في فلسطين وكفاح العرب ضدهما إلى الآن. السادس: في مشاكل العالم العربي. مجموع صفحاتها 1400. 16- مشاكل العالم العربي. طبعة موسعة. نال جائزة من الجامعة العربية سنة 1952 دمشق. 17- الدستور القرآني في شؤون الحياة. دراسات وقواعد قرآنية في الشؤون السياسية والجهادية والتبشيرية والقضائية والمالية والاجتماعية والأسروية

والأخلاقية 608 صفحات، القاهرة. وطبع طبعة ثانية موسعة في سنة 1967- 1970 بعنوان الدستور القرآني والسنة النبوية في شؤون الحياة. وصار جزئين صفحات أولهما 584 وثانيهما 498. 18- الوحدة العربية. دراسات تاريخية وجغرافية واقتصادية واجتماعية وسياسية في أصول العرب ووطنهم والعقبات التي تقوم في طريق وحدتهم ومعالجاتها. ومقتبسات تاريخية ودستورية من تجارب الأمم الأخرى 721 صفحة سنة 1958 بيروت. 19- تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم 334 صفحة سنة 1958 القاهرة. وطبع طبعة ثانية شعبية سنة 1961 بواسطة لجنة التأليف القومية في مصر ثم طبع طبعة ثالثة سنة 1969 في المطبعة العصرية في صيدا وألحق به تاريخ وأحوال بني إسرائيل من القرآن وبلغت صفحاته 552. 20- تاريخ الجنس العربي في مختلف الأدوار والأقطار صدر منه ثمانية أجزاء: الأول: تاريخ الجنس العربي قبل العروبة الصريحة ودوله ومآثره في جزيرة العرب. الثاني: تاريخ الموجات العربية قبل العروبة الصريحة ودولها ومآثرها في وادي النيل: مصر والسودان. الثالث: تاريخ الموجات العربية قبل العربية قبل العروبة الصريحة ودولها ومآثرها في العراق. الرابع: تاريخ الموجات العربية قبل العربية قبل العروبة الصريحة ودولها ومآثرها في بلاد الشام. الخامس: تاريخ الجنس العربي بعد العروبة الصريحة قبل الإسلام في جزيرة العرب وبلاد الشام والعراق ودوله ومآثره. السادس: تاريخ الجنس العربي في الإسلام تحت راية النبي صلّى الله عليه وسلم. السابع: تاريخ الجنس العربي في الإسلام تحت راية الخلفاء الراشدين. الثامن: تاريخ الجنس العربي في الإسلام تحت راية الأمويين.

ومجموع صفحات الأجزاء الثمانية نحو (3200) صفحة من عام 1959 وعام 1963 وطبعت في صيدا. 21- مأساة فلسطين سنة 1960 دمشق. 22- جهاد الفلسطينيين سنة 1960 القاهرة. 23- العرب والعروبة في حقبة التغلب التركي من سنة 250 هجرية إلى سنة 1336، ثلاثة أجزاء: الأول: تاريخ الدول والإمارات والأسر الإقطاعية الحاكمة في جزيرة الفرات وشمال سورية ولبنان ولمحة في مراحل توطد السيادة العربية الحديثة في لبنان. الثاني: تاريخ الدول والإمارات والأسر الإقطاعية الحاكمة في سائر أنحاء سورية وفي العراق وفي فلسطين وشرقي الأردن. وحركة القبائل العربية إلى اليوم في بلاد الشام والعراق ولمحة في مراحل توطد السيادة العربية الحديثة في العراق وسورية والأردن. الثالث: تاريخ الدول والإمارات العربية في وادي النيل مصر والسودان وفي المغرب الأقصى والجزائر وتونس وليبيا. وحركة القبائل العربية في هذه البلاد إلى اليوم. ولمحة في مراحل توطد السيادة العربية الحديثة في مصر والسودان وليبيا وتونس والجزائر والمغرب الأقصى. ومجموع صفحاتها 2042 صفحة بين عامي 1959- 1961 دمشق. 24- عروبة مصر في التاريخ وبعد الفتح الإسلامي (رسالتان) سنة 1961 القاهرة. 25- التفسير الحديث (اثنا عشر جزءا) سنة 1961- 1964 القاهرة وعكف بعد ذلك بضع سنين في تنقيح وتصحيح الأجزاء المطبوعة حتى جاءت والحمد لله على الوجه الذي جاءت عليه والذي يرجو أن يكون التفسير صار بها فريدا مستكملا محققا للآمال نافعا للمسلمين وهدية متواضعة خاضعة لكتاب الله المجيد.

26- المرأة في القرآن والسنة. طبع في صيدا سنة 1967 وصفحاته نحو 280. 27- الإسلام والاشتراكية. طبع في المطبعة العصرية في صيدا سنة 1968 وصفحاته 255. 28- الجذور القديمة لسلوك وأخلاق وأحداث بني إسرائيل واليهود واستطراد إلى ما نشب من صراع بينهم وبين العرب. طبع في دمشق سنة 1969 وصفحاته 100 بواسطة مكتبة أطلس. 29- قصة الغزوة الفلسطينية. طبع ملحقا لمجلة الوعي الإسلامي في الكويت سنة 1970 وصفحاته 70. 30- نشأة الحركة العربية الحديثة: طبع في المطبعة العصرية في صيدا سنة 1972 وصفحاته 512. 31- القرآن والمبشرون. طبع بواسطة المكتب الإسلامي في دمشق سنة 1972 وصفحاته 468. 32- القرآن والملحدون. طبع بواسطة المكتب الإسلامي في دمشق سنة 1973 وصفحاته 435. 33- الجزء الأول من كتاب (في سبيل قضية فلسطين والوحدة العربية ومن وحي النكبة وفي سبيل معالجتها) . طبع في المطبعة العصرية في صيدا سنة 1973 وصفحاته 510. 34- الجهاد في سبيل الله في القرآن والحديث سنة 1975 في دمشق. وصفحاته 392. 35- مذكرات وتسجيلات محمد عزّة دروزة 97 عاما في الحياة، سجلّ حافل بمسيرة الحركة العربية والقضية الفلسطينية، في 6 مجلدات، حوالى 4500 صفحة- دار الغرب الإسلامي- بيروت- 1993. فيكون عدد كتبه المطبوعة 35 ومفرداتها (70) وعدد صفحاتها بما في ذلك ما زيد على ما تكرر طبعه منها نحو خمسة وعشرين ألفا.

وفي خزانة المؤلف المخطوطات الآتية: 1- عبرة من تاريخ فلسطين القديم. وهي مجموعة مقالات نشرت للمؤلف عن أحوال فلسطين وشرق الأردن قبل الغزوة الإسرائيلية القديمة ومراحل الصراع بين أنقرة وأهل البلاد إلى أن انهار كيانهم وبقيت البلاد لأهلها القدماء الذين انضم إليهم أرومات صريحة العروبة قبيل الإسلام وبعده فصار الجميع شعبا عربيا يملأ شرق الأردن وفلسطين. 2- مقالات إسلامية وهي مجموعة مقالات إسلامية نشرت للمؤلف في مجلات الوعي الإسلامي في الكويت وحضارة الإسلام والمجمع العلمي في دمشق منذ سنة 1967. 3- بأقلام الآخرين: وهي مجموعة مقالات ورسائل في صدد كتب المؤلف كتبها كتاب آخرون ونشرت في بعض الصحف والمجلات أو أرسلت كرسائل للمؤلف. 4- مخطوطات قديمة أخرى كتبها المترجم منذ خمسين سنة. ووجدها في كراسات. في بعضها بعض ما كان يلقيه من محاضرات اجتماعية وأدبية وتربوية على الطلاب الثانويين في مدرسة النجاح في اجتماعات عامة كان يعقدها لهم. وفي بعضها تلخيصات لكتب عديدة قرأها وتعليقات عليها وبحوث أخرى كانت لها مناسباتها. وفي بعضها محاضرات ألقاها في بعض أندية فلسطين التي كان يدعى إليها. ومن الجدير بالذكر أن المقالات التي جمعت في المجموعات المذكورة في الرقمين 1 و 2 وفي مجموعة الكتاب المطبوع المذكور في الرقم (33) ليس كل ما كتبه المترجم ونشر له من مقالات. وربما هو ما كان من ذلك منذ سنة 1948 وبعدها. ولقد كتب قبل ذلك عشرات المقالات والبحوث ونشرت في صحف ومجلات فلسطين وسورية ولبنان والعراق ومصر. ولقد بدأ بذلك في سنة 1911 حيث كتب في سنتي 1911- 1913 نحو عشرين مقالا نشرتها له جريدة الحقيقة التي كان

يصدرها في بيروت كمال عباس في مواضيع اجتماعية ووطنية وأدبية ثم واصل ذلك. وكل ما في الأمر أنه لم يحفظ أصول مقالاته التي كتبها ونشرت له ولا مطبوعاتها قبل سنة 1948 كما بعد سنة 1948. وهو قوي الإيمان بالله والإسلام والعروبة ومستقبلهما. وهو صلب وصريح في عقائده ومبادئه الدينية والوطنية والقومية والخلقية. لا يماري ولا يداجي ولا يتذبذب. وخطته في الحياة تعظيم والتزام الواجب والحق والإنصاف والصدق ومواجهة الخطوات وأحداث الحياة الخاصة والعامة بالتفاؤل والأناة وعدم التبرم. وعدم التحرش بأحد بدون موجب أخلاقي أو وطني أو قومي وعدم الانسجام والاندماج في الدسائس والمداورات. والاستمتاع بالحياة مع القصد والاعتدال. والقناعة وعدم الحرص على المال. وحب الخير للناس والبر بهم ومساعدتهم ما استطاع إلى ذلك سبيلا. والتعلق بحياة الأسرة. والمرونة وعدم التزمت. والسير مع ركب الحياة التقدمي في نطاق المعقول المفيد. وقد تزوج لأول مرة بابنة عمه السيدة فاطمة بنت قاسم دروزة. وكانت له نعم الرفيقة الأمينة البارة وأنجب منها أولادا عاش منهم زهير وسلمى ونجاح وردينة. وتوفاها الله في سنة 1938 في دمشق فتزوج للمرة الثانية سنة 1946 بالسيدة لائقة بنت أنيس التميمي وكانت له كذلك نعم الرفيقة الأمينة البارة ولم ينجب منها وتوفاها الله تعالى في دمشق كذلك سنة 1975. غفر الله ذنوبه وجعله من الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا وصدقوا ما عاهدوا الله عليه وشمله برضوانه ورحمته وتوفاه على الإيمان إنه سميع مجيب.

الفهارس العامة

الفهارس العامة - فهرس الأحاديث والأقوال- فهرس الفقه- فهرس الأعلام- فهرس الشعوب والقبائل والطوائف- فهرس الأماكن- فهرس الأصنام- فهرس الأيام والغزوات والوقائع- فهرس الشعر- فهرس الكتب الواردة في التفسير- فهرس المحتويات

1 - فهرس الأحاديث والأقوال

1- فهرس الأحاديث والأقوال - أ- «آخر آية نزلت على النبي صلّى الله عليه وسلم آية الربا ... » : 6/ 493. 8/ 297 «آخر سورة أنزلت سورة المائدة والفتح ... » : 9/ 8 «آخر سورة نزلت براءة وآخر آية نزلت ... » : 8/ 297 «آلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم من نسائه فأقام في مشربة له تسعا وعشرين ليلة ... » : 6/ 408 «آلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم من نسائه وحرّم فجعل الحرام حلالا وجعل ... » : 6/ 408 «آمنوا بالتوراة والزبور والإنجيل ... » : 6/ 249 «آمين خاتم ربّ العباد على عباده المؤمنين ... » : 1/ 309 «آئبون تائبون إن شاء الله عابدون ... » : 4/ 493 «آئبون تائبون لربنا حامدون ... » : 9/ 540 «آية الإيمان حبّ الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار ... » : 7/ 318 «آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف ... » : 5/ 305. 6/ 137 8/ 560. 9/ 503 «ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك ... » : 6/ 391 «أبشروا يا معاشر صعاليك المهاجرين بالنور ... » : 6/ 62 «أبشري يا عائشة إن الله قد برأك ... » : 8/ 384 «الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجرا ... » : 2/ 379 «أبغض الحلال عند الله الطلاق ... » : 6/ 413 «أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخصم ... » : 4/ 477. 5/ 80 «أبغض الناس إلى الله ثلاثة ملحد في الحرم ومبتغ في الإسلام ... » : 9/ 152 «أتاني آت من ربّي عزّ وجلّ فقال من صلّى عليك من أمتك صلاة ... » : 7/ 415

«أتاني آت من عند ربّي فخيّرني بين أن يدخل نصف ... » : 1/ 484 «أتاني جبريل عليه السلام فبشّرني أنه من مات من أمتك ... » : 4/ 187. 6/ 188 «أتاني جبريل فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله ... » : 8/ 144، 207 «أتاني ربي في أحسن صورة أحسب يعني في النوم ... » : 2/ 98 «أتاني ربي الليلة في أحسن صورة أحسب يعني النوم ... » : 2/ 93 «أتاني الليلة آتيان فابتعثاني فانتهينا إلى مدينة مبنية ... » : 2/ 94 «أتتني امرأة تبتاع تمرا فقلت لها إن في البيت تمرا أطيب ... » : 3/ 548 «أترون هذه [السخلة الميتة] هانت على أهلها حتى ... » : 4/ 504. 5/ 537 «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم سمعنا وعصينا ... » : 6/ 518 «أتزعم أنّا لم نؤت من العلم إلا قليلا وقد أوتينا التوراة ... » : 3/ 424 «اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها ... » : 2/ 559. 3/ 551. 4/ 422 «اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم ... » : 8/ 57، 58 «اتقوا الشرك فهو أخفى من دبيب النمل ... » : 4/ 30 «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ... » : 4/ 54 «أتي الله بعبد من عبيده يوم القيامة قال ماذا عملت لي في الدنيا ... » : 6/ 503 «أتى جبريل النبي صلّى الله عليه وسلم فقال له إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك ... » : 2/ 512 «أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم الأنصار في مسجد قباء فقال إن الله تعالى ... » : 9/ 536 «أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقناع عليه رطب فقال مثل كلمة طيبة كشجرة ... » : 5/ 230 «أتي عبد الله بن مسعود بضرع وملح فجعل يأكل فاعتزل ... » : 6/ 281 «أتي النبي صلّى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصلّ عليه ... » : 8/ 98 «أتى النبي صلّى الله عليه وسلم حبر من اليهود وقال أرأيت إذ يقول الله ... » : 5/ 252 «أتى النبي صلّى الله عليه وسلم رجل فقال يا رسول الله ما الموجبتان فقال من مات ... » : 8/ 208 «أتى النبي صلّى الله عليه وسلم رجلان يختصمان في مواريث لهما ليست لهما بينة ... » : 6/ 322 8/ 232 «أتى النبي صلّى الله عليه وسلم عين من المشركين وهو في سفر فجلس مع أصحابه ... » : 8/ 520 «أتي النبي صلّى الله عليه وسلم مالا فأعطى قوما ومنع آخرين فبلغه أنهم عتبوا ... » : 5/ 400 «أتى يهودي على النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه فقال السام عليكم فردّ عليه القوم ... » : 8/ 480 «أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إني امرأة أستحاض حيضة ... » : 6/ 400

«أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم في نفر من الأشعريين فوافقته وهو غضبان ... » : 6/ 405 «أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم لحاجة فإذا هو يتغذى قال هلمّ إلى الغذاء ... » : 6/ 306 «أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال يا عدي اطرح ... » : 9/ 417 «أتيت النبي صلّى الله عليه وسلم فقلت له إني أسلمت وتحتي أختان فقال اختر أيتهما ... » : 8/ 62 «أتيت النبي صلّى الله عليه وسلم في دين كان على أبي فدققت الباب فقال من ذا ... » : 8/ 396 «أتينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب يعني النار بالقتل ... » : 2/ 262 «أتينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو متوسّد بردة في ظل الكعبة فشكونا إليه ... » : 6/ 376 «اثنتان في الناس هما بهما كفر الطعن بالنسب والنياحة ... » : 8/ 514 «اجتمع عند البيت قرشيان وثقفي أو ثقفيان ... » : 4/ 412 «اجتمع عيدان في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم فطر وجمعة فصلّى بهم ... » : 7/ 341 «اجتنبوا السبع الموبقات قالوا وما هنّ يا رسول الله قال الشرك بالله ... » : 1/ 542. 6/ 212 «اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله وما هنّ ... » : 2/ 108 «اجتنبوا هذه الكعاب الموسومة التي يزجر بها زجرا ... » : 9/ 226 «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا ... » : 1/ 335 «أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة ... » : 2/ 476 «أحبوا الله تعالى لما يغذوكم من نعمه وأحبوني ... » : 4/ 460 «احتبس عنّا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات غداة عن صلاة الصبح حتى كدنا ... » : 2/ 340 «احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت ... » : 8/ 135 «احشدوا فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن فحشد ... » : 2/ 68 «أحلّ لنا ذبائح أهل الكتاب وأحلّ نساؤهم ... » : 9/ 54 «أحلّت لنا ميتتان ودمان فأما الميتتان فالحوت ... » : 4/ 174 «احلف بالله الذي لا إله إلا هو ... » : 9/ 255 «أحيانا يأتيني الوحي مثل صلصلة الجرس ... » : 1/ 41 «أخبر النبي صلّى الله عليه وسلم برجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جمعا فقال غضبان ... » : 6/ 419 «أخبرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن الفردوس هي أعلى الجنة وأحسنها وأرفعها ... » : 5/ 109 «أخبرنا عبد الله أن محمدا صلّى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح ... » : 2/ 76 «أخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على ... » : 9/ 477

«اختلعت امرأة ثابت بن قيس فجعل النبي صلّى الله عليه وسلم عدتها حيضة ... » : 6/ 424 «اختلعت الربيع بنت معوّذ على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأمرها أن تعتدّ ... » : 6/ 423 «اختلف من كان قبلنا على إحدى وسبعين فرقة نجا منهم ثلاث ... » : 9/ 330 «اختلف الناس في آخر يوم رمضان فقدم أعرابيان ... » : 6/ 310 «أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان فأخرج من صلبه ... » : 2/ 529 «أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم كخ ... » : 7/ 57. 8/ 487 «أخذ عليهن لا ينحن ولا يخلون بحديث الرجل إلا مع محرم ... » : 9/ 292 «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ... » : 9/ 397 «أخرجوا اليهود من الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب ... » : 6/ 167. 9/ 397 «أخوف ما أخاف على أمتي زهرة الدنيا وكثرتها ... » : 4/ 466 «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ... » : 5/ 305 «ادرأوا الحدود بالشبهات ادفعوا القتل عن المسلمين ... » : 6/ 399. 8/ 84 «ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج ... » : 6/ 399. 8/ 84 «ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله فإن أجابوك ... » : 9/ 484 «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ... » : 2/ 412. 6/ 317 «ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعا ... » : 6/ 399. 8/ 84 «أدنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون خادم ... » : 6/ 104 «إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة لا يولّها ... » : 6/ 261 «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد ... » 5/ 281 «إذا أحبّ الله عبدا نادى جبريل إني قد أحببت ... » : 3/ 184 «إذا أخرج أهل التوحيد من النار وأدخلوا ... » : 4/ 35 «إذا أدخل الله أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ... » : 3/ 538 «إذا أدّيت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك ... » : 9/ 420 «إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه وقد أكل منه ... » : 9/ 40 «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل وإن قتلهن ... » : 9/ 39 «إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن ... » : 2/ 381 «إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه ... » : 7/ 258

«إذا أسلمت النصرانية قبل زوجها بساعة حرّمت عليه ... » : 9/ 286 «إذا أعطيتم فأغنوا ... » : 9/ 472 «إذا اقشعرّ جلد العبد من خشية الله تحاتت عنه ... » : 4/ 315 «إذا اقشعرّ جلد العبد من خشية الله حرمه الله ... » : 4/ 316 «إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وإذا شرب فليشرب ... » : 2/ 265 «إذا أمّن الإمام فأمنوا فإنه من وافق ... » : 1/ 308، 334 «إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم فإذا أراد أن يقوم ... » : 8/ 191 «إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فكلاهما من أهل النار ... » : 9/ 100 «إذا توضأت فخلّل بين أصابع يديك ورجليك ... » : 9/ 64 «إذا جاء كم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ... » : 8/ 78 «إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل ... » : 8/ 127 «إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة ... » : 6/ 229 «إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها وجب الغسل ... » : 8/ 127 «إذا جمع الله الأولين والآخرين فقضى بينهم ففرغ من القضاء ... » : 5/ 229 «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة ... » : 5/ 351 «إذا جمع الله الناس يوم القيامة ... » : 2/ 23 «إذا حدّث [المنافق] كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف ... » : 6/ 365 «إذا حدثتكم حديثا أنبأتكم بمصداقه من كتاب الله عزّ وجل ... » : 3/ 114 «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا ... » : 5/ 489 «إذا حركت المرأة لم يحلّ لها أن تظهر إلا وجهها ... » : 2/ 388 «إذا حرّم الرجل عليه امرأته فهي يمين يكفّرها لقد كان ... » : 6/ 408 «إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر ... » : 8/ 79 «إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس ... » : 2/ 379 «إذا دخل أهل الجنة الجنة قال يقول الله تعالى ... » : 2/ 199 «إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد إن لكم عند الله موعدا ... » : 3/ 462 «إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه ... » : 9/ 42 «إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده ... » : 5/ 364 «إذا دخلت على أهلك فسلّم يكون بركة عليك ... » : 4/ 533

«إذا ذكرت أخاك بما يكره فإن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ... » : 8/ 518 «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ... » : 4/ 91 «إذا رأيت الله يعطي على المعاصي فإن ذلك استدراج منه ... » : 7/ 275 «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان ... » : 9/ 377 «إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم وخفّت أماناتهم ... » : 9/ 248 «إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها ... » : 1/ 333 «إذا ركع أحدكم فقال في ركوعه سبحان ربّي العظيم ... » : 1/ 334، 513. «إذا زنت الأمة فتبين زناها فليجلدها ولا يثرّب ... » : 8/ 92 «إذا زوج أحدكم خادمه عبده أو أجيره فلا ينظر ... » : 2/ 387 «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنها أوسط الجنة ... » : 5/ 110 «إذا سلّم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم السام عليك ... » : 8/ 191 «إذا سمعتم [بالوباء] بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض ... » : 6/ 458 «إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين ... » : 5/ 139 «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلّوا عليّ ... » : 9/ 114 «إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن ... » : 7/ 343 «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدركم صلى ... » : 1/ 335 «إذا صلّى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا ... » : 1/ 339 «إذا صليتم عليّ فسلوا لي الوسيلة ... » : 9/ 114 «إذا ضيعت الأمانة فانتظر قيام الساعة ... » : 8/ 149 «إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمّهم الله بعذاب من عنده ... » : 7/ 31 «إذا عركت المرأة لم يحلّ لها أن تظهر إلّا وجهها وإلا ما دون هذا ... » : 8/ 405 «إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها ... » : 2/ 475. 9/ 198 «إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها ... » : 5/ 535 «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يمسح الحصى ... » : 5/ 302 «إذا قبر الميت أو قال أحدكم أتاه ملكان ... » : 4/ 375 «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان ... » : 1/ 350 «إذا قرأ الإمام فأنصتوا ... » : 2/ 561 «إذا قرأ الرجل القرآن وتفقّه في الدين ثم أتى باب السلطان ... » : 7/ 289

«إذا قرأتم الحمد فاقرأوا بسم الله الرحمن الرحيم ... » : 1/ 288 «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها ... » : 3/ 11. 4/ 281 «إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت ... » : 7/ 39 «إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين وخطيبهم ... » : 3/ 398 «إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفرها ... » : 4/ 465 «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه ... » : 8/ 481 «إذا كنتم في الصلاة فاقنتوا ولا تتكلموا ... » : 6/ 452 «إذا لقي الرجل أخاه المسلم فليقل السلام عليكم ... » : 4/ 533. 8/ 191 «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية ... » : 2/ 115. 5/ 149. 9/ 562 «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قلت يا رسول الله ... » : 2/ 379. 3/ 548 «إذا وقع على ذات محرم فاقتلوه ... » : 8/ 360 «إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا حسبنا الله ... » : 7/ 272، 273 «أذكّركم في أهل بيتي أذكّركم في أهل بيتي أذكّركم في أهل بيتي ... » : 7/ 380 «أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله ... » : 4/ 354 «أذن لي أن أحدثكم عن ملك من حملة العرش ... » : 4/ 356 «أرأيتم لو أنّ نهرا بباب أحدكم يغتسل منه ... » : 1/ 342 «أربع إذا كنّ فيك فلا عليك مما فاتك من الدنيا ... » : 5/ 305 «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا ... » : 1/ 370، 371. 3/ 382. 6/ 138. 8/ 560. 9/ 503 «ارتقيت فوق بيت حفصة لبعض حاجتي فرأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقضي ... » : 6/ 261 «أرسل إليّ ربّي أن أقرأ القرآن على حرف ... » : 1/ 245 «أرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى اليهود فقال هل تدرون لم أرسلت إليهم ... » : 5/ 251 «أرسل فرعون خلف بني إسرائيل ألف ألف وخمسمائة ألف ملك ... » : 1/ 222 «الأرض كلّها مسجد إلا الحمام والمقبرة ... » : 1/ 337. 8/ 426 «أريت ليلة أسري بي موسى بن عمران رجلا آدم ... » : 5/ 354 «أسبغ الوضوء وخلّل بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق ... » : 9/ 64 «أسبغوا الوضوء فإني سمعت أبا القاسم يقول ويل ... » : 9/ 61

«استأذن رجل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنا عنده فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... » : 4/ 370 «استأذن رجل على النبي صلّى الله عليه وسلم فقال ائذنوا له بئس أخو العشيرة ... » : 8/ 518 «استأذن عليّ أفلح أخو أبي القعيس بعد ما أنزل الحجاب ... » : 7/ 412 «استبّ رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال اليهودي في قسم ... » : 6/ 465 «استبّ رجلان عند النبي صلّى الله عليه وسلم فجعل أحدهما تحمرّ عيناه ... » : 2/ 555 «استعمل النبي صلّى الله عليه وسلم رجلا من الأسد يقال له ابن اللتبية على الصدقة ... » : 7/ 261 «استعن بالله ولا تعجز فإن أصابك أمر فقل ... » : 2/ 291 «استغنوا عن الناس ولو بشوص السواك ... » : 9/ 471 «استفتى سعد بن عبادة رسول الله صلّى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه توفيت ... » : 6/ 42، 111 «استكثروا من الباقيات الصالحات قيل وما هي يا رسول الله ... » : 3/ 177 «استكرهت امرأة على الزنا في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم فدرأ عنها الحدّ ... » : 8/ 362 «استيقظ النبي صلّى الله عليه وسلم من نومه وهو محمر وجهه وهو يقول ... » : 5/ 104 «الإسلام يجبّ ما قبله والتوبة تجبّ ما قبلها ... » : 7/ 48 «أسلم وغفار وشيء من جهينة ومزينة خير عند الله ... » : 9/ 521 «أسلمت امرأة على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فتزوجت فجاء زوجها الأول ... » : 9/ 285 «أسلمت وعندي خمس نسوة فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم اختر أربعا ... » : 8/ 15 «اشتكى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثا فجاءت ... » : 1/ 552 «أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل ويشرب الخمر ... » : 8/ 316 «اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء ... » : 8/ 188 «أشهد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أخبرني أن جبريل قال له قل أعوذ بربّ الفلق ... » : 2/ 57 «أشهد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إنها ستكون فتنة ... » : 9/ 100 «أشهد أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول خمس صلوات ... » : 1/ 342 «أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة ... » : 6/ 352 «أصاب عمر أرضا بخيبر فأتى النبي صلّى الله عليه وسلم يستأمره فيها فقال يا رسول الله ... » : 7/ 189. 8/ 46 «أصابنا عطش وظلمة فانتظرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليصلي بنا ... » : 2/ 69 «أصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتي أمتي ما يوعدون ... » : 7/ 317 «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ... » : 9/ 523

«أصيب رجل في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه ... » : 9/ 475 «أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا فكان لليهود ... » : 5/ 201 «أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون ... » : 8/ 119 «اطلع النبي صلّى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال ... » : 4/ 195. 5/ 103 «اعبدوا الرحمن وأطعموا الطعام وأفشوا السلام ... » : 4/ 532. 8/ 190 «اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه ... » : 1/ 332 «اعتلّ بعير لصفية بنت حيي وعند زينب فضل ظهر ... » : 8/ 514 «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي نصرت بالرعب ... » : 6/ 465 «أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش ... » : 6/ 124، 522 «أعطيت مكان التوراة السبع الطوال ومكان الزبور ... » : 1/ 80، 81 «أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن أمر لم يحرم ... » : 9/ 241 «أعظم الناس في المصاحف أجرا أبو بكر ... » : 1/ 70 «اعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء ... » : 2/ 290 «أعلنوا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليه بالدفوف ... » : 8/ 79 «أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر ... » : 5/ 159 «أعيذك بالله من ذلك يا أبا القاسم ما كان الله ... » : 1/ 366 «افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرّقت ... » : 7/ 202 «افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة ... » : 4/ 199 «افتقدت قطيفة حمراء يوم بدر فقال بعض الناس لعلّ رسول الله أخذها ... » : 7/ 259 «أفضل الجهاد كلمة حقّ عند سلطان جائر ... » : 9/ 198 «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر ... » : 2/ 474. 4/ 367 «أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله ... » : 1/ 308. 3/ 295 «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله الحرام وأفضل الصلاة ... » : 1/ 338 «أفضله لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة مؤمنة ... » : 2/ 370 «أقام النبي صلّى الله عليه وسلم تسعة عشر يقصر فنحن إذا سافرنا تسعة عشر ... » : 8/ 226 «أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الحديبية راجعا فقال رجل من أصحابه ... » : 8/ 578 «أقبل صهيب مهاجرا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من قريش فنزل ... » : 6/ 363 «أقبلت عير يوم الجمعة ونحن مع النبي صلّى الله عليه وسلم فثار الناس إلا اثني عشر رجلا ... » : 7/ 335

«أقبلت مع النبي صلّى الله عليه وسلم فسمع رجلا يقرأ قل هو الله أحد ... » : 2/ 69 «أقبلت يهود إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقالوا يا أبا القاسم أخبرنا عمّا حرّم إسرائيل ... » : 7/ 192 «أقبلت يهود إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقالوا يا أبا القاسم أخبرنا عن الرعد ... » : 5/ 524 «اقتلوا الوزغ فإنه كان ينفخ على نار إبراهيم ... » : 5/ 277 «أقرأ جبريل النبي صلّى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب فلما ... » : 1/ 309 «أقرأني جبريل على حرف فراجعته فلم أزل ... » : 1/ 245. 4/ 320 «أقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله تعالى ... » : 8/ 45 «أقيمت الصلاة فأقبل علينا النبي صلّى الله عليه وسلم بوجهه فقال أقيموا ... » : 3/ 270 «أكبر الكبائر الشرك بالله والفرار يوم الزحف ... » : 7/ 25 «أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله ... » : 3/ 178 «أكثروا ذكر النار فإن حرّها شديد ... » : 1/ 419 «أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم ... » : 5/ 421 «أكره أن تقول العرب لما ظفر محمد وأصحابه أقبل ... » : 9/ 490 «أكل الربا من جملة الموبقات السبع التي أمر النبي صلّى الله عليه وسلم باجتنابها ... » : 6/ 498 «الآن حمي الوطيس ... » : 9/ 384، 385 «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصدقة ... » : 4/ 477 «ألا أخبركم بأكبر الكبائر قالوا بلى يا رسول الله قال ... » : 2/ 109. 5/ 401 «ألا أخبركم بالتيس المستعار قالوا بلى يا رسول الله ... » : 6/ 429 «ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف ... » : 1/ 371. 2/ 455. 3/ 383 «ألا أخبركم بخير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها ... » : 5/ 401 «ألا أخبركم لم سمّى الله خليله الذي وفّى ... » : 2/ 112 «ألا أدلك على أبواب الخير الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة ... » : 6/ 302 «ألا أدلّك على تجارة ... » : 8/ 236 «ألا أدلّكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع الدرجات ... » : 9/ 60 «ألا إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ... » : 9/ 113 «ألا إن بعد زمانكم هذا زمان ... » : 4/ 289 «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قلنا بلى يا رسول الله قال الإشراك بالله ... » : 6/ 46

«ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم ... » : 5/ 484 7/ 395 «ألا أنبئكم ما العضه هي النميمة ... » : 1/ 370 «ألا إنكم وفيتم سبعين أمة أنتم آخرها وأكرمها على الله ... » : 7/ 214 «ألا إنها ستكون فتنة ... » : 2/ 527 «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك ... » : 4/ 174. 5/ 123، 139 «ألا فليبلغ الشاهد الغائب ... » : 9/ 248 «ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام الذي ... » : 2/ 310. 8/ 409 «ألا لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح ... » : 8/ 512 «ألا لا يمنعن رجلا هيبة الناس أن يقول الحق إذا علمه ... » : 9/ 198 «ألا هل مشمّر إلى الجنة فإن الجنة لا حظر لها ... » : 9/ 495 «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أوليائهم ... » : 8/ 426 «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر ... » : 8/ 41 «ألست تقول إن عيسى كلمة الله وروح منه قال بلى ... » : 7/ 110، 117 «الله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في ... » : 4/ 463 «الله الله في أصحابي الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي ... » : 7/ 317. 8/ 325، 494. 9/ 523 «الله ورسوله مولى من لا مولى له والخال وارث ... » : 8/ 39 «اللهم اجعل له لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وارزقه حبي ... » : 9/ 528 «اللهمّ أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة ... » : 9/ 424 «اللهمّ اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار ... » : 7/ 318 «اللهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ... » : 7/ 25 «اللهمّ إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد ... » : 2/ 287 «اللهمّ إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني ... » : 5/ 25 «اللهمّ زد هذا البيت. تشريفات وتعظيما وتكريما ومهابة ... » : 9/ 582 «اللهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم ... » : 7/ 414 «اللهمّ لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي يدا ولا نعمة ... » : 8/ 495 «اللهمّ لا نبغيها ما أعطاكم الله خير مما أعطاهم كانوا إذا فعل ... » : 6/ 218

«اللهمّ من ولي من أمر أمتي شيئا فشقّ عليهم فاشقق عليه ... » : 2/ 311 «ألم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار قلت إني أفعل ذلك ... » : 6/ 86 «ألم تر آيات أنزلت عليّ الليلة لم ير ... » : 2/ 45 «أليس قد عرفوا محمدا صغيرا وكبيرا وعرفوا نسبه وصدقه ... » : 5/ 326 «أم القرآن هي السبع المثاني ... » : 4/ 57 «أما الذي قد مسّ امرأته ثم اعترض عنها فلا يضرب له ... » : 6/ 411 «أما إن كل بناء وبال على صاحبه إلّا ما لا، إلا ما لا، يعني ... » : 9/ 424 «أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد ... » : 4/ 105 «أما بعد أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة من العنب ... » : 9/ 224 «أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة ... » : 8/ 383 «أما تقرأ في سورة إسرائيل وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ... » : 3/ 384 «أما يؤذيك ريح هؤلاء ونحن سادات مضر وأشرافها ... » : 5/ 65 «أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب ... » : 2/ 381. 8/ 425 «أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بلالا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة إلا الإقامة ... » : 7/ 343 «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ... » : 1/ 437 «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله ... » : 1/ 437. 2/ 38. 5/ 49. 9/ 356، 357 «أمرت بأربع أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ... » : 9/ 353 «أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا ثم قالت ... » : 1/ 75 «أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا فقالت إذا بلغت ... » : 6/ 451 «أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن وأن لا نضحي ... » : 6/ 48 «أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أتعلّم له كتاب يهود قال إني والله ... » : 6/ 166 «أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أتعلّم له كتاب يهود قال والله ما آمن ... » : 6/ 21 «أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوذتين في دبر كل صلاة ... » : 2/ 46 «أمّني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين ... » : 1/ 329 «أمهلوا حتى تدخلوا لكي تمتشط الشعثة ... » : 8/ 246 «إنّ آدم لما أهبطه الله إلى الأرض قالت الملائكة أي ربّ ... » : 6/ 210 «إن آدم نزل من الجنة ومعه خمسة أشياء ... » : 1/ 228

«إن آية إِنَّما جَزاءُ.. نزلت في قوم من ... » : 1/ 209 «إن آية إِنَّما جَزاءُ.. نزلت في قوم هلال بن عويمر ... » : 1/ 210 «إن آية المناجاة لم يعمل بها أحد قبلي ولا عمل بها أحد بعدي ... » : 8/ 490 «أن أبا بكر جلد في الخمر بالجريد والنعال أربعين ... » : 9/ 224 «إن أبا بكر الصديق لم يكن يأخذ من مال زكاة حتى يحول ... » : 9/ 465 «إن أبا بكر قال بعد أن تمّ جمع القرآن التمسوا ... » : 1/ 68 «إن أبا بكر كان يأكل مع النبي صلّى الله عليه وسلم فأنزلت هذه الآية إِذا زُلْزِلَتِ فرفع يده من الطعام ... » : 6/ 121 «إن أبا بكر لما قال سمّوه [كتاب الله] قال بعضهم سمّوه إنجيلا ... » : 1/ 68 «إنّ أبا جهل قال للنبي نحن لا نكذبك ولكنّا نكذّب ... » : 4/ 84 «إن أبا ذرّ سأل النبي صلّى الله عليه وسلم أي الرقاب أفضل فقال أغلاها ... » : 2/ 262 «إن أبا طلحة سأل النبي صلّى الله عليه وسلم أن أيتام ورثوا خمرا قال أهرقها ... » : 9/ 225 «إن أبا لهب قال للنبي ماذا أعطى يا محمد إن آمنت ... » : 1/ 496 «إنّ أبا هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يا أيها الناس إن الله طيب ... » : 5/ 317 «إن إبراهيم عليه السلام يرى أباه يوم القيامة ... » : 3/ 251 «إن أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخصم ... » : 6/ 364 «إن ابن عباس جمع القرآن في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم ... » : 1/ 83 «إن ابن عباس سئل عن هذه الآية فقال أناس كانوا ... » : 3/ 504 «أن ابن عمر وابن عباس كانا يقصران ويفطران في أربعة برد ... » : 8/ 226 «إنّ ابن مسعود كان يجني سواكا من أراك وكان دقيق ... » : 2/ 185 «أن ابنة النضر لطمت جارية فكسرت ثنيتها فأتوا ... » : 9/ 137 «أن أبي بن كعب سأل أبا ذرّ كم تعدون سورة الأحزاب قال ثلاثا وسبعين ... » : 7/ 346 «إن اتساق السور كاتساق الآيات والحروف ... » : 1/ 84 «إن أحبّ الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم منه مجلسا إمام ... » : 2/ 310. 8/ 148 «أن أحبار يهود قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم بالمدينة يا محمد ... » : 4/ 259 «إن أحدكم إذا قام يصلي جاءه الشيطان فلبس عليه ... » : 1/ 335 «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة ... » : 4/ 374. 5/ 235 «إن أحسن ما غيّر به هذا الشيب الحناء والكتم ... » : 8/ 246

«إن أحقّ الشرط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج ... » : 8/ 77 «أن أخت الربيع أم حارثة جرحت إنسانا فاختصموا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم ... » : 9/ 137 «إن أختي نذرت أن تحجّ وقد ماتت فقال النبي صلّى الله عليه وسلم لو كان عليها دين ... » : 6/ 42 «إنّ إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم ... » : 7/ 320 «إنّ أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط ... » : 2/ 424 «إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ... » : 2/ 23. 4/ 30. 5/ 114. 8/ 121 «إن أخوين كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة ... » : 6/ 111، 405 «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ... » : 2/ 200 «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه ... » : 6/ 114 «أن أذى بني إسرائيل لموسى هو اتّهامهم إيّاه بقتل هارون فأمر الله ... » : 7/ 427 «إن أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم من هذه الليلة ... » : 4/ 536 «إن الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ... » : 3/ 546 «إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ ... » : 4/ 548 «أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم كانوا يرفعون أبصارهم ... » : 5/ 302 «إن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدى هدى ... » : 4/ 199. 5/ 141 «إن أعرابيا سأل النبي صلّى الله عليه وسلم عن الجنة فقال فيها عنب ... » : 5/ 546 «إن أعرابيا عرض لرسول الله صلّى الله عليه وسلم في مسير له فقال ... » : 5/ 535 «أن أعرابيا قال يا رسول أي الأعمال أفضل ... » : 5/ 485 «إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرّم فحرّم من أجل ... » : 6/ 220 «إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من الصلاة ... » : 9/ 424 «إن الذين يحملون العرش ما بين سوق أحدهم ... » : 1/ 215 «إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة ... » : 5/ 338 «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا ... » : 5/ 194. 6/ 240 «إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة وأعطاني المئين ... » : 6/ 126 «إن الله أعطى كلّ ذي حق حقّه وإنه لا وصيّة لوارث ... » : 6/ 294 «إن الله أعظم وأعزّ من أن يظلم ولكن خلطنا ... » : 2/ 517 «إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن فقرأ ... » : 1/ 73 «إن الله أمرني أن أقول لك أولى لك فأولى ... » : 4/ 555، 556

«إن الله أنزل عليهم مائدة من خبز ولحم وأمروا أن لا يخونوا ... » : 9/ 260 «إن الله إنما ذكر ذا القرنين لأن حكمته ... » : 1/ 219 «إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى ... » : 4/ 250 «إن الله بعث أربعة آلاف نبي ... » : 4/ 396 «إن الله بعث ثمانية آلاف نبي أربعة آلاف ... » : 4/ 397 «إن الله بعثني رحمة مهداة ... » : 5/ 295 «إن الله بعثني لإتمام مكارم الأخلاق ... » : 2/ 558 «إن الله بعد أن استخرج من ظهر آدم ذريته وأشهدهم ... » : 2/ 529 «إن الله تبارك وتعالى فرض صيام رمضان عليكم وسننت لكم ... » : 6/ 301 «إن الله تبارك وتعالى يعذب يوم القيامة الذين يعذبون الناس ... » : 9/ 405 «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا ... » : 2/ 400. 6/ 86 «إن الله تعالى أبقى سفينة نوح حتى أدركها أوائل ... » : 2/ 284 «إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ... » : 2/ 353 «إن الله تعالى خلق لوحا محفوظا من درة ... » : 2/ 161 «إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيّعوها وحدّ حدودا ... » : 9/ 242 «إن الله تعالى لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها ... » : 3/ 115 «إن الله تعالى لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات ... » : 9/ 476 «إن الله تعالى مع القاضي ما لم يجر فإذا جار تبرّأ الله منه ... » : 8/ 148 «إن الله تعالى يحب العبد المفتّن ... » : 4/ 339 «إن الله تعالى يقول حرّمت الظلم على نفسي وجعلته ... » : 2/ 239. 3/ 75 «إن الله تعالى يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة ... » : 9/ 495 «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه ... » : 9/ 527 «إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية ... » : 2/ 530 «إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم ... » : 2/ 540 «إن الله خلق الخلق فجعلني من خيرهم من خير فرقهم ... » : 5/ 194 «إن الله خلق الملائكة من نور وخلق الجان من مارج ... » : 2/ 349 «إن الله رفيق يحبّ الرفق ويعطي على الرفق ... » : 3/ 394 «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ... » : 4/ 105. 8/ 440، 567

«إن الله سيخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق ... » : 2/ 184 «إن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيرا عجل عقوبة ذنبه في الدنيا ... » : 8/ 209 «إن الله عزّ وجل حبس عن مكة الفيل وسلّط عليها رسوله ... » : 2/ 180 «إن الله عز وجل خلق خلقه في ظلمة فألقى عليهم من نوره ... » : 2/ 289 «إن الله عزّ وجلّ قد وكلّ بالرحم ملكا ... » : 1/ 461. 2/ 288 «إن الله عزّ وجلّ يستخلص رجلا من أمتي ... » : 5/ 271 «إن الله قال لا يقولنّ أحدكم يا خيبة الدهر ... » : 4/ 569 «إن الله قال [للشهداء] هل تشتهون شيئا قالوا يا ربّ نريد ... » : 7/ 268 «إن الله قد بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما ... » : 5/ 180. 8/ 355 «إن الله قد عصمني من الجن والإنس ... » : 9/ 181 «إن الله قد وضع عن أمتي الخطأ والنسيان ... » : 2/ 401 «إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم ... » : 5/ 319 «إن الله قسم لكل إنسان نصيبه من الميراث فلا يجوز لوارث وصية ... » : 9/ 583 «إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق ... » : 6/ 122 «إن الله لا يعذّب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر ... » : 7/ 31. 9/ 198 «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ... » : 4/ 149 «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم ... » : 6/ 523 «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ألوانكم ولكن ينظر ... » : 6/ 52 «إن الله لا ينظر إلى من يجرّ إزاره بطرا ... » : 3/ 345 «إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم ... » : 9/ 421 «إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء ... » : 1/ 351 «إن الله لما أصيب إخوانكم بأحد جعل أرواحهم في جوف طير خضر ... » : 7/ 268 «إن الله لما فرغ من خلق السموات والأرض ... » : 1/ 447 «إن الله لما كلّم موسى كلّمه بالألسنة كلّها ... » : 2/ 454 «إن الله لما كلّم موسى يوم الطور كلّمه بغير الكلام ... » : 2/ 454 «إن الله ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة صانعه يحتسب في صنعته ... » : 7/ 84 «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ... » : 1/ 388. 3/ 74، 537. 4/ 92. 5/ 545

«إن الله ناجى موسى بمائة ألف كلمة ... » : 2/ 454 «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان ... » : 4/ 112، 370. 5/ 190. 6/ 86، 523 «إن الله وكلّ بعبده ملكين يكتبان عليه ... » : 2/ 231 «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ... » : 2/ 157 «إن الله يحبّ الأخفياء والأتقياء والأبرياء الذين إذا غابوا ... » : 8/ 495 «إن الله يحبّ أن تؤتى رخصه ... » : 4/ 173 «إن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها ... » : 5/ 168 «إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه ... » : 5/ 363 «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ... » : 2/ 157 «إن الله يقول أنا خير قسيم لمن أشرك بي ... » : 5/ 113 «إن الله يقول لعيسى عن محمد هو عبدي المتوكل المختار ... » : 8/ 570 «إن الله يقول من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ... » : 6/ 203، 204 «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ... » : 9/ 217 «إن الله ينهاكم عن التعرّي فاستحيوا من ملائكة الله ... » : 5/ 421 «إن الله يوحي إلى عيسى بعد أن يقتل الدجال بأنه أخرج عبادا ... » : 5/ 103 «إن الألواح كانت من زبرجد ... » : 1/ 217 «إن ألواح موسى تسعة ... » : 1/ 217 «إن ألواح موسى عشرة ... » : 1/ 217 «إن ألواح موسى كانت وفر سبعين بعيرا ... » : 1/ 217 «إن ألواح موسى من زبرجدة خضراء ... » : 1/ 217 «إن ألواح موسى من ياقوتة حمراء ... » : 1/ 217 «إن أم سعد بن عبادة توفيت وهو غائب عنها فقال ... » : 2/ 114 «إن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة ... » : 2/ 381 «إنّ أم سليم جاءت إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن الله لا يستحي ... » : 8/ 126 «إن أمتي من يشفع للفئام ... » : 1/ 484 «إن أمتي يدعون يوم القيامة غرّا محجلين من آثار الوضوء ... » : 9/ 59 «إن امرأتي حبلى فأخبرني ماذا تلد وبلادنا ... » : 4/ 262 «أن امرأة أتت النبي صلّى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني نذرت أن أضرب ... » : 6/ 110

«إن امرأة أو مأت من وراء ستر بيدها كتاب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... » : 8/ 246 «أن امرأة بدوية جاءت في صدر الإسلام إلى المدينة ... » : 6/ 43 «إن امرأة جاءت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالت جئت لأهب لك نفسي ... » : 8/ 74 «إن امرأة جاءت بابن لها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن ابني به جنون ... » : 6/ 504، 505 «إن امرأة دخلت على عائشة فلما قامت لتخرج أشارت عائشة ... » : 8/ 518 «أن امرأة ركبت البحر فنذرت إن نجّاها الله أن تصوم ... » : 6/ 42 «إن امرأة قالت يا رسول الله ألا أجعل لك شيئا تقعد عليه ... » : 2/ 382 «إن امرأة من الأنصار يقال لها أم زيد كانت تحت رجل ... » : 8/ 505 «إن امرأة من أهل دومة الجندل جاءت إليها عقب وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم ... » : 6/ 211 «إن أناسا قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ... » : 2/ 199 «إن أناسا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قالوا لو أرسلنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم نسأله ... » : 8/ 557 «إنّ أناسا من أمتي يتفقهون في الدين ويقرأون القرآن ... » : 7/ 289 «إن أناسا من الأنصار قالوا يوم حنين حين أفاء الله على رسوله من أموال ... » : 9/ 387 «إن أنس سئل كيف كانت قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... » : 1/ 410 «إن أنسابكم هذه ليست بحسبة على أحد كلّكم بنو آدم ... » : 8/ 524 «إن الأنهار التي أنزلها الله من عين ... » : 1/ 226 «إن أهل الجنة لا اختلاف بينهم ولا تباغض ... » : 4/ 50 «إن أهل الجنة ليتراءون أهل ... » : 1/ 383. 4/ 311 «إن أول الآيات الدجال ونزول عيسى ... » : 4/ 540 «إن أول زمرة يدخلون الجنة ... » : 1/ 383 «إن أول ما تفوّه به رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حجة الوداع أن وصى بالأمهات ... » : 4/ 253 «إن أول ما خلق الله القلم ثم قال له اكتب فجرى ... » : 2/ 290 «إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب ... » : 1/ 362 «إن أول ما خلق الله القلم والحوت قال للقلم اكتب ... » : 1/ 362. 2/ 292 «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل ... » : 2/ 473. 9/ 197 «إن أول من جمع مصحفا بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم هو سالم ... » : 1/ 70

«إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد ... » : 2/ 23. 3/ 514 «إن أيام منى هي أيام أكل وشرب ... » : 9/ 583 «إن الأئمة والأوصياء من آل رسول الله يعلمون تأويله ... » : 7/ 122 «إن بعثة النبي صلّى الله عليه وسلم من أشراط الساعة ومعالمها ... » : 8/ 315 «إن بعد ما بين العرش إلى الأرض مسيرة خمسين ألف سنة ... » : 1/ 507 «إنّ بعدي من أمتي أو سيكون من بعدي من أمتي قوم يقرأون ... » : 6/ 236. 7/ 208 «إن بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قالوا له إن أهل الكتاب يسلّمون ... » : 8/ 191 «إن بعض اليهود قالوا لأناس من الصحابة هل يعلم نبيكم ... » : 1/ 454 «إن بعضهم سأل رسول الله أيّ الناس خير فقال من طال عمره ... » : 7/ 275، 276 «أن [بلالا] كان يؤذن للصبح فيقول حي على خير العمل فأمره ... » : 7/ 343 «أن بلالا لما علا الكعبة ليؤذن عقب فتح مكة ... » : 8/ 521 «إن بلقيس كانت من الجن وإن الجن خشوا ... » : 1/ 222 «إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة وإن أمتي ... » : 7/ 202 «إن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا ... » : 1/ 221 «إن بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء هنّ من العتاق الأول ... » : 1/ 81 «إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة ... » : 1/ 343. 9/ 356 «إن بين السماء السابعة وبين العرش ... » : 1/ 507 «إن بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام ... » : 1/ 227 «إن تأليف السور كتقديم السبع الطوال وتعقيبها ... » : 1/ 70 «إن تتولوا يا معشر العرب يستبدل قوما غيركم يعني الموالي ... » : 8/ 332 «إن ترتيب السور في وضع الآيات مواضعها ... » : 1/ 84 «إن تغفر اللهمّ تغفر جمّا ... وأي عبد لك لا ألمّا ... » : 2/ 106 «أن جارا فارسيا للنبي صنع طعاما فدعاه ولم يدع أم المؤمنين عائشة ... » : 8/ 451 «إن جبريل نزل بالميزان فدفعه إلى نوح ... » : 1/ 228 «إن جبريل وميكائيل أتياني فقعد ... » : 1/ 245 «إن الجعل يكاد أن يهلك في جحره بخطيئة ابن آدم ... » : 5/ 149 «إن جماعات من بني تميم سألوا النبي صلّى الله عليه وسلم عن أول هذا الأمر ... » : 3/ 507 «إن جماعة النصارى لما فاضت أعينهم وأعلنوا إيمانهم ... » : 9/ 202

«إن جمع القرآن الثالث هو ترتيب السور ... » : 1/ 70 «إن جهنم لما سيق لها أهلها تلقاهم لهبها ثم تلفحهم ... » : 5/ 335 «إن الحارث بن هشام سأل النبي صلّى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي ... » : 1/ 467. 4/ 486 «إن حدّ الزنا يوقع على الزاني إذا قامت البينة أو كان الحبل ... » : 8/ 51 «إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارّا بدم ولا فارّا بخربة ... » : 7/ 197 «إن حمنة بنت جحش كانت مستحاضة وكان زوجها يجامعها ... » : 6/ 401 «إنّ الحميم ليصبّ على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص ... » : 1/ 419. 6/ 32 «إن الحواريين قالوا لعيسى يا روح الله هل بعدنا أمة ... » : 8/ 571 «إن الحواميم ديباج القرآن ... » : 4/ 350 «أن حول العرش سبعين ألف صف من الملائكة ... » : 4/ 354 «إنّ الخبيث لا يكفّر الخبيث ولكن الطيب يكفّر الخبيث ... » : 6/ 489 «إن الخلق بدأ يوم الأحد وانتهى مساء الجمعة ... » : 2/ 247 «أن داود سجد أربعين يوما حتى نبت المرعى حول وجهه ... » : 1/ 223 «أن درجات الجنة سبعون ما بين ... » : 1/ 217 «إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل ... » : 2/ 411 «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم ... » : 2/ 179. 9/ 580 «إن الدنيا كلّها متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة ... » : 8/ 78، 107 «إن الدين يسر ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه ... » : 2/ 397، 400. 3/ 546 «إن ذا القرنين دخل الظلمة في طلب عين الحياة ... » : 1/ 219 «إن ذا القرنين كان عبدا صالحا ملكه الله ... » : 1/ 220 «إن ذا القرنين هو الإسكندر الذي ملك الدنيا ... » : 1/ 220 «إن ربكم أنذركم ثلاثا الدخان يأخذ المؤمن ... » : 4/ 540 «إن ربّكم حيي كريم يستحيي من عبده إذا دعاه أن يردّ ... » : 6/ 317 «إن رجالا في العراق يتأولون الآية الأولى ويقولون ... » : 5/ 133 «إن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله إلى الغزو تخلّفوا عنه ... » : 7/ 285 «إن الرجل إذا نزع شجرة من الجنة ... » : 5/ 547 «إن الرجل ليعمل أو المرأة لتعمل بطاعة الله تعالى ستين سنة ... » : 6/ 298. 8/ 45

«إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فإذا أوصى ... » : 8/ 44 «إن الرجل لينصرف من صلاته وما كتب له إلا عشرها ... » : 5/ 303 «إن الرجل يتصدق بالصدقة من الكسب الطيب ولا يقبل الله ... » : 6/ 489 «إن رجلا أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أي الأعمال أفضل ... » : 8/ 550 «أن رجلا أتى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني قد ظاهرت من امرأتي ... » : 8/ 474 «أن رجلا أراد أن يزوج أخته فقالت إني أخشى أن أفضح ... » : 8/ 368 «أن رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي صلّى الله عليه وسلم فذكر له ذلك ... » : 3/ 548 «أن رجلا اطلع من جحر في باب النبي صلّى الله عليه وسلم ومع النبي صلّى الله عليه وسلم مدرى يرجل به ... » : 8/ 396 «إن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم ... » : 6/ 296 «أن رجلا أعرابيا أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أنشدك بالله ... » : 8/ 355 «أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النبي صلّى الله عليه وسلم ... » : 9/ 61 «إن رجلا جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال له إن أخي استطلق بطنه ... » : 5/ 156 «إن رجلا جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت قوله تعالى الطلاق ... » : 6/ 419 «إن رجلا جاء مسلما على عهد النبي صلّى الله عليه وسلم ثم جاءت امرأته مسلمة ... » : 9/ 285 «إن رجلا ذكر للنبي أنه يخدع في البيوع فقال إذا بايعت ... » : 8/ 96 «أن رجلا سأل الحسن ما تقول في امرأة قشرت وجهها ... » : 8/ 246 «أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم أأستأذن على أمي قال نعم ... » : 8/ 397 «إن رجلا سأل النبي صلّى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل هل عليهما ... » : 8/ 126 «أن رجلا سأل النبي صلّى الله عليه وسلم عند المباشرة فرخص له وأن شخصا آخر ... » : 6/ 313 «إن رجلا سأل النبي صلّى الله عليه وسلم وقد وضع رجله في الغرز أي الجهاد ... » : 3/ 196 «أن رجلا سمع رجلا يقرأ قل هو الله أحد يردّدها ... » : 2/ 68 «إن رجلا ضرب رجلا على ساعده بالسيف من غير المفصل ... » : 9/ 140 «أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته فجاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم ... » : 9/ 137 «أن رجلا قال لابن مسعود إني حرّمت أن آكل طعاما ... » : 8/ 389 «إن رجلا قال للنبي إن أمي افتلتت نفسها ولم توص ... » : 2/ 113 «إن رجلا قال يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ... » : 8/ 10 «إن رجلا قال يا رسول الله أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل ... » : 3/ 96 «إن رجلا قال يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني ... » : 8/ 119

«إن رجلا قال يا رسول الله كيف صلاة الليل ... » : 1/ 338 «إن رجلا قال يا رسول الله ما يلبس المحرم من الثياب قال لا يلبس ... » : 9/ 16 «إن رجلا قال يا نبي الله كيف يحشر الكافر على وجهه ... » : 3/ 81 «إن رجلا قام عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرأوا في قيامه عجزا فقالوا ... » : 8/ 517 «إن رجلا كان يسبّ أبا بكر بحضرة النبي صلّى الله عليه وسلم فصمت عنه أبو بكر ... » : 8/ 267 «إن رجلا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم جلس بين يديه ... » : 5/ 272 «إن رجلا من أهل الصفة مات فوجد في مئزره دينار ... » : 9/ 423 «إن رجلا من أهل اليمن أصابت ابنة أخيه فاحشة فأمرّت ... » : 8/ 368 «إن رجلا من بني النضير أخبر عن رجل من بني هلال ... » : 2/ 402 «أن رجلا نذر ذبح ولده فقال له الشعبي هذا من نزغات ... » : 8/ 390 «إن رجلين أتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فسألاه فقال اذهبا إلى هذه الشعوب ... » : 9/ 471 «إنّ رجلين تسابّا بحضرة النبي صلّى الله عليه وسلم فغضب أحدهما حتى جعل أنفه ... » : 2/ 555 «إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله فقالا يا رسول الله ... » : 2/ 140، 289. «إن الرحم شجنة من الرحمن فقال الله من وصلك وصلته ... » : 8/ 10 «إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي بعدي ... » : 7/ 392 «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال ألا أعلمك أعظم سورة ... » : 1/ 291 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه ... » : 2/ 91 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتي بسارق سرق شملة فقال ... » : 9/ 123، 128 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتى منى فأتى الجمرة فرماها ثم أتى منزله بمنى ... » : 6/ 359 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أخذ بيدي فقال خلق الله التربة يوم السبت ... » : 2/ 246 «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أخذ على النساء حين بايعهن أن لا ينحن ... » : 9/ 292 «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أفرد للحجّ وفي رواية أهلّ بالحج ... » : 9/ 579 «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر بسارق فقطعت يده ثم أمر بها فعلّقت ... » : 9/ 122 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أملى عليه لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ ... ...» : 1/ 79. 8/ 212 «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بريء من الصالقة والحالقة والشاقة ... » : 9/ 293 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس حوله ... » : 8/ 485 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين والنعلين ... » : 9/ 66 «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم حمد الله وأثنى عليه ثم قال ما من شيء ... » : 2/ 95

«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين نزول الوحي عليه بالآية أخذ عليا وابنيه وفاطمة ... » : 7/ 380 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خرج إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ الكديد ... » : 6/ 307 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خرج عليهم وهم يتنازعون في القرآن ... » : 4/ 517 «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خرج في الاستسقاء متبذّلا متواضعا ... » : 1/ 338 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خطب أصحابه ذات يوم وقد كادت الشمس ... » : 2/ 277 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر فقال أيها الناس أي يوم هذا ... » : 9/ 582 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه ... » : 7/ 197 «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم دخل على رجل وهو في الموت فقال له كيف تجدك ... » : 4/ 306 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال فيه ساعة لا يوافقها غير مسلم ... » : 7/ 339 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأى أبا بكر وعمر فقال هذان السمع والبصر ... » : 7/ 256 «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأى رجلا معتزلا لم يصل في القوم فقال يا فلان ... » : 8/ 131 «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأى شاتين تنتطحان فقال ... » : 4/ 87 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سئل أي العباد أفضل وأرفع درجة ... » : 5/ 484 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سئل أي العمل أحبّ إلى الله ... » : 2/ 401 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سئل عمن استوت حسناته وسيئاته ... » : 2/ 402 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سئل عن الحمر فقال لم ينزل عليّ فيها شيء إلا هذه ... » : 6/ 120 «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم سئل عن الخمر تتخذ خلا فقال لا ... » : 9/ 225 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان فتكلم أبو بكر ... » : 7/ 17 «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ البسملة مع سائر ... » : 1/ 289 «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلّى الظهر خمسا فقيل له أزيد ... » : 1/ 335، 515. 4/ 112 «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم طلق زوجته حفصة فأتت أهلها فأنزل الله ... » : 8/ 335 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم عاد رجلا من المسلمين قد خفت فصار مثل الفرخ ... » : 6/ 361 «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدوّ انتظر حتى مالت ... » : 7/ 70 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال الله أشدّ فرحا بتوبة عبده ... » : 2/ 156 «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إن الجمّاء لتقتصّ من القرناء ... » : 4/ 87 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها ... » : 6/ 104 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إن القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه ... » : 5/ 236 «إن رسول الله قال أنا فرطكم على الحوض من مرّ عليّ شرب ... » : 7/ 208

«إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال فضلت سورة الحجّ على سائر القرآن ... » : 6/ 8 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع ألا إن أولياء الله ... » : 2/ 109 «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال في قوله وَيُسْقى مِنْ ماءٍ ... فإذا شربه ... » : 5/ 225 «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال كلمتان خفيفتان على اللسان ... » : 5/ 436 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال كلوا جميعا ولا تفرقوا فإن البركة ... » : 8/ 450 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لأبي بكر لو رأيت مع أم رومان رجلا ما كنت فاعلا ... » : 8/ 376 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر لو اجتمعتما في مشورة لما خالفتكما ... » : 7/ 256 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لعلي يا علي إن القرآن خلف ... » : 1/ 80 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال له ألا أدلك على أبواب الخير ... » : 5/ 350 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال ما من يوم يصبح العباد فيه ... » : 4/ 289 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال نظرت إلى الجنة فإذا الرمانة من رمانها ... » : 6/ 104 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال هدايا العمال غلول ... » : 7/ 261 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال يا أيها الناس توبوا إلى الله ... » : 2/ 156 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ... » : 9/ 186 «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قام في الناس فأثنى على الله بما هو أهله ... » : 4/ 382 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسّرها لنا فدعوا الربا والريبة ... » : 6/ 503 «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قرأ يوما وَلِمَنْ خافَ ... فقلت يا رسول الله ... » : 6/ 102 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قسم في النفل للفرس سهمين وللرجل سهما ... » : 7/ 52 «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قطع سارقا في مجنّ قيمته ثلاثة دراهم ... » : 9/ 119 «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قطع سارقا في مجنّ قيمته دينار ... » : 9/ 119 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه بشيء أتيناه ... » : 1/ 73 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا رأى ناشئا في أفق من آفاق ... » : 5/ 22 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا رجع من سفر يقول آئبون تائبون ... » : 9/ 539 «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا صلى نظر إلى السماء ... » : 5/ 302 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذّن إذا كانت ليلة ذات برد ... » : 1/ 336 «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يبايع النساء بالكلام دون أن تمسّ يده ... » : 9/ 294 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يتعوذ من الجانّ وعين الإنسان ... » : 2/ 51 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يتعوّذ من جهد البلاء ودرك ... » : 2/ 49

«أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يجلس حيث انتهى به المجلس ولكن ... » : 8/ 484 «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يصلي الصبح بغلس فينصرف نساء ... » : 1/ 336 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يفتتح صلاة الليل بقول اللهم ... » : 4/ 333 «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ هذه الآيات إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ ... كل ليلة ... » : 7/ 293 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقسم إذ جاءه ذو الخويصرة التميمي ... » : 9/ 458، 459 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقول اللهمّ اغفر لي خطيئتي ... » : 4/ 379 «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقول ليلني منكم أولو الأحلام والنهى ... » : 8/ 485 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه ... » : 9/ 283 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد وشجّ رأسه فجعل يسلت الدم عنه ... » : 7/ 228 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما قدم أبي أن يدخل البيت وفيه الآلهة ... » : 2/ 173 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مرّ بجدي أسكّ ميت فقال ... » : 5/ 537 «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مرّ بمجلسين في مسجده أحد المجلسين يدعون الله ... » : 8/ 486 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحجّ ثم أذّن في الناس ... » : 9/ 578 «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى أن يصلّى في سبعة مواطن ... » : 1/ 338، 345 «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن أكل الضّبّ ... » : 4/ 75 «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير ... » : 5/ 123 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن الشغار والشغار أن يزوّج الرجل ... » : 8/ 21 «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال ... » : 8/ 182 «إن الرضاعة قليلها وكثيرها إذا كانت في الحولين تحرم ... » : 8/ 70، 71 «إن الرقى والتمائم شرك ... » : 4/ 30 «إن رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك ... » : 9/ 39 «أن روح كل كافر تعرض على النار بكرة وعشيا ... » : 4/ 373 «إن الزبور نزل لثنتي عشرة خلت من رمضان ... » : 2/ 132. 6/ 315 «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات ... » : 6/ 336 «إنّ زوج [فاطمة بنت قيس] طلقها ثلاثا ولم يجعل لها نفقة ... » : 6/ 420 «إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة ... » : 1/ 82 «إن زيد بن ثابت قال أمرني أبو بكر فكتبته ... » : 1/ 69

«إن سارقا سرق رداء لصفوان بن أمية وهو متوسد ... » : 9/ 124 «أن سائلا سأل علي بن أبي طالب عن الذين قاتلهم وقاتلوه ... » : 8/ 511 «أن سبرة غزا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في فتح مكة قال فأقمنا بها خمس عشرة ... » : 8/ 81 «إن سدرة المنتهى شجرة نبق في السماء ... » : 1/ 228 «إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله ... » : 9/ 122 «إن سرّك أن نؤمن بك ونصدقك فادع ربّك ... » : 3/ 400 «إن سلمان بن عامر جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال إن أبي كان يصل الرحم ... » : 6/ 122 «إن سليمان بن داود عليهما السلام لما بنى بيت المقدس ... » : 2/ 176، 383 «إن سماء الدنيا سوح مكفوف والثانية مرمرة ... » : 1/ 226 «إن السموات والأرض في العرش كالقنديل ... » : 1/ 508 «أن السور الذي ذكر في القرآن فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ ... هو سور ... » : 1/ 217 «إن سورة الأحزاب كانت تقرأ في زمن النبي صلّى الله عليه وسلم ... » : 1/ 72 «أن الشبان يوم بدر تسارعوا إلى الحرب وبقي الشيوخ تحت الرايات ... » : 7/ 11 «إن شرّ الناس من تركه الناس أو ودعه الناس اتقاء فحشه ... » : 8/ 518 «إن الشيطان يستحلّ الطعام إذا لم يذكر اسم الله عليه ... » : 9/ 42 «إن الصحابة قد جمعوا بين الدفتين القرآن ... » : 1/ 84 «إنّ صحف إبراهيم نزلت في أول ليلة من رمضان والتوراة لست ... » : 6/ 315 «إن الصخرة العظيمة لتلقى ... » : 1/ 419 «أن صفوان بن أمية فرّ يوم الفتح فأرسل إليه النبي صلّى الله عليه وسلم أمانا ... » : 9/ 286 «إن الصلاة حين افترضت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتاه جبريل ... » : 1/ 328 «إن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده ... » : 1/ 336 «أن ضيفا نزل على عبد الله بن رواحة فأخرت امرأته ... » : 9/ 209 «إن عائشة ذكرت النار فبكت فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما يبكيك ... » : 2/ 184 «أن عائشة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم كان يدخل عليها من أرضعته أخواتها ... » : 8/ 69 «إن [عائشة] سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن الملائكة تنزل في العنان ... » : 3/ 11 «إن عائشة قالت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم هل أتى عليك ... » : 4/ 99 «أن عائشة قالت لم يكن شيء أحبّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم من النساء إلا الخيل ... » : 7/ 128 «إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه ... » : 5/ 510

«إن العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة ... » : 4/ 405 «إن العبد إذا وضع في قبره وتولّى عنه أصحابه وإنه ليسمع ... » : 4/ 374. 5/ 235 «إن عبد الله بن سلام سمع بقدوم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأتاه فقال له إني ... » : 6/ 201 «إن عبد الله بن قسطنطين قرأ ختمة على عبد الله بن كثير ... » : 1/ 83 «إن عبد الله بن مسعود سمع من فم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بضعا وسبعين ... » : 1/ 83 «إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين ... » : 8/ 182 «أن عبدا زنى بأمة بالإكراه في زمن عمر فأمر بجلد العبد دون ... » : 8/ 362 «إن عثمان بن عفان نزل مع ركب بالروحاء فقرّب إليهم طير ... » : 9/ 234 «أن عثمان دعا بوضوء فغسل كفّيه ثلاث مرات ... » : 9/ 63 «أن عثمان رفع إليه رجل تزوج امرأة ليحلّها ففرّق بينهما ... » : 6/ 429 «إن عدد الصحف المنزّلة على إبراهيم عشر ... » : 1/ 522 «إن عفريتا من الجنّ تفلّت البارحة يقطع عليّ صلاتي ... » : 2/ 322 «إن علمتم فيهم حرفة ولا ترسلوهم كلابا على الناس ... » : 8/ 419 «إن علي بن أبي طالب قعد في بيته بعد بيعة أبي بكر ... » : 1/ 69 «أن علي بن أبي طالب كان يأكل أكلة العبد ويجلس ... » : 5/ 19 «إن عليا حرق قوما ارتدوا عن الإسلام بدون إكراه ... » : 5/ 190 «إن عليّا لما مات النبي صلّى الله عليه وسلم قال آليت أن لا آخذ ... » : 1/ 70 «إن عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها زيد ... » : 1/ 69 «إن عمر أتى النبي صلّى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب ... » : 4/ 9 «إن عمر أعلن للناس من كان تلقى من رسول الله ... » : 1/ 69، 80 «إن عمر بن الخطاب أتى بآية الرجم فلم يكتبها زيد ... » : 1/ 72 «إن عمر بن الخطاب جلد أبا بكرة وشبل بن معبد ونافعا بقذف المغيرة ... » : 8/ 52 «إن عمر بن الخطاب خطب الناس قائلا لقد خشيت ... » : 1/ 72 «إن عمر بن الخطاب عهد بسهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الفيء إلى العباس وعليّ ... » : 7/ 56 «إنّ عمر بن الخطاب قال جئت رسول الله فإذا هو في مشربة ... » : 7/ 297 «أن عمر بن الخطاب قال لقد هممت أن لا أدع أحدا أصاب فاحشة ... » : 8/ 367 «أن عمر بن الخطاب قال لو شئت كنت أطيبكم طعاما وألينكم لباسا ... » : 5/ 18 «إن عمر بن الخطاب قال يا رسول الله عليك البرّ ... » : 1/ 208

«إن عمر بن الخطاب قنت بعد الركوع ... » : 1/ 72 «إن عمر بن الخطاب كان يقول لرسول الله صلّى الله عليه وسلم احجب ... » : 1/ 209 «إن عمر ذي القرنين ألف وثلاثون سنة ... » : 1/ 219 «أن عمرو بن العاص قال للنجاشي حينما جاء إليه موفدا ... » : 8/ 570 «أن غلاما لأناس فقراء قطع أذنا لأناس أغنياء فأتوا ... » : 9/ 141 «إن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم ... » : 8/ 15 «إن الفاتحة سبع آيات والملك ثلاثون آية ... » : 1/ 124 «إن فاطمة بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم سألت أبا بكر ميراثها ممّا ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... » : 7/ 55 «إن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي صلّى الله عليه وسلم فقالت إني أستحاض ... » : 6/ 400 «إن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... » : 7/ 55 «إن في الجنة ثمانية أبواب منها باب ... » : 4/ 349 «إن في الجنة غرفا يرى بطونها ... » : 1/ 383. 4/ 311 «إن في الجنة لسوقا ... » : 1/ 383 «إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها ... » : 5/ 539 «إنّ في الجنة لغرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها ... » : 4/ 312. 9/ 495 «أن في النفس الدية مائة من الإبل وفي الأنف ... » : 9/ 141 «إن فيها ملكا لا تظلمون عنده ... » : 5/ 134 «أن قارون استأجر مومسا لتقذف موسى بنفسها على رأس الملأ ... » : 7/ 427 «إن القرآن أنزل على سبعة أحرف كلها ... » : 1/ 244 «أن القرآن دفع إلى جبريل في ليلة القدر ... » : 1/ 258 «إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به ... » : 7/ 119 «أن قريشا أهمهم شأن المرأة التي سرقت في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم ... » : 9/ 117 «إن القلم من نور وإن طوله ما بين السماء ... » : 1/ 227 «إن قول لا إله إلا الله والحمد لله وسبحان الله تحط الخطايا ... » : 3/ 177 «إن قوما يخرجون من الإسلام يمرقون من الدين ... » : 9/ 460 «إن كان في شيء من أدويتكم خير ففي شرطة محجم أو شربة عسل ... » : 5/ 156 «إن كتابة القرآن ليست محدثة فإن النبي صلّى الله عليه وسلم كان ... » : 1/ 84 «إنّ الكثيرين هم المقلّون يوم القيامة إلا من آتاه الله ... » : 3/ 223

«إن الكذب لا يصلح في جدّ ولا هزل ولا أن يعد أحدكم صبيه شيئا ... » : 9/ 555 «إنّ كرسيه وسع السموات والأرض وإنه ليقعد عليه فما يفضل ... » : 6/ 469 «إن كل ربا موضوع ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ... » : 6/ 494 «إن كل ما كان في الحولين وإن كانت قطرة واحدة يحرّم ... » : 8/ 70 «إن كنّا لنعد لرسول الله صلّى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة قوله ... » : 4/ 378 «إن كنت رسولا فحوّل لنا جبال مكة ذهبا أو ائتنا ... » : 3/ 511 «إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال ... » : 1/ 540. 3/ 223. 9/ 423 «إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس ... » : 3/ 20 «إن لكل شيء ولاة من النبيين وإن وليي منهم أبي وخليل ربّي ... » : 7/ 167 «إن لكل كتاب سرّا وسرّ القرآن في أوائل ... » : 1/ 240 «إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي ... » : 1/ 240 «أن لكل [ملك] وجه رجل ووجه أسد ... » : 4/ 356 «إن للجنة مئة درجة كل درجة منها كما بين السماء والأرض ... » : 5/ 109 «إنّ للشيطان لمّة من ابن آدم وللملك لمّة فأمّا لمّة الشيطان ... » : 6/ 488 «إنّ لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة ... » : 2/ 541 «إن لله تسعة وتسعين اسما من حفظها دخل الجنة ... » : 2/ 541 «إن لله عبادا يعرفون ... » : 4/ 54 «إن لله عزّ وجل مائة رحمة فمنها رحمة يتراحم بها الخلق ... » : 2/ 459 «إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس ... » : 2/ 460 «إن لله ملائكة يعرفون بني آدم ... » : 5/ 421 «إن اللوح من درّة بيضاء طوله ... » : 1/ 226 «إنّ لي أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله تعالى ... » : 7/ 392. 8/ 568 «إن ما بين أحد الملائكة الذين يحملون العرش ... » : 4/ 355 «أن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام ... » : 1/ 217 «إن ما بين القائمة من قوائم العرش والقائمة ... » : 1/ 507. 4/ 354 «إن ما عزا الأسلمي جاء النبي صلّى الله عليه وسلم فقال إنه قد زنى فأعرض عنه ... » : 8/ 355 «إن مثل الذي يعمل السيئات ... » : 5/ 536

«إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم ... » : 5/ 530 «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه ... » : 3/ 397. 9/ 88 «إن محمدا رأى ربّه فقال له أليس الله يقول لا تدركه ... » : 2/ 97 «إنّ محمدا رأى ربّه مرتين بفؤاده ... » : 2/ 97 «إن المختلعات المنتزعات هنّ المنافقات ... » : 6/ 425 «إن المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان وأقرب ما تكون ... » : 7/ 377 «إن مسافة ما بين قطري العرش من جانب ... » : 1/ 507 «إن المسألة لا تصلح إلّا لثلاثة لذي فقر مدقع ... » : 9/ 469، 470 «إن المسجد كان على عهد النبي صلّى الله عليه وسلم مبنيا باللبن وسقفه الجريد ... » : 2/ 382 «إن المشركين قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم انسب لنا ربّك؟ ... » : 2/ 70 «إن المطر ينزل من السماء كل عام بقدر واحد ... » : 1/ 227 «إن مطعم رأى النبي صلّى الله عليه وسلم يصلّي قال فكبّر فقال الله أكبر كبيرا ... » : 2/ 50 «إن معاوية قرأ عَيْنٍ حَمِئَةٍ عين حامية فقرأها ... » : 1/ 220 «أن معسكر سليمان كان مئة فرسخ في مئة ... » : 1/ 221 «إن المعيشة الضنك هي عذاب القبر ... » : 3/ 213 «إن المفسرين قالوا إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما خرج إلى تبوك أرجف ... » : 9/ 343 «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن ... » : 2/ 311، 8/ 148 «إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ بين يدي الرحمن ... » : 8/ 509 «إن المكثرين هم المقلّون يوم القيامة ... » : 1/ 539. 9/ 423 «إن مكة حرّمها الله ولم يحرّمها الناس فلا يحل لامرىء ... » : 2/ 180 «أن الملائكة على صورة الأوعال بين أظلافهم ... » : 4/ 355 «إن ملكا نزل من السماء فقال للنبي أبشر بنورين أوتيتهما ... » : 6/ 124 «إنّ مما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن حتى إذا رؤيت بهجته ... » : 2/ 537 «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته ... » : 2/ 115 «إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله فقال له ... » : 6/ 112 «إن من أشراط الساعة أن يتقارب الزمان وينقص العلم ... » : 8/ 316 «إنّ من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم ... » : 1/ 370. 7/ 417. 8/ 269، 518

«أن من الذين يؤتون أجرهم مرتين رجلا عنده جارية فأدبها ... » : 8/ 93 «إنّ من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله ... » : 6/ 43 «إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب ... » : 6/ 112 «إنّ من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ... » : 3/ 383. 8/ 182 «إن من حقكم على نسائكم ألا يوطئن فراشكم من تكرهون ... » : 8/ 399 «إن من حملة العرش من صورته على صورة الإنسان ... » : 1/ 215 «إن من خير النساء أيسرهن صداقا ... » : 8/ 60 «إن من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء ... » : 3/ 484 «إن من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين ... » : 9/ 316 «إن من يمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير صداقها ... » : 8/ 60 «إنّ من منكم منفّرين فأيّكم صلّى فليتجوّز ... » : 1/ 337 «أن المهاجرين قالوا لماذا يرفع منّا الخمس ولما يخرج منّا فأنزل الله ... » : 7/ 11 «إن موسى كان رجلا حيّيا ستيرا ما يرى من جلده شيء فآذاه من آذاه ... » : 7/ 426 «أن موسى لمّا أراد أن يفارق الخضر قال له أوصني قال لا تطلب ... » : 5/ 89 «أن موسى نظر في التوراة فقال إني أجد ... » : 1/ 216 «إن مولى للنبي مات وترك شيئا ولم يدع ولدا ولا حميما ... » : 8/ 39 «إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده ... » : 3/ 277 «إن الميت يعذّب ببكاء الحيّ ... » : 9/ 293 «إن الناس اختلفوا في القرآن على عهد عثمان ... » : 1/ 77 «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه ... » : 2/ 474. 7/ 32 «إن الناس إذا رأوا ظالما فلم يأخذوا على يديه ... » : 9/ 198، 247 «إن الناس في أول الحج كانوا يتبايعون بمنى وعرفة ... » : 6/ 354، 355 «إن الناس ينادون يوم القيامة من صخرة ... » : 1/ 227 «إن ناسا من المسلمين كانوا مع المسلمين يكثرون سوادهم ... » : 8/ 216 «إن ناقة ضلت لرجل فوجدها آخر فمرضت عنده ... » : 4/ 173 «إن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطا أي بستانا ... » : 5/ 281 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم أباح للمرأة أن تبدي من ذراعيها إلى قدر النصف ... » : 2/ 388. 8/ 405 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أبصر رجلا يعبث بلحيته في الصلاة ... » : 5/ 302

«إن النبي صلّى الله عليه وسلم أتي بالبراق ليلة أسري به ملجما مسرجا ... » : 2/ 85 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر فقال اضربوه ... » : 9/ 223 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم أجاب رجلا سأله عن الغنيمة فقال لله خمسها وأربعة ... » : 7/ 52 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس البحرين ... » : 9/ 49، 50 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر ... » : 9/ 49 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم أخذ حريرا فجعله في يمينه وأخذ ذهبا فجعله ... » : 5/ 198 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أخذ قبضة من تراب أو من حصباء فرمى بها نحو الكفار ... » : 7/ 23 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أدرك شيخا يمشي بين ابنيه يتوكأ عليهما ... » : 6/ 43، 111 «إنّ النبي صلّى الله عليه وسلم أدرك عمر في ركب وهو يحلف بأبيه فناداهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... » : 6/ 406 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أذن لحفصة أن تزور أهلها وفي غيابها استدعى مارية ... » : 8/ 533 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم أرسل المغيرة بن شعبة إلى نجران في أمر ... » : 3/ 155 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم استخلف ابن أمّ مكتوم يؤمّ الناس ... » : 1/ 337 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم أسرّ إل فاطمة بأن جبريل يعارضه ... » : 1/ 82 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفا ... » : 9/ 312 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم أقرأ رجلين سورة فكانا يقرآن بها ... » : 1/ 99 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم أقرأني خمس عشرة سجدة ... » : 1/ 350 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر بجلد الأمة إذا زنت دون تثريب ... » : 8/ 364 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر بقتل فرات بن حيّان وكان عينا لأبي سفيان ... » : 8/ 520 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ وسمّاه فويقا ... » : 5/ 278 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم إنما سعى إلى مشي بسرعة أو هرولة ليري المشركين قوته ... » : 6/ 271 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم بايع رجلا ثم قال له اختر فقال اخترت ... » : 8/ 96 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم بعث إلى عثمان بن مظعون فجاءه فقال يا عثمان أرغبت ... » : 9/ 208 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم بعث رجلا على الصدقة من بني مخزوم فقال له ... » : 9/ 464 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم تلا قول عيسى إِنْ تُعَذِّبْهُمْ.. فرفع يديه فقال اللهمّ أمتي ... » : 9/ 265 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم تلا هذه الآية [والسابقون ... ] فقال كلهم في الجنة ... » : 3/ 126 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة وعلى الخفين ... » : 9/ 64 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين ... » : 9/ 63 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة ... » : 9/ 63

«أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم جاء ذات يوم والسرور يرى في وجهه فقالوا يا رسول الله ... » : 7/ 415 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم حمد الله وأثنى عليه ثم قال ما من شيء لم أكن ... » : 4/ 374. 5/ 235 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم خرج إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون ... » : 3/ 42 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم خرج في رمضان من المدينة ومعه عشرة آلاف على رأس ... » : 9/ 309 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم خرج من عند [جويرية] بكرة حين صلى الصبح ... » : 1/ 513 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم دخل على [أم سلمة] وفي البيت مخنّث فقال المخنّث ... » : 8/ 405 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم دخل على [أم عمارة] فقدمت له طعاما فقال كلي ... » : 6/ 303 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم دخل على أهل الصفة وهي مكان يتجمع فيه فقراء ... » : 5/ 18 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم دخل على عائشة وعندها امرأة فقال من هذه ... » : 2/ 400 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلّى ثم جاء ... » : 1/ 331 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة ... » : 3/ 422 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم دعا يهود فسألهم عن شيء فكتموه إيّاه وأخبروه ... » : 7/ 286 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم رأى ربّه بقلبه ولم يره بعينه ... » : 2/ 97 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم رأى في منامه رجلا يشدخ رأس رجل وكلّما ... » : 6/ 164 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم رأى في منامه ولد الحكم بن أمية يتداولون منبره ... » : 3/ 404 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم رأى نخامة في القبلة فحكها بيده ... » : 2/ 379. 8/ 426 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم ردّ شهادة الخائن والخائنة وذي الغمر على أخيه ... » : 6/ 513. 8/ 53 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم سأله هل رأيت شيئا قال نعم رأيت رجالا سودا ... » : 5/ 26 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم سمّر أعينهم كواها بأسياخ النار ... » : 1/ 210 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم صلّى بأصحابه صلاة كسوف فرأوه يمدّ يتناول ... » : 2/ 94 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم صنع طعاما في مناسبة بنائه على زينب وأمر أنسا ... » : 7/ 408 «إنّ النبي صلّى الله عليه وسلم ضافه ضيف ولم يكن عنده شيء ... » : 4/ 58 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم طاف بين الصفا والمروة راكبا على راحلته ... » : 6/ 271 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم طب حتى إنه ليخيل إليه أنه قد صنع شيئا ... » : 2/ 51 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها ... » : 8/ 335 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم عرض [ابن عمر] يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة ... » : 8/ 28 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم فدّى رجلين من المسلمين برجلين من المشركين ... » : 8/ 305 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم فضّل أقواما على بلاء أي قال من فعل كذا فله كذا ... » : 7/ 10

«إن النبي صلّى الله عليه وسلم قال إن التوراة نزلت لست مضين ... » : 1/ 261 «إنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... » : 2/ 39 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم قال انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولا تقتلوا ... » : 6/ 335 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم قال إنهم يحفرونه كل يوم حتى إذا كادوا ... » : 5/ 102 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم قال إني أمرت أن أقرأ القرآن على الجنّ ... » : 5/ 25 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم قال أوقد على النار ألف سنة ... » : 1/ 419 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال حبّب إليّ النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة ... » : 7/ 128 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال حسن الملكة يمن وسوء الخلق شؤم ... » : 8/ 119 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في دية الأصابع اليدين والرجلين سواء ... » : 9/ 140 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها ... » : 8/ 67 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لا يموت رجل منهم حتى يولد لصلبه ألف رجل ... » : 5/ 104 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر يوم بدر ما ترون في هذه الأسارى ... » : 7/ 88 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لأصحاب المسجد أو الأنصار قد أحسن الله عليكم الثناء ... » : 9/ 536 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لأصحابه حين خروجه إلى بدر سيروا وأبشروا فإن الله ... » : 7/ 16 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لامرأة أكرهت على الزنا فاذهبي فقد غفر الله لك ... » : 8/ 362 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث اعلم قال ما أعلم يا رسول الله ... » : 2/ 115 «إنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال [لبني سلمة] إن آثاركم تكتب فلم ينتقلوا ... » : 3/ 23 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لجبريل حينما جاء بعد انحباس ما جئت ... » : 3/ 168 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لجبريل لقد رئت عليّ حتى ظنّ المشركون ... » : 3/ 168 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لرجل من أصحابه هل تزوجت يا فلان ... » : 2/ 25 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لعمر إنا قد أخذنا زكاة العباس عام الأول ... » : 9/ 465 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لعمه أبي طالب قل لا إله إلا الله أشهد لك ... » : 3/ 327 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لنسوة جئن لمبايعته بعد أن أخذ عليهن البيعة ... » : 9/ 293 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال له لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك ... » : 1/ 411 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما ... » : 3/ 74 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال من قال حين يصبح فَسُبْحانَ اللَّهِ ... ...» : 5/ 436 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم قال وهو في قبّة يوم بدر اللهم أنشدك ... » : 2/ 87 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم قال يا جبريل بعثت إلى أمة أميين ... » : 2/ 513

«أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال يقول الله تعالى كره لكم ثلاثا قيل ... » : 6/ 489 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم قام في الغد من يوم الفتح فحمد الله وأثنى عليه ... » : 9/ 312 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم قبض ولم يكن القرآن قد جمع ... » : 1/ 67، 96 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم قرأ سور البقرة وآل عمران والنساء واحدة ... » : 1/ 81 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قسم ذات يوم قسما فقال رجل من الأنصار إن هذه القسمة ... » : 7/ 427 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم قضى بين رجلين فقال المقضى عليه لما أدبر حسبي الله ... » : 7/ 273 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قضى في الأنف إذا جدع الدية كاملة ... » : 9/ 140 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا أمّر أميرا على جيش أو سريّة أوصاه ... » : 6/ 335 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفّيه ... » : 2/ 45 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ كفّا من ماء فأدخله تحت حنكه ... » : 9/ 63 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم كان تحت شجرة فأخذ غصنا يابسا فهزّه ... » : 3/ 549 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار فأتاه جبريل عليه السلام ... » : 4/ 319 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم كان في غزاة فقال إن أقواما بالمدينة خلفنا ... » : 8/ 214 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل ... » : 4/ 297 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يبيت في بيت [أم هانىء] ليلة الإسراء وأنها افتقدته ... » : 2/ 84 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يدعو اللهمّ إني أعوذ بك من عذاب القبر ... » : 5/ 235 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يركز له الحربة فيصلي إليها ... » : 1/ 339 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يزور أم ورقة في بيتها فأستأذنته في مؤذن ... » : 1/ 337 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة وله تسع نسوة ... » : 8/ 128 «أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم كان يعلّم بعض بناته فيقول قولي حين تصبحين ... » : 5/ 372 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقول اللهمّ إني أعوذ بك من الكسل ... » : 2/ 50 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقول اللهمّ إني أعوذ بك من الهمّ ... » : 2/ 49 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقول إن الله يحبّ المتعفف ويبغض السائل ... » : 6/ 489 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقول عند ختم القرآن اللهمّ ارحمني ... » : 1/ 83 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده سبّوح قدوس ... » : 1/ 513 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقول في قول الله وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ هم الجن ... » : 7/ 78 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يكبّر في الفطر والأضحى في الأولى ... » : 1/ 338 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يكثر الدعاء والابتهال بأن يوجهه الله إلى الكعبة ... » : 6/ 255

«أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يمرّ بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر ... » : 7/ 380 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم كان ينقل معنا التراب ولقد وارى التراب بياض بطنه ... » : 3/ 42 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يعش بعد نزولها إلا سبعين يوما ... » : 9/ 297 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم لما أسري به إلى السماء أوحي إليه بالأذان ... » : 7/ 342 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما خرج من مكة مهاجرا التفت إليها وقال أنت أحبّ بلاد الله ... » : 8/ 311 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم لما قدم مكة أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة ... » : 9/ 311 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ جمع أقاربه ... » : 1/ 496 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما نهى النساء أن لا ينحن ولا يخلون مع غير المحارم ... » : 9/ 293 «إنّ النبي صلّى الله عليه وسلم ما شعر بأمرهم حتى أنزل الله تعالى عليه بخبرهم ... » : 5/ 28 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم مرّ بمجلس وفيه أخلاط من المسلمين واليهود ... » : 4/ 533. 8/ 191 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم مرّ علينا بالمسجد يوما وعصبة من النساء ... » : 4/ 533 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم مسح رأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما ... » : 9/ 64 «إنّ النبي صلّى الله عليه وسلم نهى أن يصلّى في سبع مواطن في المزبلة والمجزرة ... » : 8/ 426 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع ... » : 4/ 174 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن أن يخلف الرجل الرجل في مجلسه إذا قام ... » : 8/ 484 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن تناشد الأشعار في المسجد ... » : 2/ 380. 8/ 426 «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية ... » : 8/ 81 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ... » : 3/ 332 «إن النبي صلّى الله عليه وسلم يروي عن ربه أنه قال يا عبادي إني حرمت الظلم ... » : 3/ 475 «إنّ نبي الله أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا ... » : 5/ 460 «أن نبي الله جلد في الخمر بالجريد والنعال ... » : 9/ 223 «إن النذر لا يقرّب من ابن آدم شيئا لم يكن الله ... » : 6/ 41، 112 «أن النساء بعد أن بايعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قلن يا رسول الله ألا تصافحنا ... » : 9/ 294 «أن النساء سفهاء إلّا التي أطاعت قيمها ... » : 5/ 443. 8/ 23 «إن نعتهم مكتوب في التوراة والإنجيل قبل ... » : 8/ 616 «إن نفرا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قالوا يا رسول الله أخبرنا عن نفسك ... » : 6/ 240 «إن هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السموات والأرض ... » : 2/ 180 «إن هذا الدين يسر ولن يشادّ الدين أحد إلّا غلبه ... » : 6/ 86

«إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ... » : 4/ 320 «إن هذا المال حلو من أخذه بحقه ووضعه في حقّه ... » : 1/ 540. 3/ 223. 9/ 424، 425 «إن هذه الآية وَلَوْ بَسَطَ ... نزلت فينا ... » : 4/ 466 «إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس وإنها ... » : 9/ 464 «إن هذه الصدقات من أوساخ الناس وإنها لا تحلّ لمحمد ولا لآل محمد ... » : 7/ 57 «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ... » : 1/ 339. 6/ 451 «أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلّى الله عليه وسلم بشريك بن سمحاء ... » : 8/ 375 «إن وجهي الشمس والقمر متجهان إلى السموات ... » : 1/ 226 «إن الوسيلة درجة عند الله ليس فوقها درجة ... » : 9/ 115 «إن يأجوج ومأجوج أمّة وكل أمّة ... » : 1/ 219 «إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم ولو أرسلوا لأفسدوا ... » : 5/ 104 «أن يهوديا رضّ رأس جارية بين حجرين ... » : 9/ 137 «إن يهودية دخلت على عائشة فقالت نعوذ بالله من عذاب ... » : 4/ 373 «إن يهوديين قال أحدهما لصاحبه اذهب بنا إلى هذا النبي صلّى الله عليه وسلم نسأله ... » : 3/ 436 «أنا آت من عند ربّي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة ... » : 9/ 113 «إنّا أمّة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا ... » : 6/ 309 «أنا أول من يؤذن له يوم القيامة بالسجود وأول من يؤذن له برفع ... » : 9/ 315 «أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الناس ... » : 1/ 484 «أنا بريء من كل مسلم مقيم بين أظهر المشركين ... » : 8/ 219 «أنا بشر مثلكم أذكر كما تذكرون وأنسى ... » : 1/ 515 «أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر وبيدي لواء الحمد ... » : 3/ 421 «أنا فرطكم على الحوض من مرّ عليّ شرب ومن شرب ... » : 9/ 161 «أنا محمد النبي الأمي ثلاثا ولا نبي بعدي أوتيت فواتح الكلم ... » : 7/ 393 «أنا مولى من لا مولى له أرث ماله وأفكّ عانه والخال ... » : 8/ 39 «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا ... » : 1/ 542 «أنتم خير أهل الأرض ... » : 8/ 599 «انتهى إلينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنا غلام في الغلمان فسلّم علينا ... » : 8/ 190

«انتهيت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة ... » : 9/ 425 «أنزل الله أربع بركات من السماء إلى الأرض وهي الحديد ... » : 9/ 328 «أنزل الله عليّ أمانين لأمتي ... » : 1/ 436. 7/ 47 «أنزل القرآن جملة واحدة حتى وضع ... » : 1/ 258 «أنزل القرآن على سبعة أحرف على أي حرف قرأتم أصبتم ... » : 2/ 513، 514. «أنزل القرآن في ليلة القدر إلى سماء الدنيا ... » : 1/ 258 «أنزلت إِذا زُلْزِلَتِ وأبو بكر قاعد فبكى فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... » : 6/ 121 «أنزلت صحف إبراهيم في أول رمضان والتوراة لست خلت ... » : 2/ 132 «أنزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته ... » : 9/ 8 «أنزلت عليّ الليلة سورة هي أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس ... » : 8/ 577 «انشقّ القمر بمكة حتى صار فرقتين ... » : 2/ 274 «انشقّ القمر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى رأيت الجبل من بين فرجتي ... » : 2/ 274 «انشقّ القمر على عهد النبي صلّى الله عليه وسلم حتى صار فرقتين ... » : 2/ 273 «الأنصار لا يحبهم إلّا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق ... » : 7/ 318. 8/ 325 «انطلق بي أبي يحملني إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أشهد أني ... » : 8/ 45 «انطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ... » : 3/ 8 «انظر فإنك لست بخير من أحمر ... » : 8/ 524 «انفذوا بعث أسامة فلعمري لئن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه ... » : 7/ 352 «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا ازددت درجة ... » : 6/ 489 «إنك [يا أبا ذرّ] امرؤ فيك جاهلية ... » : 7/ 249 «إنّكم لعلّكم تقاتلون قوما فيتقونكم بأموالهم ... » : 9/ 414 «إنكم محشورون حفاة عراة غرلا ثم قرأ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ ... » : 5/ 73 «إنما آجالكم في آجال من خلا من الأمم كما بين صلاة ... » : 9/ 335 «إنّما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ... » : 7/ 240، 241 «إنما ألّف القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبي صلّى الله عليه وسلم ... » : 1/ 84 «إنما الإمام جنّة يقاتل من ورائه ويتّقى به ... » : 2/ 311 «إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة ... » : 9/ 65 «إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إليّ ولعلّ بعضكم ألحن ... » : 6/ 321، 322.

«إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن ... » : 8/ 232 «إنما أنا رحمة مهداة ... » : 5/ 295 «إنما جعل الإمام ليؤتمّ به فإذا كبّر فكبّروا ... » : 1/ 337 «إنما سمّي البيت العتيق لأنه لم يظهر عليه جبّار ... » : 6/ 37 «إنما سمّي الخضر لأنه حبس على فروة بيضاء فاهتزّت ... » : 5/ 85 «إنما عمّار المساجد هم أهل الله ... » : 9/ 377 «إنما هذا الرجل كان يكتم إيمانه تقية من القتل ... » : 4/ 368 «إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد شدّدوا على أنفسهم ... » : 9/ 207 «إنما هما نجدان نجد الخير ونجد الشرّ فما جعل نجد الشرّ ... » : 2/ 256 «إنما هي رخصة من الله لعباده فمن فعلها فحسن ... » : 6/ 307 «إنما يغسل الثوب من الغائط والبول والقيء والدم ... » : 1/ 444 «إنه انتهى إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وهو يقرأ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ ... » : 2/ 16 «إنه بكى فقيل له ما يبكيك قال شيء سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... » : 5/ 113 «أنه جاء إلى رسول الله قوم من مضر حفاة عراة شديدي العياء ... » : 7/ 325 «أنه دخل مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بستانا من بساتين الأنصار فجعل ... » : 5/ 500 «إنه دخل مع النبي صلّى الله عليه وسلم بيت ميمونة فأتي بضبّ ... » : 4/ 174 «أنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى للذين أحسنوا الحسنى ... » : 3/ 462 «إنه ستكون بعدي أمراء من صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم ... » : 7/ 289 «أنه كان في بيتها فافتقدته في فراشه فلم تجده ... » : 3/ 354 «أنه كان لجماعة من قريش عير قادمة فسألوه هل لقيت منها شيئا ... » : 3/ 353 «أنه كان نقش خاتم سليمان بن داود ... » : 1/ 216 «أنه كان يمشي مع النبي صلّى الله عليه وسلم فيمرّ بصبيان فيسلّم عليهم ... » : 4/ 533 «أنه كان ينقع لرسول الله صلّى الله عليه وسلم الزبيب مساء فيشربه اليوم والغد ... » : 5/ 154 «أنه كان يوضع لسليمان ستمائة كرسي ثم ... » : 1/ 216 «إنه لما أصيب المسلمون باليمامة فزع أبو بكر ... » : 1/ 69 «إنه لما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم سدرة المنتهى قال انتهى إليها ... » : 1/ 330 «أنه لما قدم الشام صنع له طعام لم يصنع مثله فقال: ... هذا لنا ... » : 5/ 18 «إنه لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان فوجد فيها ... » : 1/ 135

«أنه لما نزلت هذه الآية قال الزبير يا رسول الله أيكرر ... » : 4/ 324 «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله ... » : 2/ 184. 5/ 111 «إنه ليس من عبد إلا له مصلّى في الأرض ومصعد ... » : 4/ 549 «إنه ليس من العرب قبيلة إلا قد ولدت النبي صلّى الله عليه وسلم وله فيهم نسب ... » : 5/ 194 «إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في كل يوم ... » : 4/ 378 «إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثا كثيرا أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال ... » : 5/ 141 «إنه نزل في قصة أصحاب بئر معونة قرآن ... » : 1/ 99 «أنه وجد في كتاب علي بن أبي طالب أن آدم ... » : 1/ 215 «أنه يحمل عرش الله اليوم أربعة ويوم القيامة ... » : 4/ 355 «إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره ... » : 8/ 155 «أنها سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الآية وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ... أهم الذين يشربون ... » : 5/ 320 «إنّها ستكون فتنة تستنظف العرب ... » : 4/ 105 «إنها ستكون هجرة بعد هجرة ينحاز أهل الأرض ... » : 5/ 478 «إنهم جمعوا القرآن في مصاحف في خلافة أبي بكر ... » : 9/ 570 «أنهم كانوا يأكلون لحوم الخيل على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... » : 5/ 123 «إني أخاف على أمتي اثنتين القرآن واللين ... » : 3/ 167 «إني أختم ألف ألف نبي أو أكثر ... » : 4/ 397 «إني أذكر لك أمرا ما أحبّ أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك ... » : 7/ 374 «إني أسلمت وعندي ثمان نسوة فذكرت ذلك للنبي فقال اختر ... » : 8/ 15 «إني خاتم ألف نبي أو أكثر ... » : 4/ 397 «إني خشيت أن أكون شاعرا أو مجنونا فقالت له إني أعيذك ... » : 5/ 326 «إني خشيت على نفسي قالت له [خديجة] كلا والله ما يخزيك الله ... » : 1/ 366 «إني سألت ربي أن يؤاخي بيني وبينك ففعل وسألت ... » : 3/ 511 «إني سألت ربي عز وجل الشفاعة لأمتي فأعطانيها وهي نائلة ... » : 9/ 265 «إني لآخذة بزمام العضباء ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ نزلت عليه المائدة ... » : 9/ 8 «إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم سبعين مرة ... » : 4/ 378 «إنّي لعلّي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم وإن من آخر القرآن نزولا ... » : 6/ 503 «إني لم أبعث باليهودية ولا النصرانية لكن بعثت ... » : 6/ 87

«إني ممسك بحجزكم هلم عن النار هلم عن النار ... » : 5/ 327 «إني نذرت لله إن فتح عليك مكة أن أصلّي في بيت المقدس ... » : 6/ 42 «اهجهم وجبريل معك وإنه لأشدّ عليهم من رشق النبل ... » : 3/ 277 «أهدى رجل زقّ خمر لصديق له بعد نزول الآيات ... » : 9/ 225 «أهدى الصعب بن جثّامة إلى النبي صلّى الله عليه وسلم حمار وحش وهو محرم فردّه ... » : 9/ 234 «أهل الجنة جرد ومرد كحل ... » : 1/ 383 «أوصاني خليلي أن أسمع وأطيع وإن كان عبدا مجدّع ... » : 8/ 154 «أوصاني خليلي بثلاث بصيام ثلاثة أيام من كل شهر ... » : 1/ 338 «أوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقدا في الإسلام ... » : 9/ 13 «أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذه ... » : 9/ 249 «أول ما بدأ به رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة ... » : 1/ 39، 40، 316 «أول ما خلق الله القلم فقال له: ... اكتب قال وما أكتب قال اكتب ... » : 6/ 74 «أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء ... » : 8/ 204 «أولاد الأبناء بمنزلة الأبناء إذا لم يكن دونهم ابن ذكرهم ... » : 8/ 38 «أي الربا أربى عند الله قالوا الله ورسوله أعلم ... » : 7/ 417 «أي رجل تزوج بامرأة وبه جنون أو ضرر فإنها تخيّر ... » : 6/ 411 «أي عبد أصاب ذنبا ما نهى الله عنه ثم أقيم عليه حدّه كفر عنه ... » : 8/ 209 «إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم ... » : 8/ 356 «إياكم والحلف في البيع فإنه ينفق ثم يمحق ... » : 6/ 405 «إياكم والدخول على النساء فقال رجل يا رسول الله أرأيت ... » : 8/ 397 «إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشحّ ... » : 7/ 320 «إيّاكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تحسسوا ... » : 3/ 382. 8/ 516 «إيّاكم والغلوّ في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلوّ ... » : 9/ 195، 583 «إياكم والوصال مرتين قيل إنك تواصل يا رسول الله قال ... » : 6/ 318 «إياكم وسوء ذات البين فإنها الحالقة ... » : 1/ 370 «إياكم ومحقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب مثل قوم نزلوا ... » : 5/ 74 «إياكم وهاتان الكعبتان الموسومتان اللتان تزجران ... » : 9/ 226

«أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى ... » : 6/ 360 «أيام منى ثلاثة فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ... » : 9/ 583 «ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد ... » : 2/ 381 «أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن ... » : 2/ 68 «أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضمضم قالوا ... » : 8/ 268 «أيكم يبايعني على ثلاث ثم تلا الآيات ... » : 4/ 187 «أيما امرأة زوجها وليان فهي للأول منهما ... » : 8/ 76 «أيما امرأة سألت زوجها طلاقها في غير بأس فحرام عليها ... » : 6/ 424 «أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل ... » : 8/ 76 «أيما امرأة ولدت من سيدها فهي معتقة عن دبر منه ... » : 2/ 261. 8/ 20، 90 «أيما امرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء أحدهما إن كان قال ... » : 8/ 514 «أيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع فإن عليه ... » : 5/ 127 «أيما رجل أعتق امرأ مسلما استنقذ الله ... » : 2/ 261 «أيما رجل تزوج امرأة وبها جنون أو جذام أو برص ... » : 6/ 412. 8/ 77. «أيّما رجل عاهر بحرة أو أمة فالولد ولد زنا لا يرث ولا يورث ... » : 8/ 38 «أيما رجل مسلم أعتق رجلا مسلما فإن الله جاعل وقاء ... » : 2/ 262 «أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر ... » : 8/ 89 «أيما عبد كاتب على مائة دينار فأداها إلا عشرة ... » : 8/ 420 «الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة ... » : 1/ 456 «أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمّ ... » : 2/ 234 «أيها الناس أقيموا الحدّ على إمائكم من أحصن منهن ... » : 8/ 91 «أيها الناس إن الله حبس عن مكة الفيل وسلّط عليها ... » : 9/ 307 «أيها الناس إن الله طيب لا يقبل ... » : 5/ 197 «أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عبّية الجاهلية ... » : 8/ 522 «أيها الناس إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه ... » : 9/ 584 «أيها الناس إن هذا اليوم قد اجتمع لكم فيه عيدان فمن أحبّ أن يشهد ... » : 7/ 341 «أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا ... » : 2/ 376 «أيها الناس عدلت شهادة الزور بالإشراك مرتين ... » : 6/ 45

- ب -

«أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموه ... » : 7/ 240 «أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدوّ وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم ... » : 7/ 70 «أيها الناس ليس من شيء يقرّبكم إلى الجنة ويباعدكم ... » : 5/ 502 «أيها الناس من علم شيئا فليقل به ومن لم يعلم فليقل ... » : 2/ 359 - ب- «بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم. يصبح الرجل مؤمنا ويمسي ... » : 7/ 208 «بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر ... » : 8/ 154. 9/ 59 «بتّ عند خالتي ميمونة فتحدث رسول الله مع أهله ساعة ثم رقد ... » : 7/ 293 «البحيرة هي التي يمنع درّها للطواغيت فلا ... » : 9/ 244 «البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها ... » : 2/ 379 «بشّر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة ... » : 2/ 379 «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم بخيل قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة ... » : 8/ 305 «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم جيشا وأمّر عليهم عليا فمضى في السرية ... » : 9/ 186 «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة ... » : 8/ 427 «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأربعين سنة فمكث في مكة ثلاث عشرة سنة ... » : 9/ 585 «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم مصدقا فقال لا تأخذ من حزازات أنفس ... » : 9/ 484 «بعث النبي صلّى الله عليه وسلم أبا بكر وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات ... » : 9/ 346 «بعث النبي صلّى الله عليه وسلم بسيسة عينا ينظر ما صنعت عير أبي سفيان ... » : 8/ 519 «بعث النبي صلّى الله عليه وسلم بعثا يوم حنين إلى أوطاس فظهروا عليهم ... » : 6/ 394 «بعث النبي صلّى الله عليه وسلم رجلا على سريّة فكان يقرأ لأصحابه ... » : 2/ 68، 69 «بعثت أنا والساعة هكذا ويشير بإصبعيه ... » : 2/ 277. 5/ 118. 8/ 315 «بعثت بالحنيفية السمحة ... » : 2/ 476 «بعثني أبو بكر في الحجة التي أمّره رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليها ... » : 2/ 385. 9/ 346 «بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال انطلقوا حتى تأتوا ... » : 9/ 269 «بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حاجة فجئت وهو يصلي على راحلته ... » : 6/ 229، 261. 8/ 224 «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر ... » : 9/ 247

«بلغ النبي صلّى الله عليه وسلم عن أصحابه شيء فخطب فقال عرضت ... » : 9/ 240 «بلغنا أن عثمان قال يوما وهو على المنبر أذكر الله رجلا ... » : 2/ 513 «بلّغوا عني ولو آية ... » : 4/ 73 «البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم ... » : 6/ 258 «بئس مطية الرجل زعموا ... » : 8/ 182 «البيع عن تراض والخيار بعد الصفقة ولا يحل لمسلم أن يغش ... » : 8/ 96 «البيعان بالخيار ما لم يفترقا فإن صدقا وبيّنا بورك ... » : 8/ 97 «بينا أنا أسير في الجنة إذ عرض لي نهر ... » : 2/ 13 «بينا أنا أسير مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتعوّذ بالمعوذتين ويقول ... » : 2/ 46 «بينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت ... » : 1/ 441 «بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان وذكر بين ... » : 2/ 86 «بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعنده جبريل إذ سمع نقيضا فوقه فرفع جبريل بصره ... » : 6/ 521 «بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل ... » : 4/ 366 «بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت ... » : 1/ 442 «بينما جبريل قاعد عند النبي صلّى الله عليه وسلم سمع نقيضا ... » : 1/ 291 «بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتدّ في أثر رجل في المشركين ... » : 7/ 20 «بينما رجل يمشي قد أعجبته جبته وبرداه إذا خسف ... » : 3/ 345، 383 «بينما رسول الله في بعض مغازيه وقد فاوت السير بأصحابه ... » : 6/ 9 «بينما كان النبي صلّى الله عليه وسلم جالسا مع أصحابه إذ قال لهم تسمعون ... » : 5/ 260 «بينما نبي الله صلّى الله عليه وسلم جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب ... » : 1/ 506. 3/ 387. 8/ 345 «بينما النبي صلّى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس فسأل عنه ... » : 6/ 42، 111 «بينما نحن عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا ... » : 1/ 467 «بينما نحن في صلاة الظهر إذ تقدّم رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... » : 5/ 546 «بينما نحن قائلون إذ نادى منادي رسول الله صلّى الله عليه وسلم أيها الناس البيعة ... » : 8/ 599 «بينما نحن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمنى انشق القمر فلقتين ... » : 2/ 273 «البيّنة على المدعي واليمين على المدعى عليه ... » : 9/ 255

- ت -

- ت- «تبّا للذهب تبّا للفضة ... » : 9/ 422 «تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ... » : 9/ 290 «تبعث كل نفس على ما كانت عليه ... » : 2/ 375 «تجاوز الله لأمتي عمّا حدثت به نفسها ما لم تتكلم به ... » : 6/ 519 «تجدون الناس معادن كمعادن الذهب والفضة فخيارهم في الجاهلية ... » : 9/ 561 «تحاجت الجنة والنار فقالت النار أوثرت ... » : 2/ 236 «تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأخير ... » : 2/ 133 «تخرج عنق من النار يوم القيامة ... » : 1/ 419 «تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلّى الله عليه وسلم أني رأيته فقام ... » : 6/ 310 «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسّكتم بهما كتاب الله ... » : 5/ 141 «تزوجت امرأة فجاءتنا امرأة سوداء فقالت أرضعتكما فأتيت ... » : 8/ 69 «تزوجت امرأة من بني فزارة على نعلين فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أرضيت ... » : 8/ 74 «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم ... » : 8/ 78 «تستأمر اليتيمة في نفسها فإن سكتت فهو إذنها ... » : 8/ 75 «تصعد الشياطين أفواجا تسترق السمع فينفرد المارد ... » : 3/ 11 «تضمّن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهادا في سبيلي ... » : 6/ 381. 8/ 169. 9/ 453، 541 «تطلع عليكم عند الساعة سحابة سوداء ... » : 5/ 118 «تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة ... » : 1/ 540. 9/ 424 «تعلّموا القرآن والفرائض وعلّموها الناس فإني مقبوض ... » : 8/ 37 «تعلّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم فإن صلة الرحم محبة ... » : 6/ 378 «تعوذوا من جب الحزن ... » : 2/ 22 «تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله وتغزون فارس ... » : 8/ 567 «تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخمسين فيغفر لكل عبد ... » : 8/ 510 «التفسير على أربعة أنحاء تفسير لا يعذر أحد على فهمه وتفسير ... » : 7/ 122 «تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى أن الرجل ... » : 4/ 536

- ث -

«التقطوا صبيانكم أول العشاء فإنه وقت انتشار الشياطين ... » : 6/ 504 «تقيء الأرض أفلاذ أكبادها أمثال الأسطوانة ... » : 6/ 119 «تكفلوا لي بست أتكفل لكم بالجنة قالوا ما هي يا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... » : 9/ 503 «تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم الآية [والسابقون ... ] فقال كلهم من هذه الأمة ... » : 3/ 126 «تلا رسول الله الآية وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ ... فقام رجل من هذيل ... » : 7/ 196 «تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذه الآية فقلنا يا رسول الله وما علامة ... » : 4/ 313 «تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذه الآية كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فقلنا يا رسول الله ... » : 6/ 97 «تناكحوا تكثروا فإني مباه بكم الأمم ... » : 8/ 414 «تنكح المرأة لأربع لما لها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر ... » : 8/ 78 «توضع الموازين يوم القيامة فيؤتى بالرجل ... » : 5/ 272 «توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو ابن خمس وستين سنة ... » : 9/ 585 - ث- «ثلاث إذا خرجن لم ينفع نفسا ... » : 4/ 195 «ثلاث جدهنّ جدّ وهزلهنّ جدّ النكاح والطلاق والرجعة ... » : 6/ 432 «ثلاث من كنّ فيه ستر الله عليه كنفه وأدخله الجنة رفق بالضعيف ... » : 8/ 119 «ثلاث من كن فيه صار منافقا وإن صام وصلّى ... » : 9/ 503 «ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله ... » : 9/ 382 «ثلاثة تحت العرش يوم القيامة يحاج العباد له ... » : 5/ 535 «ثلاثة حقّ على الله عونهم المكاتب الذي يريد الأداء والناكح ... » : 8/ 415 «ثلاثة لا تردّ دعوتهم الصائم حتى يفطر والإمام العادل ودعوة ... » : 6/ 302 «ثلاثة لا يكلّمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكّيهم ... » : 7/ 176 «ثلاثة لا يكلّمهم الله يوم القيامة المنّان الذي لا يفعل شيئا إلّا المنّ ... » : 7/ 176 «ثلاثة لا يكلّمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكّيهم ... » : 6/ 488. 7/ 176 «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل ... » : 3/ 326 «ثمّ يضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أول من يجوز ... » : 3/ 174 «الثيب أحق بنفسها من وليّها ... » : 6/ 443. 8/ 75

- ج -

- ج- «جاء أعرابي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن في الجنة ... » : 5/ 539 «جاء أعرابي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله علّمني عملا ... » : 2/ 262 «جاء أعرابي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال إني رأيت الهلال فقال أتشهد ... » : 6/ 310 «جاء أعرابي فأناخ راحلته ثم عقلها ثم صلى خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... » : 2/ 459 «جاء إلى بيوت النبي صلّى الله عليه وسلم ثلاثة رهط يسألون عن عبادة النبي صلّى الله عليه وسلم ... » : 9/ 208 «جاء أناس من اليهود إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد أفي الجنة فاكهة ... » : 6/ 104 «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت النبي صلّى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته فلما أخبروا ... » : 8/ 414 «جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال يا محمد ... » : 4/ 345 «جاء رجل إلى عبادة بن الصامت فسأله فقال أنبئني ... » : 5/ 113 «جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال إني أجنبت فلم أصب الماء ... » : 8/ 133 «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم شيخ كبير يدّعم على عصا ... » : 4/ 339 «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال إن أختي نذرت أن تحجّ وقد ماتت ... » : 6/ 111 «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن ... » : 1/ 334 «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال علّمني شيئا ولا تكثر ... » : 4/ 422، 474. «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت الرجل ... » : 4/ 146. 9/ 101 «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أصابني الجهد فأرسل ... » : 7/ 319 «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن أمي ماتت ... » : 2/ 114 «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني أبدع بي فاحملني ... » : 6/ 88 «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني إذا أصبت اللحم ... » : 9/ 208 «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله شهدت أن لا إله إلا الله ... » : 8/ 164 «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كم تعفو عن الخادم ... » : 2/ 263. 4/ 478. 8/ 119 «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم يوم الفتح فقال يا رسول الله إني نذرت ... » : 6/ 110 «جاء عثمان إلى النبي صلّى الله عليه وسلم بألف دينار في كمّه حين جهز جيش العسرة ... » : 9/ 440 «جاء عمر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال يا رسول الله هلكت قال وما أهلكك ... » : 6/ 396 «جاء عمي من الرضاعة يستأذن عليّ فأبيت أن آذن له حتى أسأل ... » : 8/ 69

- ح -

«جاء مشركو قريش إلى النبي صلّى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر ... » : 2/ 287 «جاء وفد هوازن مسلمين إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وسألوه أن يرد إليهم أموالهم ... » : 8/ 306 «جاء اليهود إلى النبي صلّى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا فقال لهم كيف تفعلون ... » : 7/ 193 «جاءت امرأة إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إنّ أمي ماتت ... » : 2/ 114 «جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله ... » : 8/ 35 «جاءت جارية بكر إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة ... » : 8/ 75 «جاءت العميصاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم تشتكي زوجها أنه لا يصل إليها ... » : 6/ 428 «جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين ... » : 2/ 459 «جعل الناس يسألون رسول الله صلّى الله عليه وسلم أعلينا حرج في كذا فقال ... » : 6/ 87 «جعلت الصلوات كفارات لما بينهن فإن الله قال ... » : 3/ 548 «جلبت جلوبة إلى المدينة في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلما فرغت ... » : 2/ 467 «جلدت بأمر القرآن ورجمت بالسنة النبوية ... » : 8/ 359 «جلس ناس من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم ينتظرونه فخرج حتى إذا دنا منهم ... » : 7/ 158 «جمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم الأنصار فقال أفيكم أحد من غيركم فقالوا لا إلا ... » : 9/ 388 «جنات الفردوس أربع ثنتان من ذهب حليتهما ... » : 5/ 109 «جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة فبلغ النبي صلّى الله عليه وسلم ... » : 1/ 82 «الجمعة حقّ واجب على كل مسلم في جماعة إلّا أربعة عبد مملوك ... » : 7/ 338 «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما ... » : 6/ 101. 9/ 96 «الجنف في الوصية من الكبائر ... » : 6/ 298 «الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال ... » : 8/ 303 «جئت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إني جئتك على حياء ... » : 9/ 471 «الجيران ثلاثة جار له حق واحد وجار له حقان ... » : 8/ 118 «جئن النساء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلن يا رسول الله ذهب الرجال بالفضل ... » : 7/ 377 «جئنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حجة الوداع والناس يسألون الصدقة ... » : 9/ 470 - ح- «حاصر رسول الله صلّى الله عليه وسلم الطائف فلم ينل منهم شيئا فقال إنا قافلون ... » : 9/ 385 «الحج أشهر معلومات شوال وذو القعدة وذو الحجة ... » : 6/ 352

- خ -

«الحجّ الحجّ يوم عرفة ... » : 6/ 343، 356 «الحجّ عرفات أو يوم عرفة من أدرك ليلة جمع قبل الصبح ... » : 9/ 583 «حججت فدخلت على عائشة فقالت لي يا جبير تقرأ المائدة ... » : 9/ 8 «حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق فقال إن أحدكم ... » : 2/ 291. 6/ 13 «حدثني أبو سفيان من فيه إلى فيّ قال انطلقت في المدة ... » : 7/ 162، 163 «حدثني بعض أهل العلم أن الصلاة حين افترضت ... » : 1/ 328 «حدّ الساحر ضربة السيف ... » : 6/ 212 «حرّم رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما بين لابتي المدينة فلو وجدت الظباء ... » : 9/ 396 «حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في ... » : 7/ 272 «حضرت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقيد الأب من ابنه ولا يقيد الابن من أبيه ... » : 6/ 292 «حفظت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حديثا لم أنسه بعد ... » : 4/ 195 «حفظت من رسول الله صلّى الله عليه وسلم عشر ركعات ركعتين قبل الظهر ... » : 1/ 335 «الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها ... » : 4/ 10. 9/ 561 «حكيت للنبي إنسانا فقال ما أحب أني حكيت إنسانا ... » : 8/ 519 «الحلال ما أحلّ الله في كتابه والحرام ما حرّم الله في كتابه ... » : 5/ 198 «الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة ... » : 6/ 405 «الحمد لله ربّ العالمين أمّ القرآن وأمّ الكتاب ... » : 1/ 287 «حين أسري بي لقيت موسى عليه السلام فإذا رجل ... » : 2/ 85 «حينما بايعه الناس تحت الشجرة ... » : 8/ 599 «حينما كانت العصا تنقلب ثعبانا في يد موسى ... » : 1/ 222 - خ- «خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهنّ سبيلا ... » : 8/ 354 «خذوا القرآن عن أربعة عبد الله بن مسعود ... » : 1/ 70 «خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بدّاء فمات السهمي ... » : 9/ 251 «خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمّما ... » : 8/ 134 «خرج عبدان إلى النبي صلّى الله عليه وسلم يوم الحديبية قبل الصلح فكتب إليه مواليهم ... » : 8/ 309 «خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات يوم قابضا على كفيه ومعه كتابان ... » : 4/ 439

«خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال إن الله أيدكم بصلاة ... » : 1/ 335 «خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم متوكئا على عصا فقمنا إليه فقال لا تقوموا ... » : 8/ 484 «خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر فغضب ... » : 2/ 292. 4/ 517 «خرج فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث ... » : 1/ 222 «خرج النبي صلّى الله عليه وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة ... » : 7/ 366 «خرج النبي صلّى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط مرحّل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي ... » : 7/ 162، 379 «خرج النبي صلّى الله عليه وسلم قبل بدر فلما كان بحرّة الوبرة أدركه رجل ... » : 9/ 156، 157 «خرجت أنا وأبي فلقينا أبا اليسر صاحب رسول الله ومعه غلام ... » : 2/ 262 «خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها ... » : 1/ 209 «خرجت سودة لحاجتها بعد أن نزل الحجاب وكانت امرأة جسيمة ... » : 7/ 376 «خرجنا في سفر فأصاب رجلا منّا حجر فشجّه في رأسه ... » : 8/ 135. 9/ 242 «خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فشهدت بدرا فالتقى الناس فهزم الله العدوّ ... » : 7/ 9 «خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا ... » : 5/ 233 «خرجنا مع النبي صلّى الله عليه وسلم عام خيبر فلم نغنم ذهبا ولا ورقا إلّا الثياب والمتاع ... » : 7/ 260 «خرجنا مع النبي صلّى الله عليه وسلم في سفر فركبنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ورسول الله بيننا ... » : 6/ 505 «خرجنا مع النبي صلّى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلّي ركعتين ركعتين ... » : 8/ 225 «خشينا أن يكون بعد نبينا حديث فسألناه فقال ... » : 5/ 298 «خصلتان لا تجتمعان في مؤمن البخل وسوء الخلق ... » : 1/ 444. 8/ 120 «خطّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم خطّا بيده ثم قال هذا سبيل الله ... » : 4/ 188 «خطب أمير مكة ثم قال عهد إلينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن ننسك ... » : 6/ 309 «خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلم الناس وقال إن الله خيّر عبدا بين الدنيا ... » : 9/ 444 «خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو عاصب إصبعه من لدغة عقرب ... » : 5/ 104 «خطب عمر بن الخطاب فذكر الرجم فقال إنا لا نجد من الرجم بدا ... » : 8/ 356 «خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال أما بعد ... » : 2/ 278 «خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما فقال والذي نفسي بيده ... » : 1/ 431. 2/ 109 «خطبنا عمر فقال ألا لا تغالوا بصداق النساء فإنها لو كانت مكرمة ... » : 8/ 59 «خطبني رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاعتذرت له فعذرني ... » : 7/ 402

- د -

«خلق الله آدم وطوله ستون ذراعا ثم قال اذهب ... » : 2/ 352 «خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين وخلق الجبال يوم الثلاثاء ... » : 2/ 243 «خلق الله الخلق فلما فرغ منه قامت الرحم ... » : 5/ 534 «خلق الله عزّ وجل التربة يوم السبت وخلق فيها ... » : 2/ 352 «خلقت الملائكة من نور وخلق إبليس من مارج من نار وخلق آدم ... » : 5/ 76 «خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج ... » : 1/ 466 «خمس فواسق يقتلن في الحلّ والحرم الحيّة والعقرب والغراب ... » : 7/ 197. 9/ 234 «خمس من الدواب لا حرج على من قتلهن الغراب والحدأة ... » : 9/ 21، 233 «خولكم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه ... » : 8/ 120 «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبّونكم ويصلّون ... » : 8/ 155 «خيار ولد آدم خمسة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ... » : 4/ 444 «خياركم أحاسنكم أخلاقا ... » : 2/ 561 «خياركم أحاسنكم أخلاقا ... » : 4/ 249 «خياركم أحاسنكم أخلاقا ... » : 4/ 422 «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران ... » : 8/ 118 «خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرّتك وإذا أمرتها أطاعتك ... » : 8/ 107 «خير نساء ركبن الإبل صالحو نساء قريش أحناه على ولد ... » : 8/ 107 «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي ... » : 8/ 58 «خيركم قرني ثم الذين يلونهم، قال عمران لا أدري ذكر اثنين ... » : 6/ 110 «خيركم قرني ثم الذين يلونهم لا أدري ذكر اثنين ... » : 6/ 42 «الخيل ثلاثة هي لرجل وزر ولرجل ستر ولرجل أجر فأما التي ... » : 7/ 85 «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم ... » : 2/ 9. 7/ 84 - د- «دبّ إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء ... » : 1/ 371 «الدجال يخرج من أرض بالمشرق يقال لها خراسان ... » : 4/ 382 «دحيت الأرض من مكة وكانت الملائكة تطوف بالبيت فهي أول ... » : 6/ 154

- ذ -

«دخل أبو بكر على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال أنت عتيق الله من النار ... » : 9/ 444، 445 «دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم البيت هو وأسامة وبلال وعثمان بن طلحة ... » : 2/ 173 «دخل رهط من اليهود على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالوا السام عليك ... » : 8/ 192 «دخل رهط من اليهود على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالوا السام عليكم ... » : 8/ 479 «دخل عثمان بن عفان على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أخبرني ... » : 2/ 232 «دخل النبي صلّى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب ... » : 9/ 311 «دخلت على رسول الله فإذا هو مضطجع على رمال حصير ... » : 5/ 17 «دعا النبي صلّى الله عليه وسلم الأنصار أن يقطع لهم البحرين قالوا لا إلا ... » : 7/ 319 «الدعاء مخّ العبادة ... » : 2/ 411 «دعي النبي صلّى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار فقلت يا رسول الله طوبى له ... » : 2/ 540 - ذ- «ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله أو لم يذكر ... » : 4/ 146 «ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم الدجّال ذات غداة فخفض فيه ورفع ... » : 4/ 385 «ذكر عند النبي صلّى الله عليه وسلم القنفذ فقال خبيثة ... » : 4/ 174 «ذكر لرسول الله صلّى الله عليه وسلم رجلان أحدهما عابد والآخر عالم فقال فضل العالم ... » : 8/ 486 «ذكر النبي صلّى الله عليه وسلم الدجال إلى أن قال ينفخ في الصور ... » : 1/ 446 «ذكرت الطيرة عند النبي صلّى الله عليه وسلم فقال أحسنها الفأل ... » : 9/ 36 «ذمة الله ورسوله بريئة من كل مشرك فسيحوا ... » : 9/ 346 «الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء والبرّ بالبرّ ربا ... » : 6/ 495 «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبرّ بالبرّ ... » : 6/ 494 «ذهبت أنا وأخي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إنّ أمنا ... » : 6/ 122 - ر- «الرافلة في الزينة في غير أهلها كمثل ظلمة يوم القيامة ... » : 8/ 407 «رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ربّه بقلبه ولم يره ببصره ... » : 2/ 200 «رأيت بلالا يؤذن ويدور ويتبع فاه هاهنا وهاهنا وأصبعاه ... » : 7/ 343 «رأيت جبريل وله ستمائة جناح ... » : 2/ 81، 98

«رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم قائما بين الركن والباب وهو يقول يا أيها الناس ... » : 8/ 81 «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلّي في ثوب واحد متوشحا به ... » : 2/ 386 «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يؤمّ الناس وأمامة بنت أبي العاص ... » : 1/ 336 «رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم افتتح التكبير للصلاة فرفع يديه ... » : 1/ 331 «رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم قال بإصبعيه هكذا بالوسطى وبالتي تلي ... » : 5/ 417 «رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم يخطب وعليه بردان أخضران ... » : 1/ 338 «رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم يخلل أصابع رجليه بخنصره ... » : 9/ 61، 64 «رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول ما أطيبك وأطيب ريحك ... » : 8/ 516 «ربّ صائم ليس له من صيامه إلّا الجوع وربّ قائم ليس له من قيامه ... » : 6/ 302 «رباط يوم في سبيل الله أفضل أو خير من صيام شهر وقيامه ... » : 7/ 301 «رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم في ما سواه من المنازل ... » : 7/ 301 «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها ... » : 7/ 301 «رجع ناس من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم من أحد وكان الناس فيهم فرقتين ... » : 8/ 194 «الرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته ... » : 8/ 110 «الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمدّ يده إلى السماء ... » : 2/ 412 «رجم رسول الله صلّى الله عليه وسلم ورجمنا بعده ... » : 8/ 359 «رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة ... » : 8/ 613 «الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني ... » : 5/ 535 «رخّص رسول الله صلّى الله عليه وسلم لرعاء الإبل في البيتوتة أن يرموا يوم النحر ... » : 6/ 359 «رخص النبي صلّى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثا ثم نهى عنها ... » : 8/ 81 «رخّص النبي صلّى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام في لبس الحرير ... » : 5/ 198 «ردّ النبي صلّى الله عليه وسلم زينب على أبي العاص بن الربيع بعد ست سنين ... » : 9/ 386 «رضا الربّ من رضا الوالد وسخط الربّ من سخط الوالد ... » : 3/ 381 «رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه قيل يا رسول الله من ... » : 3/ 381 «رفع القلم عن ثلاث الصبي حتى يحتلم أو يستكمل الخمس عشرة ... » : 8/ 27 «رفع القلم عن الثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي ... » : 9/ 118 «رفع الناس أصواتهم بالدعاء فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... » : 2/ 409 «رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر وما منهم يومئذ أحد إلا يميد ... » : 7/ 247

- ز -

«الرؤيا هي رؤيا عين أريها رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة أسري به ... » : 3/ 403 - ز- «زار النبي صلّى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال استأذنت ربي ... » : 9/ 543 «زوجك وولدك أحقّ من تصدقت به عليهم ... » : 9/ 468 «زينوا القرآن بأصواتكم ليس منّا من لم يتغنّ ... » : 1/ 411 - س- «سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له ... » : 3/ 126 «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله ... » : 1/ 479 «سافرنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ... » : 6/ 307 «سأل أهل مكة النبي صلّى الله عليه وسلم آية فانشق القمر بمكة ... » : 2/ 273، 274 «سأل رجل رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنا نركب البحر ونحمل القليل من الماء ... » : 9/ 67 «سأل رجل النبي صلّى الله عليه وسلم إلى متى يحلّ لي الحرام إلى أن يروى أهلك ... » : 4/ 172 «سأل رجل النبي صلّى الله عليه وسلم في الذي حرّم الله عليه وأحله له ... » : 4/ 172 «سألت أبا سلمة أي القرآن أنزل أول ... » : 1/ 442 «سألت أبيّ بن كعب فقلت إن أخاك ابن مسعود يقول من يقم ... » : 2/ 133 «سألت أبي عن هذه الآية قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ ... أهم الحرورية ... » : 5/ 109 «سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة فقال كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا خرج ... » : 8/ 226 «سألت أو سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم أي الذنب عند الله أكبر ... » : 3/ 100 «سألت خديجة النبي صلّى الله عليه وسلم عن ولدين ماتا لها في الجاهلية ... » : 5/ 363 «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال ... » : 1/ 335. 5/ 302 «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض ... » : 2/ 176 «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن البرّ والإثم فقال البرّ حسن ... » : 2/ 107 «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الجدار أمن البيت هو قال نعم ... » : 2/ 173 «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن النظرة الفجأة فقال اصرف بعدها بصرك ... » : 8/ 401 «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن يوم الحج الأكبر فقال يوم النحر ... » : 9/ 349 «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم هل رأيت ربك فقال نور إني أراه ... » : 2/ 97، 200

«سألت عائشة عن لحن القرآن في قوله تعالى إِنْ هذانِ ... ...» : 1/ 135 «سألت عائشة فقلت يا أم المؤمنين هل رأى محمد ربّه ... » : 2/ 200 «سألت عائشة ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ... » : 6/ 399 «سألت النبي صلّى الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة فقال أنا فاعل ... » : 1/ 484. 2/ 184 «سألت النبي صلّى الله عليه وسلم عن صيد البازي قال ما أمسك عليك فكل ... » : 9/ 39 «سألت النبي صلّى الله عليه وسلم فقلت إنا يا رسول الله بأرض باردة نعالج فيها عملا ... » : 9/ 222 «سام أبو العرب وحام أبو الحبش ويافث أبو الروم ... » : 4/ 218 «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ... » : 8/ 514 «سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنّا له مقرنين ... » : 4/ 493 «سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ... » : 5/ 308 «سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه الإمام العادل ... » : 2/ 311، 379 «سبعة يظلهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظله.. رجل قلبه معلّق ... » : 8/ 427 «سبعة يظلهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه منهم رجل ... » : 6/ 489 «ستة لعنتهم لعنهم الله وكلّ نبي كان الزائد ... » : 2/ 289 «ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه ... » : 7/ 84 «ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر ... » : 8/ 219 «سجد عمر سجدتين في الحجّ وهو بالجابية وقال إن هذه ... » : 6/ 8 «سجدت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إحدى عشرة سجدة ... » : 1/ 350 «سجدنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ و ... » : 1/ 350 «السجود أخفض من الركوع ... » : 6/ 261 «سحر رسول الله صلّى الله عليه وسلم يهودي من يهود بني زريق ... » : 2/ 53 «سحر النبي صلّى الله عليه وسلم رجل من اليهود قال فاشتكى لذلك أياما ... » : 2/ 52 «سخر الله لذي القرنين السحاب فحمل عليه ... » : 1/ 220 «سرقت امرأة على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فجاء بها الذين سرقتهم ... » : 9/ 118 «سقطت قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة ... » : 9/ 56 «السلام قبل الكلام ... » : 4/ 532. 8/ 191 «سلوا الله لي الوسيلة فإنه لم يسألها لي عبد في الدنيا ... » : 9/ 114 «سلوا الله من فضله فإن الله عزّ وجلّ يجب أن يسأل ... » : 2/ 411. 6/ 317

«سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم جلبة خصم بباب حجرته فخرج إليهم فقال ألا ... » : 8/ 232 «سمع النبي صلّى الله عليه وسلم رجلين اختلفا في آية وفرق في وجهه الغضب ... » : 7/ 119 «السمع والطاعة على المرء فيما أحبّ أو كره ما لم يؤمر ... » : 5/ 443 «السمع والطاعة على المرء المسلم في ما أحبّ أو كره ما لم يؤمر ... » : 7/ 31 «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب أو كره ... » : 2/ 310. 4/ 250. 7/ 203. 8/ 154، 412. 9/ 291 «سمعت أبا بكر هو الصديق يقول سمعت ... » : 1/ 436 «سمعت ابن عمر يقول قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم مثل هذه الأمة ... » : 9/ 336 «سمعت أبي يقول قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا ينكح المحرم ولا يخطب ... » : 9/ 16 «سمعت أبي يقول نظر رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى ملك الموت عند رأس رجل ... » : 5/ 346 «سمعت الأوزاعي وسأله رجل قال رحمك الله رأينا طيورا ... » : 4/ 372 «سمعت حذيفة بن اليمان يقول قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم وذكر فتنة ... » : 4/ 296 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس ألا وإن ... » : 2/ 382 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يقول ليس الكذاب الذي يصلح ... » : 4/ 226 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحكي ربّه عزّ وجلّ قال إن الله والرحمن ... » : 5/ 534 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يذكر هذه الآية فيقول فأما السابق بالخيرات ... » : 3/ 125 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إذا جمع الله الأولين والآخرين ... » : 5/ 114 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إذا ضنّ الناس بالدينار والدرهم ... » : 2/ 328 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إذا كان يوم القيامة أدنيت ... » : 5/ 509 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول أظلّ الله عبدا في ظلّه يوم لا ظلّ ... » : 6/ 503 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة ... » : 2/ 185 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن الله عزّ وجلّ خلق خلقه ... » : 1/ 461 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن أهون أهل النار عذابا ... » : 1/ 420 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن أول ما خلق الله ... » : 1/ 362، 363 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن أول ما خلقه الله القلم ثم خلق النون ... » : 2/ 292 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إنّ شرّ الناس ذو الوجهين ... » : 1/ 370 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن الناس إذا رأوا الظالم ... » : 3/ 371 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن الناس إذا رأوا ظالما ... » : 3/ 74

«سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إنك إن اتبعت عورات الناس ... » : 8/ 516 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول ستكون هناك هنات وهنات ... » : 8/ 155 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول العيافة والطيرة ... » : 4/ 30 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول في الجنة بحر اللبن وبحر الماء وبحر العسل ... » : 8/ 313 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث لا يموتنّ أحدكم إلا ... » : 7/ 202 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول لا تواصلوا فأيكم أراد ... » : 6/ 318 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول لا نورث ما تركنا صدقة ... » : 7/ 55. 8/ 40 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول لا يدخل الجنة قتّات ... » : 1/ 369، 370 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول لا يمين عليك ولا نذر في معصية ... » : 6/ 43 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ... » : 8/ 566 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول ليس أحد يحاسب إلا هلك ... » : 5/ 425 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول ما أحبّ أن لي الدنيا وما ... » : 4/ 339 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة ... » : 3/ 178 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول ما من عبد مسلم يصلّي لله ... » : 1/ 335 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من أنظر معسرا فله بكل يوم مثله ... » : 6/ 500، 502 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من بني مسجدا يبتغي وجه الله ... » : 2/ 378 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من حلف بغير الله ... » : 4/ 29 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من زار قوما فلا يؤمّهم ... » : 1/ 337 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من سرّه أن يبسط الله له في رزقه ... » : 3/ 115 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من سلك طريقا يبتغي به علما ... » : 3/ 210. 4/ 10 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من قال أستغفر الله ... » : 1/ 435 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من كانت الدنيا همّه فرّق الله عليه أمره ... » : 3/ 224 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من مات مرابطا أجرى الله عليه ... » : 6/ 69 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول المهدي من عترتي من ولد فاطمة ... » : 5/ 297 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى ... » : 6/ 164 «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول يحشر الناس يوم القيامة على أرض ... » : 5/ 251 «سمعت عليا يقول قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنا مسنده إلى صدري ... » : 8/ 351 «سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلم أكثر من مرة يقول كان الكفل من بني إسرائيل ... » : 2/ 331

«سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم قرأ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ فقال ... » : 1/ 308 «سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم نهى النساء في إحرامهن عن القفازين ... » : 2/ 387. 8/ 400 «سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول وأعدّوا لهم ما استطعتم ... » : 7/ 84 «سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يأمر في من زنى ولم يحصن جلد مائة وتغريب عام ... » : 8/ 354 «سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه ... » : 5/ 370 «سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول إن أهل الجنة يأكلون فيها ... » : 5/ 547 «سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه ... » : 4/ 422 «سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول يوم فتح مكة لا تغزى هذه بعد اليوم ... » : 9/ 312 «سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم ينهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب ... » : 9/ 16 «سمعت نبيكم يقول من جعل الهموم همّا واحدا همّ المعاد ... » : 3/ 223 «السموات والأرض في جوف الكرسي والكرسي بين يديّ العرش ... » : 6/ 469 «السنّة على المعتكف ألّا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ... » : 6/ 314 «سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب ... » : 6/ 24 «السواك مطهرة للفهم ومرضاة للربّ ... » : 9/ 65 «سورة من القرآن ثلاثون آية تشفع لصاحبها ... » : 5/ 373 «سياحة أمتي الجهاد ... » : 9/ 537 «سياحة هذه الأمة الصيام ... » : 9/ 537 «سيّد الاستغفار أن تقول اللهمّ ... » : 1/ 435 «سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين ... » : 3/ 403 «سيكون في آخر الزمان علماء يرغّبون الناس في الآخرة ... » : 7/ 289 «سيكون في أمتي اختلاف وفرقة قوم يحسنون القيل ويسيئون ... » : 7/ 208 «سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر ... » : 2/ 290 «سئل ابن مسعود عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقا ... » : 8/ 73 «سئل أنس أكان النبي صلّى الله عليه وسلم يصلّي في نعليه ... » : 2/ 387 «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنتوضأ بما أفضلت الحمر فقال نعم ... » : 9/ 68 «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن أشياء فقال الحلال ما أحلّ الله ... » : 9/ 242 «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال تقوى ... » : 4/ 422 «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء ... » : 9/ 441

- ش -

«سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن العزم فقال مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم ... » : 7/ 256 «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن [المذي] فقال إذا وجد ذلك أحدكم فلينضح ... » : 8/ 127 «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن نكاح المحلّل فقال لا إلّا نكاح رغبة ... » : 6/ 429 «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما أكثر ما يدخل الناس الجنة قال تقوى الله ... » : 4/ 249 «سئل علي بأي شيء بعثت في الحجة قال بعثت بأربع ... » : 9/ 346 «سئل النبي صلّى الله عليه وسلم أي النساء خير قال التي تسرّه إذا نظر وتطيعه ... » : 8/ 105 «سئل النبي صلّى الله عليه وسلم عن البتع وهو نبيذ العسل فقال كل شراب ... » : 5/ 155. 9/ 225 «سئل النبي صلّى الله عليه وسلم عن الثمر المعلّق فقال من أصاب بغيه ... » : 9/ 121 «سئل النبي صلّى الله عليه وسلم عن الذئب فقال ويأكل الذئب أحد ... » : 4/ 174 «سئل النبي صلّى الله عليه وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما قال يغتسل ... » : 8/ 126 «سئل النبي صلّى الله عليه وسلم عن الزكاة فقال إن في المال لحقا سوى الزكاة ... » : 9/ 462 «سئل النبي صلّى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء فقال الحلال ... » : 4/ 173 «سئل النبي صلّى الله عليه وسلم عن الصور فقال قرن ينفخ فيه ... » : 1/ 446 «سئل النبي صلّى الله عليه وسلم عن الماء يكون في الفلاة وما ينوبه من الدواب ... » : 9/ 67 «سئلت أم سلمة ماذا تصلّي فيه المرأة من الثياب ... » : 2/ 387 «سيليكم بعدي ولاة فيليكم البرّ ببرّه والفاجر بفجوره ... » : 8/ 157 - ش- «شأن الله أعظم من ذلك وإن عرشه على سمواته ... » : 1/ 507 «الشغار أن يقول الرجل للرجل زوجني ابنتك وأزوجك ... » : 8/ 22 «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ... » : 1/ 484 «الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره ... » : 2/ 290 «الشهداء خمسة المطعون والمبطون والغرق وصاحب الهدم والشهيد ... » : 8/ 164 «شهدت عمر صلّى الصبح بجمع ثم قال إن المشركين كانوا لا ... » : 6/ 358 «شهدت العيد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فبدأ بالصلاة قبل الخطبة ... » : 1/ 338 «شهدت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث ... » : 9/ 389 «شهدنا الحديبية فلما انصرفنا عنها إذا الناس ينفرون الأباعر ... » : 8/ 576 «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ... » : 8/ 356

- ص -

«شيئان حفظتهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إن الله كتب الإحسان ... » : 5/ 169 - ص- «صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعده ... » : 5/ 211 «الصائم إذا أكل عنده المفاطير صلّت عليه الملائكة ... » : 6/ 303 «الصائم في السفر كالمفطر في الحضر ... » : 6/ 307 «صدق ابن مسعود زوجك وولدك أحقّ من تصدقت به عليهم ... » : 9/ 473 «الصدقة على المسكين صدقة وهي على ذي الرحم ثنتان ... » : 9/ 468، 473 «الصعود جبل من نار يتصعد ... » : 1/ 419 «صلّ قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب ... » : 7/ 295 «صلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة ... » : 1/ 338 «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة ... » : 1/ 336 «الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم ... » : 8/ 120 «صلاة في المسجد الحرام أفضل من مئة ألف صلاة فيما سواه ... » : 2/ 177 «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في سواه ... » : 2/ 177، 382 «الصلاة مثنى مثنى تشهّد في كل ركعتين ... » : 1/ 334. 5/ 302 «الصلاة المكتوبة واجبة خلف كل مسلم برّا كان أو فاجرا ... » : 1/ 337 «صلاة الوسطى صلاة العصر ... » : 6/ 450 «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرّم حلالا أو ... » : 4/ 477. 9/ 14 «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات ... » : 1/ 342. 3/ 549 «صلّى بنا رسول الله إلى بعير من المغنم ولما سلّم أخذ وبرة ... » : 7/ 52 «صلّى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم الصبح فثقلت عليه القراءة فلما انصرف ... » : 2/ 561 «صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلاة الخوف في بعض أيامه فقامت طائفة ... » : 8/ 224 «صلّى لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلاة العصر فسلم في ركعتين ... » : 1/ 335 «صلّى النبي صلّى الله عليه وسلم صلاة الصبح فلما انصرف قام قائما فقال عدلت ... » : 5/ 401 «صلّى النبي صلّى الله عليه وسلم في خوف الظهر فصفّ بعضهم خلفه ... » : 8/ 224 «صلينا مع النبي صلّى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ... » : 6/ 255 «صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب المرجئة والقدرية ... » : 2/ 292

- ض -

«صيد البرّ لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم ... » : 9/ 17، 234 - ض- «ضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات يوم حتى بدت نواجذه ... » : 4/ 412 «الضرار في الوصية من الكبائر ... » : 8/ 44 «ضرب بعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم خباءه على قبر وهو لا يعلم ... » : 5/ 373 - ط- «طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان ... » : 6/ 410، 414 «طلب العلم أفضل من صلاة النافلة ... » : 9/ 561 «طلب العلم فريضة على كل مسلم ... » : 9/ 561 «طلع رسول الله صلّى الله عليه وسلم على أناس من أصحابه فقال ألا ... » : 4/ 51 «طلقني زوجي ثلاثا فلم يجعل لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم سكنى ولا نفقة ... » : 8/ 342 «طوبى لمن رآني وآمن بي وطوبى ... » : 5/ 539 - ظ- «ظل رسول الله صلّى الله عليه وسلم صائما ثم طواه ثم ظلّ صائما ثم طواه ... » : 5/ 32 «الظلم ثلاثة ظلم لا يغفره الله وظلم يغفره وظلم لا يترك الله ... » : 8/ 143 «الظلم ظلمات يوم القيامة ... » : 3/ 73 - ع- «عادني النبي صلّى الله عليه وسلم وأبو بكر فوجدني النبي صلّى الله عليه وسلم لا أعقل شيئا فدعا ... » : 8/ 34 «العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب ... » : 5/ 482 «العامل على الصدقة بالحق كالغازي في سبيل الله ... » : 9/ 484 «العبد آمن من عذاب الله ما استغفر الله عزّ وجلّ ... » : 7/ 47 «عجبا للمؤمن لا يقضي الله تعالى قضاء إلا كان خيرا له ... » : 3/ 470. 4/ 277 «عجبا للمؤمن لا يقضي الله قضاء إلا كان خيرا له ... » : 8/ 550 «عجبا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان له خيرا له ... » : 5/ 452

- غ -

«عجبت للعبد إذا قال لا إله إلا الله ظلمت ... » : 4/ 492 «عجبت من قضاء الله تعالى للمؤمن ... » : 3/ 470. 4/ 276 «عرضت عليّ أعمال أمتي حسنها وسيئها فوجدت ... » : 2/ 379 «عرضت عليّ أمتي في صورها وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر ... » : 7/ 276 «عرضنا على النبي صلّى الله عليه وسلم يوم قريظة فكان من أنبت قتل ... » : 2/ 39 «عرفة كلها موقف ... » : 6/ 356 «عسى ربّه إن طلقكن أن يبدله أزواجا ... » : 1/ 154 «العلماء أمناء الرسل على عباد الله ما لم يخالطوا السلطان ... » : 7/ 289 «علّمني رسول الله صلّى الله عليه وسلم كلمات أقولهنّ في قنوت الوتر ... » : 1/ 333 «عليّ قائد البررة وقاتل الكفرة ومنصور من نصره ... » : 9/ 162 «على كل محتلم رواح الجمعة وعلى كل من راح الجمعة الغسل ... » : 7/ 338 «على كل مسلم حقّ أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما يغسل فيه ... » : 7/ 338 «على كل مسلم حقّ أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما يغسل فيه ... » : 7/ 338 «عليك بتقوى الله والجماعة وإياك والفرقة فإنها هي الضلالة ... » : 8/ 237 «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البرّ وإن البرّ يهدي ... » : 8/ 165 «عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم ... » : 1/ 338. 5/ 351 «عليكم بما تطيقون فو الله لا يملّ الله حتى تملّوا وكان ... » : 6/ 86 «العمر الذي أعذر الله تعالى فيه إلى ابن آدم ستون سنة ... » : 3/ 128 «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ... » : 9/ 356 «العهد بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ... » : 1/ 343 «العيافة والطيرة والطرق من الجبت ... » : 9/ 35 «عينان لا تمسّهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس ... » : 7/ 301 - غ- «غزونا مع النبي صلّى الله عليه وسلم سبع غزوات أو ستا كنا نأكل ... » : 4/ 174 «الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ... » : 5/ 85 - ف- «فإذا أكل أحدكم طعاما فليذكر اسم الله ... » : 9/ 41

«فإذا كان خوف أكثر من ذلك فصلّ راكبا أو قائما تومىء ... » : 8/ 224 «فإن أجابوك إلى الإسلام فاقبل منهم وكفّ عنهم ثم ادعهم ... » : 7/ 100 «فإن لم يكن له قرابة فيوصي لفقراء المسلمين ... » : 6/ 296 «فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال ... » : 9/ 570 «فجاءني وأنا نائم بنمط من ديباج ... » : 1/ 40 «الفخذ عورة ... » : 2/ 386 «فرض رسول الله صلّى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير ... » : 6/ 302 «فرض رسول الله صلّى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث ... » : 6/ 302 «فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في السفر والحضر فأقرت في السفر ... » : 8/ 226 «فرضت على النبي صلّى الله عليه وسلم ليلة أسري به الصلوات ... » : 1/ 329، 330 «فصل القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة ... » : 1/ 258 «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ... » : 9/ 561 «فضلت على الأنبياء بست أعطيت جوامع الكلم ... » : 1/ 345 «فضلت على الأنبياء بست أعطيت جوامع الكلم ... » : 4/ 232. 6/ 465. 7/ 90، 392 «فقد كان بين الوليد وعلي كلام فقال الوليد أنا أبسط ... » : 5/ 352 «فقيه واحد أشدّ على الشيطان من ألف عابد ... » : 9/ 561 «فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة ... » : 2/ 375 «في الإبل صدقتها وفي البقر صدقتها وفي البزّ صدقته ... » : 9/ 479 «في الأنعام آيات هنّ أم الكتاب وقرأ ... » : 4/ 187 «في الجنة درجة تدعى الوسيلة فإذا سألتم الله فسلوا لي ... » : 9/ 115 «في الجنة مئة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ... » : 5/ 110 «في قول الله تعالى تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ تلفحهم ... » : 5/ 336 «في المال حقّ سوى الزكاة ... » : 6/ 286 «فيما يروي عن ربّه قال الله إن من همّ بحسنة ... » : 6/ 520 «فينا أصحاب بدر نزلت يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ حين اختلفنا ... » : 7/ 10 «الق الله فقيرا ولا تلقه غنيا ... » : 9/ 423

- ق -

- ق- «قاتل الله اليهود لما حرّم الله عليهم شحومها جملوها ثم باعوها ... » : 2/ 328 «القاتل لا يرث ... » : 8/ 38 «قاربوا وسددوا واعلموا أنه لن ينجو أحد ... » : 2/ 397 «قال ابن عمر إن رجالا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر ... » : 2/ 133 «قال أبو أمامة قلت يا رسول الله مرني بأمر ينفعني الله به قال عليك ... » : 6/ 302 «قال أبو جهل اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ عندك فأمطر علينا حجارة ... » : 7/ 44 «قال أبو جهل لئن رأيت محمدا يصلّي ... » : 1/ 320 «قال أبو جهل هل يعفّر محمد وجهه ... » : 1/ 321 «قال أبو ذرّ كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلم في المسجد عند غروب الشمس ... » : 3/ 30 «قال أبو رميثة أتيت النبي صلّى الله عليه وسلم أنا وأبي وكان قد لطخ لحيته ... » : 8/ 246 «قال أبو هريرة إنما كان طعامنا مع النبي صلّى الله عليه وسلم الأسودين الماء والتمر ... » : 5/ 18 «قال أسامة بعثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم سرية إلى الحرقات فنذروا بنا ... » : 8/ 211 «قال الله تبارك وتعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك ... » : 2/ 23. 4/ 29 «قال الله تعالى أنفق يا ابن آدم ... » : 4/ 289 «قال الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي ... » : 1/ 291 «قال الله تعالى الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ... » : 2/ 456 «قال الله تعالى كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ... » : 2/ 70. 6/ 232 «قال الله تعالى لقد رأى من آيات ربّه الكبرى ... » : 2/ 85 «قال الله عزّ وجلّ أنا أهل أن أتقى فمن اتقاني ... » : 1/ 487 «قال الله عزّ وجلّ أنا عند ظنّ عبدي بي ... » : 7/ 202 «قال الله عز وجل إني افترضت على أمتك خمس صلوات ... » : 1/ 342 «قال الله يؤذيني ابن آدم بسبّ الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر ... » : 7/ 417 «قال جماعة يا رسول الله إنّا نأكل ولا نشبع قال فلعلكم تفترقون ... » : 8/ 450. 9/ 42 «قال خبّاب كنت قينا بمكة فعملت للعاص بن وائل سيفا فجئت ... » : 3/ 179 «قال رجل إني مررت بغار محمد فحدثتني نفسي أن أقيم فيه ... » : 6/ 87 «قال رجل للنبي إن رجلا يقرأ القرآن الليل كلّه ... » : 5/ 483

«قال رجل يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي ... » : 2/ 567 «قال رجل يا رسول الله إن المؤذنين يفضلوننا فقال قل كما يقولون ... » : 7/ 344 «قال رجل يا رسول الله الرجل يعمل العمل فيسرّه ... » : 2/ 23. 8/ 121 «قال زيد أرسل إليّ أبو بكر بعد مقتل أهل اليمامة ... » : 1/ 68 «قال سعد لما كان يوم بدر جئت بسيف فقلت يا رسول الله ... » : 7/ 10 «قال سليمان بن داود عليه السلام لأطوفن الليلة على مائة امرأة ... » : 2/ 321 «قال شهر بن حوشب قال ابن غنم لما دخلنا مسجد الجابية ... » : 5/ 113 «قال عبادة بن الصامت لابنه يا بني إنك لن تجد طعم ... » : 1/ 362 «قال عثمان إذا اختلفتم في شيء من القرآن فاكتبوه ... » : 1/ 76 «قال عقبة بن الحرث تزوجت امرأة فجاءتنا امرأة سوداء فقالت أرضعتكما ... » : 6/ 515 «قال عمر أرأيت ما نعمل فيه أمر مبتدع أو فيما فرع منه ... » : 3/ 539 «قال عمر اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا ... » : 9/ 219 «قال عمر أنحن على حق أم باطل؟ فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم بل على حقّ ... » : 1/ 322 «قال عمر رضي الله عنه اجتمع نساء النبي صلّى الله عليه وسلم في الغيرة عليه ... » : 8/ 533 «قال عمر سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على ... » : 1/ 245 «قال عمر يا رسول الله أرأيت ما نعمل فيه أمر مبتدع ... » : 1/ 461 «قال قتادة سرق طعام وسلاح لعمّي رفاعة بن زيد فأخبرني ... » : 8/ 230 «قال كند بن حنبل دخلت على النبي صلّى الله عليه وسلم ولم أسلّم ولم أستأذن ... » : 8/ 395 «قال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا حضرت الصلاة فأذنا ثم أقيما ... » : 1/ 336 «قال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا كان لإحداكن مكاتب عنده ما يؤديه ... » : 8/ 420 «قال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليّ حزب من القرآن فأردت ... » : 1/ 81 «قال لنا النبي صلّى الله عليه وسلم يوم الحديبية أنتم خير أهل الأرض ... » : 8/ 583 «قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم ألم تري أن قومك بنوا الكعبة ... » : 2/ 172 «قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاة ... » : 7/ 415 «قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم يا سليمان لا تبغضني أفتفارق دينك قلة ... » : 6/ 80 «قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم يا عائشة هذا جبريل يقرئك السلام ... » : 1/ 467 «قال لي علي لا تقولوا في عثمان إلا خيرا ... » : 1/ 77 «قال لي النبي صلّى الله عليه وسلم ألم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار ... » : 2/ 400

«قال لي النبي صلّى الله عليه وسلم يا بني إذا دخلت على أهلك فسلّم يكون بركة ... » : 8/ 190 «قال مسروق كنت متكئا عند عائشة فقالت ثلاث من تكلّم ... » : 2/ 98 «قال مسروق لعائشة أين قوله تعالى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى ... قالت ذلك جبريل ... » : 2/ 76 «قال المهاجرون يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن ... » : 7/ 319 «قال المؤمنون لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملنا به ... » : 8/ 557 «قال ناس من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم يا رسول الله صلّى الله عليه وسلم من هؤلاء الذين ذكر الله ... » : 8/ 331 «قالت أسماء قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذا عاهدوا ... » : 9/ 274 «قالت أم سليم يا رسول الله أخرج معك إلى الغزو قال يا أم سليم ... » : 6/ 382 «قالت أم عطية غزوت مع النبي صلّى الله عليه وسلم سبع غزوات أخلفهم في رحالهم ... » : 7/ 377 «قالت الأنصار أقسم بيننا وبين إخواننا النخيل قال لا ... » : 7/ 320 «قالت الربيع بنت معوذ كنا نغزو مع النبي صلّى الله عليه وسلم فنسقي القوم ونخدمهم ... » : 7/ 377 «قالت [عائشة] يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي قال إلى ... » : 8/ 118 «قالت يا رسول الله ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ... » : 3/ 252 «قالت اليهود يا محمد تزعم أنا قد أوتينا الحكمة وفي كتابك ... » : 5/ 111 «قالوا يا رسول الله إن قوما حديثو عهد بجاهلية ... » : 4/ 146 «قالوا يا رسول الله هل رأيت ربك قال رأيته بفؤادي مرتين ... » : 2/ 97 «قام رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فسأله عن الصلاة في الثوب الواحد ... » : 2/ 386 «قام رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وهو على المنبر فقال أي الناس خير ... » : 2/ 474 «قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلّي فسمعناه يقول أعوذ بالله منك ... » : 2/ 322 «قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما خطيبا بماء يدعى خمّا ... » : 4/ 460 «القبر كقطع الليل المظلم أيها الناس لو تعلمون ... » : 4/ 373 «قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة ... » : 9/ 585 «القتل في سبيل الله يكفّر الذنوب كلّها ... » : 5/ 305 «قد أجرنا من أجرت وأمّنا من أمّنت ... » : 9/ 309 «قد أفلح من أسلم وكان رزقه كفافا ... » : 1/ 540. 9/ 424 «قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلّوا كتاب الله ... » : 9/ 183 «قدم أبو عبيدة بمال من البحرين وانتظر بعض ... » : 1/ 540. 3/ 223 «قدم أناس من عكل أو عرينة فاجتووا المدينة ... » : 9/ 102

«قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعا وصلّى خلف المقام ... » : 6/ 271 «قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبي موسى الأشعري ... » : 6/ 387 «قدم النبي صلّى الله عليه وسلم مكة فطاف بالبيت سبعا وقال اتخذوا ... » : 6/ 271 «قدم وفد عبد القيس على النبي صلّى الله عليه وسلم فسألوه عن النبيذ فنهاهم ... » : 9/ 224 «القرآن تحت العرش له ظهر وبطن يحاج العباد ... » : 1/ 311 «القرآن ذو وجوه فاحملوه على أحسن وجوهه ... » : 1/ 273 «قرأ رجل عند عمر فغيّر عليه فقال قرأت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... » : 2/ 513 «قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم الآية يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ ... قال أتدرون ما أخبارها ... » : 6/ 120 «قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم اتَّقُوا اللَّهَ ... ثم قال لو أن قطرة من الزقوم ... » : 1/ 420 «قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات يوم على المنبر وَما قَدَرُوا ... ...» : 4/ 346 «قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو على المنبر ص فلما بلغ السجدة ... » : 1/ 350 «قرأ عمر بن الخطاب على المنبر يوم الجمعة بسورة النحل ... » : 1/ 351 «قرأ النبي صلّى الله عليه وسلم عام الفتح في مسير له على راحلته ... » : 1/ 411 «قرأت على النبي صلّى الله عليه وسلم وَالنَّجْمِ فلم يسجد فيها ... » : 1/ 351 «قضاء رمضان إن شاء فرّقه وإن شاء تابع ... » : 6/ 309 «القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار ... » : 5/ 281. 8/ 148 «قضى النبي صلّى الله عليه وسلم في العين العوراء السادّة لمكانها إذا طمست ... » : 9/ 141 «قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فتذاكرنا فقلنا لو نعلم ... » : 8/ 557 «قل اللهمّ فاطر السموات والأرض عالم الغيب ... » : 4/ 333 «قلب القرآن يس لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة ... » : 3/ 20 «قلت لابن عباس ألمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة قال لا ... » : 3/ 103 «قلت لابن عباس هل لمن قتل مؤمنا متعمدا توبة ... » : 8/ 207 «قلت لأبي ذرّ لو رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم لسألته فقال عن أي شيء ... » : 2/ 200 «قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر كيف كان أصحاب ... » : 4/ 315 «قلت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم يا رسول الله في سورة الحج سجدتان قال نعم ... » : 6/ 8 «قلت لعائشة ما أرى على أحد لم يطف بين الصفا والمروة شيئا ... » : 6/ 268 «قلت لعثمان رضي الله عنه ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال ... » : 9/ 339 «قلت لعثمان ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال ... » : 1/ 78

«قلت لعثمان وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ ... قد نسختها الآية ... » : 1/ 78 «قلت لعثمان وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً ... » : 6/ 440 «قلت لعمر بن الخطاب فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ... » : 8/ 225 «قلت للنبي ونحن في الغار لو أن أحدهم ينظر إلى قدميه ... » : 9/ 443 «قلت يا رسول الله أأقرأ القرآن في ثلاث ... » : 1/ 82 «قلت يا رسول الله إذا بدل الله الأرض غير الأرض وبرزوا لله ... » : 5/ 251 «قلت يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس فقال ائتوه ... » : 3/ 357 «قلت يا رسول الله ألا أنشدك محامد حمدت بها ... » : 1/ 308 «قلت يا رسول الله إن عبد الله بن جدعان كان يصل الرحم ... » : 6/ 121 «قلت يا رسول الله إنا ملاقو العدوّ غدا وليس معنا مدى قال أعجل ... » : 9/ 33 «قلت يا رسول الله إني امرأة أشدّ ضفر رأسي أفأنقضه ... » : 8/ 128 «قلت يا رسول الله أيّ الذنب أعظم قال أن تجعل لله ندّا ... » : 3/ 381 «قلت يا رسول الله أيّ ما أنزل عليك أعظم قال آية الكرسي ... » : 6/ 469 «قلت يا رسول الله أي الناس أشدّ عذابا يوم القيامة قال رجل قتل نبيا ... » : 7/ 131 «قلت يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق ... » : 1/ 506. 3/ 506 «قلت يا رسول الله فعلام نطلع من الجنة قال على أنهار عسل مصفّى ... » : 8/ 313 «قلت يا رسول الله في كم أقرأ القرآن ... » : 1/ 82 «قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه ... » : 3/ 546 «قلت يا رسول الله كم الأنبياء قال مائة وأربعة وعشرون ألفا ... » : 4/ 397 «قلت يا رسول الله كيف يحشر الناس يوم القيامة؟ قال حفاة عراة ... » : 5/ 73 «قلت يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة وكانت أم سلمة ... » : 7/ 292 «قلت يا رسول الله لقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس ... » : 5/ 26 «قلت يا رسول الله ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ... » : 6/ 318 «قلت يا رسول الله مما خلق الخلق ... » : 1/ 382 «قلت يا رسول الله من أبرّ قال أمّك ثم أمّك ثم أمّك ... » : 4/ 253 «قلت يا رسول الله المؤمن يزني قال قد يكون ذلك ... » : 5/ 177 «قلت يا رسول الله يدخل عليك البرّ والفاجر فلو أمرت أمهات ... » : 7/ 409 «قلنا يا رسول الله إنا بأرض تصيبنا فيها مخمصة ... » : 4/ 172

- ك -

«قلنا يا رسول الله حدثنا عن الجنة ما بناؤها قال لبنة ذهب ... » : 9/ 496 «قلنا يا رسول الله ما رأيت ليلة أسري بك ... » : 1/ 543 «قلنا يا رسول الله ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة فنجد ... » : 9/ 15 «قولوا لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده ... » : 9/ 540 «قوموا لسيدكم ... » : 8/ 484 «قيل لابن عباس أرأيت قول الله تعالى ما جعل الله لرجل من قلبين ... » : 7/ 349 «قيل لابن عمر كيف سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول في النجوى قال سمعته ... » : 6/ 517 «قيل لابن عمر لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه ... » : 9/ 248 «قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجّدا وقولوا حطة ... » : 2/ 451 «قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ... » : 5/ 395 «قيل لعبد الله من آذن النبي صلّى الله عليه وسلم بالجنّ ليلة استمعوا القرآن ... » : 5/ 25 «قيل للنبي صلّى الله عليه وسلم لو أتيت عبد الله بن أبي فركب النبي صلّى الله عليه وسلم حمارا وانطلق ... » : 8/ 505 «قيل للنبي صلّى الله عليه وسلم ما بال العظم والروث لا يستنجى بها قال هما ... » : 5/ 25 «قيل يا رسول الله ادع على المشركين قال إني لم أبعث ... » : 5/ 295. 6/ 275 «قيل يا رسول الله أعلم أهل الجنة من أهل النار ... » : 2/ 291 «قيل يا رسول الله أي الدعاء أسمع قال جوف الليل الأخير ... » : 2/ 409 «قيل يا رسول الله أي النساء خير قال التي تسرّه ... » : 5/ 442. 8/ 78 «قيل يا رسول الله بيّن لنا ديننا كأنا خلقنا الآن ... » : 1/ 461. 2/ 288 «قيل يا رسول الله الرجلان يلتقيان أيهما يبدأ بالسلام قال أولا هما بالله ... » : 8/ 191 «قيل يا رسول الله ما تقول في الثعلب قال ومن ... » : 4/ 174 «قيل يا رسول الله من أبرّ قال أمّك وأباك وأختك وأخاك ... » : 6/ 378 - ك- «كاتب الحسنات على يمين الرجل ... » : 2/ 231 «كان آخر عهد لرسول الله أن لا يترك بجزيرة العرب دينان ... » : 9/ 587 «كان إبليس من حي من الملائكة وقيل من الجن ... » : 1/ 230 «كان ابن عمر وابن عباس يقصران ويفطران في أربعة برد ... » : 6/ 308 «كان ابن عمر يخرج إلى الغابة فلا يقصر ولا يفطر ... » : 6/ 308

«كان ابن عمر يقول في الإيلاء لا يحلّ لأحد بعد الأجل إلا أن يمسك ... » : 6/ 408 «كان أصحاب محمد إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل ... » : 6/ 312 «كان أصحاب محمد لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر ... » : 1/ 343، 344. 9/ 356 «كان أكثر دعاء النبي صلّى الله عليه وسلم اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة ... » : 2/ 412. 6/ 361 «كان الله قبل كل شيء وكان عرشه على الماء ... » : 2/ 161 «كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري ولا الضعفاء ... » : 8/ 35 «كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون ... » : 4/ 173 «كان أهل الجاهلية يقولون إنما يهلكنا الليل ... » : 4/ 569 «كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ... » : 1/ 357. 4/ 9، 192، 166. 6/ 184، 249 «كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون ... » : 6/ 354 «كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام ... » : 9/ 302 «كان تاجر يداين الناس فإذا رأى معسرا قال لفتيانه تجاوزوا عنه ... » : 6/ 500، 502 «كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمان رسول الله صلّى الله عليه وسلم جميعا ... » : 9/ 68 «كان رجل ممن كان قبلكم وكان به جرح فأخذ سكينا فحزّ بها يده ... » : 8/ 98 «كان رجل من الأنصار يؤمّهم في مسجد قباء ... » : 2/ 69 «كان الرجل يريد أن يأتي النبي صلّى الله عليه وسلم فيقول له أهله إلى أين تذهب وتدعنا ... » : 8/ 552 «كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله ... » : 6/ 16 «كان رجلان شريكين خرج أحدهما إلى الساحل وبقي ... » : 4/ 287 «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه ... » : 8/ 128 «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا تلا غَيْرِ الْمَغْضُوبِ ... قال آمين ... » : 1/ 308 «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة لم يقعد إلّا مقدار ما يقول اللهمّ ... » : 6/ 104 «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة كبّر ثم قال ... » : 1/ 333 «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات ... » : 2/ 50 «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي وكان مما يحرك به ... » : 9/ 364 «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي أثر عليه وكرب ... » : 8/ 50 «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم جالسا ذات يوم وفي يده عود ينكت به ... » : 1/ 461. 2/ 288. 3/ 96، 539

«كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يجهر بقراءة بسم الله الرحمن الرحيم ... » : 1/ 289 «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه ... » : 1/ 288 «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ... » : 9/ 574 «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بيتي فذكر الدجال فقال إن بين يديه ... » : 4/ 387 «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يفضّل بعضنا على بعض في القسم ... » : 8/ 255 «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يباشر نساءه فوق الإزار وهنّ حيض ... » : 6/ 397 «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحرس فكان أبو طالب يرسل إليه كل يوم رجالا ... » : 9/ 181 «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يسمي لنا نفسه أسماء فقال أنا محمد وأنا أحمد ... » : 8/ 568 «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب بنت جحش ويمكث ... » : 8/ 531 «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلّي على الراحلة قبل أي وجه توجّه غير أنه ... » : 6/ 261 «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة في الأمور كما يعلّمنا السورة ... » : 9/ 36 «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقطع قراءته يقول الحمد لله ربّ العالمين ... » : 1/ 411 «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول اللهمّ انفعني بما علمتني وعلّمني ... » : 3/ 210 «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول التثبّت من الله والعجلة من الشيطان ... » : 8/ 503 «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول في آخر الصلاة اللهمّ اغفر لي ما ... » : 4/ 378 «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول لا يحبّ عليا منافق ولا يبغضه مؤمن ... » : 8/ 325 «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول وهو صحيح إنه لم يقبض نبي قط يرى مقعده ... » : 9/ 588 «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكبّر في كل خفض ورفع وقيام وقعود ... » : 1/ 333 «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكثر قبل أن يموت من قوله سبحانك اللهم ... » : 9/ 574 «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم ينهى عن قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال ... » : 6/ 221 «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يؤتى بالغنيمة فيخمسها على خمسة أربعة منها ... » : 7/ 52 «كان سليمان نبي الله إذا صلّى رأى شجرة ... » : 4/ 272 «كان الطلاق على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر فطلقة ... » : 6/ 420 «كان على ثقل رسول الله رجل يقال له كركرة فمات فقال النبي صلّى الله عليه وسلم هو في النار ... » : 7/ 261 «كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه ... » : 9/ 573 «كان عند العين الحمئة مدينة يقال لها الجاسوس ... » : 1/ 219 «كان الغني يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته فيدعوه إلى طعامه ... » : 8/ 448 «كان فتى من الأنصار يصلّي الخمس مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... » : 5/ 483

«كان القرآن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم مرتبا سوره وآياته ... » : 1/ 84 «كان القرآن يعرض على النبي صلّى الله عليه وسلم كل عام مرة فعرض ... » : 1/ 82 «كان قوم يسألون رسول الله صلّى الله عليه وسلم استهزاء فيقول الرجل من أبي ... » : 9/ 240 «كان لذي القرنين قرنان فأمر قومه بتقوى الله ... » : 1/ 219 «كان لعبد الله بن أبي بن سلول جاريتان إحداهما تسمى مسيكة ... » : 8/ 416 «كان للمجوس كتاب يقرأونه فانحرفوا عنه ... » : 9/ 49 «كان للنبي خطبتان يجلس بينهما ... » : 7/ 340 «كان المسلمون لا يعلمون انقضاء السورة حتى تنزل ... » : 1/ 84 «كان معاوية استعمل على الحجاز مروان فخطب فجعل يذكر ... » : 5/ 16 «كان معاوية يسير في أرض الروم وكان بينه وبينهم أمد فأراد ... » : 7/ 84 «كان ناس يوم بدر ولم يكن لهم فداء فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فداءهم ... » : 7/ 94 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان ... » : 6/ 303 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ... » : 8/ 396 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج أقرع بين زوجاته فأيتهنّ ... » : 8/ 381 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلّى الفجر ثم دخل معتكفه ... » : 6/ 314 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذتين وينفث ... » : 2/ 45 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا اعتكف طرح له فراش أو وضع له سرير ... » : 6/ 314 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إليّ رأسه فأرجّله ... » : 6/ 314 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة قال سبحانك اللهمّ ... » : 5/ 372 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا أمّر أميرا على جيش أو سرّية أوصاه ... » : 2/ 38 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي سمع عند وجهه ... » : 5/ 301 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا جاءه جبريل فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ... » : 1/ 84 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شدّ مئزره وأحيا ليله ... » : 2/ 134 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة تغيّر وجهه وتلوّن ودخل ... » : 5/ 22 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا ركب راحلته كبّر ثلاثا ثم قال ... » : 4/ 493 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا صلّى صلاة أقبل علينا بوجهه فقال من رأى ... » : 2/ 92 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا كان جنبا فأراد أن يأكل أو ينام توضأ وضوءه ... » : 8/ 128 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا كبّر رفع يديه ثم التحف بثوبه ... » : 1/ 333

«كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك ... » : 4/ 486 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي نكس رأسه ... » : 4/ 486 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم في سفر فصام بعض وأفطر بعض فتحزم المفطرون ... » : 6/ 307 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم لا يتطير من شيء وكان إذا بعث عاملا سأل عن اسمه ... » : 9/ 36 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم لا يزال يذكر شأن الساعة حتى نزلت ... » : 5/ 417 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة ... » : 9/ 62 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يجاور في العشر الأواخر في رمضان ويقول ... » : 2/ 133 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها ... » : 2/ 135 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فأخرج ... » : 9/ 183 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع فلما اتخذ المنبر حنّ الجذع ... » : 2/ 382 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يخطب ثم يقعد ثم يقوم كما تفعلون الآن ... » : 7/ 340 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يدعو اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ... » : 4/ 375، 383 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يدعو اللهمّ إني أعوذ بك من الهدم وأعوذ بك ... » : 2/ 50 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يصلّي على راحلته تطوعا أينما توجهت به ... » : 6/ 229 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يصلّي على راحلته حيث توجهت فإذا أراد الفريضة ... » : 6/ 229، 261 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يصلّي فجاء أبو جهل فقال ألم أنهك ... » : 1/ 321 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفّاه الله ... » : 6/ 313 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام فلما كان العام ... » : 6/ 314 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يعجبه إذا خرج لحاجته أن يسمع يا راشد يا نجيح ... » : 9/ 37 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يعلّم بعض بناته فيقول قولي حين تصبحين ... » : 1/ 514 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلّها ... » : 1/ 338 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يغزو بأمّ سليم ونسوة من الأنصار معه فيسقين الماء ... » : 7/ 377 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يقبل ويباشر وهو صائم وكان أملككم لإربه ... » : 6/ 313 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يقرأ السورة التي فيها السجدة فيسجد ... » : 1/ 350 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن فإذا مرّ بالسجدة كبّر ... » : 1/ 350 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن على كل حال ما لم يكن جنبا ... » : 8/ 128 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ويقول اللهمّ ... » : 8/ 255 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهمّ ... » : 1/ 513

«كان النبي صلّى الله عليه وسلم يقول في الصلاة اللهم صلّ على محمد ... » : 1/ 332 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يلبس النعال السبتية ويصفر لحيته بالورس ... » : 8/ 246 «كان النبي صلّى الله عليه وسلم ينقع له الزبيب مساء فيشربه اليوم والغد وبعد الغد ... » : 9/ 225 «كان يلبي أهل الشرك لبيك اللهمّ لبيك ... » : 5/ 447 «كانت ألواح موسى سبعة ... » : 1/ 217 «كانت ألواح موسى لوحين ... » : 1/ 217 «كانت أم حبيبة تستحاض فكان زوجها يغشاها ... » : 6/ 401 «كانت امرأة حسناء تصلّي خلف النبي صلّى الله عليه وسلم فكان ... » : 4/ 46 «كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف ... » : 7/ 54 «كانت الأنصار إذا حجّوا ورجعوا لم يدخلوا البيوت ... » : 6/ 324 «كانت بي بواسير فسألت النبي صلّى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال صلّ قائما ... » : 1/ 333 «كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية ... » : 6/ 355 «كانت عند شعيب عصي الأنبياء فأمر موسى ... » : 1/ 222 «كانت قريش ومن دان بدينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمون ... » : 6/ 358 «كانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاث صفايا بنو النضير وخيبر وفدك فأمّا بنو النضير ... » : 7/ 55 «كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة فتقول ... » : 2/ 385 «كانت المرأة من نساء النبي صلّى الله عليه وسلم تقعد في النفاس أربعين ليلة لا يأمرها ... » : 6/ 402 «كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أربعين يوما تطلي وجهها ... » : 6/ 402 «كانت اليهود إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ... » : 6/ 396 «كانت اليهود تقول من أتى امرأته في قبلها من دبرها ... » : 6/ 396 «كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحقّ بامرأته إن شاء ... » : 8/ 56 «كانوا في الجاهلية إذا أحرموا أتوا البيت من ظهره ... » : 6/ 324 «الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس ... » : 6/ 405 «كبرت خيانة أن تحدث أخاك ... » : 1/ 70 «كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض ... » : 7/ 201 «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات ... » : 2/ 291 «كتب عليكم الحج ... » : 9/ 240 «كتب عمر بن الخطاب أن اقتلوا كل ساحر وساحرة ... » : 6/ 212

«كتب النبي صلّى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن في جملة ما كتب أن الرجل يقتل بالمرأة ... » : 6/ 290 «كسف القمر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالوا سحر القمر ... » : 2/ 274 «كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع ... » : 8/ 182 «كفى بك إثما ألا تزال مخاصما ... » : 3/ 394. 5/ 81 «كفى المرء إثما أن يحبس عمن يملك قوتهم ... » : 8/ 120 «كلّ أمر لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أجذم ... » : 1/ 289 «كل أمر لا يفتتح بذكر الله فهو أبتر ... » : 1/ 289 «كلّ أمره كان عجبا أتاني في ليلتي حتى دخل معي في فراشي ... » : 7/ 293 «كلّ بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ... » : 2/ 157 «كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبه حين يولد غير عيسى ابن مريم ... » : 7/ 158 «كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بأصبعيه حين يولد غير ... » : 6/ 500، 504 «كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركا ... » : 8/ 205، 207 «كل شراب أسكر فهو حرام ... » : 9/ 221 «كل شرط ليس في كتاب الله باطل ... » : 8/ 77 «كل شيء بقدر حتى العجز والكيس ... » : 2/ 291 «كلّ عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ... » : 6/ 301 «كل عمل ابن آدم مضاعف الحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ... » : 6/ 301 «كل عين زانية والمرأة إذا استعطرت فمرّت بالمجلس فهي ... » : 8/ 407 «كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكفّ منه حرام ... » : 9/ 222 «كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ... » : 9/ 221 «كل من مال يتيمك غير مسرف ولا متأثل مالا ... » : 8/ 26 «كل مولود يولد يولد على الفطرة حتى ... » : 6/ 106 «كل الميت يختم على عمله إلّا المرابط فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ... » : 7/ 301 «كل الناس يغدو فبائع نفسه فموبقها أو معتقها ... » : 6/ 106 «كلا إن الله لن يخزيك فإنك تفعل المعروف ... » : 1/ 555 «كلام ابن آدم كلّه عليه إلا ذكر الله عزّ وجلّ أو أمر بمعروف ... » : 8/ 236 «كلّكم بنو آدم وآدم خلق من تراب ولينتهين ... » : 8/ 523 «الكلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحقّ بها ... » : 8/ 486

«كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة ... » : 5/ 312 «كنا إذا احمرّ البأس نتقي برسول الله صلّى الله عليه وسلم وإن الشجاع منا ... » : 9/ 389 «كنا إذا حضرنا مع النبي صلّى الله عليه وسلم طعاما لم نضع يدنا حتى يبدأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... » : 8/ 450 «كنا جلوسا عشية الجمعة في المسجد فقال رجل من الأنصار أحدنا ... » : 8/ 376 «كنا جلوسا عند النبي صلّى الله عليه وسلم ليلة فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة ... » : 2/ 251 «كنّا جلوسا عند النبي صلّى الله عليه وسلم والشمس على قعيقعان بعد العصر ... » : 2/ 277 «كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فذكر القوم رجلا فقالوا ما يأكل إلّا ما أطعم ... » : 8/ 518 «كنّا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال إن الله لا يؤخّر شيئا إذا جاء أجله ... » : 5/ 149 «كنّا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع ... » : 1/ 77 «كنّا عند النبي صلّى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه ثم قال أتدرون مم أضحك ... » : 3/ 37 «كنا في جيش فقال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد أذن لكم أن تستمتعوا ... » : 8/ 80 «كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار ... » : 8/ 462 «كنا في المسجد ومعنا أبو بكر الصديق يقرأ بعض القرآن ... » : 5/ 254 «كنا لا نعلم فصلا بين سورتين حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم ... » : 1/ 84 «كنا لا نعلم فصلا بين سورتين حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم ... » : 1/ 288 «كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ستة نفر فقال المشركون ... » : 4/ 97 «كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فارتفعت ريح جيفة منتنة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... » : 8/ 517 «كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سفر فسألته عن شيء ثلاث مرات ... » : 8/ 575 «كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم الفتح فجعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى ... » : 9/ 311 «كنّا مع النبي صلّى الله عليه وسلم في بقيع الغرقد في جنازة فقال ... » : 1/ 527 «كنّا مع النبي صلّى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة فصلّى ... » : 6/ 227، 261 «كنا مع النبي صلّى الله عليه وسلم في مجلس فقال تبايعوني على أن لا تشركوا بالله ... » : 9/ 109 «كنّا معشر الأنصار أصحاب نخل فكان الرجل يأتي من نخله ... » : 6/ 485 «كنّا نبايع رسول الله صلّى الله عليه وسلم على أن لا نشرك بالله شيئا ... » : 2/ 401 «كنّا نتكلم في الصلاة يكلّم أحدنا أخاه في حاجته ... » : 6/ 451 «كنّا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى ... » : 1/ 339 «كنّا نسلّم على النبي صلّى الله عليه وسلم قبل أن نهاجر إلى الحبشة وهو في الصلاة ... » : 6/ 452 «كنّا نسمّن الأضحية بالمدينة وكان المسلمون يسمّنون ... » : 6/ 48

«كنّا نعدّ هذا النكاح سفاحا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... » : 6/ 429 «كنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات ... » : 1/ 74 «كنا نقرأ ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم ثم قال ... » : 1/ 73 «كنا نقول ربّنا واحد وديننا واحد ونبيّنا واحد ... » : 4/ 324 «كنا ننبذ للنبي في سقاء يوكى أعلاه وله عذلاء ننبذه غدوة ... » : 5/ 155. 9/ 225 «كنّا ننهى أن نحدّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج ... » : 6/ 441. 8/ 245 «كنا نؤلف القرآن من الرقاع في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... » : 1/ 90. 6/ 124 «كنت أجعل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم حصيرا يصلي عليه ... » : 1/ 426 «كنت أحبّ أن أدخل البيت وأصلّي فيه فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيدي ... » : 2/ 173 «كنت إذا جئت عثمان بن عفّان أقبض عطائي سألني ... » : 9/ 466 «كنت أرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... » : 4/ 11 «كنت أسمع أنه لن يموت نبي حتى يخير بين الدنيا والآخرة ... » : 9/ 588 «كنت أضرب غلاما لي فسمعت صوتا من خلفي اعلم أبا مسعود ... » : 2/ 203. 8/ 119 «كنت أقود لرسول الله صلّى الله عليه وسلم في السفر ناقته فقال لي يا عقبة ... » : 2/ 45 «كنت أمشي مع ثابت البناني فمرّ بصبيان فسلّم عليهم ... » : 8/ 190 «كنت أمشي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حرث بالمدينة وهو يتوكأ على عسيب ... » : 3/ 423 «كنت أول الأنبياء في الخلق وآخرهم في البعث ... » : 4/ 444 «كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث ... » : 4/ 444 «كنت جالسا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ شخص ببصره ... » : 1/ 79 «كنت جالسا عند النبي صلّى الله عليه وسلم في المسجد فلما غربت الشمس قال ... » : 3/ 30 «كنت جالسا في البطحاء في عصابة ورسول الله صلّى الله عليه وسلم فيهم ... » : 4/ 356 «كنت على بيت المال زمن عمر بن الخطاب فكان إذا خرج العطاء ... » : 9/ 466، 480 «كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر رضي الله عنه وعليه عباءة قد خلّها ... » : 9/ 301 «كنت عند عثمان فدعا بطهور فقال سمعت ... » : 1/ 342 «كنت عند النبي صلّى الله عليه وسلم فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار ... » : 8/ 79 «كنت غلاما في حجر رسول الله صلّى الله عليه وسلم وكانت يدي ... » : 1/ 289. 2/ 265 «كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها ... » : 2/ 513. 4/ 319 «كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سفر فأصبحت يوما قريبا منه ... » : 5/ 350

- ل -

«كنت مع عمي فسمعت عبد الله بن أبي بن سلول يقول لا تنفقوا ... » : 8/ 460 «كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلم في سفر فأهويت لأنزع خفّيه فقال دعهما ... » : 9/ 66 «كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلم في غار فدميت إصبعه فقال هل أنت ... » : 1/ 552 «كنت ممن تغشّاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مرارا ... » : 7/ 246 «كنت يوما أخدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فخرجت من عنده فلقيني قوم ... » : 5/ 92 «الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ... » : 2/ 13 «كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم ... » : 4/ 520 «كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن وحنى ... » : 1/ 446 «كيف حبك لعلي فقال يا رسول الله بأبي ... » : 1/ 207 «كيف يفلح قوم شجّوا نبيّهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله ... » : 7/ 228 - ل- «لا آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا ... » : 9/ 208 «لا أحد أغير من الله من أجل ... » : 4/ 187 «لا أسألكم من أموالكم شيئا ولكني أسألكم أن لا ... » : 4/ 458 «لا أشك ولا أسأل ... » : 3/ 494 «لا أعافي رجلا قتل بعد أخذ الدية ... » : 6/ 290 «لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول اللهمّ إني أعوذ بك ... » 2/ 50 «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه أمر مما أمرت به أو نهيت عنه ... » : 7/ 312 «لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده ... » : 8/ 613 «لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك ... » : 4/ 360 «لا إله إلا الله وحده نصر عبده وأعزّ جنده وهزم ... » : 8/ 614 «لا أوتى بمحلّل ولا محلّل له إلّا رجمتهما ... » : 6/ 429 «لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ... » : 4/ 243 «لا تتخذ المساجد طريقا ولا يشهر فيها سلاح ... » : 8/ 427 «لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا ... » : 9/ 423 «لا تجزىء صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود ... » : 1/ 332 «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية ... » : 8/ 373

«لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبغ بعضكم على بعض ... » : 6/ 81 «لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ... » : 3/ 74. 4/ 206. 8/ 121، 509 «لا تحرّم الرضعة أو الرضعتان أو المصّة أو المصتان ... » : 8/ 69 «لا تحلّ الصدقة لغني إلا لخمسة لغاز في سبيل الله ... » : 9/ 470 «لا تحلّ الصدقة لغني ولا لذي مرّة سويّ ... » : 9/ 469 «لا تحلّ المسألة إلا لأحد ثلاثة رجل تحمّل حمّالة فحلّت له ... » : 9/ 471 «لا تدعوا أحدا إلى الطعام حتى يسلّم ... » : 4/ 533. 8/ 191 «لا ترتكبوا ما ارتكبه بنو إسرائيل فتستحلوا محارم الله ... » : 2/ 522 «لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا من محارم الله ... » : 2/ 328 «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب ... » : 4/ 108 «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم ... » : 2/ 545. 8/ 441 «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين ... » : 8/ 170 «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلّوا ... » : 7/ 182 «لا تسبوا أحدا من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ... » : 7/ 318. 8/ 494 «لا تسبّوا أحدا من أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ... » : 9/ 523 «لا تسبّوا تبّعا فإنه قد أسلم ... » : 4/ 551 «لا تسبّوا تبعا فإنه كان رجلا صالحا ... » : 4/ 551 «لا تشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا ... » : 2/ 382. 3/ 356 «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ... » : 1/ 357. 5/ 489، 494 «لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غمّ عليكم ... » : 6/ 309 «لا تضربوا إماء الله فجاء عمر فقال يا رسول الله ذئر النساء ... » : 8/ 109 «لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض فإنه ما ضلّ ... » : 4/ 517 «لا تعذبوا الناس فإن الذين يعذبون الناس في الدنيا يعذبهم الله ... » : 9/ 405 «لا تغالوا في مهور النساء فقالت امرأة ليس ذلك لك يا عمر ... » : 8/ 58 «لا لا تفضّلوا بين الأنبياء ... » : 3/ 397 «لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ... » : 9/ 97 «لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن ... » : 6/ 400 «لا تقرءوا القرآن في أقل من ثلاث ... » : 1/ 82

«لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا ... » : 9/ 119 «لا تقولوا سورة البقرة ولا سورة آل عمران ولكن قولوا ... » : 1/ 120 «لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات طلوع الشمس ... » : 4/ 540 «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ... » : 2/ 157. 4/ 195 «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد ... » : 2/ 381 «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود ... » : 4/ 196 «لا تكتبوا عني غير القرآن ... » : 1/ 68، 80، 292. 5/ 140 «لا تكشف فخذك ولا تنظر إلى فخذ حيّ ولا ميت ... » : 2/ 386 «لا تلجوا على المغيبات فإن الشيطان يجري من أحدكم ... » : 8/ 398 «لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعدة فتخلفه ... » : 3/ 394 «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ... » : 1/ 336. 2/ 381. 7/ 378. 8/ 427 «لا تنفقوا على من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى ... » : 1/ 154 «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة ... » : 8/ 219 «لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار ... » : 8/ 219 «لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن ... » : 8/ 75 «لا تؤذوا المسلمين ولا تعيّروهم ولا تتبعوا عوراتهم ... » : 8/ 389 «لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلّطه ... » : 3/ 211 «لا حلف في الإسلام وما كان من حلف في الجاهلية ... » : 8/ 100 «لا رهبانية في الإسلام ... » : 9/ 201 «لا شغار في الإسلام ... » : 8/ 21 «لا صلاة لمن لا وضوء له ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ... » : 7/ 415 «لا صلاة لمن لم يطع الصلاة وطاعة الصلاة ... » : 1/ 343 «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ... » : 1/ 291، 332 «لا طلاق قبل النكاح ... » : 7/ 398 «لا طيرة وخيرها الفأل قيل يا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وما الفأل قال الكلمة الصالحة ... » : 9/ 36 «لا قطع في ثمر ولا كثر ... » : 9/ 120 «لا نقول لك كما قال قوم موسى اذهب أنت وربك فقاتلا ... » : 9/ 94 «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل ... » : 8/ 76

«لا نورث ما تركنا صدقة إنما يأكل آل محمد من هذا المال ... » : 3/ 384 «لا هجرة بعد الفتح ... » : 7/ 99، 402. 8/ 219 «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونيّة وإذا استنفرتم ... » : 9/ 524 «لا وصية لوارث ... » : 8/ 43 «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ... » : 1/ 290. 9/ 65 «لا وفاء لنذر في معصية وفيما لا يملك العبد ... » : 6/ 111 «لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ... » : 3/ 382 «لا يبلّغني أحد عن أحد شيئا فإني أحبّ أن أخرج إليكم ... » : 7/ 427 «لا يبلّغني أحد من أصحابي عن أحد شيئا فإني أحبّ ... » : 8/ 519 «لا يبولنّ أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه ... » : 9/ 67 «لا يترك بجزيرة العرب دينان ... » : 9/ 396 «لا يتوارث أهل ملّتين شتّى ... » : 7/ 103. 8/ 38 «لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم ... » : 7/ 320 «لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يجامعها في آخر اليوم ... » : 8/ 109 «لا يجوز في الأضاحي العوراء البيّن عورها والمريضة ... » : 6/ 48 «لا يحرم من الرضاع إلّا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام ... » : 8/ 69 «لا يحرم من الرضاع إلّا ما كان في الحولين ... » : 8/ 69 «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله ... » : 1/ 344. 5/ 190. 9/ 107 «لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ... » : 6/ 289، 386. 7/ 202. 8/ 354 «لا يحل دم امرئ يشهد أن لا إله إلّا الله وأني رسول الله ... » : 9/ 356 «لا يحلّ لا مرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ... » : 8/ 399 «لا يحلّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع ... » : 6/ 394 «لا يحلّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع على امرأة من السبي ... » : 8/ 72 «لا يحلّ لرجل أن يفرّق بين اثنين إلّا بإذنهما ... » : 8/ 483 «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض ... » : 8/ 510 «لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهم الشيطان ... » : 8/ 398 «لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم ... » : 8/ 398

«لا يدخل أحد النار إلا وهو يعلم أن النار أولى به ... » : 5/ 378 «لا يدخل الجنة خبّ ولا منّان ولا بخيل ... » : 1/ 444. 8/ 120 «لا يدخل الجنة قاطع رحم ... » : 3/ 381. 8/ 10 «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ... » : 5/ 125 «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه ... » : 8/ 118 «لا يدخل الجنة منّان ... » : 6/ 488 «لا يدخل مسجدنا بعد عامنا هذا إلا أهل العهد وخدمهم ... » : 9/ 393 «لا يدخل النار أحد شهد بدرا والحديبية ... » : 3/ 173 «لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ... » : 2/ 456. 8/ 120 «لا يدخل النار إن شاء الله تعالى من أصحاب الشجرة ... » : 8/ 599 «لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم ... » : 7/ 103، 356. 8/ 38 «لا يرث المؤمن الكافر ولا يرث الكافر المؤمن ... » : 9/ 310، 311 «لا يردّ الدعاء بين الأذان والإقامة ... » : 7/ 344 «لا يردّ القضاء إلّا الدعاء ... » : 2/ 411 «لا يرمي رجل رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر ... » : 8/ 514 «لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين ... » : 8/ 120 «لا يزال الله مقبلا على العبد وهو ... » : 5/ 302 «لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما ... » : 3/ 382. 8/ 205 «لا يزداد الأمر إلّا شدة ولا الناس إلا شحا ولا الدنيا ... » : 5/ 297 «لا يزني العبد حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق ... » : 2/ 156. 6/ 188. 8/ 208 «لا يشبع الرجل دون جاره ... » : 8/ 118 «لا يصلّ أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شيء ... » : 2/ 386 «لا يظلم الله المؤمن حسنة يثاب عليها ... » : 3/ 514 «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب ... » : 9/ 68 «لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويطّهر ما استطاع من الطهر ويدّهن ... » : 7/ 338 «لا يفتح أحدكم على نفسه باب مسألة إلا فتح الله ... » : 9/ 471 «لا يفترقنّ اثنان إلّا عن تراض ... » : 8/ 97

«لا يفترقن بيعان إلّا عن رضا ... » : 8/ 96 «لا يفرك مؤمن مؤمنة وإن كره منها خلقا رضي منها بآخر ... » : 8/ 58 «لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول ... » : 9/ 60 «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ... » : 2/ 387. 8/ 406 «لا يقتسم ورثتي دينارا ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤونة ... » : 8/ 40 «لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة ... » : 2/ 567. 5/ 485 «لا يقم الرجل الرجل من مجلس ثم يجلس ولكن افسحوا ... » : 8/ 483 «لا يقولن أحدكم أخذت القرآن كله ... » : 1/ 74 «لا يقولنّ أحدكم اللهمّ اغفر لي إن شئت ... » : 2/ 411 «لا يقيم الرجل الرجل في مجلسه فيجلس فيه ولكي تفسّحوا وتوسّعوا ... » : 8/ 483 «لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ولكن ليقل افسحوا ... » : 8/ 483 «لا يمين عليك ولا نذر في معصية الربّ ولا في قطيعة الرحم ... » : 6/ 406 «لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره ... » : 9/ 445 «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة ... » : 8/ 401 «لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي ... » : 9/ 345 «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه ... » : 9/ 382 «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع يشهد أن لا إله إلا الله ... » : 2/ 291 «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشرّه ... » : 2/ 289 «لأعطين الراية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله ... » : 9/ 161 «لأعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحب الله ... » : 8/ 603 «لأكررن عليهم الصدقة وإن راح على أحدهم مائة من الإبل ... » : 9/ 472 «لأن يحتطب أحدكم جزمة على ظهره خير له من أن يسأل ... » : 9/ 470 «لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بحليلة جاره ... » : 8/ 118 «لأنا أعلم بما مع الدجال منه معه نهران يجريان ... » : 4/ 385 «لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحا يريه خير ... » : 3/ 43 «لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا ... » : 9/ 493 «لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما ... » : 2/ 548 «لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة ... » : 2/ 155

«لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم ... » : 3/ 382. 8/ 205 «لسرادق النار أربعة جدر كثف كل جدار مثل مسيرة أربعين سنة ... » : 5/ 67 «لعلّ الله اطلع على أهل بدر فقال لهم افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم ... » : 7/ 19 «لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ... » : 9/ 222 «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ... » : 9/ 118، 120 «لعن الله الواشمات والموتشمات والنامصات ... » : 8/ 244 «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده ... » : 6/ 497 «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم المحلّ والمحلّل له ... » : 6/ 429 «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم النائحة والمستمعة ... » : 9/ 293 «لعن النبي صلّى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة ... » : 8/ 245 «لقد أعذر الله إلى صاحب الستين والسبعين ... » : 3/ 128 «لقد أقرأنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم آية الرجم الشيخ ... » : 1/ 72 «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ... » : 7/ 368 «لقد خشيت على نفسي فقالت له [خديجة] كلا والله ما يخزيك الله ... » : 5/ 326 «لقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم جمع عليا وفاطمة وحسنا وحسينا بثوب ... » : 7/ 380 «لقد رأيتنا يوم الحديبية في الصلح الذي كان بين الناس والمشركين ... » : 8/ 576 «لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن أشياء ... » : 3/ 353 «لقد رأيتني ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلّي وأنا مضطجعة بينه ... » : 1/ 336 «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ... » : 2/ 179 «لقد قلّلوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت للرجل إلى جانبي تراهم سبعين ... » : 7/ 66 «لقد كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارا وما لنا إلا الماء والتمر ... » : 5/ 18 «لقد نزلت عليّ آية أحبّ إليّ مما على الأرض ... » : 8/ 585 «لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلم جبريل فقال يا جبريل ... » : 1/ 245 «لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت أخبرني عن صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... » : 2/ 468 «لقيت عمّي ومعه راية فقلت أين تريد قال بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... » : 8/ 63، 360 «لقيني رسول الله صلّى الله عليه وسلم مرة في طريق من طرق المدينة وأنا جنب فاختنست ... » : 8/ 128 «لكل آية ظهر وبطن ولكل حرف حدّ ... » : 1/ 311 «لكل أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد ... » : 9/ 201، 210، 331

«لكل أمة مجوس ومجوس أمتي الذين يقولون لا قدر ... » : 2/ 291 «لكلّ شيء سنام وإن سنام القرآن سورة البقرة ... » : 6/ 125، 468 «لكل شيء لباب ولباب القرآن الحواميم ... » : 4/ 350 «لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به ... » : 3/ 382. 9/ 359 «لكل نبي حواري وحواريّ من أمتي الزبير ... » : 7/ 147 «للمتكلّف ثلاث علامات ينازع من فوقه ويتعاطى ... » : 2/ 359 «للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلّف من العمل إلّا ما يطيق ... » : 8/ 120 «لم أعقل أبويّ قط إلا وهما يدينان الدين الإسلامي ... » : 3/ 417 «لم تحلّ الغنائم لأحد سود الرؤوس من قبلكم كانت تنزل نار ... » : 7/ 90 «لم يزل النبي صلّى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة حتى أنزل الله عزّ وجلّ ... » : 5/ 417 «لم يقسم النبي صلّى الله عليه وسلم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل قال ابن إسحق وعبد شمس ... » : 7/ 57 «لم يكذب إبراهيم عليه السلام قط إلا ثلاث ... » : 4/ 225 «لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاحشا ولا لعّانا ولا سبّابا ... » : 2/ 558. 6/ 274، 275 «لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحّشا ولا صخّابا ... » : 2/ 558 «لم يكن شخص أحبّ إليهم من النبي صلّى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا ... » : 8/ 484 «لما أخرج النبي صلّى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر أخرجوا نبيهم ليهلكنّ ... » : 6/ 55 «لما أراد الله أن يخلق آدم أوحى إلى الأرض ... » : 1/ 228 «لما أسري برسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى أصبح يحدّث الناس بذلك ... » : 3/ 353 «لما أسري بي إلى السماء رأيت موسى ... » : 5/ 354 «لما افترضت الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتاه جبريل ... » : 1/ 328 «لما أقبلنا من الحديبية عرسنا فنمنا فلم نستيقظ إلا والشمس ... » : 8/ 576 «لما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال إني ذاكر لك أمرا ... » : 7/ 374 «لما أمرنا بالصدقة كنّا نتحامل فجاء أبو عقيل ... » : 1/ 192. 9/ 504. «لما انتهينا إلى بيت المقدس قال جبريل بأصبعه فخرق ... » : 2/ 85 «لما أنزل الله الآية [المباهلة] دعا النبي صلّى الله عليه وسلم عليّا وفاطمة ... » : 7/ 159، 160 «لما أنزلت وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ... قلت يا رسول الله صلّى الله عليه وسلم إني لراء ... » : 6/ 121 «لما انصرف عني الملك وهببت من نومي وكأنما ... » : 1/ 364

«لما انكفأ المشركون يوم أحد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم استووا حتى أثني ... » : 8/ 503 «لما بدّن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وثقل كان أكثر صلاته جالسا ... » : 1/ 338 «لما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم سدرة المنتهى قال انتهى إليها ما يعرج ... » : 2/ 85 «لما تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم ... » : 1/ 208 «لما توفي عبد الله بن أبي بن سلول جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... » : 9/ 506 «لما حضرت أبا طالب الوفاة جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل ... » : 9/ 543 «لما حملت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد ... » : 2/ 550 «لما خلق الله آدم أخذ ذريته من ظهره مثل الذرّ ... » : 2/ 529 «لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره ... » : 2/ 531 «لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال الحمد لله ... » : 2/ 352 «لما خلق الله الأرض جعلت تميد فخلق الجبال ... » : 5/ 415 «لما خلق الله الأرض قمصت وقالت تخلق عليّ آدم ... » : 5/ 415 «لما خلق الله الأرض وفتقها سبع أرضين ... » : 1/ 226 «لما خلق الله الخلق وقضى القضية أخذ أهل اليمين بيمينه ... » : 2/ 530 «لما سار رسول الله صلّى الله عليه وسلم عام الفتح وبلغ قريشا خرج أبو سفيان بن حرب ... » : 9/ 310 «لما عرج بي إلى السماء أتيت على نهر ... » : 2/ 12 «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار ... » : 1/ 371. 8/ 518 «لما فتح النبي صلّى الله عليه وسلم خيبرا أصبنا من القرية حمرا فطبخنا منها ... » : 5/ 123 «لما فرغ النبي صلّى الله عليه وسلم من حنين بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس ... » : 9/ 390 «لما قال اليهود ليس علينا في الأميين سبيل قال رسول الله كذب ... » : 7/ 176 «لما قالت اليهود نحن على دين إبراهيم وقالت النصارى نحن ... » : 7/ 166 «لما قتل أبي يوم أحد جعلت أبكي فقال لي رسول الله لا تبكه ... » : 7/ 269 «لما قدم المهاجرون الأولون العصبة موضعا بقباء ... » : 1/ 337 «لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلا ... » : 5/ 204 «لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلّى الله عليه وسلم وقد رأيت عائشة بنت أبي بكر ... » : 7/ 377 «لما كان يوم بدر نظر رسول الله إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ... » : 7/ 19 «لما كان يوم حنين آثر رسول الله صلّى الله عليه وسلم ناسا في القسمة فأعطى الأقرع ... » : 9/ 388 «لما كان يوم حنين التقى هوازن ومع النبي صلّى الله عليه وسلم عشرة آلاف والطلقاء ... » : 9/ 389

«لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس ... » : 3/ 353 «لما كلّم الله موسى كان يبصر دبيب النمل ... » : 2/ 454 «لما نزل برسول الله صلّى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه ... » : 2/ 382 «لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله ... » : 6/ 312 «لما نزل مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ شقّ ذلك على المسلمين ... » : 8/ 249 «لما نزلت الآية الأولى إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ ... شقّ ... » : 7/ 86 «لما نزلت آية لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ قال النبي صلّى الله عليه وسلم ادعوا ... » : 1/ 79 «لما نزلت آية لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ ... اشتدّ على أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم ... » : 6/ 85 «لما نزلت [إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ] قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم نعيت إليّ نفسي ... » : 9/ 574 «لما نزلت ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قلت يا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... » : 2/ 17 «لما نزلت سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم اجعلوها ... » : 1/ 516 «لما نزلت سورة الروم خرج أبو بكر يصيح في نواحي مكة ... » : 1/ 361 «لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي صلّى الله عليه وسلم دعا أبا بكر ... » : 9/ 347 «لما نزلت لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ ... اشتدّ ذلك على أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم ... » : 2/ 399 «لما نزلت الم غُلِبَتِ الرُّومُ ... كانت فارس حينئذ ... » : 5/ 430 «لما نزلت هذه الآية قالوا كيف نختصم ونحن ... » : 4/ 325 «لما نزلت هذه الآية [المباهلة] دعا النبي صلّى الله عليه وسلم فاطمة وحسنا ... » : 7/ 161، 162 «لما نزلت وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ ... إلى آخر الآية قال أهل مكة ... » : 3/ 101 «لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى ... » : 1/ 496 «لما نزلت وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ.. قالوا يا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... » : 9/ 240 «لما نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ.. قال لي النبي صلّى الله عليه وسلم ما ترى ... » : 8/ 488 «لما نصّب رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليا يوم غدير خمّ وقال ... » : 5/ 393 «لن تجتمع أمتي على ضلالة فعليكم بالجماعة فإن يد الله ... » : 8/ 237 «لن تزول قدم شاهد الزور حتى يوجب الله له النار ... » : 5/ 401 «لن يلج الدرجات من تكهّن أو استقسم ... » : 9/ 35 «لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم ... » : 5/ 378 «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال ... » : 9/ 428 «لو أن الأنصار سلكوا واديا أو شعبا لسلكت في وادي الأنصار ... » : 7/ 318

«لو أنّ أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن ... » : 8/ 205 «لو أنّ دلوا من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا ... » : 2/ 336 «لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت ... » : 8/ 396 «لو أن قمعا من حديد وضع في الأرض فاجتمع له الثقلان ... » : 6/ 32 «لو أنكم تتوكلون على الله حقّ توكله لرزقكم كما يرزق ... » : 5/ 502 «لو أنكم توكلتم على الله حقّ توكله لرزقتم كما ترزق الطير ... » : 3/ 95 «لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن فيها ملكا لا يظلم ... » : 4/ 308 «لو ضرب الجبل بمقمع من حديد لتفتّت ثم عاد كما كان ... » : 6/ 32 «لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب ... » : 9/ 527 «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا ... » : 1/ 540 «لو كان لي مثل أحد ذهبا لسرّني ألا تمرّ ... » : 1/ 540 «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ... » : 4/ 504 «لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم ... » : 5/ 297. 8/ 442 «لو يعلم صاحب المسألة ما له فيها لم يسأل ... » : 9/ 471 «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء ... » : 9/ 65 «لولا أنكم تذنبون لخلق الله عزّ وجل قوما ... » : 4/ 339 «لولا ما أخذ الله عزّ وجل على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء ... » : 7/ 288 «ليبلغ الشاهد الغائب فإنّ الشاهد عسى ... » : 4/ 73. 7/ 288 «ليت شعري ما فعل أبواي ثلاثا فأنزلها الله ... » : 6/ 232 «ليتصدق امرؤ من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع برّه ... » : 6/ 390 «ليحجن هذا البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج ... » : 5/ 104 «ليس بالكاذب من أصلح بين الناس فقال ... » : 4/ 477 «ليس بيني وبين عيسى عليه السلام نبي وإنه ... » : 4/ 383، 520 «ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي ... » : 4/ 422. 4/ 474 «ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء ... » : 2/ 411 «ليس عدوّك الذي إن قتلته كان فوزا لك وإن قتلك ... » : 8/ 553 «ليس على الذي يأتي البهيمة حدّ ... » : 8/ 363 «ليس على أمة حدّ حتى تحصن ... » : 8/ 91

- م -

«ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع ... » : 9/ 120 «ليس الفقير الذي لا مال له ولكن الأخلق الذي ليس له حظّ ... » : 9/ 471 «ليس في ديني ترك النساء واللحم واتخاذ الصوامع ... » : 9/ 208 «ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال بيت يسكنه ... » : 9/ 424 «ليس لامرأة أن تنتهك من مالها شيئا إلا بإذن زوجها إذا ملك ... » : 5/ 442. 8/ 105 «ليس المسكين الذي يطوف على الناس تردّه ... » : 1/ 478. 6/ 286. 7/ 63، 317 «ليس المسكين الذي يطوف على الناس وتردّه اللقمة ... » : 9/ 469 «ليس المسكين هذا الطواف الذي تردّه التمرة والتمرتان ... » : 6/ 286 «ليس من البرّ الصوم في السفر ... » : 6/ 307 «ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة ... » : 4/ 382 «ليس من شيء أكرم على الله يوم القيامة من ابن آدم ... » : 3/ 408 «ليس منّا من تطير أو تطير له أو تكهن أو تكهن له ... » : 9/ 35 «ليس منّا من دعا إلى عصبية وليس منّا من قاتل ... » : 3/ 74. 9/ 23 «ليس منا من ضرب الخدود وشقّ الجيوب ... » : 9/ 292 «ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ... » : 1/ 370، 444. 6/ 275. 8/ 269، 514 «ليس الواصل بالمكافىء ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها ... » : 5/ 535. 8/ 10 «ليلة القدر ليلة سبع وعشرين ... » : 2/ 133 «لئن حلف على مالك ليأكله ظلما ليلقين الله وهو عنه ... » : 6/ 322 «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ ... » : 1/ 154 «لينتهينّ أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمنّ الله على قلوبهم ... » : 7/ 337 «لينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما إن كان ظالما فلينهه ... » : 9/ 23 - م- «ما أحبّ أن لي بحلف حضرته بدار ابن جدعان حمر النعم ... » : 5/ 172 «ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله تعالى إنهم ... » : 4/ 474. 8/ 269 «ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم ... » : 7/ 288

«ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت ... » : 1/ 411 «ما أسكر كثيره فقليله حرام ... » : 5/ 155. 9/ 222 «ما أصاب أحدا قط همّ ولا حزن فقال اللهمّ إني عبدك ... » : 2/ 542 «ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا ... » : 4/ 465 «ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم ... » : 1/ 435 «ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر ... » : 1/ 566. 4/ 474، 475 «ما أمرت بتشييد المساجد ... » : 2/ 381. 8/ 426 «ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن ... » : 4/ 57 «ما أنعم الله على عبد نعمة ... » : 1/ 308 «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم ... » : 5/ 302 «ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكّي فليس بكنز ... » : 9/ 420 «ما بين المشرق والمغرب قبلة ... » : 6/ 229، 258 «ما بين النفختين أربعون قالوا يا أبا هريرة أربعون يوما ... » : 1/ 446، 447 «ما تجرّع عبد من جرعة أفضل أجرا من جرعة غيظ ... » : 4/ 475 «ما حقّ امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين ... » : 6/ 295 «ما خلا يهودي بمسلم قط إلا همّ بقتله أو إلّا حدثته نفسه بقتله ... » : 9/ 206 «ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم إصبعه ... » : 5/ 537 «ما ذئبان جائعان أرسلا إلى غنم بأفسد لها ... » : 1/ 540. 3/ 224 «ما رأيت رجلا أكثر استشارة للرجال من رسول الله ... » : 7/ 256 «ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم رفع إليه فيه قصاص إلا أمر بالعفو ... » : 9/ 140 «ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم مستجمعا ضاحكا حتى أرى منه ... » : 5/ 22 «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ... » : 8/ 118 «ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر ولقد رأيتنا ... » : 1/ 322 «ما سألت النبي صلّى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة ... » : 1/ 78 «ما سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض إنه من أهل الجنة ... » : 5/ 11 «ما السموات السبع وما فيهن في الكرسي إلّا ... » : 1/ 507 «ما السموات السبع وما فيهن وما بينهن والأرضون السبع ... » : 8/ 345 «ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتابعين ... » : 5/ 18

«ما ضلّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا ... » : 4/ 516، 517 «ما طلعت الشمس على رجل خير من عمر ... » : 9/ 527 «ما علمت أحدا ردّ شهادة العبد ... » : 6/ 512 «ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ... » : 7/ 338 «ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها ... » : 2/ 411. 6/ 317 «ما العمل في أيام أفضل منها في هذه قالوا ولا الجهاد ... » : 6/ 39 «ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض ... » : 9/ 589 «ما كان من رقيق أو بزّ يراد به التجارة ففيه زكاة ... » : 9/ 480 «ما كان يا أيها الذين آمنوا أنزل بالمدينة وما كان يا أيها ... » : 8/ 8 «ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه ما خلا أبا بكر ... » : 9/ 444 «ما مات مؤمن إلا بكت عليه السماء والأرض ... » : 4/ 549 «ما مات النبي صلّى الله عليه وسلم حتى أحلّ الله النساء ... » : 7/ 403 «ما مرّت عليّ ليلة منذ سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا عندي وصيتي ... » : 6/ 296 «ما من أحد من أصحابي يموت بأرض إلّا بعث قائدا ونورا لهم ... » : 7/ 318. 8/ 494 «ما من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ويصلّي ركعتين ... » : 5/ 303 «ما من أحد يشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول الله ... » : 8/ 207 «ما من أحد يمرّ بقبر أخيه المسلم كان يعرفه ... » : 5/ 461 «ما من امرئ مسلم يردّ عن عرض أخيه إلا كان حقا ... » : 5/ 457 «ما من امرئ يخذل امرأ مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته ... » : 8/ 517 «ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن ... » : 6/ 40 «ما من حافظين يرفعان إلى الله عزّ وجلّ ما حفظ ... » : 5/ 421 «ما من داع دعا إلى شيء إلا كان موقوفا ... » : 4/ 211 «ما من ذنب أحرى أن يعجل الله لصاحبه بالعقوبة ... » : 5/ 535 «ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها ... » : 3/ 381 «ما من ذنب يذنبه المسلمون إلا ولهم مخرج منه من توبة أو كفارة ... » : 6/ 87 «ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده ... » : 5/ 461 «ما من رجل يصاب بشيء في جسده فيتصدق به إلا رفعه ... » : 9/ 139 «ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي ... » : 2/ 474. 9/ 198

«ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق ... » : 2/ 558. 4/ 422 «ما من شيء توعدونه إلّا قد رأيته في صلاتي هذه ... » : 2/ 95 «ما من شيء كان في الجاهلية إلّا هو تحت قدمي هاتين ... » : 5/ 304 «ما من شيء يصيب المؤمن في جسده يؤذيه ... » : 4/ 466 «ما من شيء صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها ... » : 5/ 395 «ما من عبد إلا وله في السماء بابان باب يخرج ... » : 4/ 548 «ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول إنا لله وإنا إليه راجعون ... » : 6/ 267 «ما من عبد مؤمن يتوب قبل الموت بشهر إلا قبل ... » : 2/ 157 «ما من عبد يعمّر في الإسلام أربعين سنة إلا صرف الله عنه ... » : 6/ 14 «ما من قوم يعملون بالمعاصي وفيهم رجل أعزّ منهم وأمنع ... » : 7/ 31 «ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي هم أعزّ ... » : 9/ 198 «ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها ... » : 6/ 267 «ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلّا حطّ الله ... » : 6/ 267 «ما من معمّر يعمّر في الإسلام أربعين سنة إلّا صرف الله عنه ... » : 6/ 14 «ما من مولود إلّا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصّرانه ... » : 2/ 533. 5/ 448. 6/ 22 «ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسّه حين يولد ... » : 6/ 500، 504. 7/ 158 «ما من مؤمن إلّا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة اقرأوا إذا شئتم ... » : 7/ 355 «ما من مؤمن إلا وله بابان باب يصعد منه ... » : 4/ 549، 550 «ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله ... » : 1/ 492. 2/ 276 «ما من نبي إلا وله وزيران من أهل السماء ... » : 4/ 527. 6/ 203. 7/ 256. 9/ 527 «ما من نبي بعثه الله في أمّة قبلي إلّا كان له ... » : 2/ 474 «ما من نبي من الأنبياء إلّا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه ... » : 6/ 465 «ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرّها أن ترجع إلى الدنيا إلّا الشهيد ... » : 7/ 269 «ما من وال يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاشّ لهم ... » : 2/ 311 «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان ... » : 1/ 431 «ما منكم من أحد إلّا وقد وكل به قرينه من الجن ... » : 2/ 556 «ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ الوضوء ... » : 4/ 349

«ما نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم آية هي أشد عليه من هذه الآية ... » : 3/ 545 «ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا ... » : 4/ 475، 478. 8/ 269 «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا ما اسطعتم ... » : 6/ 221 «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ... » : 2/ 400. 6/ 86. 7/ 311. 9/ 241، 545 «ما ولدني من سفاح أهل الجاهلية شيء ما ولدني نكاح ... » : 5/ 194 «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا همّ ولا حزن ... » : 6/ 267 «ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا فنزلت ... » : 3/ 168 «ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى ... » : 1/ 391 «متعتان كانتا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم حلالا وأنا أنهى عنهما ... » : 8/ 82 «مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه ... » : 2/ 567 «مثل العالم الذي يعلّم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج ... » : 6/ 164 «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث ... » : 2/ 416 «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد ... » : 8/ 509 «مثلي في النبيين كمثل رجل بنى دارا فأحسنها وأكملها وترك فيها ... » : 7/ 392 «مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا فكلّما أضاءت ... » : 8/ 456 «مرّ بي عمر فقال يا حماس أدّ زكاة مالك فقلت مالي ... » : 9/ 480 «مرّ رجل من بني سليم على نفر من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم ومعه غنم فسلّم عليهم ... » : 8/ 211 «مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم على أناس من أصحابه يضحكون ... » : 4/ 51 «مرّ علينا النبي صلّى الله عليه وسلم في المسجد يوما وعصبة من النساء قعود فألوى ... » : 8/ 190 «مرّ النبي صلّى الله عليه وسلم على قبرين فقال إنهما ليعذبان وما ... » : 4/ 375 «مرّ يهودي بالنبي صلّى الله عليه وسلم فقال له يا يهودي حدثنا ... » : 4/ 344 «المراء في القرآن كفر ما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم ... » : 9/ 364 «مرّت بعمر بن الخطاب جارية مقنّعة فعلاها بالدرة وقال يا لكاع ... » : 7/ 418 «مررت على أبي ذر بالربذة فقلت له ما أنزلك بهذه الأرض ... » : 9/ 425 «مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث ... » : 2/ 526. 3/ 363 «مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار ... » : 6/ 164

«مرضت عام الفتح مرضا أشفيت منه على الموت فأتاني رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... » : 6/ 296 «مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما قبل منكم فإن ردّ ... » : 9/ 248، 249 «مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين ... » : 1/ 333 «المستبّان ما قالا فعلى البادئ منهما ما لم يعتد المظلوم ... » : 8/ 514 «المستشار مؤتمن ... » : 7/ 257 «مسح ربّك ظهر آدم فخرجت كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة ... » : 2/ 529 «المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام وللمقيم يوم وليلة ... » : 9/ 67 «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذ له ولا يحقره ... » : 8/ 514 «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ... » : 3/ 74 «المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا ... » : 5/ 232 «المسلم إذا كان مخالطا للناس ويصبر على أذاهم خير ... » : 4/ 474 «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده والمؤمن من أمّنه ... » : 5/ 305 «المسلم يكفيه اسمه إن نسي أن يسمّي حين يذبح ... » : 4/ 146 «المسلمون أخوة لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى ... » : 8/ 523 «مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقلنا يا رسول الله أعطيت ... » : 7/ 57 «مضت السنة أن يردوا في حقوقهم ومواريثهم إلى أهل دينهم ... » : 9/ 130 «مع الدجال يومئذ سبعون ألف يهودي كلّهم ... » : 4/ 387 «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلّا الله ... » : 4/ 101، 263 «ملعون من أتى المرأة في دبرها ... » : 6/ 399 «ملعون من سبّ والديه قالوا يا رسول الله ... » : 4/ 135 «من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته ... » : 1/ 431، 432 «من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثّل له ماله يوم القيامة ... » : 9/ 421 «من آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله يوشك أن يأخذه ... » : 7/ 417 «من أتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثّل له ماله شجاعا أقرع ... » : 7/ 278 «من أتى البهيمة فاقتلوه واقتلوها معه ... » : 8/ 362، 363 «من أتى حائضا أو امرأة من دبرها أو كاهنا فقد كفر بما ... » : 6/ 398 «من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول ... » : 4/ 30. 5/ 368. 6/ 214. 9/ 35 «من أتى عرافا فسأله أو كاهنا فصدقه لم تقبل صلاته ... » : 5/ 368

«من أتى عرّافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ... » : 6/ 214 «من أحب أن يبسط الله في رزقه وينسأله ... » : 5/ 535 «من أحبّ أن يمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار ... » : 8/ 484 «من أحبّ أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل ... » : 9/ 486 «من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله وتصديقا بوعده فإنّ ... » : 7/ 84 «من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ومن أساء ... » : 7/ 48 «من أحق الناس بحسن صحبتي يا رسول الله قال له أمك ... » : 4/ 252 «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه ... » : 5/ 305 «من أخذ شبرا من الأرض ظلما فإنه يطوّقه يوم القيامة ... » : 3/ 74 «من أخذ من الأرض شبرا بغير حقّ خسف به يوم القيامة ... » : 3/ 73. 8/ 346 «من أدرك ذريته الإيمان فعملوا بطاعتي ألحقتهم ... » : 5/ 364 «من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس ... » : 1/ 333 «من ادعى إلى غير أبيه متعمدا حرّم الله عليه الجنة ... » : 7/ 352 «من أذنب ذنبا في الدنيا فعوقب عليه فالله أعدل ... » : 8/ 208. 9/ 109 «من أراد أن تستجاب دعوته وأن تكشف كربته ... » : 6/ 503 «من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلم التي ... » : 4/ 187 «من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول ... » : 7/ 261 «من استمع إلى آية من كتاب الله كتبت له حسنة ... » : 2/ 563 «من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم وأجل معلوم ... » : 6/ 509 «من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده ... » : 9/ 424 «من أصيب بقتل يختار إحدى ثلاث إما أن يقتصّ ... » : 6/ 290 «من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ... » : 8/ 156 «من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حلّ لهم أن يفقأوا عينه ... » : 8/ 396 «من أعان ظالما سلّطه الله عليه ... » : 4/ 160 «من أعان ظالما ليدحض به حقا فقد برىء من ذمّة الله ... » : 6/ 497 «من أعتق رقبة مؤمنة فهي فداؤه من النار ... » : 2/ 262 «من اعتكف عشرا في رمضان كان كحجتين وعمرتين ... » : 6/ 314 «من أعطى عطاء فوجد فليجز به ومن لم يجد ... » : 2/ 370

«من اغتسل يوم الجمعة ولبس من أحسن ثيابه ومسّ من طيب ... » : 7/ 338 «من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه ... » : 4/ 149. 7/ 258. 9/ 562 «من أفطر يوما من رمضان في غير رخصة رخّصها الله له ... » : 6/ 303 «من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر ... » : 9/ 35 «من أكل البصل والثوم والكرّاث فلا يقربنّ مسجدنا ... » : 2/ 380. 8/ 426 «من أمّن رجلا على دمه فقتله فأنا بري من القاتل ... » : 9/ 359 «من انتسب إلى تسعة آباء كفار يريد بهم عزّا وكرما ... » : 8/ 265 «من أنظر معسرا أو وضع عنه وقاه الله من قيح جهنم ... » : 6/ 503 «من أنفق زوجين من ماله في سبيل الله دعي ... » : 4/ 348 «من أهلّ بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام ... » : 3/ 357 «من أوفى على يده في الكيل والميزان ... » : 4/ 189 «من بدّل دينه فاقتلوه ... » : 6/ 386 «من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة ... » : 8/ 425 «من تخطّى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسرا إلى جهنم ... » : 7/ 339 «من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها ... » : 8/ 98 «من ترك بعده كنزا مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع ... » : 9/ 423 «من ترك بيضاء أو حمراء كوي به يوم القيامة ... » : 9/ 425 «من ترك ثلاث جمع تهاونا بها طبع الله على قلبه ... » : 7/ 337، 338 «من ترك الجمعة من غير ضرورة كتب منافقا في كتاب لا يمحى ولا يبدل ... » : 7/ 338 «من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله ... » : 6/ 451 «من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر ... » : 9/ 356 «من ترك الكذب وهي باطل بني له في ربض الجنة ... » : 5/ 81 «من تزوج امرأة فلم يستطع أن يمسّها فإنه يضرب له أجل سنة ... » : 6/ 411 «من تصدق فله مثلاه في الجنّة ... » : 6/ 456 «من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ... » : 2/ 379. 8/ 427 «من تعلق شيئا وكل إليه ... » : 3/ 95. 4/ 30 «من تعلّم علما لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ ... » : 6/ 165 «من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ ... » : 1/ 272

«من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات ... » : 9/ 60 «من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده ... » : 9/ 60 «من جرح في جسده جراحة فتصدق بها كفر عنه ذنوبه ... » : 9/ 139 «من جعل قاضيا بين الناس فقد ذبح بغير سكين ... » : 8/ 148 «من جلس مجلسا فكثر فيه لغطه ... » : 5/ 372 «من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى ... » : 1/ 333 «من حجّ لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ... » : 6/ 353 «من حدثك أن محمدا كتم شيئا مما أنزل عليه فقد كذب ... » : 9/ 183 «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال ... » : 5/ 50 «من حفظ من خواتيم سورة الكهف عصم من الدجال ... » : 5/ 50 «من حلف بغير الله فقد أشرك ... » : 6/ 406. 9/ 113 «من حلف بغير ملّة الإسلام فهو كما قال ... » : 9/ 113 «من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم وهو منها فاجر ... » : 7/ 173 «من حلف على يمين فاستثنى فإن شاء مضى وإن شاء ترك ... » : 6/ 405 «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأتها وليكفّر ... » : 6/ 405 «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه ... » : 9/ 212، 218 «من حلف على يمين فقال إن شاء الله فقد استثنى ... » : 5/ 63 «من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال رجل مسلم ... » : 6/ 405 «من حلف على يمين مصبورة كاذبا فليتبوأ مقعده ... » : 6/ 405 «من حلف على يمين هو فيها فاجر يقتطع مال امرئ مسلم لقي الله ... » : 7/ 176 «من حمى مؤمنا من منافق يغتابه بعث الله إليه ملكا ... » : 8/ 517 «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات مات ميتة جاهلية ... » : 7/ 203 «من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن ... » : 9/ 306 «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور ... » : 2/ 115. 4/ 149. 5/ 127، 141 «من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل ... » : 6/ 164 «من رأى فيكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه ... » : 2/ 400. «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه من فارق ... » : 7/ 203. 8/ 155 «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع ... » : 1/ 456. 2/ 473

«من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول ... » : 8/ 48 «من زعم أن عندنا شيئا نقرأه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة ... » : 9/ 396 «من زعم أن محمدا رأى ربّه فقد أعظم الفرية والله يقول لا تدركه ... » : 7/ 118 «من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ... » : 9/ 470 «من سأل وله ما يغنيه فإنما يستكثر من النار ... » : 9/ 470 «من سرّه أن يبسط الله رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل ... » : 8/ 10، 119. 3/ 381 «من سرّه أن يظلّه الله يوم لا ظلّ إلّا ظله فلييسر كل معسر ... » : 6/ 500، 502 «من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين ... » : 1/ 500 «من سكن البادية جفا ... » : 9/ 519 «من سلك طريقا يبتغي فيه علما سلك الله له طريقا إلى الجنة ... » : 9/ 561 «من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة ... » : 8/ 485 «من سلّم عليك من خلق الله فاردد عليه وإن كان مجوسيا ... » : 8/ 191 «من سمع رجلا ينشد ضالّة في المسجد فليقل لا ردّها ... » : 2/ 380. 8/ 426 «من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر لم تقبل ... » : 1/ 336 «من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فعمل بها بعده ... » : 2/ 115. 4/ 201. 5/ 141 «من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده ... » : 7/ 325 «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار ... » : 6/ 273. 7/ 288 «من شرب الخمر فاجلدوه ثم إن شرب فاجلدوه ثم إن شرب ... » : 9/ 222 «من شرب مسكرا نجست صلاته أربعين صباحا فإن تاب ... » : 9/ 222 «من صام ثلاثة أيام من كل شهر ... » : 4/ 202 «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر الله ما تقدم من ذنبه ... » : 6/ 302 «من صلّى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم ... » : 6/ 260 «من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ الكتاب ... » : 1/ 291، 332 «من صلّى عليّ صلاة صلّت عليه الملائكة ما صلّى فليقلل ... » : 7/ 415 «من صلّى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك ... » : 5/ 113 «من طلب العلم كان كفّارة لما مضى ... » : 9/ 561، 562 «من طلب العلم ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء ... » : 6/ 164 «من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله على جوره ... » : 8/ 148

«من طلق أو أعتق أو نكح جادا ولا عبا جاز عليه ... » : 6/ 432 «من ظلم عليا بعد وفاتي فكأنما جحد بنبوتي ونبوّة الأنبياء من قبلي ... » : 7/ 28 «من ظلم معاهدا أو كلّفه فوق طاقته فأنا حجيجه ... » : 9/ 406 «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ومن أهان لي وليا ... » : 7/ 417 «من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب ... » : 6/ 203 «من عقد عقدة ونفث فيها فقد سحر ... » : 6/ 212 «من علق تميمة فقد أشرك ... » : 4/ 30 «من علم الرمي ثم تركه فليس منّا أو قد عصى ... » : 7/ 84 «من عمّره الله ستين سنة فقد أعذر إليه في العمر ... » : 3/ 128 «من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلا ... » : 2/ 379. 8/ 427 «من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله ... » : 6/ 451 «من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ... » : 8/ 237 «من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة ... » : 2/ 411 «من فطّر صائما كان له مثل أجره لا ينقص من أجر الصائم ... » : 6/ 303 «من قال إذا أصبح وإذا أمسى حسبي الله لا إله إلّا هو ... » : 9/ 572 «من قال أنا خير من يونس بن متى ... » : 4/ 232 «من قال اللهمّ فاطر السموات والأرض عالم ... » : 4/ 333 «من قال حين يسمع النداء اللهمّ ربّ هذه الدعوة التامة ... » : 3/ 421. 7/ 344. 9/ 113، 114 «من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان ... » : 7/ 327 «من قال حين يصبح فَسُبْحانَ اللَّهِ ... ...» : 1/ 514 «من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله ... » : 1/ 514. 5/ 436 «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده ... » : 1/ 272 «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ... » : 2/ 134 «من قبض يتيما من بين مسلمين إلى طعامه ... » : 1/ 543 «من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه ... » : 6/ 290 «من قتل في عميّا في رمي يكون بينهم بحجارة أو بالسياط ... » : 8/ 205 «من قتل نفسا معاهدا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ... » : 8/ 200

«من قتل وزغة في أول ضربة فله كذا وكذا حسنة ... » : 5/ 278 «من قذف مملوكه وهو بريء مما قال جلد له يوم القيامة حدا ... » : 8/ 119 «من قذف مؤمنا بكفر فهو كمن قتله ... » : 6/ 274 «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه ... » : 6/ 521 «من قرأ إِذا زُلْزِلَتِ عدلت له بنصف القرآن ومن قرأ قُلْ يا أَيُّهَا ... » : 2/ 25 «من قرأ حمّ الدخان في ليلة أصبح يستغفر له ... » : 4/ 534 «من قرأ حم الدخان في ليلة الجمعة غفر له ... » : 4/ 534 «من قرأ حم الدخان ليلة الجمعة أو يوم ... » : 4/ 534 «من قرأ سورة العلق أعطي في الأجر كأنما ... » : 1/ 351 «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ... » : 5/ 50 «من قرأ قل هو الله أحد عشر مرات بنى الله له بيتا ... » : 2/ 69 «من قرأ كل يوم مائتي مرة قل هو الله أحد محي عنه ... » : 2/ 69 «من قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه الله غفر له ... » : 3/ 20 «من كان بينه وبين النبي صلّى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته ... » : 9/ 353 «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ... » : 9/ 113 «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ... » : 9/ 217 «من كان سامعا مطيعا فلا يصلين إلا ببني قريظة ... » : 7/ 367 «من كان له بيت وخادم فهو ملك ... » : 9/ 89، 91 «من كان له عهد فلأجله ... » : 9/ 350 «من كان له مال يبلغه حجّ بيت ربّه أو تجب عليه فيه الزكاة ... » : 8/ 466 «من كان له وجهان في الدنيا ... » : 1/ 370 «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعن على امرأة من السبي ... » : 8/ 72 «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعن على سبية ... » : 8/ 603 «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره ... » : 5/ 443. 8/ 118 «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ... » : 8/ 182، 269 «من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء ... » : 8/ 255 «من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله ... » : 2/ 154. 3/ 74. 8/ 269 «من كانت مدته أقل من أربعة أشهر فله مهلة ... » : 9/ 350

«من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ... » : 5/ 141 «من كشف سترا فأدخل بصره في البيت قبل أن يؤذن له فرأى ... » : 8/ 397 «من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأه ... » : 4/ 475 «من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه ... » : 4/ 422، 474 «من كفّ غضبه كفّ الله عنه عذابه ... » : 4/ 475 «من كنت مولاه فعلي مولاه ... » : 9/ 186 «من لاءمكم من مملوككم فأطعموه مما تأكلون واكسوه مما تكتسون ... » : 2/ 263. 8/ 119 «من لا يشكر الله لا يشكر الناس ... » : 2/ 370 «من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ... » : 1/ 435 «من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه ... » : 2/ 263 «من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله ... » : 9/ 226 «من لعب بالنرد شير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ... » : 9/ 226 «من لعق العسل ثلاث غدوات في كل شهر لم يصبه عظيم ... » : 5/ 156 «من لعن شيئا ليس بأهل رجعت اللعنة عليه ... » : 6/ 275 «من لقي ربّه لا يشرك به شيئا دخل الجنة ومن لقيه ... » : 8/ 144 «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له ... » : 1/ 343. 3/ 550 «من لم يحسن وصيته عند موته كان نقصا في مروءته ... » : 6/ 295 «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع ... » : 6/ 302 «من لم يسأل الله يغضب عليه ... » : 2/ 411 «من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم ... » : 4/ 173 «من لم يوص عند موته لذوي قرابته فقد ختم عمله بمعصية ... » : 6/ 295 «من مات بغير وصية مات ميتة جاهلية ... » : 6/ 295 «من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه ... » : 2/ 114 «من مات وعليه صيام صام عنه وليّه ... » : 2/ 114 «من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة ... » : 6/ 381 «من مات ولم يوص لذوي قرابته فقد ختم عمله بمعصية ... » : 6/ 295، 296 «من مرّ في شيء من مساجدنا أو أسواقنا بنبل ... » : 2/ 380

- ن -

«من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها كان خيرا له من اعتكاف ... » : 6/ 314 «من مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج ... » : 9/ 23 «من الموبقات السبع التولّي يوم الزحف ... » : 7/ 25 «من نابه شيء في صلاته فليسبح فإنه إذا سبّح ... » : 1/ 336 «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه ... » : 6/ 41، 110 «من نذر نذرا لم يسمّه فكفّارته كفّارة يمين ومن نذر ... » : 6/ 43، 112 «من نسي صلاة فليصلها لذكرها ... » : 3/ 193 «من نسي صلاة فليصلّ إذا ذكرها ... » : 1/ 333 «من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه ... » : 2/ 24 «من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له ... » : 4/ 202 «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل ... » : 2/ 424 «من ولي من أمر المسلمين شيئا فولّى رجلا يجد من هو ... » : 8/ 149 «من يأتينا بخبر القوم ... » : 8/ 519 «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ... » : 3/ 123. 9/ 560 «من ينح عليه يعذّب بما نيح عليه ... » : 9/ 293 «المهدي مني أجلى الجبهة أقنى الأنف يملأ الأرض قسطا ... » : 5/ 298 «المؤمن ترفع له ذريته فيلحقون به وإن كانوا دونه ... » : 5/ 364 «المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا ... » : 8/ 188 «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا ... » : 8/ 509 «المؤمنون تتكافأ دماؤهم ... » : 6/ 293 «المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على سواهم ويسعى ... » : 6/ 289. 8/ 510 - ن- «ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ لوح من نور ... » : 1/ 363 «ناركم هذه التي يوقد ابن آدم ... » : 1/ 419 «الناس لآدم وحواء طفّ الصاع لم يملؤوه إن الله ... » : 8/ 524 «النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم يوم القيامة ... » : 9/ 293 «نحرنا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرسا فأكلناه ... » : 5/ 123

«نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب ... » : 5/ 201. 6/ 373 «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب ... » : 7/ 337 «نحن أحقّ بالشك من إبراهيم إذ قال ربّ أرني كيف تحيي الموتى ... » : 6/ 479 «نحن العلامات والنجم رسول الله قال إن الله جعل النجوم أمانا ... » : 5/ 122 «النذر نذران فما كان من نذر في طاعة الله فذلك لله وفيه الوفاء ... » : 6/ 112، 406 «نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية فأمرتني أن أستفتي لها ... » : 6/ 111 «نزل جبريل فأمّني فصلّيت معه ثم صلّيت ... » : 1/ 329. «نزل القرآن جملة واحدة من عند الله ... » : 1/ 259 «نزلت الآية إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ في بيتي فدعا النبي صلّى الله عليه وسلم فاطمة وحسنا ... » : 7/ 379 «نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملة واحدة ... » : 4/ 63 «نزلت سورة الأنعام على النبي صلّى الله عليه وسلم جملة واحدة ... » : 4/ 63 «نزلت سورة المائدة في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة ... » : 9/ 9 «نزلت سورة المائدة يوم عرفة ووافق يوم الجمعة ... » : 9/ 9 «نزلت سورة نحو براءة ثم رفعت ... » : 1/ 99 «نزلت فيّ آيات من كتاب الله فنزلت فيّ وَشَهِدَ شاهِدٌ ... ...» : 5/ 11 «نزلت هذه الآية إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ.. فيّ وفي علي وحسن ... » : 7/ 380 «نضّر الله امرأ سمع منّا شيئا فبلّغه ... » : 4/ 73. 7/ 288 «نظر رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى القمر ليلة البدر فقال إنكم سترون ربكم ... » : 2/ 199 «نعم المال الصالح للعبد الصالح ... » : 9/ 421 «نعيت إليّ نفسي بها وأنا مقبوض هذه السنة ... » : 9/ 297 «نفست سبيعة الأسلمية بعد وفاة زوجها بليال فذكرت ذلك للنبي ... » : 6/ 442 «نهانا النبي صلّى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة ... » : 5/ 198 «نهانا النبي صلّى الله عليه وسلم يوم خيبر عن البغال والحمير ... » : 4/ 174. 5/ 123 «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن نضحّي بأعضب القرنين أو الأذن ... » : 6/ 48 «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن خصاء الخيل والبهائم ... » : 8/ 245 «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الوشم ... » : 8/ 245 «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم أن يخصى أحد من ولد آدم ... » : 8/ 245

- هـ -

«نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن أكل الهرّ وعن أكل ثمنه ... » : 4/ 174 «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن الحنتم وهي الجرّة، وعن الدباء وهي القرعة ... » : 5/ 155 «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان وهي التي تذبح فيقطع الجلد ... » : 9/ 33 «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع ... » : 4/ 174 «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن المتعة وأيما رجل أو امرأة يأتوني بهما فسوف ... » : 8/ 81 «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن النبيذ في الحنتم وهي الجرّة والدباء وهي القرعة ... » : 9/ 224 «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن النذر وقال إنه لا يردّ شيئا ... » : 6/ 41، 112 «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر ورخص في لحوم الخيل ... » : 5/ 122 «نهيتكم عن الأشربة إلّا في ظروف الأدم فاشربوا ... » : 9/ 224 «نهيتكم عن ثلاث وأنا آمركم بهن نهيتكم عن زيارة القبور ... » : 5/ 155 «نهيتكم عن الظروف وإنّ ظرفا لا يحلّ شيئا ولا يحرّمه ... » : 5/ 155. 9/ 225 «نهينا أن نسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن شيء فكان يعجبنا أن يأتي ... » : 6/ 221 - هـ- «هتم رجل على عهد معاوية فأعطي دية فلم يقبل ... » : 9/ 139، 140 «هذا يوم الحج الأكبر ... » : 9/ 348 «هذه الأنهار تشخب من جنة عدن في جوية ثم تصدّع بعد أنهارا ... » : 8/ 313 «هلا شققتم عن قلبه ... » : 8/ 210 «هلكت قلادة لأسماء فبعث النبي صلّى الله عليه وسلم في طلبها رجالا فحضرت ... » : 8/ 124. 9/ 57 «هلك المتنطعون ... » : 9/ 195 «هم أهل البدع وأهل الشبهات ... » : 4/ 197 «هم أهل الكتاب جزّؤوه أجزاء فآمنوا ببعضه ... » : 4/ 59 «هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة وأرادوا أن يأتوا النبي صلّى الله عليه وسلم ... » : 8/ 552 «هي الصلاة بعضها شفع وبعضها وتر ... » : 1/ 532 - و «وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ أن تعطيه وأنت صحيح ... » : 6/ 286 «وإذا أخذ ربك في بني آدم من ظهور هم ذريتهم ... » : 2/ 529

«واعلموا أن أحدكم لن يدخله عمله الجنة قالوا ... » : 2/ 397 «وافقت ربّي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم ... » : 6/ 241 «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ... » : 2/ 468. 6/ 225. 7/ 154. 8/ 271، 350. 9/ 88، 189 «والذي نفس محمد بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى أحد لسال بكم ... » : 7/ 335 «والذي نفس محمد بيده ما من خدش عود ولا عثرة قدم ... » : 4/ 465 «والذي نفسي بيده إن حق تلاوة أن يحلّ حلاله ويحرّم حرامه ... » : 6/ 235 «والذي نفسي بيده إنكم لأحب الناس إليّ [يعني الأنصار] ... » : 7/ 318 «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تقرضوا ... » : 4/ 532 «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا ... » : 8/ 190 «والذي نفسي بيده لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة فيها تعظيم ... » : 8/ 579 «والذي نفسي بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ... » : 6/ 175 «والذي نفسي بيده لا يصيب المؤمن همّ ولا غمّ ولا نصب ولا حزن ... » : 3/ 509 «والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له ... » : 3/ 509 «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده ... » : 9/ 382 «والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف ولتنهن عن المنكر ... » : 2/ 471. 7/ 32. 9/ 198 «والذي نفسي بيده لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ... » : 4/ 339 «والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من هؤلاء ... » : 7/ 330 «والذي نفسي بيده ليوشكنّ أن ينزل فيكم ابن مريم ... » : 4/ 383، 519. 7/ 156 «والذي نفسي بيده ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي ... » : 6/ 469 «والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا ... » : 9/ 212 «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم ... » : 4/ 463 «والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة ... » : 9/ 357 «والله ما نزلت في عبد الله بن سلام وما نزلت إلا بمكة ... » : 5/ 11 «وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاء لطالب العلم ... » : 3/ 123 «وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين ولليهود ... » : 9/ 157 «وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبي الصراط يمينا ... » : 3/ 174 «وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي صلّى الله عليه وسلم فنهى عن قتل ... » : 2/ 39. 6/ 335

- ي -

«وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا ... » : 8/ 427 «وددت أن الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها فقال له ... » : 6/ 254 «وضعت للنبي ماء للغسل فغسل يديه مرتين أو ثلاثا ثم أفرغ ... » : 8/ 127 «وعظنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما بعد صلاة الغداة موعظة ... » : 4/ 199 «وقد علينا رسول الله فقال هل لكم إلى ما يمحو الله به الذنوب ... » : 7/ 300 «وقد تركت فيكم ما لم تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله ... » : 2/ 526 «وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء فإذا موسى قائم يصلّي ... » : 2/ 87 «وقع رجل على جارية امرأته فرفع إلى النعمان بن بشير وهو أمير ... » : 8/ 361 «وقيل إن شعائر الله هي أعلام دينه بصورة عامة ... » : 6/ 48 «وكان النبي صلّى الله عليه وسلم في سفر فرأى زحاما ورجلا قد ظلّل عليه فقال ... » : 6/ 307 «وكل الله بالرحم ملكا فيقول أي ربّ نطفة أي ربّ علقة ... » : 8/ 546 «ولا يعصينك في معروف أي لا يخدشن وجها ... » : 9/ 292 «ولا يعصينك في معروف أي لا ينحن ... » : 9/ 292 «الولد ثمرة القلوب وإنهم مجبنة مبخلة محزنة ... » : 8/ 553 «وما يدريك لعلّ الله اطلع على أهل بدر فقال لهم اعملوا ما شئتم ... » : 7/ 34 «ومن حلف بغير الله فقد أشرك ... » : 9/ 217 «ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهّل الله له طريقا ... » : 3/ 123 «ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ... » : 4/ 74 «وهل لك من مالك إلّا ما تصدقت فأمضيت أو أكلت فأفنيت ... » : 9/ 423 «وَهُمْ فِيها كالِحُونَ قال تشويه النار فتقلص شفته العالية ... » : 5/ 335 «الويل جبل في النار ... » : 2/ 19 «ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر ... » : 2/ 19 - ي- «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ... » : 7/ 39 «يا أبا المنذر أي آية معك من كتاب الله أعظم قلت الله لا إله إلا هو ... » : 6/ 468 «يا ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك وإن تمسكه شرّ لك ... » : 6/ 391 «يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجرّ قصبه ... » : 9/ 245

«يا أيها الناس اتقوا الله حق تقاته فلو أن ... » : 4/ 556 «يا أيها الناس إن في الجنة لؤلؤتين إحداهما بيضاء ... » : 9/ 115 «يا أيها الناس إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا ... » : 9/ 264 «يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه ... » : 4/ 463 «يا أيها الناس توبوا إلى ربّكم فإني أستغفر وأتوب ... » : 4/ 379 «يا أيها الناس سعرت النار وأقبلت الفتن كقطع الليل ... » : 9/ 587 «يا أيها الناس لا تغتروا بقول الله عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ فيقول ... » : 9/ 248 «يا بني عبد المطلب إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني ... » : 3/ 270 «يا جبريل إني بعثت إلى أمة أميين منهم العجوز ... » : 4/ 319 «يا جميلة ماذا كرهت من ثابت قالت والله ما كرهت فيه دينا ... » : 6/ 418 «يا ربّ إنك اتخذت إبراهيم خليلا وكلّمت موسى تكليما ... » : 2/ 94 «يا رسول الله ادع لي الله أن يجعلني مستجاب الدعوة فقال يا سعد ... » : 6/ 281 «يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس ائتوه فصلوا فيه ... » : 2/ 383 «يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين قال نعم ... » : 6/ 8 «يا رسول الله إن ابنتي توفّي عنها زوجها وقد اشتكت عينها ... » : 6/ 440 «يا رسول الله إن أم سعد ماتت فأي الصدقة أفضل ... » : 2/ 114 «يا رسول الله إن رفاعة طلقني فبتّ طلاقي وإني ... » : 6/ 420، 421 «يا رسول الله إن عددا من عدد النساء لم تذكر في الكتاب ... » : 8/ 339 «يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن ... » : 4/ 477 «يا رسول الله إنّا نغيب ويكون أضياف فقال له ليس أولئك ... » : 8/ 399 «يا رسول الله إني أحب الجهاد في سبيل الله وأحب ... » : 5/ 112 «يا رسول الله إني أريد الجهاد في سبيل الله قال أمك حية ... » : 4/ 253 «يا رسول الله إني أستحاض فقال لها إذا كان دم الحيض ... » : 6/ 400 «يا رسول الله إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحبّ أن يراني ... » : 8/ 394 «يا رسول الله إني رجل حبّب إليّ الجمال وأعطيت منه ما ترى ... » : 8/ 121 «يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدفّ قال أوفي ... » : 6/ 42 «يا رسول الله إني نذرت أن أنحر بمكان كذا وكذا قال لصنم ... » : 6/ 110 «يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد ... » : 6/ 43

«يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد ... » : 6/ 110 «يا رسول الله جئت لأهب لك نفسي فنظر إليها رسول الله ... » : 8/ 400 «يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلّون ... » : 6/ 256 «يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير وإن تسأل ... » : 8/ 383 «يا رسول الله لو أتيت لكاعا قد تفخّذها رجل لم يكن لي ... » : 8/ 375 «يا رسول الله ما أرى كل شيء إلّا للرجال وما أرى للنساء يذكرن ... » : 7/ 384 «يا رسول الله ما عدة من لا تحيض والتي لم تحض وعدة الحبلى ... » : 8/ 339 «يا عائشة ارفقي فإنّ الرفق لم يكن في شيء إلا زانه ... » : 3/ 394 «يا عائشة أما الله عز وجل فقد برّأك فقالت أمي ... » : 8/ 384 «يا عائشة إن أردت اللحوق بي فيكفيك من الدنيا ... » : 9/ 424 «يا عائشة هذا جبريل يقرئك السلام ... » : 1/ 42 «يا عبادي لو أن أولكم وآخر كم وإنسكم وجنكم ... » : 4/ 249 «يا عدي هل رأيت الحيرة قلت لم أرها وقد أنبئت بها ... » : 8/ 440 «يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليس لك الآخرة ... » : 8/ 401 «يا عمّار إنه سيكون بعدي هنات حتى يختلف السيف فيما بينهم ... » : 7/ 29 «يا قوم إذا أبيتم أن تبايعوني فاحفظوا قرابتي فيكم ... » : 4/ 458 «يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد ... » : 5/ 26 «يا محمد إنّ الله يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك ... » : 2/ 555 «يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل الله عليك من آية ... » : 6/ 205 «يا معاذ أتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن ... » : 3/ 551 «يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها عليّ ... » : 9/ 386 «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ... » : 8/ 78، 413 «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه ... » : 1/ 370. 3/ 382. 8/ 517 «يا معشر النساء تصدقن وأكثرن ... » : 5/ 443 «يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا ومن خلق كذا ... » : 9/ 364 «يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا فقيل له الناس كلّهم ... » : 6/ 498 «يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع ... » : 2/ 328 «يأتي المسيح الدجال من قبل المشرق وهمته المدينة ... » : 4/ 387

«يأتي المؤمن شاب حسن اللون طيب الريح فيقول من أنت ... » : 2/ 185 «يأتي الناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم في العظم كجبال ... » : 5/ 110 «يأكل أهل الجنة ويشربون ... » : 5/ 547 «يبدل الله الأرض غير الأرض والسموات ... » : 5/ 251 «يبعث كلّ عبد على ما مات عليه ... » : 2/ 375 «يبعث يوم القيامة قوم من قبورهم تأجّج أفواههم نارا ... » : 1/ 543. 8/ 32 «يتبع الدجال من أمتي سبعون ألفا عليهم التيجان ... » : 4/ 387 «يتبع الدجال من يهود أصفهان سبعون ألفا ... » : 4/ 382 «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ... » : 1/ 342 «يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا.. ذلك إذا قيل له في القبر ... » : 5/ 233 «يجزىء عن الجماعة إذا مرّوا أن يسلّم أحدهم ويجزىء ... » : 8/ 191 «يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب ... » : 2/ 185 «يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة ... » : 8/ 68 «يحرم من الرضاعة ما يحرم من الرحم ... » : 8/ 68 «يحشر الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب ... » : 4/ 87 «يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال ... » : 2/ 456. 8/ 120 «يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين ... » : 4/ 382، 520 «يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم ... » : 2/ 537 «يخرج من ضئضىء هذا قوم يمرقون من الدين ... » : 9/ 458 «يخرج من النار من قال لا إله إلا الله ... » : 2/ 156. 4/ 35، 187. 6/ 187. 8/ 207 «يد الله على الجماعة فإذا شذّ الشاذّ منهم اختطفه الشيطان ... » : 8/ 237 «يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب ... » : 3/ 95 «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بمقدار نصف يوم ... » : 6/ 62 «يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه ويمدّ له في جسمه ... » : 2/ 265 «يرد عليّ قوم من أصحابي يوم القيامة فيجلون عن الحوض ... » : 9/ 161 «يردّ من صدقة الحائف في حياته ما يردّ من وصية المجنف ... » : 6/ 298 «يسأل الرجل في الجائحة والفتق ليصلح بين الناس ... » : 9/ 470 «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل ... » : 2/ 411. 6/ 317

«يسّروا ولا تعسّروا وبشّروا ولا تنفّروا ... » : 6/ 86 «يسلّم الراكب على الماشي والماشي على القاعد ... » : 4/ 533. 8/ 190 «يشفّع الشهيد في سبعين من أهل بيته ... » : 1/ 485 «يشفع يوم القيامة ثلاثة الأنبياء ثم العلماء ... » : 1/ 485 «يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن ... » : 4/ 345 «يعجب الرب تبارك وتعالى من عبده إذ قال ربّ ... » : 4/ 492 «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات ... » : 2/ 265 «يقال لجهنّم هل امتلأت وتقول هل من مزيد ... » : 2/ 236 «يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك ... » : 2/ 530 «يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه ... » : 4/ 346 «يقتل المحرم السبع العادي ... » : 9/ 21 «يقضي الله الأقضية في ليلة النصف من شعبان ... » : 4/ 536 «يقول الله استقرضت عبدي فلم يعطني ... » : 4/ 569 «يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين ... » : 5/ 350 «يقول الله تعالى إنّ كلّ مال منحته عبادي فهو لهم حلال ... » : 6/ 281 «يقول الله تعالى إني مبتليك ومبتل بك ... » : 3/ 76 «يقول الله تعالى يا ابن آدم تفرّغ لعبادتي ... » : 3/ 223 «يقول الله تعالى يا آدم فيقول لبيك وسعديك والخير ... » : 6/ 10 «يقول الله تعالى يا محمد أدخل من لا حساب عليه ... » : 4/ 349 «يقول الله عزّ وجلّ أنا عند ظنّ عبدي بي وأنا معه حين يذكرني ... » : 2/ 566. 7/ 395 «يقول الله عزّ وجلّ الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ... » : 4/ 571 «يقول الله عزّ وجلّ من أهان لي وليّا فقد ... » : 4/ 467 «يقول الله يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضرّي فتضروني ... » : 8/ 256 «يقول الله يوم القيامة أنا خير شريك ... » : 5/ 114 «يكون خلف بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة ... » : 3/ 167 «يلقى على أهل النار الجوع ... » : 1/ 420 «يمين الرحمن ملأى سحّاء لا يغيضها الليل والنهار ... » : 9/ 177 «ينادي مناد إنّ لكم أن تحيوا فلا تموتوا ... » : 4/ 524

«ينادي مناد إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا ... » : 2/ 397 «ينادي مناد من أهل الجنة إنّ لكم أن تصحوا ... » : 4/ 50 «ينزل الله جل ثناؤه ليلة النصف من شعبان ... » : 4/ 536 «اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالّون ... » : 1/ 304 «يؤتون من نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يؤتى نوره ... » : 9/ 316 «يؤتى بالأكول الشروب الطويل فيوزن فلا يزن ... » : 5/ 110 «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقي في النار ... » : 2/ 473 «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ... » : 6/ 381 «يوشك أن يأتي يوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم ... » : 9/ 302 «يوم الأحزاب شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة ... » : 6/ 450 «يوم عرفة يوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام ... » : 6/ 360 «يؤمّ القوم أقرأهم لكتاب الله فإن كانوا ... » : 1/ 336، 337 «يوم يقوم الناس لربّ العالمين حتى يغيب أحدهم ... » : 5/ 509

2 - فهرس الفقه

2- فهرس الفقه - أ- آخذ الصدقة: 9/ 469، 470. آداب الأكل: 2/ 265. آداب السلام: 4/ 533. آداب الشرب: 2/ 265. آداب الصلاة: 5/ 302. آل البيت: 3/ 327. 7/ 380. آنية الذهب: 5/ 198. آنية الفضة: 5/ 198. آنية المجوس: 9/ 40. إباحة الصيد: 8/ 10، 21. ابن السبيل: 3/ 373، 5/ 452، 7/ 63. 8/ 116. 9/ 457، 476. إتيان البهيمة: 8/ 362. إتيان بيت المقدس: 3/ 357. إتيان الزوجات: 5/ 308. إتيان المستحاضة: 6/ 401. إتيان النساء: 6/ 396. إتيان النساء من أدبارهن: 8/ 361. الإجارة: 8/ 150. اجتماع العيد والجمعة: 7/ 341. الأذان: 7/ 341، 342، 343، 344. الاجتهاد: 8/ 234. 9/ 30. أجزاء الصلاة: 1/ 332. الإجلاء: 9/ 399. الإجماع: 8/ 238. الأجير: 3/ 310. الإحرام: 3/ 332. 8/ 579. 9/ 10، 15، 16. الإحرام والجماع والزواج: 6/ 348. الإحرام والصيد: 6/ 348. الإحرام وحلق الشعر: 6/ 348. الإحسان: 1/ 467، 3/ 373. الإحصار: 6/ 338، 345. أحكام الصوم: 6/ 301، 302، 303، 304، 305، 306، 307، 308، 309، 313، 318. إحياء ليلة القدر: 2/ 135. أخذ الشمال باليمين: 1/ 333. إخفاء الصدقة: 2/ 311. الإخلاف: 3/ 382، 394.

أداء الأذان: 1/ 336. أداء الأمانة: 5/ 304، 8/ 146، 149. أداء الزكاة: 9/ 421، 422. أداء الصلاة: 1/ 331. أداء الصلاة في أوقاتها: 8/ 224. أداء ما يدرك مع الإمام: 1/ 337. الادخار: 9/ 426. إدراك الصلاة: 1/ 333. الأذان: 3/ 421. 9/ 114، 158، 344، 581. أذان الصلاة: 7/ 334. أذان صلاة الجماعة: 1/ 336. الإذن: 8/ 396، 397. إذن البكر: 6/ 447. أذية الجيران (الجار) : 5/ 308، 443. الإرث: 6/ 295. 7/ 103. 8/ 253. إرث الأنثى: 8/ 33. إرث الجد والجدة: 8/ 39. إرث الذكر: 8/ 33. إرث الرجل: 8/ 33. إرث الكلالة: 8/ 294، 295، 296. إرث المرأة: 8/ 33. إرث الوالدين: 8/ 33. الأرض مسجد: 2/ 176. الإرضاع: 4/ 244. الأرقاء: 8/ 116. الأزلام: 9/ 219، 227. إسباغ الوضوء: 2/ 341. الاستبراء من البول: 4/ 375. 6/ 394، 427، 441. الاستتار من البول: 4/ 377. استثقال القيام للصلاة: 9/ 453. الاستحاضة: 6/ 400. 8/ 338. الاستحداد: 8/ 246. الاستحلال: 2/ 328. استحلال البيت الحرام: 2/ 108، 109. الاستخارة: 1/ 338. 9/ 35. استرداد المهر: 8/ 58. الاسترقاق: 8/ 307، 308، 309. الاستسقاء: 9/ 112، 113. الاستعاذة بالله: 2/ 60. الاستعفاف: 8/ 415، 416، 417. الاستعلاء: 9/ 427. الاستغفار: 1/ 435. 8/ 233، 9/ 543. استفراش الإماء: 9/ 55. الاستقسام بالأزلام: 9/ 23. استلام الحجر: 6/ 271. الاستماع لقراءة القرآن: 2/ 561. الاستماع للإمام: 2/ 561. الاستمناء: 5/ 308. الاستنجاء: 5/ 25. 9/ 536. الاستنشاق: 6/ 238. استئذان الزوج: 5/ 442. الاستئذان في الدخول: 8/ 442. استئذان النساء لصلاة الجماعة: 2/ 381. الاستئناس: 8/ 393.

الإسراف: 9/ 427. الأسرى: 8/ 301، 302، 303، 304، 305، 307، 308. الإشراك بالله: 2/ 108، 109. الأشهر الحرم: 3/ 330. 6/ 337. 9/ 236، 344، 353، 429، 430، 431، 432، 433، 435، 436. الإصلاح بين الناس: 8/ 236. أصواف الأنعام: 5/ 160، 161. الأضحية: 6/ 48. الاضطرار: 5/ 195، 198. 6/ 279. 9/ 23. إطعام اليتيم: 1/ 543. اعتزال المسجد: 2/ 380. الاعتكاف في المساجد في رمضان: 6/ 313، 314، 316. الأعجمي: 3/ 265. الأعضب: 6/ 48. الأعنة: 9/ 378. اغتسال الجنابة: 8/ 126، 127، 128. الاغتسال يوم الجمعة: 6/ 239. 7/ 338. الإفاضة: 8/ 400. الإفاضة من عرفات: 6/ 242. الإفاضة من المزدلفة: 6/ 242. افتتاح الصلاة بالتكبير: 1/ 333. افتراض الصلاة: 1/ 328، 330. إفشاء السلام: 4/ 532. أفضل الجهاد: 2/ 474، 3/ 196. أفضل الدعاء: 3/ 295. أفضل الذكر: 3/ 295. أفضل الصلاة: 2/ 382. أفضل الصلاة بعد الفريضة: 1/ 338. أفضل الصيام بعد رمضان: 1/ 338. الإفك: 8/ 380، 384، 386. الإقامة: 7/ 343، 344. 9/ 581. إقامة الصفوف في الصلاة: 3/ 270. إقامة الصلاة: 7/ 295. 8/ 170. الأقربون: 8/ 28. أقسام الأيمان: 9/ 216. الاكتناز: 9/ 422، 423. الإكراه: 5/ 190. 8/ 362. أكل البصل: 2/ 380. أكل الربا: 1/ 542، 2/ 108، 109. أكل مال اليتيم: 1/ 542. 2/ 108، 109. الأكل من ثمار الغير: 5/ 500. الالتفات في الصلاة: 1/ 335، 336، 5/ 302. إلغاء التبني: 8/ 468. أمّ الأعمى للمصلين: 1/ 337. أمّ الصلاة: 1/ 329. الأماكن المنهي عن الصلاة فيها: 1/ 345. الإمام: 3/ 99، 100. إمام الصلاة: 1/ 336، 337. الأمان: 9/ 408. الأمانة: 5/ 304، 305، 306.

- ب -

الأمر بالمعروف: 2/ 470، 3/ 550. الإمساك بمعروف: 8/ 337، 358. الأموال المحجرة: 9/ 378. الأنصاب: 9/ 219. الإنفاق: 9/ 302. الإهانة: 9/ 405. أهل البيت: (انظر آل البيت) . أهل الذمة: 7/ 221. أهل الكتاب: 1/ 470. 3/ 326. 5/ 489. أوقية الفضة: 8/ 59. أولو الإربة: 8/ 403، 445. أيام التشريق: 6/ 39، 320، 359، 360. 9/ 348، 574. إيتاء الزكاة: 8/ 170، 186. الإيلاء: 6/ 407، 408، 409، 410، 411. الإيمان: 1/ 467. الإيمان بالإسلام: 2/ 468. الأيمان اللغو: 9/ 213. - ب- الباءة: 8/ 77، 413. الباع: 8/ 225. الباقي من نهش السبع: 9/ 23. البحيرة: 4/ 165. 8/ 244. 9/ 243. البدن (البدنة) : 6/ 50، 51، 345. برّ الأرحام: 3/ 381. البرّ والإقساط: 9/ 273، 279. برّ الوالدين والأقارب: 9/ 382. البرد: 8/ 226. البريد: 6/ 308. البزاق: 2/ 379، 8/ 426. البسملة: 1/ 288، 289، 290. البشارة: 9/ 552. البطر: 3/ 345. البعير: 2/ 38. البغاء: 8/ 415، 416، 417. البغض: 8/ 121. البغي: 9/ 427. البكاء: 9/ 293. البكر: 8/ 354، 358. بناء المسجد: 2/ 378. البهت: 8/ 518. بيت المقدس: 2/ 84، 176، 383، 382، 383، 3/ 353. البيع: 8/ 96، 97، 121، 509. بيع الخمر: 4/ 180. بيع العينة: 2/ 328. بيع النسيئة: 2/ 328. البيعة: 8/ 266، 9/ 289، 290. البينة: 7/ 175، 8/ 355، 375. - ت- التارك للجماعة: 8/ 354. التأمين: 1/ 308.

التبدّن: 1/ 338. التبذير: 3/ 379، 9/ 427. التبرّج: 7/ 376. التبرز: 8/ 130. التبني: 7/ 348، 349، 350، 351، 352، 355. التبول: 8/ 130. التجسس: 8/ 514. التجسس على الأعداء: 8/ 519. التجسس للأعداء: 8/ 519. التجوّز في الصلاة: 1/ 337. تحري ليلة القدر: 2/ 132، 133. تحريم الحيل: 2/ 328. تحريم الرهان: 5/ 430. تحريم الصيد: 9/ 236. تحريم الظلم: 2/ 239. التحلّل: 2/ 154. التحلل من الإحرام: 8/ 580، 581، 612، 9/ 10، 20. التحميم: 9/ 127. التحية: 8/ 189، 192، 479. تحية دخول البيوت: 8/ 451. التخافت في الصلاة: 3/ 439. التخالل السرّي: 8/ 18. التخنّث: 8/ 244. ترتيل القرآن: 1/ 410. ترك الصلاة: 1/ 342، 2/ 108. 9/ 356. التركة: 8/ 296. تركة الورثة: 8/ 34. التسبيح: 2/ 251، 5/ 372، 436. 6/ 452، 8/ 429، 545. تسبيح الله: 3/ 217. تسبيح الركوع: 1/ 332، 334، 513. تسبيح السجود: 1/ 332، 334، 513. التستر والاحتشام: 2/ 391. التسليم: 1/ 332. 2/ 352. 8/ 393. التشهّد: 1/ 334. تصدّق الأحياء عن الأموات: 2/ 113. التطوع: 9/ 468. التطيب: 8/ 245. تعدد الزوجات: 8/ 13، 14، 15، 253. التعرّي: 5/ 421. التعزير: 8/ 50، 359. 9/ 127، 223. التعفف عن الزنا: 8/ 401. التعوذ: 2/ 49، 50. التغريب: (انظر النفي) . التغوط: 6/ 261. التفسّح: 8/ 482، 483. التفقه في الدين: 9/ 560، 561. تفليج الأسنان: 8/ 244. تقاضي النصارى واليهود: 9/ 144، 145، 146. تقاليد الحج: 9/ 236. تقليم الأظافر: 6/ 238. 8/ 245. التقية: 4/ 368. 7/ 143.

- ث -

التكبير: 2/ 234. 6/ 452. التكبير في الصلاة: 1/ 333. التكبير في صلاة الفطر والأضحى: 1/ 338. التكحل: 8/ 245. التكلم في الصلاة: 1/ 339. 6/ 452. التلبية: 6/ 45، 348. 9/ 405. تلقاء وجه المصلي: 1/ 339. التمشط: 8/ 245. التميمة: 4/ 30. التنابز بالألقاب: 8/ 512. تناشد الأشعار في المسجد: 2/ 380. التنجيم: 9/ 35. تنظيف المساجد: 8/ 425، 426. التوارث: 7/ 354، 356. التوبة: 2/ 151، 154، 156، 157. 3/ 99، 100. 8/ 208، 233. 9/ 498، 500، 528، 560. توبة المحارب: 9/ 106. توبة المرتدّ: 8/ 265. التوبة النصوح: 8/ 536. توقيت الصلاة: 3/ 418، 544، 552. التولّي: 9/ 273، 279. تولّي الله والرسول والمؤمنين: 9/ 159. تولّي اليهود والنصارى: 9/ 156. التولّي يوم الزحف: 3/ 436. 6/ 212. التيمم: 8/ 124، 131، 132، 133، 134، 135. 9/ 55. - ث- ثلاث: 3/ 107. 8/ 12. ثمار الأعناب: 5/ 310. ثمار الرمان: 5/ 310. ثمار النخيل: 5/ 310. ثمار النخيل والأعناب: 5/ 152، 154. ثياب الصلاة: 2/ 386. ثياب صلاة المرأة: 2/ 387. الثيب: 8/ 354. - ج- الجار: 8/ 116، 118. الجاسوس: 9/ 407. جباية الزكاة: 9/ 468. الجبت: 9/ 35. الجدال: 5/ 485. الجدع: 6/ 290. الجراد: 4/ 174. الجريح: 8/ 308. الجزية: 2/ 39، 5/ 488، 494. 6/ 24، 26، 335، 471، 472، 7/ 82، 105، 110، 111. 8/ 438، 567. 9/ 49، 277، 397، 398، 399، 400، 401، 404، 405، 406، 408، 409، 410، 411، 412، 413، 414، 415، 441. الجلاء: 9/ 274.

- ح -

الجلباب: 7/ 419، 8/ 381. الجلد: 8/ 354، 358، 359، 9/ 127. جلد البكر ونفيها سنة: 8/ 50. جلد الثيب ورجمها: 8/ 50. جلود الأنعام: 5/ 160. الجلوس في المساجد: 2/ 341. الجماع: 6/ 428. الجماع في يوم رمضان: 6/ 319. الجمع بين صلاتين: 1/ 331. الجنابة: 8/ 122، 125. الجنف في الوصية: 6/ 298. الجنين: 2/ 291. الجهاد: 3/ 277، 550. 4/ 367. 6/ 378، 379، 381، 461، 462. 7/ 100، 377. 8/ 165، 169، 170، 171، 172، 173، 183، 184، 186، 195، 209، 213، 302، 326، 437، 526، 571. 9/ 104، 111، 181، 375، 377، 401، 560. الجهاد بالمال: 8/ 212. الجهاد بالمال والنفس: 9/ 436، 448. الجهاد بالنفس: 8/ 212. الجهاد الحربي: 9/ 475. الجهر في الصلاة: 3/ 439. جوارح الصيد: 9/ 37. - ح- الحالقة: 9/ 293. الحامي: 4/ 165. 9/ 243. الحبس في البيت: 8/ 49. الحبل: 8/ 356، 363. الحجّ: 2/ 385. 6/ 34، 268، 338، 339، 340، 341، 342، 343، 344، 345، 346، 347، 348، 349، 350، 351، 352، 353، 354، 355، 356، 357، 358، 359، 360، 361. 7/ 194. 8/ 400، 466. 9/ 348، 578، 579، 583. الحج الأصغر: (انظر العمرة) . الحجاب: 8/ 381. الحجابة: 9/ 377. الحجامة أثناء الصوم: 6/ 319. الحجب: 8/ 41. حجب حرمان: 8/ 41. حجب نقصان: 8/ 41. الحجر الأسود: 2/ 172، 173. 3/ 410. الحدّ: 8/ 362، 364، 375. حدّ الأمة: 8/ 84، 91، 358، 365. حدّ الزنا: 8/ 353، 354، 358، 367. حدّ السرقة: 9/ 116، 117، 118، 119، 120، 121، 122، 123، 124.

حدّ القذف: 8/ 368، 370، 371، 385. حدّ المرض والسفر في رمضان: 6/ 308. الحداد: 8/ 245. الحرابة: 9/ 104. الحرام: 5/ 198، 9/ 337. حرام الأنعام: 9/ 23. حرام الأنكحة: 8/ 61، 63، 64، 65، 66، 67، 68، 69، 70، 71، 72. حرام الذبائح: 6/ 279. حرام الطعام: 5/ 195. 8/ 452. الحرام على المسلم: 3/ 74. حرج الأعرج في الطعام: 8/ 447. حرج الأعمى في الطعام: 8/ 447. حرج المريض في الطعام: 8/ 447. حرج المسلم في الطعام: 8/ 447. الحرم: 6/ 258. حرم الجحفة: 3/ 332. حرم ذي الحليفة: 3/ 332. حرم قرن المنازل: 3/ 332. حرم مكة: 3/ 305، 330. حرم يلملم: 3/ 332. حرمة الأشهر الحرم: (انظر حرمة الشهر الحرام) . حرمة بيت الله: 2/ 179. حرمة الرضاع: 8/ 68، 69، 70، 71. حرمة الشهر الحرام: 6/ 325، 326، 327، 328، 330، 331. 9/ 337، 342. حرمة مكة: 2/ 180، 9/ 307، 312. حرمة منطقة المسجد الحرام: 6/ 325، 326، 327، 328. الحرير: 5/ 198. الحسد: 2/ 47، 3/ 74، 211. 8/ 121، 509. الحسنة: 3/ 551. حظر الاستغفار للمشركين: 9/ 338. حظر تولّي الآباء والأقارب الكفار: 9/ 337. حظر تولّي المشركين: 9/ 294. حظر تولية الآباء الكفار: 9/ 379. حظر دخول المشركين البيت: 9/ 337. حقنة الشرج والصوم: 6/ 319. حقنة العضل والوريد والصوم: 6/ 319. حقوق المرأة: 5/ 442. الحكم: 8/ 112. حلّ الاضطرار: 4/ 143، 148، 170. حلّ الأكل: 4/ 142. حلّ دم المسلم: 1/ 344. حلّ الصيد: 9/ 10، 17. حلّ لحوم الأنعام: 9/ 10. الحلّ من الإحرام: 6/ 359. الحلال: 5/ 198. حلال الأنكحة: 8/ 61، 63، 64، 65، 66، 67، 68، 69، 70، 71، 72.

- خ -

حلال الأنعام: 9/ 23. حلال الطعام: 5/ 195، 8/ 452. حلف اليمين: 4/ 29. 5/ 63. 6/ 406. 8/ 145. حلق الشعر: 8/ 580، 581. حلق العانة: 6/ 238. حلق اللحية: 8/ 246. الحمار الأهلي: 5/ 122، 139. الحمّام: 1/ 345. الحنّاء: 8/ 246. الحوائط: 5/ 281. الحوت: 4/ 174. الحول: 2/ 133. الحيض: 6/ 395، 397. الحيض والنفاس في رمضان: 6/ 318، 319. - خ- الخادم: 2/ 263، 8/ 119. الخائن: 8/ 228. خبز البرّ: 5/ 19. خبز الشعير: 5/ 19. الختان: 6/ 238. الخدم: 8/ 445. الخراج: 7/ 111. 9/ 49، 405. الخرقاء: 6/ 48. الخشوع في الصلاة: 5/ 302. الخصي: 8/ 241، 242، 244، 245. خضاب اللحية: 8/ 246. الخطأ غير العمد: 9/ 142. الخلاف: 3/ 198. الخلع: 6/ 423. الخمار: 8/ 403، 406. الخمر: 2/ 86، 108، 156. 5/ 308. 8/ 125. 9/ 219. الخنزير: 4/ 180. - د- دخول المسجد: 9/ 393، 394. الدرهم: 3/ 123. الدعاء: 2/ 411. 6/ 317. الدعوة إلى الضلالة: 2/ 115. الدعوة إلى الهدى: 2/ 115. دفن النخاعة: 2/ 379. الدم: 4/ 170. 6/ 279. 8/ 204، 338. 9/ 23. الدواء: 5/ 156. الدية: 6/ 287، 290، 291، 292، 293. 8/ 101، 160، 200، 203. 9/ 127، 138، 378. دية الجراحات: 9/ 140. الدّين: 6/ 506، 507. دين الميت: 8/ 34. الدينار: 3/ 123، 211.

- ذ -

- ذ- ذبائح أهل الكتاب: 9/ 47، 48. الذبح: 4/ 170. 5/ 169. 9/ 33. الذبح باسم غير الله: 9/ 23. الذبح عند الأوثان: 9/ 23. ذبح القرابين: 6/ 242. الذكاة: 9/ 15، 23، 33. الذمة (أهل) : 5/ 488. 6/ 26. الذمي: 8/ 200، 378. 9/ 394، 406. الذهب: 5/ 198. ذو الرحم: 8/ 116، 118، 119. ذو القربى: 3/ 373، 385. 5/ 167، 452. 7/ 57، 58، 59، 60، 61، 62. 8/ 390. ذو المخلب: 4/ 174. ذو الناب: 4/ 174، 5/ 123. - ر- الربا: 3/ 436. 5/ 453. 6/ 212، 490، 491، 492، 493، 494، 495. 7/ 105، 110، 112، 230. ربا التفاضل: 6/ 494. ربا النسيئة: 6/ 494. رباع: 3/ 107. 8/ 12. الرجم: 7/ 193. 8/ 353، 354، 355، 357، 358، 359. 9/ 76، 127، 580. الرحم: 5/ 180. رخصة القيام: 8/ 484، 485. ردّ التسليم: 2/ 352. الردة: 8/ 187، 520. 9/ 158، 402. الرشوة: 9/ 131. رضا الوالد: 3/ 381. الرضاع: 8/ 333، 340، 341، 342. رعاف الدم: 8/ 131. رعاية الإمام: 2/ 310. رعاية الرجل: 2/ 310. رعاية المرأة: 2/ 310. الرفادة: 9/ 378. الرفث إلى النساء: 6/ 311، 312، 317، 318. رفع الصوت بالدعاء: 2/ 409. الرفق: 3/ 394. الرقّ: 8/ 302، 305، 307، 309. الرقاب: 9/ 457، 474. الرقيق: 2/ 263. 8/ 378. الركاز: 7/ 110. ركعتا دخول المسجد: 2/ 379. الرمل: 9/ 35. رمي الجمار في منى: 6/ 246. 8/ 400. الرهبانية: 9/ 208، 330. الرهن: 4/ 58. 6/ 508، 511. الرؤيا: 4/ 12. رؤية الهلال: 6/ 309، 310. الرياء: 2/ 23. 9/ 457.

- ز -

- ز- الزاني: 8/ 353، 359، 365، 366، 367. الزانية: 8/ 353، 365، 366، 367. الزكاة: 1/ 425، 431. 2/ 460. 3/ 282. 5/ 303، 8/ 438، 466، 9/ 158. زكاة الإبل: 9/ 478. زكاة الأجور: 9/ 483. زكاة أسهم الشركات المساهمة: 9/ 482. زكاة الأشجار والزروع: 4/ 168. زكاة البراذين: 9/ 481. زكاة البقر: 9/ 478. زكاة الثمار: 5/ 311. 9/ 481. زكاة الحبوب: 9/ 481. زكاة الحمير: 9/ 480. زكاة الخيل: 9/ 481. زكاة الذهب والفضة: 5/ 395. 9/ 478. زكاة العروض: 9/ 465. زكاة العمارات المعدة للإيجار: 9/ 483. زكاة غلة الأرض: 9/ 465. زكاة الغنم: 9/ 478. زكاة الفطر: 6/ 302، 303. زكاة الماشية: 9/ 465. زكاة المال المدين: 9/ 480. زكاة المصانع: 9/ 482. زكاة النقد: 9/ 465. زكاة الوسق: 9/ 480. الزنا: 2/ 108، 156. 3/ 100، 374، 381، 436. 5/ 177، 308. 7/ 193. زواج الأيم: 8/ 75. زواج البكر: 8/ 75، 76. زواج التحليل: 6/ 429. زواج الثيب: 8/ 75، 76. زواج الذميات: 9/ 53. زواج الشغار: 8/ 21، 74. زواج العبد: 8/ 92. زواج المحصنات من أهل الكتاب: 9/ 42، 53. زواج المحصنات المؤمنات: 9/ 42. الزوجة المتوفى عنها زوجها: 6/ 439، 440، 441، 442، 443، 444. الزوجة المتوفية: 6/ 426. الزيارة الرجبية: 6/ 337. 9/ 436. زيارة القبور: 5/ 155. 9/ 543. الزينة: 5/ 19. - س- الساحر: 6/ 212. الساعي على المسكين: 1/ 479. السائبة: 4/ 165. 9/ 243. السائل: 1/ 549. السبّة: 1/ 370. 8/ 518. السبي: 8/ 306، 307، 499، 603.

- ش -

الستر: 2/ 24. 5/ 421. سجدتا السهو: 1/ 335. السجود: 1/ 332. سجود التلاوة: 1/ 350. 6/ 8. سجود السهو: 1/ 515. 4/ 112. السحت: 9/ 131. السحر: 1/ 542. 2/ 53، 108، 109، 144. 3/ 198، 245، 314، 448، 505، 6/ 212، 213. 9/ 35. السخرية: 8/ 512. سخط الوالد: 3/ 381. سدانة البيت: 9/ 307، 378. السرقة: 2/ 108، 156. 3/ 436. السعي: 8/ 400. 9/ 579. السعي بين الصفا والمروة: 6/ 239، 242، 271. السفاح: 8/ 18، 360. السفارة: 9/ 378. سفور المرأة: 8/ 402، 403، 404، 405. السفيه: 8/ 22، 24. سقاية الحاج: 9/ 307، 374، 375، 378. السكر: 8/ 122، 125. سكنى المطلقة: 8/ 333، 336، 342، 343. السلام: 4/ 533، 8/ 190، 191، 192، 510. السلب: 8/ 520. السلم: 9/ 415. سن الرشد: 8/ 27. سنّ اليأس: 8/ 338. السواك: 6/ 238، 9/ 62، 65. السياحة: 9/ 537. - ش- الشاة: 2/ 38. الشاقة: 9/ 293. الشاهد (الشهود) : 6/ 506، 8/ 353، 371، 372، 504. شاهدا الوصية: 9/ 250. الشجر المثمر: 2/ 38. الشحّ: 8/ 550. شحوم الميتة: 4/ 180. شدّ الرحال: 2/ 382، 3/ 356. الشراب المسكر: 5/ 155. الشرقاء: 6/ 48. الشرك بالله: 1/ 542، 3/ 100. الشّعر: 3/ 43. شعر الإبط: 8/ 245. شعر الرأس: 8/ 245. الشعراء: 3/ 276. الشعرة (وزن) : 8/ 488. الشفاعة: 8/ 188، 9/ 113، 114. شفاعة الكافر: 8/ 266. الشفع: 1/ 532. الشكّ في الصلاة: 1/ 335.

- ص -

الشكر: 5/ 452. الشهادة: 5/ 400، 8/ 258، 334. شهادة التابع: 8/ 373. شهادة الخائن: 8/ 373. شهادة الخائن والخائنة: 6/ 513، 8/ 53. شهادة الخائنة: 8/ 373. شهادة ذي الغمر: 6/ 513، 8/ 53، 373. شهادة الزاني: 8/ 373. شهادة الزاني والزانية: 6/ 513، 8/ 53. شهادة الزانية: 8/ 373. شهادة الزوج: 8/ 374، 375. شهادة الزور: 2/ 108، 109، 3/ 99، 100، 5/ 401. شهادة الفاسق: 6/ 513. شهادة قاذف المحصنات: 6/ 513. شهادة القانع لأهل البيت: 6/ 513، 8/ 53. الشهود: (انظر الشاهد) . شهود الخطيئة: 2/ 474. شهود الزنا أربعة: 8/ 51. الشهيد: 3/ 341. الشورى: 7/ 256، 257، 258. الشيب: 3/ 142. الشيخ الفاني والقتال: 6/ 335. - ص- صاحب المسألة: 9/ 469. الصاع: 9/ 233. الصالقة: 9/ 293. الصبر: 5/ 452. الصبي: 2/ 38. صحة الصلاة: 1/ 342. الصداق (مهر الزوجة) : 2/ 25. 3/ 310. 6/ 412، 444. 7/ 405. 8/ 21، 65، 73، 74، 76، 253، 339، 362، 414، 603. الصدقة: 1/ 431. 3/ 550. 5/ 415، 6/ 286، 390، 455، 483، 489. 7/ 189، 325. 8/ 40، 46. 9/ 413، 464، 466، 528، 553. صدقة البلد: 9/ 477. الصدقة الجارية: 2/ 115، 5/ 149. صدقة الحائف: 6/ 298. صدقة المناجاة: 8/ 487، 488، 489. الصفا: 2/ 454، 496، 3/ 271، 400. الصفع: 9/ 405. الصلاة: 8/ 122، 204، 9/ 55. صلاة الاستسقاء: 1/ 338، 2/ 69. صلاة الأضحى: 1/ 338. صلاة التراويح: 6/ 319. صلاة التطوع: 1/ 335. صلاة الجماعة: 1/ 336، 7/ 378. صلاة الجمعة: 1/ 338. 7/ 339، 340. صلاة الخوف: 8/ 221، 224. صلاة السفر: 1/ 338.

- ض -

الصلاة الشفع: 1/ 532. صلاة الصبح: 1/ 328، 329. صلاة الصبي: 1/ 333. صلاة الظهر: 1/ 328، 329. 6/ 450. صلاة العشاء: 1/ 328، 329. 6/ 450. صلاة العصر: 1/ 328، 329، 6/ 450، 451، 8/ 501. الصلاة على محمد وآل محمد: 1/ 332. الصلاة على النبي: 7/ 414. صلاة العيد: 2/ 14. صلاة العيدين: 6/ 320. صلاة الفجر: 1/ 329، 3/ 418، 6/ 450. صلاة الفطر: 1/ 338. الصلاة في الرحال: 1/ 336. الصلاة في المسجد الحرام: 2/ 177. صلاة الكسوف: 2/ 94، 95. صلاة الليل: 1/ 335، 338، 3/ 418. صلاة المريض: 1/ 333. صلاة المغرب: 1/ 328، 329، 6/ 450. الصلاة المكتوبة: 1/ 337، 3/ 178. 5/ 395. صلاة النافلة: 8/ 134. الصلاة الوتر: 1/ 532. الصلاة الوسطى: 6/ 450، 451. الصلح: 8/ 251، 253، 254، 327، 505، 507، 9/ 399، 414، 415. صلة الرحم: 5/ 534. الصواع: 4/ 22. الصوم التطوعي: 8/ 399. الصوم عن المتوفى: 2/ 114. صوم النذر عن المتوفى: 2/ 114. صيام التطوع: 6/ 320. صيام يوم الشك: 6/ 320. صيد البحر في الإحرام: 9/ 230. صيد البرّ في الإحرام: 9/ 230. - ض- الضبّ: 4/ 174. الضراط: 8/ 131. الضرب غير المبرح: 8/ 108، 109. ضرب الوالدين: 5/ 308. الضريبة: 9/ 398. - ط- الطاعة: 8/ 412. طاعة الزوجة: 5/ 443. طاعة الصلاة: 1/ 342. طاعة المخلوق: 2/ 310. طاعة الوالدين: 5/ 469. الطحال: 4/ 174. الطرق: 9/ 35. الطريق: 2/ 379. طعام أهل الكتاب غير المحرّم إسلاميا: 9/ 42، 46. الطفل والقتال: 6/ 335.

- ظ -

الطلاق: 6/ 413، 418. 8/ 253، 333، 334، 337، 343. الطلاق الباتّ: 8/ 335، 342. الطلاق البائن: 6/ 414. الطلاق الرجعي: 6/ 414. 8/ 335، 342. طلاق الزوجة قبل الدخول بها: 6/ 445، 446، 447، 448، 449. طهارة الثياب: 1/ 444. الطهر: 6/ 397. الطهور: 9/ 536. الطواف: 2/ 385، 4/ 109، 8/ 400، 613، 9/ 345، 346، 578. الطواف بين الصفا والمروة: 6/ 268، 271. الطواف حول الكعبة: 6/ 239، 242، 271. طواف العمرة: 6/ 349. الطيبات: 9/ 41، 42. الطيرة: 9/ 355. الطين: 3/ 405. - ظ- الظلّ: 3/ 87. الظلم: 2/ 110. 3/ 75. الظن: 8/ 514، 516. الظهار: 7/ 348، 350، 351. 8/ 468، 469، 470، 471، 472، 473. - ع- العارية: 7/ 111. العامر: 2/ 38. العاملون على الصدقات: 9/ 457. العانة: 8/ 245. عاهة الزوجة: 8/ 77. العبث باللحية في الصلاة: 5/ 302. عتق رقبة مؤمنة: 2/ 261، 262. 8/ 203، 210. عدد الصلوات: 1/ 342. العدة: 6/ 394، 413، 419، 7/ 397، 8/ 333، 334، 337، 339، 340، 343. عدة الإحداد: 6/ 41. عدة الأرملة الحامل: 6/ 442. عدة الشهور: 9/ 429. العرّافة: 5/ 368، 6/ 214. 9/ 35. العرجاء: 6/ 48. عرض المسلم: 1/ 370. عروبة القرآن: 3/ 266. عسل النحل: 5/ 152، 156. عصبة المتوفى: 8/ 41. عصبة اليتيم: 8/ 26. العصبية: 3/ 74. العصر: 1/ 561. العطس: 2/ 352. العفو: 2/ 555، 8/ 372.

- غ -

العفو عن القاتل: 6/ 287. العفو في الجروح: 9/ 139. العقاب: 5/ 203. عقاب القتل: 5/ 190. العقد: 8/ 339، 9/ 10، 14، 23. عقوبة القتل: 9/ 107. عقوق الوالدين: 2/ 108، 109. عمارة المساجد: 9/ 374، 375. عمر الإعذار: 3/ 128. العمرة: 6/ 35، 268، 339، 340، 341، 342، 343، 344، 345، 346، 347، 348، 349. 8/ 306. 9/ 271، 348، 436، 578، 579، 583. عمرة القضاء: 6/ 346. 8/ 614. العمودان اليمانيان: 2/ 173. العهد: 9/ 349. العوراء: 6/ 48. عورة الرجل: 8/ 401. عورة المرأة: 8/ 402. العيافة: 9/ 35. عيد الأضحى: 6/ 320، 359، 360، 359، 360، 8/ 498. عيد الفطر: 2/ 12، 6/ 320، 359، 360. عيد النحر: (انظر عيد الأضحى) . - غ- الغارمون: 9/ 457، 475. الغدر: 3/ 382. الغرغرة: 2/ 157. الغرور: 3/ 379. الغريب: 8/ 116. غسل أثر الغائط والبول: 6/ 239. غسل الأرجل: 9/ 61. غسل الجنابة: 9/ 55. الغشّ: 2/ 311. غضّ الأبصار: 8/ 400، 401، 403. الغلول: 2/ 108، 7/ 259، 260، 261. الغناء: 4/ 243. الغنيمة: 2/ 39، 6/ 335، 7/ 19، 49، 51، 53، 90. 8/ 438، 9/ 464. الغيبة: 1/ 370، 8/ 514، 518. غيبة الفاسق: 8/ 518. - ف- الفاسق: 1/ 344. الفجور: 3/ 382، 9/ 427. فداء الأسارى: 7/ 88، 92، 93، 94. 8/ 300، 301، 303، 304، 305، 307، 308، 309، 499. الفدية: 6/ 346. فدية النذر: 6/ 43.

- ق -

الفرسخ: 6/ 308، 8/ 225، 226. فرض الصلاة: 2/ 85. فرق الرأس: 6/ 238. الفساء: 8/ 131. الفساد: 2/ 110. الفسق: 9/ 427. الفقراء (الفقير) : 9/ 457، 469. فك الأسير: 9/ 375. فوق ظهر البيت الحرام: 1/ 345. الفيء: 2/ 39، 6/ 335، 7/ 54، 309، 8/ 306، 438، 488. 9/ 414، 464. - ق- قاتل ولده: 3/ 100. قارعة الطريق: 1/ 345. القاصرة: 8/ 76، 77. القاضي: 8/ 231، 232، 472، 504. القاعد: 8/ 212. القبلة: 6/ 229. القتال في سبيل الله: 8/ 556، 9/ 302، 356، 369، 370، 442، 501. قتال الكفار: 9/ 562. قتال المشركين: 9/ 337. القتل: 2/ 108، 109، 156، 3/ 99، 374، 436، 6/ 212، 287، 289، 290، 291، 8/ 305، 307، 308، 9/ 501، 541. القتل الخطأ: 8/ 202، 203، 204، 205، 210. قتل الرجل المسلم: 3/ 382. القتل العمد: 8/ 202، 203، 204، 205. القتل في سبيل الله: 9/ 453. قتل الولد: 3/ 382. القذف: 8/ 52. قذف المحصنات: 1/ 542، 2/ 109، 3/ 436، 6/ 212. قذف المشهورة بالزنا: 8/ 370. القرء: 8/ 339. قراءة القرآن: 1/ 551، 2/ 25، 45، 68، 69، 185، 513، 4/ 319، 5/ 177، 219. القراءة وراء الإمام: 2/ 561. القربة: 9/ 67. القرعة: 9/ 37. القرى: 4/ 174. القريب: 8/ 116، 118. القسّامة: 6/ 293. قسمة الغنائم: 9/ 385. قصّ الشارب: 6/ 238. القصاص: 6/ 286. قصاص الجروح: 9/ 131. قصر الصلاة: 8/ 221، 222، 223، 224، 225، 226. قصر الصلاة الرباعية: 8/ 226.

- ك -

القضاء: 8/ 146، 147، 148. قضاء رمضان: 6/ 309. قضاء الصلاة: 8/ 134. قضاء ما لا يدرك مع الإمام: 1/ 337. قطرة العين والصوم: 6/ 319. قطع الخلاف: 9/ 101. قطع الرحم: 3/ 381. القلائد: 9/ 236. القنطار: 7/ 126. القنوت في الصلاة: 1/ 333. 6/ 452. القنوط من رحمة الله: 2/ 108. قوامة الرجل: 8/ 104، 105، 106. 9/ 289. القود: 6/ 292، 9/ 127. قول البهتان: 2/ 108. القيء: 8/ 131. القيادة: 9/ 378. قيام الليل: 1/ 338. - ك- كافل اليتيم: 1/ 542. الكبد: 4/ 174. الكبير الهرم: 2/ 38. الكتاب: 3/ 280. كتاب الأمان: 9/ 441. الكذب: 2/ 110، 3/ 382. الكذب على الرسول: 5/ 141. كراهية الإنفاق: 9/ 453 كرائم الأموال: 9/ 477. الكسيرة: 6/ 48. كشف الفخذ: 2/ 386. الكفارة (الكفارات) : 1/ 342. 2/ 93. 3/ 550. كفارة العودة عن الظهار: 8/ 469، 472، 473، 474، 475، 476. كفارة النذر: 6/ 43. كفارة اليمين: 8/ 530، 9/ 211، 214، 215. الكلالة: 8/ 33، 36، 37، 40، 294، 297. الكنز: 9/ 420، 426. الكهانة: 4/ 30. 5/ 368. 6/ 214. 9/ 35. الكيّ: 8/ 241، 242. الكيل: 3/ 256، 374، 532. - ل- اللباس: 3/ 88. اللبن: 2/ 85. لبن الأنعام: 5/ 118. لحم البغل: 2/ 86. 4/ 174. 5/ 123. لحم الثعبان: 3/ 245. لحم الثعلب: 4/ 174. لحم الحمار: 2/ 86. 4/ 174. 5/ 123. 7/ 312. 8/ 81.

- م -

لحم الخنزير: 4/ 170. 6/ 279، 9/ 23. لحم الذئب: 4/ 174. لحم السبع: 4/ 174. 7/ 312. لحم القنفذ: 4/ 174. لحم الهرّ: 4/ 174. لحوم الإبل: 8/ 131. لحوم الأضاحي: 5/ 155. 6/ 39. لحوم الأنعام: 5/ 118، 119، 310. لحوم الخيل: 4/ 174. 5/ 123. اللعان: 8/ 37. لغة الصلاة: 3/ 261. لغة القرآن: 3/ 209. 4/ 426، 437، 488. 5/ 12. اللغو: 3/ 99، 100، 323. لقطة المعاهد: 5/ 123. اللمز: 8/ 512. 9/ 457. اللواء: 9/ 378. اللواط: 2/ 424. 3/ 293. 5/ 308، 479. 8/ 48، 361، 363. الليالي العشر: 1/ 531. ليلة القدر: 2/ 131، 132، 133. 4/ 536. - م- المارّ بين يدي المصلي: 1/ 339. المال: 1/ 536، 8/ 306، 9/ 405. مال اليتيم: 3/ 374. 6/ 212. المباشرة: 6/ 397. المبايعة: 9/ 59. المتردية: 9/ 23. المتعة: 7/ 397. متعة المطلقة: 6/ 455. المتفلجات: 8/ 244، 245، 246. المتنمصات: 8/ 244، 245، 246. مثقال حبة الخردل: 2/ 456. مثقال الذرة: 5/ 125. 8/ 249. المثلة: 5/ 204، 6/ 335، 9/ 103. مثنى: 3/ 107. 8/ 12. مجاهدة المنافقين: 9/ 497. المجزرة: 1/ 345. المجوس: 2/ 291، 9/ 253، 410. محارم المرأة: 8/ 402، 405. المحدود: 8/ 379. المحراب: 2/ 304. محرّمات الحجّ: 6/ 44. المحصنات: 8/ 368، 369. المحيض: 8/ 338. المخادنة: 9/ 54. المخاض: 3/ 145. المخنّث: 8/ 405. المدّ: 9/ 233. مدّ القراءة: 1/ 410. مدّ من برّ: 9/ 214. مدّ من تمر: 9/ 214. 2 لمدابرة: 6/ 48.

مدة الحمل والفصل: 5/ 14. المذي: 8/ 127، 131. المراء: 2/ 514. المراءاة: 2/ 22. المرابطة: 7/ 301. المراجعة: 6/ 415. 8/ 334، 339، 342. المرأة وصلاة الجماعة: 8/ 426. المرتد: 9/ 356. المريضة: 6/ 48. المزبلة: 1/ 345. مسّ الفرج: 8/ 131. مسّ القرآن: 3/ 237، 238. مساعدة الضعفاء: 3/ 550. المسافحة: 9/ 54. المساكين: 8/ 28، 31، 390. 9/ 457، 469. مستحقو الزكاة: 5/ 400. مستحقو الفيء: 7/ 314. المستوصلة: 8/ 245. المسجد: 8/ 426، 427، 428. المسجد الأقصى: 2/ 176، 382. 3/ 351، 353، 354. المسجد الحرام: 2/ 176، 382، 383. 3/ 351. مسجد الكعبة: 2/ 88. المسجد النبوي: 2/ 382، 383. المسح على الخفين: 9/ 66. المسكر: 5/ 155. المسكين: 1/ 478. 3/ 373. 5/ 452. 7/ 62، 63. 8/ 116. 9/ 469. المشّاء إلى المسجد: 2/ 379. مصارف الجزية: 9/ 413، 414. مصارف الزكاة: 9/ 457. مصارف الصدقات: 9/ 457. المصافحة: 9/ 294. المضمضة: 6/ 238. معاطن الإبل: 1/ 345. معاملة الزوجة: 8/ 337. المعاهد: 8/ 199، 200. المغالاة في المهر: 8/ 58. المغانم: 8/ 604. المفارق لدينه: 8/ 354. المفارقة بإحسان: 8/ 337. المقابلة: 6/ 48. المقبرة: 1/ 345. مقدار الزكاة: 5/ 399. المكاتبة: 8/ 307، 415، 417، 418، 419، 420. مكان السجود: 1/ 345. مكة: 2/ 163، 253. الملاعنة: 8/ 375، 376، 377، 378. الملاعنة والإرث: 8/ 38. ملامسة النساء: 8/ 130، 131. ملك اليمين: 5/ 307. 8/ 12، 14، 20،

- ن -

71، 72، 88. المماراة: 3/ 394. المملوك: 8/ 119، 363. المنّ: 8/ 300، 301، 304، 305، 307، 308. 9/ 286. المناجاة: 8/ 478. منازل القمر: 3/ 445. مناسك الحج: 9/ 12، 584. المنافقون (المنافق) : 8/ 325، 458، 460، 478، 480، 481، 491، 495، 511. 9/ 125، 338، 487، 491. المنخنقة: 9/ 23. منع الظلم: 3/ 371. منع فضول الماء: 2/ 108. المنكر: 2/ 400. منى: 2/ 273، 385. المهر: (انظر الصداق) . الموادعة: 8/ 328. مواطن الصلاة: 1/ 337، 338. مواطن الصلاة المنهي عنها: 8/ 426. مواقيت الصلاة: 5/ 436. الموالي: 8/ 332. الموتشمات: 8/ 244، 245. الموقف في المزدلفة: 6/ 358. الموقوذة: 9/ 23. المؤلفة قلوبهم: 9/ 457، 473. مياه الوضوء: 9/ 67. الميتة: 4/ 170، 180. 6/ 279. 9/ 23. الميزان: 3/ 256، 374، 532. 9/ 328. الميسر: 2/ 110. 9/ 219، 226. الميل: 8/ 225، 251. - ن- النافلة: 3/ 419. الناكح: 8/ 415. النامصات: 8/ 244. نتف الإبط: 6/ 239. نجاسة الخنزير: 9/ 393. نجاسة الكلب: 9/ 393. النجوى: 8/ 234. النحر: 2/ 14. نحر الهدي: 9/ 583. النخامة: 2/ 379. 8/ 426. النخل: 2/ 38. النذر: 6/ 40، 41، 107، 109، 111، 112، 406. 8/ 145. نزغ الشيطان: 3/ 392. النساء القواعد: 8/ 445. النساء والصبيان والقتال: 6/ 335. النسيء: 9/ 337، 429، 433، 434، 435، 584. نسيان الصلاة: 1/ 333. 3/ 193. النسيئة: 9/ 404. النشّ: 8/ 59. نشدان الضالّة في المسجد: 2/ 380.

- هـ -

النشوز: 8/ 107، 336. نشوز الزوج: 8/ 253. نصف صاع من برّ: 9/ 214. نصف صاع من تمر: 9/ 214. النطيحة: 9/ 23. النعلان والصلاة: 2/ 387. النفاق: 1/ 371، 2/ 110. 8/ 176، 177، 178، 179، 180، 193، 194، 195، 213، 259، 260، 261، 262، 263، 433، 434، 435، 436. 9/ 317. النفساء: 6/ 402. النفقة: 6/ 420، 443. 7/ 372. 8/ 341، 342، 343. نفقة الأم المرضعة: 6/ 435، 436، 437. النفي: 8/ 354، 355، 359. النقد: 9/ 404. النكاح: 5/ 194، 6/ 391، 392. 8/ 12، 79، 339. نكاح الأمة المؤمنة: 8/ 84، 85. نكاح الأيم (الأيامى) : 6/ 447. 8/ 413. نكاح البكر: 6/ 447. نكاح الثيب: 6/ 447. نكاح المتعة: 8/ 79، 80، 82، 83، 84. النوم: 8/ 131. النياحة: 8/ 514. 9/ 292، 293. نية الوضوء: 9/ 65. - هـ- الهارب: 8/ 308. الهجر: 8/ 510. الهجر في المضاجع: 8/ 108. الهجرة: 8/ 214، 215، 219، 220، 221، 437. 9/ 55، 375، 377، 389، 524، 585. الهدنة: 6/ 191. 9/ 278. الهدي: 6/ 339، 345، 346، 358. 8/ 579، 580، 581، 613. 9/ 10، 12، 236، 579، 580، 583، 584. الهدية: 9/ 464. الهلال: 6/ 306. هلال رمضان: 8/ 498. - والوأد: 3/ 375. 9/ 290، 291. الواشرات: 8/ 245. الواشمات: 8/ 244، 246. الواصلة: 8/ 245. الوتر: 1/ 532. 2/ 541. ورثة الميت: 8/ 102. الوسق: 9/ 127. وسوسة الشيطان: 6/ 483. الوسيلة: 9/ 112، 114، 115.

- ي -

الوشر: 8/ 244. الوشم: 8/ 241، 242، 244، 245. وصل الشعر: 8/ 244. الوصيلة: 9/ 243. الوصية: 4/ 165، 6/ 293، 294، 295، 296، 297، 298، 299. 8/ 31، 34، 40، 43، 44، 45. 9/ 250. وصية الزوج المتوفى لزوجته: 6/ 453. وضع الحمل: 8/ 338. الوضوء: 7/ 415. 8/ 130. 9/ 55، 60، 62، 63، 64. وطء السبايا: 8/ 71، 72. وفاء شرط الزوج: 8/ 77. وفاء النذر: 6/ 110، 111. وقت الزوال: 3/ 418. الوقف الخيري: 7/ 189، 190. 8/ 46. الوقوف في عرفة: 6/ 242. 8/ 400. 9/ 578. ولاية الكافر: 8/ 266. ولد اللعان: 8/ 378. الولي: 3/ 291. 8/ 75، 76. ولي الزوجة: 6/ 447. وليّ السفيه: 6/ 510، 511. ولي القتيل: 3/ 377. 8/ 208. ولي اليتيم: 8/ 25، 26. وليّ اليتيمة: 8/ 255. - ي- اليتامى: 7/ 63. 8/ 11، 12، 24، 28، 31، 116، 251، 252. اليمين: 1/ 289. 6/ 111، 112، 321، 322، 7/ 175. اليمين الغموس: 2/ 108. 6/ 405، 8/ 535. 9/ 213. اليمين الكاذبة: 6/ 405. اليمين اللغو: 8/ 535. اليمين المصبورة: 7/ 173، 9/ 213. يوم التروية: 9/ 580. يوم الجمعة: 2/ 144. 7/ 336، 337، 338. يوم الحجّ الأكبر: 9/ 344، 349، 351، 353، 358، 376، 392، 433، 582. يوم الزحف: 1/ 542، 2/ 108، 109. يوم الطور: 2/ 454. يوم عرفة: 2/ 144، 6/ 39. 9/ 9، 44، 348، 349. يوم العيد: 6/ 39. يوم النحر: 2/ 385. 9/ 346، 348، 349، 582.

3 - فهرس الأعلام

3- فهرس الأعلام - أ- آحاب: 7/ 281. آدم عليه السلام: 1/ 181، 199، 213، 215، 219، 222، 224، 226، 228، 229، 253، 311، 384، 466، 509. 2/ 61، 86، 88، 90، 117، 136، 137، 175، 243، 246، 254، 298، 323، 339، 342، 344، 346، 349، 350، 351، 352، 353، 354، 355، 356، 357، 365، 366، 367، 368، 371، 373، 478، 486، 487، 509، 529، 530، 531، 532، 550، 551. 3/ 157، 160، 186، 211، 212، 213، 214، 269، 351، 405، 407، 408، 421، 454. 4/ 34، 46، 47، 48، 65، 111، 301، 397، 398، 416. 5/ 27، 74، 75، 76، 94، 104، 229، 269، 285، 309، 415. 6/ 9، 10، 90، 123، 152، 153، 154، 158، 159، 160، 210. 7/ 118، 143، 145، 147، 148، 150، 151، 153، 155، 159، 428. 8/ 243، 276، 522، 523، 524. 9/ 96، 97، 307، 328، 329. آزر: 1/ 168. 4/ 115، 120. 6/ 165. آسية بنت مزاحم: 8/ 541. الآلوسي: 4/ 41. 6/ 24. آمون: 3/ 318. أبان بن عثمان: 9/ 16. إبراهيم: 4/ 324. إبراهيم ابن النبي: 4/ 550. إبراهيم بن هشام: 4/ 397. إبراهيم التركي: 7/ 341. إبراهيم حسن: 1/ 534. إبراهيم عليه السلام: 1/ 102، 110، 168، 170، 174، 190، 224، 327، 332، 344، 381، 385، 386، 396، 456، 473، 474،

517، 520، 521، 522، 523، 524. 2/ 19، 78، 84، 85، 87، 88، 91، 93، 94، 110، 112، 113، 118، 119، 132، 172، 173، 174، 175، 176، 178، 254، 305، 329، 330، 331، 332، 333، 377، 427، 433، 443، 478، 479، 486، 487، 495، 500، 510، 535، 3/ 52، 53، 54، 55، 56، 159، 160، 161، 162، 163، 192، 249، 251، 397، 454، 524، 529، 530. 4/ 10، 11، 51، 53، 115، 116، 118، 119، 120، 164، 203، 204، 219، 221، 222، 223، 224، 225، 226، 320، 397، 398، 400، 442، 443، 444، 448، 449، 488، 499، 500، 509. 5/ 31، 73، 94، 128، 129، 199، 213، 239، 240، 241، 242، 244، 245، 246، 247، 274، 275، 276، 277، 326، 432، 465، 475، 477، 478، 479. 6/ 7، 28، 30، 31، 33، 34، 35، 36، 79، 80، 82، 166، 184، 188، 228، 236، 237، 238، 239، 240، 241، 243، 244، 245، 246، 247، 248، 249، 256، 270، 356، 359، 469، 472، 473، 474، 477، 479، 488، 522. 7/ 134، 143، 147، 155، 159، 165، 166، 167، 168، 176، 182، 194، 195، 208، 249، 272، 346، 358، 414. 8/ 119، 120، 144، 154، 207، 237، 246، 247، 249، 250، 283، 356، 397، 514، 524. 9/ 76، 92، 115، 150، 162، 164، 168، 235، 268، 272، 307، 311، 314، 329، 331، 396، 423، 425، 426، 435، 479، 542، 543، 544، 545، 548. أبرهة: 2/ 42، 44. 3/ 324. إبليس: 1/ 179، 180، 181، 199، 224، 226، 227، 229، 230، 235، 241، 509. 2/ 60، 61، 62، 66، 232، 298، 317، 322، 323، 339، 341، 342، 343،

344، 345، 347، 349، 350، 351، 354، 355، 356، 357، 358، 365، 366، 367، 368، 369، 371، 373، 461، 486، 550. 3/ 78، 186، 211، 212، 214، 250، 351، 405، 406. 4/ 34، 46، 47، 48، 49، 221، 222، 235، 277، 278، 310، 389، 416. 5/ 27، 74، 75، 76، 77، 78، 106، 229. 6/ 152، 153، 154، 359. 7/ 68، 116، 121. 8/ 243. 9/ 97. ابن أبي أوفى: (انظر عبد الله) . ابن أبي حاتم: 1/ 259، 543. 2/ 83، 97، 300. 3/ 37، 115، 167، 184. 4/ 50، 287، 289، 444، 551. 5/ 32، 118، 149، 229، 254، 260، 304، 335، 338، 346، 351، 443، 500. 6/ 69، 97، 121، 164، 210، 249، 281، 363. 7/ 78، 132، 176، 220، 221، 417. 8/ 184، 495، 557، 570. 9/ 115، 226، 314. ابن أبي الدنيا: 4/ 369. 5/ 461. ابن أبي سلمة: 6/ 442. ابن أبي شيبة: 1/ 258. ابن أبي الفرس: 9/ 569. ابن أبي قحافة: (انظر أبا بكر الصديق) . ابن أبي الموالي: 9/ 36. ابن أشته: 1/ 70، 71. ابن أم كلثوم الضرير: 1/ 79. 9/ 516. ابن أم مكتوم: 1/ 41، 337. 2/ 122. 8/ 212، 213، 214. ابن أيوب: 5/ 251. ابن بريدة: (انظر عبد الله) . ابن بطة: 2/ 328. ابن تيمية: 1/ 10، 12. 2/ 56، 201. 4/ 41. 5/ 89. 6/ 275، 319، 432، 501، 504، 515. 7/ 26. 8/ 145، 149، 161، 370، 485. 9/ 112، 216، 329. ابن جابر: 1/ 223. ابن جبير: (انظر سعيد) . ابن جريج: 1/ 217، 219. 5/ 94، 108، 117. 6/ 231، 232. 9/ 26، 129، 180، 196. ابن الجوزي: 1/ 85. 6/ 309، 501. 7/ 289. ابن حبان أبو حاتم: 1/ 78، 304. 2/ 541، 542. 4/ 173، 422. 5/ 89، 328. 6/ 164، 210، 310، 403، 523. 7/ 10، 186، 336. 8/ 60. 9/ 222، 470. ابن حجر: 1/ 289، 309، 352. 8/ 372. ابن حرملة: 5/ 104.

ابن حزم: 1/ 97. 2/ 83. 6/ 211. ابن الحصّار: 1/ 84. ابن حميد: 5/ 57. ابن خزيمة: 1/ 337. ابن الخطيب: 1/ 95، 135، 139. ابن خلدون: 1/ 134. 9/ 518، 519. ابن الدغنّة: 3/ 417. ابن الديلم: 3/ 383، 384. ابن رزين: 7/ 401. ابن الزبعري: 5/ 292، 293. ابن زرارة: 2/ 290. ابن زيد: 2/ 348، 419، 542، 554. 5/ 31، 94، 371. 6/ 87، 419، 469. 7/ 11، 403. 9/ 335، 359، 535، 562. ابن سابط: 6/ 154. ابن سبيعة بن الحارث: 9/ 580. ابن سيرين: 1/ 69، 98. 5/ 302. 9/ 62، 466. ابن شهاب: (انظر الزهري) . ابن صوريا: 6/ 205، 244. ابن عامر: 8/ 484. ابن عبد البرّ: 5/ 461. 8/ 125. ابن عبد ياليل بن عبد كلال: 4/ 99، 100، 502. ابن عبيد الحصري: 4/ 548. ابن عساكر: 1/ 362. 2/ 292. 4/ 160، 369. 5/ 295. 6/ 97. 8/ 245. 9/ 527. ابن عياش: 8/ 205. ابن الغرس: 9/ 569. ابن غنم: 5/ 113. ابن فارس (من علماء القرآن) : 1/ 70. ابن الفرس: 9/ 339. ابن قتيبة: 1/ 11، 139. ابن القيم الجوزية: 2/ 176، 177، 328. 6/ 432، 513، 514، 515. 8/ 145، 373. ابن كثير: 1/ 83، 132، 136، 201، 288، 289، 316، 354، 362، 436، 450، 508، 522، 530، 543. 2/ 53، 57، 58، 64، 80، 83، 93، 109، 114، 131، 132، 133، 160، 161، 247، 248، 252، 265، 269، 271، 287، 290، 291، 300، 310، 312، 321، 322، 328، 331، 341، 358، 367، 397، 402، 409، 413، 414، 416، 454، 459، 467، 474، 498، 499، 530، 532، 537، 540، 541، 542، 545، 546، 557، 559، 563، 564. 3/ 23، 37، 42، 79، 115، 126، 167، 181، 184، 210، 228، 257، 264، 326، 335،

353، 368، 381، 384، 397، 408، 416، 418، 425، 427، 429، 475، 506، 509. 4/ 9، 29، 43، 47، 50، 51، 54، 58، 63، 99، 100، 105، 106، 108، 135، 146، 147، 157، 160، 172، 187، 189، 199، 202، 235، 243، 248، 249، 276، 281، 287، 289، 306، 311، 320، 323، 324، 333، 343، 345، 349، 356، 360، 373، 374، 396، 397، 412، 437، 440، 444، 459، 460، 461، 465، 492، 515، 537، 549، 555. 5/ 11، 22، 27، 31، 32، 50، 65، 74، 93، 97، 104، 109، 118، 113، 114، 123، 139، 149، 156، 163، 168، 190، 194، 201، 223، 229، 254، 255، 260، 271، 294، 308، 316، 319، 327، 328، 330، 335، 338، 346، 351، 364، 377، 395، 405، 414، 421، 436، 443، 447، 452، 460، 461، 478، 530، 537، 539، 545، 546. 6/ 13، 14، 32، 35، 39، 52، 69، 73، 80، 97، 104، 106، 114، 121، 147، 164، 174، 203، 210، 211، 213، 220، 221، 229، 232، 249، 255، 257، 267، 270، 281، 285، 290، 291، 295، 298، 315، 317، 364، 373، 376، 424، 444، 450، 451، 458، 465، 466، 488، 489، 500، 503، 508، 509، 521، 523. 7/ 31، 46، 47، 48، 52، 66، 70، 79، 84، 100، 110، 119، 122، 128، 132، 181، 182، 186، 190، 201، 202، 207، 220، 221، 255، 256، 257، 258، 266، 272، 288، 292، 293، 295، 300، 301، 319، 320، 325، 327، 352، 377، 381، 395، 396، 398، 403، 416، 417، 427. 8/ 15، 27، 32، 44، 57، 63، 82، 91، 92، 101، 143، 160، 164، 179، 181، 184، 185، 209، 232، 236، 270، 286، 301، 311، 313، 331، 335، 339، 342، 345، 364، 388، 389، 407، 415، 419، 441، 450، 456، 466، 474، 481، 484، 493، 495، 503، 533، 550، 553، 557، 559، 566،

567، 568، 571، 587، 599، 613، 614، 617. 9/ 8، 18، 19، 23، 30، 35، 39، 40، 41، 49، 64، 74، 96، 97، 98، 100، 109، 110، 114، 115، 116، 123، 127، 128، 136، 138، 139، 140، 145، 152، 160، 164، 165، 181، 194، 197، 202، 204، 210، 206، 221، 226، 227، 241، 242، 245، 274، 275، 289، 297، 302، 304، 314، 339، 347، 351، 364، 377، 393، 394، 407، 408، 422، 425، 426، 430، 441، 470، 519، 526، 527، 541، 572، 574. ابن الكلبي: 1/ 212، 213، 214. ابن الكواء: 2/ 403. ابن كيسان: 6/ 90. ابن اللتبية: 7/ 261. ابن لقمان: 1/ 225. ابن ماجه: 1/ 287، 308، 336، 338، 350، 485. 2/ 57، 114، 115، 177، 185، 261، 375، 382، 383، 401، 542. 3/ 210، 223، 357. 4/ 112، 149، 174، 202، 306، 370. 5/ 140، 190، 235، 401. 6/ 52، 86، 164، 165، 302، 314، 399، 429، 498، 523. 7/ 258، 289، 338، 341، 397، 415. 8/ 20، 58، 84، 90، 190، 208، 236، 427، 450، 484، 516، 523. 9/ 109، 123، 140، 195، 198، 242، 285، 495، 562. ابن المبارك: (انظر عبد الله) . ابن مخارق: 6/ 352. ابن مردويه: 1/ 309، 436. 2/ 157، 454. 4/ 173، 189، 475. 5/ 335. 6/ 164، 258، 281، 286، 298، 488، 503، 522. 7/ 119، 256، 272، 293. 8/ 32، 236، 313. 9/ 8، 35، 115، 206. ابن المسيب: (انظر سعيد) . ابن المنذر: 2/ 562. ابن منظور: 2/ 345. ابن المنير الإسكندري: 1/ 234، 235، 236، 252. 4/ 302، 497، 506. 6/ 504. 8/ 174. ابن نجيح: 9/ 412. ابن النديم: 1/ 9. ابن هشام: 1/ 76، 105، 321، 328، 373، 414. 2/ 179. 4/ 126. 6/ 26، 165. 7/ 17، 92، 105، 106، 109، 110، 111، 148،

160، 161، 336، 352، 365، 405. 8/ 453، 581، 602، 610، 613. 9/ 71، 183، 289، 396، 418، 441، 548، 584، 585، 587، 588، 589. ابن وهب: 1/ 84. 2/ 419. 3/ 361. 4/ 355، 458. أبو أحمد بن جحش بن قيس: 8/ 312. أبو إدريس: 6/ 121. أبو إسحاق: 1/ 71. 8/ 184، 342، 343. أبو إسحق السبيعي: 2/ 328. أبو إسحق الصابي: 6/ 26. أبو الأسد بن كلدة: 2/ 254. أبو إسرائيل: 6/ 42، 111. أبو أسيد: 5/ 139. أبو أمامة: 1/ 338. 2/ 112، 185، 231، 409، 410، 530. 4/ 243، 253، 387، 516، 517. 5/ 225، 350، 443. 6/ 48، 87، 295، 301، 302، 352، 353، 391. 8/ 484، 486. 9/ 66، 424، 561. أبو أمية الشعباني: 9/ 247. أبو أوس: 1/ 81. أبو أيوب الأنصاري: 4/ 339. 5/ 535. 6/ 261، 330. 7/ 29، 300. 8/ 10، 236، 510. أبو البحتري الطائي: 5/ 378. أبو البختري: 9/ 417. أبو البداح: 6/ 359. أبو بردة الأسلمي: 5/ 519. 9/ 390. أبو برزة الأسلمي: 1/ 370. 3/ 382. 8/ 32، 160، 517. أبو بريدة: 9/ 63. أبو بكر الأصم: 2/ 56. أبو بكر الأنباري: 1/ 84. أبو بكر الباقلاني: 1/ 85. أبو بكر البزار الحافظ: 2/ 277. 4/ 54، 444. 6/ 14، 8/ 236، 523. أبو بكر بن حفص: 5/ 117. أبو بكر بن عبد الرحمن: 6/ 269. أبو بكر بن عبد الله بن عيسى: 5/ 109. أبو بكر الحضرمي: 1/ 80. أبو بكر الصديق: 1/ 62، 67، 68، 69، 79، 82، 83، 85، 89، 91، 92، 93، 96، 98، 113، 117، 206، 207، 208، 215، 240، 246، 361، 400، 435، 436، 438، 439، 444، 529، 530، 559. 2/ 37، 38، 148، 243، 287، 382، 385، 453، 467، 474، 515، 516. 3/ 41، 74، 327، 331، 353، 371، 384، 417، 440، 472، 548. 4/ 38، 40، 41، 235، 255، 304، 311، 326، 366، 382، 527. 5/ 16،

49، 160، 254، 255، 430، 431، 468. 6/ 32، 55، 56، 121، 127، 138، 203، 357، 403، 420. 7/ 17، 19، 20، 32، 39، 54، 55، 56، 58، 59، 88، 89، 91، 92، 159، 161، 207، 235، 237، 241، 255، 256، 271، 280، 281، 283، 288، 346، 371، 372، 375، 405. 8/ 34، 39، 40، 82، 83، 120، 129، 165، 186، 187، 266، 267، 325، 357، 376، 384، 390، 391، 394، 484، 493، 498، 534، 576، 579، 611، 617. 9/ 56، 106، 159، 185، 186، 198، 224، 247، 248، 301، 306، 321، 345، 346، 347، 348، 350، 357، 384، 392، 402، 430، 443، 444، 465، 466، 467، 502، 527، 555، 569، 577، 586، 587، 588، 589. أبو بكر عبد الحميد: 2/ 89. أبو بكرة: 1/ 245، 337. 2/ 109. 4/ 73. 5/ 401، 535. 6/ 46. 7/ 276، 352. 8/ 52، 224، 369. 9/ 100، 122. أبو تراب: (انظر علي بن أبي طالب) . أبو تميمة الهيثمي: 8/ 209. أبو ثعلبة الأنصاري: 4/ 174. 9/ 123، 247. أبو ثعلبة الخشني: 9/ 40. أبو ثمامة جنادة بن عوف بن أمية: 9/ 433. أبو ثملة الأنصاري: 5/ 489. أبو ثور: 9/ 49، 50. أبو جحيفة: 7/ 343. أبو جريّ: 4/ 533. 8/ 191. أبو الجعد الضمري: 7/ 337. 9/ 292. أبو جعفر بن يزيد: 1/ 136. 4/ 320. أبو جعفر محمد بن علي (أحد الأئمة الاثني عشر) : 1/ 239. 2/ 402، 517. 3/ 383، 404. 4/ 369، 459. 5/ 169، 297. 7/ 58، 236، 241. 8/ 157، 423، 441. 9/ 29، 62، 161، 162، 164، 184. أبو جناب: 8/ 466. أبو جندل بن سهيل: 5/ 187. 8/ 168، 580، 581. 9/ 281. أبو جهل عمرو بن هشام المخزومي: 1/ 320، 321، 322، 324. 2/ 20، 102، 112، 122. 3/ 23، 76، 86، 97، 136، 335، 404، 472. 4/ 79، 84، 151، 152، 366، 555، 556. 5/ 160، 533، 541، 542. 6/ 15، 115، 116. 7/ 18،

23، 44، 69، 217. 8/ 312. 9/ 367، 543. أبو جهم: 1/ 339. 6/ 8. 8/ 133. أبو جهينة (صاحب الصاعين) : 5/ 508، 509. أبو حاتم بن حبان: (انظر ابن حبان) . أبو حاتم الرقاشي: 4/ 551. أبو حاتم المزني: 8/ 78. أبو حارثة (أسقف وفد نجران) : 7/ 109. 9/ 418. أبو الحباب: (انظر عبد الله بن أبي) . أبو الحجاج المزي: 2/ 131. أبو حذيفة بن عتبة: 1/ 91. 3/ 331. 4/ 308. أبو حذيفة بن المغيرة: 4/ 303. أبو حرزة: 1/ 543. أبو الحسن الأشعري: 1/ 269. أبو حمزة الثمالي: 4/ 457. أبو حميد: 5/ 139. 7/ 261. أبو حنيفة: 1/ 267، 268، 351. 6/ 213، 290، 293، 446. 7/ 197، 398. 8/ 135، 359، 360، 376، 377، 473. 9/ 50، 138، 214، 227. أبو خزاعة عمرو بن عامر: 8/ 244. أبو خزيمة بن ثابت: 1/ 97. 8/ 356. 9/ 570. أبو داود: 1/ 69، 70، 77، 78، 80، 81، 271، 278، 288، 289، 290، 291، 308، 331، 332، 333، 334، 335، 336، 337، 338، 339، 342، 343، 345، 350، 362، 369، 370، 371، 388، 391، 410، 411، 435، 446، 461، 478، 484، 507، 513، 514، 542. 2/ 9، 13، 24، 38، 39، 45، 50، 68، 108، 114، 115، 133، 157، 161، 173، 179، 184، 261، 262، 263، 265، 291، 310، 370، 379، 380، 381، 382، 383، 386، 387، 400، 456، 473، 474، 475، 512، 531، 537، 555، 558، 561. 3/ 30، 74، 101، 123، 210، 357، 382، 394، 483، 484، 539. 4/ 10، 11، 29، 30، 73، 105، 106، 112، 146، 149، 172، 173، 174، 195، 206، 226، 250، 253، 281، 319، 356، 378، 382، 383، 385، 388، 422، 474، 477، 478، 520، 532، 533. 5/ 22، 49، 50، 63، 85، 103، 123، 127، 139، 140، 141، 149، 154، 155، 180، 190، 198، 235، 281، 297،

298، 303، 305، 372، 373، 395، 401، 534، 535. 6/ 8، 41، 42، 43، 46، 88، 110، 111، 112، 137، 164، 236، 273، 275، 289، 295، 296، 298، 302، 305، 307، 308، 309، 310، 312، 313، 314، 317، 318، 322، 335، 357، 358، 376، 378، 381، 386، 394، 398، 400، 401، 402، 403، 405، 406، 410، 413، 414، 419، 420، 426، 432، 440، 441، 468، 497، 498، 513، 515. 7/ 11، 19، 52، 57، 54، 58، 84، 103، 119، 156، 192، 196، 202، 208، 258، 259، 260، 261، 288، 295، 301، 312، 336، 338، 339، 341، 342، 344، 352، 356، 377، 378، 417. 8/ 10، 15، 35، 37، 38، 39، 41، 45، 53، 57، 59، 61، 71، 72، 73، 75، 76، 78، 79، 81، 89، 97، 98، 109، 118، 119، 121، 123، 125، 126، 133، 134، 135، 148، 155، 165، 170، 182، 188، 190، 191، 204، 205، 207، 211، 219، 220، 224، 225، 226، 232، 237، 245، 246، 255، 268، 306، 309، 325، 335، 342، 343، 354، 362، 373، 389، 396، 399، 401، 406، 419، 425، 426، 427، 441، 442، 450، 471، 474، 484، 486، 510، 514، 516، 517، 518، 519، 520، 559. 9/ 14، 15، 23، 33، 35، 36، 39، 42، 49، 50، 59، 60، 61، 62، 63، 64، 65، 66، 68، 100، 113، 114، 118، 119، 120، 137، 140، 141، 156، 183، 197، 198، 208، 212، 221، 222، 223، 224، 225، 226، 242، 247، 248، 255، 269، 285، 286، 292، 293، 302، 309، 311، 356، 364، 396، 397، 411، 420، 422، 423، 464، 465، 469، 470، 471، 476، 484، 503، 519، 536، 539، 543. 561، 562، 572، 578. أبو الدحداح الأنصاري: 6/ 108، 456. أبو الدرداء: 1/ 82، 350، 420، 484. 2/ 68، 322، 558. 3/ 115، 125، 177، 179، 210، 484. 4/ 10، 422، 477. 5/ 50، 113، 143،

149، 335، 457، 484. 6/ 97، 102. 7/ 395. 8/ 203، 204، 210، 485. 9/ 35، 46، 139، 314، 527، 561، 572. أبو ذرّ الغفاري: 1/ 293، 382، 522، 539. 2/ 97، 176، 177، 200، 261، 263، 559. 3/ 30، 74، 223، 475، 551. 4/ 87، 187، 202، 249، 311، 397، 422. 5/ 302. 6/ 27، 28، 30، 31، 188، 236، 469، 488، 522. 7/ 176، 195، 208، 249، 346. 8/ 119، 120، 144، 154، 207، 237، 246، 356، 397، 426، 514، 524. 9/ 162، 164، 314، 423، 425، 426، 479، 548. أبو راشد الحبراني: 4/ 333. أبو رافع بن أبي الحقيق: 6/ 166. 8/ 390، 601. 9/ 464. أبو رزين لقيط بن عامر: 1/ 506. 3/ 506. 4/ 287. أبو رغال (دليل حملة الأحباش على الكعبة) : 2/ 43. أبو رفاعة الزرقي: 8/ 503. أبو رميثة: 1/ 338. 8/ 246. أبو سبرة بن أبي رهم: 4/ 308. أبو سخيلة: 4/ 465. أبو السعود: 1/ 219. 4/ 235. أبو سعيد بن أبي فضالة: 2/ 23. 5/ 114. أبو سعيد بن زيد: 6/ 28. أبو سعيد بن المعلّى: 1/ 291. أبو سعيد التمار: 9/ 302. أبو سعيد الخدري: 1/ 292، 334، 335، 337، 383، 419، 431، 444، 446، 456، 484، 540، 543، 566. 2/ 19، 50، 57، 68، 109، 199، 336، 400، 473، 537. 3/ 22، 126، 167، 177، 223، 383، 384، 421. 4/ 54، 211، 311، 324، 387، 397، 474، 524. 5/ 50، 67، 93، 104، 110، 140، 143، 156، 298، 335، 395، 397، 484، 485، 539. 6/ 10، 32، 62، 104، 121، 203، 267، 318، 394، 503. 7/ 201، 256، 285، 286، 318، 343، 380، 382. 8/ 71، 120، 134، 325، 401، 426، 484، 502، 553. 9/ 15، 21، 29، 114، 115، 198، 293، 302، 304، 377، 423، 424، 444، 458، 459، 475، 493، 495، 527، 535، 536، 586. أبو سعيد الساعدي: 8/ 450. أبو السفر: 9/ 139. أبو سفيان بن حرب: 1/ 321، 322،

498، 2/ 20، 102، 467. 4/ 79، 422، 539، 540، 541. 5/ 329، 474. 7/ 16، 17، 33، 34، 45، 69، 93، 105، 112، 138، 162، 163، 217، 228، 237، 240، 270، 347، 363. 8/ 184، 227، 520. 9/ 274، 275، 290، 306، 310، 311، 367، 388. أبو سفيان الكلاعي: 1/ 73. أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي: 1/ 442. 4/ 255، 308. 6/ 426، 442. 8/ 59، 339. 9/ 322. أبو سلمة بن عبد الرحمن: 6/ 307. 7/ 300. أبو سليمان بن نجاح: 1/ 14. أبو السنابل: 8/ 340. أبو شامة: 1/ 259. أبو شريح العدوي: 2/ 180. 6/ 290. 9/ 312. أبو الشعثاء: 7/ 122. أبو صالح: 1/ 120، 203، 210، 212، 354. 9/ 184. أبو صخر العقيلي: 2/ 467. أبو ضمضم: 8/ 268. أبو طالب (عم النبي) : 1/ 372، 373، 554. 2/ 300. 3/ 270، 271، 327، 328. 4/ 80، 134، 255، 459. 5/ 24، 288، 327. 7/ 37. 9/ 181، 182، 311، 543، 544. أبو طلحة الأنصاري: 2/ 513. 5/ 460. 7/ 189. 9/ 225. أبو طلحة بن سهل: 8/ 517. أبو طلحة (الرامي) : 7/ 236، 246. أبو العاص (زوج زينب بنت الرسول) : 6/ 393. 7/ 93. 9/ 286. أبو العالية الرباحي: 5/ 133. 6/ 217، 254. 7/ 52، 395. 9/ 62. أبو عامر الأوسي: 4/ 204. 6/ 27. أبو عامر الراهب: 2/ 535. 3/ 136. 6/ 136. 9/ 533. أبو عبد الله جعفر بن محمد (أحد الأئمة الاثني عشر) : 1/ 80، 215، 239، 309. 2/ 9. 3/ 162، 383، 402، 404، 507، 511. 4/ 354، 459، 518. 5/ 122، 393، 412، 553. 7/ 122. 8/ 157، 165، 332، 441، 584، 610، 617. 9/ 29، 161، 163، 164، 184. أبو عبد الله القاسم: 1/ 287. أبو عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي: 1/ 14. أبو عبيد رضوان المخللاتي: 1/ 14. أبو عبيد القاسم بن سلام: 5/ 140. 7/ 52، 58، 316، 317. 8/ 8، 308، 309، 483. 9/ 397، 412، 413، 414، 465، 466، 467،

470، 472، 474، 480، 484. أبو عبيدة بن الجراح: 1/ 540. 3/ 323، 331. 4/ 255. 6/ 458. 7/ 110، 131، 132. 8/ 493. 9/ 311، 322، 406. أبو عبيدة بن القاسم: 7/ 110. أبو عبيدة النحوي: 2/ 179. أبو عثمان النهدي: 3/ 126. أبو العجفاء: 8/ 59. أبو عزيز بن عمير بن هاشم: 7/ 61. أبو العطوف الجزري: 5/ 500. أبو عطيف: 9/ 62. أبو عفك (شاعر) : 7/ 284. أبو عقيل: 5/ 545. 9/ 504، 505. أبو عمر بن عبد البرّ: 1/ 139. أبو عمرو بن حماس: 9/ 480. أبو عمرو بن العلاء: 1/ 136. 2/ 179. 4/ 320. أبو عمرو الداني: 1/ 14. أبو الفرج بن الجوزي: 4/ 397. أبو القاسم التجيبي السبتي: 6/ 128. أبو القاسم الحسكاني: 5/ 519. أبو القاسم عبيد الله بن سلام: 1/ 93. أبو القاسم عمر بن محمد بن عبد الكافي: 1/ 14. أبو قتادة: 1/ 336، 342. 2/ 379. 4/ 11. 9/ 17، 68، 234، 551. أبو قلابة: 8/ 96. 9/ 102. أبو قيس بن الأسلت الأنصاري: 8/ 62. أبو كبشة: (انظر الحارث بن عبد العزى) . أبو كرب (ملك حميري) : 5/ 94. أبو كريب: 4/ 517. أبو الكلام آزاد: 5/ 98، 99، 100، 101. أبو الكنود سعد بن مالك: 1/ 73. أبو لبابة الأنصاري: 6/ 112. 7/ 33. 9/ 126، 129، 154، 529. أبو لبابة بن عبد المنذر الأوسي: 7/ 368، 369. أبو لهب: 1/ 495، 496، 497، 551. 3/ 270، 271. 4/ 459. 7/ 61، 62. أبو مالك الأشعري: 3/ 548. 4/ 312. 6/ 106. 8/ 553. 9/ 293. أبو مجلز: 2/ 402. 8/ 389. 9/ 135. أبو محذورة: 7/ 342. أبو مسعود: 1/ 329، 332، 336، 337. 3/ 211، 263. 8/ 119. أبو مسلم: 1/ 67. 4/ 459. 9/ 537، 544. أبو معبد الجهني: 3/ 95. أبو معقل: 9/ 516. أبو معمر: (انظر دهية) . أبو المنذر: (انظر أبي بن كعب) . أبو منصور الأرجاني: 1/ 83. أبو موسى الأشعري: 1/ 74، 99، 388، 411، 435. 2/ 157، 234، 353،

567. 3/ 74، 326، 409، 416، 462، 536. 4/ 91، 474. 5/ 143، 530. 6/ 101، 104، 387، 405. 7/ 46، 317، 339. 8/ 93، 188، 313، 509، 568، 603. 9/ 62، 160، 212، 226، 293، 348، 390، 441، 495. أبو مويهبة: 9/ 585، 586. أبو ميسرة التابعي: 1/ 309. أبو النضر (أحد رواة الحديث) : 1/ 393. أبو نضرة: 8/ 80. أبو نعيم: 1/ 272. أبو نهيك: 7/ 122. أبو هالة التميمي: 9/ 591. أبو هريرة: 1/ 82، 207، 287، 288، 289، 290، 291، 308، 312، 313، 331، 332، 333، 334، 335، 337، 338، 339، 342، 345، 350، 351، 356، 357، 362، 370، 382، 383، 411، 419، 431، 437، 446، 447، 478، 506، 513، 539، 540، 542. 2/ 22، 23، 24، 49، 68، 69، 85، 92، 108، 115، 134، 144، 154، 155، 156، 157، 177، 179، 185، 199، 236، 246، 261، 264، 265، 287، 292، 303، 311، 321، 322، 328، 352، 370، 378، 380، 382، 383، 385، 386، 397، 399، 400، 411، 412، 451، 452، 454، 456، 459، 468، 471، 514، 522، 531، 541، 542، 547، 561، 563، 566. 3/ 11، 20، 43، 74، 123، 128، 164، 174، 184، 192، 210، 213، 223، 251، 327، 328، 345، 353، 354، 355، 356، 381، 382، 387، 397، 470، 514، 546، 548، 549. 4/ 9، 10، 29، 50، 57، 87، 106، 146، 149، 192، 193، 195، 196، 197، 199، 206، 225، 226، 232، 249، 252، 276، 281، 288، 289، 348، 349، 375، 378، 383، 387، 422، 444، 463، 474، 475، 477، 478، 517، 519، 520، 532، 533، 534، 569، 571. 5/ 18، 102، 110، 111، 114، 141، 143، 149، 156، 197، 200، 233، 251، 278، 295، 305، 317، 335، 350، 368، 372، 373، 395، 421، 436، 443، 448، 485، 489، 494، 510، 534. 6/ 22، 32، 41، 43، 52، 62، 81، 85،

86، 88، 111، 112، 119، 120، 137، 166، 175، 184، 203، 214، 225، 229، 249، 258، 273، 275، 285، 298، 303، 313، 314، 317، 318، 353، 373، 378، 381، 398، 399، 405، 426، 432، 442، 443، 448، 465، 468، 498، 500، 504، 518، 521، 522. 7/ 25، 55، 57، 63، 84، 85، 90، 154، 156، 158، 176، 197، 202، 208، 257، 258، 260، 272، 278، 287، 288، 293، 300، 301، 311، 317، 318، 319، 320، 327، 328، 330، 331، 337، 355، 392، 395، 417، 426. 8/ 10، 22، 37، 44، 45، 58، 75، 78، 79، 84، 92، 97، 98، 107، 119، 120، 121، 127، 128، 148، 149، 155، 156، 164، 182، 190، 191، 208، 245، 249، 255، 267، 271، 305، 316، 331، 339، 345، 346، 350، 396، 399، 400، 418، 426، 427، 456، 483، 486، 487، 509، 510، 514، 517، 518، 523، 560، 9/ 36، 59، 60، 61، 67، 68، 88، 100، 114، 118، 119، 122، 123، 161، 206، 223، 240، 241، 245، 299، 311، 346، 348، 356، 364، 396، 420، 421، 423، 424، 453، 469، 470، 471، 493، 496، 503، 521، 536، 543، 545، 561، 562، 589. أبو الهيثم بن التيهان اليثربي: 6/ 27. أبو واقد الليثي: 1/ 73. 4/ 172. 8/ 485. أبو اليسر (صاحب رسول الله) : 2/ 262. 3/ 548. 9/ 231. أبو يعلى الحافظ: 2/ 57، 513، 537. 4/ 202، 475. 5/ 327. 6/ 452، 503. 7/ 181. 8/ 356، 357، 376. 9/ 471. أبو يوسف: 1/ 268. 5/ 140. 6/ 24، 167. 7/ 52، 105، 106، 110، 111، 316. 8/ 305، 473. 9/ 49، 50، 405، 406، 407، 412. أبو يونس (مولى عائشة) : 1/ 74. 6/ 450. أبيّ بن خلف: 3/ 46، 170. 7/ 92، 236. أبيّ بن كعب: 1/ 12، 14، 70، 71، 72، 73، 80، 83، 85، 96، 97، 245، 246، 248، 336. 2/ 57،

70، 133، 512، 513، 555. 3/ 462. 4/ 57، 319. 5/ 83، 85، 143، 204، 353، 546. 6/ 468. 7/ 212، 346، 392، 402، 403. 8/ 125، 339، 340، 356، 367. 9/ 339، 570، 571. أبينوعيم (نبي بني إسرائيل) : 4/ 399. أحاز: 2/ 482. الأحتم (من أسماء الجن) : 5/ 26. أحشويريش: 3/ 317، 318. أحمد بن عبد الرحمن: 4/ 517. الأحوص: 8/ 399. أحيا الشيلوتي: 2/ 319. 4/ 399. الأخنس بن شريق: 1/ 321، 322، 368. 2/ 206. 3/ 504. 6/ 363. أخنوخ: 3/ 163. أخيا الشيلوتي: 2/ 488. إدريس عليه السلام: 1/ 168، 396. 2/ 86، 88، 433. 3/ 160، 161، 163، 164. 4/ 397، 398. 5/ 282، 283. 7/ 379. 9/ 332. أربد بن ربيعة: 5/ 522، 527. الأربعة (البخاري، مسلم، أبو داود والترمذي) : 1/ 287، 289، 370. 2/ 265، 288، 379، 533. 3/ 96، 382، 394. 4/ 320، 370. 5/ 22. 6/ 14، 81، 138، 318، 365، 521. 7/ 52، 55، 56، 318. 8/ 118، 119، 121، 269، 396، 494، 509، 510. 9/ 561. الأردوبيان (من أسماء الجن) : 5/ 26. أرسطاطاليس: 5/ 98. إرم: 1/ 532. أرميا بن حلقيا: 4/ 399. 5/ 100. 6/ 475، 476. أرنولد: 1/ 54. أروى بنت ربيعة: 9/ 284. أسامة بن زيد: 2/ 173، 473. 3/ 126. 4/ 533. 6/ 164. 7/ 352، 356. 8/ 37، 190، 237، 382، 515. 9/ 117، 118، 310، 312، 402، 495، 559، 581، 586، 587، 589. إسحق عليه السلام: 1/ 102، 110، 385، 473، 522. 2/ 305، 329، 330، 331، 332، 433، 443، 479. 3/ 52، 54، 160، 161، 162، 529، 530. 4/ 10، 11، 116، 219، 221، 222، 397، 398، 449. 5/ 239، 275، 276، 277، 478. 6/ 166، 184، 239، 241، 243، 244، 245، 246، 247، 248، 249. 7/ 155، 182، 381. 8/ 283. 9/ 66، 92، 168. أسد بن سعيد: 8/ 282. أسد بن عبيد: 8/ 282.

إسرافيل: 1/ 254، 447. 2/ 160، 161. 4/ 333. 9/ 591. إسرائيل: 2/ 330، 477. 3/ 160. 4/ 178. 5/ 100. أسرحدون: 3/ 360. أسعد بن زرارة: 6/ 500، 502. 7/ 336. إسفنديار: 4/ 242، 502. 7/ 41. الأسقع بن واثلة: 5/ 442. 8/ 105. الإسكندر بن فيلقوس بن ياملوس: 5/ 94، 97. الأسلع: (خادم الرسول) : 8/ 124. أسلم التجيبي: 6/ 330. الأسلمي: 4/ 41. أسماء بنت أبي بكر: 2/ 95. 4/ 315، 374. 5/ 123، 235. 8/ 124، 245. 9/ 274. أسماء بنت زيد: 8/ 190. أسماء بنت عميس زوجة جعفر بن أبي طالب: 7/ 383، 384. 9/ 578. أسماء بنت مرثد: 8/ 443. أسماء بنت يزيد: 4/ 63، 387، 533. 5/ 351. 9/ 8. إسماعيل بن أبي أويس: 2/ 89. إسماعيل عليه السلام: 1/ 102، 110، 170، 327، 385، 473، 519، 520، 522، 523. 2/ 169، 173، 174، 175، 178، 305، 329، 330، 333، 433، 486. 3/ 52، 54، 160، 161، 162. 4/ 116، 118، 221، 222، 223، 397، 398، 449. 5/ 239، 241، 242، 243، 244، 245، 246، 247، 282، 283، 326، 478. 6/ 35، 36، 79، 166، 184، 228، 236، 237، 238، 239، 240، 243، 244، 245، 246، 247، 248، 249، 270. 7/ 155، 182. 8/ 283. 9/ 168، 311، 435. الأسود بن خلف: 8/ 62. الأسود بن سريع: 1/ 308. الأسود بن شريق: 5/ 420. الأسود بن عبد يغوث: 1/ 368. الأسود بن نوفل بن خويلد: 4/ 251. الأسود بن وكيع: 6/ 24. الأسود بن يزيد: 8/ 343. الأسود العنسي: 9/ 564. الأسود الكذاب: 4/ 124، 125. الأسود (من بني مخزوم) : 5/ 69. أسيد بن أسيد: 9/ 292. أسيد بن حضير: 6/ 396. 7/ 38. 8/ 383، 461. 9/ 56. أسيد بن ظهير: 7/ 226. أسيد بن عروة: 8/ 230. أسير بن زارم: 8/ 601. أشعث بن إسحق: 5/ 328.

أشعث بن أسلم البصري: 6/ 457. الأشعث بن قيس: 7/ 173. أشعيا (نبي) : 4/ 399. أشير (ابن يعقوب) : 2/ 449. أشيع: 6/ 165. الأصبع بن نباته: 9/ 116. أصحاب السنن: (انظر الثلاثة) . الأعمش: 2/ 57. 5/ 235. الأعور (ابن إبليس) : 1/ 230. الأعور الدجال: (انظر المسيح الدجال) . الأغر بن بشار المزني: 4/ 463. أفلح (أخو أبي القعيس) : 7/ 412، 413. الأقرع بن حابس: 6/ 24. 7/ 112. 9/ 388، 458. أكثم بن جون: 9/ 245. أكثم بن صيفي: 5/ 168، 169. أكيدر: 9/ 441. إلياس عليه السلام: 2/ 486. 4/ 116، 120، 227، 398. 7/ 281. إليصابات: 3/ 144. أم جميل: (انظر حمالة الحطب) . أم حارثة: 9/ 137. أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان: 1/ 335. 2/ 150. 6/ 401. 7/ 374، 402، 405. 8/ 61، 68، 236. 9/ 274. أم الحكم بنت أبي سفيان: 9/ 284. أم الدحداح: 6/ 456. أم الربيع: 9/ 137. أم رومان: 8/ 376. أم زيد (من الأنصار) : 8/ 505. أم سلمة: 1/ 82، 289، 411. 2/ 381، 387. 3/ 332، 357. 5/ 297. 6/ 267، 322، 403، 442. 7/ 31، 162، 292، 294، 295، 374، 375، 379، 382، 383، 401. 8/ 69، 94، 95، 128، 232، 325، 339، 340، 402، 403، 405، 420، 501، 512، 532. 9/ 420، 554، 574. أم سليم: 6/ 382، 7/ 377. 8/ 126. أم سنان الأسلمية: 9/ 471. أم شريك بن جابر: 5/ 277، 7/ 404. أم صالح: 8/ 236. أم عطية: 6/ 441. 7/ 236، 377. 8/ 245. 9/ 289. أم عمار بن ياسر: 2/ 150. أم عمارة الأنصارية: 6/ 303. 7/ 384. أم عمرو: 9/ 8. أم الفضل: 8/ 69. أم كلثوم بنت عقبة: 4/ 226، 477. 7/ 386. 9/ 280. أم كلثوم بنت عمرو بن جرول: 9/ 284. أم مالك بن صعصعة: 2/ 86، 91، 92. أم مبشر: 8/ 599. أم مجمع: 7/ 380. أم مسطح: 8/ 382.

أم مهزول (امرأة بغي) : 8/ 366. أم هانىء بنت أبي طالب: 2/ 44، 84. 3/ 354. 7/ 402. 9/ 309. أم هشام بنت حارثة: 2/ 252. أم ورقة: 1/ 337. أم يعقوب: 8/ 244. الإمام أحمد: 1/ 78، 79، 81، 83، 269، 274، 287، 289، 304، 308، 309، 333، 335، 336، 337، 338، 339، 466، 506، 516، 540. 2/ 57، 69، 81، 83، 93، 97، 98، 114، 132، 133، 157، 161، 185، 200، 211، 247، 252، 261، 262، 274، 277، 278، 290، 291، 328، 331، 341، 349، 352، 371، 387، 411، 413، 459، 467، 474، 513، 514، 530، 537، 542، 563. 3/ 20، 73، 95، 167، 224، 357، 383، 506، 551. 4/ 9، 30، 87، 91، 105، 172، 173، 174، 188، 202، 218، 276، 311، 312، 333، 345، 348، 360، 373، 383، 422، 440، 465، 474، 492، 493، 520، 551. 5/ 22، 50، 104، 113، 114، 139، 140، 190، 197، 271، 272، 305، 319، 351، 377، 395، 414، 460، 478، 489، 539، 546. 6/ 8، 14، 32، 40، 48، 80، 86، 87، 112، 164، 204، 210، 212، 214، 267، 290، 291، 296، 301، 302، 303، 310، 315، 360، 378، 420، 424، 425، 441، 444، 450، 469، 498، 500، 502، 503، 522. 7/ 9، 31، 47، 84، 94، 99، 100، 176، 197، 202، 256، 261، 269، 273، 319، 325، 327، 337، 341، 380، 392، 393، 395، 396، 398، 405، 415، 427، 417. 8/ 14، 26، 40، 44، 60، 61، 63، 75، 76، 79، 81، 90، 118، 143، 144، 164، 182، 185، 208، 226، 232، 245، 255، 313، 356، 359، 376، 388، 396، 400، 456، 473، 481، 483، 503، 517، 520، 524، 550، 557، 566، 570، 575. 9/ 8، 15، 23، 35، 36، 41، 66، 67، 97، 100، 109، 113، 114، 120، 127، 137، 138، 195، 198، 210، 221، 225، 226، 227، 245، 274، 302، 304، 347، 359،

360، 377، 382، 393، 422، 470، 496، 536، 539، 573، 582. الإمام الطحاوي: 1/ 139. الإمام عبد بن حميد: 4/ 306. أمامة بن سهل: 1/ 72. أمامة بنت أبي العاص: 1/ 336. امرؤ القيس: 5/ 172. أمير المؤمنين (انظر علي بن أبي طالب) . أميمة بنت بشر: 9/ 280. أميمة بنت رقيقة: 2/ 401. أميمة بنت شرحبيل: 6/ 447. أميمة التيمية: 9/ 293، 294. أميمة (جارية عبد الله بن أبي بن سلول) : 8/ 416. أمينة بنت خلف: 4/ 251. أمية بن خالد: 1/ 71. أمية بن خلف: 1/ 538. 2/ 206. 3/ 78. 5/ 160، 430. 9/ 367. أمية بن الصلت: 2/ 535. 3/ 136. 6/ 27. أمية بن قلع: 9/ 433. اندراوس (تلميذ المسيح) : 4/ 399. 7/ 151. أنس بن عياض: 9/ 91. أنس بن مالك: 1/ 76، 99، 120، 208، 210، 217، 288، 308، 329، 330، 332، 337، 371، 383، 410، 461، 484، 487. 2/ 12، 13، 25، 39، 49، 50، 69، 85، 88، 91، 92، 112، 156، 160، 184، 231، 273، 274، 277، 288، 379، 381، 383، 411، 412، 467، 530، 558. 3/ 20، 37، 42، 81، 96، 115، 164، 270، 514. 4/ 35، 54، 187، 202، 211، 306، 339، 350، 374، 382، 396، 397، 467، 475، 533، 549. 5/ 78، 80، 123، 141، 143، 159، 198، 230، 235، 297، 302، 308، 354، 414، 421، 483، 535. 6/ 14، 118، 122، 164، 187، 201، 221، 260، 274، 307، 335، 359، 361، 382، 396، 397، 408، 512. 7/ 17، 44، 189، 197، 202، 228، 288، 318، 319، 343، 344، 352، 366، 377، 380، 392، 408، 409، 418. 8/ 128، 143، 190، 207، 214، 225، 226، 236، 316، 335، 418، 426، 451، 480، 484، 505، 518، 519، 533، 546، 578، 585، 603، 608. 9/ 62، 63، 64، 66، 102، 137، 140، 208،

- ب -

210، 223، 224، 225، 240، 292، 302، 356، 359، 377، 382، 387، 388، 423، 424، 443، 469، 583، 585. أنيس: 8/ 355. الأودي: 4/ 187. أوريا: 1/ 223. 2/ 307. الأوزاعي: 2/ 328، 413. 3/ 166. 4/ 372. 8/ 378. أوس بن الصامت: 8/ 469، 470. أوس بن قيظي: 9/ 449. إياس بن سلمة: 8/ 599. إياس بن عبد الله: 8/ 109. إيزابيل (بنت ملك صور) : 4/ 228. 7/ 281. أيفع بن عبد الكلاعي: 5/ 338. إيليا: (انظر إلياس) . الأيهم (صاحب رحل وفد نجران) : 7/ 109. أيوب عليه السلام: 1/ 102، 168، 224، 225، 396، 522. 2/ 305، 323، 324، 325، 327، 333، 482، 486. 3/ 52، 54. 4/ 116، 398. 5/ 31، 282. 8/ 283. - ب- البارقليط (المعزى) : 2/ 464، 465. 8/ 570. باروك (نبي) : 4/ 399. باعوراء بن ناحور بن تارح: 4/ 247. بتر (ابن إبليس) : 1/ 230. بجيلة: 6/ 212. بحيرا الراهب: 3/ 324. 6/ 234. البخاري: 1/ 17، 39، 68، 78، 79، 80، 81، 82، 83، 90، 92، 99، 120، 149، 154، 166، 175، 193، 207، 208، 272، 287، 291، 308، 315، 316، 332، 333، 334، 335، 336، 337، 338، 350، 351، 357، 366، 369، 370، 407، 410، 411، 435، 441، 456، 467، 478، 492، 513، 539، 540، 542، 552، 555. 2/ 9، 12، 39، 45، 50، 53، 57، 68، 70، 76، 85، 86، 88، 89، 91، 92، 94، 108، 113، 114، 133، 135، 154، 172، 173، 195، 199، 234، 236، 247، 251، 261، 262، 284، 287، 291، 310، 311، 321، 322، 328، 359، 371، 375، 380، 381، 382، 385، 386، 397، 399، 400، 411، 413، 467، 473، 476، 537، 555، 559. 3/ 8، 11، 17، 30، 74، 101، 115، 123، 168،

169، 210، 223، 251، 270، 327، 354، 381، 382، 388، 403، 417، 421، 422، 440، 470، 504، 523، 539، 546. 4/ 9، 59، 60، 73، 74، 100، 101، 102، 105، 113، 146، 174، 180، 187، 192، 193، 195، 225، 232، 249، 252، 263، 276، 281، 338، 340، 349، 366، 373، 378، 382، 422، 458، 459، 461، 474، 477، 486، 533، 540، 542، 569. 5/ 11، 16، 25، 49، 89، 104، 109، 110، 140، 141، 155، 156، 159، 180، 190، 198، 200، 201، 211، 232، 235، 243، 280، 305، 326، 361، 369، 395، 400، 401، 417، 418، 460، 489، 509، 535، 545. 6/ 13، 16، 18، 22، 27، 39، 41، 42، 46، 48، 85، 86، 88، 104، 110، 111، 120، 137، 164، 166، 184، 201، 204، 212، 232، 241، 249، 255، 256، 257، 260، 271، 274، 286، 295، 305، 308، 309، 312، 318، 324، 336، 341، 352، 353، 354، 355، 357، 376، 381، 386، 396، 403، 405، 408، 418، 431، 440، 444، 451، 465، 479، 493، 500، 504، 515، 518. 7/ 19، 34، 57، 58، 70، 84، 86، 89. 92، 103، 119، 134، 158، 162، 164، 173، 176، 189، 192، 197، 225، 240، 246، 270، 272، 286، 295، 318، 319، 320، 328، 335، 343، 356، 365، 377، 395، 396، 409، 412، 414. 8/ 10، 13، 35، 38، 39، 52، 56، 69، 70، 71، 75، 96، 98، 109، 118، 124، 126، 128، 131، 134، 135، 149، 151، 169، 188، 191، 192، 194، 200، 204، 205، 212، 214، 217، 218، 226، 232، 244، 245، 246، 255، 269، 297، 306، 325، 332، 339، 354، 375، 376، 398، 426، 440، 462، 498، 516، 518، 520، 531، 533، 559، 567، 568، 577، 587، 603، 610. 9/ 17، 33، 36، 39، 49، 50، 56، 57، 60، 62، 63، 64، 65، 66، 68، 78، 94، 103، 109، 113، 114،

119، 128، 137، 152، 162، 177، 189، 223، 224، 234، 240، 241، 245، 251، 269، 283، 286، 288، 294، 302، 310، 311، 346، 348، 359، 364، 382، 387، 388، 389، 396، 410، 421، 422، 423، 424، 425، 431، 441، 443، 444، 453، 458، 469، 504، 505، 533، 570، 571، 588. البختري: 9/ 284. بختنصر: (انظر نبوخذ نصر) . بديل بن ورقاء: 9/ 310. بديل السهمي: 9/ 251. البراء بن عازب: 1/ 79. 2/ 185، 262، 394. 3/ 42. 4/ 375. 5/ 232، 233، 236، 281. 6/ 48، 255، 260، 312، 324، 485، 486. 7/ 226، 318، 366. 8/ 63، 184، 325، 360، 516. 9/ 66، 134، 135. البراء بن معرور: 7/ 38. برتلماوس (تلميذ المسيح) : 4/ 399. 7/ 151. برهان الدين البقاعي: 1/ 548. 6/ 501، 504، 505. بروع بنت عقبة: 9/ 284. بروع بنت واشق: 8/ 74. بريدة: 1/ 343. 2/ 38، 85، 185، 379. 5/ 155، 281. 6/ 334، 451، 500، 502. 7/ 261، 318. 9/ 36، 50، 66، 224، 226، 356، 411. بريرة: 8/ 383. البزار: 1/ 444. 2/ 386. 5/ 114، 139. 6/ 489. 7/ 377. 8/ 8، 208. 9/ 35، 245، 471، 536، 574. بسيسة: 8/ 519. بشر بن إسماعيل: 1/ 289. بشر بن البراء: 6/ 196. 8/ 603. بشر (من بني أبيرق) : 8/ 230. بشير (من بني أبيرق) : 8/ 230، 235، 236، 241. البغوي: 1/ 82، 84، 216، 354، 355، 356، 358، 411. 2/ 23، 50، 51، 52، 53، 83، 160، 161، 190، 231، 238، 243، 244، 284، 287، 321، 341، 359، 413، 414، 416، 418، 498، 547، 558. 3/ 11، 22، 30، 40، 43، 114، 126، 207، 253، 264، 326، 353، 355، 396، 414، 416، 420، 424، 425، 427، 429، 460، 461، 462، 475، 514، 539، 546.

4/ 43، 63، 64، 65، 72، 102، 109، 168، 172، 180، 197، 199، 222، 262، 281، 288، 303، 304، 307، 311، 313، 315، 324، 333، 345، 354، 373، 374، 387، 405، 412، 415، 422، 436، 439، 440، 444، 465، 467، 492، 504، 515، 541، 551، 556، 571. 5/ 11، 12، 17، 18، 22، 31، 73، 74، 88، 89، 108، 110، 111، 117، 118، 122، 125، 176، 194، 229، 243، 258، 260، 277، 302، 308، 321، 326، 330، 341، 350، 352، 363، 372، 375، 405، 420، 436، 468، 472، 482، 483، 484، 498، 500، 502، 509، 533، 534، 535، 547، 551، 552. 6/ 7، 18، 19، 30، 32، 48، 58، 90، 97، 104، 115، 119، 120، 505. 7/ 12، 55، 56، 66، 72، 79، 256، 335، 349، 352، 382، 401، 403، 417، 418. 8/ 82، 121، 300، 303، 304، 311، 317، 331، 339، 340، 342، 372، 378، 401، 414، 429، 447، 448، 454، 481، 511، 512، 518، 531، 533، 575، 578، 591. 9/ 8، 15، 19، 21، 41، 47، 57، 64، 102، 116، 122، 130، 131، 138، 160، 181، 194، 197، 228، 231، 245، 248، 269، 298، 301، 314، 316، 317، 321، 343، 350، 364، 372، 380، 394، 399، 425، 426، 430، 448، 449، 453، 486، 490، 491، 520، 544، 545، 555، 560، 561، 564، 574. البقاعي: (انظر برهان الدين) . البلاذري: 7/ 352. 8/ 602. 9/ 396. بلال بن الحارث: 2/ 115. بلال (مؤذن الرسول) : 1/ 338. 2/ 173. 4/ 97. 5/ 65. 6/ 310. 7/ 293، 325، 342، 343. 8/ 501، 521. 9/ 312، 586. البلخي: 4/ 372. بلعام (قين) : 5/ 183. بلعم بن باعوراء: 2/ 535. بلقيس: 1/ 222. بليا بن ملكان: 5/ 88. بنيامين (ابن يعقوب) : 2/ 449. 6/ 165. بهز بن حكيم: 2/ 278. 4/ 253. 7/ 214. 9/ 470.

- ت -

بولس: 3/ 26. بيرونس (أحد أصحاب الكهف) : 5/ 57. البيضاوي: 1/ 121، 219. 2/ 532. 3/ 523. 6/ 7، 500، 504. البيهقي: 1/ 17، 71، 77، 84، 216، 287، 333. 2/ 115، 274، 359، 386. 3/ 20، 353. 4/ 146. 5/ 50، 140. 6/ 42، 110، 124، 313، 314، 399، 403، 429. 7/ 52، 110، 336، 338. 8/ 8، 60، 76، 84، 401، 578. 9/ 68، 574. - ت- تارح (والد إبراهيم) : 4/ 120. تاويل: 1/ 220. تبّع: 2/ 229. 4/ 551. تدارس (تلميذ المسيح) : 4/ 399. 7/ 151. الترمذي: 1/ 78، 271، 287، 289، 290، 291، 308، 304، 308، 320، 321، 329، 330، 332، 333، 334، 335، 336، 337، 338، 339، 343، 345، 361، 362، 369، 370، 371، 382، 383، 388، 407، 411، 419، 420، 431، 435، 438، 441، 442، 444، 446، 454، 461، 467، 478، 484، 487، 496، 500، 506، 513، 514، 527، 532، 540، 542، 543، 552. 2/ 9، 12، 13، 16، 22، 23، 24، 25، 38، 39، 57، 68، 69، 70، 76، 85، 98، 106، 107، 109، 113، 114، 115، 130، 131، 133، 135، 140، 144، 155، 156، 157، 161، 173، 177، 184، 195، 200، 236، 261، 262، 263، 273، 274، 277، 287، 288، 289، 291، 292، 300، 310، 311، 340، 352، 353، 359، 370، 379، 380، 381، 382، 385، 386، 387، 399، 400، 401، 409، 411، 412، 424، 451، 452، 455، 456، 459، 471، 473، 513، 526، 531، 537، 541، 550، 542، 555، 558، 559، 561، 566، 567. 3/ 8، 17، 20، 23، 40، 41، 73، 74، 95، 96، 100، 123، 155، 168، 169، 178، 193، 196، 210، 223، 224، 270، 295، 327، 353، 363، 381، 382، 383، 387، 394، 397، 403، 420، 421، 422، 423، 425، 436، 462، 440،

3، 484، 506، 514، 536، 538، 539، 548، 549. 4/ 10، 11، 29، 46، 50، 54، 73، 74، 84، 85، 87، 91، 105، 106، 113، 144، 146، 157، 172، 173، 174، 187، 195، 196، 199، 201، 202، 206، 211، 218، 226، 232، 243، 249، 253، 281، 297، 306، 319، 344، 356، 375، 378، 382، 384، 385، 412، 422، 458، 459، 460، 461، 474، 475، 477، 478، 486، 492، 516، 519، 524، 527، 532، 533، 534، 540، 542، 549. 5/ 11، 22، 49، 50، 67، 73، 80، 81، 85، 102، 103، 110، 112، 114، 118، 123، 125، 127، 139، 140، 141، 149، 155، 180، 190، 194، 197، 204، 230، 235، 236، 251، 252، 272، 277، 278، 281، 297، 298، 301، 302، 312، 317، 320، 335، 350، 351، 373، 397، 401، 425، 430، 431، 443، 502، 509، 510، 524، 534، 535، 537، 539، 552. 6/ 8، 21، 32، 41، 42، 43، 46، 85، 88، 110، 111، 112، 118، 137، 164، 166، 187، 188، 221، 227، 229، 240، 255، 256، 257، 258، 261، 271، 273، 275، 286، 289، 291، 295، 298، 302، 303، 307، 309، 314، 317، 318، 322، 335، 353، 358، 361، 364، 378، 386، 394، 396، 398، 399، 400، 402، 406، 408، 410، 414، 420، 423، 426، 431، 432، 441، 444، 450، 451، 468، 485، 488، 497، 513، 515، 518. 7/ 10، 19، 32، 46، 58، 70، 84، 85، 88، 90، 91، 103، 119، 147، 156، 158، 159، 161، 166، 167، 173، 189، 191، 201، 202، 214، 228، 246، 247، 256، 259، 260، 268، 276، 288، 289، 292، 295، 301، 312، 318، 319، 335، 339، 342، 349، 355، 374، 377، 379، 381، 384، 392، 395، 402، 408، 409، 414، 417، 426. 8/ 10، 21، 34، 35، 37، 38، 39، 40، 41، 45، 50، 53، 62، 68، 69، 71، 72، 74، 76، 78،

- ث -

79، 84، 89، 94، 97، 98، 109، 120، 121، 123، 125، 126، 127، 144، 148، 148، 151، 164، 165، 170، 182، 188، 190، 191، 192، 194، 200، 204، 207، 208، 211، 212، 214، 219، 220، 225، 226، 230، 231، 236، 245، 249، 253، 269، 297، 305، 309، 315، 325، 331، 332، 342، 345، 354، 360، 362، 366، 373، 375، 376، 384، 385، 388، 397، 398، 399، 401، 406، 407، 415، 425، 426، 427، 441، 442، 460، 462، 466، 471، 474، 479، 480، 484، 485، 486، 488، 494، 502، 509، 510، 514، 518، 519، 521، 531، 534، 552، 557، 559، 585، 608. 9/ 8، 14، 15، 23، 27، 36، 37، 39، 41، 49، 50، 60، 62، 65، 63، 64، 66، 88، 100، 109، 113، 114، 119، 140، 156، 177، 183، 186، 197، 198، 208، 212، 221، 222، 223، 224، 225، 240، 241، 242، 247، 251، 255، 260، 269، 283، 285، 286، 288، 290، 293، 294، 299، 302، 312، 339، 340، 346، 352، 356، 364، 377، 382، 396، 410، 411، 417، 420، 421، 423، 424، 440، 441، 443، 444، 459، 462، 464، 465، 468، 475، 495، 503، 506، 509، 510، 519، 527، 536، 539، 545، 549، 561، 562، 573، 585، 586. التستري: 3/ 33. 8/ 122. تميم الداري: 3/ 303، 324. 4/ 384، 388. 8/ 566. 9/ 251. توما (تلميذ المسيح) : 4/ 399. 7/ 151. التيمي: 2/ 179. - ث- ثابت بن الدحداحة: 9/ 280. ثابت بن الضحاك: 6/ 274. 9/ 113. ثابت بن عامر: 8/ 368. ثابت بن قيس: 4/ 168. 6/ 418، 424، 426. 8/ 498، 521. ثابت البناني: 8/ 190. ثعلبة: 1/ 356. ثعلبة بن حاطب: 9/ 501، 502. ثعلبة بن سعيد: 8/ 282. ثعلبة بن شعيا: 6/ 165.

- ج -

الثعلبي: 1/ 216. 2/ 403. الثلاثة (أبو داود، الترمذي والنسائي) : 1/ 287. 2/ 157، 379، 380، 382. 4/ 422. 6/ 405. 8/ 427. 9/ 42، 382. ثمامة بن أثال: 2/ 380. 8/ 305، 427، 453. ثوبان: 2/ 370. 4/ 105، 339. 5/ 546. 6/ 126، 381، 424. 8/ 388، 441. 9/ 423. ثويبة: 8/ 68. - ج- جابر بن عبد الله: 1/ 125، 216، 308، 338، 343، 441، 442، 454، 484، 505. 2/ 87، 95، 132، 179، 289، 328، 370، 380، 382، 386، 558، 567. 3/ 74، 353، 354، 355، 421. 4/ 105، 174، 180، 199، 354، 356، 532. 5/ 49، 123، 125، 141، 482، 483، 547. 6/ 106، 229، 260، 261، 271، 307، 315، 396، 465، 497، 504. 7/ 37، 181، 202، 225، 258، 266، 269، 320، 335، 344، 398. 8/ 34، 35، 79، 80، 82، 83، 89، 119، 135، 170، 191، 208، 224، 246، 252، 295، 325، 396، 398، 416، 426، 462، 517، 519، 583، 599. 9/ 17، 23، 36، 42، 54، 62، 68، 113، 114، 120، 160، 183، 184، 222، 234، 242، 356، 393، 394، 540، 578. جابر بن زيد: 1/ 12. 8/ 63. 9/ 135. جابر بن سمرة: 8/ 98. جاد (ابن يعقوب) : 2/ 449. الجارود العبدي: 3/ 324. جالوت: 1/ 168، 396. 2/ 306، 486. 6/ 459، 463. الجبائي: 1/ 236. 3/ 512. 4/ 459. جبر (عبد كان يصنع السيوف) : 1/ 175. 4/ 125. جبرا (رومي من صناع مكة) : 3/ 50، 51. 5/ 183، 187. جبرائيل: (انظر جبريل) . جبريل عليه السلام: 1/ 37، 38، 41، 42، 215، 221، 223، 228، 245، 247، 254، 258، 259، 260، 264، 292، 309، 328، 329، 467، 551، 552. 2/ 10، 12، 52، 57، 75، 76، 80، 81، 84، 85، 86، 87، 88، 89، 90، 91، 93، 96، 98، 124، 125، 129، 130، 136، 137، 195،

196، 200، 288، 465، 495، 512، 513، 515، 555. 3/ 12، 40، 62، 133، 144، 148، 158، 168، 169، 170، 184، 203، 259، 261، 262، 268، 277، 354، 397، 411، 412، 425، 515، 516. 4/ 51، 61، 69، 85، 100، 136، 187، 221، 296، 319، 325، 333، 398، 467، 484، 485، 526، 527. 5/ 98، 100، 174، 175، 176، 184، 185، 255، 309، 361، 394، 409، 502. 6/ 188، 191، 192، 197، 198، 199، 200، 201، 202، 203، 204، 210، 254، 303، 356، 463، 521. 7/ 20، 39، 256، 367. 8/ 104، 124، 144، 250، 518، 531، 534، 535. 9/ 26، 62، 71، 160، 162، 184، 256، 259، 265، 301، 328، 347، 363، 510، 511، 591. جبلة بن الأيهم: 5/ 238. جبير بن مطعم: 3/ 74، 381. 5/ 369. 7/ 57، 58، 236، 392. 8/ 10، 568. 9/ 23. جبير بن نفير: 9/ 8. الجد بن قيس: 9/ 449، 450. جرير بن عبد الله: 2/ 115، 199، 251. 4/ 201. 8/ 219، 220، 401. جزء بن جابر: 8/ 286. جعدة بن يحيى: 5/ 495. جعفر بن أبي طالب: 2/ 403. 3/ 331. 4/ 255، 307. 6/ 233، 234. 7/ 62. 8/ 602. 9/ 203، 401. جعفر بن أبي محمد: 5/ 346. جعفر بن القاسم: 4/ 517. جعفر الصادق (انظر أبو عبد الله جعفر بن محمد) . الجلاس بن سويد: 9/ 487، 498. جلال الدين السيوطي: (انظر السيوطي) . جلال الدين المحلّي: 1/ 11. الجلندي الأزدي: 5/ 88. جمال القاسمي: (انظر القاسمي) . جميلة بنت أبي: 6/ 418. جميلة زوجة ثابت بن قيس: 6/ 424، 426. جندب الأزدي: 6/ 212. جندب بن جنادة: (انظر أباذر) . جندب بن ضمرة: 8/ 217. جندب بن عبد الله البجلي: 2/ 459. 8/ 98. جواد علي: 1/ 293. جويرية بنت الحارث المصطلقية: 1/ 513. 7/ 374، 375، 402، 405. 8/ 306.

- ح -

- ح- حاجب بن زرارة: 6/ 24. الحارث الأزدي: 9/ 400. الحارث الأعور: 2/ 526. 3/ 363، 364. الحارث بن خزيمة: 9/ 569. الحارث بن عبد العزى: 7/ 164. الحارث بن عثمان بن نوفل: 3/ 330. الحارث بن عمر: 8/ 448. الحارث بن عمرو: 4/ 262. الحارث بن مالك: 9/ 312. الحارث بن النضر: 4/ 254. الحارث بن نوفل: 9/ 348. الحارث بن هشام: 1/ 41، 467. 4/ 486. 7/ 228. 8/ 521. الحارث الغامدي: 6/ 26. الحارث المحاسبي: 1/ 84. حارثة بن وهب: 1/ 371. 2/ 455. 3/ 383. حاطب بن أبي بلتعة: 7/ 34، 138. 9/ 269، 270، 271، 380، 502. الحافظ أبو بكر الإسماعيلي: 6/ 8. الحافظ أبو يعلى (انظر أبو يعلى) . الحافظ البزار (انظر أبو بكر البزار) . الحافظ بن عدي: 4/ 146. الحافظ بن عساكر: (انظر ابن عساكر) . الحافظ الجوزجاني: 6/ 429. الحاكم: 1/ 70، 73، 77، 78، 81، 83، 84، 92، 258، 259، 287، 288، 289، 333، 335، 337، 338، 350. 2/ 157، 289، 386، 411، 412، 467، 474، 541، 550. 3/ 95، 383، 484. 4/ 173، 174، 187، 218، 383، 388، 422، 520. 5/ 50، 109، 297، 312، 351، 502. 6/ 8، 42، 110، 124، 229، 257، 258، 285، 298، 302، 310، 314، 317، 378، 399، 413، 429، 432. 7/ 11، 186، 201، 208، 258، 261، 289، 336، 337، 341. 8/ 8، 40، 60، 78، 79، 84، 109، 149، 182، 415، 426. 9/ 8، 118، 195، 242، 359، 420، 470، 479. حام (ابن نوح) : 1/ 475. 2/ 479. 4/ 218، 401، 444. الحباب بن المنذر: 7/ 91. حبقوق (نبي) : 4/ 399. حبيب بن عمرو بن عمير: 4/ 502. حبيب النجار: 3/ 26. حبيش بن الأشعر: 9/ 310. الحجاج: 1/ 93، 94، 95. 2/ 172. 6/ 275. حجاي (نبي) : 4/ 399. الحداد (الأب يوسف دره) : 2/ 492،

493، 496، 502، 505، 507، 508، 510، 511، 513، 514، 515، 516. 3/ 156، 159. 8/ 278، 293. حذيفة بن اليمان: 1/ 76، 81، 82، 91، 332، 369. 2/ 290، 537. 4/ 289، 385، 437، 540. 5/ 198، 200. 6/ 503. 7/ 32، 169. 8/ 450، 523. 9/ 198، 373، 417، 526. حذيفة الغفاري: 3/ 30. 4/ 195، 540. 5/ 103. حذيفة الكناني: 9/ 433. حرام: 5/ 281. الحرب بن عبد كلال: 9/ 411. الحرث بن سويد: 7/ 185، 186. الحرث بن عامر: 2/ 255. الحرث بن يزيد العامري: 8/ 203. حرملة بن عمران: 1/ 537. 9/ 527. حرملة بن عمرو: 9/ 518. حزقيا: 2/ 482. حزقيال: 4/ 399. 5/ 105. حزقيل (النبي) : 6/ 457. حسان بن ثابت: 3/ 277. 8/ 235، 385. حسان بن المخارق: 8/ 518. الحسن بن سفيان: 7/ 288. الحسن بن عرفة: 5/ 308. الحسن بن علي: 1/ 238، 239، 243، 311، 333، 551. 2/ 130. 4/ 459. 6/ 160، 180. 7/ 57، 159، 160، 161، 162، 379، 380، 382. 8/ 487. 9/ 115. الحسن بن عمارة: 7/ 287. الحسن البصري: 1/ 80، 125، 211، 215، 216، 218، 252. 2/ 161، 164، 274، 348، 413، 550. 3/ 237، 253، 402، 462. 4/ 32، 172، 444، 458، 459، 465، 536. 5/ 27، 88، 281، 511. 6/ 254، 426، 432، 447، 498. 7/ 69. 8/ 63، 134، 246، 278، 367. 9/ 15، 47، 96، 98، 108، 129، 131، 135، 148، 159، 181، 248، 380، 497، 503، 535، 562. الحسن العسكري (أحد الأئمة الاثني عشر) : 3/ 248. حسين الأشقر: 4/ 459. حسين بن الحارث: 6/ 309. الحسين بن علي: 1/ 238، 239، 241، 243، 244، 311، 551، 552. 2/ 164. 4/ 459، 549، 550. 5/ 412. 6/ 160، 180، 267، 314. 7/ 159، 160، 161، 162، 379، 380، 382. 9/ 115.

- خ -

حصين بن مالك: 4/ 458، 460. 7/ 380. الحطم بن هند البكري: 9/ 19. حفص بن حميد: 5/ 328. حفص بن سليمان بن المغيرة الأسدي: 1/ 14. حفصة: 1/ 68، 75، 76، 82، 85، 91، 97. 3/ 173. 7/ 338، 372، 374، 375، 401، 402. 8/ 335، 531، 532، 533، 534، 542، 599. 9/ 21. الحكم بن أمية: 3/ 404. 4/ 173. الحكم بن بشير: 5/ 57. الحكم بن عيينة: 7/ 288. حكيم بن حزام: 2/ 179. 5/ 260. 8/ 97. 9/ 310. حكيم بن معاوية: 8/ 313. حماد بن زيد: 6/ 426. حمالة الحطب (أم جميل أخت أبي سفيان زوجة أبي لهب) : 1/ 495، 497، 498. حمزة الأسلمي: 6/ 307. حمزة بن حبيب الزيات: 1/ 136. 4/ 320، 444. حمزة بن عبد المطلب: 1/ 414. 2/ 403. 3/ 331، 335. 4/ 152، 338، 366. 5/ 18، 160، 204، 533. 6/ 30، 31. 7/ 18، 62، 236. 8/ 138. 9/ 321، 322. حمنة بنت جحش: 6/ 400، 401. 8/ 385. حميدة بنت أبي أويس: 1/ 72. الحنبلي: (انظر أحمد بن حنبل) . حنظلة بن أبي سفيان: 7/ 93. حنظلة بن صفوان (نبي الرس) : 2/ 227. 5/ 341. حواء: 1/ 213، 215. 2/ 345، 346، 367، 368، 478، 486، 550، 551. 3/ 269. 4/ 301. 6/ 159. 8/ 524. حوباب بن رعوئيل المديني: 9/ 309. حويطب بن عبد العزى: 1/ 175. 8/ 416. حيي بن أخطب: 6/ 218. - خ- خارجة بن حذافة: 1/ 335. خارجة بن زيد: 1/ 76. الخازن: 1/ 121، 167، 209، 213، 214، 214، 215، 216، 217، 219، 354، 395. 2/ 53، 54، 238، 556. 3/ 264، 475، 523. 4/ 43، 63، 94، 109، 281، 307، 355، 466، 467، 515. 5/ 88، 89، 260، 524، 527. 6/ 7، 138، 255، 322، 417،

445، 453، 465، 485. 7/ 45، 129، 131، 175، 208، 240، 262، 275، 276، 287، 312، 416، 424. 8/ 54، 63، 64، 82، 101، 109، 135، 144، 145، 169، 174، 245، 267، 270، 289، 300، 311، 312، 342، 394، 395، 531، 533. 9/ 64، 96، 118، 120، 130، 136، 138، 160، 172، 248، 249، 292، 320، 394، 427، 524، 562، 563. خالد بن حرام: 8/ 217. خالد بن سعيد بن العاص: 3/ 331. 4/ 251، 255. خالد بن سنان العبسي: 5/ 341. خالد بن معدان: 6/ 8. خالد بن الوليد: 4/ 174، 327. 5/ 18، 123. 6/ 493. 7/ 235. 8/ 150، 151، 222، 502، 579، 583، 605. 9/ 302، 304، 307، 310، 311، 385، 401، 409، 441. خباب بن الأرت: 3/ 179. 4/ 466. 5/ 187. 6/ 376. 9/ 322. خديجة أم المؤمنين: 1/ 40، 41، 176، 328، 329، 366، 442، 550، 552، 554. 4/ 287. 5/ 24، 287، 326، 363، 493، 551. 7/ 37، 351. 9/ 322. الخراساني: 1/ 312. خريم بن فاتك: 5/ 401. خزيمة بن ثابت الأنصاري: 1/ 76. 8/ 209. 9/ 67. الخضر عليه السلام: 1/ 219. 5/ 83، 84، 85، 86، 88، 89، 94، 97. 6/ 475. الخطابي: 1/ 67، 91، 96. الخطيب بن مرزوق: 6/ 128. خلاد بن النعمان: 8/ 339. خلف البزاز: 1/ 136. 4/ 320. الخليل بن أحمد الفراهيدي: 1/ 14. الخمسة (البخاري، مسلم، أبو داود، الترمذي، والنسائي) : 1/ 287، 291، 333، 334، 335، 336، 338، 339، 344، 351، 437، 438، 439، 446، 467، 515، 566. 2/ 49، 114، 133، 134، 135، 156، 173، 179، 261، 288، 310، 379، 380، 382، 383، 386، 387، 401. 3/ 332، 356، 385. 4/ 112، 174، 175، 250، 374، 375، 474. 5/ 123، 169، 190، 401. 6/ 41، 42، 110، 111، 188، 212، 229، 260، 261، 274، 289، 296، 301، 302، 303، 305، 307، 309،

- د -

310، 313، 314، 319، 322، 358، 386، 391، 399، 400، 401، 405، 406، 420، 443، 494، 495، 519، 520. 7/ 25، 31، 54، 59، 100، 176، 189، 197، 202، 203، 226، 240، 339، 343، 344. 8/ 21، 27، 39، 45، 46، 51، 67، 68، 69، 70، 74، 75، 77، 78، 81، 82، 92، 93، 110، 97، 110، 127، 128، 133، 146، 154، 190، 219، 224، 225، 232، 265، 354، 355، 359، 360، 363، 364، 396، 400، 409، 412، 425، 426، 427. 9/ 16، 21، 33، 39، 50، 59، 60، 61، 63، 66، 67، 107، 113، 114، 118، 119، 137، 212، 221، 224، 225، 233، 234، 291، 292، 293، 311، 356، 470، 477، 484، 524، 579. خنساء بن خدام: 8/ 75. خنوخ: (انظر إدريس) . خولة بنت حكيم: 7/ 404. 8/ 83. خولة بنت مالك بن ثعلبة: 8/ 469، 470. - د- دارا الثالث: 5/ 99. دارا الكبير: 5/ 98، 99. الدارقطني: 1/ 287، 288، 337. 2/ 386. 5/ 140. 6/ 229، 309، 352. 8/ 69، 208. 9/ 14، 123، 479. الدارمي: 6/ 501، 504. داسم (ابن إبليس) : 1/ 230. دانيال: 4/ 399. 5/ 98، 99، 100. داود عليه السلام: 1/ 102، 168، 222، 223، 241، 396، 522. 2/ 303، 305، 306، 307، 308، 309، 312، 313، 316، 319، 333، 473، 484، 486، 487، 488. 3/ 52، 54، 82، 83، 286، 288، 290، 395، 396، 436. 4/ 116، 264، 269، 270، 271، 275، 398. 5/ 254، 278، 279، 280، 281. 6/ 22، 210، 463، 466. 8/ 283. 9/ 196، 197. دبوره (نبي بني إسرائيل) : 4/ 399. دحية الكلبي: 2/ 467. 7/ 163. 8/ 603. 9/ 400. درة بنت أبي سلمة: 8/ 68. دريد بن الصمة: 9/ 390. دقليانوس: 5/ 57، 59.

- ذ -

دقنيوس: (انظر دقليانوس) . دهية (أبو معمر) : 7/ 349. ديلم الحميري: 9/ 222. الديلمي: 1/ 311. 4/ 369. 7/ 289. 8/ 62. دينموس (أحد أصحاب الكهف) : 5/ 57. ديودور الصقلي: 2/ 175. - ذ- الذهبي: 1/ 309، 312، 312، 546. 2/ 57، 321، 517. 4/ 41. ذو الخويصرة حرقوص بن زهير: 9/ 458، 459. ذو القرنين (الإسكندر) : 1/ 163، 171، 172، 219، 225، 551. 3/ 169. 5/ 50، 88، 90، 91، 92، 94، 95، 96، 97، 98، 99، 100، 101، 102، 290. ذو الكفل: (انظر زكريا) . ذو نواس (ملك حمير) : 2/ 42، 145. ذو النون: (انظر يونس) . ذو اليدين: 1/ 335. - ر- الرازي: 1/ 97، 237، 238، 240، 249، 256. 2/ 56، 58. 6/ 211. 8/ 15، 182، 578. 9/ 229، 537. رافع بن حرملة: 9/ 87. رافع بن خديج: 7/ 226. 8/ 119، 252، 254. 9/ 33، 120، 388، 484. رافع بن مالك: 7/ 37، 38. راؤيين (ابن يعقوب) : 2/ 449. ربعي بن حراش: 4/ 295. الربيع بن أنس: 1/ 214، 217. 5/ 127. 6/ 519. 9/ 14، 16. الربيع بنت معوّذ: 6/ 423، 424. 7/ 377. ربيعة بن أمية: 8/ 83. ربيعة بن عبد الله: 1/ 351. ربيعة بن يوسف: 6/ 70. ربيعة الراي: 8/ 447. رحبعام: 2/ 487. رحمن اليمامة: (انظر مسيلمة الكذاب) . رستم: 4/ 242، 502. 7/ 41. رشيد رضا: 1/ 17. 2/ 201، 248، 249، 413، 414، 425، 452، 465، 532، 538، 540، 556، 562. 3/ 261، 484، 539، 546، 547، 553. 4/ 102، 174. 5/ 181. 6/ 143، 156، 174، 211، 228، 319، 356، 364، 379، 380، 416، 491، 501، 505، 513. 7/ 140، 147، 157، 158، 221، 288، 289، 290. 8/ 18، 70، 53، 149، 161، 174، 182،

- ز -

188، 256، 274، 276، 277، 292، 569. 9/ 48، 50، 82، 96، 98، 112، 144، 150، 156، 214، 229، 565، 569، 570. رعمسيس الثالث: 3/ 318. رعمسيس الرابع: 3/ 318. رعمسيس السادس: 3/ 318. رعوئيل: 2/ 228. رفاعة بن زيد التابوت: 6/ 165. 8/ 138، 230. 9/ 160، 449. رفاعة بن عبد المنذر: 7/ 38. رفاعة القرظي: 6/ 420. رقية بنت الرسول صلّى الله عليه وسلم: 4/ 308. ركانة بن عبد يزيد: 6/ 420. رملة بنت أبي سفيان: 3/ 331. 4/ 251. رملة بنت أبي عوف: 4/ 251. الروح الأمين (انظر جبريل عليه السلام) . روح القدس (انظر جبريل عليه السلام) . ريحانة القرظية: 7/ 403. ريطة بنت الحارث: 3/ 332. - ز- زبولون (ابن يعقوب) : 2/ 449. الزبير بن العوام: 1/ 207، 208، 371. 2/ 16. 3/ 331. 4/ 255، 287، 308، 311، 324. 5/ 198. 7/ 28، 147، 271. 8/ 73، 160، 386، 507، 511، 519. 9/ 161، 269، 310، 311، 321، 373، 460. زر بن حبيش: 1/ 72، 97. 2/ 57، 76، 133. زرادشت: 1/ 474. 9/ 50. زرارة بن عدي: 4/ 369. 6/ 24. زكريا عليه السلام: 1/ 102. 2/ 305، 329، 331، 332، 333، 503، 505. 3/ 141، 142، 143، 144. 4/ 116، 398. 5/ 282، 283، 284. 6/ 202. 7/ 144، 147، 149، 151، 152، 153. الزمخشري: 1/ 104، 121، 135، 138، 175، 219، 234، 235، 236، 241، 267، 268، 309، 351، 352. 2/ 52، 53، 345، 359، 476، 499، 531، 538، 562. 3/ 8، 86، 87، 88، 181، 192، 244، 260، 264، 279، 393، 427، 428، 462، 475، 540. 4/ 43، 63، 102، 235، 281، 497، 546. 5/ 76، 260، 321، 354. 6/ 7، 58، 60، 426، 433، 451، 500، 501، 504، 506. 7/ 401. 8/ 56، 259، 286، 301، 367، 394، 455، 472، 474، 529، 531، 555، 578. 9/ 8، 28، 49، 50، 96، 116، 138، 165، 297، 320، 358،

- س -

393، 394، 427، 449، 574. زمران: 6/ 239. زنبور (ابن إبليس) : 1/ 230. زهرة بن معبد: 9/ 382. الزهري (ابن شهاب) : 1/ 67، 68، 69، 289. 3/ 12. 4/ 100. 5/ 281. 6/ 269، 411، 444. 7/ 163، 164، 287، 342، 349، 350. 8/ 53، 64، 69، 71، 378. 9/ 130، 132، 134، 252، 284، 286، 311، 474. زوبعة (من أسماء الجن) : 5/ 26. زؤي: 2/ 488. زياد بن راشد: 7/ 341. زياد بن عبد الله البكائي: 2/ 179. زياد (الشاهد على المغيرة) : 8/ 52. زيد بن أرقم: 1/ 154، 339. 2/ 50، 52، 328. 4/ 460. 6/ 451. 7/ 318، 341، 380. 8/ 460، 461، 462. 9/ 186. زيد بن أسلم: 4/ 108. 8/ 127. 9/ 19، 91، 292. زيد بن ثابت: 1/ 14، 41، 67، 68، 69، 72، 73، 76، 77، 79، 82، 82، 85، 90، 91، 96، 112، 214، 351. 2/ 515. 3/ 224. 5/ 143، 251. 6/ 21، 124، 128، 166، 415، 450. 7/ 94، 226. 8/ 38، 68، 194، 212، 356. 9/ 321، 570، 571. زيد بن حارثة: 1/ 435. 7/ 345، 385، 386، 387، 388، 389، 390، 391. 9/ 401، 440، 563. زيد بن خالد: 5/ 401. 6/ 303. 8/ 354. زيد بن عمرو بن نفيل: 1/ 344. 4/ 204. 311. 6/ 27، 28. زيد بن وهب: 9/ 373، 425. زيد الطائي: 9/ 458. زينب بنت أم سلمة: 6/ 440. 8/ 390. زينب بنت جحش: 1/ 208، 214. 5/ 104. 6/ 314. 7/ 374، 401، 386، 387، 388، 389، 390، 391، 403، 408، 409، 410. 8/ 384، 514، 531. 9/ 181، 182. زينب بنت خزيمة: 7/ 402، 403، 404، 409، 410. زينب بنت الرسول: 1/ 336. 6/ 393. 7/ 93. 9/ 286. - س- سارة (زوجة إبراهيم) : 2/ 169، 330. 5/ 242، 243. ساصر (من أسماء الجن) : 5/ 26. سالم بن عبد الله: 4/ 60.

سالم بن عمير: 7/ 284. 9/ 518. سالم (مولى أبي حذيفة) : 1/ 70، 337. 7/ 212. سالم (مولى عائشة) : 1/ 82. سام (ابن نوح) : 1/ 475. 2/ 479. 3/ 291. 4/ 218، 401، 444. السامري: 2/ 487. 3/ 200، 201، 202، 203، 204، 205. السائب بن عبيد بن هاشم: 7/ 61. السائب بن يزيد: 2/ 380. سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان: 3/ 291. سبرة الجهني: 1/ 333. 8/ 81. سبيعة الأسلمية: 6/ 442. 8/ 340. سبيعة بنت الحارث: 9/ 280. السخاوي: 1/ 260. السدي: 1/ 207، 214. 2/ 320، 394، 402، 419. 3/ 166، 361، 383. 4/ 114، 115، 373، 374، 418. 5/ 11، 128، 354. 6/ 225، 469. 7/ 72، 230، 276، 278. 8/ 35، 86، 258، 553. 9/ 19، 25، 134، 148، 162، 207، 342، 359، 371، 416، 441. سراقة بن مالك: 6/ 291. 7/ 40، 68. 8/ 197. 9/ 578. سراقة المدلجي: 9/ 354. سرجون: 3/ 360. سعد بن أبي وقاص: 3/ 470. 4/ 97، 105، 125، 251، 255، 276، 287، 311. 5/ 11، 12، 13، 277، 469. 6/ 281، 296، 489. 7/ 10، 76، 94، 159، 208، 271، 352، 380، 382. 8/ 172. 9/ 56، 57، 100، 220، 241، 321. سعد بن خيثمة: 7/ 38. سعد بن الربيع: 7/ 38. 8/ 35. سعد بن زرارة: 7/ 37، 38. سعد بن عبادة: 2/ 114. 6/ 42، 111. 8/ 375، 383. 9/ 86، 306، 310، 386. سعد بن معاذ: 6/ 216. 7/ 17، 33، 365، 368. 8/ 383، 428، 484، 485. سعد بن النعمان: 7/ 93. سعيد بن بشير: 4/ 444. سعيد بن جبير: 1/ 80، 81، 210، 211، 217. 2/ 13، 14، 155، 156، 348. 3/ 47، 103، 400، 401، 425. 4/ 281، 458، 459، 549. 5/ 83، 85، 94، 304، 364، 552. 6/ 55، 90. 7/ 79، 176، 382. 8/ 27، 207، 208، 553، 597. 9/ 358، 555، 591. سعيد بن حسان: 8/ 236.

سعيد بن زيد: 4/ 204، 255، 287، 311. 9/ 307. سعيد بن الصامت: 7/ 10. سعيد بن العاص: 1/ 76، 85. 3/ 331. 6/ 128. سعيد بن مسجوع: 5/ 538. سعيد بن المسيب: 1/ 80. 4/ 189. 6/ 111، 405، 411، 444، 503. 7/ 342. 8/ 64، 70، 71، 367، 378. 9/ 49، 161، 244، 543، 544. سعيد بن المنذر: 1/ 82. سفيان بن أسيد: 1/ 370. سفيان بن عقال: 9/ 248. سفيان بن عيينة: 1/ 211. 2/ 555. 9/ 351. سفيان الثوري: 2/ 53، 291، 413. 4/ 296. 5/ 11. 8/ 236، 378. 9/ 66. سلافة بنت سعد بن سمية: 8/ 235. سلام بن مشكم: 6/ 196. 8/ 603. سلمان بن صخر: 9/ 518. سلمان بن عامر: 6/ 122. 9/ 473. سلمان الضبي: 9/ 468. سلمان الفارسي: 2/ 411، 459. 3/ 324، 549. 4/ 304، 311، 396. 5/ 65، 183. 6/ 27، 69، 80، 173، 174، 317. 7/ 134، 330، 338، 366. 8/ 331، 515. 9/ 40، 160. سلمة بن الأكوع: 6/ 305. 8/ 520. 9/ 161. سلمة بن صخر البياضي: 8/ 473، 474، 475. سلمة بن هشام: 5/ 187، 468. 8/ 168، 217. سلمة بن يزيد الجعفي: 6/ 121. سليم بن عامر: 7/ 84. سليمان بن بلال: 2/ 89. سليمان بن صرد: 2/ 555. سليمان عليه السلام: 1/ 10، 162، 168، 216، 220، 221، 222، 223، 225، 396، 522. 2/ 63، 176، 305، 316، 317، 318، 319، 320، 321، 322، 333، 371، 383، 484، 486، 487. 3/ 52، 54، 279، 286، 287، 288، 289، 290، 352، 357. 4/ 116، 264، 269، 270، 271، 272، 275، 398. 5/ 278، 279، 280، 281، 282. 6/ 22، 206، 208، 209، 211، 469. 8/ 283. سمرة بن جندب: 2/ 92، 94، 550. 4/ 218. 5/ 109، 305. 6/ 164، 275. 7/ 226. 8/ 76.

- ش -

سمعان القانوني (حواري) : 4/ 399. 6/ 198. 7/ 151. سنحاريب: 3/ 360. سنية النضيرية: 7/ 403. سهل بن الحنظلية: 9/ 470. سهل بن حنيف: 2/ 277. 5/ 118. 8/ 576. سهل بن سعد الساعدي: 1/ 336، 542. 4/ 349، 504، 551. 5/ 74، 251، 417، 539. 7/ 301. 8/ 74، 396، 400، 603. 9/ 66، 161. سهل بن معاذ: 4/ 422، 474. سهلة بنت سهيل بن عمرو: 2/ 150. 3/ 332. 4/ 308. سهيل بن بيضاء: 4/ 308. سهيل بن عمرو: 8/ 580، 581. 9/ 367. سودة بنت زمعة: 1/ 209. 7/ 274، 275، 276، 402، 405. 8/ 252، 533. سويد بن الحرث: 9/ 160. سويد بن الصامت: 4/ 248. سويد بن غفلة: 1/ 77. سيار: 8/ 190. السيد محسن الأمين: 1/ 313. سيرين (مملوك أنس) : 8/ 418. السيوطي (جلال الدين) : 1/ 11، 12، 17، 70، 71، 72، 84، 124، 125، 135، 146، 202، 211، 242، 260، 261، 262، 263، 271. 2/ 58. 4/ 8. 5/ 216. 6/ 90. 7/ 35، 41، 288، 289. 8/ 8، 356، 361، 364، 370. 9/ 560. - ش- الشافعي: 1/ 83، 211، 271، 287، 351، 562، 563. 2/ 114، 413، 424، 425. 5/ 140، 308، 511. 6/ 412، 420. 7/ 197، 338، 398. 8/ 15، 64، 77، 79، 109، 133، 134، 161، 238، 304، 359، 360، 376، 378، 473. 9/ 40، 66، 67، 68، 122، 130، 138، 227، 234، 561. شاؤول: (انظر طالوت) . شبل بن معبد: 8/ 52، 369. شبلي النعماني: 5/ 98، 99. شداد بن أوس: 1/ 435. 5/ 113، 169. شرحبيل بن حسنة: 1/ 17. 8/ 61. شرحبيل بن غيلان: 9/ 391. شرحبيل بن هذيل: 8/ 38. شريح بن عبد كلال: 9/ 411. شريح بن عبيد: 8/ 331. شريك بن سمحاء: 8/ 375. شريك بن عبد الله: 2/ 88، 91.

شعبة بن عمر: 2/ 530. 3/ 223، 224. الشعبي: 2/ 132. 5/ 135، 399، 468، 552. 6/ 315. 8/ 86، 134، 343، 372، 390. 9/ 46، 47، 129، 135. شعيب بن المسيب: 6/ 509. شعيب عليه السلام: 1/ 102، 222، 224. 2/ 228، 229، 331، 425، 426. 3/ 256، 257، 258، 312، 532، 533، 534. 4/ 54، 397، 398. 5/ 31، 465، 479. 9/ 332. شقران (مولى رسول الله) : 9/ 589. شماس بن عثمان: 9/ 284. شمران بن صخر: 9/ 23. شمعون (ابن يعقوب) : 2/ 449. 3/ 26، 312. شمعيا: 2/ 487. الشهاب: 2/ 56. شهر بن حوشب: 5/ 113، 478. الشوكاني: 8/ 15. شوما: 6/ 239. الشيباني: 2/ 76. شيبة بن ربيعة: 6/ 31. شيت عليه السلام: 4/ 397، 398. الشيخان (البخاري ومسلم) : 1/ 287، 333، 371، 383، 388، 419، 420، 431، 442، 446، 461، 467، 479، 527، 540. 2/ 49، 68، 85، 94، 95، 97، 109، 113، 114، 133، 155، 156، 157، 176، 177، 180، 185، 200، 273، 274، 277، 288، 311، 352، 378، 381، 382، 386، 397، 400، 451، 452، 455، 459، 541، 566، 567. 3/ 23، 42، 73، 74، 81، 95، 100، 174، 179، 184، 211، 223، 328، 345، 353، 382، 383، 397، 423، 425، 536، 548. 4/ 11، 35، 50، 73، 91، 149، 187، 193، 199، 206، 226، 320، 346، 374، 375، 383، 385، 412، 474، 477، 519، 520. 5/ 73، 80، 110، 118، 141، 198، 350، 401، 425، 443، 534، 535، 539، 546. 6/ 10، 11، 31، 43، 86، 101، 112، 187، 188، 213، 220، 221، 267، 271، 286، 289، 303، 307، 309، 317، 335، 353، 361، 373، 381، 391، 397، 408، 419، 427، 441، 451، 458، 465، 489، 498، 500، 504، 517. 7/ 44، 62، 84، 85، 90، 99، 118، 147، 156، 195، 202، 203،

- ص -

208، 228، 260، 261، 297، 311، 317، 318، 319، 337، 338، 355، 366، 374، 376، 378، 381، 408، 409، 417، 426. 8/ 10، 25، 26، 34، 37، 39، 41، 68، 80، 107، 118، 144، 154، 155، 156، 164، 165، 182، 192، 207، 208، 211، 245، 253، 297، 305، 315، 325، 346، 397، 399، 405، 414، 426، 427، 450، 456، 460، 462، 479، 484، 485، 487، 498، 509، 514، 519، 583، 603. 9/ 23، 26، 27، 59، 64، 88، 100، 137، 161، 208، 224، 244، 274، 290، 293، 309، 311، 312، 359، 364، 382، 385، 390، 396، 397، 423، 424، 441، 442، 459، 468، 493، 495، 503، 506، 507، 509، 510، 541، 543، 544، 545، 549، 582، 585، 586، 588. - ص- صاحب المحجن: 2/ 95. صاحبة الهرة: 2/ 95. صادق العظم: 2/ 356. صالح عليه السلام: 1/ 102، 219، 533، 535. 2/ 141، 331، 420، 421. 3/ 255، 257، 291. 292، 293، 528، 529. 4/ 397، 398. 5/ 31، 254، 326. 9/ 332. صدقيا: 2/ 481. الصعب بن جثّامة: 9/ 234. صفنيا (نبي) : 4/ 399. صفوان بن أمية: 7/ 228. 8/ 62. 9/ 124، 286، 309، 388. صفوان بن سليم: 1/ 479. صفوان بن عسّال: 3/ 436. صفوان بن المعطل: 8/ 381. صفوان بن يعلى: 1/ 41. صفية: 7/ 374. 8/ 512، 514، 518، 533. صفية بنت حيي بن أخطب: 8/ 514، 603، 610. 9/ 44. صفية بنت شيبة: 8/ 236. صفية (عمة النبي) : 3/ 271. صفية اليهودية: 7/ 416. الصلت السدوسي: 4/ 146. صموئيل الأول: 2/ 313. صهيب الرومي: 2/ 199. 3/ 462. 4/ 142. 5/ 187. 6/ 363. 9/ 293. صوريا: 6/ 165.

- ض -

- ض- الضحاك: 1/ 168، 209، 211، 216، 396. 2/ 348، 402، 403. 4/ 80، 102، 304، 458. 5/ 11، 88، 94، 364، 472. 6/ 55، 234، 295. 7/ 403. 8/ 300، 304، 466، 597. 9/ 135، 321، 335، 342، 357، 359، 497، 555، 574. الضحاك بن فيروز: 8/ 73. - ط- طارق بن شهاب: 3/ 196. 5/ 417. 7/ 338. 8/ 368. طارق الجعفي: 9/ 221. طالب بن يوحنا: 3/ 249. طالوت: 1/ 168، 396. 2/ 306، 420، 486. 4/ 381. 6/ 459، 463. الطاهر الزاوي: 9/ 594. طاووس: 1/ 235، 559. 5/ 112. 6/ 297. 9/ 227. طاووس اليماني: 2/ 291. الطبراني: 1/ 71، 99، 258، 309، 337. 2/ 83، 161، 274، 292. 3/ 408. 4/ 253، 457، 461، 534، 540. 5/ 74، 104، 436، 442، 447، 546. 6/ 164، 314، 352، 382، 497، 505. 7/ 292، 341، 342، 343. 8/ 105، 209، 237، 245، 313، 523، 553. 9/ 23، 35، 202، 471، 536. الطبرسي: 1/ 312، 316. 2/ 7، 9، 53، 55، 56، 231، 238، 274، 284، 402، 403، 404، 413، 414، 476، 532، 533، 538، 562. 3/ 23، 162، 166، 169، 170، 244، 264، 304، 327، 383، 393، 404، 475، 481، 511، 512، 553. 4/ 43، 47، 63، 72، 102، 109، 281، 326، 368، 396، 457، 458، 459، 516. 5/ 19، 31، 122، 133، 169، 172، 297، 393، 453، 519، 535، 553. 6/ 7، 35، 56، 244، 255، 284، 295، 485، 504، 517. 7/ 11، 28، 29، 60، 69، 76، 122، 130، 143، 236، 262، 387. 8/ 81، 82، 157، 165، 325، 332، 369، 433، 531، 533، 536، 555، 584. 9/ 29، 62، 116، 160، 161، 184، 210، 284، 373، 375، 380، 441، 449، 510، 525. الطبري: 1/ 40، 139، 241، 259،

272، 287، 316، 354، 362، 363، 364، 366، 411، 415، 426، 439، 447، 450، 476، 496، 537، 538. 2/ 11، 13، 19، 35، 52، 53، 54، 75، 83، 94، 97، 98، 109، 112، 131، 133، 144، 160، 231، 243، 247، 234، 238، 244، 256، 262، 269، 287، 300، 303، 312، 317، 336، 358، 359، 367، 371، 376، 378، 387، 394، 402، 403، 415، 418، 455، 457، 460، 468، 499، 529، 531، 535، 540، 542، 547، 550، 553، 554، 555، 561، 558، 564. 3/ 9، 12، 22، 30، 64، 86، 115، 125، 126، 164، 173، 174، 192، 203، 213، 237، 354، 378، 383، 398، 400، 402، 403، 404، 414، 416، 420، 424، 425، 427، 429، 436، 443، 460، 462، 475، 490، 492، 514، 529، 532، 536، 539، 546، 548، 549. 4/ 43، 51، 54، 61، 63، 72، 80، 85، 87، 93، 96، 98، 102، 109، 111، 114، 122، 126، 133، 136، 157، 172، 179، 193، 197، 199، 243، 248، 259، 262، 272، 273، 281، 295، 296، 314، 356، 372، 373، 374، 380، 396، 412، 415، 418، 436، 437، 443، 458، 461، 466، 475، 501، 515، 517، 537، 540، 541، 551، 555، 563، 569. 5/ 11، 12، 18، 61، 65، 78، 86، 92، 93، 97، 101، 104، 108، 109، 110، 112، 113، 117، 127، 128، 132، 133، 149، 153، 155، 158، 165، 168، 171، 174، 192، 204، 205، 223، 225، 229، 230، 238، 243، 250، 251، 252، 260، 267، 293، 299، 302، 304، 321، 326، 330، 341، 345، 351، 360، 361، 364، 366، 371، 389، 395، 541، 543، 552، 399، 415، 429، 431، 436، 468، 472، 478، 484، 495، 511، 555. 6/ 9، 10، 19، 22، 23، 30، 31، 32، 37، 55، 56، 58، 73، 74، 90، 95، 97، 98، 102، 104، 121، 130، 149، 176، 196، 205، 218، 225، 227، 228،

231، 232، 239، 240، 244، 249، 255، 256، 257، 270، 271، 272، 273، 282، 284، 292، 295، 296، 297، 298، 307، 318، 330، 368، 380، 384، 390، 397، 398، 415، 417، 418، 419، 425، 426، 432، 453، 454، 457، 469، 477، 488، 485، 489، 500، 517، 518، 519، 522. 7/ 10، 25، 32، 44، 45، 51، 55، 56، 65، 66، 72، 82، 103، 104، 108، 109، 119، 127، 131، 142، 145، 167، 183، 196، 201، 202، 204، 213، 214، 220، 229، 230، 240، 241، 262، 266، 274، 275، 276، 277، 286، 330، 335، 350، 352، 364، 369، 382، 388، 401، 402، 403، 409، 410، 421. 8/ 13، 21، 44، 56، 82، 86، 96، 97، 99، 102، 105، 107، 109، 124، 134، 143، 147، 155، 156، 164، 165، 175، 183، 184، 188، 206، 212، 230، 244، 245، 246، 254، 255، 258، 260، 270، 275، 279، 284، 286، 297، 311، 322، 331، 338، 340، 342، 366، 367، 368، 369، 393، 394، 395، 396، 399، 405، 419، 454، 501، 505، 517، 523، 547، 561، 576، 591، 616. 9/ 8، 12، 13، 14، 16، 19، 21، 25، 26، 28، 31، 43، 51، 52، 53، 56، 57، 59، 64، 69، 71، 74، 76، 84، 86، 96، 97، 98، 102، 106، 107، 108، 116، 127، 129، 130، 131، 132، 134، 135، 138، 139، 142، 152، 155، 159، 160، 162، 164، 167، 168، 180، 182، 187، 194، 196، 197، 207، 209، 211، 219، 220، 228، 232، 240، 241، 242، 244، 245، 248، 252، 253، 259، 260، 269، 272، 274، 278، 284، 289، 292، 293، 294، 302، 303، 314، 316، 317، 328، 330، 335، 335، 336، 340، 341، 342، 343، 345، 349، 350، 351، 352، 353، 356، 357، 358، 359، 364، 368، 371، 373، 374، 379، 392، 394، 396، 399، 401، 403، 410، 415،

- ع -

416، 417، 420، 423، 425، 426، 427، 433، 446، 448، 450، 454، 458، 459، 460، 474، 475، 476، 497، 498، 500، 502، 504، 509، 517، 520، 522، 523، 527، 529، 533، 536، 538، 543، 544، 555، 559، 562، 565، 567، 573، 574. طعمة بن أبيرق: 7/ 236. 8/ 230، 231، 241. طلحة بن الزبير: 1/ 82. 3/ 331. 8/ 386، 507، 511. 9/ 161، 321، 373، 460. طلحة بن زيد: 7/ 342. طلحة بن شيبة: 9/ 375، 379. طلحة بن عبد الله: 2/ 179. 6/ 495. طلحة بن عبيد الله: 4/ 255، 308. 9/ 284، 553. طلحة بن معاوية السلمي: 4/ 253. طوبيا (نبي) : 4/ 399. - ع- عاتكة بنت مرة: 7/ 57. عاد بن إرم: 1/ 532. عازر: 6/ 165. العاص بن وائل السهمي: 2/ 112. 3/ 46، 179. عاصم بن أبي النجود الكوفي: 1/ 14، 136. 4/ 320. عاصم بن عدي: 9/ 504. عاصم بن عمر: 8/ 390. عاقر الناقة: 1/ 225. عامر بن أبي وقاص: 3/ 331. 4/ 251. عامر بن الحضرمي: 1/ 175. عامر بن ربيعة: 4/ 308. 6/ 227. 261. عامر بن الطفيل: 5/ 522، 527. 7/ 267. عامر بن قيس: 9/ 487. عاموس (نبي) : 4/ 399. عائش: (انظر يعيش) . عايش (غلام حويطب) : 1/ 175. عائشة: 1/ 17، 38، 41، 42، 72، 82، 97، 98، 134، 135، 136، 209، 315، 316، 334، 336، 338، 366، 407، 426، 466، 467، 513، 554. 2/ 12، 45، 49، 50، 51، 52، 53، 55، 76، 81، 84، 92، 98، 113، 114، 133، 134، 135، 172، 173، 184، 200، 271، 289، 311، 328، 349، 381، 382، 387، 400، 540، 558. 3/ 11، 198، 252، 353، 354، 394، 417، 440. 4/ 32، 99، 100، 146،

193، 197، 297، 333، 370، 373، 418، 422، 465، 477، 486، 551. 5/ 16، 18، 22، 32، 73، 76، 80، 143، 154، 155، 251، 252، 272، 302، 320، 326، 372، 417، 425، 461، 535. 6/ 41، 86، 104، 110، 121، 211، 213، 268، 297، 298، 313، 314، 319، 358، 364، 397، 399، 400، 403، 408، 410، 414، 420، 427، 489. 7/ 55، 56، 118، 119، 122، 162، 256، 270، 293، 346، 371، 372، 374، 375، 376، 377، 379، 380، 401، 402، 403، 408، 410، 412، 416، 417. 8/ 13، 25، 26، 27، 39، 59، 68، 69، 70، 79، 76، 77، 118، 124، 126، 128، 192، 226، 246، 255، 252، 253، 352، 367، 369، 380، 381، 383، 384، 385، 386، 388، 390، 405، 406، 425، 457، 470، 479، 500، 507، 511، 514، 518، 519، 531، 532، 533، 534، 542. 9/ 8، 41، 56، 57، 65، 117، 118، 119، 156، 161، 183، 208، 210، 221، 222، 224، 225، 274، 283، 288، 289، 293، 294، 373، 424، 444، 460، 467، 533، 574، 579، 583، 584، 587، 589. عائشة بنت قدامة: 9/ 466. عباد بن بشر: 396. عباد بن تميم: 2/ 380. 8/ 427. عباد بن حذيفة: 9/ 433. عباد بن عباد: 4/ 517. عبادة بن الصامت: 1/ 82، 291، 332، 362. 2/ 161، 290، 411، 561. 4/ 187، 188، 486. 5/ 110، 113، 254. 6/ 317، 494. 7/ 9، 10، 17، 18، 38. 8/ 50، 119، 154، 325، 354، 358. 9/ 59، 109، 139، 154، 290. عبادة بن الوليد: 2/ 262. العباس بن عبد المطلب: 2/ 122، 171، 403. 3/ 271، 328. 4/ 315، 356، 459. 5/ 94. 6/ 493، 494. 7/ 55، 56، 57، 58، 61، 93، 95، 104، 405. 8/ 146، 216، 610، 614. 9/ 112، 306، 310، 375، 377، 378، 379، 384، 389، 465، 580، 582، 585، 587، 588، 589. عباس بن مرداس: 9/ 388.

عبد الله ابن الإمام أحمد: 9/ 570. عبد الله الأزدي: 6/ 97. عبد الله بن أبي أمية: 5/ 551، 9/ 543. عبد الله بن أبي أوفى: 1/ 334. 4/ 174. 7/ 70، 173. عبد الله بن أبي بكر: 7/ 39. عبد الله بن أبيّ بن سلول: 1/ 154. 5/ 254. 6/ 136، 137، 138، 139، 190. 7/ 77، 224، 225، 240، 251، 266، 283، 306، 322، 347. 8/ 382، 383، 385، 416، 460، 462، 505. 9/ 154، 441، 449، 490، 491، 499، 506، 509، 510. عبد الله بن أبي سرح: 2/ 112. 5/ 187. عبد الله بن بريدة: 8/ 401. 9/ 62. عبد الله بن بشر: 8/ 396. عبد الله بن جابر: 1/ 70. 5/ 547. عبد الله بن جبير: 7/ 235. عبد الله بن جحش: 4/ 424. 6/ 27، 57، 68، 383. 7/ 8. 8/ 61. عبد الله بن جدعان: 2/ 179. 5/ 172. 6/ 121. عبد الله بن جراد: 5/ 177. عبد الله بن جرير: 6/ 390. عبد الله بن الحارث: 7/ 57. 9/ 464. عبد الله بن الحارث بن نوفل: 5/ 260. عبد الله بن الحارث بن هشام: 1/ 85. عبد الله بن حذافة: 8/ 150. عبد الله بن حنطب: 7/ 256. عبد الله بن حنظلة: 9/ 62. عبد الله بن خطل: 9/ 309. عبد الله بن خليفة: 6/ 469. عبد الله بن دينار: 9/ 336. عبد الله بن رواحة: 6/ 392، 403. 7/ 38. 8/ 613. 9/ 209، 401، 538. عبد الله بن الزبير: 1/ 40، 75، 76، 78، 85، 364، 366. 2/ 172، 173. 4/ 360. 5/ 326. 6/ 37، 128، 440. 8/ 83، 84، 160، 484، 498. 9/ 274، 348، 569، 570، 571. عبد الله بن زبير الغافقي: 1/ 71. عبد الله بن زمعة: 8/ 109. عبد الله بن زيد: 9/ 63. عبد الله بن زيد بن عاصم: 9/ 396. عبد الله بن زيد الخزرجي: 7/ 342. عبد الله بن سبأ: 7/ 120. عبد الله بن سرح: 4/ 124، 125، 126. عبد الله بن سعد: 9/ 309. عبد الله بن سلام: 1/ 216، 356. 3/ 260، 324. 4/ 75، 267. 5/ 488، 548، 552. 6/ 202، 234، 244. 7/ 173، 174، 193، 210، 215، 298، 338. 8/ 260،

282، 557. 9/ 128، 160، 165. عبد الله بن شبل: 4/ 175. عبد الله بن الشخير: 2/ 16. عبد الله بن شقيق: 1/ 343. 2/ 200. 9/ 356. عبد الله بن الصنابحي: 1/ 342. عبد الله بن صوريا: 6/ 165. 9/ 126، 127. عبد الله بن عامر: 1/ 136. 4/ 320. عبد الله بن عباس: 1/ 12، 17، 72، 75، 78، 80، 81، 82، 83، 84، 120، 121، 122، 125، 159، 168، 199، 201، 203، 209، 210، 211، 212، 213، 214، 216، 217، 220، 222، 235، 240، 245، 246، 254، 258، 259، 261، 271، 288، 289، 291، 309، 320، 321، 328، 329، 333، 336، 338، 354، 358، 359، 361، 362، 396، 411، 420، 430، 431، 435، 496، 514، 540، 543. 2/ 11، 13، 19، 44، 51، 52، 64، 93، 94، 97، 98، 113، 114، 155، 156، 160، 161، 164، 173، 180، 195، 208، 219، 247، 274، 287، 290، 292، 293، 300، 328، 348، 374، 376، 381، 384، 385، 386، 387، 394، 401، 402، 403، 415، 424، 454، 520، 521، 529. 3/ 8، 9، 11، 17، 22، 41، 47، 87، 79، 90، 95، 103، 145، 164، 166، 168، 173، 175، 207، 210، 237، 244، 257، 270، 332، 346، 347، 361، 378، 394، 398، 403، 414، 420، 424، 429، 440، 443، 462، 492، 494، 504، 511، 545. 4/ 26، 32، 46، 59، 63، 64، 107، 114، 133، 173، 174، 187، 259، 272، 307، 314، 320، 326، 338، 340، 343، 344، 350، 355، 356، 370، 375، 415، 436، 437، 443، 457، 458، 459، 460، 461، 508، 536، 537، 549، 551، 556. 5/ 11، 26، 27، 31، 58، 73، 81، 83، 85، 88، 89، 93، 96، 108، 111، 133، 143، 150، 153، 154، 172، 180، 190، 193، 194، 211، 212، 237، 238، 243، 244، 246، 260، 267، 271، 276، 280، 288، 294، 326، 330، 341، 344، 346، 353، 354، 363،

364، 366، 371، 373، 392، 421، 436، 447، 448، 449، 461، 478، 508، 511، 524، 519، 538، 542، 543، 552، 555. 6/ 16، 18، 31، 39، 42، 55، 62، 65، 74، 86، 87. 89، 90، 104، 111، 124، 125، 138، 140، 141، 147، 149، 155، 176، 178، 181، 188، 196، 205، 209، 217، 218، 233، 235، 241، 256، 258، 260، 281، 297، 298، 302، 303، 305، 307، 308، 310، 311، 314، 331، 354، 355، 380، 386، 396، 398، 408، 416، 418، 420، 429، 440، 441، 442، 448، 450، 453، 457، 458، 493، 497، 503، 504، 517، 519، 520، 521، 522، 523، 509. 7/ 10، 20، 25، 86، 88، 93، 94، 95، 98، 122، 156، 157، 158، 162، 164، 166، 186، 191، 197، 201، 203، 207، 217، 255، 259، 263، 268، 272، 278، 285، 286، 289، 291، 292، 297، 301، 303، 315، 322، 324، 338، 349، 350، 370، 375، 379، 382، 403، 416، 428. 8/ 22، 27، 30، 35، 41، 44، 45، 48، 49، 51، 52، 54، 56، 60، 64، 69، 80، 83، 88، 91، 96، 109، 147، 155، 156، 178، 191، 199، 205، 207، 208، 211، 212، 216، 217، 218، 219، 226، 244، 278، 282، 284، 297، 298، 299، 311، 315، 322، 327، 336، 339، 340، 351، 355، 356، 360، 362، 367، 375، 398، 426، 448، 449، 455، 465، 466، 469، 473، 474، 513، 532، 534، 538، 539، 552، 587، 591، 597، 610، 616. 9/ 8، 12، 13، 14، 18، 19، 25، 26، 28، 35، 46، 62، 63، 64، 65، 78، 91، 96، 114، 119، 127، 130، 135، 136، 140، 148، 152، 160، 162، 179، 181، 182، 184، 195، 196، 202، 207، 208، 211، 225، 234، 240، 241، 248، 251، 255، 260، 264، 285، 286، 292، 297، 309، 311، 314، 317، 320، 329، 339، 340، 342، 351، 363، 364، 397،

416، 417، 420، 441، 448، 471، 475، 484، 497، 519، 527، 533، 535، 549، 560، 561، 573، 574، 582، 585، 588، 591. عبد الله بن عبد الله بن أبيّ: 8/ 461، 462. 9/ 506، 510. عبد الله بن عتيك: 6/ 166. عبد الله بن عقبة: 9/ 297. عبد الله بن عمر: 1/ 74، 82، 82، 99، 215، 217، 220، 333، 335، 336، 337، 338، 339، 345، 350، 351، 500. 2/ 13، 39، 114، 133، 157، 172، 173، 200، 263، 265، 277، 290، 291، 292، 310، 328، 331، 381، 382، 387، 401، 411. 3/ 73، 74، 327، 382، 383، 538. 4/ 9، 29، 101، 173، 174، 250، 263، 304، 324، 338، 345، 374، 378، 382، 405، 418، 475، 478، 493. 405، 418، 475، 478، 493. 5/ 63، 143، 155، 235، 295، 401، 443، 499، 500، 509. 6/ 40، 41، 86، 108، 112، 114، 164، 165، 210، 211، 229، 257، 261، 271، 295، 302، 303، 308، 309، 310، 314، 335، 341، 352، 353، 355، 365، 398، 399، 400، 405، 406، 408، 413، 420، 429، 451، 502، 517. 7/ 31، 52، 84، 189، 190، 192، 203، 208، 226، 293، 339، 341، 342، 351، 352، 378، 393، 409. 8/ 21، 27، 46، 96، 119، 120، 133، 134، 146، 154، 191، 205، 224، 226، 237، 245، 246، 346، 356، 364، 390، 396، 398، 400، 409، 412، 426، 427، 481، 483، 484، 514، 516. 9/ 8، 14، 16، 47، 60، 67، 68، 113، 119، 128، 221، 222، 224، 227، 248، 255، 291، 297، 301، 311، 312، 314، 328، 335، 348، 356، 420، 425، 426، 466، 480، 503، 506، 507، 509، 539، 562، 574. عبد الله بن عمرو: 1/ 446، 461. 2/ 176، 184، 289، 291، 311، 383، 400، 468، 529، 559. 3/ 381، 382، 408، 427، 428. 4/ 73، 74، 149، 195، 249، 333، 366، 422، 439، 440، 520. 5/ 78، 104، 140، 141،

271، 272، 305، 478، 535. 6/ 121، 138، 405، 419. 7/ 92، 260، 396. 8/ 148، 219، 483، 486، 509، 560. 9/ 91، 114، 118، 120، 135، 208، 248، 385، 469. عبد الله بن عمرو المزني: 9/ 518. عبد الله بن قسطنطين: 1/ 83. عبد الله بن قيس: (انظر أبا موسى الأشعري) . عبد الله بن المبارك: 7/ 58. 9/ 66، 249. عبد الله بن محمد بن علي: 7/ 58. عبد الله بن مسعود: 1/ 12، 68، 70، 71، 75، 81، 82، 83، 84، 96، 97، 120، 121، 122، 192، 193، 214، 217، 245، 246، 248، 267، 288، 322، 330، 333، 334، 335، 337، 339، 370، 411، 444، 513، 515. 2/ 57، 76، 81، 85، 98، 133، 185، 273، 274، 275، 276، 289، 291، 359، 375، 402، 411، 451، 452، 454، 456، 473، 474، 526، 540، 542، 556. 3/ 100، 114، 181، 223، 354، 398، 422، 423، 425، 427، 428، 548. 4/ 73، 97، 112، 160، 187، 188، 273، 304، 313، 333، 345، 358، 412، 463، 539، 541، 542، 549. 5/ 18، 25، 26، 27، 65، 93، 125، 129، 141، 143، 149، 155، 168، 190، 200، 297، 304، 319، 502، 554. 6/ 13، 35، 104، 140، 141، 145، 149، 164، 235، 267، 275، 281، 282، 285، 289، 317، 386، 399، 429، 450، 452، 488، 494، 521. 7/ 66، 167، 201، 202، 212، 288، 415، 428. 8/ 8، 38، 73، 74، 78، 84، 86، 99، 121، 165، 200، 204، 237، 244، 245، 333، 342، 343، 346، 354، 367، 376، 389، 413، 481، 483، 485، 514، 519، 539، 570، 576. 9/ 66، 97، 100، 195، 197، 207، 226، 248، 292، 311، 316، 317، 318، 319، 322، 330، 356، 388، 412، 423، 468، 470، 473، 497، 504، 555، 590. عبد الله بن مغفّل: 1/ 411. عبد الله بن نبتل: 8/ 491. 9/ 449. عبد الله ابن النبي: 2/ 12.

عبد الله الثقفي: 3/ 546. عبد الله (من بني مخزوم) : 5/ 69. عبد الجبار الرماني: 1/ 236. عبد الحميد أحمد حنفي: 1/ 12، 114. عبد الحميد الخطيب: 1/ 462. عبد الرحمن بن أبي بكر: 5/ 16. 7/ 112. عبد الرحمن بن ثابت: 8/ 35. عبد الرحمن بن جبير: 8/ 331. عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: 1/ 76. عبد الرحمن بن خباب: 9/ 440. عبد الرحمن بن خلاد: 1/ 337. عبد الرحمن بن الزبير القرظي: 6/ 421. عبد الرحمن بن سليمان: 2/ 160. عبد الرحمن بن سمرة: 9/ 440. عبد الرحمن بن عبد القاري: 9/ 480. عبد الرحمن بن عبيد: 9/ 466. عبد الرحمن بن عوف: 1/ 73. 3/ 177. 4/ 308، 311. 5/ 18، 198، 534. 6/ 24، 458، 485، 486. 8/ 124، 172، 399. 9/ 49، 224، 294، 302، 322، 401، 409، 504. عبد الرحمن بن غنيم: 7/ 256. 9/ 407. عبد الرحمن بن القاسم: 8/ 69. عبد الرحمن بن كعب: 9/ 518. عبد الرحمن بن كيسان: 1/ 236. عبد الرحمن بن مالك: 7/ 336. عبد الرحمن بن يزيد: 9/ 518. عبد الرزاق: 2/ 454. 4/ 87. 9/ 422. عبد السلام: 7/ 338. عبد شمس: 7/ 57. العبد الصالح: 1/ 162، 225. 4/ 119. 5/ 50، 73. عبد الصمد شرف الدين: 1/ 10. 2/ 201. عبد العزى (انظر أبا لهب) . عبد العزى بن قطن: 4/ 385. عبد العزيز (غلام حكم الدهلوي) : 4/ 41. عبد الفتاح أبو غدة: 1/ 10. عبد القاري: 6/ 386. عبد المسيح (أمير وفد نجران) : 7/ 109، 110. عبد المطلب: 1/ 554. 2/ 44. 4/ 163. 6/ 43. عبد الملك بن مروان: 1/ 71. 2/ 173. 3/ 357. عبد المؤمن: 6/ 128. عبد الواحد بن عاشر الأنصاري: 1/ 14. عبد الوهاب النجار: 1/ 11. عبد ياليل: 4/ 100. 9/ 391. عبدان (حضرمي) : 5/ 172. عبدة بنت عبد العزى: 9/ 284. عبيد أبو عامر: 9/ 390. عبيد الله بن جحش: 4/ 251. عبيد الله بن محصن: 9/ 424.

عبيد بن الحصر الحبشي: 3/ 50. عبيدة بن حرث: 6/ 30، 31. عتاب بن أسيد: 9/ 308. عتبة بن أبي لهب: 1/ 497. عتبة بن ربيعة: 2/ 122. 4/ 303، 406، 501. 6/ 30، 31، 116. عتبة بن شيبة: 9/ 367. عتبة بن عبد السلمي: 5/ 546. عتبة بن عتبة بن أمية: 8/ 429. عتبة بن عمرو: 7/ 93. عتبة بن غزوان: 1/ 419. عثمان بن أبي العاص: 1/ 79. عثمان بن جدعان: 3/ 252. عثمان بن حنيف: 9/ 412. عثمان بن الحويرث: 6/ 27. عثمان بن ربيعة: 4/ 251. عثمان بن طلحة: 2/ 173. 8/ 146. 9/ 312، 378. عثمان بن عطاء: 2/ 274. عثمان بن عفان: 1/ 12، 14، 70، 71، 72، 73، 74، 76، 77، 78، 79، 82، 85، 90، 92، 93، 95، 96، 112، 117، 125، 133، 135، 136، 139، 140، 149، 208، 215، 244، 246، 342، 485، 559. 2/ 19، 112، 123، 231، 382، 513، 515، 516. 3/ 178، 331، 548. 4/ 38، 40، 41، 87، 255، 304، 308، 311، 322، 325، 550. 5/ 160، 187، 236. 6/ 32، 127، 128، 440، 485، 486، 503. 7/ 19، 28، 29، 57، 58، 59، 159، 161، 301، 346. 8/ 73، 266، 325، 425، 432، 433، 485، 507، 509، 580، 590، 611، 617. 9/ 60، 63، 100، 106، 185، 234، 309، 321، 339، 410، 424، 425، 426، 440، 459، 460، 466، 502. عثمان بن مظعون: 3/ 331. 4/ 308. 5/ 160. 9/ 207، 208. عدنان (جد قريش) : 2/ 169. عدو الراي: 2/ 319. عدويا (زكريا) : 2/ 331. عدي بن بدّاء: 9/ 251. عدي بن ثابت: 8/ 395. 9/ 139. عدي بن حاتم: 1/ 304. 6/ 318. 8/ 440، 567. 9/ 39، 417. عدي بن الخيار: 9/ 470. عدي بن ربيعة: 2/ 190. عدي بن عدي: 1/ 73. عدي بن عميرة: 9/ 198. العرباض بن سارية: 4/ 199. العرس الكندي: 2/ 475. عرفجة: 8/ 155.

عروة الباقي: 2/ 9. عروة بن الزبير: 1/ 72، 135، 215. 3/ 353. 4/ 100، 315. 6/ 268. 7/ 92، 122، 270. 8/ 13، 64، 83. 9/ 310، 484. عروة بن مسعود: 2/ 87. 4/ 383، 502، 520. 8/ 579. 9/ 390. عروة الفقيمي: 6/ 86، 87. عزرا: 2/ 485. 4/ 399. 9/ 416. عزرائيل: 1/ 228. 5/ 309، 346. عزيا: 2/ 482. عزير: 1/ 217. 2/ 71، 498. 3/ 70، 398. 4/ 130، 211، 529، 530. 5/ 147، 292. 6/ 231، 393، 475. 7/ 178، 179. 9/ 53، 394، 397، 415، 416، 432. العزيز (ملك مصر) : 1/ 224. 4/ 17، 22، 23. العسكري: 1/ 312. 4/ 369. عطاء بن يسار: 1/ 211. 2/ 164، 468. 4/ 296، 304. 5/ 94، 204، 351، 420. 6/ 380. 7/ 12، 274، 396. 8/ 134، 397، 552، 555. 9/ 129، 227، 393، 394، 470، 574. عطاء بن دينار: 4/ 458. عطاء الخراساني: 1/ 223. عطية السعدي: 3/ 382. عطية القرظي: 2/ 39. عقبة بن أبي معيط: 2/ 12. 3/ 78. 4/ 366. 7/ 19، 92. 8/ 308، 567. عقبة بن الحارث: 6/ 515. 8/ 69. عقبة بن عامر: 1/ 516. 2/ 45، 46، 262. 3/ 167. 4/ 91. 5/ 92، 118، 143، 229، 303. 6/ 8، 111، 360، 425، 429. 7/ 37، 84. 8/ 77، 397، 524. 9/ 527. عقبة بن وهب: 9/ 86. عقيل بن أبي طالب: 3/ 271، 328. 7/ 61، 62، 93. 8/ 216. 9/ 310، 311. العقيلي: 7/ 288. عكرمة: 1/ 12، 69، 125، 135، 211، 214، 259. 2/ 13، 97، 164. 4/ 261، 458، 555. 5/ 11، 190، 288. 6/ 62، 235، 254، 401. 7/ 235، 286، 347، 381، 382، 421. 8/ 29، 107، 278، 552، 616. 9/ 8، 62، 76، 108، 129، 134، 135، 148، 181، 207، 309، 441. علقمة بن وائل: 1/ 252. 8/ 362. علقمة العامري الكلابي: 9/ 458. العلوي: 1/ 312. علي بن إبراهيم بن هاشم: 1/ 80. 9/ 160.

علي بن أبي ربيعة: 4/ 492. علي بن أبي طالب: 1/ 9، 11، 14، 28، 69، 70، 71، 74، 77، 80، 82، 98، 206، 207، 208، 214، 215، 216، 220، 238، 239، 241، 242، 243، 244، 246، 310، 311، 312، 313، 333، 383، 400، 436، 461، 527، 530. 2/ 9، 10، 52، 164، 288، 291، 293، 385، 386، 387، 402، 403، 404، 424، 453، 526. 3/ 96، 181، 249، 270، 271، 303، 331، 335، 363، 364، 425، 453، 462، 511، 515، 516، 539. 4/ 40، 41، 84، 197، 211، 255، 311، 326، 339، 396، 459، 460، 465، 492، 516، 549. 5/ 19، 93، 109، 133، 158، 163، 183، 190، 198، 226، 237، 250، 351، 352، 361، 363، 364، 393، 394، 415، 519، 539، 542، 553. 6/ 25، 30، 32، 48، 96، 108، 139، 140، 160، 180، 275، 295، 297، 303، 358، 450، 485. 7/ 18، 28، 29، 39، 55، 56، 58، 59، 62، 104، 159، 160، 161، 162، 207، 236، 237، 241، 256، 288، 369، 379، 380، 382، 416، 418. 8/ 40، 64، 81، 82، 83، 91، 92، 123، 128، 129، 134، 157، 191، 208، 254، 255، 265، 266، 309، 325، 351، 359، 382، 383، 386، 423، 432، 433، 485، 488، 490، 493، 507، 510، 511، 512، 536، 581، 603، 611، 617. 9/ 18، 29، 30، 49، 62، 66، 67، 106، 109، 115، 118، 160، 161، 162، 163، 164، 184، 185، 186، 206، 207، 227، 240، 269، 306، 307، 309، 321، 339، 345، 346، 347، 348، 349، 350، 351، 353، 358، 373، 375، 384، 392، 396، 410، 422، 459، 460، 495، 559، 579، 581، 584، 588، 589. علي بن الجعد: 1/ 268. علي بن الحسين: 3/ 383. 4/ 458. 7/ 50، 58. 8/ 182، 441. علي بن الحسين الأزدي: 9/ 115. علي بن المديني: 5/ 328.

علي الرضا (أحد الأئمة الاثني عشر) : 8/ 423. علي الكسائي: 1/ 136. 4/ 320. عمار بن ياسر: 1/ 370، 444. 2/ 148. 3/ 335. 4/ 125، 152، 304. 5/ 186، 188، 303، 467، 468، 533. 7/ 29، 169. 8/ 80، 133، 151، 613. 9/ 322، 412. عمارة بن غزية: 1/ 69. عمر بن أبي سلمة: 1/ 289. 2/ 265. 7/ 161. عمر بن الجموح: 6/ 377. عمر بن الخطاب: 1/ 41، 68، 69، 67، 69، 71، 72، 73، 77، 78، 80، 82، 91، 96، 97، 98، 104، 154، 208، 209، 215، 245، 246، 322، 338، 351، 400، 414، 419، 438، 461، 467. 2/ 88، 289، 380، 382، 467، 513، 515، 530، 530. 3/ 95، 96، 126، 239، 331، 393، 440، 484، 539، 546. 4/ 9، 75، 97، 151، 255، 304، 320، 338، 349، 527، 550، 561، 562. 5/ 17، 18، 38، 40، 180، 237، 301، 312، 327، 461، 502، 554. 6/ 8، 26، 28، 32، 35، 43، 104، 110، 111، 127، 138، 167، 203، 212، 241، 291، 292، 297، 312، 319، 358، 386، 387، 396، 398، 405، 406، 420، 412، 415، 421، 429، 444، 457، 458، 495، 503. 7/ 17، 19، 34، 54، 55، 56، 58، 59، 79، 88، 89، 91، 127، 159، 161، 189، 190، 213، 220، 221، 235، 237، 240، 241، 255، 256، 276، 297، 307، 313، 316، 317، 342، 347، 371، 375، 376، 352، 405، 409، 418، 409، 410. 8/ 39، 46، 51، 52، 58، 59، 60، 77، 81، 82، 83، 84، 92، 110، 127، 133، 160، 255، 266، 295، 309، 325، 335، 342، 343، 354، 355، 356، 357، 359، 363، 367، 368، 369، 371، 376، 418، 419، 428، 443، 450، 460، 461، 462، 484، 498، 532، 533، 534، 575، 576، 577، 581، 602، 611، 617. 9/ 9، 26، 27، 49، 61، 62، 112، 113، 121، 185، 186، 219، 224، 240، 241، 269، 284، 289، 290، 293، 298، 306،

عميرة الأسدي: 8/ 15. عناق (امرأة بغي) : 8/ 366. عوبديا (نبي) : 4/ 399. عوج بن عناق: 1/ 215. 9/ 91. العوراء (أخت أبي سفيان وزوجة أبي لهب) : 1/ 551، 552. عوف بن الحارث: 7/ 37. عوف بن مالك: 1/ 484. 5/ 113. 7/ 273. 8/ 155، 552. 9/ 113.

عوف المزني: 2/ 115. العوفي: 9/ 535. عويمر: 8/ 376. عياش بن أبي ربيعة: 3/ 331. 4/ 338. 5/ 187، 468. 8/ 92، 168، 203، 217. العياشي: 3/ 511. 4/ 369. عياض الأشعري: 9/ 160. عياض بن شداد: 9/ 284. عياض بن غنم: 4/ 250. 9/ 405، 406. عيسو: 2/ 330، 333، 479. 4/ 222. عيسى عليه السلام: 1/ 38، 68، 110، 149، 150، 159، 162، 167، 168، 217، 239، 306، 385، 396، 425، 469، 472، 474، 522. 2/ 71، 84، 85، 86، 87، 91، 136، 137، 164، 335، 344، 346، 354، 427، 434، 463، 464، 465، 469، 470، 473، 476، 481، 495، 498، 499، 500، 501، 502، 503، 504، 506، 507، 508، 509، 510، 512. 3/ 26، 27، 27، 52، 53، 54، 55، 56، 60، 62، 70، 82، 83، 133، 141، 143، 144، 145، 146، 147، 148، 149، 150، 151، 152، 153، 155، 156، 157، 158، 160، 161، 164، 183، 192، 202، 203، 214، 298، 302، 397، 398، 425، 426، 458. 4/ 116، 130، 136، 192، 196، 197، 211، 380، 381، 382، 384، 386، 388، 397، 398، 399، 400، 442، 443، 444، 449، 488، 512، 514، 515، 516، 519، 520، 521، 522، 523، 529، 530، 540. 5/ 31، 57، 60، 103، 108، 182، 229، 243، 254، 285، 286، 287، 292، 293، 315، 341، 354، 432. 6/ 22، 23، 58، 173، 174، 184، 191، 192، 196، 197، 199، 200، 224، 231، 234، 245، 246، 247، 249، 463، 464، 466، 500، 501، 504، 505. 7/ 108، 109، 110، 114، 117، 118، 138، 144، 145، 146، 148، 149، 150، 151، 152، 153، 154، 156، 157، 158، 159، 178، 179، 181، 182، 186، 292، 358، 379. 8/ 270، 271، 272، 273، 274، 275، 276، 277، 278، 279، 280، 283، 288، 289، 290،

- غ -

291، 292، 303، 542، 543، 555، 560، 561، 568، 570، 571، 573، 574، 615. 9/ 8، 45، 53، 75، 82، 83، 84، 86، 90، 137، 142، 144، 145، 150، 168، 181، 191، 193، 196، 197، 205، 235، 242، 256، 257، 258، 259، 260، 261، 262، 263، 264، 296، 307، 329، 394، 397، 409، 416، 419، 432، 541. العيص بن إسحق: 5/ 88. عيينة بن بدر: 9/ 458، 474. عيينة بن حصن: 9/ 388. عيينة الفزاري: 5/ 65. - غ- الغرياني: 1/ 311. الغزالي: 1/ 231. 2/ 56. غيابة بن ربعي: 9/ 162. غيلان بن سلمة: 8/ 14، 15. غيلان بن عمرو: 7/ 112. - ف- فاطمة بنت أبي حبيش: 6/ 400. فاطمة بنت الخطاب: 3/ 331. 4/ 287. 6/ 28. 9/ 322. فاطمة بنت الرسول: 1/ 82، 238، 243، 244، 311. 3/ 271، 383، 384. 4/ 459، 460. 5/ 297، 298. 6/ 96، 108، 160، 7/ 54، 55، 57، 59، 62، 159، 160، 161، 162، 379، 380، 382. 9/ 115، 118، 297، 299، 306، 579. فاطمة بنت صفوان بن أمية: 2/ 150. 4/ 251. فاطمة بنت قيس: 4/ 383. 6/ 286، 420. 8/ 342، 343. 9/ 462. فاطمة المخزومية: 3/ 331. الفراء: 1/ 217، 356، 396. 2/ 321، 452. 5/ 94، 96. 8/ 304. فرات بن حيّان: 8/ 520. 9/ 13. فراس بن النضير: 3/ 331. فرعون: 1/ 146، 168، 177، 220، 222، 225، 392، 396، 405، 421، 422، 423، 453، 523، 531، 533، 534، 535. 2/ 143، 159، 160، 226، 283، 285، 318، 361، 435، 436، 437، 438، 439، 440، 444، 483، 486، 487، 527. 3/ 57، 186، 190، 191، 192، 193، 194، 195، 196، 197، 199، 200، 245، 247، 248، 484، 285، 290، 308، 309، 311، 313،

- ق -

314، 317، 319، 322، 351، 435، 436، 437، 442، 489، 490، 491، 534، 535. 4/ 29، 191، 226، 350، 362، 363، 364، 365، 366، 367، 370، 371، 392، 488، 513، 514، 515، 518، 534، 545، 546، 547. 5/ 39، 221، 274، 314، 384، 385، 410، 412، 413، 414، 465، 480. 8/ 539، 541. 9/ 259. فروة بن نفاثة الجذامي: 9/ 389، 400. فضالة بن عبد الله: 9/ 122. فضالة بن عبيد الأنصاري: 6/ 70. 7/ 301. الفضل بن العباس: 1/ 334. 5/ 302. 7/ 93. 9/ 384، 581، 589، 590. الفناري: 2/ 56. فنحاص بن عذار: 7/ 173، 283. 9/ 174، 415. فيثاغوروس: 5/ 98. فيلبس (حواري) : 4/ 399. 7/ 151. فيلب حتي: 1/ 50، 52، 54. 3/ 153. 4/ 544. - ق- قابيل: 4/ 416. 5/ 455. 9/ 96، 97. قارون: 1/ 162، 168، 392، 396. 3/ 308، 341، 342، 343، 344. 4/ 249، 361، 365. 5/ 480. 7/ 427. 8/ 562. القاسم بن الفضل الحداني: 2/ 130، 131. القاسمي: 1/ 287. 2/ 56، 83، 312، 414، 532. 3/ 358، 484. 5/ 87، 89، 101، 123. 6/ 203، 211، 234، 235، 296، 325، 363، 415، 441، 501، 504، 505. 7/ 104، 130، 197، 240، 296، 412. 8/ 15، 24، 52، 89، 101، 125، 145، 149، 160، 161، 195، 244، 363، 369، 485، 503، 617. 9/ 54، 112، 195، 241، 359، 405، 425، 536، 537، 542، 565. القاضي ابن المنير: (انظر ابن المنير) . القاضي الباقلاني: 1/ 139. القاضي عياض: 2/ 55، 56. 7/ 145. القبطي (قتيل موسى) : 1/ 224. قبيصة بن مخارق الهلالي: 4/ 30. 9/ 35، 471، 475. قتادة: 1/ 211، 411، 415. 2/ 13، 133، 284، 348، 461، 498. 3/ 82، 168، 188، 237، 402، 424، 460، 462، 490، 494، 504. 4/ 80، 105، 111، 281،

- ك -

296، 373، 374، 418، 443، 444، 458، 459، 466، 531، 555. 5/ 11، 25، 31، 61، 62، 78، 86، 88، 133، 168، 260، 288، 478، 552. 6/ 115، 284، 297، 298، 418، 426، 489. 7/ 50، 119، 201، 259، 260، 266، 286، 403، 428. 8/ 230، 418، 448، 490، 503، 578، 597، 616. 9/ 13، 14، 15، 19، 26، 43، 96، 129، 131، 134، 182، 197، 207، 293، 316، 342، 350، 357، 394، 423، 487، 503، 526. قتيلة أم أسماء بنت أبي بكر: 9/ 274. قثم بن العباس: 7/ 93. 9/ 589. قدور أوغلي (الخطاط) : 1/ 12، 13، 114، 125، 128. القديس بولس: 2/ 500. القديس يعقوب: 2/ 500. القديس يهوذا: 2/ 500. القديس يوحنا: 2/ 500، 501. 5/ 106. القرطبي: 1/ 223. القرظي: 2/ 320. 3/ 155. 4/ 228. قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة: 9/ 283. قسّ بن ساعدة الإيادي: 9/ 201. قصي بن كنانة: 9/ 378. قصي (الجد الرابع للنبي) : 2/ 169، 550. القصيمي: 4/ 41. قطبة بن عامر: 7/ 37. قطروس: 5/ 70. قطورة: 7/ 155. قطورية: 2/ 479. قلع بن عباد: 9/ 433. القمي: 5/ 412. قيس بن صرمة: 6/ 312. قيس بن صعصعة: 1/ 82، 82. قيس بن عباد: 6/ 289. قيس بن مخرمة: 9/ 348. قيصر الروم: 2/ 229. 5/ 500. 7/ 297. 8/ 533، 579. 9/ 400، 534. - ك- الكارزاني: 1/ 312. 2/ 517. 4/ 518. 5/ 412. الكاشي: 1/ 312. 8/ 157. 9/ 163، 184. كالب: 9/ 90. كايتاني (مستشرق طلياني) : 1/ 87، 423. 4/ 119. 5/ 489. كبشة: 9/ 68. كثير بن الصلت: 8/ 356. كثير (مولى بني مرة) : 6/ 426. كرز بن جابر الفهري: 7/ 110، 227. 9/ 310. كركرة: 7/ 261.

- ل -

كريب (غلام ابن عباس) : 6/ 310. 8/ 339. كسرى بن هرمز: 2/ 229. 5/ 500. 7/ 297. 8/ 440، 533، 567، 579. كشوطوش (أحد أصحاب الكهف) : 5/ 57. كعب الأحبار: 1/ 168، 214، 216، 219، 220، 354، 355، 356، 358، 396، 508. 2/ 161، 162، 320، 454، 498. 3/ 164. 4/ 193، 468. 5/ 83، 96، 260، 315، 375، 6/ 74، 211. 8/ 570. 9/ 26، 298، 314. كعب بن أبي: 5/ 555. 9/ 215. كعب بن الأشرف: 5/ 488. 7/ 283، 307. 8/ 159، 432، 433. كعب بن عجرة: 1/ 332. 7/ 289. كعب بن عياض: 1/ 540. 3/ 223. 9/ 423. كعب بن لؤي: 7/ 336. كعب بن مالك: 1/ 540. 3/ 224، 277. 6/ 43، 112، 164. 9/ 33، 441، 505. 531، 548، 549، 550، 552، 553، 554، 571. الكلبي: 1/ 168، 210، 214، 217، 354، 396. 2/ 51، 52، 208، 218، 248. 3/ 166. 4/ 304، 373، 374. 5/ 31، 420. 7/ 276. 8/ 304، 331، 490، 591. 9/ 15، 16، 184، 301، 317، 399. كنانة بن أبي الحقيق: 8/ 603. كنانة العدوي: 2/ 231. كند بن حنبل: 8/ 395. كنعان (ابن حام) : 2/ 479. كورش: 1/ 295. 2/ 444، 481، 482. 3/ 360. 5/ 98، 99، 100. كوش: 1/ 213. - ل- لاقيس (ابن إبليس) : 1/ 230. لاوي (ابن يعقوب) : 2/ 449. لبيد بن الأعصم: 2/ 51، 52، 53. 6/ 209. لقمان الحكيم: 1/ 163، 227، 354. 4/ 242، 245، 246، 247، 248، 398، 399. لقيط بن عامر: 8/ 313. لهاب (ابن إبليس) : 1/ 230. لوط عليه السلام: 1/ 95، 102، 534. 2/ 117، 118، 180، 212، 285، 422، 423، 486، 487. 3/ 84، 255، 257، 292، 530، 531، 532. 4/ 53، 55، 116، 229، 398. 5/ 31، 275، 276، 278، 357، 465، 475، 479، 493.

- م -

9/ 92، 333. الليث بن سعد: 1/ 69. 2/ 413. 8/ 356. 9/ 102. ليلى (زوجة عامر بن ربيعة) : 4/ 308. ليوتا (اسم الحوت) : 1/ 227. - م- مأجوج: 1/ 219، 220. ماروت: 1/ 168، 214، 396. 6/ 206، 207، 208، 209، 210، 211، 212. مارية القبطية: 2/ 382. 7/ 403. 8/ 533. ماعز الأسلمي: 8/ 355، 358، 360. مالك بن أنس: 1/ 11، 84. 2/ 57، 413. 3/ 20، 238، 239. 5/ 11، 140، 141. 6/ 314، 386، 401، 411، 412، 444، 448. 7/ 197، 398. 8/ 64، 70، 71، 73، 77، 83، 89، 92، 93، 127، 134، 226، 265، 359، 360، 362، 377، 378، 397، 473، 617. 9/ 65، 122، 138، 227، 286، 393، 411، 420، 465، 466، 484. مالك بن أوس: 6/ 495. مالك بن الحويرث: 1/ 336، 337. مالك بن ربيعة بن قيس: 4/ 251. مالك بن زيد: 8/ 448. مالك بن صعصعة: 2/ 86، 91، 92. 3/ 354. 5/ 360، 361. مالك بن عوف: 7/ 112. 9/ 384، 391. مالك (خازن النار) : 4/ 525، 526، 527. 5/ 354. مالك الطائي: 3/ 381. المأمون العباسي: 3/ 383، 385. 6/ 26. 9/ 360. مبشر (من بني أبيرق) : 8/ 230. متى العشار (حواري) : 4/ 399. متى القسار (تلميذ المسيح) : 7/ 151. مجاهد بن جبر: 1/ 17، 80، 83، 168، 206، 211، 214، 396، 411، 507. 2/ 13، 131، 164، 247، 371، 394، 402، 529. 3/ 164، 166، 168، 361، 383، 402، 425، 440، 490، 504، 547. 4/ 80، 93، 105، 235، 281، 296، 373، 415، 458، 459، 549. 5/ 11، 78، 112، 155، 156، 165، 399، 415، 421، 472، 511، 541. 6/ 31، 55، 56، 62، 75، 104، 176، 453، 519. 7/ 11، 49، 266، 276، 295، 330، 350، 403، 428. 8/ 22، 208، 278، 304، 396،

398، 429، 448، 455، 552. 9/ 19، 26، 35، 96، 129، 131، 136، 148، 159، 175، 180، 194، 227، 272، 342، 348، 371، 372، 379، 412، 448، 574. مجمع بن حارثة الأنصاري: 8/ 576، 578. محسيميلينا (أحد أصحاب الكهف) : 5/ 57. محمد أحمد العدوي: 1/ 11. محمد الباقر: (انظر أبو جعفر محمد بن علي) . محمد بن أبي بكر: 9/ 578. محمد بن إسحق: 1/ 168، 206، 328، 329، 330، 396. 2/ 179، 287. 3/ 361. 4/ 228. 5/ 57، 94، 276، 281، 368. 7/ 17، 57، 58، 66، 109، 148، 336. 9/ 74، 342، 418، 441، 442. محمد بن أسعد: 6/ 165، 166. محمد بن جعفر: 7/ 148. محمد بن حبيب بن خراش: 8/ 523. محمد بن الحسن الطوسي: 1/ 80، 94، 238، 309، 312. 7/ 60. محمد بن حمزة الكرماني: 1/ 241. محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ التيمي: 2/ 179. محمد بن سعد: 6/ 24. 7/ 105، 106، 110، 265. 8/ 602، 613. 9/ 71، 346، 350، 354، 540، 580، 591. محمد بن سلمة: 7/ 284. محمد بن الصلت: 4/ 344. محمد بن عبد الله (المسمّى بالنفس الزكية) : 5/ 298. محمد بن عبد الوهاب: 9/ 111. محمد بن كعب القرظي: 1/ 211، 356. 2/ 97. 6/ 231. 9/ 9، 181، 342. محمد بن محمد الأموي الشريشي (الخراز) : 1/ 14. محمد بن يزيد: 8/ 236. محمد الحلبي: 9/ 594. محمد الشرقاوي: 7/ 194. محمد صبيح: 1/ 74. محمد عبده: 1/ 10. 2/ 38، 43، 56. 5/ 181. 6/ 156، 379، 384. 7/ 161، 388. 8/ 18. محمد العلوي: 9/ 163. محمد فوزي: 1/ 10. محمد مصطفى المراغي: 1/ 10. محمود بن لبيد: 5/ 114. 6/ 420. محيصة بن مسعود: 5/ 281. محيي الدين بن عربي: 1/ 124، 546، 547، 548. 2/ 542. 5/ 210. 6/ 96، 132. 7/ 388.

مخشي بن حمير الأشجعي: 9/ 490. مدان: 6/ 239. مدين: 6/ 239. مرارة بن الربيع: 9/ 531، 551. المرتضى: 1/ 94. مرثد: 8/ 366. مرزبان بن مرذبة: 5/ 94. مرطوس (أحد أصحاب الكهف) : 5/ 57. مرة (ابن إبليس) : 1/ 230. مروان بن الحكم: 5/ 16. 8/ 306، 356. مروة: 4/ 172. مريم عليها السلام: 1/ 38، 164، 167، 395، 396. 2/ 49، 137، 354، 469، 503، 504، 505، 510. 3/ 144، 145، 146، 147، 148، 149، 150، 154، 155، 156، 161، 170، 214. 5/ 285، 286، 287، 315، 316. 6/ 198، 500، 504. 7/ 144، 146، 147، 149، 151، 152، 153، 155، 158. 8/ 271، 273، 280، 288، 290، 539، 540، 542. 9/ 83. المستورد بن شداد: 4/ 504. 5/ 537. 9/ 61، 64. مسروق: 2/ 76، 81، 97، 98، 200. 5/ 11، 12. 6/ 281. مسطح بن أثاثة: 8/ 384، 390، 391. مسلم: 1/ 67، 72، 78، 287، 288، 291، 308، 316، 321، 328، 330، 333، 335، 336، 338، 339، 342، 343، 350، 369، 370، 383، 391، 442، 446، 461، 466، 467، 478، 492، 513، 540، 552. 2/ 9، 16، 23، 24، 38، 39، 45، 46، 50، 57، 68، 85، 87، 95، 97، 107، 115، 135، 140، 155، 156، 157، 179، 199، 200، 234، 236، 238، 246، 251، 252، 261، 262، 263، 265، 287، 288، 289، 291، 310، 311، 349، 352، 371، 375، 379، 380، 381، 382، 384، 397، 399، 400، 411، 416، 456، 467، 468، 473، 474، 512، 513، 526، 537، 555، 559، 567. 3/ 30، 37، 47، 74، 76، 103، 123، 155، 169، 174، 178، 252، 327، 353، 381، 381، 382، 394، 462، 463، 470، 475، 514، 538، 539، 549. 4/ 30، 50، 87، 97، 100، 105، 149، 174، 195، 196، 201، 225، 249، 252، 276، 319، 349، 378، 382، 385،

388، 422، 460، 474، 475، 477، 478، 486، 516، 520، 524، 532، 533، 540. 5/ 22، 49، 50، 65، 76، 103، 104، 114، 123، 125، 127، 140، 141، 149، 154، 155، 156، 180، 194، 197، 198، 200، 201، 235، 251، 277، 278، 295، 305، 317، 326، 353، 368، 395، 417، 418، 443، 452، 535، 537، 545، 547. 6/ 13، 41، 43، 46، 52، 85، 88، 106، 110، 111، 120، 124، 125، 137، 164، 175، 211، 214، 220، 225، 236، 240، 255، 267، 271، 275، 281، 286، 295، 296، 302، 307، 322، 324، 354، 360، 361، 381، 394، 405، 420، 451، 465، 468، 479، 488، 497، 518، 521. 7/ 17، 19، 20، 34، 48، 57، 70، 84، 88، 103، 119، 154، 156، 159، 161، 162، 176، 203، 208، 225، 317، 318، 320، 325، 328، 337، 339، 342، 344، 352، 356، 377، 379، 380. 8/ 13، 21، 22، 45، 57، 59، 78، 79، 81، 83، 91، 92، 96، 98، 107، 119، 120، 126، 131، 144، 148، 151، 154، 155، 170، 182، 188، 190، 191، 192، 204، 207، 208، 211، 214، 224، 225، 226، 232، 246، 256، 269، 271، 325، 332، 342، 343، 350، 354، 396، 416، 426، 427، 440، 441، 450، 451، 462، 481، 485، 505، 510، 514، 518، 531، 559، 567، 568، 577، 608. 9/ 35، 36، 39، 42، 56، 60، 61، 62، 64، 66، 67، 68، 78، 88، 101، 109، 119، 128، 156، 183، 186، 189، 195، 212، 221، 223، 224، 225، 226، 240، 241، 269، 293، 299، 302، 311، 317، 319، 356، 387، 388، 389، 396، 411، 421، 422، 423، 424، 441، 453، 464، 466، 471، 536، 539، 543، 562، 578، 585، 587، 588. مسلم الأصفهاني: 8/ 101. مسلم بن خالد الزنجي: 8/ 332. مسلمة بن مخلد الأنصاري: 1/ 73، 82. المسور بن مخرمة: 1/ 73. 7/ 397.

المسيح الدّجال: 1/ 216. 2/ 50، 95، 498. 4/ 195، 196، 374، 375، 380، 382، 384، 385، 387، 388، 520، 540. 5/ 50، 103، 106، 159، 235، 236، 354. 7/ 146، 156. 8/ 170، 303. المسيح عليه السلام: (انظر عيسى عليه السلام) . مسيكة (جارية عبد الله بن أبي بن سلول) : 8/ 416. مسيلمة الكذاب: 3/ 97، 499. 4/ 124، 125. 5/ 541. 9/ 564. مصدق: 9/ 484. مصطفى المراغي: 1/ 257. 2/ 370. مصعب بن ثابت: 4/ 50. مصعب بن سعد: 5/ 109. مصعب بن عمر: 3/ 331. مصعب بن عمير: 4/ 308. 5/ 18. 6/ 136. 7/ 28، 38، 236. 8/ 493. مصعب بن نوح الأنصاري: 9/ 292. مضر (جد قريش) : 2/ 169. المطران الدبس: 3/ 150. مطرّف: 9/ 423. مطعم: 2/ 50. المطلب بن أزهر بن عوف: 4/ 251. 7/ 57. مطوس (ابن إبليس) : 1/ 230. المظفري: 1/ 68. معاذ بن أنس: 8/ 517. معاذ بن جبل: 1/ 70، 82. 2/ 340، 341. 3/ 551، 5/ 109، 350. 6/ 196، 319، 389. 7/ 169، 212، 289. 8/ 39، 207، 518، 536. 9/ 86، 411، 477، 484، 550. معاذ بن عبد الله: 2/ 69. معاذة: 6/ 399. معاوية بن أبي سفيان: 1/ 220، 241، 411. 2/ 84، 130، 133، 545. 3/ 123، 354. 4/ 465، 466. 5/ 16، 96، 112. 6/ 310. 7/ 84، 301. 8/ 219، 484، 507، 511، 516. 9/ 139، 409، 425، 426، 460، 561. معاوية بن الحكم الأسلمي: 6/ 451. معاوية بن قرة: 1/ 363. معقل بن سنان: 8/ 74. معقل بن يسار: 2/ 311. 3/ 20. 6/ 249، 431. 7/ 327. 8/ 78. معمر بن عبد الله: 4/ 251. المغيرة بن شعبة: 1/ 408. 3/ 155. 4/ 385. 6/ 221. 7/ 112. 8/ 52، 182، 369. 9/ 64، 66، 293، 348. المغيرة بن وائل: 8/ 432.

المغيرة المخزومي: 2/ 150. مقاتل: 1/ 168، 215، 217، 396. 2/ 9، 51، 52، 164. 4/ 102، 303، 307، 373، 374، 422، 531. 5/ 108، 420، 6/ 97، 115، 120. 7/ 274، 349، 350، 382. 8/ 22، 489، 553، 557. 9/ 274. المقداد بن الأسود: 5/ 509. 7/ 17. 8/ 127، 172. 9/ 94، 207، 269. المقدام بن معد يكرب: 4/ 173، 175. 5/ 123، 139. 7/ 312. مقيس بن صبابة: 9/ 309. مكسلمينا (أحد أصحاب الكهف) : 5/ 57. ملاخي (نبي) : 4/ 399. الملك فؤاد: 1/ 114. ملكي صادق: 2/ 177. المنذر بن جرير: 9/ 198. المنذر بن الحباب: 7/ 18. المنذر بن عمرو الأنصاري: 2/ 9. 7/ 38. منسك: 1/ 220. منسى (من أسماء الجن) 5/ 26. المنصور: 5/ 298. منصور علي ناصف: 1/ 287. منكر (ملك) : 4/ 375. المنهال بن عمرويه: 5/ 235. 7/ 58. منير بن الزبير: 1/ 223. المهدي المنتظر: 1/ 244. 5/ 297، 298. 8/ 157، 442. مهران بن ميمون: 8/ 96. موسى بن جبير: 6/ 210. موسى بن جعفر الكاظم (أحد الأئمة الاثني عشر) : 5/ 183، 535. موسى بن عقبة: 8/ 578. موسى بن ميشا: (انظر موسى بن يشا) . موسى بن يشا: 5/ 83. موسى عليه السلام: 1/ 40، 74، 110، 146، 149، 150، 162، 168، 171، 172، 177، 216، 217، 220، 221، 222، 224، 260، 295، 305، 385، 392، 405، 422، 423، 453، 472، 473، 474، 517، 519، 520، 521، 522، 534. 2/ 63، 84، 85، 86، 87، 88، 89، 90، 91، 94، 110، 118، 163، 164، 170، 198، 199، 228، 229، 285، 333، 361، 427، 433، 435، 436، 437، 438، 439، 440، 441، 443، 444، 445، 446، 447، 449، 450، 451، 452، 453، 454، 455، 457، 458، 461، 463، 477، 478، 479، 480، 481، 483، 484، 485، 486، 487، 492، 493، 495، 498، 510، 519، 527، 535. 3/ 9،

48، 52، 53، 54، 55، 56، 82، 83، 146، 155، 160، 161، 186، 189، 190، 191، 192، 193، 194، 195، 196، 197، 199، 200، 201، 202، 203، 204، 205، 245، 246، 247، 248، 249، 283، 284، 285، 286، 308، 309، 310، 311، 312، 313، 314، 315، 316، 317، 318، 319، 320، 321، 322، 325، 343، 344، 351، 357، 358، 359، 362، 275، 397، 435، 436، 437، 442، 488، 489، 490، 491، 534، 535، 542، 543، 544. 4/ 9، 29، 111، 116، 121، 122، 136، 178، 179، 189، 190، 191، 226، 227، 285، 346، 350، 362، 363، 364، 365، 366، 376، 379، 397، 400، 422، 427، 442، 443، 444، 448، 449، 488، 512، 514، 515، 534، 546. 5/ 7، 11، 12، 24، 31، 39، 50، 81، 83، 84، 85، 86، 87، 88، 89، 94، 179، 220، 221، 222، 243، 254، 273، 274، 314، 315، 353، 354، 355، 410، 413، 414، 432، 480، 524. 6/ 21، 58، 59، 60، 140، 168، 170، 177، 178، 179، 180، 184، 185، 191، 192، 194، 215، 218، 219، 224، 231، 245، 246، 249، 368، 460، 462، 464، 465. 7/ 108، 159، 181، 182، 292، 358، 381، 391، 425، 426، 427. 8/ 260، 270، 271، 272، 273، 284، 286، 541، 555، 560، 561، 562، 563، 615. 9/ 7، 74، 75، 76، 86، 88، 89، 90، 99، 125، 130، 132، 133، 134، 137، 162، 168، 176، 184، 365، 388، 419، 541، 588. مؤمن آل فرعون: 1/ 224. 3/ 312. 4/ 350. 5/ 223. ميخا (نبي) : 4/ 399. ميكال: (انظر ميكائيل) . ميكائيل: 1/ 228، 245، 247، 258، 259، 245، 254. 2/ 93. 4/ 333، 526، 527. 5/ 100، 309. 6/ 200، 201، 202، 203، 204، 210. 7/ 256. 8/ 534. 9/ 591. ميمونة بنت الحارث: 6/ 397. 7/ 293، 374، 403، 404. 8/ 127، 614. ميمونة بنت سعد: 8/ 407.

- ن -

ميمونة (مولاة النبي صلّى الله عليه وسلم) : 2/ 383. 3/ 357. - ن- ناتان: 2/ 307، 319، 488. 4/ 399. ناسك: 1/ 220. ناصر (من أسماء الجن) : 5/ 26. نافع: 1/ 336. 8/ 516. 9/ 480، 555. نافع (اتهم المغيرة) : 8/ 52، 369. نافع بن أبي رويم: 1/ 136. 4/ 320. نافع بن جبير: 1/ 328. نافع بن عقبة: 8/ 440. نبتل بن الحارث: 9/ 486. نبوخذ نصر: 1/ 220. 2/ 481، 482، 485. 3/ 360، 361. 5/ 98، 128، 258. 6/ 207، 226. 475. 9/ 176. نبيشة الهذلي: 6/ 360. النجاشي: 2/ 229. 6/ 227. 7/ 211، 298. 8/ 61، 570، 579. 9/ 66، 163، 203. نحميا (نبي) : 4/ 399. نحوم (نبي) : 4/ 399. النخعي: 8/ 134. النسائي: 1/ 78، 82، 244، 271، 308، 333، 334، 338، 342، 343، 408، 431، 435، 478، 513. 2/ 9، 23، 38، 45، 49، 50، 57، 69، 83، 94، 95، 108، 113، 114، 176، 200، 300، 310، 311، 379، 380، 382، 381، 383، 397، 400، 401، 416، 473، 474. 3/ 37، 196، 382، 514. 4/ 146، 199، 202، 306، 374، 375، 383، 477، 492، 534. 5/ 49، 63، 80، 140، 141، 149، 154، 155، 180، 198، 235، 328، 395، 546. 6/ 41، 42، 43، 46، 110، 111، 112، 255، 20، 271، 286، 295، 296، 300، 305، 307، 309، 312، 314، 322، 353، 373، 381، 400، 405، 406، 408، 418، 419، 420، 426، 427، 451، 498. 7/ 52، 57، 84، 85، 90، 186، 195، 289، 295، 301، 337، 338، 341، 342. 8/ 59، 61، 78، 79، 81، 98، 107، 109، 120، 134، 148، 156، 205، 207، 219، 225، 246، 335، 342، 354، 414، 415، 426، 427، 450، 451، 471، 474، 485. 9/ 17، 36، 42، 59، 60، 62، 65، 67، 68، 109، 114، 118، 119،

120، 140، 141، 195، 208، 212، 222، 225، 234، 248، 255، 290، 356، 359، 382، 411، 421، 422، 464، 468، 469، 471، 519، 543، 544، 562. النسفي: 1/ 411. 2/ 52، 53. 4/ 281. 6/ 7. 7/ 346. 8/ 356، 531. 9/ 427. نصوح الطاهر: 1/ 241، 360، 361. النضر بن الحارث: 3/ 429. 4/ 79، 242، 559. 5/ 498. 6/ 11، 15. 7/ 19، 28، 41، 42، 92. 8/ 308. النضر بن الحرث بن عبد الدار: 3/ 50. النضر بن الحرث بن كلدة: 4/ 502. النعمان بن بشير: 1/ 420. 8/ 45، 361، 509. 9/ 375. النعمان بن الحرث الفهري: 5/ 393. نعمان بن عمرو بن عبد المطلب: 7/ 61. نعيم بن حماد الخزاعي: 2/ 413. 8/ 495. نعيم بن عبد الله: 2/ 261. نعيم بن عبد كلال: 9/ 411. نعيم (من غطفان) : 7/ 362. نفتالي (ابن يعقوب) : 2/ 449. نكير (ملك) : 4/ 375. نمرود بن كنعان: 1/ 220. 2/ 107. 3/ 163. 5/ 128. 6/ 473، 474. النواس بن سمعان: 4/ 385. 5/ 103. نوح ابن مريم: 8/ 286. نوح عليه السلام: 1/ 95، 164، 165، 167، 168، 228، 395، 396، 474، 475. 2/ 49، 117، 284، 333، 416، 417، 423، 427، 478، 479، 486، 487، 510. 3/ 29، 52، 53، 54، 55، 56، 160، 163، 192، 252، 253، 257، 357، 358، 359، 370، 397، 433، 442، 487، 488، 519، 520، 524، 525، 526. 4/ 116، 218، 219، 397، 398، 400، 401، 442، 443، 444. 5/ 31، 207، 208، 209، 210، 278، 312، 386، 432، 465، 475، 476. 6/ 25. 7/ 143، 147، 159، 358، 379. 8/ 283، 284. 9/ 150، 328، 329، 331. نوف البكالي: 1/ 215، 356. 2/ 461. 5/ 83، 85. نوفل بن الحرث بن عبد المطلب: 7/ 57، 61، 93. نوفل بن معاوية الديلي: 8/ 15. النووي: 1/ 96. 2/ 58. 9/ 405، 406. النيسابوري: 2/ 7، 53. 4/ 281. 6/ 7. 9/ 160، 297، 427، 574.

- هـ -

- هـ- هابيل: 4/ 416. 5/ 455. 9/ 96، 97. هاجر (زوجة إبراهيم) : 2/ 164، 330، 479. 5/ 242. هاروت: 1/ 168، 214، 396. 6/ 206، 207، 208، 209، 210، 211، 212. هارون الرشيد: 9/ 405. هامان: 1/ 168، 392، 396. 3/ 315، 317، 318. 4/ 362، 363. 5/ 480. هاويل: 1/ 220. هدد بن بدد: 5/ 88. الهذلي: 2/ 461. هرقل: 2/ 467. 7/ 162، 163. 9/ 78. هرون عليه السلام: 1/ 74، 168، 213، 396، 522. 2/ 86، 88، 333، 433، 435، 444، 445، 450، 487. 3/ 52، 54، 83، 145، 146، 155، 160، 161، 193، 195، 201، 202، 245، 246، 314، 488، 490. 4/ 116، 179، 226، 227، 398. 5/ 273، 274، 314، 315. 6/ 460. 7/ 427. 8/ 283. 9/ 75، 162، 184. هشام بن حكيم بن حزام: 1/ 245. 4/ 320. هشام بن العاص: 2/ 467. 3/ 331. 9/ 284. هشام بن عروة: 8/ 13. هشام الكلبي: 1/ 9. 2/ 51. الهفاف (ابن إبليس) : 1/ 230. هلال بن أمية: 8/ 375. 9/ 531، 551، 552. هلال بن عويمر: 1/ 210. 8/ 197. 9/ 102، 354. همام بن منبه: 2/ 452. هند بنت أبي جهل: 9/ 284. هند (زوجة أبي سفيان) : 7/ 235، 236. 9/ 289. هود عليه السلام: 1/ 102، 535. 2/ 331، 418، 419، 510. 3/ 253، 254، 255، 257، 526، 527، 529. 4/ 136، 397، 398. 5/ 20، 22، 31، 326. 9/ 332. هوشع (نبي) : 4/ 399. هيرودوت: 2/ 102. هيرودوس: 5/ 316. 7/ 132. - والواثق العباسي: 5/ 97. واثلة بن الأسقع: 1/ 80، 261. 2/ 132، 262. 3/ 74. 5/ 194. 6/ 240، 315. 9/ 23.

- ي -

الواحدي: 1/ 17. الواسطي: 1/ 148. 5/ 216. واقد: 2/ 381. وائل بن حجر: 1/ 308. وائل بن العاص: 2/ 12. وحشي الحبشي: 4/ 338، 339، 340. 7/ 236. 8/ 138. وديعة بن ثابت: 9/ 487. ورقة بن نوفل: 1/ 40، 167، 175، 176. 3/ 523. 4/ 193. 5/ 493. 6/ 27. الوليد بن عقبة بن أبي معيط: 5/ 351، 352. 6/ 30، 31. 8/ 501. الوليد بن مسلم: 1/ 223. الوليد بن المغيرة: 1/ 449، 450. 2/ 112، 206. 3/ 335، 472. 4/ 153، 501. 5/ 420. 6/ 116. الوليد بن الوليد: 4/ 338. 5/ 468. 8/ 168. وهب بن منبه: 1/ 168، 217، 223. 4/ 354، 368، 369. 5/ 104. وهب بن يهوذا: 9/ 87. ويل (مستشرق) : 5/ 199. - ي- يأجوج: 1/ 219، 220. ياسر بن أخطب: 6/ 219. يافث (ابن نوح) : 1/ 475. 4/ 218، 401، 444. 5/ 94. يامين: 6/ 165. ياهو (نبي بني إسرائيل) : 4/ 399. يثرو (يثرون- هو كاهن مدين) : 3/ 312. يحيى بن الخراز: 7/ 288. يحيى بن سعيد: 2/ 37، 38. 7/ 342. يحيى بن معين: 2/ 537. 5/ 328. يحيى بن يزيد: 8/ 226. يحيى عليه السلام: 2/ 86، 503. 3/ 141، 142، 143، 144، 147، 150، 151، 160، 361. 4/ 116، 398، 549. 5/ 284، 285. 6/ 198، 200، 226. 7/ 132، 144، 145، 147، 149، 150، 152. يزيد بن أبي زياد: 4/ 549. يزيد بن أبي سفيان: 2/ 37، 38. يزيد بن حسان: 2/ 52. يزيد بن الخطيب الأسلمي: 7/ 100. يزيد بن شراحيل الأنصاري: 8/ 351. يزيد بن معاوية: 5/ 16، 478. 6/ 275. يسار الجهني: 2/ 530، 530. يسار (رومي من صناع مكة) : 1/ 175. 3/ 50، 51. يساكر (ابن يعقوب) : 2/ 449. اليسع عليه السلام: 1/ 102. 2/ 305، 329، 330، 332، 333. 4/ 116، 398.

يسوع (انظر عيسى عليه السلام) . اليشاع: (انظر اليسع) . يشاق: 6/ 239. يشوع (نبي) : 4/ 399. يطونس قالوس (أحد أصحاب الكهف) : 5/ 57. يعقوب بن حلفى (حواري) : 4/ 399. 7/ 151. يعقوب بن زبدي (حواري) : 4/ 399. 7/ 151. يعقوب بن عبد الله الأشعري: 5/ 328. يعقوب الحضرمي: 1/ 136. 4/ 320. يعقوب عليه السلام: 1/ 102، 110، 385، 473، 522. 2/ 176، 177، 305، 329، 330، 332، 333، 433، 479، 486. 3/ 52، 54، 160، 161، 162، 203، 529. 4/ 11، 27، 116، 222، 397، 398، 448، 449. 5/ 101، 275، 276، 277، 478. 6/ 166، 184، 243، 244، 245، 246، 247، 248، 249. 7/ 155، 182، 188، 190، 191، 192، 194، 381. 8/ 283، 542. 9/ 92، 168. يعلي بن مرة: 6/ 505. يعيش (غلام حويطب) : 1/ 175. 5/ 183. يقشان: 6/ 239. يقطان بن عاجر: 3/ 291. يمليخا (أحد أصحاب الكهف) : 5/ 57. ينّار بن مكرم: 5/ 430. يندوسيس: 5/ 58. يهوذا: 2/ 449. 5/ 70. 6/ 22. 8/ 276، 542. يهوذا الأسخريوطي (حواري) : 4/ 399. 7/ 150، 151. يوثام: 2/ 482. يوحنا بن زكريا: 3/ 26. 7/ 132. يوحنا (حواري) : 2/ 346. 4/ 399. 7/ 151. يوحنا المعمدان: 6/ 198. يوحنه بن رؤبة: 9/ 415، 441. يوسف ابن داود: 8/ 542. يوسف بن سعد: 2/ 130. يوسف عليه السلام: 1/ 165، 167، 171، 172، 224، 225، 395، 396، 395، 396. 2/ 86، 333، 356، 438، 449، 486، 487. 3/ 163، 4/ 9، 10، 11، 12، 13، 15، 16، 17، 18، 19، 20، 21، 22، 23، 24، 26، 27، 116، 363، 371، 398. 5/ 31. 7/ 248. يوسف النجار: 3/ 149. 5/ 316. 8/ 542. يوسى: 8/ 542.

يوسيفوس (مؤرخ يهودي) : 5/ 99. 7/ 132. يوشع بن نون: 1/ 217. 2/ 331. 5/ 83، 84. يوشع عليه السلام: 2/ 498. 6/ 462. 9/ 90. يوشيا: 2/ 484. يونان بن أمتاي: 1/ 391. 2/ 482. يونان بن يافث بن نوح: 5/ 94. يونس بن متى: 1/ 391. يونس عليه السلام: 1/ 168، 224، 353، 355، 389، 390، 393، 396، 522. 2/ 482، 486. 3/ 52، 54، 496. 4/ 116، 230، 231، 232، 398. 5/ 31، 283. 8/ 283. يوثيل (نبي) : 4/ 399.

4 - فهرس الشعوب والقبائل والطوائف

4- فهرس الشعوب والقبائل والطوائف - أ- الآراميون: 2/ 302. 6/ 462. 8/ 292. آقوق: 5/ 97، 98. آل إبراهيم: 1/ 332. 7/ 147، 151، 155، 414، 415. 8/ 136، 143. آل البيت: (انظر آل محمد) . آل توجرن: 5/ 105. آل جعفر: 4/ 460. 7/ 380. آل داود: 1/ 221، 411. 4/ 269، 271. آل دقليانوس: 5/ 58. آل عباس: 4/ 460. 7/ 380. آل عقيل: 4/ 460. 7/ 380. آل علي: 4/ 460. 7/ 380. آل عمران: 7/ 143، 147، 151، 155. آل عوف: 7/ 40. آل فرعون: 3/ 309، 310. 4/ 363، 365، 371، 372، 549. 5/ 221. 6/ 162، 168. 7/ 71. آل لوط: 3/ 292. 4/ 52. آل محمد: 1/ 332. 3/ 384، 385. 4/ 437، 460، 516. 5/ 18، 32. 6/ 159. 7/ 57، 59، 414، 415. 8/ 30، 165، 442. آل موسى: 6/ 459. آل النبي: (انظر آل محمد) . آل هرون: 6/ 459. آل ياسين: 4/ 227. آل يعقوب: 3/ 141. 4/ 10. الأحابيش: 8/ 579. 9/ 306. الأحبار: 1/ 472، 521. الأحباش: 2/ 42، 43، 44، 145. 6/ 167، 233. الأحماس: 6/ 347. 9/ 580. الأدراسة: 8/ 508. الأريسيون: 7/ 164. أزد شنوءة: 1/ 148. الأسباط: 1/ 110. 6/ 166، 184، 245، 246، 247، 248، 249. 8/ 283.

الإسبان: 6/ 168. أسد: 6/ 19. 8/ 201، 244، 601، 605. 9/ 71، 514، 520، 521. الإسرائيليون: 1/ 519، 520. 6/ 463، 464، 476. أسلم: 8/ 593، 594. 9/ 306، 520، 521. الأشاعرة: 1/ 234، 235، 269. 3/ 68، 265. أشجع: 8/ 197، 593، 594. 9/ 306. أشعر: 1/ 148. 8/ 603. الأشوريون: 4/ 382. 6/ 462. 8/ 292. أصحاب الأخدود: 2/ 143، 145، 146، 227. أصحاب الأيكة: 1/ 102. 2/ 226، 227، 230، 302، 426. 3/ 256، 257، 258، 312. 4/ 54. أصحاب بدر: 7/ 10. أصحاب الحجر: 4/ 55. أصحاب الرسّ: 2/ 226، 227، 230. 3/ 84. أصحاب الرقيم: 1/ 171، 172. 5/ 55، 58، 59، 62، 93. أصحاب السمرة: 9/ 389. أصحاب فرعون: 2/ 230. أصحاب الفيل: 2/ 41، 42. أصحاب الكهف: 1/ 171، 172، 224. 3/ 169. 5/ 50، 53، 54، 55، 58، 59، 62، 87، 93. أصحاب مدين: 1/ 102. 2/ 228. 6/ 59، 60. 9/ 491. أصحاب موسى: 3/ 246. الإفرنسيون: 1/ 6. الأقباط: 4/ 382. أمة نوح: 9/ 315. الأمويون: 1/ 95، 128، 244. 2/ 123، 130، 131، 293. 3/ 136، 244، 404. 4/ 287، 296، 437. 5/ 237، 296. 7/ 50، 62. 8/ 320، 508، 580. 9/ 308، 409، 467. الأنباط: 1/ 294. 2/ 175. الأنصار: 1/ 77، 83، 85. 2/ 16، 159، 540. 3/ 22، 42، 228، 229. 4/ 41، 300، 457. 5/ 18، 164، 204، 223، 346، 500. 6/ 139، 255، 256، 269، 324، 385، 445، 458، 470، 485. 7/ 17، 28، 29، 59، 62، 79، 89، 93، 97، 98، 99، 102، 103، 212، 236، 240، 272، 309، 314، 315، 316، 317، 318، 319، 320، 335، 352، 354، 366، 377، 386، 415، 427. 8/ 79، 101، 102، 160، 173، 230، 232، 262، 299،

307، 325، 330، 375، 383، 385، 394، 460، 461، 462، 465، 490، 494، 495، 505، 520، 521، 522، 532، 611، 617. 9/ 139، 185، 220، 301، 302، 308، 310، 311، 386، 387، 388، 389، 439، 459، 522، 523، 524، 525، 536، 538، 546، 547، 549، 553، 586. الإنكليز: 1/ 6. أنمار: 1/ 148. أهل الأجناد: 6/ 458. أهل أذرح: 9/ 411، 441. أهل الإفك: 8/ 382. أهل الإنجيل: (انظر النصارى) . أهل إيلياء: 9/ 408، 409. أهل بدر: 7/ 19، 24، 90. 9/ 269، 271. أهل البقيع: 9/ 586. أهل البيت: (انظر آل محمد) . أهل تسالونيكي: 4/ 389. أهل التوحيد: 4/ 35. أهل تيماء: 8/ 602. أهل الجاهلية: 4/ 173. 5/ 168، 194. أهل الجبر: 1/ 237. أهل الجرباء: 8/ 602. 9/ 411، 441. أهل جرش: 5/ 212. أهل الجنة: 5/ 11. أهل الحجاز: 2/ 118، 229. 4/ 229. 6/ 336. 9/ 436. أهل الحديبية: 8/ 604. أهل الحرم: 6/ 346. أهل حضرموت: 5/ 258. أهل الحيرة: 2/ 104، 105. 7/ 220. أهل خيبر: 8/ 607. أهل دومة الجندل: 6/ 211. أهل الذمة: 7/ 220. أهل روما: 9/ 144. أهل السامرة: 1/ 294. أهل سبأ: 4/ 275، 277. أهل الشام: 2/ 290. 3/ 332، 383. 5/ 218. 6/ 347. 9/ 412، 416، 426. أهل شليم: 2/ 177. أهل الصفة: 5/ 18. 6/ 485، 486، 490. أهل صنعاء: 6/ 291. أهل الصوامع: 5/ 109. أهل الطائف: 2/ 380. 9/ 385. أهل العراق: 9/ 416. أهل فارس: 8/ 332. أهل الفترة: 2/ 402. أهل قباء: 9/ 536. أهل القدر: 1/ 237. أهل الكتاب: 1/ 61، 105، 209،

307، 403، 470، 471، 473، 475، 555. 2/ 62، 312، 320، 345، 448، 463، 464، 465، 466، 469، 500، 505، 509، 510. 3/ 55، 59، 60، 149، 152، 159، 260، 299، 303، 321، 323، 326، 438، 439، 492، 522، 523، 530، 543. 4/ 9، 10، 75، 76، 132، 142، 191، 192، 198، 266، 267، 448، 450، 451، 452، 508، 519، 547. 5/ 11، 12، 16، 92، 94، 97، 109، 135، 136، 137، 182، 183، 212، 280، 304، 432، 465، 485، 486، 487، 489، 490، 491، 492، 494، 515، 536، 547، 548. 6/ 24، 31، 85، 130، 151، 161، 162، 166، 186، 199، 205، 214، 215، 218، 231، 234، 235، 249، 250، 252، 273، 304، 393، 471، 518. 7/ 105، 107، 108، 130، 133، 134، 135، 136، 138، 145، 148، 150، 156، 157، 162، 163، 164، 165، 168، 169، 172، 173، 177، 179، 180، 186، 198، 199، 209، 214، 215، 216، 278، 283، 284، 285، 288، 297، 298، 304، 305، 320، 321، 325، 333، 340، 366، 367. 8/ 88، 191، 192، 247، 248، 271، 272، 279، 288، 289، 290، 293، 322، 326، 347، 348، 349، 350، 351، 480، 519. 9/ 44، 48، 50، 51، 73، 75، 76، 77، 78، 79، 80، 81، 86، 87، 96، 99، 102، 130، 133، 135، 146، 153، 156، 165، 167، 168، 177، 178، 179، 182، 184، 187، 188، 194، 195، 246، 253، 277، 296، 317، 318، 319، 330، 331، 333، 398، 399، 401، 402، 403، 413، 420، 425، 432، 493، 562. أهل الكهف: 1/ 551. 5/ 58. أهل كورنتوس: 9/ 144. أهل الكوفة: 9/ 412. أهل كولسي: 4/ 389. أهل مدين: 2/ 426، 428. 3/ 193، 258، 534. أهل المدينة: 3/ 332. 5/ 143، 508. 6/ 134، 135، 219، 347. 7/ 34، 37، 38، 69، 96. 8/ 61، 173، 324. 9/ 523، 524، 525، 536،

- ب -

556، 558، 577. أهل مصر: 3/ 484. 5/ 94. 9/ 416. أهل مقنا: 9/ 412. أهل مكة: 1/ 87. 2/ 42، 44، 101، 102، 149، 178، 253، 273، 274. 3/ 101، 216، 307، 332، 342، 411، 424، 438. 4/ 121، 438، 439، 531. 5/ 187، 191، 238، 242، 243، 290، 323، 329، 504، 543. 6/ 38، 114، 265، 340، 341، 347. 7/ 69، 106، 402. 8/ 552، 606. 9/ 20، 270، 275، 276، 282، 306، 307، 343، 347، 372، 380، 384، 392، 524. أهل منى: 2/ 385. أهل نجد: 3/ 332. 6/ 347. 7/ 267. أهل نجران: 6/ 167. 7/ 111، 215. 9/ 397. أهل النصرانية: (انظر النصارى) . أهل نينوى: 1/ 391. أهل يثرب: 3/ 431. 5/ 288. 7/ 336، 359. أهل اليمامة: 1/ 68. أهل اليمن: 2/ 145، 229. 3/ 332. 6/ 24، 347، 354. 8/ 331، 332، 368. 9/ 141، 302، 412، 416. الأوس: 1/ 148. 4/ 275. 5/ 288، 464، 477، 501، 522. 6/ 136، 190. 7/ 17، 33، 37، 38، 76، 79، 138، 140، 199، 200، 368. 8/ 263، 383، 484. 9/ 59، 75، 155، 176، 289، 529، 538. - ب- البابليون: 1/ 294. 8/ 292. البراهمة: 8/ 292. البرير: 9/ 50، 410. بكر: 7/ 140. 9/ 384. بلي: 1/ 148. بنو أبيرق: 8/ 230. بنو أسد: 5/ 237. 8/ 525، 607. 9/ 564. بنو أسد بن عبد العزي: 2/ 179. بنو أمية: (انظر الأمويين) . بنو أمية بن زيد: 9/ 280. بنو الأوس: 2/ 380. بنو بكر: 8/ 197، 198، 303، 581. 9/ 282، 306، 343. بنو بكر بن كنانة: 9/ 367، 368، 372. بنو تميم: 2/ 179. 3/ 507. 6/ 138. 8/ 498، 499. بنو التيم: 4/ 287. بنو جمح: 4/ 287. بنو الحارث بن فهر: 7/ 93.

بنو حارثة: 7/ 225. بنو الحسحاس: 4/ 247، 248. بنو حنيفة: 1/ 148. 2/ 380. 3/ 499. 6/ 445. 8/ 305، 427، 597. 9/ 564. بنو خزاعة: 8/ 197، 198، 217، 303. 9/ 157، 306، 372. بنو خزيمة: 9/ 367. بنو الديل: 9/ 367. بنو زريق: 2/ 51، 53. بنو زهرة: 2/ 179. 5/ 194. 7/ 18. بنو سالم بن عوف: 7/ 336. بنو سعد: 2/ 91. 9/ 580. بنو سلمة: 3/ 22، 23. 7/ 225. 9/ 509، 550، 551. بنو سليم: 8/ 210. 9/ 386. بنو سهم: 2/ 16. 4/ 287. بنو الشيصبان: 5/ 26. بنو ضمرة: 9/ 350، 354. بنو عامر: 4/ 287. بنو العباس: 4/ 296. بنو عبد الدار: 4/ 287. 7/ 28. بنو عبد شمس: 7/ 57. بنو عبد القيس: 4/ 276. بنو عبد المطلب: 2/ 179. 3/ 271. 7/ 57، 58. 9/ 269، 270، 386، 580، 582. بنو عبد مناف: 1/ 322. 3/ 137. 4/ 153. بنو عدوا: 7/ 18. بنو عدي بن كعب: 3/ 270. 6/ 138. بنو عمرو: 9/ 310. بنو عوف: 7/ 93. 8/ 460. 9/ 502، 535. بنو غطيف: 5/ 211، 212. بنو غفار: 8/ 593، 594. 9/ 514، 520. بنو غنم: 9/ 533. بنو فاطمة: 3/ 383. بنو فهر: 3/ 270. بنو قريظة: 1/ 43. 2/ 39. 4/ 466. 6/ 167، 190. 7/ 76، 124، 125، 323، 361، 367، 368، 370، 372. 8/ 140، 141، 142، 261، 281، 304، 308، 468، 601. 9/ 104، 127، 128، 149، 399، 529، 563. بنو قينقاع: 4/ 466. 6/ 167، 190. 7/ 76، 77، 78، 124، 307، 322، 323، 368، 369. 8/ 140، 142، 261. 9/ 154. بنو كعب: 2/ 101. بنو كلب: 1/ 54. 5/ 212. بنو كنانة: 7/ 68. 8/ 217. 9/ 102. بنو الليث: 8/ 217. بنو ليث بن بكر: 8/ 448.

- ت -

بنو مخزوم: 4/ 287. 5/ 69، 237. 9/ 280، 309، 464. بنو مدلج: 7/ 40. 9/ 367. بنو المصطلق: 8/ 306، 308، 352، 385، 501. بنو المغيرة: 5/ 237. 6/ 493. بنو مقرن: 9/ 517، 520. بنو مناف: 2/ 16. بنو النجار: 5/ 194. 8/ 203. بنو نصر: 7/ 112. بنو النضير: 1/ 43. 2/ 402. 6/ 167، 190، 196. 7/ 50، 54، 55، 76، 107، 124، 125، 302، 304، 306، 307، 308، 315، 322، 323، 362، 368، 369. 8/ 138، 140، 141، 142، 261. 9/ 104، 127، 128، 147، 399، 563. بنو نوفل: 7/ 57. بنو هاشم: 2/ 179. 3/ 136، 244. 4/ 287. 5/ 194. 6/ 139، 240. 7/ 57، 58. 8/ 320. 9/ 181. بنو هلال: 2/ 402. بنو لاوي: (انظر اللاويين) . البوذيون: 8/ 292. - ت- تاويل (أمّة) : 5/ 96، 104. تأييس (أمّة) : 5/ 104. تبع: 1/ 162. 5/ 24. تجيب: 9/ 160. التدمريون: 1/ 294. الترك: 5/ 95. 8/ 332. تغلب: 1/ 54، 148. تميم: 1/ 148. 4/ 424. 6/ 24. 9/ 520، 521. توبل: 5/ 106. تيم الله: 9/ 13. - ث- ثقيف: 1/ 148، 193، 377. 2/ 101، 218، 219. 3/ 205، 414. 8/ 597. 9/ 306، 384، 385، 391، 392. ثمود: 1/ 162، 219، 294، 392، 531، 532، 533، 534، 535. 2/ 61، 110، 111، 116، 138، 139، 141، 142، 143، 159، 160، 182، 212، 226، 227، 230، 281، 420، 421، 422، 428. 3/ 56، 57، 84، 140، 255، 293، 399، 401، 528، 533. 4/ 55، 56، 136، 242، 363، 367، 370، 409، 410. 5/ 20، 24، 39، 96، 222، 223، 357، 384، 385، 465، 480. 6/ 59، 60.

- ج -

- ج- الجبريون: 3/ 24. جذام: 1/ 148. 4/ 384. 9/ 400، 402، 439. الجراجمة: 9/ 409. جرهم: 1/ 148. 2/ 169. 5/ 244. الجهمية: 7/ 120. جهينة: 4/ 296. 8/ 593. 9/ 306، 310، 520، 521. جومر: 5/ 105. - ح- حبرون: 2/ 302. الحرورية: (انظر الخوارج) . حلف الفضول: 6/ 36. الحمس: (انظر الأحماس) . حمير: 1/ 148. 2/ 145. 3/ 291. 5/ 211. الحنابلة: 1/ 12، 269. الحنفاء: 3/ 499. 6/ 44، 47. الحنيفية: 1/ 73. الحواريون: 2/ 396، 504. 3/ 26، 27. 4/ 399، 448. 6/ 23. 7/ 144، 146، 147، 149، 151. 8/ 275، 555، 571، 573، 574. 9/ 75، 257، 260، 261، 262. - خ- خثعم: 1/ 148. خزاعة: 1/ 148. 2/ 101. 7/ 140. 8/ 581. 9/ 274، 343. الخزرج: 1/ 148. 4/ 275. 5/ 194، 288، 464، 477، 501، 522. 6/ 136، 190. 7/ 18، 37، 38، 76، 77، 79، 138، 140، 199، 200، 225، 322، 368. 8/ 263، 383، 385، 461. 9/ 59، 75، 154، 155، 176، 289، 389، 538. الخوارج: 2/ 293. 5/ 109. 6/ 151. 7/ 119، 207، 8/ 166، 238، 360. 9/ 459، 460. خولان: 5/ 212. خيوان: 5/ 212. - د- دوس: 8/ 603. الديلم: 9/ 562. - ذ- ذكوان: 7/ 228. ذو الكلاع: 5/ 211، 212.

- ر -

- ر- الرافضة: (انظر الشيعة) . ربيعة: 5/ 194. رجال شنوءة: 2/ 85، 87. الرسّ: 5/ 24. رستم: 7/ 41. رسل المسيح: (انظر الحواريين) . رعل: 7/ 228. رهط صالح: 4/ 59. رهط عامر بن الطفيل: 9/ 514. روش: 5/ 106. الروم: 3/ 416. 4/ 382. 5/ 17، 92، 95، 96، 428، 429، 430، 431، 432، 433. 6/ 226، 234. 7/ 215. 8/ 597. 9/ 400، 401، 402، 409، 433، 439، 493، 562، 564. الرومان: 2/ 176. 5/ 58. 6/ 166. 8/ 274، 292. - س- السامريون: 1/ 53. 3/ 204. 6/ 81، 464. سبأ: 1/ 148. 2/ 219. 3/ 291. 4/ 264، 274. 5/ 211. سبط راؤيين: 2/ 449. سبط شمعون: 2/ 449. السبئيون: 2/ 335. 7/ 119. 8/ 292. سدنة الكعبة: 2/ 377، 385. 4/ 184. 6/ 347، 358. سدوس: 1/ 148. السريانيون: 4/ 382، 397. سعد بن هزيم: 9/ 310. سعد العشيرة: 1/ 148. السكون: 9/ 160. السلوقيون: 3/ 360. سليم: 9/ 306. - ش- الشافعية: 1/ 12. الشراة: (انظر الخوارج) . شعيب: 1/ 162. الشيعة: 1/ 98، 207، 208، 211، 218، 237، 238، 243، 269، 309، 312، 313، 314. 3/ 327، 404. 4/ 40، 211، 368، 369، 518، 550. 5/ 107، 182، 298، 426. 6/ 32، 96، 140، 180، 213، 275. 7/ 50، 54، 58، 62، 104، 120، 143، 160، 161، 182، 381، 382. 8/ 15، 82، 83، 238، 351، 433، 441، 611، 617. 9/ 18، 29، 62، 165، 180، 181، 184، 185، 186، 187، 189، 347، 361، 373، 444، 527.

- ص -

شيعة أبي تراب: (انظر الشيعة) . الشيعيون: (انظر الشيعة) . - ص- الصابئة: 1/ 53. 6/ 20، 21، 25، 26، 173، 174، 175. 9/ 49، 50، 55، 189. الصابئون: (انظر الصابئة) . الصبا: (انظر الصابئة) . الصبأة: (انظر الصابئة) . الصبئة: (انظر الصابئة) . الصدوقيون: 6/ 464. الصليبيون: 9/ 409. الصهيونية: 7/ 305. - ط- الطلقاء: 7/ 402. 9/ 389. طي: 1/ 148. 3/ 22. - ظ- الظاهرية: 2/ 414. 8/ 15. - ع- عاد: 1/ 162، 392، 531، 532، 534، 535. 2/ 61، 110، 116، 142، 182، 212، 226، 227، 229، 230، 281، 284، 285، 302، 418، 420، 422، 428. 3/ 56، 57، 84، 140، 253، 254، 526. 4/ 56، 242، 363، 367، 370، 409، 410. 5/ 7، 20، 22، 23، 20، 24، 39، 222، 223، 357، 384، 385، 465، 480. 6/ 59، 60. عامر بن صعصعة: 1/ 148. عاملة: 9/ 439. العباسيون: 1/ 241. 4/ 437. 5/ 296. 7/ 50، 104. 8/ 508. العثمانيون: 5/ 296. العجم: 1/ 373. 2/ 299. 7/ 41، 330. العدنانيون: 1/ 519، 523. 2/ 332. 3/ 163. 5/ 194، 242. 6/ 240. عذرة: 1/ 148. عرينة: 1/ 210. 9/ 102، 103. عصية: 7/ 228. عك: 1/ 148. عكل: 1/ 210. 9/ 102، 103. العلويون: 4/ 437. 7/ 104. 8/ 332. العمالقة: 1/ 148. العمونيون: 2/ 302. عيلان: 1/ 148. - غ- الغساسنة: 2/ 181. 3/ 416. 4/ 192، 275. 9/ 400، 564. غسان: 1/ 148. 9/ 78، 439.

- ف -

غطفان: 1/ 148. 2/ 101. 6/ 19. 7/ 362. 8/ 30، 201، 601، 605، 607. 9/ 71، 514، 520، 521. غفار: 8/ 603. 9/ 306، 310، 521. غلاة النصارى: 3/ 150. غيلان: 7/ 362. - ف- الفاطميون: 1/ 244. 5/ 296. 8/ 508. الفرس: 2/ 444، 482. 3/ 318. 4/ 502، 559. 5/ 95، 429، 430، 431، 432. 6/ 23، 24. 7/ 78. 8/ 292، 597. 9/ 50، 78، 410، 433، 493. الفريسيون: 6/ 464. فزارة: 9/ 306. الفلسطينيون: 2/ 302. 6/ 462، 463. فوط: 5/ 105. الفينيقيون: 4/ 382. - ق- قبائل الإسكيت: 5/ 98. قبيلة أسلم: 7/ 368. قبيلة عك: 3/ 187. قحطان: 5/ 194. القدرية: 3/ 24. 7/ 119. القدريّون: (انظر القدرية) . القرشيون: (انظر قريش) . قريش: 1/ 40، 76، 77، 85، 148، 155، 201، 193، 449، 450، 498، 519، 538. 2/ 16، 33، 84، 101، 150، 167، 168، 169. 170، 171، 181، 370، 547، 550. 3/ 327، 331، 353، 355، 417، 424، 429. 4/ 61، 136، 287، 308، 366، 436، 458، 509، 541، 542. 5/ 69، 134، 135، 187، 194، 204، 237، 242، 292، 295، 341، 366، 430، 541. 6/ 30، 66، 239، 240، 358، 363، 385. 7/ 16، 17، 18، 62، 68، 69، 72، 76، 124، 140، 161، 163، 227، 235، 237، 245، 246، 270، 271، 276، 347، 363. 8/ 62، 94، 138، 139، 197، 201، 227، 328، 570، 579، 580، 581، 590، 593، 594، 601، 605، 607، 607، 609، 610. 9/ 27، 71، 78، 104، 117، 139، 157، 181، 269، 277، 280، 282، 302، 306، 307، 308، 343، 367، 368، 371، 372، 374، 384، 385، 387، 388، 415، 538، 578. قضاعة: 9/ 400، 401.

- ك -

قوم إبراهيم: 2/ 428. 3/ 250. 5/ 276، 477. 6/ 59، 60. 9/ 491. قوم تبع: 2/ 226، 227، 230. 4/ 551، 552. قوم ثمود: 2/ 275. 9/ 491. قوم شعيب: 2/ 426. 3/ 257. 5/ 314. قوم صالح: 2/ 422. 3/ 533. 5/ 314. 9/ 242. قوم عاد: 9/ 491. قوم عبد الله بن أبيّ: 7/ 322. قوم فرعون: 2/ 227، 302، 435، 436. 3/ 245. 4/ 540. 7/ 71. قوم لوط: 2/ 111، 117، 180، 227، 230، 281، 423، 424. 3/ 84، 256، 529، 530، 533. 4/ 229. 5/ 24، 40. 6/ 59، 60. قوم موسى: 2/ 447، 450، 458. 3/ 341، 490. قوم نوح: 2/ 110، 111، 117، 226، 227، 230، 281. 284، 302، 418، 428. 3/ 83، 252، 253، 523، 524، 533. 4/ 351، 363، 367، 370. 5/ 24، 39، 209، 210، 211، 212، 222. 6/ 59، 60. 9/ 491. قوم هلال بن عويمر: 1/ 210. قوم هود: 3/ 533. 5/ 96، 314. قوم يونس: 3/ 442، 495. قيس: 1/ 148. 7/ 362. - ك- الكعبة: 5/ 292. كلب: 5/ 211. 9/ 400. الكلدانيون: 1/ 519. 4/ 382. كنانة: 1/ 148. 3/ 411. 4/ 424. 5/ 194. 6/ 240. 7/ 68. 8/ 448. 9/ 350، 354. كندة: 1/ 148. 8/ 331. 9/ 160. الكنعانيون: 2/ 479، 535. 6/ 462. 8/ 292. كهلان: 3/ 291. كوش: 5/ 105. - ل- اللاويون: 2/ 483، 484. 3/ 82. 9/ 99. اللحيانيون: 1/ 294. 7/ 228. اللخميون: 1/ 148. 2/ 181. 4/ 276، 384. 9/ 13، 402، 439. - م- مأجوج: 4/ 196، 197، 386، 388، 389، 540. 5/ 90، 91، 93، 95، 96، 97، 98، 100، 290. 6/ 10. ماشك: 5/ 106.

المالكية: 1/ 12. المجبرة: 4/ 497. المجوس: 4/ 144. 6/ 20، 21، 23، 24. 7/ 120. 9/ 48، 49، 55، 176، 253. المجوسية: (انظر المجوس) . مجوس البحرين: 9/ 49، 50. مجوس الهجر: 9/ 49. المحيرة: 1/ 235. مدلج: 9/ 274. مدين: 1/ 148. مذحج: 1/ 148. 5/ 212. مراد: 5/ 211، 212. المردة: 9/ 409. مزينة: 1/ 148. 2/ 140، 289. 8/ 593، 594. 9/ 306، 517، 520، 521. المستعربون: 5/ 220. المسيحية: (انظر النصارى) . المسيحيون: (انظر النصارى) . المشبهة: 2/ 414. 3/ 462. المصريون: 3/ 203. 6/ 462. 8/ 292. مضر: 4/ 539. 5/ 65، 194. 6/ 337. 7/ 228، 325. معافر: 2/ 263. المعتزلة: 1/ 236، 269. 2/ 293، 413، 414. 3/ 68، 69، 265. 4/ 43، 497. 6/ 213، 500، 501، 504، 505. 7/ 269. 8/ 54. 9/ 360، 361. المعنيون: 8/ 292. الملكانيون: 6/ 464. المناذرة: 2/ 181. 4/ 192. منسك (أمّة) : 5/ 96، 104. المهاجرون: 1/ 337. 2/ 39، 159، 288. 3/ 42، 228، 412، 417. 4/ 41، 300. 5/ 16، 135، 164، 204. 6/ 7، 57، 67، 68، 139، 265، 364، 375، 384، 385، 393، 458، 461. 7/ 11، 17، 18، 19، 34، 59، 62، 89، 96، 97، 98، 99، 102، 103، 212، 236، 240، 296، 314، 315، 316، 317، 318، 319، 320، 335، 352، 354، 366. 8/ 101، 102، 217، 218، 299، 330، 385، 386، 390، 457، 460، 462، 490، 494، 495، 502، 521، 522، 570، 602، 611، 617. 9/ 185، 203، 220، 269، 270، 275، 301، 302، 386، 389، 438، 522، 524، 525، 546، 547، 549، 553، 586. المؤابيون: 2/ 302، 535. الموارنة: 9/ 409. الموسويون: (انظر اليهود) .

- ن -

- ن- ناسك (أمّة) : 5/ 96. النخع: 8/ 331. النسطوريون: 2/ 469. 3/ 154. 9/ 84. النصارى: 1/ 38، 53، 54، 63، 73، 76، 68، 105، 151، 166، 169، 234، 238، 256، 301، 304، 305، 306، 375، 379، 391، 422، 471، 472، 473، 474، 475، 521، 555. 2/ 36، 42، 65، 66، 71، 104، 145، 229، 244، 381، 382، 445، 461، 462، 463، 464، 465، 466، 469، 470، 476، 492، 500، 502، 504، 505، 507، 508، 509، 510، 511. 3/ 27، 50، 52، 54، 59، 62، 133، 134، 135، 144، 147، 148، 149، 150، 151، 152، 154، 155، 156، 157، 158، 183، 214، 298، 325، 426. 4/ 59، 72، 75، 106، 131، 192، 198، 199، 267، 382، 389، 400، 444، 449، 450، 451، 512، 515، 519، 523. 5/ 52، 58، 59، 88، 107، 109، 147، 200، 261، 284، 292، 368، 429. 6/ 20، 21، 22، 23، 24، 25، 26، 28، 54، 58، 87، 130، 159، 167، 173، 174، 175، 185، 199، 221، 222، 223، 224، 225، 226، 231، 232، 233، 234، 235، 243، 244، 245، 247، 248، 249، 250، 254، 284، 287، 301، 372، 373، 393، 433، 464، 470، 497. 7/ 41، 105، 107، 108، 109، 120، 136، 138، 149، 151، 153، 157، 166، 169، 174، 175، 181، 183، 202، 210، 211، 215، 221، 286، 292، 336، 337، 416. 8/ 248، 260، 271، 274، 276، 277، 278، 279، 288، 290، 291، 292، 347، 293، 294، 349، 426، 513، 568، 569، 615. 9/ 7، 8، 45، 48، 49، 53، 55، 73، 74، 75، 77، 78، 79، 80، 82، 83، 84، 85، 87، 88، 90، 99، 135، 143، 144، 145، 150، 151، 152، 155، 156، 164، 169، 175، 176، 180، 181، 182، 189، 192، 193، 194، 196، 201، 202، 203، 204، 205، 206، 259، 261،

- هـ -

264، 330، 331، 335، 336، 394، 395، 396، 400، 402، 403، 409، 416، 432، 474، 540. نصر بن معاوية: 1/ 148. النصرانية: (انظر النصارى) . النمر: 1/ 148. نمير: 1/ 148. - هـ- الهاشميون: 2/ 293. 4/ 437. 7/ 62. 8/ 332. 9/ 409. هاويل (أمّة) : 5/ 96. هذيل: 1/ 148. 2/ 101. 4/ 97. 5/ 65، 211، 212. 7/ 196. 9/ 307، 580. همدان: 1/ 148. 5/ 211، 212. هوازن: 1/ 148. 8/ 597. 9/ 306، 384، 385، 386، 389، 392، 521، 534. هود: 1/ 471. - ووفد عبد القيس: 9/ 224. وفد نصارى نجران: 7/ 106، 107، 108، 110، 114، 125، 127، 129، 136، 138، 147، 148، 152، 159، 160، 161، 166، 168، 221. 8/ 289. وفد هوازن: 8/ 306، 308. - ي- يأجوج: 4/ 196، 197، 386، 388، 389، 540. 5/ 90، 91، 93، 95، 96، 97، 98، 100، 102، 103، 104، 105، 106، 290. 6/ 10. يبوس: 2/ 302. اليعاقبة (انظر اليعقوبيون) . اليعقوبيون: 2/ 469. 3/ 154. 6/ 464. 9/ 84. اليهود: 1/ 38، 53، 57، 62، 63، 73، 76، 80، 105، 109، 114، 127، 145، 146، 151، 165، 166، 169، 170، 174، 210، 301، 304، 305، 306، 356، 357، 360، 375، 378، 391، 422، 454، 471، 472، 473، 474، 475، 521، 523، 551، 555. 2/ 16، 36، 42، 52، 54، 65، 70، 71، 104، 170، 243، 244، 247، 308، 312، 319، 322، 328، 332، 333، 381، 382، 423، 438، 439، 440، 441، 443، 445، 450، 461، 462، 463، 464، 465، 466، 467، 468، 469، 470، 476،

481، 485، 487، 488، 489، 490، 492، 494، 520، 521، 522، 523، 524، 546. 3/ 50، 52، 54، 57، 60، 62، 133، 134، 135، 144، 148، 150، 151، 163، 166، 169، 191، 192، 199، 202، 203، 204، 248، 253، 285، 289، 312، 317، 321، 325، 343، 404، 415، 416، 423، 424، 425، 426، 429، 436، 437، 441، 491، 492، 530، 543. 4/ 9، 11، 13، 59، 72، 73، 75، 106، 131، 142، 144، 177، 178، 179، 180، 193، 196، 198، 199، 222، 260، 267، 365، 371، 380، 381، 382، 388، 400، 444، 449، 451، 514، 533، 546. 5/ 11، 13، 59، 62، 86، 92، 98، 99، 100، 107، 109، 111، 129، 147، 196، 197، 199، 200، 240، 242، 246، 247، 251، 252، 261، 276، 277، 280، 282، 284، 292، 304، 367، 432، 489، 495، 496، 524، 551. 6/ 19، 21، 24، 25، 26، 28، 54، 58، 81، 87، 97، 104، 123، 130، 133، 134، 135، 149، 161، 163، 165، 166، 167، 168، 170، 172، 173، 174، 175، 176، 179، 182، 183، 184، 185، 186، 187، 191، 195، 196، 201، 202، 204، 206، 207، 208، 209، 210، 211، 212، 215، 216، 217، 226، 227، 228، 230، 231، 232، 233، 234، 235، 237، 238، 242، 243، 244، 245، 247، 248، 249، 250، 253، 254، 255، 256، 257، 259، 260، 272، 273، 280، 282، 284، 285، 287، 301، 368، 372، 373، 393، 396، 457، 461، 462، 464، 465، 470، 473، 478، 497. 7/ 8، 33، 37، 41، 75، 76، 77، 79، 83، 107، 108، 114، 120، 123، 124، 127، 132، 133، 134، 135، 136، 137، 138، 142، 155، 159، 164، 166، 168، 169، 170، 171، 173، 174، 175، 178، 179، 181، 184، 186، 187، 191، 192، 193، 194، 195، 199، 202، 210، 211، 215، 217، 219، 220، 221،

275، 278، 279، 280، 281، 282، 286، 292، 296، 302، 307، 308، 322، 323، 324، 328، 329، 332، 333، 336، 337، 361، 363، 369، 396، 423، 424، 425. 8/ 115، 137، 138، 139، 140، 142، 143، 147، 159، 160، 191، 192، 230، 231، 248، 261، 262، 263، 270، 271، 272، 273، 274، 276، 279، 280، 281، 282، 283، 285، 287، 294، 298، 322، 347، 349، 467، 468، 478، 479، 480، 481، 491، 513، 543، 426، 568، 569، 600، 601، 602، 610، 615. 9/ 7، 9، 26، 45، 48، 49، 53، 55، 73، 74، 75، 77، 78، 80، 82، 84، 85، 87، 88، 90، 92، 96، 99، 103، 125، 126، 127، 128، 129، 131، 132، 133، 143، 144، 145، 148، 150، 151، 152، 154، 155، 156، 157، 160، 164، 165، 168، 169، 170، 171، 172، 173، 174، 175، 176، 178، 180، 181، 182، 185، 187، 189، 190، 192، 194، 197، 200، 202، 203، 204، 242، 295، 314، 336، 394، 395، 396، 397، 399، 402، 403، 408، 415، 416، 432، 442، 474، 493، 540. اليهودية: (انظر اليهود) .

5 - فهرس الأماكن

5- فهرس الأماكن - أ- الآستانة: 1/ 6. آسيا: 1/ 475. 4/ 401. 5/ 97. 6/ 311. أحد: 2/ 185، 292. 9/ 302. الأحقاف: 1/ 532. 2/ 419. 5/ 20. أدرنة: 1/ 10. أدنت: (انظر عدن) . أذربيجان: 1/ 76. 5/ 97. أذرعات: 7/ 78. أرارات (جبل) : 2/ 117، 284. 3/ 522. أرحب: 5/ 212. الأردن: 4/ 385. 9/ 92. أرض عوص: 2/ 482. أرض الكلدانيين: 2/ 482. أرض كنعان: 1/ 519. 2/ 164، 330. أرض مؤاب: 2/ 480. إرم: 1/ 532. 3/ 57. أرمينية: 1/ 76. 5/ 97، 219. أريحا: 2/ 451. الإسكندرية: 5/ 92، 101. أصفهان: 4/ 382. الأعراف (جبل) : 2/ 403. إفريقيا: 1/ 477. 4/ 401. 6/ 311. أفسوس: 5/ 57. إقليم طاغستان: 5/ 97. أم القرى: (انظر مكة) . أميركا الجنوبية: 5/ 219. أميركا الشمالية: 5/ 219. الأناضول: 3/ 343. الأندلس: 6/ 128، 168. 8/ 275، 508. أندونيسيا: 5/ 219. 6/ 99. أنطاكية: 3/ 26، 27. 5/ 88. الأهرام: 1/ 533، 534. أواسط إفريقيا: 5/ 219. أور: 1/ 519. أورشليم: (انظر بيت المقدس) . أوروبا: 5/ 219. أوطاس: 6/ 394. 8/ 71. 9/ 390. الأيكة: 2/ 227. إيلات: 2/ 521. الأيلة: 2/ 521. 5/ 58، 88.

- ب -

إيلياء: 9/ 408. - ب- باب حطة: 2/ 451. بابل: 1/ 295. 2/ 481، 482، 484. 3/ 360. 5/ 98، 100، 105، 129. 6/ 81، 206، 207، 210، 211، 475. باقردى: 2/ 284. البحر الأبيض المتوسط: 6/ 95. البحر الأحمر: 2/ 169. 6/ 95. بحر الخزر: 5/ 98، 219. بحر الروم: 5/ 88. بحر فارس: 5/ 88. بحر قزوين: 5/ 219. البحر الميت: 2/ 118، 494. 4/ 229. 5/ 479، 493. بحر الهند: 6/ 95. البحرين: 1/ 540. 3/ 223. 8/ 582. 9/ 50، 78. بحيرة طبرية: 4/ 384، 386. 5/ 103. بدر: 3/ 418. 5/ 472. 7/ 16، 18، 23، 50، 69، 91، 271. 8/ 184، 227. 9/ 156، 550، 551. برك الغماد: 3/ 417. 7/ 18. برية بئر السبع: 5/ 242. برية فاران: 5/ 242. البصرة: 1/ 14، 136. 4/ 320. 6/ 387. 9/ 413، 459. بصرى: 4/ 349. بقيع الغرقد: 1/ 527. بكة: (انظر مكة) . البلد الأمين: (انظر مكة) . البلد: (انظر مكة) . البلد الحرام: (انظر مكة) . البلقاء: 2/ 36. 9/ 559، 586. بمباي: 1/ 10. 2/ 201. بورسة: 1/ 25، 256. بيت الله الحرام: (انظر الكعبة) . البيت: (انظر الكعبة) . البيت الحرام: (انظر الكعبة) . بيت الرب: (انظر الكعبة) . البيت العتيق: (انظر الكعبة) . البيت المعمور: (انظر الكعبة) . بيت المقدس: 1/ 10، 215، 218، 295. 2/ 83، 84، 91، 164، 176، 177، 306، 383، 451، 481، 484. 3/ 352، 353، 354، 355، 357، 360، 361. 5/ 98، 99، 100، 315، 493. 6/ 22، 42، 81، 110، 111، 207، 251، 254، 255، 256، 257، 475، 476. 7/ 193، 194، 195. 8/ 279. 9/ 261. بئر جمل: 8/ 133. بئر زمزم: 2/ 88، 91، 170.

- ت -

بئر سبع: 2/ 169. بئر سميحة: 8/ 515. بيروت: 2/ 356. بيسان: 4/ 384، 385. - ت- تبوك: 3/ 415، 416. 9/ 344، 400، 402، 440، 441، 488، 505، 509، 510، 530، 534، 547، 548، 550. ترشيش: 1/ 391. تركية: 1/ 6، 25. تفليس: 5/ 98. التنعيم: 3/ 353. تهامة: 3/ 9. تونس: 6/ 434. تيماء: 6/ 166. 8/ 602. - ث- الثنية: 3/ 353. ثنية الوداع: 7/ 265. - ج- الجابية: 6/ 8، 104. الجاسوس: 1/ 219. جامع بني أمية: 6/ 128. جاوا: 3/ 13. 4/ 400. 6/ 99. 9/ 48. جبّ الحزن: 2/ 22. جبال تهامة: 5/ 110، 542. جبال القفقاس: 5/ 219. جبال القوقاز: 5/ 97، 98. جبال مكة: 1/ 557. جبل أحد: 7/ 106، 224، 225، 243، 265، 266، 271. جبل ثبير: 3/ 538. 4/ 222. 6/ 357، 358. جبل ثور: 7/ 39. جبل الجودي: 2/ 117، 284. 3/ 520، 522. جبل حوريب: 3/ 190، 191. جبل الرحمة: 9/ 581. جبل سيناء: 2/ 450، 454. جبل الصفا: 3/ 400. جبل عرفة: 4/ 173. الجبل الغربي: 3/ 315، 316. جبل فاران: 5/ 243. الجحفة: 3/ 332، 346، 347. 6/ 347. 9/ 347. الجرباء: 8/ 602. الجرف: 8/ 134. جزيرة العرب: 1/ 175، 379، 394، 532. 2/ 62، 103، 159، 180، 181، 227، 229، 284، 419، 527. 3/ 265، 266. 4/ 196، 229، 371، 382، 396، 399، 424، 540، 556. 5/ 20، 103،

- ح -

113، 217، 296، 325، 434. 6/ 146، 167، 336، 347. 8/ 440، 567، 582. 9/ 395، 396، 397، 433، 587، 591. جزيرة الفرات: 3/ 522. 4/ 192، 193. 5/ 429. 6/ 24، 336. الجعرانة: 1/ 41. 9/ 385. الجمرة: 9/ 581، 582. جنة عدن: 2/ 94، 334، 335. جنوب آسيا: 6/ 168. جنوب إسبانية: 4/ 449. جنوب جزيرة العرب: 5/ 24، 194. جنوب اليمن: 1/ 535. الجوزاء: 2/ 118. الجوف: 5/ 211. جيحون: 1/ 226. - ح- حاران: 1/ 519. 5/ 276. الحبشة: 1/ 68، 151، 165، 377. 2/ 149، 150، 180، 381. 3/ 411، 416، 417، 418. 4/ 251، 307، 308، 423. 5/ 134، 135، 143، 188، 189، 218، 219، 470. 6/ 57، 452. 7/ 62، 215، 319، 374، 405. 8/ 61، 217، 602. 9/ 78، 203، 275، 587. الحجاز: 1/ 86، 87، 89، 146، 151، 472، 523، 534. 2/ 42، 43، 102، 181، 230، 308، 421، 527. 3/ 59، 135، 163، 234، 335. 4/ 55، 217، 229، 276، 449. 5/ 16، 216، 217، 311، 429، 432، 455، 459، 479. 6/ 165، 167، 173، 336، 357. 8/ 349، 602. 9/ 78، 79، 155، 205، 395، 397، 403، 431، 433، 436، 439. حجر إبراهيم: 2/ 172. الحجر الأسود: 1/ 373. 2/ 172، 173. 3/ 353، 410. 6/ 349. الحجون: 5/ 25. 9/ 310. الحديبية: 2/ 12. 6/ 341. 8/ 579، 580، 589، 593، 600، 601. 9/ 71، 271، 304، 350، 367. الحرباء: 6/ 166. حرة المدينة: 8/ 203، 355. حرة واقم: 6/ 505. حرّة الوبرة: 9/ 157. حرم مكة: 2/ 178، 179. 3/ 301، 332، 333. حروراء: 5/ 108. 7/ 120. حسمي: 9/ 401. حضرموت: 1/ 148، 535. 2/ 419.

- خ -

5/ 20، 172. 6/ 322، 376. 9/ 78. حلب: 1/ 10. الحليفة: 9/ 578. حمراء الأسد: 7/ 227، 237، 246، 270. الحوض: 2/ 184. الحيرة: 7/ 41. 8/ 440، 567. - خ- خراسان: 1/ 71. 4/ 382. الخربة: 4/ 386. خليج البصرة: 6/ 95. الخليج العربي: 5/ 219. خليج العقبة: 2/ 521. 5/ 242. خمّ: 4/ 460. خوزار: 5/ 97. خيبر: 6/ 166. 7/ 55، 189، 306، 361، 370. 8/ 46، 140، 141، 600، 601، 602، 603، 604، 605، 606، 610. 9/ 104، 295، 403، 553. - د- دار الأرقم: 1/ 414. دار الندوة: 1/ 324. 2/ 171. 7/ 36، 39. 9/ 378. دجلة: 1/ 226. دربند: 5/ 97، 98. دمشق: 1/ 5، 6، 18، 141. 2/ 164. 4/ 296، 458. 5/ 316. 6/ 128. 7/ 156. دومة الجندل: 5/ 211. 9/ 400، 401، 441، 563. دير أحد: 4/ 387. - ذ- ذات السلاسل: 9/ 401. ذروان (بئر) : 2/ 52، 53. ذو الحليفة: 3/ 332. 6/ 347. 8/ 578. ذو المجاز: 6/ 355. - ر- الربذة: 9/ 425، 426. الرسّ: 2/ 227. الرقيم: 5/ 53. الرملة: 5/ 315. الروحاء: 3/ 353. 9/ 234. رودوس: 6/ 69. روسيا: 5/ 97. روضة خاخ: 9/ 269. الروم: 8/ 440، 567، 582، 606. - ز- زمزم: 5/ 243، 244، 245. 6/ 155. 9/ 582.

- س -

- س- ساعير: 5/ 243. سامر: 3/ 202، 203. السامرة: 1/ 295، 296. 3/ 360. سبأ: 3/ 291. 4/ 264، 276. سجين (بئر في جهنّم) : 5/ 509، 510. سد دربند: 5/ 97، 98. سدّ مأرب: 2/ 335. 3/ 291. سدرة المنتهى: 2/ 80، 81، 83، 85، 87، 89. سدوم: 1/ 534. 2/ 118، 423. 5/ 479. سرغ: 6/ 458. سقيفة بني ساعدة: 2/ 453. السودان: 5/ 219. سور الصين: 5/ 97. سورية: 1/ 6، 10. 2/ 306. 3/ 26. 4/ 228. سوق عكاظ: 3/ 8، 9. سيحون: 1/ 226. سيل العرم: 2/ 229. 4/ 273، 275، 276. سيناء: 2/ 478. 3/ 202. 5/ 242، 243. - ش- الشام: 1/ 14، 18، 54، 62، 76، 86، 136، 151، 165، 219، 294، 532، 535. 2/ 36، 37، 38، 142، 180، 181، 229، 421، 469، 545. 3/ 134، 152، 154، 254، 360، 415، 427. 4/ 193، 296، 320، 385، 387، 424. 5/ 18، 216، 276. 6/ 23، 310، 311، 458، 462، 470. 7/ 16، 153، 162، 164، 186، 306، 307، 366. 8/ 275، 291، 292، 394، 507، 570. 9/ 203، 205، 251، 331، 402، 405، 409، 418، 425، 433، 439، 562، 502، 534، 563. شامر: (انظر سامر) . شرق الأردن: 1/ 534. 2/ 228، 306، 318، 478. 4/ 228. 5/ 58. 6/ 462. 7/ 175. شطّ العرب: 6/ 95. شعاب مكة: 1/ 414. الشعرى: 2/ 118. شكيم (انظر نابلس) . شليم: 2/ 177. شمال إفريقية: 4/ 449. 6/ 168. 8/ 275، 508. 9/ 205. شمال جزيرة العرب: 1/ 535. 5/ 194. شيبرون: 3/ 13. 6/ 99.

- ص -

- ص- صحار: 9/ 589. صحراء سيناء: 9/ 90. الصخرات: 9/ 581. الصراط: 2/ 184. الصفا: 1/ 215، 414، 496. 3/ 271. 4/ 136. 5/ 244. 6/ 46، 48، 267، 268، 269، 270، 271، 273، 282، 284، 340، 341، 346، 349. 7/ 292. 9/ 311، 579. صفوان: 3/ 11. 4/ 281. صنعاء: 6/ 104، 376. 9/ 316. الصومال: 2/ 180. 5/ 219. الصين: 1/ 221، 474. 4/ 400. 5/ 219. 8/ 439. 9/ 48. - ط- طابة: 8/ 570. الطائف: 1/ 148، 213. 2/ 101، 301. 3/ 196. 4/ 100، 153، 500، 501، 502. 5/ 24، 25، 27، 28، 288. 6/ 453. 7/ 37. 8/ 306، 405. 9/ 384، 385، 390، 430، 580. طرسوس: 5/ 57. طنجة: 5/ 88. طوبى: 5/ 538، 539. طور سيناء: 2/ 163، 483، 521. 3/ 190، 200، 314، 315، 316، 318. 4/ 386. 5/ 103، 310، 311، 359، 370. 6/ 176. 9/ 92. طيبة: (انظر المدينة المنورة) . - ع- عدن: 2/ 335، 345. 9/ 316. عدن أبين: 4/ 540. العراق: 1/ 54، 86، 165، 294. 2/ 102، 117، 180، 181، 469. 3/ 134، 152، 154. 4/ 192، 193، 229، 275، 382، 385، 449. 5/ 24، 133، 216، 218. 6/ 23، 24، 26، 207، 336، 462. 7/ 153، 316. 8/ 275، 291، 507. 9/ 84، 205، 331، 409، 418، 434، 562، 563، 579. عرفات (عرفة) : 4/ 222، 223. 6/ 339، 342، 343، 344، 345، 346، 347، 348، 349، 350، 351، 354، 355، 356، 357، 358. 8/ 241. 9/ 16، 21، 27، 349، 578، 580، 581، 582، 583. عسفان: 6/ 307. العصبة: 1/ 337.

- غ -

العقبة: 2/ 228. العقبة (واد في جهنم) : 2/ 257. العقود: 9/ 12. عكاظ: 6/ 355. عمان: 1/ 148. 4/ 276. 5/ 493. 8/ 582. 9/ 78. عمورة: 1/ 534. 2/ 118، 423. 5/ 479. عين الحياة: 1/ 219. 5/ 84، 88، 94، 97. عين زغر: 4/ 384. عين القطر: 4/ 269، 270، 272. - غ- الغار: 3/ 417. 6/ 138. 7/ 39. 9/ 436، 443. غار حراء: 1/ 39، 40، 261، 316، 344، 345، 406، 440، 442. 2/ 135. 4/ 486. 6/ 316. غرب الأردن: 2/ 479. غرب أوروبا: 5/ 219. غور أريحا: 1/ 534. 4/ 229. 5/ 479. غيّ (بئر في جهنم فيه صديد) : 3/ 165. - ف- فاران: 2/ 170، 330. فارس: 1/ 474. 2/ 180، 481. 5/ 218. 7/ 41. 8/ 331، 440، 567، 582، 606. 9/ 50. فدك: 3/ 383، 384، 385. 6/ 166. 7/ 55. 8/ 602. الفرات: 1/ 226. 2/ 87، 88، 91. 9/ 92، 331. الفردوس: 5/ 109، 110. الفرس: 3/ 318. فرنسا: 1/ 6. الفلبين: 5/ 219. فلج: 2/ 227. فلسطين: 1/ 295، 534. 2/ 118، 164، 180، 318، 421، 479، 523، 524. 3/ 202، 203، 204، 352، 360. 4/ 229، 384، 385، 388. 5/ 58، 98، 105، 276، 311، 479، 493. 6/ 23، 166، 462، 464. 7/ 83، 175، 305. 9/ 92، 94. فناء الكعبة: 2/ 101. - ق- القارة: 3/ 417. قاف (جبل) : 2/ 220. القاهرة: 1/ 5، 10، 548. 3/ 411. 8/ 569. قباء: 1/ 337. 7/ 336. 9/ 533، 534. قبر شعيب: 6/ 155. قبر صالح: 6/ 155.

- ك -

قبر نوح: 6/ 155. قبر هود: 6/ 155. القدس: (انظر بيت المقدس) . قرن الثعالب: 4/ 100. قرن المنازل: 3/ 332. قرى لوط: 5/ 493. قرى المنازل: 6/ 347. القسطنطينية: 5/ 431. قلعة دمشق: 1/ 6. القليس (كنيسة) : 2/ 42. - ك- كداء: 3/ 354. 5/ 244. 9/ 310. الكديد: 6/ 307. 9/ 310. الكعبة: 1/ 170، 174، 213، 322، 324، 338، 344، 520، 523. 2/ 42، 87، 90، 103، 167، 168، 169، 171، 172، 173، 174، 175، 177، 178، 179، 332، 486. 3/ 82، 307، 330، 332، 352، 356، 410، 411، 412. 4/ 109، 163، 222. 5/ 18، 50، 94، 239، 240، 242، 243، 244، 246، 247، 248، 360. 6/ 7، 35، 36، 37، 43، 47، 48، 52، 53، 79، 109، 111، 155، 227، 236، 237، 238، 241، 242، 251، 253، 255، 256، 258، 268، 269، 270، 324، 327، 337، 339، 341، 343، 345، 346، 405. 7/ 23، 42، 45، 46، 53، 193، 194، 195، 197، 342، 345، 361، 374، 404. 8/ 146، 440، 516، 521، 578، 579، 581، 610، 612، 613. 9/ 10، 11، 16، 20، 21، 27، 114، 217، 230، 231، 235، 236، 307، 310، 311، 345، 353، 394، 433، 544، 578، 579، 582، 583. كندة: 6/ 322. الكوثر: 2/ 11، 12، 13، 88، 90، 130. 5/ 255. الكوفة: 1/ 14، 136، 215. 4/ 296، 320، 321. 5/ 389. 8/ 361. - ل- لبنان: 4/ 228. - م- مجمع البحرين: 5/ 81، 83، 88. مجنة: 6/ 355. المحيط الأطلسي: 5/ 219. 8/ 439. مدائن صالح: 1/ 532، 535. 2/ 142، 421. 4/ 55. مدين: 1/ 102. 2/ 228، 229، 426،

521. 3/ 191، 247، 257، 309، 311، 312، 318. 4/ 54. 5/ 480. المدينة (المنورة) : 1/ 14، 47، 49، 51، 65، 86، 109، 116، 136، 146، 151، 154، 202، 210، 214، 252، 288، 379، 455، 471، 498، 532، 541، 552. 2/ 92، 132، 148، 149، 150، 151، 465. 3/ 134، 154، 260، 277، 308، 325، 332، 346، 347، 404، 415، 416، 417، 418، 423، 424، 425، 426، 429. 4/ 259، 260، 275، 296، 307، 308، 320، 382، 384، 385، 387، 457، 460، 466. 5/ 12، 16، 59، 134، 135، 143، 187، 287، 352، 431، 467، 469، 470، 471، 477، 478، 490، 500، 501، 509، 552. 6/ 16، 27، 43، 55، 57، 58، 66، 68. 115، 128، 133، 136، 146، 162، 163، 165، 166، 167، 217، 223، 227، 229، 233، 255، 256، 307، 310، 349، 363، 375، 453، 494. 7/ 7، 17، 19، 33، 37، 38، 40، 55، 56، 65، 67، 75، 76، 92، 93، 96، 105، 106، 107، 109، 111، 129، 134، 140، 164، 195، 219، 220، 224، 226، 236، 265، 281، 292، 302، 314، 319، 328، 329، 333، 336، 347، 354، 360، 361، 362، 364، 365، 367، 402، 418، 420، 422، 425. 8/ 8، 12، 134، 138، 140، 141، 142، 184، 194، 195، 197، 201، 203، 214، 216، 225، 236، 260، 261، 263، 280، 281، 218، 311، 319، 322، 347، 349، 366، 368، 381، 382، 390، 394، 433، 436، 459، 461، 462، 468، 489، 498، 499، 500، 525، 575، 577، 580، 581، 582، 583، 587، 593، 600، 601، 602، 605، 607. 9/ 9، 45، 56، 57، 71، 77، 78، 99، 102، 104، 127، 129، 155، 157، 175، 176، 184، 186، 199، 200، 203، 204، 254، 269، 274، 275، 280، 281، 282، 284، 286، 288، 289، 290، 302، 303، 306، 308، 309، 317، 343، 396، 400،

401، 402، 441، 442، 443، 449، 459، 490، 499، 500، 508، 511، 517، 524، 529، 533، 534. 538، 549، 552، 558، 559، 562، 564، 576، 578، 583، 585. المربد: 8/ 134. مرقيسا: 5/ 96. المروة: 5/ 244. 6/ 46، 48، 267، 268، 269، 270، 271، 273، 282، 284، 340، 341، 346، 349. 9/ 578. مريحا: 5/ 96. المريسيع: 8/ 385، 460. المزدلفة: 6/ 350، 351، 357، 358، 359. 9/ 580، 581، 582، 585. المزة: 1/ 6. المسجد الأقصى: 2/ 82، 84، 90، 92، 176، 177، 382، 383، 451. 3/ 351، 352، 354، 356، 357. 6/ 217، 227، 228، 233، 242، 255، 256. 7/ 16. 9/ 92، 114. مسجد بني سلمة: 6/ 255. مسجد الجابية: 5/ 113. المسجد الحرام: 2/ 28، 32، 82، 83، 84، 89، 92، 96، 97، 149، 168، 176، 382، 383. 3/ 351، 352، 354، 356، 357. 4/ 109. 5/ 246. 6/ 7، 33، 34، 35، 36، 43، 44، 48، 68، 69، 110، 217، 226، 227، 228، 233، 242، 250، 251، 252، 253، 255، 258، 325، 326، 328، 331، 332، 333، 337، 339، 340، 341، 342، 382، 384. 7/ 16، 42، 43، 45، 46، 99. 8/ 218، 608، 609، 611، 612. 9/ 9، 10، 11، 20، 21، 92، 114، 297، 305، 342، 345، 352، 365، 366، 373، 374، 375، 376، 377، 391، 392، 393، 394، 395، 399، 577. مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم: (انظر المسجد النبوي) . مسجد قباء: 2/ 69. 9/ 535، 536. مسجد الكعبة: 2/ 88. المسجد النبوي: 2/ 383. 3/ 22، 356. 6/ 349، 485، 490. 7/ 127. 8/ 129، 500، 534. 9/ 114، 162، 395، 536، 553، 588. مسجد النبي صلّى الله عليه وسلم: (انظر المسجد النبوي) . المشعر الحرام: (انظر المزدلفة) . المشلل: 2/ 101. مصر: 1/ 54، 165، 225، 534، 535. 2/ 118، 170، 180، 229،

230، 318، 319، 452، 469، 483، 486، 535. 3/ 134، 152، 154، 199، 202، 203، 204، 248، 311، 313، 317، 318، 489. 4/ 15، 26، 125، 126، 229، 366، 371، 424، 449. 5/ 59، 218، 311، 315، 316، 479، 493. 7/ 153، 175. 8/ 275، 291، 508، 582. 9/ 78، 84، 89، 90، 91، 94، 205، 331، 409، 418. مضيق كورش: 5/ 98. معبد بيت المقدس: 2/ 444. 3/ 356. المغرب: 5/ 88. 8/ 508. المغمس: 2/ 43. مقام إبراهيم: 2/ 175، 332. 5/ 241، 246، 247. 6/ 35، 236، 237، 241، 242، 256. 7/ 193، 194، 195. 9/ 579. مقنا: 6/ 166. مكة: 1/ 14، 41، 47، 48، 49، 51، 55، 86، 103، 104، 110، 136، 146، 151، 155، 170، 175، 206، 213، 215، 252، 288، 324، 351، 361، 438، 471، 494، 498، 541، 550. 2/ 42، 79، 83، 97، 102، 131، 132، 135، 146، 148، 151، 163، 165، 166، 170، 171، 174، 178، 179، 180، 253، 254، 271، 273، 274، 288، 301، 333، 465، 467، 486. 3/ 9، 27، 50، 59، 61، 102، 134، 135، 136، 148، 152، 154، 159، 176، 179، 260، 261، 274، 277، 298، 305، 313، 325، 326، 330، 331، 332، 335، 346، 403، 411، 413، 415، 417، 420، 422، 425، 426، 436، 438، 439. 4/ 13، 14، 63، 76، 121، 123، 125، 142، 153، 184، 222، 248، 260، 261، 264، 267، 296، 307، 308، 320، 340، 349، 366، 382، 384، 438، 460، 466، 472، 500، 501، 502، 540، 561، 562. 5/ 11، 12، 13، 17، 27، 28، 37، 58، 59، 92، 131، 135، 143، 172، 183، 184، 187، 188، 191، 192، 204، 239، 240، 243، 244، 247، 276، 341، 389، 430، 431، 458،

- ن -

468، 470، 472، 477، 490، 492، 499، 500، 508، 548، 513. 6/ 17، 27، 35، 42، 44، 46، 55، 56، 57، 75، 112، 115، 154، 229، 241، 255، 270، 288، 307، 316، 336، 341، 350، 354، 358، 363، 364، 376، 393. 7/ 9، 17، 34، 35، 36، 37، 39، 42، 44، 46، 50، 69، 76، 78، 79، 92، 93، 96، 98، 106، 138، 149، 196، 277، 319، 336، 342، 361، 362، 370. 8/ 8، 83، 125، 130، 138، 139، 140، 141، 166، 167، 168، 172، 173، 203، 210، 216، 217، 218، 219، 225، 303، 306، 311، 349، 366، 394، 555، 570، 579، 580، 582، 606، 609، 610، 613. 9/ 9، 19، 34، 57، 77، 87، 104، 176، 181، 186، 204، 251، 252، 269، 271، 274، 280، 282، 284، 286، 288، 305، 306، 307، 308، 309، 310، 311، 312، 318، 340، 343، 350، 372، 377، 378، 380، 384، 394، 396، 435، 443، 454، 522، 523، 533، 543، 577، 580، 582، 583، 585. المنارة البيضاء: 4/ 386. 7/ 156. المناصع: 1/ 209. منى: 1/ 206. 2/ 273. 4/ 222، 223. 6/ 258، 351، 355، 357، 358، 359. 9/ 346، 574، 580، 581، 585. موبق: 5/ 78. مؤتة: 9/ 400، 401، 402، 586. الموقف: 9/ 581، 585. الميزان: 2/ 184. - ن- نابلس: 2/ 177. 3/ 202، 203. الناصرة: 5/ 88. 6/ 23. نجد: 5/ 216. 7/ 368. 9/ 564. نجران: 1/ 151. 3/ 155. 6/ 223. 7/ 111. نخلة: 2/ 101. 3/ 9. 5/ 25، 26، 27. الندوة: 5/ 366. نصيبين: 5/ 26. نعمان (عرفة) : 2/ 529. نمرة: 9/ 580. نوا: 9/ 97. النيل: 1/ 226. 2/ 87، 88، 91. 9/ 92.

- هـ -

نينوى: 1/ 391. 2/ 482. - هـ- هجر: 4/ 349. 9/ 49. الهرم: 3/ 317. هزم النبيت: 7/ 336. هضبة تركستان: 5/ 219. الهند: 1/ 474. 4/ 400. 5/ 219. 8/ 439. 9/ 48. - ووادي حنين: 9/ 384. وادي القرى: 6/ 166. 8/ 602. 9/ 104، 401. الوادي المقدس طوى: 3/ 190، 194. 5/ 413. وادي مكة: 2/ 169، 170. 5/ 240، 242، 243، 246، 247. 6/ 241، 269. الوادي اليابس: 4/ 296. الويل (جبل في النار) : 2/ 19. ويلا دي كيوكز: 5/ 98. - ي- اليابان: 4/ 400. 5/ 219. 9/ 48. يافا: 1/ 391. 9/ 261. يثرب: (انظر المدينة المنورة) . يلملم: 3/ 332. 6/ 347. اليمامة: 1/ 69، 148. 2/ 227. 3/ 97. 4/ 125. 5/ 216. 8/ 306. 9/ 564. اليمن: 1/ 86، 294، 377، 535. 2/ 42، 145، 180، 229، 230، 335. 3/ 134، 152، 254، 291، 417. 4/ 125، 196، 274. 5/ 103، 212، 216، 258. 6/ 23، 24، 167، 168. 7/ 105، 111، 366. 8/ 292، 381، 603. 9/ 78، 160، 302، 411، 434، 477، 484، 559، 564، 579، 584، 589. ينبع: 5/ 212.

6 - فهرس الأصنام

6- فهرس الأصنام - أ- أساف: 6/ 269. - ب- بعل (معبود الشام) : 4/ 228. - س- سهيل: 2/ 118. سواع: 1/ 168. 3/ 523. 4/ 209، 211، 212. 9/ 307. - ش- الشعرى: 2/ 118. شعرى العبور: 2/ 118. شعرى الغميضاء: 2/ 118. - ع- العزّى: 2/ 99، 100، 101، 102، 104. 4/ 327، 331. 7/ 237، 347. 8/ 240. 9/ 307. عزيزو: 2/ 104. - غ- الغرانيق العلى: 2/ 102. - ل- اللات: 1/ 294. 2/ 99، 100، 101، 102، 103، 551. 3/ 411. 4/ 331. 7/ 347. 8/ 240. اللاتو: 2/ 102. - م- مناة: 2/ 551. 3/ 411. 6/ 269. 8/ 240. 9/ 307. مناة الثالثة: 2/ 99، 100، 101، 102. 3/ 411. منوتو: 2/ 103. - ن- نائلة: 6/ 269. 8/ 240. نسر: 1/ 168. 3/ 523. 4/ 209، 211، 212.

- هـ -

- هـ- هبل: 2/ 103. 7/ 237. - وودّ: 1/ 168. 2/ 551. 4/ 209، 211، 212. - ي- يعوق: 1/ 168. 3/ 523. يغوث: 1/ 168. 2/ 551. 3/ 523. 4/ 209، 211، 212.

7 - فهرس الأيام والغزوات والوقائع والأحلاف

7- فهرس الأيام والغزوات والوقائع والأحلاف - أ- أحد: 1/ 208. 2/ 102. 4/ 99، 338، 542. 5/ 204، 205. 6/ 365، 375. 7/ 161، 221، 224، 225، 226، 227، 228، 229، 231، 234، 235، 236، 237، 240، 241، 244، 245، 246، 247، 250، 251، 253، 259، 260، 263، 264، 265، 266، 267، 268، 269، 271، 272، 274، 276، 277، 302. 8/ 28، 35، 174، 184، 194، 227، 261، 503، 557، 558. - ب- بدر: 1/ 42، 87. 2/ 33، 79، 287. 3/ 173، 271، 403، 418. 4/ 61، 108، 295، 433، 539، 542. 5/ 187، 274، 323، 330، 353، 358، 431، 460، 467، 472. 6/ 30، 31، 57، 64، 260، 265، 332، 375، 385، 393، 461. 7/ 7، 8، 9، 10، 11، 14، 15، 19، 23، 25، 29، 33، 34، 35، 42، 44، 45، 46، 47، 49، 62، 66، 67، 69، 71، 72، 75، 76، 77، 88، 90، 94، 96، 97، 106، 111، 124، 125، 161، 222، 223، 224، 225، 227. 8/ 172، 173، 174، 212، 213، 216، 217، 305، 382، 557. 9/ 71، 94، 154، 156، 269، 270، 271، 290، 305، 367، 375، 538، 549، 550، 551. البصرة: (انظر الجمل) . بطن نخلة: 9/ 71. بنو قريظة: 2/ 39. 7/ 76، 302، 304، 345، 346، 367، 374، 375. 8/ 16، 141، 305، 322، 480، 601. 9/ 9، 99، 218، 305، 563.

- ت -

بنو قينقاع: 7/ 75، 76. 9/ 563. بنو كلب: 1/ 62. بنو المصطلق: (انظر المريسيع) . بنو النضير: 6/ 6، 302، 307، 321، 346. 9/ 305، 563. بئر معونة: 1/ 82، 99. 7/ 267. بيعة الرضوان: (انظر بيعة الشجرة) . بيعة الشجرة: 8/ 580، 583، 589، 599. بيعة العقبة الثانية: 9/ 77، 538، 550. - ت- تبوك: 1/ 62، 193، 266. 2/ 36. 6/ 43، 485، 486. 8/ 596. 9/ 79، 308، 338، 339، 343، 345، 399، 400، 401، 403، 430، 431، 438، 447، 450، 461، 487، 490، 492، 499، 503، 505، 506، 508، 509، 510، 511، 513، 514، 516، 521، 529، 530، 531، 534، 539، 540، 545، 547، 549، 550، 555، 559، 564، 568، 576، 577. - ج- الجمل: 8/ 386، 511، 512، 611. 9/ 373، 460. - ح- حجة الوداع: 4/ 253. 5/ 394. 6/ 271، 357، 494. 9/ 9، 26، 27، 28، 29، 44، 183، 297، 346، 348، 392، 470، 574، 577، 578، 582. الحديبية: 1/ 12، 43. 2/ 33، 79، 40، 150. 3/ 173، 403. 4/ 308. 5/ 431، 541. 6/ 5، 6، 226، 234، 260، 270، 327، 328، 332، 333، 340، 341، 346، 393. 7/ 45، 140، 162، 164، 165، 302، 303، 374، 404. 8/ 197، 198، 303، 309، 328، 556، 572، 576، 577، 578، 581، 582، 583، 585، 596، 598، 599، 600، 601، 602، 605، 606، 613، 614. 9/ 9، 10، 13، 19، 20، 27، 31، 71، 78، 94، 104، 129، 157، 203، 231، 266، 271، 274، 275، 277، 280، 282، 297، 302، 304، 305، 306، 308، 343، 350، 353، 371، 389، 415، 522، 524. حروراء: 8/ 611.

- خ -

حلف الفضول: 2/ 179. 5/ 171، 172. حنين: 3/ 42. 6/ 394. 7/ 25. 9/ 380، 382، 383، 387، 389، 390، 430، 534، 540. - خ- الخندق (الأحزاب) : 2/ 39. 3/ 42. 6/ 6، 375. 7/ 33، 76، 134، 147، 226، 302، 304، 329، 345، 346، 347، 361، 374. 8/ 16، 28، 141، 261، 352، 428، 454، 457، 468، 480، 519، 601. 9/ 9، 104، 218، 305، 308. خيبر: 1/ 43. 4/ 174. 5/ 122، 123. 6/ 166. 7/ 260، 374. 8/ 80، 81، 556، 572، 575، 596، 599، 600، 602، 603، 610. 9/ 44، 45، 71، 161، 563. - د- دومة الجندل: 1/ 62. - ذ- ذات الرقاع: 6/ 505. ذات السلاسل: 2/ 9. 8/ 135. - ش- الشام: 9/ 563. - ص- صفين: 4/ 324. 5/ 109. 8/ 611. 9/ 460. - ط- الطائف: 9/ 390، 392، 540، 576. - ع- عسفان: 9/ 540. العقبة: 4/ 99. - غ- غدير خم: 1/ 239، 400. 5/ 393. 9/ 29. - ف- الفجار: 2/ 178. 6/ 36. فدك: 9/ 563. الفيل: 2/ 42. - م- المريسيع: 8/ 352، 353، 385، 457، 460، 501. مكة: 1/ 498. 2/ 169، 218. 3/ 327، 422. 4/ 180، 327،

- ن -

433. 5/ 187، 204، 358، 394، 490. 6/ 6، 42، 110، 112، 270، 340، 341، 361، 494. 7/ 99، 100، 105، 106، 111، 134، 319، 331، 348. 8/ 80، 81، 146، 147، 203، 219، 521، 523، 548، 578، 582، 606، 610. 9/ 9، 44، 45، 62، 117، 235، 266، 267، 286، 289، 290، 296، 297، 300، 302، 304، 305، 307، 311، 312، 343، 344، 350، 351، 368، 371، 372، 379، 380، 384، 390، 392، 399، 409، 430، 439، 524، 559، 576، 577. مؤتة: 1/ 62. 2/ 36. 3/ 416. 7/ 352. 9/ 79، 440. - ن- النهروان: 9/ 460. - ي- اليمامة: 1/ 68. 9/ 460. يوم عرفة: 9/ 9، 44، 348، 349.

8 - الشعر

8- الشعر أول البيت القافية عدد الأبيات الصفحة ألقاه بالماء 1 2/ 457 أنا النبي عبد المطلب 1 3/ 42. 9/ 385 هل أنت ما لقيت 1 3/ 42 ويأتيك لم تزود 1 3/ 41 قد كان مفند 3 5/ 94 نحن الذين أبدا 1 7/ 366 لما رأيت الإزارا 2 6/ 22 أتجعل والأقرع 3 9/ 388 فكلتاهما لم تحنف 1 6/ 22 وجماعة مؤكفه 2 1/ 235. 2/ 201 وجماعة إن يخلفه 2 1/ 235. 2/ 201 خلّوا رسوله 3 8/ 613 اليوم فلا أحلّه 1 2/ 385 لما رأيت وأكرما 4 9/ 548، 549 إن تغفر لا ألمّا 1 3/ 41. 2/ 106 ألا لا يجهلن الجاهلينا 1 7/ 249 والله لولا صلينا 3 3/ 42. 7/ 366. 9/ 366 تراه ثامن 1 6/ 22 اللهمّ والمهاجرة 1 3/ 42. 7/ 366 كفى أمانيا 1 3/ 41

9 - فهرس الكتب الواردة في التفسير

9- فهرس الكتب الواردة في التفسير - أ- أبو بكر الصديق لعلي الطنطاوي: 9/ 404. الإتقان في علوم القرآن للسيوطي: 1/ 10، 11، 12، 17، 67، 70، 77، 124، 125، 135، 136، 147، 148، 159، 202، 236، 241، 243، 246، 256، 260، 261، 263، 271، 287، 316، 497. 2/ 12، 20، 58، 129، 132، 514. 3/ 430. 4/ 8، 320. 5/ 177، 215. 6/ 90، 124، 125. 7/ 35، 303، 346. 8/ 8، 356، 357، 370. 9/ 339، 569. الأحوذي في شرح الترمذي لابن عربي: 2/ 542. الإرشاد للواسطي: 1/ 148. أساس البلاغة للزمخشري: 1/ 465، 509. 3/ 499. 4/ 133. 7/ 249. الاستقصاء في تاريخ المغرب الأقصى: 6/ 128. أسد الغابة للزرقاني: 1/ 344، 556. 4/ 204. 6/ 26. 7/ 160، 161، 351. أشهر مشاهير الإسلام لرفيق العظم: 2/ 37. 9/ 302. أعلام الموقعين لابن القيم: 2/ 328. 6/ 512، 513. 8/ 373، 374. أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين: 1/ 313. الأموال لأبي عبيد بن القاسم: 6/ 24، 43، 46. 7/ 52، 109. 8/ 309، 484، 602. 9/ 78، 397، 404، 405، 406، 410، 411، 412، 413، 414، 465، 466، 468، 470، 472، 473، 474، 475، 478، 479، 480، 481، 484. الانتصار للباقلاني: 1/ 85. إنجيل الأم: 2/ 501. إنجيل برنابا: 2/ 463، 464، 501، 502، 504. 3/ 150. 8/ 569. إنجيل الطفولة: 2/ 501. 3/ 153.

- ب -

الإنجيل في القرآن للحداد: 2/ 490. إنجيل لوقا: 2/ 500، 501، 503، 504، 511. 3/ 144، 151. 4/ 399. 6/ 198، 202، 301. 7/ 149، 151. 8/ 277، 280. 9/ 83، 193، 259، 261. إنجيل متى: 2/ 500، 504، 511. 4/ 381، 399. 5/ 316. 6/ 198. 301. 7/ 132، 150، 151. 8/ 277، 280، 542. 9/ 259، 261. إنجيل مرقس: 4/ 381، 399. 6/ 198. 7/ 151. 8/ 277، 280، 542، 543. 9/ 144، 259، 261. إنجيل الولادة: 2/ 501. 3/ 153. إنجيل يوحنا: 2/ 462، 500، 504، 507، 511. 6/ 198. 8/ 280، 569، 571. 9/ 261. أوائل السور في القرآن للسيد نصوح الطاهر: 1/ 360. الآيات البينات لكاشف الغطاء: 1/ 313. - ب- بلوغ الأرب في أحوال العرب للألوسي: 2/ 47، 118. 4/ 275. 6/ 24. 7/ 249. - ت- التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول للشيخ منصور علي ناصف: 1/ 287، 289، 290، 291، 292، 304، 308، 317، 321، 329، 330، 332، 343، 344، 345، 350، 357، 361، 362، 366، 370، 371، 382، 388. 391، 410، 429، 431، 435، 436، 437، 438، 441، 442، 444، 446، 455، 456، 461، 466، 467، 478، 479، 484، 485، 487، 496، 500، 506، 507، 513، 514، 516، 527، 539، 540، 542، 551، 552، 567. 2/ 9، 13، 16، 17، 22، 23، 24، 25، 38، 39، 45، 46، 49، 50، 53، 64، 68، 69، 70، 71، 76، 85، 86، 87، 89، 91، 93، 94، 95، 97، 98، 106، 109، 113، 114، 115، 116، 131، 133، 135، 140، 144، 154، 155، 156، 157، 172. 173. 174. 176. 177، 179، 180، 184، 185، 199، 200، 236، 246، 251، 261، 262، 263، 265، 266، 273، 274، 277، 284، 287، 288، 289، 290، 291، 292، 300، 310، 322، 328، 341، 352، 359، 370، 378، 385،

386، 397، 400، 401، 411، 412، 424، 451، 456، 459، 460، 468، 469، 471، 473، 474، 475، 476، 526، 527، 531، 533، 537، 541، 545، 550، 555، 558، 559، 567. 3/ 9، 20، 23، 31، 41، 42، 73، 74، 95، 96، 100، 101، 103، 123، 155، 174، 178، 179، 184، 211، 221، 252، 295، 301، 327، 332، 345، 353، 364، 381، 382، 383، 385، 388، 397، 398، 417، 420، 421، 422، 424، 437، 440، 462، 504، 506، 515، 537، 538، 539، 546، 548، 549. 4/ 9، 12، 35، 47، 50، 74، 85، 92، 97، 102، 106، 112، 113، 144، 146، 149، 150، 155، 173، 174، 175، 180، 187، 195، 196، 199، 201، 206، 211، 226، 232، 243، 250، 253، 263، 281، 297، 319، 320، 324، 338، 345، 346، 356، 367، 370، 374، 375، 378، 383، 384، 385، 386، 412، 422، 458، 460، 475، 477، 478، 486، 516، 517، 520، 524، 527، 532، 534، 540، 550. 5/ 17، 22، 25، 49، 50، 63، 67، 73، 76، 80، 81، 83، 85، 103، 104، 109، 110، 112، 114، 118، 123، 125، 127، 139، 141، 149، 154، 155، 156، 159، 169، 180، 190، 194، 198، 200، 201، 204، 212، 231، 235، 236، 246، 272، 277، 278، 281، 297، 301، 303، 305، 312، 317، 320، 326، 335، 350، 351، 353، 361، 368، 370، 372، 373، 395، 397، 400، 401، 417، 425، 431، 443، 448، 461، 489، 502، 509، 524، 534، 537، 539، 545، 546، 547، 553. 6/ 8، 10، 14، 16، 21، 22، 27، 32، 37، 41، 43، 46، 52، 56، 81، 85، 86، 88، 101، 104، 110، 111، 112، 118، 120، 124، 125، 138، 164، 175، 184، 188، 201، 203، 212، 214، 220، 221، 227، 229، 232، 236، 240، 250، 255، 256، 258، 260، 261، 269، 271، 273، 274، 275، 286، 289، 290،

291، 292، 295، 296، 298، 301، 302، 303، 305، 306، 307، 308، 309، 312، 313، 314، 317، 318، 319، 322، 323، 330، 335، 336، 341، 344، 345، 346، 347، 348، 349، 352، 354، 355، 356، 357، 358، 359، 360، 361، 364، 373، 374، 376، 378، 381، 386، 391، 394، 396، 397، 398، 399، 400، 401، 402، 403، 406، 408، 411، 412، 418، 420، 421، 427، 431، 432، 440، 443، 444، 450، 451، 458، 468، 469، 486، 488، 493، 495، 497، 498، 500، 504، 513، 515، 517، 518، 519، 521، 523. 7/ 10، 11، 18، 19، 20، 25، 31، 32، 34، 40، 44، 47، 48، 52، 54، 55، 57، 63، 70، 84، 85، 86، 88، 90، 91، 92، 100، 103، 134، 147، 154، 156، 158، 159، 162، 164، 166، 173، 176، 189، 190، 192، 202، 203، 208، 214، 225، 226، 228، 237، 246، 247، 256، 257، 258، 260، 261، 268، 271، 272، 276، 278، 286، 288، 292، 293، 295، 297، 301، 312، 317، 318، 319، 330، 335، 336، 338، 340، 341، 343، 344، 349، 351، 356، 365، 366، 367، 374، 376، 377، 378، 380، 381، 384، 395، 402، 409، 414، 417، 427. 8/ 10، 13، 20، 21، 22، 25، 28، 35، 37، 38، 39، 40، 43، 45، 46، 51، 53، 56، 58، 59، 61، 62، 63، 67، 68، 69، 70، 71، 72، 74، 75، 76، 77، 78، 79، 81، 89، 90، 92، 93، 97، 98، 105، 107، 109، 118، 119، 120، 121، 122، 124، 126، 127، 128، 129، 131، 133، 134، 135، 144، 146، 148، 154، 155، 156، 164، 165، 169، 170، 182، 189، 190، 191، 192، 194، 200، 204، 205، 207، 208، 211، 213، 214، 217، 219، 223، 224، 225، 230، 232، 236، 237، 244، 246، 249، 253، 255، 265، 267، 268، 269، 271، 297، 305، 307، 309، 315، 325،

- ت -

331، 335، 340، 342، 345، 346، 350، 355، 356، 360، 361، 362، 363، 366، 373، 375، 384، 385، 389، 396، 397، 398، 399، 400، 402، 406، 412، 413، 415، 420، 425، 426، 427، 428، 440، 441، 450، 456، 460، 462، 466، 470، 474، 479، 480، 484، 485، 486، 487، 488، 498، 502، 505، 509، 510، 518، 519، 520، 522، 531، 532، 533، 552، 557، 577، 583، 585، 603، 608. 9/ 14، 15، 16، 17، 21، 26، 33، 35، 36، 37، 39، 42، 49، 50، 57، 60، 63، 64، 65، 66، 67، 78، 88، 94، 100، 101، 102، 109، 113، 114، 118، 119، 120، 121، 122، 128، 139، 140، 141، 157، 161، 162، 177، 183، 186، 189، 197، 198، 208، 209، 210، 212، 219، 221، 222، 223، 224، 225، 226، 234، 240، 241، 242، 244، 247، 248، 255، 260، 264، 269، 274، 283، 285، 286، 290، 291، 293، 294، 302، 310، 311، 312، 317، 339، 346، 349، 356، 377، 352، 385، 387، 388، 389، 390، 396، 397، 404، 410، 411، 412، 415، 417، 420، 421، 422، 423، 424، 425، 431، 440، 443، 444، 453، 458، 459، 462، 464، 465، 468، 469، 470، 471، 475، 476، 477، 478، 479، 484، 493، 495، 496، 503، 504، 506، 524، 527، 536، 541، 543، 545، 549، 561، 570، 572، 573، 578، 579، 582، 585، 586، 588. - ت- تاريخ الإسلام السياسي لحسن إبراهيم حسن: 7/ 405، 406. تاريخ الإسلام للمستشرق كايتاني: 1/ 86، 423. 5/ 489. تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم لمحمد دروزة: 2/ 307. 3/ 360. 5/ 355. 6/ 172، 464. 7/ 175، 211. 9/ 93، 176. تاريخ التبشير والدعوة الإسلامية لأرنولد: 1/ 54. تاريخ الجنس العربي لمحمد دروزة:

2/ 42، 176، 230. 3/ 154. 4/ 229، 366. 5/ 203. 6/ 167، 190، 337، 338، 464. 8/ 291، 292، 386. 9/ 235، 331، 332، 521، 557. تاريخ سورية للمطران الدبس: 3/ 152. 6/ 464. 8/ 291. 9/ 82، 193، 331. تاريخ الطبري: 1/ 364، 366، 441، 497، 504، 529، 551. 2/ 42، 135. 4/ 272. 5/ 326، 329، 337، 346، 353. 6/ 24، 316، 324، 331، 333، 335. 7/ 16، 93، 313. 8/ 187، 462، 507، 578، 582، 600، 602. 9/ 278، 305، 377، 384، 396، 402، 409، 425، 426، 428، 460، 521، 577، 585، 589. تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي: 1/ 294. 2/ 145، 179، 335، 344. 4/ 163، 184، 229، 424، 544. 5/ 212، 341. 6/ 24، 43، 46، 167. 7/ 336. 9/ 235، 377، 433، 436. تاريخ العرب قبل الإسلام لجرجي زيدان: 2/ 175. تاريخ عمر بن الخطاب للإمام ابن الجوزي: 6/ 35. 7/ 59، 221، 313. تاريخ كلدو وأشور لأسقف سعرد: 3/ 318. تاريخ الموارنة للمطران الدبس: 5/ 59، 61. 9/ 409. تاريخ يوسيفوس اليهودي: 5/ 99. 7/ 211. تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة: 1/ 11. التحفة الاثني عشرية لعبد العزيز غلام حكم الدهلوي: 4/ 41. تحقيق البيان للشيخ محمد المتولي: 1/ 14. تفسير الآيات لهشام الكلبي: 1/ 9. تفسير ابن تيمية: 2/ 201. تفسير ابن عباس: 1/ 203، 497. 2/ 208، 218، 220، 248. 3/ 107، 166. تفسير ابن العربي (الفتوحات) : 6/ 132. تفسير ابن كثير: 1/ 201، 203، 288، 304، 322، 343، 360، 368، 372، 373، 377، 407، 426، 456، 464، 486، 496، 497، 500، 504، 507، 508، 516، 526، 529، 533، 551، 557، 562. 2/ 12، 16، 26، 42، 47، 52، 76، 81، 83، 89، 90، 97، 105، 108، 109، 113، 118، 122، 124، 125، 130، 131، 132، 139، 141، 144، 145،

148، 160، 164، 170، 175، 186، 188، 189، 194، 195، 200، 201، 206، 220، 230، 234، 235، 236، 241، 242، 246، 247، 248، 253، 262، 272، 273، 274، 275، 277، 278، 291، 308، 320، 385، 424، 440، 451، 452، 498، 521، 535، 550، 562. 3/ 9، 15، 17، 22، 26، 29، 38، 44، 46، 50، 51، 60، 70، 76، 82، 83، 89، 90، 93، 97، 104، 105، 125، 135، 137، 147، 148، 153، 155، 165، 166، 168، 177، 187، 193، 223، 238، 243، 260، 281، 301، 324، 330، 335، 337، 338، 343، 347، 359، 383، 390، 393، 394، 395، 406، 410، 413، 415، 430، 432، 454، 466، 471، 472، 483، 506، 515، 522، 524، 525، 538، 543، 550، 554. 4/ 54، 57، 59، 66، 77، 79، 80، 91، 95، 112، 117، 119، 120، 124، 131، 134، 138، 144، 145، 144، 145، 152، 164، 178، 188، 190، 191، 194، 216، 217، 228، 235، 236، 247، 262، 263، 272، 275، 277، 301، 311، 327، 329، 337، 338، 339، 343، 358، 366، 367، 375، 377، 379، 406، 418، 444، 447، 460، 461، 463، 472، 475، 490، 498، 502، 504، 508، 518، 529، 531، 536، 539، 540، 541، 547، 548، 551، 553. 5/ 13، 16، 17، 26، 31، 57، 75، 78، 93، 134، 156، 158، 160، 167، 177، 186، 191، 194، 197، 201، 205، 229، 233، 236، 243، 265، 269، 280، 287، 292، 301، 303، 304، 305، 317، 322، 325، 326، 329، 346، 353، 354، 360، 394، 409، 443، 447، 448، 457، 467، 469، 478، 494، 499، 500، 521، 538، 541، 543، 553. 6/ 8، 11، 16، 25، 39، 45، 47، 56، 64، 67، 78، 79، 92، 94، 95، 103، 105، 108، 124، 125، 134، 147، 149، 159، 162، 178، 190، 195، 205، 213، 215، 217، 223، 226، 228، 238، 247،

253، 254، 261، 269، 280، 288، 294، 304، 324، 331، 333، 360، 363، 366، 369، 374، 388، 393، 426، 428، 429، 432، 454، 456، 463، 465، 469، 470، 473، 479، 493، 494، 498، 503، 523. 7/ 9، 16، 23، 25، 28، 30، 35، 40، 50، 62، 68، 69، 75، 91، 93، 95، 98، 103، 105، 109، 115، 119، 123، 137. 146. 148، 156، 166، 167، 170، 176، 178، 187، 191، 199، 219، 224، 227، 235، 251، 261، 268، 269، 270، 278، 280، 286، 292، 295، 298، 300، 302، 303، 304، 307، 315، 323، 338، 339، 340، 361، 367، 371، 374، 380، 381، 386، 392، 393، 395، 397، 402، 403، 405، 409، 412، 415، 416، 418، 421، 427، 428. 8/ 15، 19، 23، 26، 30، 31، 37، 48، 49، 50، 51، 58، 59، 61، 62، 63، 67، 69، 71، 73، 79، 88، 89، 91، 94، 96، 97، 103، 104، 112، 118، 120، 123، 124، 137، 151، 159، 163، 168، 171، 187، 188، 191، 194، 197، 201، 206، 207، 210، 216، 217، 224، 241، 252، 265، 272، 278، 280، 282، 298، 299، 303، 304، 311، 315، 318، 321، 327، 336، 337، 340، 356، 359، 366، 367، 369، 370، 371، 372، 376، 385، 390، 391، 401، 402، 413، 414، 416، 423، 424، 427، 440، 441، 455. 462، 466، 469، 471، 479، 482، 483، 484، 485، 488، 489، 490، 491، 493، 501، 505، 509، 511، 512، 515، 516، 517، 522، 523، 524، 525، 526، 527، 533، 539، 541، 544، 552، 553، 555، 557، 559، 570، 571، 575، 576، 578، 587، 589، 590، 595، 596، 597، 599، 600، 605، 606، 607، 613. 9/ 8، 21، 34، 35، 36، 38، 43، 46، 61، 66، 91، 94، 96، 102، 105، 114، 118، 122، 137، 147، 175، 180، 198، 200، 201، 210، 232، 235، 241، 252، 255، 269،

271، 274، 283، 295، 296، 303، 305، 317، 328، 340، 344، 354، 403، 410، 420، 421، 432، 433، 438، 454، 465، 468، 485، 487، 495، 496، 504، 506، 513، 517، 519، 533، 539، 547، 558، 569، 570. تفسير أبي حيان: 1/ 203. تفسير أبي السعود: 1/ 203، 236، 259، 488. 6/ 25. تفسير الألوسي: 1/ 203، 287، 406، 441، 449، 544، 551، 557، 561. 2/ 12، 20. تفسير البغوي: 1/ 203، 322، 354، 360، 426، 456، 496، 497، 500، 503، 504، 507، 529، 533، 538، 551، 557. 2/ 12، 16، 42، 76، 81، 83، 105، 108، 112، 113، 122، 124، 125، 130، 132، 139، 141، 144، 145، 148، 160، 164، 170، 175، 186، 188، 189، 194، 195، 200، 201، 206، 219، 230، 235، 236، 241، 242، 248، 253، 272، 273، 299، 300، 308، 320، 325، 346، 348، 375، 376، 385، 498، 521، 530، 535، 550، 562. 3/ 17، 22، 60، 82، 89، 90، 93، 97، 125، 147، 168، 177، 187، 257، 270، 301، 335، 338، 343، 347، 461، 410، 413، 415، 430، 432، 451، 454، 471، 472، 475، 483، 495، 515، 522، 525، 538، 545، 546، 549. 4/ 8، 53، 54، 57، 59، 66، 77، 79، 80، 117، 119، 120، 124، 134، 144، 145، 153، 164، 178، 188، 193، 194، 224، 228، 235، 236، 259، 262، 263، 275، 301، 329، 337، 338، 355، 367، 375، 377، 380، 406، 436، 444، 447، 461، 467، 487، 490، 498، 504، 508، 529، 531، 536، 537، 539، 541، 547، 548. 5/ 13، 16، 25، 26، 27، 32، 43، 57، 75، 78، 83، 85، 93، 134، 151، 158، 160، 167، 177، 186، 191، 194، 201، 203، 205، 218، 236، 243، 265، 269، 280، 281، 287، 289، 303، 316، 322، 323، 325، 326، 329، 334، 337،

344، 346، 353، 354، 360، 394، 409، 447، 449، 455، 467، 469، 471، 474، 488، 494، 499، 500، 508، 516، 521، 538، 541، 543، 553. 6/ 9، 11، 16، 25، 39، 45، 47، 55، 56، 62، 64، 67، 73، 78، 89، 92، 94، 95، 103، 105، 108، 126، 134، 162، 195، 205، 226، 228، 238، 253، 288، 294، 324، 331، 333، 363، 366، 371، 383، 388، 465، 471، 473، 479، 494. 7/ 9، 16، 23، 25، 28، 40، 56، 68، 69، 75، 91، 93، 95، 98، 103، 105، 115، 123، 146، 148، 156، 170، 187، 191، 199، 224، 251، 301، 302، 303، 304، 307، 309، 315، 323، 347، 351، 354، 361، 367، 370، 371، 372، 374، 380، 381، 386، 388، 397، 402، 403، 404، 405، 409، 412، 415، 416، 418، 421، 427، 428. 8/ 15، 19، 23، 30، 31، 33، 37، 48، 50، 51، 61، 67، 71، 79، 94، 96، 97، 104، 112، 159، 171، 311، 315، 318، 321، 327، 336، 337، 340، 345، 347، 366، 367، 370، 371، 372، 376، 377، 385، 390، 391، 401، 413، 414، 416، 418، 423، 424، 432، 435، 437، 441، 444، 455، 462، 466، 469، 471، 474، 482، 483، 486، 488، 490، 491، 493، 501، 505، 509، 511، 512، 522، 533، 537، 539، 541، 544، 546، 552، 553، 555، 557، 559، 575، 576، 578، 587، 588، 589، 593، 595، 596، 597، 600، 601، 605، 607، 613. 9/ 19، 21، 38، 43، 46، 61، 66، 91، 96، 102، 105، 118، 147، 168، 175، 180، 200، 232، 242، 246، 252، 269، 274، 280، 283، 295، 296، 303، 305، 328، 340، 343، 344، 354، 357، 384، 403، 410، 420، 421، 432، 433، 438، 443، 454، 465، 485، 487، 501، 504، 506، 513، 517، 533، 537، 547، 558. تفسير البيضاوي: 1/ 203، 236، 259. 4/ 461. 6/ 25.

تفسير الثعلبي: 1/ 256. تفسير جزء عم لمحمد عبده: 1/ 256. تفسير الجلالين لجلال الدين السيوطي وجلال الدين المحلّي: 1/ 11. تفسير الخازن: 1/ 125، 203، 206، 236، 259، 260، 288، 293، 360، 372، 373، 426، 456، 487، 496، 551، 557. 2/ 20، 37، 38، 42، 52، 53، 55، 76، 81، 83، 105، 108، 113، 130، 141، 144، 160، 164، 175، 186، 200، 201، 220، 230، 235، 241، 242، 272، 273، 275، 293، 300، 308، 320، 346، 368، 325، 330، 348، 375، 376، 385، 440، 521، 529، 535، 556. 3/ 15، 17، 22، 26، 38، 46، 50، 51، 52، 70، 76، 82، 89، 90، 93، 97، 105، 125، 153، 168، 177، 187، 238، 257، 260، 270، 301، 324، 330، 337، 343، 359، 395، 404، 406، 410، 415، 430، 431، 432، 451، 466، 471، 483، 515، 522، 524، 545، 546. 4/ 8، 57، 59، 66، 77، 79، 110، 111، 117، 119، 120، 124، 129، 131، 134، 144، 145، 152، 164، 178، 188، 190، 191، 194، 224، 228، 235، 236، 242، 247، 254، 262، 263، 272، 275، 285، 301، 302، 304، 311، 327، 329، 337، 338، 339، 343، 350، 358، 375، 377، 380، 418، 447، 461، 463، 483، 490، 498، 504، 508، 517، 518، 529، 531، 537، 547. 5/ 13، 16، 25، 26، 31، 43، 57، 69، 75، 93، 134، 158، 160، 167، 177، 186، 191، 201، 205، 218، 236، 243، 265، 269، 280، 287، 292، 316، 322، 326، 346، 353، 354، 394، 409، 455، 467، 471، 474، 475، 488، 494. 6/ 9، 16، 18، 25، 39، 45، 47، 56، 64، 67، 73، 78، 89، 97، 103، 105، 108، 118، 134، 147، 205، 215، 216، 217، 223، 228، 238، 253، 256، 261، 265، 269، 280، 288، 294، 304، 321، 324، 331، 333، 360، 363، 366، 369، 371، 377، 378، 383، 403، 428، 454، 456، 463،

5، 467، 471، 473، 479، 493، 494. 7/ 9، 16، 23، 25، 30، 35، 40، 68، 69، 75، 93، 95، 98، 103، 109، 115، 123، 137، 138، 146، 148، 156، 166، 167، 169، 176، 178، 183، 187، 199، 217، 219، 227، 235، 245، 251، 255، 267، 268، 269، 270، 272، 278، 280، 286، 292، 295، 296، 298، 300، 302، 303، 304، 309، 315، 323، 351، 353، 354، 361، 367، 371، 374، 386، 388، 392، 397، 398، 402، 403، 404، 405، 409، 412، 416، 418، 421، 427. 8/ 11، 15، 19، 23، 25، 26، 30، 31، 33، 35، 37، 38، 42، 48، 49، 50، 51، 61، 62، 63، 67، 71، 73، 79، 88، 89، 94، 96، 97، 103، 104، 112، 118، 123، 124، 137، 159، 163، 171، 184، 185، 187، 188، 191، 194، 197، 199، 200، 201، 206، 207، 210، 216، 217، 227، 233، 235، 241، 278، 280، 299، 303، 311، 315، 318، 321، 327، 336، 337، 340، 345، 347، 366، 367، 370، 371، 372، 376، 377، 385، 390، 391، 402، 413، 418، 423، 424، 432، 435، 437، 444، 455، 462، 466، 469، 471، 473، 474، 479، 482، 483، 487، 489، 490، 493، 498، 501، 505، 509، 511، 512، 515، 521، 522، 525، 527، 533، 537، 539، 541، 544، 553، 557، 571، 576، 578، 587، 589، 591، 593، 595، 596، 597، 600، 605، 607، 613. 9/ 16، 21، 38، 43، 46، 61، 66، 91، 96، 102، 118، 147، 168، 175، 180، 200، 232، 246، 255، 269، 271، 274، 283، 296، 303، 305، 317، 328، 340، 344، 403، 410، 420، 421، 432، 433، 438، 454، 465، 468، 485، 506، 513، 533، 537، 547، 558. تفسير الخطيب: 1/ 462. تفسير الرازي: 1/ 203، 236، 256، 556. 6/ 25، 27. تفسير الطبري: 1/ 203، 259، 293، 360، 368، 372، 373، 377،

398، 407، 426، 440، 441، 445، 449، 454، 456، 464، 486، 497، 500، 503، 526، 533، 544، 551، 557، 562. 2/ 11، 12، 13، 14، 26، 42، 43، 47، 70، 76، 80، 81، 83، 105، 108، 112، 118، 122، 124، 125، 130، 131، 132، 139، 141، 144، 160، 170، 175، 186، 188، 189، 194، 195، 197، 200، 201، 206، 220، 230، 236، 241، 242، 253، 262، 272، 273، 293، 299، 300، 303، 308، 320، 325، 330، 339، 348، 375، 376، 385، 440، 521، 529، 535، 550، 562. 3/ 15، 17، 22، 26، 38، 44، 46، 50، 51، 60، 70، 76، 78، 89، 90، 93، 97، 104، 105، 107، 125، 135، 147، 153، 155، 165، 168، 177، 179، 187، 193، 243، 260، 269، 270، 301، 321، 324، 330، 335، 337، 343، 347، 359، 393، 361، 390، 393، 395، 406، 410، 413، 415، 430، 432، 451، 462، 471، 475، 483، 515، 517، 522، 523، 524، 532، 543، 546، 549، 554. 4/ 8، 44، 53، 54، 57، 59، 77، 79، 80، 95، 117، 119، 120، 124، 131، 144، 145، 152، 164، 178، 190، 191، 228، 235، 236، 247، 251، 260، 262، 263، 267، 272، 275، 277، 285، 301، 311، 327، 329، 337، 338، 358، 366، 375، 377، 418، 444، 447، 472، 475، 490، 498، 502، 508، 517، 518، 529، 531، 536، 539، 540. 5/ 13، 16، 31، 57، 69، 75، 78، 83، 85، 86، 93، 134، 151، 158، 160، 167، 177، 183، 186، 191، 201، 236، 237، 243، 265، 269، 280، 281، 287، 289، 292، 316، 322، 323، 325، 326، 344، 394، 354، 360، 409، 425، 429، 430، 447، 448، 455، 467، 469، 471، 494، 499، 508، 521، 538، 543، 553. 6/ 11، 16، 25، 39، 45، 47، 62، 67، 78، 103، 134، 147، 148، 150، 153، 159، 162، 165، 173، 178، 179،

190، 195، 200، 202، 205، 209، 215، 217، 226، 228، 238، 247، 253، 261، 265، 269، 276، 288، 294، 304، 363، 371، 374، 383، 388، 393، 403، 456، 463، 465، 471، 473، 476، 479، 493، 494. 7/ 9، 10، 16، 23، 25، 28، 30، 35، 40، 56، 62، 68، 69، 75، 91، 93، 95، 103، 105، 109، 115، 119، 123، 127، 137، 146، 148، 156، 166، 167، 170، 176، 178، 187، 191، 199، 219، 224، 227، 228، 231، 235، 246، 251، 255، 267، 270، 272، 278، 280، 284، 286، 292، 298، 300، 302، 304، 307، 309، 315، 322، 323، 361، 365، 367، 370، 371، 380، 381، 386، 388، 402، 403، 405، 409، 412، 418، 427. 8/ 11، 15، 19، 30، 31، 37، 48، 49، 50، 51، 61، 63، 67، 69، 88، 91، 94، 96، 97، 103، 104، 112، 123، 124، 137، 159، 163، 171، 187، 194، 197، 199، 201، 206، 207، 210، 216، 217، 227، 235، 241، 252، 265، 272، 278، 282، 298، 299، 303، 304، 311، 318، 321، 327، 345، 366، 367، 371، 372، 376، 377، 385، 390، 391، 396، 416، 418، 423، 424، 435، 437، 441، 455، 462، 466، 469، 471، 482، 483، 487، 490، 491، 498، 501، 505، 512، 515، 525، 533، 537، 539، 552، 557، 559، 576، 578، 588، 589، 593، 595، 596، 597، 600، 605، 607، 613. 9/ 19، 21، 34، 38، 46، 51، 61، 66، 69، 91، 94، 96، 102، 118، 147، 175، 180، 199، 200، 220، 231، 232، 234، 235، 246، 255، 269، 271، 274، 280، 283، 284، 292، 295، 296، 328، 344، 354، 367، 384، 420، 421، 431، 433، 438، 465، 468، 487، 496، 501، 506، 513، 517، 537، 547. تفسير الطنطاوي جوهري: 1/ 203، 231، 348. 4/ 129. تفسير العادلي: 1/ 203، 256.

تفسير فريد وجدي: 1/ 203. تفسير القاسمي: 1/ 456. 2/ 81، 108، 164، 170، 175، 177، 185، 186، 234، 248، 268، 273، 275، 326، 348، 378، 414، 529، 530، 550، 561. 3/ 75، 80، 104، 358، 388، 395، 396، 413، 430، 431، 442، 472، 484، 543. 4/ 461. 5/ 93، 97، 167، 177، 280، 305، 516، 538. 6/ 64، 87، 89، 105، 118، 216، 271، 289، 363، 501، 503. 7/ 10، 388، 397، 428. 8/ 15، 37، 38، 88، 90، 101، 123، 151، 220، 234، 265، 277، 346، 347، 360، 369، 370، 372، 385، 466، 490، 504، 510، 522، 531، 559. 9/ 9، 20، 21، 30، 35، 37، 65، 118، 160، 163، 168، 175، 200، 329، 359، 420، 421، 536، 542، 560. تفسير القرطبي: 1/ 360. 2/ 81، 83، 308، 348. تفسير الكليني: 8/ 266. تفسير المراغي: 1/ 203، 257. تفسير المنار للسيد رشيد رضا: 1/ 17، 159، 203، 256، 288، 304، 456، 562. 2/ 38، 132، 186، 192، 200، 248، 348، 378، 424، 425، 433، 440، 476، 522، 529، 530، 550. 3/ 60، 135، 153، 430، 455، 466، 471، 484، 499، 522، 524، 539. 4/ 77، 112، 119، 129، 131، 138. 5/ 194، 287. 6/ 143، 155، 363، 379. 7/ 146، 161. 8/ 18، 55، 59، 60، 123، 149، 182، 185، 234. 9/ 14، 20، 21، 30، 82، 118، 216، 338، 339، 347، 352، 356، 398، 407، 444، 474، 542، 569. تفسير النسفي: 1/ 203، 360، 426. 2/ 83، 253، 272، 273، 348، 413. 4/ 497. 5/ 348. 6/ 25، 89، 105، 118، 216، 253. 7/ 146. 8/ 37، 303، 327، 424، 578. 9/ 43، 46، 105، 340، 344، 438. تفسير النيسابوري: 1/ 260، 360، 368، 377، 488، 496، 497، 500، 504، 533، 544، 551، 557، 559، 561. 2/ 76، 81، 83، 105، 122، 124، 125، 132، 141، 197، 253. 3/ 89،

- ج -

413. 6/ 89. 8/ 37، 424. 9/ 43، 46، 287، 296، 340، 344، 438، 573. التفسير والمفسرون للذهبي: 1/ 309، 311، 312، 530، 546. 2/ 12، 16، 20، 42، 47، 52، 57، 123، 164، 240، 321، 453، 517. 3/ 33، 249، 453. 4/ 41، 369، 518. 5/ 106، 163، 226، 412، 426، 518. 6/ 72، 96، 132، 139، 160، 276. 7/ 182. 8/ 122، 150، 157، 300، 536. 9/ 163، 184. تهافت الفلاسفة للإمام الغزالي: 1/ 231. - ج- جامع أحكام القرآن للقرطبي: 1/ 203، 216، 222. جامع الترمذي: 1/ 287. 6/ 120. 8/ 160، 381، 488. 9/ 349. - ح- حقائق الإسلام وأباطيل خصومه لعباس العقاد: 7/ 406. حضارة الإسلام: 4/ 510. الحلية: 7/ 288. حياة عمرو بن العاص الحسن إبراهيم حسن: 1/ 534. 2/ 180. حياة محمد لهيكل: 1/ 400، 554. 3/ 325. 4/ 40. 7/ 388، 405. 8/ 594. - خ- الخراج لأبي يوسف: 6/ 24، 167. 7/ 52، 58، 105، 109، 9/ 49، 404، 405، 407، 410، 412، 413، 415، 468. - د- دروس قرآنية للحداد: 2/ 488. الدستور القرآني في شؤون الحياة لمحمد دروزة: 1/ 5، 11. 4/ 510. 5/ 203. الدعوة إلى الإسلام لأرنولد توماس: 3/ 154. دعوة الرسل إلى الله للشيخ محمد أحمد العدوي: 1/ 11. الدلائل للبيهقي: 8/ 8. دليل الحيارى للإمام ابن قيم الجوزية: 8/ 570. 9/ 82. - ر- رحلة الرسل: 8/ 274. رسالة الإجماع في الشريعة الإسلامية لعلي عبد الرزاق: 8/ 238. رسائل بولس: 9/ 144.

- ز -

رسالة الكلمات الحسان للشيخ بخيت: 1/ 82، 85. روح الإسلام لطبارة: 4/ 544. 5/ 450. - ز- زاد المعاد لابن القيم: 2/ 176. 6/ 504. - س- سفر الأحبار: 2/ 442، 479، 480، 485، 486، 493، 497. 3/ 82، 199. 4/ 179، 180، 547. 6/ 396، 505. 7/ 175. 8/ 280، 281. 9/ 74، 93، 133، 134، 136. سفر أخبار الأيام الأول: 2/ 480، 481، 486، 487. 3/ 360. 4/ 548. 7/ 211. 9/ 93، 170، 176. سفر أخبار الأيام الثاني: 2/ 481، 486، 487، 488. 3/ 360. سفر أخيا: 2/ 488. سفر أستير: 2/ 480. 3/ 317، 318. 7/ 211. سفر أعمال الرسل: 2/ 463، 464. 9/ 261. سفر الأمثال: 2/ 482. 6/ 497. 8/ 281. سفر أمور سليمان: 2/ 488. سفر أيوب: 2/ 482، 486، 487. سفر بولس: 4/ 388. سفر التثنية: 1/ 521. 2/ 162، 438، 444، 450، 463، 475، 479، 480، 483، 485، 486، 493، 497. 3/ 199، 286. 4/ 547. 5/ 243. 6/ 179، 497. 7/ 175. 8/ 280، 281. 9/ 74، 134، 136. سفر التكوين: 1/ 395، 475، 519، 523. 2/ 117، 118، 169، 170، 177، 244، 247، 248، 249، 285، 329، 332، 333، 334، 345، 346، 347، 348، 423، 443، 449، 481، 486. 3/ 160، 162، 163، 164، 203، 250، 253، 291، 387، 506، 522، 523، 530، 532. 4/ 11، 14، 17، 20، 24، 26، 52، 54، 57، 60، 73، 120، 164، 218، 220، 222، 226، 301، 371، 398، 400، 444. 5/ 242، 276، 475، 479. 6/ 80، 239، 473، 474، 477. 7/ 155، 192. 8/ 542. 9/ 92، 97. سفر التوراة: 2/ 484، 485. سفر الجامعة: 2/ 482. سفر الحكمة: 2/ 483. سفر الخروج: 1/ 521، 534. 2/ 247،

438، 439، 444، 450، 454، 463، 475، 479، 481، 483، 484، 485، 486، 487، 493، 497، 519. 3/ 82، 190، 191، 195، 199، 202، 203، 247، 285، 286، 311، 312، 315، 317، 490. 4/ 547. 6/ 191، 497، 505. 7/ 175. 8/ 281. 9/ 74، 133، 134، 136. سفر راعوث: 2/ 480. سفر رؤيا القديس يوحنا: 2/ 346. سفر الشريعة: 9/ 130. سفر شمعيا: 2/ 488. سفر صموئيل: 6/ 459. 7/ 211. سفر صموئيل الأول: 2/ 420، 480، 486. 4/ 381. 6/ 462. سفر صموئيل الثاني: 2/ 480، 486. 4/ 381. 6/ 462. سفر طوبيا: 2/ 480. سفر العدد: 2/ 438، 444، 450، 463، 475، 479، 481، 485، 486، 493، 519، 535. 3/ 82، 286، 490. 4/ 547. 6/ 171، 191. 9/ 74، 90، 91، 93، 134، 136. سفر عدو الراي: 2/ 488. سفر عزرا: 2/ 444، 463، 480. 3/ 202، 286. 5/ 99، 100. 6/ 81، 301، 476. 7/ 211. 9/ 416. سفر القديس يوحنا الأول: 2/ 346. 4/ 388. سفر القضاة: 2/ 480، 3/ 361. 4/ 399، 547، 6/ 462، 7/ 211. 9/ 93، 170، 170. سفر اللاويين: 2/ 475، 479، 4/ 547. 6/ 191. سفر لوقا: 6/ 505. سفر متى: 6/ 505. سفر مراثي أرميا: 2/ 482، 6/ 476. 7/ 211. سفر مرقس: 6/ 505. سفر المزامير: 2/ 482، 486. 6/ 497. 8/ 281. سفر المكابيين: 7/ 211. سفر المكابيين الأول: 2/ 480. سفر المكابيين الثاني: 2/ 480. سفر الملوك: 1/ 521، 2/ 176، 313، 463، 3/ 331. 4/ 548، 7/ 211، 281. 9/ 93، 170، 176. سفر الملوك الأول: 2/ 480، 484، 486، 487، 488. 3/ 289، 360. 4/ 381. سفر الملوك الثالث: 4/ 399. سفر الملوك الثاني: 2/ 480، 481، 484، 486، 488. 3/ 360. 4/ 381، 399. 6/ 476. سفر ناثان: 2/ 488.

سفر نبوءة أرميا: 2/ 482. 3/ 361. 4/ 548. 6/ 476. 7/ 211. 9/ 93. سفر نبوءة أشعيا: 2/ 482، 494. 3/ 361. 4/ 381، 548. 5/ 99. 7/ 211. سفر نبوءة باروك: 2/ 482. 7/ 211. سفر نبوءة تحوم: 2/ 482. سفر نبوءة حبقوق: 2/ 482. 4/ 548. سفر نبوءة حجاي: 2/ 482. سفر نبوءة حزقيال: 2/ 482. 4/ 548. 5/ 105. 7/ 211. سفر نبوءة حزقيل: 6/ 457، 497. 8/ 281. 9/ 93. سفر نبوءة دانيال: 2/ 482. 4/ 548. 5/ 98، 100. سفر نبوءة زكريا: 2/ 482. 6/ 301. سفر نبوءة صفنيا: 2/ 482. 4/ 548. 7/ 211. سفر نبوءة عاموس: 2/ 482. 4/ 548. سفر نبوءة عوبيديا: 2/ 482. 4/ 548. 7/ 211. سفر نبوءة ملاخي: 2/ 482. 4/ 548. 7/ 211. سفر نبوءة ميخا: 2/ 482. 4/ 548. 7/ 211. سفر نبوءة هوشع: 2/ 482. 4/ 547. سفر نبوءة يونان: 1/ 391. 2/ 482، 486، 487. 4/ 230. 5/ 283، 284. سفر نبوءة يوئيل: 2/ 482. سفر نحميا: 1/ 521، 2/ 480، 484. 3/ 202، 6/ 476. 7/ 211. سفر نشيد الأنشاد: 2/ 482. سفر هوشع: 4/ 548. سفر ياشر: 2/ 488. سفر يشوع: 2/ 480، 483، 487. 9/ 170. سفر يهوديت: 2/ 480. سفر يوئيل: 4/ 548، 6/ 301. سنن ابن ماجه: 2/ 542، 6/ 523. سنن أبي داود: 1/ 287، 288، 8/ 267، 488. سنن الترمذي: 4/ 324، 5/ 83، 6/ 55، 7/ 286، 9/ 183. السنة للسباعي: 1/ 293، 5/ 140، 142، 7/ 396. سيرة ابن هشام: 1/ 51، 105، 322، 327، 328، 497، 524، 556، 2/ 36، 179، 287، 380. 3/ 61. 4/ 163، 248، 251، 287، 308، 366. 5/ 25، 134، 288، 470، 501. 6/ 26، 27، 136، 165، 167، 334، 341، 357، 384، 393، 494. 7/ 9، 16، 23، 40، 62، 68، 69، 75، 77، 78، 92، 93، 98، 105، 106، 107، 109، 127، 141، 148، 164، 224،

- ش -

235، 242، 284، 302، 304، 336، 361، 362، 365، 367، 368، 374، 388، 403، 405. 8/ 307، 462، 576، 578، 582، 583، 596، 600، 602، 613، 614. 9/ 44، 71، 78، 157، 183، 275، 286، 289، 290، 302، 305، 378، 384، 391، 396، 401، 402، 418، 510، 548، 564، 577، 582، 585، 589. سيرة أبي بكر وعمر لرفيق العظم: 9/ 404. السيرة الحلبية: 1/ 322، 327، 364، 414. سيرة الرسول عليه السلام من القرآن لمحمد دروزة: 1/ 5، 63، 64، 107، 214، 278، 365، 390، 464، 472، 497، 2/ 37، 150، 5/ 203، 7/ 7، 303، 307، 328، 348، 352، 8/ 8، 298، 347، 496، 529، 544. 9/ 10، 266، 296، 341، 573. - ش- شرح السنة: 1/ 82، 84، 6/ 505. شرح العيني على البخاري: 1/ 551. الشهداء الحميريون نشر بطرك السريان في سوريا: 3/ 150. شواهد التنزيل: 5/ 519. - ص- الصادقة لعبد الله بن عمرو: 7/ 396. صحيح ابن حبان: 1/ 543، 2/ 542، 6/ 210، 8/ 60. صحيح البخاري: 1/ 287، 3/ 504، 509، 4/ 338، 5/ 83، 448، 6/ 26، 46، 203، 7/ 237، 278، 285، 288، 292، 297، 330، 351، 392، 8/ 160، 169، 216، 488، 576، 9/ 183، 573. صحيح مسلم: 1/ 287، 2/ 322، 540، 556. 3/ 76، 3/ 509، 4/ 540، 5/ 83، 6/ 46، 7/ 237، 286، 288، 330، 392، 8/ 169، 381، 488، 505، 576، 9/ 183. الصراع بين الإسلام والوثنية للقصيمي: 1/ 402. 4/ 41. 6/ 96. 8/ 266، 611. صور مقتبسة من القرآن لمحمد دروزة: 1/ 141. - ط- طبقات ابن سعد: 1/ 554، 555، 556، 2/ 36، 37، 172، 179، 380، 3/ 410، 411، 5/ 134، 172،

- ع -

238، 6/ 24، 27، 36، 57، 166، 167، 265، 334، 341، 384، 385، 7/ 16، 40، 76، 78، 94، 105، 107، 109، 118، 164، 224، 235، 265، 267، 271، 272، 284، 302، 305، 307، 342، 348، 352، 361، 367، 368، 388، 405، 8/ 72، 141، 181، 184، 352، 385، 433، 462، 576، 578، 582، 583، 594، 596، 600، 602، 613، 9/ 44، 71، 78، 157، 277، 278، 304، 305، 347، 350، 354، 377، 378، 384، 391، 396، 400، 401، 402، 411، 412، 415، 430، 540، 564، 577، 582، 591. طبقات الأمم لابن صاعد: 6/ 24. الطراز على ضبط الخراز للإمام التنيسي: 1/ 14. - ع- العجائب والغرائب للكرماني: 1/ 241. عصر النبي وبيئته قبل البعثة لمحمد دروزة: 1/ 5، 34، 87، 106، 141، 147، 179، 277، 278، 399، 400، 423، 428، 452، 472، 494، 556. 2/ 105، 170، 171، 260، 376. 3/ 134، 137، 500. 4/ 184، 204. العقائد الوثنية في الديانة النصرانية لطاهر التنير: 3/ 153، 8/ 292. العقد الثمين لأحمد كمال: 3/ 318. العقد الفريد لابن عبد ربّه: 1/ 86. - ف- فتح مصر: 3/ 154. فتوح البلدان للبلاذري: 5/ 238، 6/ 24، 167، 8/ 602، 9/ 396، 402، 409، 415. الفتوحات المكية للشيخ محي الدين بن عربي: 1/ 547. الفرقان لابن الخطيب: 1/ 95، 139. فصوص الحكم للشيخ محيي الدين بن عربي: 1/ 547. فضائل القرآن لابن كثير: 1/ 132، 4/ 323. فضائل القراء: 1/ 83. الفهرست لابن النديم: 1/ 9. فهم السنن: 1/ 84. في الأدب الجاهلي لطه حسين: 5/ 240. - ق- قانون التاريخ لجوفيه كستلو: 4/ 510، 511. القرآن المجيد لمحمد دروزة: 1/ 6، 8،

- ك -

2/ 66، 80، 124، 132، 196، 516، 3/ 258، 262، 430، 4/ 38، 40. القرآن والكتاب للأب حداد: 8/ 278. القرآن والمبشرون لمحمد دروزة: 9/ 82. القرآن واليهود لمحمد دروزة: 2/ 36، 441. قصص الأنبياء للشيخ عبد الوهاب النجار: 1/ 11. قواعد التحديث للقاسمي: 1/ 287، 293، 5/ 142، 143. - ك- كتاب القرآن لمحمد صبيح: 1/ 74. الكتاب المقدس: 1/ 379. الكشاف للزمخشري: 1/ 104، 135، 138، 175، 203، 207، 214، 215، 220، 221، 234، 236، 259، 289، 293، 304، 309، 327، 360، 449، 456، 463، 500، 503، 504، 526، 533، 551، 557، 562، 2/ 12، 37، 42، 43، 80، 112، 125، 132، 160، 188، 189، 194، 201، 238، 241، 242، 208، 218، 293، 299، 300، 339، 348، 529، 550، 3/ 15، 17، 26، 38، 49، 50، 51، 70، 76، 86، 89، 90، 93، 3/ 147، 165، 168، 230، 238، 244، 257، 260، 269، 270، 281، 321، 324، 337، 338، 347، 390، 393، 394، 395، 404، 406، 410، 430، 472، 475، 495، 499، 525، 538، 540، 545، 554. 4/ 57، 59، 77، 80، 119، 124، 131، 138، 184، 190، 191، 216، 217، 224، 235، 247، 267، 275، 285، 301، 302، 304، 337، 343، 447، 461، 490، 497، 498، 506، 508، 518، 529، 539، 547، 548. 5/ 57، 69، 93، 158، 167، 177، 183، 191، 201، 218، 289، 292، 322، 324، 348، 354، 409، 469، 499، 524، 538. 6/ 9، 16، 18، 56، 60، 89، 94، 105، 118، 135، 213، 504. 7/ 9، 25، 28، 68، 105، 301، 302، 304، 307، 388، 401، 428. 8/ 19، 26، 33، 61، 79، 89، 137، 174، 206، 207، 278، 282، 298، 318، 327، 347، 359، 367، 371، 377، 385، 424، 432، 444، 455، 462، 471، 483، 487، 489،

- ل -

490، 501، 521، 532، 537، 539، 544، 559، 571، 576، 578، 587، 588، 591، 595، 596، 599. 9/ 20، 21، 43، 46، 61، 105، 242، 269، 271، 283، 303، 328، 338، 340، 420، 438، 513. - ل- لسان العرب لابن منظور: 2/ 345، 3/ 164، 471، 499، 5/ 538، 6/ 26. - م- مبادئ الفقه الإسلامي في العبادات لمحمد سعيد الوفي: 7/ 341. مجتبى النسائي: 1/ 287. مجلة الأحكام الشرعية: 6/ 499. مجلة المعرفة: 8/ 273. مجلة الوعي الإسلامي: 7/ 194، 195. مجمع البيان في تفسير القرآن للطبرسي: 1/ 125، 203، 293، 304، 360، 368، 372، 373، 426، 456، 464، 496، 500، 504، 509، 526، 533، 551، 557، 562. 2/ 12، 16، 20، 26، 37، 42، 47، 52، 81، 83، 105، 108، 113، 122، 124، 125، 144، 160، 186، 188، 189، 194، 195، 197، 201، 220، 235، 241، 242، 248، 255، 272، 273، 274، 293، 299، 300، 325، 326، 330، 376، 440، 562. 3/ 15، 17، 22، 26، 38، 44، 46، 50، 51، 60، 70، 76، 82، 89، 90، 93، 97، 104، 105، 125، 147، 153، 165، 168، 187، 238، 244، 260، 269، 270، 281، 321، 324، 330، 335، 337، 347، 390، 393، 396، 410، 430، 454، 466، 472، 475، 495، 499، 511، 515، 522، 525، 538، 543، 545. 4/ 8، 53، 54، 57، 59، 66، 71، 77، 79، 80، 112، 124، 129، 131، 134، 138، 144، 145، 152، 153، 164، 190، 191، 194، 203، 216، 217، 235، 236، 247، 254، 260، 261، 267، 272، 275، 285، 301، 311، 329، 350، 358، 366، 375، 396، 447، 457، 459، 472، 487، 490، 498، 502، 508، 518. 5/ 13، 16، 31، 32، 43، 57، 69، 93، 134، 158، 167، 177، 186،

191، 205، 243، 265، 280، 289، 292، 322، 341، 353، 383، 499، 508، 516، 521، 538، 553. 6/ 9، 11، 18، 25، 45، 56، 89، 94، 95، 103، 105، 108، 118، 134، 147، 160، 162، 195، 205، 213، 217، 226، 247، 253، 254، 269، 270، 276، 280، 288، 304، 333، 369، 371، 374، 377، 383، 388، 393، 403، 454، 471، 473. 7/ 9، 25، 28، 29، 30، 68، 98، 103، 105، 109، 115، 123، 137، 146، 148، 156، 166، 170، 178، 183، 187، 191، 199، 219، 231، 245، 251، 255، 267، 270، 280، 286، 292، 296، 298، 302، 304، 323، 347، 351، 354، 355، 361، 367، 374، 380، 381، 386، 388، 403، 405، 409، 412، 415، 416، 418، 428. 8/ 15، 19، 23، 26، 33، 37، 50، 61، 62، 63، 71، 73، 79، 82، 88، 89، 94، 187، 194، 197، 199، 200، 201، 206، 207، 210، 216، 217، 227، 235، 241، 272، 282، 303، 304، 533، 539، 541، 544، 552، 553، 555، 557، 559، 576، 578، 587، 588، 593، 595، 596، 597، 600، 606، 607. 9/ 19، 38، 43، 46، 61، 91، 96، 102، 105، 118، 160، 163، 168، 175، 200، 210، 235، 246، 252، 269، 271، 274، 283، 284، 296، 303، 305، 317، 328، 338، 340، 341، 344، 403، 410، 420، 433، 438، 454، 468، 501، 504، 513، 517، 533، 547، 558. مجمع التبيان للطوسي: 1/ 80، 94، 203، 238. مجمع الزوائد: 1/ 337، 444، 497. 4/ 253، 338، 457. 5/ 139، 141، 442. 6/ 113، 352، 489، 498. 7/ 161، 341، 342، 343. 8/ 58، 81، 129، 131، 209، 237، 424. 9/ 471. مختصر تاريخ العرب لفيليب حتي: 3/ 153. مختصر التحفة الاثني عشرية للآلوسي: 4/ 41، 211، 369. مروج الذهب للمسعودي: 9/ 377. مستدرك الحاكم: 1/ 288. 2/ 467.

- ن -

6/ 257، 285. 7/ 201. 8/ 8. مسند الإمام أحمد: 1/ 83، 2/ 542. المسند الصحيح الحسن للخطيب بن مرزوق: 6/ 128. مسند الطبراني: 2/ 161. مشارق الأنوار للحمزاوي: 7/ 160، 161. مصحف ابن مسعود: 1/ 12، 70. مصحف أبي بكر: 1/ 98، 117، 121، 122. 2/ 515. 7/ 355. مصحف أبيّ بن كعب: 1/ 12، 70. 7/ 355. المصحف الإمام: 1/ 98. مصحف الحجاج: 1/ 93، 95. مصحف عثمان: 1/ 85، 93، 94، 96، 117، 121، 122، 123، 124، 128، 129، 130، 132، 134، 138، 139. 2/ 516. 4/ 38. 7/ 346، 355. 9/ 339. مصحف علي بن أبي طالب: 1/ 11، 98. مصحف فاطمة: 1/ 311. مصحف قدور أوغلي: 1/ 114، 125، 128. مصر القديمة للدكتور مسلم حسن: 3/ 318. مصرع التصوف لعبد الرحمن الوكيل: 7/ 26. مصرع التصوف للعلامة برهان الدين البقاعي: 1/ 548. معجم البلدان لياقوت: 9/ 332. مفاتيح الغيب للرازي: 1/ 249، 256. المقاصد الحسنة للسخاوي: 1/ 414. ملحق جريدة النهار البيروتية: 2/ 511. منهاج السنة لابن تيمية: 4/ 41. 6/ 275. المواهب اللدنية للزرقاني: 7/ 160، 161. مورد الظمآن للخراز: 1/ 14. الموطأ للإمام مالك: 1/ 74، 75، 97، 245، 287. 2/ 37، 38. 3/ 238. 6/ 314، 334، 386، 387، 401، 448. 7/ 342. 8/ 68، 69، 70، 83، 93، 127، 296، 362، 377، 378، 397. 9/ 124، 286، 404، 413، 466. - ن- ناظمة الزهر للإمام الشاطبي: 1/ 14. النسخ في القرآن للدكتور مصطفى أبي زيد: 5/ 179، 181، 183. نظم القرآن ودستوره في شؤون الحياة لمحمد دروزة: 1/ 141، 278. نقد الفكر الديني لصادق العظم: 3/ 371. نيل الأوطار للشوكاني: 6/ 399. 7/ 94. 8/ 84. - والوافي: 1/ 402.

فهارس المحتويات

[فهارس المحتويات] فهرس محتويات الجزء الأول تفسير سورة الفاتحة 285 حكم البسملة 288 خطورة شأن الفاتحة 290 تعليق على موضوع الأحاديث القدسية 292 تعليق على كلمة (الله) جلّ جلاله 293 تعليق على مدى جملة رَبِّ الْعالَمِينَ 295 تعليق على الحياة الأخروية 296 تعليق على جملة الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ 304 بعض الأحاديث في جملة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ 308 التأمين بعد الآية الأخيرة من السورة 308 تعليق على تفسير شيعي باطني لكلمة الصراط 309 تفسير سورة العلق 315 أول قرآن نزل على النبي صلّى الله عليه وسلم 316 مغزى التنويه بالقراءة والكتابة والعلم 317 علنية الدعوة في بدئها 322 موقف الزعامة من النبي 323 تعليق على ما في الآيات كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى ... من تلقين 326 تعليق على كلمة الصلاة 327

تعليق على آية أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى 345 تعليق على كلمة التقوى 346 تعليق على مدى جملة كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ ... 349 تعليق على سنة سجود التلاوة 350 تعليق على الأحاديث في فضل قراءة السورة القرآنية 351 تفسير سورة القلم 353 استطراد إلى ما عرف في كتب التفسير بالإسرائيليات 356 تنبيه في صدد الأحاديث التي تروى بدون سند صحيح 358 تعليق على الحروف المتقطعة في أوائل السور 359 تعليق على ما ورد من أحاديث عن مدى القلم 362 تعليق على الأقسام القرآنية 363 تعليق على وقت نزول الآيات الأولى من هذه السورة 364 أخلاق النبي صلّى الله عليه وسلم 365 شرح الآيات [5- 16] من سورة القلم 367 تعليق على موقف المناوأة للدعوة النبوية 369 تعليق ثان على موقف المناوأة للدعوة النبوية 371 تعليق على مفاوضات وعروض زعماء قريش للنبي 372 تعليق على جملة أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ 375 تعليق على قصة البستان وهدفها 377 تعليق على روايات الآيات المدنية في السور المكية 379 تعليق على الجنات الأخروية 382 تعليق على كلمة المسلمين 385 تعليق على آيتي سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ ... 387 نفي طمع النبي في أجر على رسالته 389 أهداف القصص القرآنية 391 تعليق على نعت الكفار النبي بالجنون 398 تعليق على نعت المستشرقين والمبشرين النبي بالجنون 401 تعليق على جملة وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ 403

تفسير سورة المزمل 405 تعليق على كلمة القرآن 409 تعليق على تعبير وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا 410 تعليق على هجر الزعماء والأغنياء وسرّية الدعوة 413 تعليق على رواية نسخ حكم الآية وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ... 415 تعليق على تبدل نواميس الكون عند قيام الساعة 416 تعليق على النار الأخروية 417 تعليق على قصة موسى وفرعون 422 بيان مهمة الرسول 423 تعليق على السماء وانفطارها يوم القيامة 424 تعليق على مدى كلمة الكفر في القرآن 425 تعليق على الآية إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ.. 426 تعليق على كلمة الزكاة 427 تعليق على تعبير وَأَقْرِضُوا اللَّهَ.. 434 تعليق على تعليم الاستغفار 434 تعليق على تعبير سبيل الله 436 تفسير سورة المدثر 440 تعليق على النقر في الناقور 445 تعليق على موضوع السحر 451 تعليق على موضوع زيادة الإيمان ونقصه 455 تعليق على جملة كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ.. 458 تعليق على عبارة فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ 463 تعليق على موضوع الملائكة 464 تعليق على أَهْلِ الْكِتابِ 470 تعليق على عناية القرآن بالمسكين 477 تعليق على تعبير أَصْحابُ الْيَمِينِ.. 479 هدف المحاورات الأخروية بين الناجين والخاسرين 480 تعليق على تعبير كُلُّ نَفْسٍ.. 480

تعليق على عقيدة الشفاعة والشرك 481 تعليق على تعبير وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا.. 487 تعليق على تحدي الكفار للنبي 489 تعليق على مدى كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ.. 493 تعليق على مدى بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ.. 494 تفسير سورة المسد 495 تفسير سورة التكوير 499 تعليق على جملة وَإِذَا الصُّحُفُ.. 501 تعليق على العرش 505 تعليق على كلمة الشيطان 509 تفسير سورة الأعلى 511 تنبيه على ما أسبغه القرآن والسنّة على التسبيح 512 التلقين المنطوي في الآيتين سَيَذَّكَّرُ مَنْ.. 514 تعليق على جملة سَنُقْرِئُكَ فَلا.. 515 تعليق على وصف الْأَعْلَى 516 القرآن لا يحظر الاستمتاع بالطيبات 518 تعليق على ذكر إبراهيم وموسى عليهما السلام 519 دلائل أولية سورة الأعلى وصفتها 524 تفسير سورة الليل 525 تعليق على جملة وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى 527 تفسير سورة الفجر 531 تعليق على قصص الأقوام المذكورة في السورة 534 تعليق على ما أولاه القرآن من العناية باليتيم 541 تفسير الشيخ محيي الدين بن عربي للآية الأخيرة 546 تفسير سورة الضحى 549 تعليق على روايات فتور الوحي عن النبي 550 صورة من صميمية النبي صلّى الله عليه وسلم 553 نشأة النبي صلّى الله عليه وسلم منذ طفولته إلى نبوته 554

تفسير سورة الشرح 558 تفسير سورة العصر 561 تعليق على تعبير الصَّالِحاتِ 562 تعليق على التواصي بالحق والتواصي بالصبر 563 مدى التنويه القرآني بالصبر 564 مغزى تلازم الإيمان والعمل الصالح 568

فهرس محتويات الجزء الثاني

فهرس محتويات الجزء الثاني تفسير سورة العاديات 7 مغزى القسم القرآني بالخيل 9 تعليق على مدنية السورة 9 تفسير سورة الكوثر 11 تفسير سورة التكاثر 15 تفسير سورة الماعون 18 مدى وتلقينات آيات السورة 21 تفسير سورة الكافرون 25 مبدأ حرية التدين في النظام الإسلامي 27 تفسير سورة الفيل 41 تفسير سورة الفلق 45 طائفة من الآيات والأحاديث في الاستعاذة 48 تعليق على ما روي في صدد نزول السورة 51 تفسير سورة الناس 59 تعليق على موضوع الجن 62 تفسير سورة الإخلاص 68 تعليق على مدى تقرير وحدة الله في هذه السورة 71 تفسير سورة النجم 74 تعليق على مدى متناول آيات وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى والعصمة النبوية 78

تعليق على روايات الإسراء والمعراج 81 تعليق على ما ورد في كتب التفسير من مسألة رؤية النبي ربّه عز وجل 97 شرح عقائد العرب في اللاة والعزى ومناة والملائكة وتعليقات في صدد ذلك 100 تعليق على تعبير الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ 106 تعليق على مبدأ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ومبدأ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى 113 تفسير سورة عبس 121 مدى العتاب الرباني للنبي صلّى الله عليه وسلم 122 تفسير سورة القدر 129 تعليق على ما روي في صدد نزول السورة 130 تعليق على روايات نزول القرآن جملة واحدة 132 تعليق على ليلة القدر 133 تعليق على كلمة الروح 136 تفسير سورة الشمس 138 تعليق على جملة وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها 140 تعليق على جملة فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها 140 تعليق على ناقة ثمود 141 تفسير سورة البروج 143 تعليق على ذكر البروج 145 تعليق على محنة فتنة المسلمين الأولين 147 المرأة المسلمة في هذه المحنة وفي دور الفتنة 150 تعليق على موضوع التوبة 151 تعليق على اللوح 160 تفسير سورة التين 163 تفسير سورة قريش 167 تعليق على قريش والبيت والرحلات التجارية 168 تفسير سورة القارعة 182

تعليق على الموازين وثقلها وخفتها في الآخرة 183 تلقينات السورة جملة 187 تفسير سورة القيامة 188 تعليق على محاولة ربط البنان بعلم بصمات الأصابع الحديث 190 تعليق على ما تفيده ظواهر الآيات من بعث الناس بأجسادهم 192 تعليق على دلالة آيات لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ وأخواتها 196 تعليق على موضوع رؤية الله عز وجل 198 تفسير سورة الهمزة 205 تفسير سورة المرسلات 207 تعليق على عبارة انفراج السماء وانطماس النجوم 210 تنبيه إلى أن الدعوة الإسلامية قائمة على الإقناع 213 تعليق على ما يمكن أن يتوهم من تناقض في حكاية حال الكفار يوم القيامة 214 تعليق على مدى التنويه بالمحسنين والإحسان 216 تفسير سورة ق 220 تعليق على ذكر القرآن والقسم به 221 تعليق على حكاية تعجب الكفار من مجيء رسول إليهم منهم وإنذاره بالآخرة 222 صورة من الأسلوب القرآني في مخاطبة العقل والقلب والحس في البرهنة على قدرة الله 225 تعليق توضيحي لأهل الرس والأيكة وتبّع 227 تعليق على موضوع الملائكة الكاتبين على أيمان الناس 231 تعليق على جملة وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ 233 ما في التنديد بمنع الخير من تلقين 237 تعليق على تعبير وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ 238 تنبيه إلى مدى عقيدة الشرك عند العرب 239 تعليق على ما حكته بعض الآيات من حوار بين الله وبين قرناء الإنسان 239 تعليق على ما روي عن مفسري الشيعة 240 وجوب تلازم الإيمان مع التقوى والعمل الصالح 241 تعليق على مدى جملة وَلَدَيْنا مَزِيدٌ 242

كثرة الآيات المتضمنة تطمينا للنبي عليه السلام وحكمتها 245 تعليق على موضوع خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام 246 تعليق على مدى العبارات القرآنية في تعيين أوقات الصلوات 250 تعليق على ما يمده ذكر الله وتسبيحه وعبادته للمؤمن من قوة معنوية تساعده على مواجهة الملمات 251 معنى توالي السور التي احتوت توكيد البعث والحساب 252 خبر عن تلاوة رسول الله هذه السورة 252 تفسير سورة البلد 253 تعليق على عبارة لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ 255 تعليق على جملة وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ 256 تعليق على جملة أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ 256 تلقينات آيات سورة البلد الأولى 257 التلازم بين العمل الصالح والإيمان أيضا 259 تعليق على موضوع الرقيق وموقف القرآن منه 259 تعليق على إعطاء الناس يوم القيامة كتب أعمالهم 264 تفسير سورة الطارق 267 تفسير سورة القمر 271 تعليق على انشقاق القمر 273 تعليق على موضوع اقتراب الساعة 277 تعليق على كلمة الحكمة ومعانيها في القرآن 278 تعليق توضيحي للأقوام الذين ذكروا في السلسلة القصصية 283 تعليق على الآية إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ 287 تفسير سورة ص 298 تعليق على مدى ما انطوى في جملة أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ 301 تعليق على سلسلة قصص الأنبياء وهدفها 305 تعليق على قصة الخصم الذي تقاضى أمام داود وتلقيناتها 307 تعليق على ما احتوته الآية يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ ... 309 تعليق على تسخير الجبال والطير ليسبحن مع داود 312

تلقينات آية وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا إلخ 313 تعليق على كلمة الكتاب 314 تعليق على آية كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ إلخ 315 تعليق على ما روي في سياق قصة سليمان 322 التلقينات المنطوية في قصة أيوب 325 تعليق على توسع بعض الفقهاء في تأويل تحلة اليمين التي يسرها الله لأيوب 326 تعريف بالأسماء المذكورة في الآيات 329 تعليق على عدم وصف إسماعيل واليسع وذي الكفل بوصف عبادنا وعدم قرن إسماعيل مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب 332 تعليق على جنات عدن 334 تعليق على ما في آيات قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وما بعدها من دلالة ومدى 339 استطراد إلى حديث نبوي مروي في سياق الآية ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ ... 340 تعليق على قصة آدم وسجود الملائكة له وتمرد إبليس وتلقيناتها 342 تعليق على تعبير وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي 354 تعليق على ما سجله الله تعالى في القرآن من كرامة بني آدم في هذه القصة 355 التلقين المنطوي في جملة وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ 359 تعليق على جملة وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ 359 تفسير سورة الأعراف 361 تعليق على قصة آدم وإبليس في هذه السورة 367 تعليق على التلقين القرآني بالشكر لله ومداه 369 تعليق على جملة إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ 371 تعليق على جملة إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ 373 تعليق على جملة وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً 376 تعليق على جملة فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ 377 تعليق على مسجد 378 تعليق على الآيات الثلاث يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ وما بعدها 384 أحاديث في ستر العورة 386 التلقين الذي انطوى في حكاية تلاوم الأجيال في جهنم 395

تعليق على مدى جملة لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ... 398 تعليق على الآية ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً ... 409 استطراد إلى موضوع الدعاء لله ومداه 409 تعليق على الآية إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ ... 412 تعليق على دلالة جملة وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ إلخ 415 استطراد إلى جريمة اللواط 424 تلقينات القصص وما فيها من نقاط بارزة متصلة بالهدف القرآني 426 تلقين الآيات التي جاءت معقبة على فصل القصص 430 تعليق على عبارة يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ 431 تعليق على كلمة نَبِيٍّ 433 تعليق على تعبير مَكْرَ اللَّهِ 434 تعليق على الحلقة الأولى من قصة موسى وفرعون وبني إسرائيل وتلقيناتها 437 تعليق على آية وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها إلخ 441 تعليق على جملة رَبُّ الْعالَمِينَ 443 تلقينات الحلقة الثانية من قصص «بني إسرائيل» 449 تعليق على جملة فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ 453 تعليق على جملة لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ ... 453 تعليق على الآيتين سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ ... 455 تعليق على عبارة إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ 457 تعليق على جملة قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ ... 458 تعليق على ذكر الزكاة في الآية [156] 460 تعليق على الآية الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ ... 460 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 470 تعليق على حلّ الطيبات وتحريم الخبائث 475 تعليق على كلمتي التوراة والإنجيل 476 تعليق على الألواح التي ذكرت في الآية [145] 497

تعليق على ما يرويه الشيعة في صدد جملة وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ 517 تعليق على رواية مدنية الآيات [163- 170] 520 تعليق على حادث السبت وتلقيناته 520 تعليق على ما في آية وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ من تلقين وإعجاز قرآني 523 تعليق على آية وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ إلخ 524 تعليق على الإسهاب في قصص بني إسرائيل 527 تعليق على جملة وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ 529 تعليق على آية وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها وتلقينها 534 تعليق على جملة وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها 537 تعليق على جملة مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ 539 تعليق على جملة الذين يلحدون في أسمائه 540 تعليق على القصص عن موعد القيامة وما في الجواب من دلالة بليغة 546 تعليق على آيات هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها إلخ وتلقيناتها 550 تلقين آيات خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وما بعدها 553 تعليق على مدى نزغات الشيطان في النبي والناس 555 تعليق على رواية نسخ آية خُذِ الْعَفْوَ 557 تعليق على جملة إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ 560 تلقين آية وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا 561 تلقين آية وَاذْكُرْ رَبَّكَ إلخ 564

فهرس محتويات الجزء الثالث

فهرس محتويات الجزء الثالث تفسير سورة الجن 7 شرح الفصل الأول من السورة والتعليق على مدى محتوياته 8 تعليق على مفهوم آيات الفصل ودلالته 17 تعليق على جملة لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا ... 19 تفسير سورة يس 20 تعليق على آيات إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ ... 23 تلقينات ودلالة مثل أصحاب القرية وآياته 27 تعليق على محاولة استنباط النظريات العلمية من الآيات 31 تعليق على تعبير ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ... 32 نموذج آخر للتفسيرات الصوفية 33 تعليق على حثّ القرآن على البرّ بالفقراء 34 تعليق على نسبة العرب الشعر والشاعرية للنبي 39 تفسير سورة الفرقان 47 تعليق على زعم الكفار بأن أناسا يعاونون النبي 50 تعليق على نسبة المتعصبين من الكتابيين 53 دلالة تعبيري اكْتَتَبَها وتُمْلى عَلَيْهِ 63 تعليق على تحدي الكفار باستنزال ملك لتأييد النبي 65 تعليق على ما يفرضه العرب من طبيعة للنبي تغاير طبيعة البشر 65 تعليق على تعبير انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ ... 66 تعليق على تعبير كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً ... 68

تعليق على تعبير مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ 71 تعليق على ما في القرآن من تكرار التنديد بالظالمين 71 تعليق على جملة وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً 76 تعليق على جملة جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ 80 تعليق على تحدي الكفار بإنزال القرآن جملة واحدة 82 تلقين الآيتين [43 و 44] وما بعدهما 86 تعليق على الأمر بالتوكل على الله 93 تعليق على اسم الرحمن 97 تعليق على روعة سلسلة عباد الرحمن وتلقيناتها 102 تعليق على تعبير لَوْلا دُعاؤُكُمْ 105 تفسير سورة فاطر 107 تعليق على الأمر بعدم الاغترار بالدنيا 110 تعليق على تعبير فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ... 111 تعليق على جملة وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ ... 114 تعليق على جملة وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ 118 تعليق على جملة إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ 121 تعليق على جملة أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا 125 تعليق على جملة فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ 129 تعليق على جملة إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً 131 تعليق على جملة وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ 132 سبب وقوف زعماء قريش موقف المعاداة 136 تعليق على ما حكاه القرآن من استعجال المشركين العذاب 138 حكمة الله المنطوية في جملة وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ ... 140 تفسير سورة مريم 141 تعليق على قصة ولادة عيسى وأهدافها 147 تعليق على جملة فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ 158 تعليق على سلسلة الأنبياء بعد قصتي يحيى وعيسى عليهما السلام 160 تعليق على مغزى التفصيل في قصة إبراهيم عليه السلام 162

تعليق على شخصية إدريس عليه السلام 163 تعليق على الآية فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ والآيات الثلاث 166 تعليق على آية وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ 168 تعليق على جملة وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها 173 تعليق على جملة وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ 177 تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ ... 181 تفسير سورة طه 186 تعليق على الآيات الأولى من سورة طه 187 تعليق على مدى السلسلة القصصية عن رسالة موسى عليه السلام إلى فرعون 190 تعليق على جملة وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي 193 تعليق على الحلقة الثانية من سلسلة قصص موسى عليه السلام 194 تعليق على أمر الله تعالى لموسى بملاينة الكلام مع فرعون 195 تعليق على الحلقة الثالثة من سلسلة قصص موسى وفرعون وبني إسرائيل 199 تعليق على الآيات المتضمنة حكاية بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر 202 تعليق على جملة وَهُوَ مُؤْمِنٌ 208 تعليق على جملة وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا 209 تعليق على الآية فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ... 209 تعليق على الجديد في قصة آدم وإبليس في هذه السورة 214 تعليق على مدى الآية التي تأمر بذكر الله وتسبيحه 216 تلقينات آية وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ... 219 تعليق على تحدي الكفار للنبي بالإتيان بآية 220 تفسير سورة الواقعة 225 تعليق على وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ... 228 تعليق على ما جاء في الآيات في وصف مجلس الشراب 229 تعليق على منازل أصحاب اليمين 231 تعليق على التنديد بالترف والمترفين 232 تعليق على تنوع أوصاف النعيم والعذاب في الآخرة 233 قرينة على صحة نزول هذه السورة بعد سورة طه 233

تعليق على آيات إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ... 237 تفسير سورة الشعراء 241 تعليقات على الآيات التسع الأولى من السورة 242 تعليق على كلمة مُحْدَثٍ في الآيات 244 تعليق على قصة موسى وفرعون في السورة 247 تعليق على قصة إبراهيم وأبيه وقومه في السورة 250 تعليق على قصة نوح 252 تعليق على قصة هود 254 تعليق على قصة صالح 255 تعليق على قصة لوط 256 تعليق على قصة شعيب 257 تعليق عام على القصص 258 تعليق على آيات وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ ... 259 تعليق على استعجال الكفار عذاب الله 265 تعليق على كلمة الأعجمي والأعجمين 265 تعليق على آيتي وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ ... 266 تعليق على آيات وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ ... 267 تعليق على آية وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ 270 بناء الأخوة الدينية في الإسلام 271 ما في معالنة النبي لأقاربه بالبراءة 273 تلقين جملة وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ ... 273 تعليق على آيات هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ ... 275 تعليق على آية وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ 276 تعليق على استثناء المؤمنين من ذم الشعراء 276 دلالة الآيات الأربع الأخيرة من السورة 278 تفسير سورة النمل 279 تعليق على اجتماع كلمتي القرآن والكتاب في آية واحدة 280 تعليق على جملة زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ 281

تعليق عام على آيات السورة الأولى 282 تعليق على قصة موسى وفرعون في السورة 284 مغزى وصف الله نفسه بربّ العالمين 286 تعليق على قصة داود وسليمان وملكة سبأ 288 هدف الحلقة ومواضع العبرة فيها 290 تعريف سبأ 291 تعليق على قصتي صالح ولوط مع قومهما 292 تعليق على الآيات التي جاءت بعد سلسلة القصص 294 تعليق على آية إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ ... 298 تعليق على الدابة المذكورة في الآية [82] 301 تعليق على مدى الآية وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ ... 303 تعليق على جملة الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها 307 تفسير سورة القصص 308 تعليق على الفصل الأول من قصة موسى وفرعون 313 تعليق على الفصل الثاني من قصة موسى وفرعون 318 تعليق على آيات وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ 320 تعليق على جملة إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ 322 تعليق على آية الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ ... 324 مشهد يسجل أثر الدعوة المحمدية والقرآن في أهل الكتاب 326 تعليق على آية إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ... 327 تعليق على آية وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى ... 330 تعليق على الآية وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ ... 334 تعليق على جملة وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ... 338 تعليق على قصة قارون 342 تعليقات على الآيات الأخيرة الأربع من سورة القصص 346 دلالة قرآنية 349 تفسير سورة الإسراء 351 تعليق على تعبيري المسجد الحرام والمسجد الأقصى 356

تعليق على أحداث بني إسرائيل في أول السورة 358 تعليق على تكرر التنويه بالقرآن في هذه السورة 363 تعليق على مدى الآية مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ... 366 مذهب السلف الصالح في فهم القرآن 368 تعليق على آية وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً ... 370 تعليق على مجموعة الوصايا الربانية في السورة 375 تعليق على الآية إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ ... 376 صور من تقاليد العرب وعاداتهم 377 تنويه بما احتوته الآيات من تلقينات هامة 378 تعليق على صرف جملة وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ 383 تعليق على تحديد عدد السموات بسبع 387 تعليق على آية وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا ... 393 تعليق في صدد تفضيل الأنبياء 397 تعليق على الآية وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها ... 400 تعليق على الآية وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ ... 402 تعليق على آية وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ ... 407 تعليق على الآية وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ... 410 تعليق على الآية وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ ... 415 تعليق على الآية أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ... 419 تعليق على جملة وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ ... 423 تعليق على إعجاز القرآن وعجز الناس عنه 429 تعليق على الآية وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ 438 تفسير سورة يونس 442 تعليق على قول الكفار ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا ... 451 مدى عقيدة الشرك عند العرب ومدى عقيدة التوحيد الإسلامية 453 تعليق على جملة وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً ... 454 تعليق على جملة يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ... 466 تعليق على جملة كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ... 466

تعليق على الآية وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى ... 468 تعليق على جملة صَبَّارٍ شَكُورٍ 469 تعليق على كلمة (سورة) 470 تعليق على آية وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ ... 471 تعليق على جملة وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ 476 تعليق على الآية أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ... 483 تعليق على قصة نوح عليه السلام 487 تعليق على آيات قصة موسى وفرعون وبني إسرائيل 490 تعليق على الآية فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا ... 493 تعليق على الآية وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ ... 497 تعليق على كلمة (الحنيف) 499 تفسير سورة هود 501 قوة استهلال السورة 502 تعليق على ما يبدو من كلام النبي المباشر للناس 503 تعليق على جملة وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ 506 تعليق على جملة لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا 507 تعليق على الآية فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى ... 511 دلالة تكرار تحدي الكفار بالقرآن 512 تعليق على آية مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا ... 513 تعليق على قصة نوح عليه السلام 521 تعليق على آية تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ ... 522 مواضع العبرة في قصة نوح عليه السلام 524 تعليق على آية أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ 525 تعليق على قصة هود عليه السلام 527 تعليق على قصة صالح عليه السلام 528 تعليق على قصة إبراهيم عليه السلام 530 تعليق على قصة لوط عليه السلام 532 تعليق على قصة شعيب عليه السلام 534

تعليق على قصة موسى عليه السلام 535 تعليق على جملة وَهِيَ ظالِمَةٌ 536 تعليق على جملة خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ 538 تعليق على جملة فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ 539 تعليق على جملة لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ 540 تعليق على آية فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ... 542 تعليق على الآية وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ... 543 تعليق على آية فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ ... 545 تعليق على جملة وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا 546 تعليق على آية وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ ... 548 تعليق على آية وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى ... 553 تعليق على الآية وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً 554

فهرس محتويات الجزء الرابع

فهرس محتويات الجزء الرابع تفسير سورة يوسف 7 تعليق على ما روي من أسباب نزول الآيات 8 تعليق على مقدمة قصة يوسف 11 تعليق على الحلقة الأولى من قصة يوسف 13 تعليق على الحلقة الثانية من قصة يوسف 17 تعليق على الحلقة الثالثة من قصة يوسف 20 تعليق على الحلقة الرابعة من قصة يوسف 26 تعليق على الآيات التي أعقبت قصة يوسف 28 استطراد إلى ما يفعله بعض المسلمين من أفعال فيها سمة من سمات الشرك 29 توضيح لمدى سبيل الله وواجب المسلمين عامة 30 تفسير سورة الحجر 34 تعليق على ما في آية إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ... من معجزة 37 تعليق على مدى الآية كَذلِكَ نَسْلُكُهُ ... 42 تعليق على آية وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ ... 46 تعليق على أبواب جهنم السبعة 48 تعليق على مدى جملة بِما أَغْوَيْتَنِي 49 تعليق على جملة وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً ... 57 تعليق على آية لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ... 58 تفسير سورة الأنعام 63 تعليق على كلمة قرطاس 66

تعليق على طلب الكفار استنزال الملائكة وردّ القرآن 68 تعليق على الآية قُلْ أَيُّ شَيْءٍ ... 73 تعليق على جملة الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ ... 75 تعليق على جملة وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً ... 79 تعليق على جملة وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا ... 83 تعليق على جملة فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ... 84 تعليق على آية وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ ... 86 تعليق على جملة مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ ... 89 تعليق على آية قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي ... 94 تعليق على الآية وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ ... 96 تعليق على الآية وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ ... 101 بعض الأحاديث الواردة في قُلْ هُوَ الْقادِرُ ... 105 تعليق على آية وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ ... 109 تعليق على جملة وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ بالنسبة للنبي 111 تعليق على الآية قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ ... 114 تعليق على وصف إبراهيم عليه السلام بالحنيف 119 تعليق على الآية وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ 121 تعليق على جملة وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى ... 123 تعليق على جملة وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى ... 124 تعليق على الآية وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ ... 130 تعليق على جملة لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ... 131 تعليق على جملة وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ ... 134 تعليق على جملة كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ ... 135 تعليق على آية وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ ... 136 تعليق على الآية وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ ... 139 تعليق على الآية أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي ... 141 تعليق على آية فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ 143 تعليق على جملة إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ 147

تعليق على جملة وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ ... 148 تعليق على الآية وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ ... 150 تعليق على آية وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ ... 153 تعليق على جملة فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ ... 156 تعليق على الآية وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ... 158 تعليق على تقاليد المشركين في الأنعام والحرث وقتل الأولاد 163 تعليق على الآية وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ ... 167 تعليق على الآية فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى ... 171 تعليق على الآية قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ ... 171 تعليق على آية وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ... 177 تعليق على الآية سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ... 182 تعليق على جملة قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ ... 184 تعليق على آية قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ ... 185 تعليق على جملة لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها 188 تعليق على الآية ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ... 190 تعليق على موضوع ترجمة الكتب السماوية ... 192 تعليق على جملة يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ ... 195 تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا ... 197 تعليق على الآية مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ ... 201 تعليق على آية قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي ... 204 تعليق على جملة وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ ... 205 تفسير سورة الصافات 207 تعليق على قصة إبراهيم عليه السلام ومسألة الذبح 220 تعليق على جملة وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ 224 تعليق على ما وصف بكذبات إبراهيم عليه السلام 225 تعليق على قصة إلياس عليه السلام 227 تعليق على اسم بعل 228 تعليق على قصة لوط عليه السلام 229

تعليق على قصة يونس عليه السلام 230 تعليق على انصباب التنديد بالمشركين 233 تعليق على جملة وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ ... 235 تعليق على آية وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ ... 236 تفسير سورة لقمان 240 تعليق على الآية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ ... 243 تعليق على وصف الجبال والسماء 244 تعليق على شخصية لقمان وما في مواعظه من تلقين 247 تعليق على حدود واجب الأولاد إزاء الآباء 250 تعليق على وصف الشرك بالظلم العظيم 252 تعليق على اختصاص الأم بالذكر 252 تعليق على الجملة القرآنية على التمسك بتقاليد الآباء 254 تعليق على جملة أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ ... 255 تعليق على رواية مدنية الآيات [27- 28- 29] 259 تعليق على آية إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ 263 تفسير سورة سبأ 264 تعليق على جملة وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ... 266 تعليق على قصة داود وسليمان في السورة 271 تعليق على قصة سبأ وسيل العرم 275 تعليق على المحاورة بين الضعفاء والمستكبرين 284 تعليق على جملة لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ ... 284 تعليق على جملة نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً ... 288 أحاديث واردة في سياق الآية وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ ... 288 تعليق على جملة إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ ... 293 تفسير سورة الزمر 297 تعليق على جملة إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ ... 299 تعليق على جملة خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ 301 تعليق على جملة إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ ... 302

تعليق على جملة قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ ... 305 تعليق على أمر الله للنبي في السورة بعبادة الله وحده 307 تعليق على إلهام جملة وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ بالهجرة 307 التلقين المنطوي في الآية قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا ... 309 تعليق على جملة قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ... ونزوله على سبعة أحرف 318 تعليق على الآية ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ ... 324 تعليق على جملة فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ 335 تعليق على آية يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ... 337 تعليق على جملة وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ ... 341 تعليق على الآية وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ 344 تفسير سورة غافر 350 تعليق على جملة ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا 352 تعليق على ما جاء عن الملائكة في هذه الآيات 353 تعليق على جملة وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ ... 356 تعليق على جملة أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ 358 تعليق على جملة وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ 360 تعليق على آية فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ ... 360 تعليق على قصة موسى وفرعون ومؤمن آل فرعون ... 365 استطراد إلى مذهب التقية بصورة عامة وعند الشيعيين خاصة 368 تعليق على ذكر عاد وثمود ورسالة يوسف في الآيات 370 تعليق على جملة النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا ... 372 تعليق على جملة إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا ... 377 تعليق على جملة وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ 377 تعليق على موضوع الدجال ونزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان 380 تعليق على جملة كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ 395 تعليق على روايات عدد الأنبياء 396 تفسير سورة فصّلت 404 تعليق على خلق السموات والأرض الوارد في السورة 408

تعليق على التباين في المشاهد الأخروية 412 تعليق على الآية وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ 413 تعليق على آية إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ... 417 تعليق على آية وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ... 419 تعليق على رواية عجيبة في صدد نزول الآية [35] 422 تعليق على عبادة الشمس والقمر عند العرب 424 تعليق على جملة وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا ... 428 تعليق على جملة لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ... 429 تفسير سورة الشورى 435 رواية عجيبة عن سرّ حم عسق 437 تعليق على حديث مروي في صدد الفقرة فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ ... 439 تعليق على جملة لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ 441 تعليق على آية شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ ... 443 تعليق على جملة وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ ... 446 تعليق على آية فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ... 447 تعليق على آية وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ... 452 تعليق على جملة قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ... 457 تعليق على آية وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ ... 465 تعليق على آية وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ 466 تعليق على الآية وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ ... 468 تعليق على آيات وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ ... 473 تعليق على آية وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ ... 483 تفسير سورة الزخرف 488 تعليق على آية أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ ... 489 تعليق على جملة أُمِّ الْكِتابِ 490 تعليق على تكرار توكيد عروبة القرآن 490 تعليق على ما احتوته الآيات [16- 18] من وصف الإناث 494 تعليق على آية وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ... 496

تعليق على آية وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ ... 499 تعليق على آية وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ ... 501 تعليق على جملة وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ ... 502 تعليق على جملة وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ ... 506 تعليق على آية وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَلَسَوْفَ ... 508 تعليق على آية وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ ... 515 تعليق على جملة ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا ... 516 تعليق على تأويل الشيعة للآية فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ ... 518 تعليق على خبر نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان 519 تعليق على رسالة عيسى عليه السلام لقومه وشخصيته وأقواله 521 تعليق على صحاف الذهب وأكواب الذهب 524 تعليق على اسم مالك خازن النار واستطراد إلى الملائكة 526 تعليق على جملة فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ 532 تفسير سورة الدخان 534 تعليق على آية إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ 536 تعليق على آية فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ ... 539 تعليق على توالي الإنذار بانتقام الله 543 تعليق على تعبير وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ 544 تعليق على آية وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ ... 547 تعليق على جملة فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ 548 تعليق على آية فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 552 تعليق على السندس والإستبرق 556 تفسير سورة الجاثية 557 تعليق على آية قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا ... 561 تعليق على آية أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ... 566

فهرس محتويات الجزء الخامس

فهرس محتويات الجزء الخامس تفسير سورة الأحقاف 7 تعليق على آية وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ ... 16 تعليق على جملة أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي ... 17 تعليق على جملة إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ ... 20 تعليق على آية وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً ... 24 تفسير سورة الذاريات 33 تعليق على وصف المتقين 37 تعليق على آية فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ ... 43 تفسير سورة الغاشية 45 تعليق على ما روي في إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ... 48 تفسير سورة الكهف 50 تعليقات على آيات قصة أصحاب الكهف 57 تعليق على الآية وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ... 62 تعليق على الآية وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ ... 64 تعليق على مثل الرجلين اللذين كان لأحدهما جنتان 69 تعليق على آية وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ ... 71 تعليق على وصف إبليس أنه من الجن 75 تعليق على قصة موسى والعبد الصالح 83 تعليق على قصة ذي القرنين ويأجوج ومأجوج 91 تفسير سورة النحل 115

تعليق على اختصاص آيات الأنعام بالأكل 122 تعليق على جملة وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ ... 138 تعليق على قول المشركين أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى 151 تعليق على جملة تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً 153 تعليق على جملة يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ ... 155 تعليق على جملة وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ ... 158 أرذل العمر 158 تعليق على جملة وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ 166 تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ... 167 شرح الآية وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ... 170 تعليق على آيات فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ ... 175 مسألة النسخ في القرآن 177 تعليق على آية وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ... 183 تعليق على جملة رُوحُ الْقُدُسِ ... 184 تعليق على الأمر بالاستعاذة من الشيطان 184 تعليق على آية مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ ... 186 تعلقينات الآية مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ ... 189 تعليق على جملة وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ 192 تلقين آية وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً ... 195 التلقين الذي احتوته جملة وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ... 197 تعليق على آية ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ ... 202 تعليق على آية وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا ... 204 تفسير سورة نوح 207 تعليق على أسماء معبودات قوم نوح 211 تفسير سورة إبراهيم 213 دلالة جملة لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ ... 214 تعليق على جملة وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ ... 216 تعليق على جملة وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ ... 222

تعليق على آية يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ... 232 تعليق على آية وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ ... 240 تفسير سورة الأنبياء 253 تعليق على جملة لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ ... 262 تعليق على قصة إبراهيم مع قومه في هذه السورة 276 تعليق على قصة داود وسليمان في هذه السورة 279 تعليق على قصة مريم 285 تعليق على جملة أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ ... 295 تأويل الشيعة للجملة السابقة وموضوع المهدي 297 تفسير سورة المؤمنون 300 تعليق على الأمانة وخطورتها 304 تعليق على استفراش ملك اليمين 306 تعليق على آية وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ ... 308 تعليق على تخصيص طور سيناء بشجرة الزيتون 311 تعليق على محتويات الآيات 325 تفسير سورة السجدة 340 تعليق على الآية لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ ... 341 تعليق على آية يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ... 344 تعليق على ملك الموت 345 تعليق على آية وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ ... 348 تعليقات على آية إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ ... 349 تعليق على الآية وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ ... 355 تفسير سورة الطور 359 تعليق على آية وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ ... 363 تعليق على كلمة كاهن 366 تفسير سورة الملك 373 تعليق على آية هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا ... 379 تفسير سورة الحاقة 384

تعليق على الحضّ على طعام المسكين 389 تفسير سورة المعارج 392 تعليق على رواية شيعية في سبب نزول هذه الآيات 393 تعليق على جملة تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ ... 394 تعليق على اختصاص جمع المال وكنزه 397 تعليق على الآيات إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً ... 398 تعليق على الآية وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ ... 400 تفسير سورة النبأ 404 تفسير سورة النازعات 410 تفسير سورة الانفطار 419 تفسير سورة الانشقاق 423 تعليق على ما يلهمه أسلوب ومضامين السورة 427 تفسير سورة الروم 428 تعليق على خبر انكسار الروم 429 تعليق على قدرة الله ونواميسه في الكون 439 تعليق على آية وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ ... 440 تعليق على آية فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ... 448 تعليق على آية مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ ... 450 تعليق على جملة وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا ... 453 تعليق على الآية ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ... 455 تعليق على جملة كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ 457 تعليق على سماع الموتى لخطاب الأحياء 460 تعليق على آية فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ... 464 تفسير سورة العنكبوت 465 تعليق على الآيات [1- 7] من السورة 467 تعليق على آية وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ ... 470 تعليق على آية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ 471 تعليق على آية وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها ... 482

تأويل جملة وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ 484 تعليق على آية وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ ... 486 استطراد إلى مكتسبات النبي قبل النبوة 492 تعليق على آية وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ ... 496 تعليق على آية يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا ... 499 تفسير سورة المطففين 507 تنبيه 514 تفسير سورة الرعد 515 تعليق على جملة إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ ... 525 تعليق على مجموعة الآيات [19- 25] 533 تعليق على جملة أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ 540 تعليق على جملة لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ 553

فهرس محتويات الجزء السادس

فهرس محتويات الجزء السادس تفسير سورة الحج 7 تعليق على تسميات اليهود والنصارى والمجوس والصابئة 21 تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ... مع بيان حكمة الإبقاء على تقاليد الحج 34 تعليق على موضوع النذر 40 تعليق على الأمر باجتناب قول الزور 45 استدلال على ممارسة المسلمين الحج قبل فتح مكة 46 دلالة تعبير حنفاء لله في هذا المقام 47 تعليق على جملة لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها ... 52 تعليق على خطورة أمر القوانين قبل الإسلام وحكمة الإبقاء عليها 53 تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ ... وما يليها 55 التلقينات البليغة المنطوية في هذه الآيات 58 تعليق على جملة وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ ... 62 تعليق على الآيات وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ ... 65 تلقين الآية وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... وما يليها 68 تعليق على الآية وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ وجرأة النبي 75 تعليقات على الآيتين الأخيرتين من السورة 78 تعليق على جملة وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ 83 تعليق على جملة وَافْعَلُوا الْخَيْرَ 87 تفسير سورة الرحمن 89

تفسير سورة الإنسان 105 تعليق على موضوع النذر 109 تفسير سورة الزلزلة 118 طائفة من الروايات والأحاديث في سياق آيات هذه السورة 119 تفسير سورة البقرة 123 مقدمة للسورة 123 تعليق على ترتيب السور في المصحف 125 تعليق على حركة النفاق وأسبابها ومداها 135 تعليق على رواية في صدد الآية [14] 138 تعليق على روايات الشيعة في صدد الآيات عامة 139 تعليق على ما جاء في بعض كتب التفسير في سياق أَنُؤْمِنُ ... 140 تعليق على التحدي بإتيان شيء من مثل القرآن 145 تعليق على زعم بعض المستشرقين بأن هذه الآيات مكية 146 تعليق على جملة كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ ... 147 تعليق على جملة وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ وما بعدها 151 تعليق على الآية وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ ... وما بعدها 154 تعليق على تقديم تعليم آدم على الأمر بالسجود له 158 تعليق على توبة آدم وحكمة ذكرها 159 تعليق على أولى الحلقات الواردة في يهود بني إسرائيل 161 تلقينات الآيات الواردة في حق اليهود [40- 48] 163 جنسية يهود الحجاز الذين وجه إليهم الخطاب 165 تعليق على الحلقة الثانية في يهود بني إسرائيل [47- 57] 169 تعليق على آية إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا ... 173 تعليق على الحلقة الثالثة في يهود بني إسرائيل 175 تعليق على الحلقة الرابعة في يهود بني إسرائيل 178 تعليق على الحلقة الخامسة في يهود بني إسرائيل 181 استطراد إلى بيان أسباب تنكر اليهود للدعوة الإسلامية 184 تعليق على الآية بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً ... 187

تعليق على الحلقة السادسة في يهود بني إسرائيل 189 تعليق على الحلقة السابعة في يهود بني إسرائيل 193 تعليق على جملة وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ ... 197 تعليق على الآية قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ ... وما يليها 200 تعليق على الحلقة الثامنة في يهود بني إسرائيل 204 تعليق على الحلقة التاسعة في يهود بني إسرائيل 207 تعليق على الحلقة العاشرة في يهود بني إسرائيل 215 تعليق على الحلقة الحادية عشرة في يهود بني إسرائيل 222 تعليق على الحلقة الثانية عشرة في يهود بني إسرائيل 226 تعليق على الحلقة الثالثة عشرة في يهود بني إسرائيل 230 تعليق على الحلقة الرابعة عشرة في يهود بني إسرائيل 232 تعليق على الحلقة الخامسة عشرة في يهود بني إسرائيل 237 تعليق على الحلقة السادسة عشرة في يهود بني إسرائيل 243 تعليق على الحلقة السابعة عشرة في يهود بني إسرائيل 246 تعليق على الحلقة الثامنة عشرة في يهود بني إسرائيل 251 مدى تبديل القبلة في الرسالة الإسلامية 258 احتمال أن يكون التبديل إلهاما ربانيا 259 تعليق على الآية وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ... 261 تعليق على الآية كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا ... 263 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا ... وما بعدها 265 تعليق على الآية إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ ... 268 تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا ... وما بعدها 272 استطراد إلى موضوع لعن الكفار وغيرهم 274 استطراد إلى تفسير الشيعة للآيات 275 تعليق على الآية لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ... وما فيها 284 تعليق على آية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ ... وما بعدها 287 تعليق على آيات الوصية 294 تعليق على آيات الصيام ورمضان 300

تعليق على الآية وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ ... 321 تعليق على الآية وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... وما بعدها 327 تعليق على الشهر الحرام 336 تعليق على آية وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ... 340 تعليقات على الآية الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ ... وما يليها 352 تعليق على الآية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ ... وما يليها 363 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ ... 366 تعليق على جملة وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ 370 تعليق على جملة كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ... 371 تعليق على الآية أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ... 374 تعليق على آية كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ 378 تعليق على الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ ... وما يليها 383 حكم المرتد عن دينه من المسلمين 386 تعليق على الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ... وما يليها 388 تعليق على الآية وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ ... وما يليها 392 تعليق على الآية وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ... وما يليها 395 تعليق على الآية وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ ... وما يليها 403 تعليق على الآية لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ... وما يليها 407 حالات متصلة بموضوع علاقة الزوج الجنسية بزوجته 411 تعليق على الآية وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ 412 تعليق على الآية الطَّلاقُ مَرَّتانِ ... وما يليها 418 تعليق على الآية وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ ... 429 التلقين المنطوي في جملة وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ ... 430 تعليق على الآية وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ ... 431 تعقيب عام في صدد الطلاق وإناطته بالقضاء 432 تعليق على الآية وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ ... 435 تعليق على الآية وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ ... وما يليها 439 تعليق على الآية لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ ... وما يليها 445

تعليق على الآية حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ ... وما يليها 450 تعليق على الآية وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ ... 453 تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ ... وما يليها 456 استطراد إلى الفرار من الوباء 458 تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ ... وما يليها 460 تعليق على الآية تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ ... 463 تعليق على آية الكرسي 468 تعليق على الآية لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ... وما يليها 470 تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ ... 472 تعليق على الآية أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ ... 475 تعليق على الآية وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي ... 477 تعليقات على الآية مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ ... وما يليها 482 تعليق على آيات الربا 491 تعليق على جملة الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ ... 500 تعليقات على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ ... وما يليها 507 تعليق على الآية لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ... 517 تعليقات وأحاديث في صدد هذه الآيات 517 تعليق على الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة 520

فهرس محتويات الجزء السابع

فهرس محتويات الجزء السابع تفسير سورة الأنفال 7 تعليق على الآيات الأربع الأولى 9 تعليق على مدى أمر القرآن بإطاعة الله ورسوله في السور المدنية 12 تعليق على الآية كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [14] وشرح ظروف ومشاهد وقعة بدر 15 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وما بعدها إلى آخر الآية [19] 23 تعليق على ما قيل في مدى جملة وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى 25 تعليق على ما روي في صدد الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وما بعدها إلى الآية [26] من روايات وأقوال وما فيها من تلقينات 28 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ والآيتين اللتين بعدها 33 تعليق على الآية وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ 35 استطراد إلى ظروف وكيفية هجرة النبي والمسلمين 37 تعليق على الآية وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ 41 تعليق على الآية وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ وما بعدها إلى آخر الآية [37] 44 تعليق على الآية قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ والآيتين التاليتين لها 47

شرح الآية وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ... وما ورد في صددها من تأويلات وأحاديث وتعليقات عليها 49 أولا: تأويل الغنيمة 50 ثانيا: الآية لا تذكر إلا الخمس أما الأخماس الأربعة 52 ثالثا: عدد مصارف خمس الغنائم خمسة رابعا: كان النبي يأخذ سهما من الخمس 54 خامسا: سهم لِذِي الْقُرْبى 57 سادسا: المسكين 62 سابعا: ابن السبيل 63 ثامنا: اليتامى 63 تاسعا: مقارنة بين آية الأنفال [41] وآية التوبة [60] 63 عاشرا: أقوال الفقهاء في توزيع سهام خمس الغنائم 64 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وما بعدها إلى الآية [49] 68 تلقين جملة ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ 72 تعليق على الآية إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ والآيات التالية لها إلى آخر الآية [63] وشرح وقعة بني قينقاع وما في الآيات من مبادئ وتلقينات 75 التلقينات المنطوية في الآيات [55- 64] 80 تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ ... والآية التالية لها 86 تعليق على الآية ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ... إلخ والآيتين التاليتين لها 88 تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ والآية التالية لها 95 تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلخ والآيات التالية لها إلى آخر السورة 97

تفسير سورة آل عمران 105 تعليق على الآيات الست الأولى من السورة وخلاصة عن وفد نصارى نجران 108 تعليق على الآية هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ... إلخ والآيتين التاليتين لها ومداها في صدد التنزيل القرآني 114 تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ والآيات الثلاث التالية لها 123 تعليق على الآية زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ ... إلخ والآيات الثلاث التالية لها 127 تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ ... إلخ والآية التالية لها 131 تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ... إلخ والآيات التالية لها إلى الآية [7] 133 تعليق على الآية لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ... إلخ والآيات التالية لها إلى الآية [32] 137 تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ وما بعدها إلى الآية [64] ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران 147 تعليق على ما روي في صدد آية المباهلة 159 استطراد إلى حديث مروي في صدد الآية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ ... إلخ من آيات السلسلة ورسالة النبي إلى هرقل ملك الروم وشهادة لأبي سفيان وتعليق على ذلك 162 تعليق على الآية يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ وما بعدها الآيات [66- 68] 165 تعليق على الآية وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ... إلخ والآيات التابعة لها إلى الآية [74] 169 تعليق على الآية وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ... إلخ والآيتين التاليتين لها 173

تعليق على الآية وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ ... إلخ والآيتين التاليتين لها 178 تعليق على الآية وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ... إلخ والآية التالية لها 180 تعليق على الآية أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... إلخ والآيتين التاليتين لها 183 تعليق على الآية كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ ... إلخ والآيات التالية لها إلى آخر الآية [91] 185 تعليق على الآية لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ... إلخ 188 تعليق على الآية كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ ... إلخ والآيتين التاليتين لها 191 تعليق على الآية إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ ... إلخ والآية التالية لها 193 استطراد إلى شمول أمن البيت 196 تعليق على الآية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ والآيات الأربع التالية لها 199 تعليق على الآية وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ... إلخ والآية التالية لها 204 تعليق على الآية يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ... إلخ والآيات الثلاث التالية لها 206 تعليق على الآية كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ... إلخ والآيتين التاليتين لها 210 تعليق على الآية لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ ... إلخ والآيتين التاليتين لها 215 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ ... إلخ والآيتين التاليتين لها 219 تعليق على الآية وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وما بعدها لغاية الآية [129] وشرح ظروف ومشاهد وقعة أحد 224

تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وما بعدها إلى آخر الآية [136] 230 تعليق على الآية قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ ... إلخ وما بعدها لغاية الآية [142] وعلى ما فيها من مشاهد وقعة أحد وخلاصة أحداث هذه الوقعة 234 تعليق على الآية وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ والآية وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ... وما بعدهما إلى الآية [148] 239 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ وما بعدها لغاية الآية [154] وما فيها من مشاهد وقعة أحد 245 تعليق على تعبير الْجاهِلِيَّةِ 248 تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ 249 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى ... إلخ والآيتين التاليتين لها 251 تعليق على الآية فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ... إلخ وأمر الشورى في الإسلام 252 تعليق على الآية وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ 259 تعليق على الآية أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ ... إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [168] 265 تعليق على الآية وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ والآية التي بعدها 267 تعليق على الآية الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ والآيتين اللتين بعدها 270 تعليق على الآية إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ والآيتين التاليتين لها 274

تعليق على الآية وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ 274 شرح الآية ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ ... إلخ وتعليق عليها 276 تعليق على الآية لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ ... إلخ والآيات الثلاث التالية لها 280 تعليق على الآية كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ... إلخ 282 تعليق على الآية لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ ... إلخ 283 تعليق على الآية وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ والآيتين التاليتين لها 285 تعليق على الآية إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ وما بعدها إلى الآية [195] 291 تعليق على الآية لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ والآيتين التاليتين لها 296 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 299 تفسير سورة الحشر 302 تعليق على الآيات الأربع الأولى من السورة وحادث إجلاء بني النضير 304 تعليق على الآية وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ ... إلخ والآية التالية لها وتشريع الفيء 309 تعليق على جملة وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا 311 تعليق على جملة كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ 313 تعليق على الآية لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ والآيتين التاليتين لها 314 تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ... إلخ وما بعدها لغاية الآية [17] 321

تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ ... إلخ والآية التالية لها 324 تعليق على الآية لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ والآيتين التاليتين لها 326 تفسير سورة الجمعة 328 تعليق على الآيات الأربع الأولى من السورة وما فيه من التنويه بفضل الله على العرب في تكريمهم بإرسال نبيه منهم 330 تعليق على الآية مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً ... إلخ والآيات الثلاث التالية لها 332 تعليق على آيات صلاة الجمعة وتنويه بخطورتها الدينية والاجتماعية ولمحة عن تاريخ الجمعة قبل الإسلام ومسألة اتخاذ يوم الجمعة يوم عيد وعطلة عاما للمسلمين 334 كلمة في حالة اجتماع العيد والجمعة في يوم واحد 341 استطراد إلى الأذان في الإسلام 341 تفسير سورة الأحزاب 345 تعليق على الآيات الثلاث الأولى من السورة 347 تعليق على الآية ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ ... إلخ والآية التالية لها 349 تقليد الظهار في الجاهلية 350 تقليد التبني في الجاهلية ومداه 351 تعليق على تعبير وَمَوالِيكُمْ 353 تعليق على الآية النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ... إلخ 354 تعليق على مدى تعبير مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ 356 تعليق على مدى ذكر أمومة أزواج النبي للمؤمنين في الآية النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ 357 الخلاصة 357 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ ... إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [25] وشرح ظروف ومشاهد وقعة الأحزاب 361

تعليق على الآية وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ ... إلخ والآية التالية لها وشرح وقعة بني قريظة 367 تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [34] 371 تعليق على تعبير الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى 378 تعليق على ما روي من أحاديث في صدد تعبير أَهْلَ الْبَيْتِ 379 تعليق على الآية إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ... إلخ 383 تعليق على الآية وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وما بعدها لغاية الآية [40] وتمحيص زواج النبي بزينب بنت جحش 386 تعليق على مدى جملة وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ 392 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها 397 تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ إلخ والآيتين التاليتين لها 400 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ ... إلخ والآية التالية لها 408 تعليق على الآية لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ ... إلخ 412 تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً 413 تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً والآية التالية لها 416 تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً 418 تعليق على الآية لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا والآيتين التاليتين لها 421

تعليق على الآية يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً والآيات الثلاث التالية لها 424 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى ... إلخ والآيتين التاليتين لها 426 تعليق على الآية إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ ... إلخ والتي بعدها 428 مدى التنويه القرآني بالإنسان 430 دلالات ذكر المؤمنين والمؤمنات والمشركين والمشركات والمنافقين والمنافقات 431

فهرس محتويات الجزء الثامن

فهرس محتويات الجزء الثامن تفسير سورة النساء 7 تعليق على الآية الأولى من السورة 9 تعليق على الآية وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ ... 11 تعليق على الآية وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى ... 13 تعليق على جملة أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ... 20 تعليق على الآية وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ... 22 تعليق على الآية وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا ... 25 تعليق على الآية لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ ... 29 تعليق على الآية يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ ... 33 استطراد إلى الوقف 46 تعليق على الآية وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ ... 49 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ ... 56 مسألة المغالاة في المهور 58 تعليق على الآية وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ... 61 تعليق على الآية حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ ... 66 تعليق وتمحيص في صدد نكاح المتعة 79 تعليق على الآية وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا ... 87 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ ... 94 تعليق على الآية وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ ... 100 تعليق على الآية الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ ... 103

تعليق على الآية وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا ... 112 حكمة تفصيل القرآن لشؤون الأسرة 114 تعليق على الآية وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ... 116 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ ... 123 تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً ... 137 تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ ... 146 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا ... 150 تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا ... 159 تعليق على الآية وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ... 163 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ ... 167 تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ... 171 تعليق على جملة وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ ... 174 تعليق على الآية أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ ... 178 تعليق على الآية وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ ... 180 تعليق على الآية فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ ... 184 تعليق على الآية مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ ... 187 تعليق على الآية وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها ... 189 تعليق على الآية فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ ... 194 تعليق على الآية إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ ... 197 تعليق على الآية سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ ... 201 تعليق على الآية وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً ... 202 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ ... 209 تعليق على الآية لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ... 212 تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ... 215 تعليق على الآية وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ... 222 تعليق على الآية إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ ... 229 تعليق على الآية لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ ... 235 تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ... 241

تعليق على الآية لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ ... 247 تعليق على الآية وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ ... 251 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ... 258 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ... 260 تعليق على الآية لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ ... 266 تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ... 270 تعليق على الآية يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ ... 272 تعليق على الآية إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ ... 284 تعليق على الآية يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ... 289 تعليق على الآية يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ... 294 تفسير سورة محمد 298 تعليق على الآية فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ... 302 تعليق على الآية فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ ... 315 تعليق على الآية وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ... 319 تعليق على الآية أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ... 323 تعليق على الآية فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ ... 327 تعليق على الآية إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ... 329 تفسير سورة الطلاق 333 تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ... 334 تعليق على الآية وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ ... 338 تعليق على الآية أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ... 341 تعليق على الآية اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ ... 345 تفسير سورة البينة 347 تعليق على روايات الشيعة في صدد إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ... 351 تفسير سورة النور 352 تعليق على حدّ الزنا والرجم 353 جريمة اللواط وإتيان النساء من أدبارهن 361 حالة الإكراه والغصب 362

تعليق على الآية الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً ... 366 تعليق على الآية وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا ... 369 تعليق على الآية وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ ... 375 تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ ... 380 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً ... 393 تعليق على الآية قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ... 401 تعليق على الآية وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ ... 403 تعليق على الآية وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ ... 413 تعليق على الآية وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً ... 416 مدى حثّ القرآن على مكاتبة المماليك 418 تعليق على الآية فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ... 424 تعليق على الآية وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ... 432 تعليق على الآية وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ ... 435 تعليق على الآية وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا ... 436 تأويل الشيعة لبعض الآيات السابقة والتعليق عليه 441 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ ... 443 تعليق على الآية وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً ... 446 تعليق على الآية لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ... 448 تعليق على مدى كلمة صَدِيقِكُمْ 451 تعليق على الآية إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ... 454 تفسير سورة المنافقون 457 تعليق على الآية إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ ... 458 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ ... 464 تفسير سورة المجادلة 467 تعليق على الآية قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ ... 469 تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ ... 478 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا ... 482 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ ... 486

تعليق على الآية أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ ... 489 تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً ... 491 تعليق على الآية لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ ... 493 تفسير سورة الحجرات 496 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ ... 497 كلمة عن حجرات رسول الله 500 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ ... 501 تعليق على الآية وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ... 504 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ ... 512 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ ... 515 تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى ... 521 تعليق على الآية قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا ... 525 تفسير سورة التحريم 529 تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ... 531 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ... 536 تعليق على الآية ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا ... 540 استطراد إلى رواية إخوة وأخوات المسيح من أمه 542 تفسير سورة التغابن 544 تأويل جملة هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ... 546 تعليق على الآية ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ... 549 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ ... 551 تفسير سورة الصف 555 تعليق على الآيات الأربع الأولى من السورة 557 تعليق على الآية وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ ... 560 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى ... 571 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ ... 573 تفسير سورة الفتح 575 تعليق على الآية إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ... 577

تعليق على الآية لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ ... 585 تعليق على الآية إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ... 588 تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ ... 589 تعليق على الآية سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ ... 592 تعليق على الآية سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ ... 594 تعليق على الآية لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ ... 599 استطراد إلى ذكر وقعة خيبر وردّ على مزاعم المستشرقين 600 تعليق على الآية وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها ... 604 تعليق على الآية هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ... 609 تعليق على الآية لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ ... 612 تعليق على الآية مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ... 615

فهرس محتويات الجزء التاسع

فهرس محتويات الجزء التاسع تفسير سورة المائدة 7 تعليق على الآيتين الأوليين من السورة 12 تعليق على الآية حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ... 38 تعليق على الآية يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ 38 تعليق على الآية الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا ... 42 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ... 55 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ ... 69 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ... 70 تعليق على الآية وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ ... 73 تعليق على الآية يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا ... 76 تعليق على الآية يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ ... 79 تعليق على الآية لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ... 83 تعليق على الآية وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ ... 84 تعليق على الآية يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى ... 86 تعليق على الآية وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ ... 89 تعليق على الآية وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ ... 95 تعليق على الآية إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ ... 101 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ... 110 تعليق على الآية وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ... 116 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ ... 126

تعليق على الآية إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ ... 132 تعليق على الآية وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ... 143 تعليق على الآية وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً ... 147 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى ... 154 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ... 159 تعليق على الآية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا ... 168 تعليق على الآية وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا ... 172 تعليق على الآية وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ... 174 تعليق على الآية وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا ... 178 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ... 180 روايات الشيعة في صدد الآية يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ... 184 تعليق على الآية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ ... 187 تعليق على الآية لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ ... 190 تعليق على الآية لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ... 191 تعليق على الآية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ... 194 تعليق على الآية لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ ... 196 تعليق على الآية تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... 199 تعليق على الآية لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ ... 202 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ... 207 تعليق على الآية لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ... 211 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ... 219 تعليق على الآية لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ ... 228 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ ... 231 تعليق على الآية جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ ... 236 تعليق على الآية ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ ... 238 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ ... 239 تعليق على الآية ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ ... 243 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ ... 246

تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ... 251 تعليق على الآية إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي ... 258 تفسير سورة الممتحنة 266 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ ... 269 تعليق على الآية عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ ... 273 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ ... 280 تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ ... 288 تفسير سورة الحديد 296 تعليق على الآية آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ ... 299 استطراد إلى فتح مكة وما جرى في سياقه من أحداث 305 تعليق على الآية يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ ... 314 تعليق على الآية أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ ... 317 تعليق على الآية إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ ... 321 تعليق على الآية اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ... 323 تعليق على الآية ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ ... 325 تعليق على الآية لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ ... 328 تعليق على الآية وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا ... 329 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ... 334 تفسير سورة التوبة 337 تعليق على الآيتين الأوليين من السورة 341 تعليق على الآية وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ ... 344 تعليق على الآية إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ... 349 تعليق على الآية وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ ... 358 استطراد إلى مدى جملة كَلامَ اللَّهِ ومسألة أزلية القرآن وحدوثه 360 تعليق على الآية كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ ... 367 تعليق على الآية أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ ... 371 تعليق على الآية ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ ... 374 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ ... 379

تعليق على الآية لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ... 383 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ... 392 تعليق على الآية قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ... 398 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ ... 419 تعليق على الآية إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً ... 429 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... 438 تعليق على الآية إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ ... 443 تعليق على الآية لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً ... 447 تعليق على الآية إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ... 452 تعليق على الآية قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ ... 454 تعليق على الآية وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ ... 456 تعليق على الآية وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ ... وما روي في مصارف الزكاة 458 تعليق على الآية وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ ... 485 تعليق على الآية يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ ... 487 تعليق على الآية يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ ... 489 تعليق على الآية الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ... 491 تعليق على الآية وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ... 494 تعليق على الآية يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا ... 498 تعليق على الآية وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ ... 501 تعليق على الآية الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ ... 504 تعليق على الآية اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ... 505 تعليق على الآية فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ ... 509 تعليق على الآية وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ ... 513 تعليق على الآية لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ ... 516 تعليق على الآية الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً ... 518 تعليق على الآية وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً ... 520

تعليق على الآية وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ... 522 تعليق على الآية وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ... 525 تعليق على الآية وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً ... 529 تعليق على الآية وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ ... 530 تعليق على الآية وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً ... 533 تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ ... 538 تعليق على الآية ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا ... 542 تعليق على الآية لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ... 547 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا ... 555 تعليق على الآية ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ ... 557 تعليق على الآية وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ... 558 تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ ... 562 تعليق على الآية وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ ... 566 تعليق على الآية وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ ... 567 تعليق على الآية لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ... 569 تفسير سورة النصر 573 تعليق على آيات السورة وما روي في صددها 575 نبذة عن حجة الوداع النبوية 577 نبذة في مرض النبي ووفاته ولحظاته الأخيرة وصفاته 585

فهرس محتويات الجزء العاشر

فهرس محتويات الجزء العاشر 1- نموذج عن خط المؤلف 7 2- التقاريظ: 8- محمد بهجة البيطار 8- مجلّة المعلم العربي بدمشق 11- عبد الفتاح أبو غدة 14- د. مصطفى السباعي 19- البروفسور إسماعيل بوناولا الهندي 20 3- الفتاوى: - أبو اليسر عابدين (مفتي دمشق) 21- عبد الله القلقيلي (مفتي الأردن) 22 4- ترجمة المؤلف 23 5- الفهارس العامة 33 1- فهرس الأحاديث والأقوال 35 2- فهرس الفقه 146 3- فهرس الأعلام 169 4- فهرس الشعوب والقبائل والطوائف 245 5- فهرس الأماكن 262 6- فهرس الأصنام 276 7- فهرس الأيام والغزوات والوقائع 278 8- فهرس الشعر 282 9- فهرس الكتب الواردة في التفسير 283 10- فهرس المحتويات 309

§1/1