التعيين في شرح الأربعين

الطوفي

كتَابُ التعيين في شرح الأربعين تأليف العَلَّامَة الفَاضِل نجْم الدِّيِن سُليْمان بن عَبْد القَوي بن عَبْد الكرِيم الطّوفي الحَنَبَليّ المتوفى 716 هـ تحقِيق أحمد حَاج محمّد عثمان مؤسسة الريان بيروت المكتَبة المكيّة مكّة

{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} حُقوقُ الطَّبْع مَحفوظَة الطَّبعَة الأولى 1419 هـ - 1998 م مؤسسة الرَّيان للطباعَة والنشر والتوزيع بيروت- لبنان- ص. ب: 5136/ 14 السّجِل التجاري في بَيرْوت رَقم 5/ 7421 المكتبة المكيّة حَي الهجْرة - مَكّة المكرّمة - السّعوديّة - هَاتفُ وفَاكس: 5340822

[مقدمة التحقيق]

مُقَدِّمة إنَّ الحمد لله نحمدُه ونستعينه ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرورِ أنفُسنا، ومن سيئاتِ أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}. أما بعد: فإن للكتب حظوظًا كما أن للناس حظوظًا، فبعض الناس لا يعرفه إلا أهل بيته، أو أهل قريته، أو أهل مدينته، وبعض آخر يذيع صِيتُهُ، ويطير اسمه، وينتشر في الخافقين ذكره. كذلك الكتب فبعضها لا تجاوز بيت مؤلفها، أو قريته، أو مدينته، وتُعَمَّرُ أيامًا أو شهورًا أو سنين معدودة، وبعض أُخَر تُشَرِّق وتُغَرِّب وتُسْهِلُ

وتُنجِدُ، وتُصارع الزمن وتُعَمَّرُ مآت السنين. وهذه الأربعون حديثًا للإمام الزاهد القدوة النووي من تلك الكتب التي انتشرت في الشرق والغرب، وقطعت مآت السنين، واستنهضت هِمَمَ العلماء فاعتنوا بها واحتفلوا، فكتبوا عليها الشروح المتنوعة في مصادرها ومواردها لتنوع مشارب مؤلفيها ومشارعهم. ولعله لا يخلو قرن من عناية عالم بها وكتابة شرح عليها. وهذا الشرح الذي بين أيدينا للعلامة المتفنن نجم الدين سليمان بن عبد القوي الطوفي الحنبلي المتوفى سنة ست عشرة وسبعمائة من أوائل شروح الأربعين النووية. ولقد أجاد المؤلف رحمه الله في الكلام على الأحاديث لفظًا ومعنى، واقتنص الفرائد منها، واستنبط الفوائد الأصولية والفروعية، ووظَّف القواعد الأصولية فيها من تخصيص عام، وتعميم خاص، وتقييد مطلق وإطلاق مقيد، وتبيين مجمل، وتوفيق بين ما ظاهره التعارض والتدافع من الكتاب والسنة. وفي طليعة مميزات هذا الشرح أنه في آخر شرح كل حديث يذكر ما يرجع إليه الحديث من الآيات والأحاديث التي توافقه في المعنى، فيظفر القارئ جملة من الآيات والأحاديث الواردة في معنى واحد. ويعتني أيضًا ببيان وجه جامعية هذه الأحاديث وتوضيح وجه كلياتها، فإن هذه الأحاديث من جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم -. وكان المؤلف رحمه الله يعتمد على وُكْدِ ذهنه وجُهد نفسه، ويعمل

مواهبه العلمية والعقلية، ويُجَمِّع له جَرَامِيزَهُ، ولا ينقل من الآخرين (¬1). وقد كشف في هذا الشرح عن مقدرة في التأليف وسرعة في الإنجاز، ومكانة في العلم، فقد أتمَّ هذا الشرح الذي وصل إلى مآت الصفحات في ستة عشر يومًا، مع ما فيه من مباحث شائكة كبحث المصلحة في شرح حديث "لا ضرر ولا ضرار" الذي كان مثار حدل بعده. بدأ في ثلاثة عشر ربيع الثاني سنة ثلاث عشرة وسبعمائة، وفرغ منه في ثمانية وعشرين منه. وهو شرح جيد في مجمله وإن وقع فيه بعض الهنات، لا تنقص من قيمته، ولا تضع من قدره، سيأتي التنبيه على بعضها في مثاني الكتاب. هذا، وأذكر فيما يأتي ترجمة المؤلف، ونسبته إلى التشيع، والإشارة إلى المصلحة عند الجمهور وعنده، واسم شرحه هذا ونسبته إليه، ووصف النسخ الخطية، وعملي فيه. ¬

_ (¬1) وقد نقل من شرحه هذا وأفاد منه العلامة الفقيه أحمد بن حجر الهيتمي ت 973 في "فتح المبين لشرح الأربعين" أحيانًا ينقل اللفظ، وأحيانًا المعنى، ويبهم اسم المؤلف، ويقول: "قال بعضهم، وقول بعضهم، وتكلف بعضهم" ونحو ذلك، ويعترض عليه بعض الاعتراضات.

ترجمة المؤلف

ترجمة المؤلف: ترجم للمؤلف سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم بن سعيد الطوفي رحمه الله من العلماء القدامى (¬1) كل من: الإمام الحافظ علم الدين القاسم بن محمد البرزالي الشافعي ت 739 في كتابه "المقتفي لتاريخ أبي شامة" (¬2). ¬

_ (¬1) وترجم له كل من حقق كتابًا من كتبه من المعاصرين فترجم له الدكتور مصطفى زيد في كتابه "المصلحة في التشريع الاسلامي ونجم الدين الطوفي" ونشر فيه شرح الحديث الثاني والثلاثين واستلَّه من شرح الأربعين النووية للطوفي. والدكتور كمال محمد عيسى في تحقيقه "الإشارات الإلهية إلى المباحث الأصولية". والدكتور عبد القادر حسين في تحقيقه "الإكسير في قواعد التفسير". والدكتور حمزة الفعر في تحقيقه "سواد الناظر وشقائق الروض الناظر" المتن للطوفي والشرح لعلاء الدين الكناني. والدكتور إبراهيم آل إبراهيم في تحقيقه "شرح مختصر الروضة" القسم الأول. والدكتور بابا بن بابا بن آده في تحقيقه "شرح مختصر الروضة" القسم الثاني. والدكتور عبد الله التركي في تحقيقه "شرح مختصر الروضة". والمستشرق فولفهارت في تحقيقه "علم الجذل في علم الجدل". والدكتور علي حسين البواب في تحقيقه "إيضاح البيان عن معنى أم القرآن" و "تفسير سورة ق، تفسير سورة النبأ، تفسير سورة الانشقاق، تفسير سورة الطارق". والدكتور مصطفى عليان في تحقيقه "موائد الحيس في فوائد امرئ القيس". والدكتور أحمد حجازي السقا في تحقيقه "الانتصارات الإسلامية في كشف شبه النصرانية". والدكتور محمد الفاضل في تحقيقه "الصعقة الغضبية في الرد على منكري العربية" وهو آخر ما صدر من كتب الطوفي فيما أعلم في عام 1417. (¬2) جـ 2 / لوحة 246 مصورة بمعهد البحوث العلمية بجامعة أم القرى برقم 1094 عن نسخة مكتبة أحمد الثالث بتركيا.

والإمام الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد الذهني ت 748 في كتابيه "ذيل العبر" (¬1) و "ذيل تاريخ الإسلام" (¬2). والعالم الفاضل الأديب المؤرخ صلاح الدين الصفدي ت 764 في كتابه "أعيان العصر وأعوان النصر" (¬3). وقاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن محمد ابن جماعة ت 767 في كتابه "التعليقة في أخبار الشعراء". وأبو عبد الله عبد الله بن أسعد اليافعي ت 768 في كتابه "مرآة الجِنان وعبرة اليقظان في معرفة ما يعتبر من حوادث الزمان" (¬4). والإمام الحافظ زين الدين عبد الرحمن ابن رجب ت 795 في "كتاب الذيل على طبقات الحنابلة" (¬5). والحافظ شهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني ت 852 في كتابه "الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة" (¬6). ¬

_ (¬1) 4/ 44 دار الكتب العلمية -بيروت. وفيه: الشيعي الشاعر. (¬2) لوحة 40 نسخة شستر بتي. (¬3) جـ 3 / لوحة 6 - 7 مصورة بمعهد البحوث العلمية بجامعة أم القرى برقم 1116 عن نسخة مكتبة رئيس الكتاب بتركيا. (¬4) 4/ 255 منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت- لبنان، وترجمته في سطرين، وهي مأخوذة من ترجمة الذهبي في ذيل العبر، ووقع فيه "النسفي" وهي محرفة من "الشيعي". (¬5) 2/ 366 - 370 مطبعة السنة المحمدية -القاهرة وترجمته من أوسع التراجم. (¬6) 2/ 349 - 252 دار الكتب الحديثة- القاهرة.

والإمام برهان الدين إبراهيم بن محمد بن مفلح ت 884 في كتابه "المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد" (¬1). وجلال الدين عبد الرحمن السيوطي ت 911 في كتابه "بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة" (¬2). ومجير الدين العليمي ت 928 في كتبه الثلاثة "الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل" (¬3) و "الدر المنضد في ذكر أصحاب الإمام أحمد" (¬4) و "المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد" (¬5). ومحمد بن طولون الصالحي ت 953 في كتابه "القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية" (¬6). والمؤرخ عبد الحي بن العماد ت 1089 في كتابه "شذرات الذهب في أخبار من ذهب" (¬7) وهذه الكتب التي ترجمت له مطبوعة ما عدا "المقتفى" و "ذيل تاريخ الإسلام" و "أعيان العصر" و "التعليقة" (¬8) فاكتفيت ¬

_ (¬1) 1/ 425 - 426 مكتبة الرشد- الرياض. (¬2) 1/ 599 - 600 مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه. (¬3) 2/ 257 - 258 دار الجيل بيروت- لبنان. (¬4) 2/ 464 - 465 مكتبة التوبة- الرياض. (¬5) 5/ 5 - 7 دار صادر- بيروت. (¬6) 2/ 528 مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق. (¬7) 6/ 39 - 40 المكتب التجاري للطباعة والنشر- بيروت. (¬8) لم يتيسر الوقوف عليها، ولعلنا ننقل منها في طبعة قادمة.

بنقل ترجمته من هذه الكتب المخطوطة الى قد لا تصل أيدي بعض القراء إليها عن كتابة ترجمة بسياقي وترتيبي أجمعها من هنا وهناك. وهذا سياق ترجمته في هذه الكتب. قال الإمام الحافظ علم الدين البرزالي ت 739 هـ في كتابه "المقتفي لتاريخ أبي شامة". "وفي شهر رجب توفي الشيخ الإمام العالم الفاضل نجم الدين سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم بن سعيد الطوفي البغدادي الحنبلي، ببلد الخليل عليه السلام، وكان قدم علينا دمشق من العراق، ثم توجه إلى القاهرة، وأقام بها مدة، ثم توجه إلى الحجاز، وحج، وجاور، وكان رجلا فاضلا، واتهم بالقاهرة بالرفض، وعزره القاضي شمس الدين ابن الحارثي وأشهره. وبلغني أنه تاب قبل موته من ذلك ومن هجو الناس" (¬1). وقال الإمام الذهبي ت 748 في كتابه "ذيل تاريخ الإسلام": "الطوفي العلامة نجم الدين سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم العراقي الحنبلي الرافضي، سمع من ابن الطبال، والرشيد، وبدمشق من عيسى المطعم، وتفقَّه، وبرع، وصنَّف. له مؤلف في أصول الفقه، وشرح الروضة للشيخ موفق الدين في الأصول في ثلاثة أسفار، فأجاد وأفاد، وشرح المقامات أيام كُسِرَتْ رجله، ولم يكن عنده كتب، ولكن من صدره، ونظم كثر جَيِّد. قدم علينا سنة أربع وسبعمائة، وسكن مصر، وحَجَّ، وجاور. ¬

_ (¬1) المقتفي لتاريخ أبي شامة جـ 2 / لوحة 246.

وَعُزِّر بالرفض بالقاهرة على حمار؛ لكونه نال من الصحابة في شعره. وكان دَيِّنًا ساكنا قانعا فقيرا. وقيل: تاب في الآخِرِ من الرفض والهجاء. قيل: اختصر جامع الترمذي. وهو القائل عن نفسه: حَنْبَلِيٌّ رَافِضِيٌّ ظَاهِرِيٌّ ... أَشْعَرِيٌّ هَذِه إحدَى الكُبَرِ ولي بمصر إعادة، وتقدم، ثم هجا قاضيهم. وقيل: إنه قال في شعره هذا البيت (¬1): كَمْ بَينَ من شُكَّ في خِلاَفَتِه ... وَبَينَ مَن قِيلَ: إنَّه اللهُ مات ببلد الخليل في رجب سنة ست عشرة وسبعمائة كهلا. وعاش أبوه بعده سنوات" (¬2). وقال العالم الفاضل الأديب المؤرخ صلاح الدين خليل الصفدي ت 764 في كتابه "أعيان العصر وأعوان النصر": ¬

_ (¬1) أفاد الدكتور إبراهيم آل إبراهيم في تحقيقه شرح مختصر الروضة 1/ 87 أنه اطلع على هذا البيت في كتاب "جدل القرآن لوحة 85 ب" (وهو الذي طبعه المستشرق فولفهارت باسم علم الجذل في علم الجدل فانظر ص 222). فإذا هو في سياق مناظرة حصلت بين سني وشيعي، ولم ينسبه الطوفي إلى نفسه، قال: "إن بعض الشيعة ناظر جمهوريا في علي وأبي بكر، فقال الشيعي: كم بين من شك في خلافته ... وبين من قيل: إنه الله يعني عليًّا، فقال الجمهوري: خذ مثل هذا في النصراني في عيسى ومحمد، إذ يقول لك: كم بين من شك في رسالته ... وبين من قيل: إنه الله فانقطع الشيعي". (¬2) لوحة 40 نسخة شستر بتي.

سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم بن سعيد الطوفي -بالطاء المهملة والواو- كان فقيها حنبليًّا، عارفا بفروع مذهبه مَلِيًّا، شاعِرًا أدبيًا، فاضلا لبيبًا، له مشاركة في الأصول، وهو منها كثير المحصول، قيِّمًا بالنحو واللغة والتاريخ، وغير ذلك. وله في كل ذلك مقامات ومبارك. ولم يزل إلى أن توفِّى رحمه الله تعالى في شهر رجب سنة عشر وسبعمائة. قال الفاضل كمال الدين جعفر الأدفوي: كان شيعيًّا يتظاهر بذلك، ووجد بخطه هجو في الشيخين رضي الله عنهما. وكان قاضى القضاة يكرمه ويُبَجِّلُهُ، ورتَّبَه في مواضع في دروس الحنابلة، وأحسن إليه، ثم وقع بينهما، وكلَّمه في الدرس كلامًا لا يناسب الأدب، فقام عليه ابنه شمس الدين، وفَوَّضَوا أمره إلى بدر الدين ابن الحبَّال، وشهدوا عليه بالرفض، وضُرب، وتَوَجَّه من القاهرة إلى قوص، وأقام بها سنين، وفي أول قدومه نزل عند بعض النصارى، وصنَّف تصنيفًا أُنكرت عليه فيه ألفاظ فَغَيَّرَهَا. قال: ولم نر منه بعد، ولا سمعنا شيئًا يشين. ولم يزل ملازمًا للاشتغال وقراءة الحديث والمطالعة والتصنيف وحضور الدروس معنا إلى أن سافر من قوص إلى الحجاز. وكان كثير المطالعة، أظنه طالع أكثر كتب خزائن قوص، وكانت قوته في الحفظ أكثر منها في الفهم. وصنف تصانيف؛ منها مختصر الترمذي، واختصر الروضة في أصول الفقه تصنيف الشيخ الموفق، وشرحها، وشرح الأربعين النووية، وشرح

التبريزي في مذهب الشافعي، وكتب على المقامات شرحا رأيته يكتب فيه من حفظه، وما أظنه أكمله، وصنف في مسألة كاد، وسماه إزالة الأنكاد، وتكلم على آيات من الكتاب العزيز. ومن شعره: إنْ سَاعَدَتْكَ سَوَابِقُ الأَقْدَارِ ... فَأَنِخْ مَطِيَّكَ في حِمَى المُخْتَارِ هَذَا رَبِيْعُ الشهْرِ مَوْلِدُهُ الَّذِي ... أَضْحَى بِهِ زَنْدُ النُّبَوَّةِ وَاْرِ هو في الشهور يَهِشُّ في أنواره ... مثل الربيع يَهِشُّ بالأنوار ومن قصيدة يهجو فيها بلاد الشام: قَوْمٌ إِذَا حَلَّ الغَرِيْبُ بِأَرْضِهِمْ ... أَضْحَى يُفَكِّرُ فِي بِلاَدِ مُقَامِ بثَقَالَةِ الأخلاَقِ مِنْهُمْ والهَوَا ... والماءِ وَهْيَ عَنَاصِرُ الأجْسَامِ وَوُعُوْرَةُ الأَرَضِيْنَ فَامْشِ وَقَعْ وَقُمْ ... كَتَعَثُّرِ المُسْتَعْجِلِ التَّمْتَامِ لا غَرْوَ إِنْ قَسَتْ القُلُوْبُ قُلُوبهُمْ ... وَاستُثْقِلُوْا خُلُقًا لَدَى الأَقْوَامِ فَجِوَارَ قَاسِيُوْن هُمْ وَكَأَنَّهُمْ ... من جرمِهِ خُلِقُوْا بِغَيرِ خِصَامِ قَالُوْا: لَهَا فِي المُسْنَدَاتِ مَنَاقِبٌ ... كُتِبَتْ بِهَا شَرَفًا حَلِيْفَ دَوَامِ أَهْلُ الرِّوَايَةِ أَثْبَتُوا إِسْنَادَهَا ... مِن كُلِّ حَبْرٍ حَافِظٍ وإمَامِ قُلْتُ: الأَماكِنُ شُرِّفَتْ، لا أَهْلُهَا ... لِخُصُوْمَةٍ فِيهَا مِن العَلَّامِ أَرْضٌ مُشَرَّفَة، وَقَومٌ جِيفَةٌ ... والكَلْبُ حَلَّ بِمَوْطِنِ الإحْرَامِ (¬1) ¬

_ (¬1) أعيان العصر وأعوان النصر جـ 3 / لوحة 6 - 7.

نسبته إلى التشيع: يبدو أن الطوفي رحمه الله كان عنده بعض الاعتداد بعلمه وفهمه والانفتاح على الفرق والمذاهب المردية، فأدَّاه ذلك إلى تقلد بعض الآراء الخطيرة، وموافقة بعض الفرق في مسائل، فقد مَرَّ بي في شرحه هذا موافقته لطائفة من الفلاسفة، وللجبرية. والعلماء الذين ترجموا له وصفوه بالتشيع ونسبوه إليه، وفيهم من عاصره ولقيه وعرفه معرفة شخصية كالإمام الذهني، والإمام البرزالي، وقاضي القضاة العز ابن جماعة. والحقيقة أن هؤلاء العلماء الذين ترجموا له يمنعهم دينهم وعلمهم وإنصافهم عن إلصاق فرية بمن هو منها براء. وأما الباحثون المعاصرون الذين حققوا بعض كتبه فقد حاولوا أن يبعدوا التشيع عنه ويُبرؤوا ساحته منه، وساقوا أدلة تدل على ذلك من واقع كتبه. ولكنِّي وقفت على مصداق ما وصفه به العلماء من تشيعه وملابسته لشيء من ذلك في كتاب للإمام الحافظ شمس الدين الذهبي وهو "معجم الشيوخ" وهو كتاب لا يتطرق إليه أدنى شك في نسبته إلى الإمام الذهبي، ولا تحوم حوله أيَّةُ ريبة، فقد كتب في حياة مؤلفه الإمام الذهبي عن نسخة بخطه، وقرأه كُلَّه على الإمام الذهبي -والأصل بيده- تلميذُهُ الذي عُرِفَ بالطلب والعلم، عبد الله بن أحمد بن يوسف الزرندي. قال الإمام الذهبي: "أحمد بن عمر بن شبيب الفقيه الصدوق شهاب الدين البالسي، ثم المصري، سبط الشيخ عبد الحميد السخاوي الحنبلي، ولد سنة سبع وثمانين وستمائة ظنًّا، وحفظ القرآن وبعض الفقه وانتقل إلى دمشق،

وكان نعم الرجل رحمه الله، مات في شوال سنة أربع وعشرين وسبعمائة. وقد سمع القاضي الحنبلي وبنت المُنَجَّى وجماعة. أنشدني أحمد بن عمر من حفظه للنجم سليمان بن عبد الكريم الطُّوفي الشيعي، الذي صُفِعَ على البدعة. لَا، بِحَقِّ الوَصِيّ أَبِي الحَسَنَيْنِ ... لَا اشْتَفَى مِنْ سِوَاهُ قَلْبِي وَعَيْنِيْ كَيْفَ أُصْغِي إِلَى سِوَاهُ وَحُبِّيْـ ... ـــــــــهِ سَفِيْرٌ بَيْنَ الإِلَهِ وَبَيْنِي وإِذَا مِتُّ كانَ رَبِّي سَؤُوْلًا ... لِيْ عَنْهُ وَسَائِرَ الثَّقَلَيْن فَإِلَى اللهِ أَشْتَكِي مِن أُنَاسٍ ... خُذِلُوا بانطِمَاسِ قَلْبٍ وَعَيْنِ لَا بِنَصٍّ مِنَ الكِتَاب أَتَاهُمْ ... لَا، وَلَا سُنَّةٍ وَلَا غَيْر ذَيْنِ بَلْ كما قِيلَ: قَالَ عَمِّي، عن جـ ... ـــــــــــــــــدِّي، سَمَاعًا عَنْ طَنْطَنٍ عَنْ طنينِ عَنْ حِبَالِ الهَوَى عَنْ ابنِ غُبار الـ ... ــــــــــــمَاءِ، عَن عَفْلَقٍ، عَن أُمِّ المَنَيْنِ عَن أَبِي غَافِلٍ عَن ابنِ غَلِيطٍ ... عَن أبي السَّهْوِ، عن أبِي الذّهْنَيْنِ عَن أبِيْ مُرَّةٍ، عن الحَارِثِ الأعْـ ... ـــــــــــــــوَرِ، عَن وَاحِدٍ بِلاَ عَيْنَيْنِ عَن عَجُوْزٍ فِي قَوْمِهَا تَغْزِل المَنْـ ... ـــــــــــــــــــنَ وَتَأْبىَ عَجْزًا عَنِ المَنَوَيْنِ حَجَّتِ البَيْتَ قَبْلَ نُوْحٍ إلَى ذَا الـ ... ــــــــــــــعَامِ فِي كُلِّ حَجَّةٍ حَجَّتَيْنِ وَلَهَا سُبْحةٌ إذَا هِيَ عَدَّتْ ... فَوْقَ أَلْفٍ تَمْشِي بِعُكَّازَيْنِ اسمُهَا قَوْدَةٌ، وَكَان أبُوْهَا ... قَائِدًا فِي جُيُوشِ ذِي القَرْنَيْنِ يَا لِهَذَا نَقْلًا إذَا ذُكِرَ الإِسْـ ... ـــــــــــــــــــنَادُ فَاعضُضْ عَلَيْهِ بالنَّاجِذَيْنِ أخَّرَ المُرْتَضَى عَلَى مَا حَوَاهُ ... مِن مَزَايَا وَقَدَّمَ الشَّيْخَيْنِ

إنَّنِي إِنْ قَبِلْتُ هَذَا لَمَجْنُوْ ... نٌ وَحَقّي أُدْعَى أَبَا العَقْلَيْنِ فَأَجَبْتُهُ مُتْ بِدَاءِ الشَّحْنَاءِ يا فَلْعَةَ البَيْـ ... ــــــــــــــــــــــــنِ وَمَنْ كِذْبُهُمْ مَلا جَوْلَقَيْنِ فَالَّذي قَدَّمَ العَتِيْقَ جِهَارًا ... يَا أبَا الجَهْلِ سَيِّدُ الثَّقَلَيْنِ وَعَلِيٌّ والسَّابِقُوْن جَمِيعًا ... بَايَعُوْهُ لِفَضْلِ دِيْنٍ وَزَيْن وَأطَاعُوُهُ حِيْنَ وُلِّيْ فَوَلَّى ... عُمَرَ الخَيْرِ قَاهِرَ الدَّوْلَتَيْنِ فَهُمَا بَعْدَ أَحْمَدٍ، أَفْضَلُ الخَلْـ ... ـــــــــــــــــــــــــقِ بِنَصِّ الإِمَامِ ذِي السِّبْطَيْنِ إنَّنِي إنْ رَدَدْتُّ هَذَا لَتَيْسٌ ... مَا يُسَاوِيْ عَقْلِي سِوَى بَعْرَتَيْنِ" (¬1) انتهى ما ساقه الإمام الذهبي. وهذه القصيدة -كما ترى- تنادِي عليه بالتشيع، وتقطر استهزاء وسخرية من الروايات الصحيحة المستفيضة في دواوين السنة في فضل الشيخين وتقدمهما في الفضل على الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ولم يُؤْتَ المؤلف رحمه الله من الجهل بهذه الروايات في دواوين السنة، بل كانت له عناية بكتب السنة سماعًا واختصارًا ومعرفة، فقد اختصر سنن ¬

_ (¬1) معجم الشيوخ (المعحم الكبير 1/ 80) تصنيف الإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي تحقيق الدكتور: محمد الحبيب الهيلة مكتبة الصديق- الطائف. وقد رجعت إلى المصورة عن المخطوطة لتصحيح بعض الأخطاء.

الترمذي (¬1). وعلى هذا فقد ثبت عنه ما نسبه إليه العلماء من التشيع، ولعله رجع إلى حظيرة السنة وتاب من ذلك، كما أشار كثير من العلماء الذين ترجموا له إلى توبته، وبهذا يمكن الجمع بين ما ذكره العلماء به من التشيع، وبين ما نفاه المعاصرون من ذلك مستمدين من واقع كتبه وَحُرِّ كلامه. ¬

_ (¬1) وها هو يقول في هذا الكتاب كتاب التعيين في شرح الأربعين ص 211: ومسند الدارمي لطيف وغالبه الصحة، وأما مسند أحمد بن حنبل فكثير سمعناه من نسخة عشرين مجلدا أو أكثر، وجملة ما فيه من الأحاديث أربعون ألف حديث، يتكرر منها عشر آلاف، يبقى ثلاثون ألف حديث ..... واعلم أن مسند أحمد بن حنبل ومسند إسحاق بن راهوية ومصنف ابن أبي شيبة متقاربة في الكثرة والشهرة، ومسند أبي يعلى الموصلي ومسند البزار متقاربان في التوسط، ومسند الحميدي والدارمي متقاربان في الاختصار. ومصنفوا الحديث منهم من رتبه على المسانيد كمسند أحمد وإسحاق وأبي يعلى والبزار، ومنهم من رتبه على الأحكام وأبواب العلم كالبخاري ومسلم وابن أبي شيبة في مصنفه ونحوهم. وفي كل فائدة وحكمة.

الإشارة إلى المصلحة عند الجمهور وعند الطوفي

الإشارة إلى المصلحة عند الجمهور وعند الطوفي المصلحة عند الجمهور: والمصلحة من الأهمية بمكان والخطورة بمحل، إذ هي من موارد الاجتهاد عند فقد النصوص، والنصوص ومعانيها المستثارة منها المعزَّوة إليها لا تقع من مُتَّسع الشريعة غرفة من بحر، كما قاله الجويني. ولا يمكن رفضها وإلغاؤها مطلقا كما ذهب إليه بعض المتكلمين إذ الشرع أقرَّها في الجملة، ولا يمكن قبولها مطلقا إذ أن هذا تفلت من الشرع، وخلع لربقة الدين، ووضع للشرع بالرأي، واستغناء عن الشرع، وهي حينئذ تصبح بابة مفتوحة يلج منها كل عاث في الأرض فسادا عابث بالدين باسم الدين. والأمر كما قال الجويني: "وَمَسَاقُهُ رَدُّ الأمر إلى عقول العقلاء، وإحكام الحكماء" (¬1) فيجب وزنها بميزان الشرع وضبطها بمعياره وتأصيلها تأصيلا محكما، وحصر قضاياها بمحكمات الشرع، ولا يقوم بذلك إلا فقيه النفس، صفي الذهن، ضليع في فقه الكتاب والسنة (¬2). ¬

_ (¬1) البرهان في أصول الفقه لإمام الحرمين الجويني 2/ 725. الطبعة الثالثة. (¬2) ألفت رسائل جامعية في بحث المصلحة؛ منها رسالة ماجستير للدكتور مصطفى زيد قدمت إلى كلية دار العلوم بجامعة القاهرة بعنوان "المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي"، ومنها رسالة دكتوراه للدكتور حسين حامد حسان قدمت إلى كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر بعنوان "نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي" ومنها رسالة دكتوراه للدكتور البوطي قدمت إلى كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر بعنوان "ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية". والحقيقة أن موضوع المصلحة أعظم أهمية من تناوله في رسالة جامعية يقدمها طالب لنيل شهادة، وقد ذكر الفقيه الأبياري أن معالجة المصلحة وتقديرها يتوقف على مجتهد. وهذه الكتب التي قدمت لم تقع الموقع المطلوب في نظري، إذ تفقد فقه الكتاب والسنة.

والمصلحة من الأدلة التي قيل: إنها من الأدلة المختلف فيها، أو الأدلة الموهومة، ولكن الفقهاء كلهم يمارسها ويستدل بها في واقعه العملي. ولقد لخص تلخيصا جيدًا الإمام الشاطبي في كتابه "الاعتصام" مذاهب الأصوليين فيها، حيث قال: "إن القول بالمصالح المرسلة ليس متفقا عليه، بل قد اختلف فيه أهل الأصول على أربعة أقوال: 1 - فذهب القاضي وطائفة من الأصوليين إلى رده، وأن المعنى لا يعتبر ما لم يستند إلى أصل. 2 - وذهب مالك إلى اعتبار ذلك، وبنى الأحكام عليه على الإطلاق (¬1). 3 - وذهب الشافعي ومعظم الحنفية إلى التمسك بالمعنى الذي لم يستند إلى أصل صحيح، لكن بشرط قربه من معاني الأصول الثابتة. هذا ما حكى الإمام الجويني (¬2). وذهب الغزالي إلى أن المناسب إن وقع في رتبة التحسين والتزيين لم يعتبر حتى يشهد له أصل معين، وإن وقع في رتبة الضروري فميله إلى قبوله، لكن بشرط، قال: ولا يبعد أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد. واختلف قوله في الرتبة المتوسطة، وهي رتبة الحاجي فرَدَّه في المستصفى (¬3)، ¬

_ (¬1) هذا ما قرره إمام الحرمين، لكن يأتي في كلام الأبياري شارح البرهان ما يعكر على ذلك. (¬2) البرهان 2/ 721 - 722. (¬3) (2/ 487 طبعة د. حمزة بن زهير).

وهو آخر قوليه، وقبله في شفاء الغليل (¬1)، كما قَبِلَ ما قبله. وإذا اعتبر من الغزالي اختلاف قوله فالأقوال خمسة (¬2) ". وهذا الإطلاق الذي نسبه إمام الحرمين إلى الإمام مالك ونقله عنه الشاطبي في الاعتصام رَدَّه العلامة الفقيه الأصولي علي بن إسماعيل الأبياري ت 616 في شرح البرهان لإمام الحرمين، وقرَّر أن مذهب الإمام مالك في المصلحة هو مذهب الإمام الشافعي بعينه، وقد قرَّر ذلك في أكثر من موضع في كتابه المشار إليه. فمن ذلك: قوله: "إن أحدًا لا يُجَوِّز اتباع المصلحة المجردة، بل المصالح التي فهم من الشريعة ملاحظتها، وقد قَدَّمنا أن مقصد الشرع أن يحفظ على الخلق خمسة أمور: وهي الدين، والنفس، والعقل، والمال، والنسب، فحفظ هذه الأمور مصلحة، وتفويتها مفسدة، فإذا لحظ العلماء هذه الأصول لم يتباعد اختلافهم أصلا". وقال أيضًا: "إنَّا قلنا: لسنا نريد بالمصلحة في هذا المكان مجرد حلب المنفعة ودفع المضرة، وإنما نريد بها المحافظة على رعاية مقصود الشرع، وهذا إنما يعرفه العلماء دون العوام، ولا يتصور لذي عقل أن يمكن العامي من ¬

_ (¬1) (209 طبعة د. حمد الكبيسي). (¬2) الاعتصام (2/ 608 طبعة سليم بن عيد) وتلخيصه هذا مأخوذ من كلام الفقيه الأصولي علي بن إسماعيل الأبياري ت 616 شارح البرهان لإمام الحرمين. انظر شرح البرهان جـ 2/ 118 نسخة مكتبة برنستون، وعنها مصورة في معهد البحوث العلمية بجامعة أم القرى برقم 430 أصول فقه.

الفتوى في الشريعة. وعلى الجملة فليس بين مذهب مالك والشافعي فرق بوجه، وأما الإمام (¬1) فإنه يقصد أن يفرق بين المذهبين، وهو لا يجد إلى ذلك سبيلا أبدًا". وقال أيضًا: "فقد صح أن مذهب مالك هو مذهب الشافعي بعينه" (¬2). وعلى هذا فالمذاهب في المصلحة ثلاثة: مذهب الإمام مالك والإمام الشافعي، والحنفية، ومذهب القاضي أبي بكر الباقلاني وطائفة من الأصوليين، ومذهب أبي حامد الغزالي. ¬

_ (¬1) يقصد إمام الحرمين. (¬2) انظر هذه الأقوال في شرح البرهان جـ 2/ 118 - 127.

المصلحة عند الطوفي

المصلحة عند الطوفي: سجل الطوفي رحمه الله رأيه في المصلحة في "شرح مختصر الروضة" 3/ 214 - 217 ثم في شرح الحديث الثاني والثلاثين (¬1) من كتابه "كتاب التعيين في شرح الأربعين" وكان تأليفه له بعد تأليف "شرح مختصر الروضة" وكان كلامه في المصلحة في "شرح مختصر الروضة" مقتضبًا. ولعله نشأ في نفسه أن يوسع الكلام في المصلحة بعد تأليف "شرح مختصر الروضة" فاستغل فرصة شرحه للحديث الثاني والثلاثين من الأربعين النووية، فأفرغ فيه رأيه في المصلحة وأعاد الكلام وأبدأ وأطال جدًّا، واستغرق ما يقارب خمسين صفحة من 234 - 280. والمتأمل لشرح هذا الحديث يخرج بنتائج: أولًا: ساق الطوفي رحمه الله أدلة مجملة ومفصلة من الكتاب والسنة والإجماع والنظر على أن الشريعة مبنية على جلب المصالح ودفع المضار وجعلها مدخلا لرأيه في المصلحة. ثم قال: "إذا عرف هذا فمن المحال أن يراعي الله عزَّ وجلَّ مصلحة خلقه في مبدئهم ومعادهم ومعاشهم، ثم يهمل مصلحتهم في الأحكام ¬

_ (¬1) استلَّه الشيخ جمال الدين القاسمي ونشره ضمن مجموعة رسائل في الأصول بالاعتماد على نسخة واحدة مخطوطة، ثم محمد رشيد رضا في مجلة المنار العدد العاشر، ثم مصطفى زيد في رسالته المصلحة في التشريع الإسلامي بالاعتماد على نسختي دار الكتب المصرية، ثم الأستاذ عبد الوهاب خلاف في كتابه مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نصَّ فيه، ثم الدكتور أحمد عبد الرحيم السايح باسم رسالة في رعاية المصلحة! وهو عنوان موهم.

الشرعية، إذ هي أهمُّ فكانت بالمراعاة أولى، ولأنها أيضًا من مصلحة معاشهم، إذ بها صيانة أموالهم ودمائهم وأعراضهم، فلا معاش لهم بدونها، فوجب القول بأنه راعاها لهم، وإذا ثبت رعايته إياها لم يجز إهمالها لها بوحه من الوجوه" ص 246. وهذا أمر يوافقه عليه أهل العلم، ولا يختلف فيه اثنان، ولا ينتطح فيه عنزان. ثانيا: انفرد عن أهل العلم وشَذَّ عنهم بجملة من الآراء: منها: أنه يرى أن المصلحة أقوى أدلة الشرع، حيث قال: "إن رعاية المصلحة أقوى من الإجماع، ويلزم من ذلك أنها أقوى أدلة الشرع، لأن الأقوى من الأقوى أقوى" ص 239. ومنها: أنه سَلَّط شبهات على أدلة الإجماع من الكتاب والسنة والنظر، ثم توصل إلى نتيجة خطيرة جدًّا حيث قال: "فظهر أن الإجماع ليس بحجة" ص 256 هكذا أطلق أن الإجماع ليس بحجة، وإطلاقه يشمل الإجماع في العبادات والمقدرات والإجماع في العادات والمعاملات، وإن كان له كلام يقيد فيه هذا الاطلاق، ويحصر الإجماع الذي ليس بحجة الإجماع في العادات والمعاملات في ص 250، وفي ص 259. فحاصل كلامه -إن قيدنا مطلق كلامه بمقيده- أن الإجماع ليس بحجة في العادات والمعاملات. ومنها: أنه يحمل مسئولية الخلاف والشقاق بين الأمة على النصوص الشرعية حيث قال: "إن النصوص مختلفة متعارضة، فهي سبب الخلاف في

الأحكام المذموم شرعا، ورعاية المصالح أمر حقيقي في نفسه، ولا يختلف فيه، فهو سبب الاتفاق المطلوب شرعا، فكان اتباعه أولى" ص 259. ومنها: أنه يقسم الشرع إلى عبادات، ومقدرات، ومعاملات، فما كان من العبادات والمقدرات يعتبر فيه النص والإجماع، وما كان من المعاملات يعتبر فيه المصلحة فحسب، فإن رأى منها مصلحة اتبعها من غير اعتبار شهادة الشرع لجنس هذه المصلحة أو لنوعها، قال: "واعلم أن هذه الطريقة التي قررناها مستفيدين لها من الحديث المذكور ليست هي القول بالمصالح المرسلة، على ما ذهب إليه مالك، بل هي أبلغ من ذلك، وهي التعويل على النصوص والإجماع في العبادات والمقدرات، وعلى اعتبار المصالح في المعاملات وباقي الأحكام" إلى أن قال: "أما المعاملات ونحوها فالمتبع فيها مصلحة الناس كما تقرر" ص 274 - 277. فإن وقع شيء من التعارض بين المصلحة التي استُخرجت بالعقول وبين النصوص والإجماع يُرفع هذا التعارض. مما قرره حيث قال: "وهذه الأدلة التسعة عشر أقواها النص والإجماع، ثم هما إما أن يوافقا رعاية المصلحة، أو يخالفاها، فإن وافقاها فَبِهَا وَنِعْمَتْ، ولا نزاع إذ قد اتفقت الأدلة الثلاثة على الحكم، وهي النص والإجماع ورعاية المصلحة المستفادة من قوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار" وإن خالفاها وجب تقديم رعاية المصلحة عليهما بطريق التخصيص والبيان لهما، لا بطريق الافتيات عليهما والتعطيل لهما، كما تقدم السنة على القرآن بطريق البيان. وتقرير ذلك أن النص والإجماع إما أن لا يقتضيا ضررًا ولا مفسدة بالكلية،

أو يقتضيا ذلك، فإن لم يقتضيا شيئًا من ذلك فهما موافقان لرعاية المصلحة، وإن اقتضيا ضررا فإما أن يكون مجموعَ مدلوليهما أو بعضَه، فإن كان مجموعُ مدلوليهما ضررًا فلا بد أن يكون من قبيل ما استثني من قوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار" وذلك كالحدود والعقوبات على الجنايات، وإن كان الضررُ بعضَ مدلوليهما فإن اقتضاه دليل خاص اتبع الدليل فيه، وإن لم يقتضه دليلٌ خاصٌ وجب تخصيصهما بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار" جمعا بين الأدلة. وقد شعر المؤلف نفسه رحمه الله بهذا الشذوذ والإنفراد عن أهل العلم، إذ يقول: فإن قيل: هذه الطريقة التي سلكتها إما أن تكون خطأ فلا يلتفت إليها، أو صوابا فإما أن ينحصر الصواب فيها، أو لا، فإن انحصر لزم أن الأمة من أول الإسلام إلى حين ظهور هذه الطريقة على خطأ، إذ لم يقل بها أحد منهم، وإن لم ينحصر فهي طريق جائزة من الطرق، لكن طرق الأئمة التي اتفقت الأمة على اتباعها أولى بالمتابعة لقوله عليه الصلاة والسلام: "اتبعوا السواد الأعظم، فإنه من شذ شذ في النار". فالجواب أنها ليست خطأ، لما ذكرنا عليها من البرهان، ولا الصواب منحصر فيها قطعا، بل ظنا واحتهادا، وذلك يوجب المصير إليها، إذ الظن في الفرعيات كالقطع في غيرها، وما يلزم على هذا من خطأ الأمة فيما قبله لازم على رأي كل ذي قول أو طريقة انفرد بها غير مسبوق إليها، والسواد الأعظم الواجب اتباعه هو الحجة والدليل الواضح، وإلا لزم أن يتبع العلماء العامة إذا خالفوهم، لأن العامة أكثر، وهو السواد الأعظم. والله عزَّ وجلَّ

أعلم بالصواب. ثالثًا: وقع المؤلف رحمه الله في بعض التناقضات في شرح الحديث، ولعل مرد هذه التناقضات إلى سرعته في التأليف، وعجلته في الإنجاز، ولو تأنى في التأليف وتأمل ما كتبه لسلم من الوقوع في وهدة التناقضات. من هذه التناقضات: أن أدلة رعاية المصلحة عند المؤلف من الكتاب والسنة والإجماع والنظر. ص 243 وقد أخرج الإجماع عن دائرة الحجية في المعاملات والعادات، وحصره في العبادات والمقدرات، وحصر المصلحة في المعاملات والعادات، فكيف يكون ما أخرجه عن الحجية في المعاملات والعادات دليلا على ما حصره في المعاملات والعادات؟ فكأن معنى كلامه: إن الإجماع دليل على المصلحة، ولا يصح أن يكون الإجماع دليلا على المصلحة. ومنها: أنه قَرَّرَ أن الله راعي مصلحة العباد، وما من آية من كتاب الله عزَّ وجلَّ إلا وهي تشتمل على مصلحة أو مصالح، والسنة كذلك لأنها بيان الكتاب، والبيان على وفق المبين. ص 243 - 244 ثم تراه يرمى النصوص الشرعية بالإبهام في دلالتها على المصلحة، ويُجَوِّزُ إن لا تؤدي إلى المصلحة، حيث قال: "ثم إن الله عز وجل جعل لنا طريقا إلى معرفة مصالحنا عادة، فلا نتركه لأمر مبهم (يقصد النصوص الشرعية) يحتمل أن يكون طريقا إلى المصلحة، ويحتمل أن لا يكون" ص 272. ومنها: أنه يَرجع الخلافَ والشقاق بين الأمة إلى النصوص، فهي مختلفة متعارضة عنده، وهي سبب الخلاف المذموم شرعًا، ولا خروج من دوامة

الخلاف والشقاق إلا إلى الرجوع إلى المصلحة فهي غير مختلفة ولا متعارضة، فهي إذن سبب الوفاق والاتفاق المطلوب شرعا ص 259 - 260. ثم إذا هو يُحيلنا إلى النصوص والإجماع في العبادات والمقدرات. ص 274. فكيف يقول: إنها مختلفة متعارضة، ثم يحيلنا إليها في أهم القضايا العبادات والمقدرات؟ هذا ما أردت التنبيه إليه في هذه العجالة، والله أعلم (¬1). ¬

_ (¬1) وقد ناقش المؤلِّفَ فيما توصل إليه الدكتور مصطفى زيد في رسالته "المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي" والدكتور حسين حامد حسان في رسالته "نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي". فمن أراد الوقوف على هذه المناقشات فعليه بالكتابين المذكورين.

اسم هذا الشرح ونسبته إلى المؤلف: نسب المؤرخ الأديب صلاح الدين الصفدي، وقاضي القضاة عز الدين ابن جماعة، والحافظ ابن رجب، والحافظ ابن حجر، والعليمي في كتبه الثلاثة الأنس الجليل، والدر المنضد، والمنهج الأحمد، وحاجي خليفه في كشف الظنون شرحًا للأربعين النووية للطوفي، ولم يذكروا اسمه. وأما النسخ الخطية التي وقفت عليها ففي لوحة العنوان لنسخة (أ) و (ب) "شرح الأربعين" ولنسخة (س) "كتاب شرح الأربعين". وأما نسخة (م) ففي اللوحة الثانية من لوحات العنوان "كتاب التعيين في شرح الأربعين" وفي اللوحة الثالثة من لوحات العنوان "التعيين في شرح الأربعين" فأثبتُّ هذا الاسم "كتاب التعيين في شرح الأربعين" للكتاب. وأما نسبته إلى المؤلف فهو ثابت النسبة إليه، فقد نُسب إليه في جميع النسخ التي وقفت عليها. وقد نقل الحافظ ابن رجب في كتاب الذيل على طبقات الحنابلة 2/ 368 نصا ذكر أنه قاله الطوفي في شرح الأربعين للنووي، وهذا النص في ص 266 مطابق لما نقله الحافظ ابن رجب. ونقل من شرحه الحافظ ابن حجر في فتح الباري، أربعة مواضع في شرح حديث "من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب" (11/ 350، 351، 352، 353 طبعة الريان) انظر كتاب التعيين ص 318، 319، 320، 321. ونقل أيضًا السخاوي في رسالته "غنية المحتاج في ختم صحيح مسلم بن

الحجاج" عن الطوفي في شرح الأربعين له ما يأتي، قال السخاوي: "والحكم باستواء الصحيحين وعدم ترجيح أحدهما على الآخر قول ثالث في المسألة قاله التوربشتي، وحكاه الطوفي في شرح الأربعين له" (¬1). وما نقله السخاوي عن الطوفي تجده في ص 27 من هذا الكتاب. ¬

_ (¬1) لوحة 9 من نسخة دار الكتب المصرية.

وصف النسخ الخطية للكتاب

وصف النسخ الخطية للكتاب: وقفت على أربع (¬1) نسخ للكتاب، وهاك وصفها: 1 - نسخة دار الكتب المصرية الأولى وعنها مصورة في معهد البحوث العلمية بجامعة أم القرى برقم 53 حديث. كتب على لوحتها الأولى عنوان "شرح الأربعين للشيخ محيي الدين للفاضل سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم بن سعيد الطوفي رحمه الله" وفوق العنوان "حديث تيمور 328". وفي يساره ختم "وقف أحمد بن إسماعيل بمصر". وتحته "من كتب الفقير ... نسبًا". ثم تحته ترجمة للطوفي تركت نقلها. وهذه النسخة مكتوبة بخط نسخ جميل الصورة، فاقد جمال الصواب، وهي في مائتين وخمسة وعشرين صفحة، في كل صفحة 19 سطرًا، وفي بعض هوامشها حواش وإلحاقات لما سقط من الأصل، وهي خالية عن تقييد اسم الناسخ وتاريخ النسخ، كثيرة التحريف والتصحيف. ووقع فيها أمران غريبان: الأول: أنها كثيرة الخلاف بالزيادة والنقصان لسائر النسخ الثلاثة. الثاني: أنها خالفت النسخ تمامًا ابتداء من الحديث الثاني والثلاثين إلى آخرها، وأصبحت نصًّا آخر غير شرح الطوفي. ¬

_ (¬1) ذكر الدكتور محمد الفاضل في مقدمة تحقيقه "الصعقة الغضبية" ما يدل على وجود نسخة أخرى لهذا الكتاب محفوظة في مكتبة بلدية الإسكندرية، ولم أستطع الحصول عليها.

ولم أشر إلى هذه الزيادة أو النقصان، وأعرضت عن النسخة ابتداء من الحديث الثاني والثلاثين إلى آخرها. وحملت هذا على أنه تصرف من أحد النساخ سامحه الله، فقد رأيته ينقل في اللوحة 139 عن تفسير البقاعي الذي ولد 809 تقريبا، وتوفي الطوفي 716 فبين وفاة الطوفي وولادة البقاعي 93 سنة. ورمزت لها بـ (أ). 2 - نسخة دار المصرية الثانية. كتب على لوحتها الأولى عنوان "شرح الأربعين النووية" للشيخ العالم العلامة المحقق المدقق مولانا الشيخ نجم الدين سليمان البغدادي ثم الطوفي رحمه الله تعالى والمسلمين آمين" وفوق العنوان "الطوفي على الأربعين". وأمام العنوان "شرح الأربعين النووية للشيخ العالم". "حديث تيمور 446". وتحت العنوان ختمان وتقييد تمليك وهي مكتوبة بخط نسخ واضح، في مائة وأربعة وثمانين صفحة، في كل صفحة 23 سطرًا وفي بعض هوامشها حواش، وإلحاقات لما سقط من الأصل، وتقييد مطالعه قارئ "عامر الأطفجي". وقد اعتمد الدكتور مصطفى زيد في نشر الحديث الثاني والثلاثين في كتابه "المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي" على هذه النسخة والتي قبلها، وذكر أن تاريخ هذه النسخة عام 1023، وأنه وجد هذا التاريخ في هامشها، وأن هذا التاريخ أثبتته فهارس الخزانة التيمورية.

ولم أجد هذا التاريخ في هوامشها، وفي آخر النسخة ناسخها، وتاريخ نسخها، لكنه لم يتبين لرداءة التصوير، وهي كثيرة التحريف والتصحيف. ورمزت لها بـ (ب). 3 - نسخة مكتبة جامعة برنستون وعنها مصورة في معهد البحوث العلمية بجامعة أم القرى برقم 1162 حديث. كتب على لوحة العنوان (لكاتبه الحقير عبد السلام الشطي في مدح الإمام النووي نفعنا الله تعالى به وبعلومه آمين. إن النواوي بحر للعلوم غدا ... وما له ساحل تُرسَى به السُّفُنُ قد كان حبرا تقيا زاهدا ورعًا ... فهو ابن سيرين أو بصرينا الحسن) ثم عنوان (كتاب شرح الأربعين حديث النووية تأليف الشيخ الإمام الفاضل الأصولي العلامة نجم الدين سليمان بن عبد القوي البغدادي الطوفي الحنبلي رحمه الله تعالى وعفى عنه). وتحته (توفي الإمام النووي سنة ست وسبعين وستمائة عن نحو ست وأربعين سنة وأخذ العلم عن أئمة أعلام منهم الإمام شمس الدين ابن أبي عمر الحنبلي صاحب الشرح رحمهم الله تعالى) (قوله صاحب الشرح أي الشرح الكبير الذي هو في فقه الإمام أحمد رضي الله عنه كتبه عبد السلام الشطي الحنبلي عفي عنه آمين سنة 1278 في 21 ربيع الأول). وفي يمين العنوان (اعلم أن جدي المرحوم الشيخ الحاج مصطفى الشطي كتب بخطه الشريف في هذا الكتاب الحديت التاسع والسادس عشر والرابع والعشرين لأن كاتب هذه النسخة سها عن كتابتها والله أعلم) وتحت

العنوان أيضًا (توفي هذا الشارح إلى رحمة الله تعالى سنة 710 سبعمائة وعشرة نقل من كشف الظنون عن أسماء الكتب والفنون تأليف ملا كاتب جلبي) ثم كتب تاريخ الوقوف بعرفة في حجتين حجَّهما عبد السلام الشطي، وقصيدة له، وترجمة موجزة للطوفي. وهذه النسخة بخط نستعليق، غير مرقمة إلا بعض لوحاتها، رقمتها فبلغت 122 لوحة في 243 صفحة في كل صفحة 21 سطرا وفي بعض هوامشها حواش، منها حاشية في لوحة 8 كتبها عبد السلام الشطي الحنبلي (¬1) سنة 1278 وفي بعض هوامشها أيضًا إلحاقات لما سقط من الأصل. ويكتب الناسخ أحيانًا في الهامش (بيان) ثم يكتب تحته الكلمة التي لم تتضح في الأصل. نسخت النسخة عام 1155 وليس فيها ما يدل على الناسخ إلا أن عبد السلام الشطي كتب في لوحة العنوان أن جده مصطفى الشطي كتب بخطه الحديت التاسع والسادس عشر والرابع والعشرين لأن كاتب هذه النسخة سها عن كتابتها. ورمزت لها بـ (س). 4 - نسخة الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع (¬2). ¬

_ (¬1) له ترجمة في الأعلام للزركلي. (¬2) وهي مودعة في مكتبة المك فهد الوطنية، ويعود الفضل في الحصول عليها إلى الأخ المحقق المفضال صاحب العناية والخبرة بالمخطوطات وتيسير سبل الوصول إليها محمد بن ناصر العجمي، فجزاه الله خيرًا، وبارك فيه.

كتب على اللوحة الأولى (ياكبيكيج) (¬1) وتحتها مسألة نحوية جيدة: (فائدة: المراد بالكون الوجود، وبالإطلاق عدم التقييد بأمر زائد على الوجود، وإيضاح ذلك أن يقال: إن كان امتناع الجواب المجرد (الصواب لمجرد) وجود المبتدأ فالخبر كون مطلق نحو: لولا زيد لأكرمتك، فالإكرام ممتنع لوجود زيد، فزيد مبتدأ، وخبره محذوف وجوبا، وهو كون مطلق، أي لولا زيد موجود. وإن كان امتناع الجواب لمعنى زائد على وجود المبتدأ فالخبر كون مقيد، كما إذا قيل: هل زيد محسن إليك؟ فتقول: لولاه لهلكت، تريد لولا إحسان زيد إليَّ لهلكت، فالهلاك ممتنع لإحسان زيد، فالخبر كون مقيد بإحسان زيد فتدبر فإنها مهمة). وفي يمين هذه المسألة (من كتب محمد بن عبد العزيز ابن مانع 11 جمادى الآخرة 1381). ¬

_ (¬1) تكتب هذه العبارة على اللوحات الأولى لكثير من المخطوطات، تكتب مرة هكذا (يا كبيكيج)، ومرة (يا كبيكج). واستظهرت أن تكون اسمًا من أسماء الله بلغة العجم، فقد رأيت على بعض المخطوطات (يا حفيظ يا كبيكج يا الله يا الله). وقال الأخ محمد عزيز شمس: هذه الكلمة اسم لورق شجرة من خاصيتها أنها تحفظ المخطوطات من عبث الأرضة، فكانت توضع في المخطوطات، فلما تقادم العهد ظن بعض الجهلة أن الكلمة نفسها ربما يكون لها نفس الخاصية، فأصبحوا يكتبونها على المخطوطات. وقال آخر: ربما تكون هذه اسما من أسماء الجن ينادى ليحفظ المخطوط من أكل الأرضة. ولعل هذا بعيد.

(كتب سنة 756). وفي اللوحة الثانية صفحة 3 عنوان (كتاب التعيين في شرح الأربعين للشيخ نجم الدين الطوفي الحنبلي رحمه الله تعالى آمين آمين آمين آمين) وفوق العنوان (حديث 330) (الحمد لله تعالى). وفي يمين العنوان ختم، ثم (من كتب محمد بن عبد العزيز ابن مانع 11 جمادى الآخرة سنة 1381) (عبده الحسين سنة 875) وتحت العنوان (أسير الشهوات وكثيف الحجاب) (كتبه لنفسه ولمن شاء الله من بعده الفقير عبده عمر ابن ابن ابن سيدي الشيخ عبد الغني النابلسي عفي) (مما سمح به الدهر لعبد الله صالح بن محمد القاضي .....) (نظر فيه الحقير راجي لطف ربه القوي إسماعيل بن عبد الباقي اليازجي الواعظ والمدرس بجامع الأموي حسبة لله تعالى ختمت أعماله بالصالحات آمين). (نظر فيه الفقير عبد الله بن علي الحنفي في الثامي سنة تسع ومائة وألف نهار الثلاثاء على على .....). وفي اللوحة الثالثة صفحة 4: (قال الشاعر: المرء لولا عُرْفُهُ فهو الدُّمَى ... كالمسك لولا عَرْفُهُ فهو الدَّم) ثم كتب تحت (عُرْفُه) (بالضم بمعنى الإحسان) وتحت (الدُّمى) (جمع دمية وهي الصورة المنقوشة) وتحت (عَرْفُهُ) (بالفتح بمعنى الرائحة الطيبة) ثم كتب تحته (فهرس أحاديث الكتاب) ثم كتب أطراف الأحاديث وأرقام لوحاتها. وفي الصفحة 5: عنوان (التعيين في شرح الأربعين للشيخ نجم ... للطوافي) وتحته (من

فضل مجزل الخيرات على عبد الخالق .....) (عبد الله الفقير إليه الغني به محمد بن أبي بكر الرافعي ختم الله بالحسنى له سنة 1198). وتحت العنوان (بحمد الله). 5 (يقول مسطرها محمد بن علي البدرشي إني بعت سيدي وشيخي الشيخ الإمام العلامة الشيخ فتح الدين أبو الفتح الباهي لطف الله به في الدنيا والآخرة وقبل ذلك حال التخاطب بثمن قبضته معلوم بيني وبينه العلم الشرعي ولم يتأخر لي عنده شيء بتاريخ سابع شهر ربيع الآخرة سنة اثني عشر وثمانمائة وحسبي الله وكفى. والمبيع المشار إليه أعلاه هو هذا الكتاب وهو شرح الأربعين حديثًا للطوفي رحمه .... كتب محمد بن علي البدرشي). وهذه النسخة مكتوبة بخط نسخ تتغير فيها الأقلام أحيانًا، وهي في 117 لوحة، في 232 صفحة، في كل صفحة 18 سطرا وفي بعض هوامشها حواش منقولة من شرح الحافظ ابن رجب جامع العلوم والحكم، وإلحاقات لما سقط من الأصل، نسخت يوم الأحد 18 ذي الحجة سنة 756 بقلم عمر ابن ابن ابن سيدي الشيخ عبد الغني النابلسي ولعل هذه النسخة أقدم النسخ ومع ذلك يشيع فيها التحريف والسقط الذي يصل أحيانا إلى عشر أسطر. ورمزت لها بـ (م).

عملي في الكتاب

عملي في الكتاب - هذه النسخ التي وقفت عليها من الكتاب نسخ رديئة بعضها أردأ من بعض، يشيع فيها التحريف والتصحيف والبياض والسقط الذي يصل أحيانا إلى عشر أسطر، فلم يمكن الاعتماد على نسخة واحدة، فاعتمدت على النسخ كلها، على طريقة النص المختار لإخراج نص سليم تطمئن إليه النفس وتركن -حسب الطاقة-. وقد كلفني ذلك جهدا ووقتا لا يعلمه إلا الله سبحانه. وكنت في بداية العمل أشير إلى جميع فروق النسخ بتحريفاتها وسقطاتها إلى قريب نصف الكتاب، فلما استفحل الأمر، ووصلت الفروق في الصفحة الواحدة إلى أكثر من عشر فروق، مزقت الأوراق وكتبت الكتاب مرة أخرى، ولم أشر إلى فروق التحريف والسقط، وإنما أشير إلى ما يكون له وجه في المعنى. - وإذا اتفقت النسخ على خطأ محض أثبت الصواب، ولا أشير إلى الخطأ، وذلك في مواضع قليلة، مثلًا في جميع النسخ: أما لفظه فهو إفعال من جمع مجمع. فأثبتُّ (من أجمع) ولم أشر إلى ما في النسخ. - عزوت الآيات إلى سورها، وخرجت الأحاديث، والشواهد الشعرية. وكان المؤلف رحمه الله يعتمد في سياق الأحاديث على ذاكرته -كما أشار إليه في نهاية الكتاب- فيقدم ويؤخر، ويغير من ألفاظه، ويروي بالمعنى، فَصعَّبَ ذلك ووعر طريق الوصول إليها. - كان للمؤلف رحمه الله -على غزارة علمه وسعة اطلاعه- بعض الآراء التي تقتضي التنبيه عليها والتعليق فعلقت عليها بما يناسب.

- ترجمت لبعض الأعلام الذين ورد ذكرهم في الكتاب. - أشرت إلى بداية لوحات النسخ بكتابة أرقامها في الحاشية ما عدا نسخة (م) فقد وصلتني بعد أن طبعت الكتاب. وأشكر وأدعو للأخ محمد عزير شمس صاحب الاطلاع الواسع والفهم الثاقب فقد قرأ الكتاب كله، وكتب عليه بعض التعليقات، وفي آخرها "عزير" وخرج لي وضبط كثيرا من الشواهد. فجزاه الله خيرا، وبارك في علمه. وكتبه أحمد حاج محمد عثمان في بيت الله الحرام بمكة المكرمة حامدًا لله ومصليًّا على رسوله صلي الله عليه وسلم ليلة الاثنين السابع من رمضان عام ثمانية عشر وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية

صور المخطوطات

صور المخطوطات

لوحة العنوان نسخة (أ)

اللوحة الأولى نسخة (أ)

من الحديث الثالث والثلاثين خالفت هذه النسخة جميع النسخ وأصبحت نصًّا آخر تمامًا

لوحة العنوان نسخة (ب)

اللوحة الأولى نسخة (ب)

آخر لوحة نسخة (ب)

لوحة العنوان نسخة (س)

اللوحة الأولى نسخة (س)

آخر لوحة نسخة (س)

لوحة العنوان الأولى والثانية لنسخة (م)

لوحة العنوان الثالثة لنسخة (م)

اللوحة الرابعة لنسخة (م)

آخر لوحة نسخة (م)

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين (أ) الحمد لله مَانِع اللأواءِ ومَانِح النَّعْمَاءِ، الذي جلَّت أياديه على العلماء، حتَّى امتازوا عن غيرهم بمَّا وهب لهم من النُور والضِّياء. أحمده على ما علَّم وأفهم، وأشكره على جزيل ما مَنَّ به وأَنعَم، حمدَ معترف له بجلائل النِّعَم، مستغفرٍ له من سوء ما زلَّت به القدم. والصلاة والتسليم (ب) على سيدنا محمد أكرم المرسلين إلى أكرم الأمم، وأشرف من سعت به في طاعة ربه ساق وقدم، وعلي آله وأصحابه أهل الفضل والكرم، السابقين في حلبة مكارم الأخلاق ومحاسن الشِّيَمِ، وسلم تسليما كثيرًا. أما بعد -فهذا- إن شاء الله عزَّ وجلَّ - إملاء نافع وتأليف جامع، يشتمل على شرح الأحاديث الأربعين التي جمعها الشَّيخ الإمام العالم الفاضل محيي الدين أبو زكريَّا يَحْيَى النواوي رضي الله عنه وعن سائر علماء المسلمين. إذ كانت كالمعين والينبوع لعلم الأصول والفروع، موضحا لما تضمنته من المشكلات والغوامض، كاشفا عمَّا اشتملت عليه من السنن والفرائض، باحثا عن ألفاظها ومعانيها، مستخرجا (جـ) لأسرارها المودَعَةِ فيها، ¬

_ (أ) في أبسم الله الرحمن الرحيم صَلَّى الله على محمد وآله وصحبه وسلم، وفي ب بسم الله الرحمن الرحيم وعليه أتوكل، وفي م بسم الله الرحمن الرحيم اللَّهم صل وسلم على محمد وآله. (ب) في أ، م والسلام. (جـ) في س ومستخرجا.

جاليا لعرائسها على الخُطَّابِ، مُبَرزًا لنفائسها من وراء حجاب الخطاب، صادعًا عن الحق بالبرهان، ملغيًا لما ألغاه الدليل فَوَهَنَ وهَانَ، معتمدًا في ذلك على ما قيل عن أهل الفضائل والعقول: العلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول. وأرجو من الله عزَّ وجلَّ أن يأتي هذا الإملاء بَحرًا يقذف ليتائم دُرَرِه ويُنافَسُ (أ) في لآلئِه وجواهره، وأن يكون كالقاعدة الكلية للدين، والمرتِع المَرِي والمشرَبِ الرَّوِي لطلبة المسلمين، فأوصيك أيها الناظر فيه المجيلُ طرفَهُ في أثنَائِه ومضطَاوِيه، أن لا تسارع فيه إلى إنكار خلاف ما ألِفَهُ وهمك، وأحَاطَ به عِلمُك. بل أجِد النَّظرَ وَجَدده، وأَعِد الفِكرَ ثم عاوده، فإنِّك حينئذٍ جدير بحصول المراد. ومن يهد الله فما له من مُضِلٍّ، ومن يضلل الله فما له من هادٍ. وأعلم أن الشَّيخ محيي الدين رحمه الله تعالى كان قد وعد في هذه الأربعين أن يضع لها شرحًا يكون لقُفْلِهَا فتحًا، وإنه وَفَى بِمَا وعَد وسَحَّ سَحَابُه إذ رَعَد. ورأيت هذا الشرح مجلدا لطيفا يكون على التقريب والتَّشبِيهِ قدر نصف أو ثلثي التنبيه (¬1). ولم يتهيأ لي أن أطالعه ولا شيئًا منه فلذلك لم أعرف مقصوده (ب) فيه ومغزاه، ولم أحط بمبدأ قوله فيه ومنتهاه، غير أنِّي التزمت ¬

_ (أ) في س ويتنافس. (ب) في ب مقصده. (¬1) مختصر في الفقه الشَّافعي لأبي إسحاق إبراهيم بن عليّ بن يوسف الشيرازي (ت 476) طبع في بعض طبعاته في 168 صفحة.

في هذا الشرح ما وُفِّقتُ لالتزامه، وأسأل (أ) الله عزَّ وجلَّ التوفيق لإتمامه، وهو أنِّي أعمد إلى كل حديث فَأَتَكَلَّمُ عليه لفظًا ومعنًى من جهة اللغة، والفروع والأصول، والمعقول والمنقول، وأرُدُّ معناه إلى ما يُنَاسِبُهُ من آي الكتاب مُتَوخِّيًا للتحقيق والصواب مُتَصَرفًا في ذلك بقانون أصول الفقه من تخصيص عام، وتعميم خاص، وتقييد مطلق، وإطلاق مُقيّدٍ، وتبيين مجمل، وغير ذلك، وإن عارض الحديث معارض من كتاب أو سنةٍ تَلَطفتُ في دفع التناقض وكشف شبهة التعارض إلى غير ذلك من الفوائد التيَّ تَسنَحُ في مواضعها وتجمَحُ القريحةُ إلى تقريب شاسعها. كُلُّ ذلك بحسب مبلغي من العلم، وما أوتيته من الفهم. اللَّهُمَّ فهذا ما أملك فهب لي واستوهب لي ما لا أملك، واجعله خالصًا لوجهك مُقَربًا إليك (ب) مقبولا عندك، لا ربَّ غيرك ولا خير إلَّا خيرك، والحمد لله. القول على الخطبة (جـ). وسُميَّت خُطبة لأنَّ العرب كانوا إذا ألَمَّ بهم الخَطبُ وهو الأمر العظيم خطبوا له، فيجتمع بعضهم إلى بعض فيحتالون في دفعه فاشتُقَّ اسم الخُطْبَةِ من الخَطْبِ. قوله: "الحمد لله رب العالمين" كأن الشَّيخ رحمه الله تعالى أحبَّ افتتاح كتابه بما افتتح به كتاب الله عزَّ وجل. والحمد: قيل. هو الشكر، فهما مترادفان. وقيل: الحمد بالقول بدليل {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [سورة النمل: 60] ¬

_ (أ) في ب ونسأل الله. (ب) في م لديك. (جـ) في ب في الخطبة.

والشكر بالعمل بدليل {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سورة سبأ: 14] وقيل: الحمد هو المدح بصفات الذّات كالعلم والشجاعة، والشكر هو المدح بصفات الفعل كالعطاء والطاعة. والأشبه أن الحمد هو المدح بجميع الصفات الجميلة ذاتية كانت أو فعليَّةً لأنَّه ضد الذم المترتب على جميع الصفات القبيحة ذاتيةً كانت أو فعليَّةً، والضدان يتعاقبان على محل واحد، فالمدح والذم يتعاقبان على جميع الصفات. والشكر: هو الاعتراف بالنعمة والثناء على من أسداها بالقلب والجوارح لأنَّه ضد الكفر الذي هو جحد النعمة وترك الثّناء على من أسداها بشيء من ذلك. قال الشاعر (¬1): أفادتكُمُ النعماءُ مِنِّي ثلاثةً ... يَدِي وَلِسَانِي والضَّمِير المُحَجَّبَا أي: أنهم استحقُّوا عليه بالإنعام طاعة يده، ولناءَ لسانه، ومحبَّةَ قلبه، وهو ضميره. والربُّ: قيل: هو المالك، وقيل: المُرَبي، وقيل: السيد، وقيل: المصلح، وكل هذه صفة الله عزَّ وجل مع خلقه. والعالمين (أ): جمع عالم وهو في الأصل ما سوى الله عزَّ وَجَلَّ إن اشتُقَّ من العلامة لكونه عَلَمًا على خالقه، والعقلاءُ خاصَّة من الجِن والإنس ¬

_ (أ) في ب، م والعالمون. (¬1) البيت بلا نسبة في "الكشاف" للزمخشري 1/ 7 (طبعة دار المعرفة)، قال خضر الموصلي في "الإسعاف" 1/ 12 أ (نسخة المكتبة المتوكلية لصنعاء 41 تفسير): "لم أر من نسبه لقائل، وفي بعض الحواشي أن المخاطب به عليّ بن أبي طالب".

والملائكة ونحوهم إن اشتُقَّ من العِلْم لاختصاصه بهم. والمراد بالعالمين هاهنا أصناف المخلوقات. سمي كل صنف عالَما كما يقال: عالَم الغيب، وعالَم الشهادة، وعالم العقل، وعالم الطبيعة، وعالم الحِسِّ، وعالم الخيال، والعالم العلوي، والعالم السفلي ونحو ذلك. وروي عن قتادة (أ) وغيره من أهل العلم أن لله عزَّ وجلَّ ثمانين ألف عالم، كل عالم كالدنيا وما فيها. وقوله عَزَّ وجل: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [سورة الفرقان: 1] {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [سورة الجاثية: 16] وقوله عليه الصَّلاة والسلام: "فاطمة سيِّدَةُ نساء العالمين" (¬1) أراد به خصوص العقلاء. وقوله عَزَّ وجل {رب العالمين} أراد به عموم الموجودات، بدليل {وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [سورة الأنعام: 164] وكذلك {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [سورة الأنبياء: 107] لأنَّ بركته عليه الصَّلاة والسلام عمَّت الموجودات لأنَّه عَرَّفَ النَّاسَ أحكامها، وما ينبغي فيها وما لا ينبغي فيها. قوله: "قيوم السموات والأرضين" أي: الذي يقومان به ويستقلَّان بقدرته وحكمته. قال الله عزَّ وجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [سورة فاطر: 41] وقال الله عزَّ وجل {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إلا بِإِذْنِهِ} [سورة الحج: 65]. ¬

_ (أ) في س وروى قتادة، وفي م عن قتادة أو غيره. (¬1) رواه البُخاريّ 3/ 1327 من حديث عائشة.

والقَيَوم أصله قَيْوُوْم على فيعول من أبنية المبالغة. وقيّام أيضًا، وأصله قَيْوَام على فيعال، كذا (أ) قرئ (¬1) {الحيُّ القيَّام}. قوله "مدبر الخلائق أجمعين" الخلائق جمع خليقة وهي الأشياء المخلوقة فعيلة بمعنى مفعولة، ومدبرها أي مصرف أمورها وأحكامها بحسب ما تقتضيه الحكمة، لا أقول: بحسب ما تقتضيه المصلحة لأنَّ في الخلق من عاقبته (ب) أعظم المفاسد وهم الكفار عاقبتهم إلى النَّار. اللهُمَّ إلَّا أن يراد مدبر الخلائق في الدُّنيا، فيصح أن يقال: هو مصرف أمورهم بحسب المصلحة لأنَّ عموم رحمة الله عزَّ وجلَّ ورأفته اقتضت إفاضة المصالح في الدُّنيا على البَر والفاجر والمؤمن والكافر، فتكون الخلائق جمع خليقة وهي الخلق (¬2) والطبيعة. ومنه قوله: وإن تكُ قَدْ ساءَتكِ مِنِّي خليقَةٌ (¬3): البيت. قوله: "باعث الرسل صلاته وسلامه عليهم إلى المكلفين": أي مرسلهم. وفي التنزيل {وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [سورة الشعراء: 36] وصلوات الله عزَّ وجلَّ رحمته المترادفة، وسلامه تحيته، أو تسليمه إياهم من كل مكروه، ¬

_ (أ) في ب، م كذلك. (ب) في ب غايته. (¬1) قراءة شاذة، ينظر المحتسب لابن جني 1/ 151. (¬2) قال الفقيه ابن حجر الهيتمي: وحمل الخلائق على أنه جمع خليقه بمعنى الطبع خلاف الظاهر. فتح المبين لشرح الأربعين. (¬3) البيت رقم 19 من معلقة امرئ القيس.

فهو السلام ومنه السلام. والمكلفون في عرف الشرع هم العقلاء البالغون من الثقلين الجن والإنس وهم المراد هنا. واختلف في الملائكة هل هم مكلفون أم لا، والتحقيق أنهم مكلفون بالطاعات العملية بدليل: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [سوره التحريم: 6] وهذا (أ) حقيقة التكليف. أما الإيمان بالتوحيد ونحوه من العقائد فليسوا مكلفين به لأنَّه ظاهر مكشوف لهم فتكليفهم به تحصيل الحاصل. قوله: "لهدايتهم" أي: باعث الرسل لأجل هداية المكلفين "وبيان شرائع الدين" أبي: موارده التي يرد النَّاس عليها منه. قلت: لو قال لهدايتهم ببيان شرائع الدين لعله كان أجود ليكون ذاكرا للهداية وسببها. قوله: "بالدلائل القطعيّة وواضحات البراهين". الدلائل جمع دِلالة بكسر الدل وفتحها والمراد بها هاهنا الدليل، وهو في اللغة المرشد إلى المطلوب، وفي اصطلاح الأصوليين ما أمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى علم أو ظن، وهو على ضربين: قاطع وهو ما مقدماته قاطعة نحو كل إنسان جسم، وكل جسم مركب، فكل إنسان مركب، وغير قاطع وهو ما مقدماته غير قاطعة نحو الطمأنينة ركن في الصَّلاة، وكل ركن واجب، أو الوضوء عبادة، وكل عبادة يشترط لها النيَّة. وأقل ما يتركب منه الدليل ¬

_ (أ) في م وهذه.

مقدمتان وقد يتركب من أكثر. والبرهان هو الحجة القاطعة أيضًا ولا شَكَّ أن الرسل صلوات الله عليهم جاءوا بالآيات المعجزات (أ) دليلًا على صدقهم فكأَنَّ صدقهم مستفاد من دليل مؤلف من مقدمتين قاطعتين على هذا النظم: الرسل جاءوا بالمعجزات، وكل من جاء بالمعجزات فهو صادق، فالرسل صادقون. أما الأولى فثابتة بالحس فإنَّ النَّاس شاهدوا قلب العصا حَيَّة، وإحياء الموتى، وانشقاق القمر، ونحوها من المعجزات. وأمَّا الثَّانية فثابتة بالعقل ضرورة (ب) لأنَّ المعجزات خوارق العادات، وخرق العادات لا يقدر عليه إلَّا الله عزَّ وجلَّ، والله عزَّ وجلَّ لا يؤيد به (جـ) كاذبًا، وقد أيَّدَ به هؤلاء الرسل عليهم الصَّلاة والسلام، فليسوا كاذبين، فهم صادقون بالضرورة، فقام الدليل على صدقهم وانتظم البرهان على حَقِّهم. والواضحات التي لا إشكال فيها ولا غُبَار عليها. قوله: "أحمده على جميع نعمه، وأسأله المزيد من فضله وكرمه، وأشهد أن لا إله إلَّا الله الواحد القهار، الكريم الغفار، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله" أعلم أن لنبيَّنَا - صلى الله عليه وسلم - أسماءً كثيرة أفرد لها ابن فارس (¬1) بشرحها تصنيفًا. ونحن نقيم الدليل على أن أشرفها عبد الله، وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يدع ¬

_ (أ) في م المعجزة. (ب) في ب ضرورة أن. (جـ) في س، م بذلك. (¬1) هو الإمام أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا الرازي ت 395 وكتابه المشار إليه طبع باسم "أسماء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعانيها" بتحقيق ماجد الذهبي.

بهذا الاسم إلَّا في أشرف مقاماته وهي مقام الإسراء ونحوه، ومقام الاحتجاج على رسالته بمعجزات القرآن، ومقام دعاء المكلفين إلى الإيمان بتلاوة القرآن. ففي المقام الأول دُعِيَ {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [سورة الإسراء: 1] {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [سورة النجم: 10] وفي المقام الثَّاني قال الله عزَّ وجلَّ {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [سورة البقرة: 23] وفي المقام الثالث {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [سورة الجن: 19] يعني الجن لما دعاهم إلى الإيمان (¬1). وكذلك لما خُير النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بين أن يكون ملكًا رسولًا، أو عبدًا رسولًا، فاختار عليه الصَّلاة والسلام أن يكون عبدًا رسولًا (¬2)، لعلمه بشرف العبودية لله عزَّ وجلَّ وفي هذا المعنى قال القائل: يا قَومِ قَلبِي عندَ زَهرَاءِ ... يَعرِفُهُ السَّامِعُ والرائِي لا تَدعُني إلَّا بِيَا عَبدَهَا ... فإنَّه أشرفُ أسمائِي (¬3) والسبب في ذلك أن الإلاهية والسيادة والربوبية إنَّما هي بالحقيقة لله عزَّ وجلَّ لا غير، والعبودية بالحقيقة لمن دونه، فإذا (أ) كان في مقام العبودية فهو في رتبة الحقيقة، ورتبة الحقيقة أشرف المراتب، إذ ليس بعد الحقيقة إلَّا ¬

_ (أ) في س فان. (¬1) قارن بفتح المبين لشرح الأربعين لابن حجر الهيتمي ص 18. (¬2) رواه أحمد في المسند 13/ 17 طبعة شعيب الأرنؤوط وصحَّح سنده. (¬3) البيتان في الدر المصون للسمين الحلبي 1/ 195 والبيت الثَّاني أورده محمد بن الطَّيِّب الفاسي في شرح كفاية المتحفظ، وخرجه محققه.

المجاز، ولا (أ) بعد الحق إلَّا الضلال. قوله: "وحبيبه وخليله" أعلم أن حبيب الله عزَّ وجلَّ من أحبه بدليل: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [سورة المائدة: 54] ومحبة الله عزَّ وجلَّ على حسب المعرفة به، وأعرف النَّاس بالله عزَّ وجلَّ نَبِيُّنَا محمد - صَلَّى الله عليه وسلم -، وهو أحبَّهُم له وأحَقُّهُم باسم الحبيب. والخليل هو الحبيب الخاص الذي كأنَّه يتخلل قلبَ صاحبِهِ بشدَّةِ محبته له، والنبي - صلى الله عليه وسلم - خليل الله باعتبار المحبة الخاصَّة وقد قال عليه الصَّلاة والسلام: "لو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن صاحبكم خليل الله (¬1) " وأعلم أن الخُلَّة لما كانت أخَصَّ من المحبَّةِ وأعلى رتبةً كان أحِبَّاءُ الله عزَّ وجلَّ كثيرًا، ولم تحصل (ب) الخُلَّةُ إلا لاثنين إبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما (جـ). قوله: "أفضل المخلوقين" لقوله عليه الصَّلاة والسلام: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر (¬2) " مع أن ولد آدم أفضل أنواع المخلوقات، فهو عليه الصَّلاة والسلام سيد أفضل أنواع المخلوقات، فهو أفضل المخلوقات بالضرورة. ¬

_ (أ) في م وما. (ب) في س ولم تجعل. (جـ) في ب صَلَّى الله عليهما وسلم. (¬1) أخرجه البُخاريّ 1/ 178 ومسلم 4/ 1855 من حديث أبي سعيد الخدري. (¬2) أخرجه أحمد 3/ 2 والترمذي 5 / وابن ماجه 2/ 1440 من حديث أبي سعيد الخدري، قال التِّرمذيُّ: هذا حديث حسن.

فإنَّ قيل: كيف هذا مع قوله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "لا تفضلوني على يونس، ومن قال أناخير من يونس بن متَّى فقد كذب" (¬1). قلنا: هذا منه على جهة التواضع، أو حفظًا لمنصب الأنبياء عمن ينتقِصُهُم بواسطة تفضيله عليهم، أو أنه قال ذلك قبل أن يوحى إليه أنه أفضل البشر. قوله: "المكرم بالقرآن العزيز المعجزة المستمرة على تعاقب السنين" أعلم أن القرآن يجوز أن يُسمَّى معجزًا وصفًا له باعتبار لفظه أو كونه كتابًا معجزًا، ويجوز أن يُسَمَّى معجزة على معنى أنَّه آية معجزة. ومِنْ فَضْلِ القرآنِ على سائر المعجزات دوامه وانقطاعها، واختلف النَّاس في قدمه، ولم يختلفوا في حدوثها. وفي الصحيح عنه (أ) - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما من نبي من الأنبياء إلَّا وقد أوتى ما مثله آمن عليه البشر، وإنَّما كان الذي أوتيته وحيًا، وإنّي أرجوا أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة" (¬2) قلت: وما ذاك إلا لأنه معجز مُستَمِرٌّ دائم بين أظهر النَّاس يرشدهم إلى الإيمان بمن أنزل عليه على تعاقُب الأعصار واختلاف الليل والنهار، فبالضرورة تكثر اتباعه، بخلاف باقي معجزات الرسل فإنَّها لولا تصديق القرآن لها لما آمن بها إلَّا قليل لانقطاع وجودها ¬

_ (أ) في م أنه عليه السلام قال. (¬1) أخرجه البُخاريّ 4/ 1681 ومسلم 4/ 1846 من حديث أبي هريرة بنحوه. (¬2) أخرجه البُخاريّ 4/ 1905 ومسلم 1/ 134 من حديث أبي هريرة.

وعدم إحساس النَّاس بها. قوله: "وبالسنن" أي: المكرم بالسنن "المستنيرة للمسترشدين" أعلم أن سنة النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - على ضربين: أحدهما: ما أوحي إليه وحيًا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن جبريل يأتيني بالسنة كما يأتيني القرآن" (¬1). والثاني: ما ألهمه الله عزَّ وجلَّ التكلم به بيانًا للقرآن، وفي كلا الوجهين له إكرام، أعني الوحي والإلهام. والمستنيرة ذات النور كناية عن الهدى الذي تضمنته. والمسترشد طالب الرشاد. قوله: "المخصوص بجوامع الكلم وسماحة الدين" أما الأول: فأشار (أ) إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارًا" (¬2) أى: أوتيت الكلم الجوامع وهي المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرة. ولا نعلم لأحد أجمع من كلماته ولا أكثر وقد تضَمَّنَت دواوين الحديث، وسيأتي التنبيه في أثناء هذا الكتاب على بعضها إن شاء الله تعالى. وأمَّا ¬

_ (أ) في ب، م إشارة. (¬1) رواه الخطيب في كتابه الفقيه والمتفقه 1/ 66، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 1/ 90 من قول حسَّان بن عطية التَّابعي الجليل، وعزاه الحافظ ابن حجر في الفتح 13/ 291 إلى البيهقي، وصحّح سنده. (¬2) ورد في هذا المعنى عدة أحاديث، وأقربها إلى اللفظ الذي ساقه المؤلف حديث عمر بن الخطاب رواه العقيلي في كتابه الضعفاء الكبير 2/ 21 وفي سنده خليفة بن قيس ولم يصح حديثه، وحديث ابن عباس رواه الدارقطني 4/ 144 وفي سنده زكريا بن عطية منكر الحديث.

الثَّاني: فأشار (أ) إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "بعثت بالحنفية السَّمحة السَّهلة" (¬1) وقوله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "الدين يُسر" (¬2) ولا يعلم في الأديان أسمح من دينه - صلى الله عليه وسلم -، يعرف ذلك من استقرى الأديان. ويكفي من ذلك قوله عزَّ وجلَّ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [سورة البقرة: 185] {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [سورة المائدة: 6] {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [سورة الأنفال: 66] {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [سورة البقرة: 178] مع قوله عزَّ وجلَّ: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [سورة الأعراف: 157] قيل: كانت بنو إسرائيل يقرضون مَحَلَّ البول من جلودهم إذا أصابهم، ولا يُجزِئُهم غسله، وإذا أتى أحدهم ذنبا أصبح مكتوبًا على باب داره، فيقام عليه حده، وكانت توبتهم بقتل أنفسهم، وكان موجب القتل عندهم القصاص عينا ولا يقبل الدية. وفي الصحيح "فضلنا على الأمم بخمس" (¬3) الحديث كل هذا ونحوه من سماحة هذا الدين وتشديد غيره. قوله: "صلوات الله عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين" أي باقيهم اشتقاقًا لها من السؤر بالهمزة، وهو بقية الماء ونحوه في إناء وغيره، ¬

_ (أ) في ب، م فإشارة. (¬1) رواه الخطيب في تاريخ بغداد 7/ 209 من حديث جابر، وقريب منه ما رواه أحمد 6/ 116 من حديث عائشة، وحديث جابر فيه ضعف، وحديث عائشة صحيح. (¬2) رواه البُخاريّ 1/ 23. (¬3) رواه البُخاريّ 1/ 128 ومسلم 1/ 370 من حديث جابر بنحوه.

ويستعمل أيضًا بمعنى جميع اشتقاقًا لها من سُورِ المدينة لأنَّه جامع محيط بما وراءه منها. قوله: "وآل كل وسائر الصالحين" أي: آل كل واحد من النبيين لكن حذف المضاف إليه لدلالة الكلام عليه، نحوه {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [سورة النمل: 87] وقبل وبعد أشباه ذلك. قوله: "أما بعد" قيل: هي فصل الخطاب لأنَّ المتكلم يفصل بها بين خطبته وبين غرضه. وأول من نطق بها داود لقوله عزَّ وجلَّ: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} (¬1) [سورة ص: 20]. وقيل: قُسُّ بن ساعدة الإيادي، وقيل: يعرب بن قحطان فعلى هذا فصل الخطاب الذي أوتيه داود هو: البَينة على المدَّعي واليمين على من أنكر (¬2). قوله: "فقد رُوينَا عن عليّ بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء وابن عمر وابن عباس وأنس بن مالك وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم من طرق كثيرات بروايات متنوعات أن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - قال". أكثر النَّاس يقولون: رَوَينا بفتح الواو مخففةً من روى يروي إذا نقل عن غيره (أ)، مثل رمي يرمي، والأجود رُوينَا بِضم الراء وكَسْرِ الواو مُشَدَّدَةً أي: ¬

_ (أ) في ب إلى غيره. (¬1) زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 6/ 325. (¬2) أخرجه أبو جعفر الطبري في جامع البيان 23/ 140 بنحوه.

رَوَّانَا مَشَايِخُنَا، أي: نقلوا لنا فسمعنا، كذا حَرَّر هذه اللفظة بعض أئمة (أ) الحديث. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من حفظ على أمتي أربعين حديثًا بعثه الله تعالى يوم القيامة في زمرة الفقهاء والعلماء"، وفي رواية "بعثه الله فقيها عالمًا"، وفي رواية أبي الدرداء "كنت له يوم القيامة شافعًا وشهيدًا"، وفي رواية ابن مسعود "قيل له: ادخل من أي أبواب الجنةِ شئتَ"، وفي رواية ابن عمر "كُتِبَ في زمرة العلماء، وحُشِرَ في زمرة الشهداء". قلت: ذكر المصنف رحمه الله تعالى في آخر الكتاب أن معنى حفظها أي (ب): ينقلها إلى المسلمين وإن لم يحفظها ولا عرف معناها، هذا حقيقة معناه، وبه يحصل انتفاع المسلمين لا بحفظ ما ينقله إليهم، انتهى كلامه. قلت: الحفظ هو: ضبط الشيء ومنعه من الضياع، فتارة يكون حفظ العلم بالقلب وإن لم يكتب، وتارة في الكتاب وإن لم يحفظ بقلبه، والمراد ما ذكره الشَّيخ، فلو حفظ في كتابه ثم نقله إلى النَّاس دخل في وعد الحديث وإن لم يحفظها في قلبه، ولو حفظها في (جـ) قلبه ولم ينقلها إليهم لم يدخل في وعد الحديث ولو كتبها في عشرين كتابًا. وبهذا المعنى فَسَّرَ البُخاريّ قوله عليه الصَّلاة والسلام: "إن لله عزَّ وجلَّ تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها ¬

_ (أ) في م مشايخ. (ب) في ب، م أن. (جـ) في م بقلبه.

دخل الجنة" (¬1) أي: من حفظها مَسْتَظهِرًا. قلت: لا يخلو الشخص في حفظ هذه الأحاديث من أن يحفظها بكتابه وقلبه، أو يحفظها في أحدهما دون الآخر، وعلى التقديرات فإما أن ينقلها إلى النَّاس أولًا ينقلها فهي ستة أقسام، وحكمها ظاهر. وأعلم أن هاهنا تحقيقًا وهو أن الناقل للحديث إلى المسلمين لينتفعوا به إما أن يكون قد استخرجه بطريق الإسناد والاجتهاد كما استخرج البُخاريّ ومسلم ونحوهما من أئمة الحديث، أو نقله (أ) من دواوين الأئمة المفروغ منها كالمصنف في نقله هذه (ب) الأربعين من الصحيحين وغيرهما، فإنَّ استخرجه بالإسناد والاجتهاد دخل في وعد الحديث المذكور بلا توقف، وإن نقلها من الدواوين المفروغ منها ففي دخوله نظر، لأنه لم يحفظه هو على الأمة، إنَّما حفظه صاحب الكتاب المُدَوَّنِ المفروغ منه الذي تعب في تخريجه وإسناده، وإن دخل في وعد الحديث فلا يكون كدخول المُسْنِد المجتهد، بل يكون له أجر إفراد الحديث من هذا الديوان وتقريب تناوله على من أراده لا أجر إسناد واجتهاد. وحاصل هذا أنه لم يحفظه الحفظ التَّام فلا يدخل في الوعد الدخول التَّام. هذا (جـ) مقتضى النظر عملًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ثوابك على ¬

_ (أ) في س، م أو ينقله. (ب) في م هذه. (جـ) في م على. (¬1) رواه البُخاريّ 6/ 2691 من حديث أبي هريرة وقال في: {أحصيناه} حفظناه.

قدر نصبك" (¬1) وقوله: "أفضل الأعمال أحمزها" (¬2) أي: أشقها ونحوه. ولله عزَّ وجلَّ أن يتفضل عليه بالأجر التامّ وإن لم يحفظ الحفظ التَّام، كما ثبت في صحيح مسلم أنه عليه الصَّلاة والسلام قال: "من سأل الله عزَّ وجلَّ الشهادة خالصًا من قلبه بلَّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه" (¬3)، ونحوه. وهاهنا تنبيه وهو أن من حفظ على الأمة أربعين حديثًا فإنَّ كانت صِحاحًا أو حسانًا دخل في وعد الحديث المذكور، وإن كانت ضعيفة فإنَّ كانت في الترغيب وفضائل الأعمال دخل أيضًا لأن الضعيف يعمل به في ذلك، وإن كانت في الأحكام وبيان الحلال والحرام لم يدخل، لأنَّ الضعيف لا يعمل به في ذلك، فإنَّه لم يحفظ على الأمَّةِ ما ينفعهم. قوله: "واتفق الحفَّاظ على أنه حديث ضعيف وإن كثرت طرقه" قلت: هذا الحديث: "من حفظ على أمَّتي أربعين حديثًا" إلى آخره ذكره الشَّيخ أبو الفرج ابن الجوزي في "الموضوعات" أو في كتاب "العلل المتناهية" من رواية جماعة من الصّحابة (¬4) بطرق كثيرة وضعف الجميع بالقدح في أسانيدها، ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ 2/ 634 ومسلم 2/ 877 من حديث عائشة بنحوه. (¬2) أورده أبو عبيد في غريب الحديث 4/ 233 قال السخاوي في المقاصد الحسنة ص 69 والسيوطي في الدرر المنتثرة ص 51: "لا يعرف". وذكراه بلفظ: "أفضل العبادات أحمزها". ومعنى أحمزها: أمتنها وأقواها وأشدها. (¬3) رواه مسلم 3/ 1517 من حديث سهل بن حنيف. (¬4) رواه ابن الجوزي في العلل المتناهية في الأحاديث الواهية 1/ 111 - 122 من حديث عليّ وابن مسعود ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء وأبي سعيد وأبي هريرة وأبي أمامة وابن عباس وابن عمر وابن عمرو وجابر بن سمرة وأنس وبريدة، ولم يروه في الموضوعات.

ولم يصحح منها طريقًا واحدًا، وحسبك من حديث يكون في الموضوعات ونحوها، وإن كان الشَّيخ أبو الفرج تسامح في بعضها لكن هذا الحديث لم يقع فيه تسامح، بل هو ضعيف بحسب قانون علم النقل، على موجب العدل. فإن قيل: إذا كان هذا الحديث لم يصح فكيف أتعب جماعة من الأئمة أنفسهم في تخريج الأربعينات اعتمادا عليه؟. فجوابه من وجهين". أحدهما: أنهم لم يعتمدوا عليه، بل على ما اعتمد عليه المصنف في تخريج هذه الأربعين ممَّا ذكره بعد من الأحاديث الصحيحة. والثاني: أن هذا الحديث وإن لم يصح فهو من باب الترغيب وفضائل الأعمال والعمل فيها جائز باتفاق العلماء (¬1) كما حكاه المصنف بعد. قوله: "وقد صنف العلماء رضي الله تعالى عنهم في هذا الباب ما لا يحصى من المصنفات" قلت: كأنه ذكر هذا تَأَسيًا واقتداءً بهم، وقد صرح بهذا بعدُ. ثم ذكر جماعة منهم بأعيانهم وأدرج من لم يعينه منهم بقوله (أ): "وخلائق لا يحصون من المتقدمين والمتأخرين" وممن لم يُسمهِ الطَّائي صاحب "الأربعين الطائية" (¬2)، وقد سمعناها ببغداد، والشيخ عز الدين بن عبد السلام، ¬

_ (أ) في م في قوله. (¬1) في نقل الاتفاق نظر، فمذهب مسلم وغيره من المحدثين والنقاد منع العمل بالضعيف في الفضائل. يراجع للتفصيل مقدمة "صحيح الترغيب" للألباني. (¬2) هو أبو الفتوح محمد بن محمد الطَّائي ت 555 حقق الأربعين له د / علي حسين البواب وفيه أربعون حديثًا مسنده وشرحها.

أو ولده جمع "الأربعين الإلاهية" (¬1) وهي أحاديث يرويها النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - عن ربه عزَّ وجلَّ كالحديث الرابع والعشرين من هذه الأربعين، والشيخ زكي الدين المنذري جمع أربعين حديثًا (¬2) لكن أظن جمعه إياها بعد المصنف رحمهما الله تعالى. قال: "ثم محمد بن أسلم الطُّوسي (¬3) العالم الرباني" قلت: الرباني هو الذي يربي النَّاس بعلمه، وقيل: هو الذي انتهى علمه إلى معرفة ربه. قوله: "وقد استخرت الله تعالى في جمع أربعين حديثًا اقتداء بهؤلاء الأئمة الأعلام وحفاظ الإسلام" قلت: تستحبُّ استخارة الله تعالى عزَّ وجلَّ في جميع الأمور لأنها استشارة للرب، والمستشار مؤتمن. وحديث الإستخارة ثابت في الصحيح من رواية جابر (¬4). وفي بعض السنن: "من سعادة ابن آدم الرضا بالقضاء واستخارة الله في أموره، ومن شقاوته ترك ذلك" (¬5) ¬

_ (¬1) الشَّيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي سلطان العلماء ت 660، وولده عبد اللطيف بن عبد العزيز ت 695 ينظر طبقات الشَّافعية الكبرى 8/ 1183، 1215 ولا أعرف الأربعين الذي ذكره المؤلف للوالد أو للولد. (¬2) هو الحافظ الكبير عبد العظيم بن عبد القوي المنذري ت 656 طبقات الشَّافعية 8/ 1187 طبع الأربعين له مرات. (¬3) هو شيخ الإسلام محمد بن أسلم بن سالم أبو الحسن الإمام الرباني الطُّوسي ت 242 طبع الأربعين له بتحقيق عبد الهادي الخرسة ومحمد خالد الخرسة. (¬4) 1/ 392. (¬5) رواه أحمد (3/ 54 طبعة شعيب الأرنؤوط) والترمذي 4/ 455 والبزار في مسنده البحر الزخار 3/ 305 وأبو يعلى في مسنده 2/ 60 من حديث سعد بن أبي وقاص، وسنده ضعيف، قال التِّرمذيُّ: هذا حديث غريب.

أو كما قال. ويستحب أيضًا الاقتداء بأئمة الدين والصدق فيما يفعلون من الخير ما لم (أ) يكن محل اجتهاد (ب) ويؤدي اجتهاده إلى خلافهم. قوله: "وقد اتفق العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال" قلت: لأنَّه إن كان صحيحًا في نفس الأمر فقد أعطى حقه من العمل به، وإن كان ضعيفًا كما ظهر من حاله فمقتضاه لا يترتب عليه تحليل ولا تحريم ولا هضم حقٍّ، بل هو طاعة والطاعة لا حرج على فاعلها. وقد جاء في بعض الأحاديث الضعيفة أيضًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من بلغه عنِّي ثواب عمل فعلمه حصل له أَجرُهُ وإن لم أكن قلته" (¬1) أو كما قال: فإنَّ قيل: العبادات ونحوها من فضائل الأعمال إِنما يُتَلقَّى عن الشرع، فإذا وقعت اعتمادا على الحديث الضعيف كان ذلك اختراعَ عبادةِ وشرعًا في الدين ما لم يأذن به الله عزَّ وجلَّ وهو مذموم شرعًا. قلنا (جـ): ليس هذا من باب اختراع العبادات وشرع ما لم يأذن به الله عزَّ وجلَّ، بل هو من باب ابتغاء فضل الله تعالى بضعف الأمارات. ثم إن إجماع العلماء على جواز العمل به (¬2) يدفع هذا السؤال لأنَّ إجماعهم أقوى منه. ¬

_ (أ) في س بما لم. (ب) في م الاجتهاد. (جـ) في ب قلت. (¬1) هذا حديث موضوع، وقد تكلم عليه الألباني في "الضعيفة" حديث 451 فليراجع. (¬2) لم يثبت هذا الإجماع، وسبقت الإشارة إلى ذلك.

قوله: "ومع هذا فليس اعتمادي على هذا الحديث، بل اعتمادي على قوله - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث الصحيحة: "ليبلغ الشاهد منكم الغائب" (¬1) وقوله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "نضرَّ الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها فأدَّاها كما سمعها" (¬2) ". قلت: أورد الشَّيخ على نفسه بالإشارة السؤال الذي أوردناه قبل، وهو إن كان الحديث المذكور ضعيفًا فكيف اعتمدت عليه في جمع الأربعين؟ وأجاب عنه بالجوابين السابقين: أحدهما: جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال (¬3). والثاني: أن اعتماده ليس على هذا الحديث الضعيف، بل على الأحاديث الصحيحة في الأمر بالتبليغ نحو "ليبلغ الشاهد منكم الغائب" قاله في خطبة (أ) الوداع وغيرها "بلغوا عنِّي ولو آية" "نضَّر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها فأدَّاها كما سمعها، فَرُبَّ مُبَلَّغ أوعى من سامع، ورب حامل ¬

_ (أ) في أحجة. (¬1) رواه البُخاريّ 1/ 37 من حديث أبي بكرة. (¬2) رواه أبو داود 4/ 68 والترمذي 5/ 33 وابن ماجه 1/ 84 من حديث زيد بن ثابت. قال التِّرمذيُّ حديث حسن. (¬3) لكن بشروط ذكرها بعض أهل العلم: قال الحافظ ابن حجر في تبيين العجب بمَّا ورد في فضل رجب 21: اشتهر أن أهل العلم يتسمَّحُون في إيراد الأحاديث في الفضائل وإن كان فيها ضعف، ما لم تكن موضوعة، وينبغي مع ذلك اشتراط أن يعتقد العامل كون ذلك الحديث ضعيفًا، وأن لا يشهر ذلك لئلا يعمل المرء بحديث ضعيف فيشرع ما ليس بشرع، أو يراه بعض الجهال فيظن أنه سنة صحيحة، وقد صرح بمعنى ذلك الأستاذ أبو محمد بن عبد السلام وغيره.

فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه غير فقيه". قال الشيخ: "نَضَّر الله امرءا" روي بتشديد الضَّاد وتخفيفها، والتشديد أكثر. ومعناه: حَسَّنَه وجمَّلَهُ انتهى كلامه. قلت: وقد رجَّح بعضهم التخفيف. ونَضَرَهُ من قوله عزَّ وجلَّ {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [سورة المطففين: 24] ورُبَّ مُبَلَّغٍ بفتح اللام. وكان بعض أهل العلم يقول: إنِّي لأرى في وجوه أهل الحديث نضرة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "نَضَّر الله امرءًا" الحديث. يعني أنها دعوة أجيبت. قوله: "وقد رأيت جمع أربعين أهمَّ من هذا كله، وهي أربعون حديثًا مشتملة على جميع ذلك" يعني ما جمعه فيه غيره من العلماء من أحاديثهم من أصول الدين وفروعه والجهاد والزهد والآداب والخطب كالأربعين الودعانية (¬1). قوله: "وكل حديثًا منها" أي: من أربعينه التي جمعها "قاعدة عظيمة من قواعد الدين" أي: أسٌّ من أساسه التي يبنى عليها "وقد وصفه العلماء بأنَّ مدار الإسلام عليه، أو نصف الإسلام أو ثلثه أو نحو ذلك" يعني: أنَّ كل حديث منها قد وصف بذلك. ¬

_ (¬1) نسبة إلى قاضي الموصل أبو نصر محمد بن عليّ بن عبيد الله بن ودعان الموصلي ت 494 قال ابن ناصر: رأيته ولم أسمع منه لأنَّه كان متهمًا بالكذب، وكتابه في الأربعين سرقه من زيد بن رفاعة، وزيد وضعه أيضًا، وكان كذابًا، ألف بين كلمات قد قالها النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، وبين كلمات من كلام لقمان والحكماء وغيرهم وطول الأحاديث. السير 19/ 164 طبع الأربعين له بتحقيق الشَّيخ على حسن الحلبي.

قلت: أول من علمناه قال نحو هذا أبو داود، حيث قال في سننه: إنه ضمَّنَها أربعة آلاف حديث، وثمانمائة حديث، ويكفي الإنسان من ذلك أربعة أحاديث: أحدها: "إنَّما الأعمال بالنيات". وثانيها: "الحلال بين والحرام بين". وثالثها: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ". ورابعها: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" (¬1). وقال بعض أهل العلم. هذه الأحاديث الأربعة عليها مدار الإسلام، فكل واحد منها ربع الإسلام، ثم أضاف النَّاس إلى هذه الأحاديث ما هو من جنسها من الأحاديث الكلية ممَّا ذكر المصنف. وسنبين وجه كون كل حديث منها قاعدةً كليةً من قواعد الإسلام إن شاء الله تعالى. قوله: "ثم ألتزمُ في هذه الأربعين أن تكون صحيحة ومعظمها في (أ) صحيح البُخاريّ ومسلم". قلت: خاصية هذه الأحاديث كونها مشتملة على قواعد الدين وكلياته، أما الصحة فقد شاركها فيها غيرها كثيرًا. قوله: "وأذكرها محذوفة الأسانيد ليسهل حفظها ويعم الانتفاع بها" يعني إذا سهل حفظها بحذف أسانيدها كثر حفاظها فعم الانتفاع بها. ¬

_ (أ) في م من. (¬1) ينظر سير أعلام النبلاء 13/ 210.

قلت: ولا جرم قد صَحَّح الله عزَّ وجلَّ مقصد الشَّيخ فإنَّ حفاظ هذه الأربعين والمشتغلين بها كثير، ولأن المقصود من الإسناد صحة الحديث وقد عُلِمَتْ صحة هذه الأحاديث بدونه، فاستغني عنه، ولهذا لم نعرِّجْ نحن على الكلام فيما يتعلق بالإسناد إلَّا نادرًا إذ كان غيره أهمَّ منه. قوله: "ثم أُتْبِعها بباب في ضبط خفي ألفاظها". قلت: قد بين في أول هذا الباب أنه يذكر فيه شيئًا من الواضحات أيضًا، وأنا أنقل ما يحتاج إليه من هذا (أ) الباب إلى مواضعه من الشرح إن شاء الله عزَّ وجلَّ. قوله: "وينبغي لكل راغب في الآخرة أن يعرف هذه الأحاديث لما اشتملت عليه من المهمات واحتوت عليه من التنبيه على جميع الطاعات" قلت: هذا كما قال، لأنَّ الشريعة إنَّما وردت لمصالح النَّاس وانتظام حالهم في معاشهم ومعادهم، فانتظام حال المعاش بوضع قانون المعاملات على وفق العدل والإنصاف، وبالجملة وضع العدل في جميع أمورهم، وانتظام حال المعاد بالتوحيد والطاعات العملية. ثم الطاعات إما متعلقة بالقلب كالإخلاص والإيمان ونحوهما، أو بالجوارح كالعبادات العملية ونحوها، وهذه الأحاديث مشتملة على أصول جميع ذلك كله، كما سننبِّهُ عليه في مواضعه إن شاء الله عزَّ وجلَّ. ¬

_ (أ) في ب في هذا.

الحديث الأول

الحديث الأول: عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه. رواه إمامًا المحدثين (¬1) أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردز به البُخاريّ، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري في صحيحيهما اللذين هما أصَحُّ الكتب المصنفة. أقول: الكلام على هذا الحديث في إسناده وألفاظه ومعانيه، أما إسناده ففي مواضع: أحدها: أن جد البُخاريّ بردز به بباء موحدة مفتوحة ثم راء مهملة ساكنة ثم دال مهملة مكسورة ثم زاي معجمة ساكنة ثم باء موحدة مفتوحة ثم هاء. قلت: ذكر أبو الحسين ابن الفرَّاء (¬2) في الطبقات: أن البُخاريّ ذهبت عينه صبيًّا فرأى في منامه الخليل إبراهيم عليه الصَّلاة والسلام فبرَّك (1) له عليها، ¬

_ (أ) في م فتفل. (¬1) رواه البُخاريّ 1/ 3 ومسلم 3/ 1515. (¬2) هو القاضي أبو الحسين محمد بن القاضي الكبير أبي يعلى محمد بن الحسين الحنبلي صاحب طبقات الحنابلة ت 526 السير 19/ 601.

أو دعا له فعادت (¬1)، فأرى أن قراءة النَّاس البُخاريّ لتفريج الكرب مأخوذ من هذا لأن مصنفه فرجت كربته (¬2). الموضع الثَّاني: عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من سمي أمير المؤمنين من الخلفاء (¬3) لا مطلقًا، بل أول من سمي أمير المؤمنين من المسلمين عبد الله بن جحش حين بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - في سريَّة في أول مقدمه المدينة فقال له أصحابه: بما ندعوك؟ فقال: أنتم المؤمنون وأنا أميركم، قالوا: فأنت إذًا أمير المؤمنين (¬4). وفي سريتهم أنزلت {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} (¬5) [سورة البقرة: 217 - 218] الآيتين. الموضع الثالث: هذا الحديث لم يروه عن النبي - صَلَّى الله عليه وسلم - إلا عمر، ولا عن عمر إلَّا علقمة بن وقاص الليثي، ولا عن علقمة إلَّا محمد بن إبراهيم التَّيميُّ، ولا عن محمد إلَّا يَحْيَى بن سعيد الأنصاري، ثم اشتهر عن يَحْيَى حتَّى رواه ¬

_ (¬1) طبقات الحنابلة 1/ 274. (¬2) ليست قراءة صحيح البُخاريّ وسرد أحاديثه في الشدائد والمحن سببا شرعه الله سبحانه وتعالى لدفعها، بل السبب الشرعي العمل بما فيه من السنة النبوية التي فيها أخذ بالأسباب لكل شيء حسبما يناسبه، ويقع هذا الإنحراف عن السبب الشرعي والعلاج الملائم حين يطرأ الخلل على عقيدة الأمة وسلوكها. (¬3) ينظر قصة تلقيبه بأمير المؤمنين في المعجم الكبير للطبراني 1/ 64، مستدرك الحاكم 3/ 81 - 82، وتاريخ الطبري 4/ 208، وطبقات ابن سعد 3/ 281، والأوائل للعسكري 1/ 226 - 227، ومجمع الزوائد 9/ 61. (¬4) ينظر طبقات ابن سعد 2/ 11. (¬5) ينظر جامع البيان لأبي جعفر الطبري 4/ 302 - 305.

أئمة الحديث السبعة البُخاريّ ومسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنَّسائيُّ وابن ماجه (¬1) وغيرهم من أصحاب المسانيد حتَّى صار شبيها بالمتواتر. الموضع الرابع قوله: "إماما المحدثين" هو باعتبار ما كانا عليه من الورع والزهد والجد والاجتهاد في تخريج الصحيح والتصريح به في كتابيهما حتَّى ائتَمَّ بهما في التصحيح كل من بعدهما. وإنَّما قال الشَّافعي رضي الله عنه: لا أعلم كتابًا بعد كتاب الله عزَّ وجلَّ أصح من موطأ مالك رضي الله عنه قبل ظهور الصحيحين، فلما ظهرا كانا أحقَّ وأولى باسم الصحة. وفي أيّ الكتابين أصحُّ أقوال: ثالثها: أنهما سواء، والمشارقة يرجحون البُخاريّ، وبعض المغاربة مسلمًا. ومما يدل على أن كتابيهما أصح كتب السنة أن المحدثين قسموا الحديث الصحيح إلى سبعة أقسام: أحدها: ما اتفقا عليه، وثانيها: ما انفرد به البُخاريّ، وثالثها: ما انفرد به مسلم، ورابعها: ما خُرجَ على شرطهما، وخامسها: ما خُرجَ على شرط البُخاريّ، وسادسها: ما خُرجَ على شرط مسلم، وسابعها: ما حكم بصحته إمام معتبر ولا معارض له. قلت: فلما قدَّموا الصحيحين ثم ما خُرجَ عليهما في أقسام الحديث الصحيح ومراتبه دلَّ على اتفاقهم على أنهما أصح الكتب المصنفة كما قال الشَّيخ. ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ 1/ 3 ومسلم 3/ 1515 وأحمد 1/ 25 وأبو داود 2/ 651 والترمذي 4/ 179 والنَّسائيُّ 1/ 58 وابن ماجه 2/ 1413.

وأمَّا ألفاظه: فمنها الأعمال وهي حركات البدن، ويتجوَّز بها عن حركات النفس. ومنها النيات وهي جمع نية بالتشديد والتخفيف، فإنَّ شُددَت كانت من نوى ينوي إذا قصد، وأصلها نِوْيَةٌ قلبت الواو ياءً ثم أدغمت في الياء بعدها فقيل نِيَّة، وإن خُفِّفَت كانت من وَنَى يَنِيْ إذا أبطأ وتأخر من قول الشاعر: مِسَح إذَا ما السَّابِحَاتُ عَلَى الوَنى ... أثَرْن الغُبَارَ بِالكَدِيْدِ المُرَكَّلِ (¬1) أي على الإبطاء والتأخُّرِ في الجَرْيِ. وذلك لأن النيَّة تحتاج في توجيهها وتصحيحها إلى إبطاء وتَأَخُّر. ولهذا ترى بعض النَّاس ييطئُ في نية الصَّلاة حتَّى تفوته الركعة الأولى مع الإمام (¬2). ومنها نوى ينوي إذا قصد، يقال: نواكَ الله بخير، أي قصدك به، ونَوَيْتُ فلانًا وانتويته بمعنى. ومنها الهجرة وهي في الشريعة: مفارقة دار الكفر إلى دار الإسلام خوفًا من الفتنة وطلبا لإقامة الدين، وفي الحقيقة مفارقة ما يكرهه الله عزَّ وجلَّ إلى ما يحب. وقد ثبت في الحديث "المجاهد من جاهد نفسه والمهاجر من هاجر ما نَهَى الله عنه" (¬3) وكانت الهجرة في الإسلام مرتين إلى الحبشة وإلى المدينة، ¬

_ (¬1) البيت رقم 51 من معلقة امرئ القيس. (¬2) لا ارتباط -لغة وشرعًا- بين وسوسة الموسوسين وتلاعب الشيطان بهم في عباداتهم وبين معنى النيَّة ودلالتها على التأخير والإبطاء. (¬3) رواه أحمد 6/ 21 وابن حبان (الإحسان 11/ 204) والطبراني في المعجم الكبير 18/ 309 من حديث فضالة بن عبيد بنحوه.

وأفضل المسلمين أصحاب الهجرتين إلَّا ما خَصَّهُ الدليل. وقوله عليه الصَّلاة والسلام "لا هجرة بعد الفتح" (¬1) يعني من مكّة لأنها حينئذٍ دار الإسلام. أما من سائر بلاد الكفر فهي باقية لقوله عليه الصَّلاة والسلام: "لا تنقطع الهجرة حتَّى تخرج (أ) الشّمس من مغربها" (¬2). ومنها قوله: "لدنيا يصيبها" أي يحصلها شَبَّه تحصيل الدُّنيا بإصابَة الغرض بالسهم بجامع حصول المقصود. وأمَّا معانيه ففيها أبحاث. الأول: (إنَّما) تقتضي تأكيد الحكم الواقع بعدها اتفاقًا. أما الحصر وهو: إثبات الحكم لما بعدها، ونفيه عما عداه ففيه للأصوليين أقوال (¬3): ثالثها: أنها تقتضيه عرفًا لا وضعًا. حجة الحصر مطلقًا من وجوه: أحدها: أنها صُدرَت (ب) في كلامهم والمراد بها الحصر فوجب أن تكون حقيقة فيه، إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة. الثَّاني: أنها في غالب مواردها للحصر فوجب أن تكون موضوعة له حملًا لها على غالب مواردها. ¬

_ (أ) في م تطَّلع. (ب) في م وردت. (¬1) رواه البُخاريّ 2/ 651 ومسلم 2/ 986 من حديث ابن عباس. (¬2) لم أقف عليه بهذا اللفظ. (¬3) ينظر التمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب الحنبلي 1/ 115.

الثالث: أن (إنَّما) مُرَكَّبَة من (إنَّ) التي هي للإثبات، و (ما) التي هي للنفي، فاقتضت إِمَّا نفى الحكم عما بعدها، وإثباته لغيره وهو باطل إجماعًا، أو إثبات الحكم لما بعدها ونفيه عن غيره، وهو المطلوب. واعترض على الأول بأنها وردت لغير الحصر فوجب أن تكون حقيقة فيه بعين ما ذكرتم. وعلى الثَّاني بمنع أنها في غالب مواردها للحصر. سَلَّمناه لكن لا نُسَلِّمُ أنَّ ذلك يوجب أنها موضوعة للحصر لجواز غلبة الاستعمال في غير ما وضعت له. وعلي الثالث: بأنَّا لا نُسَلِّمُ تركيبها من (إنَّ) و (ما) بل هي كلمة موضوعة من أصلها كذلك من غير تركيب. سلمناه لكن لا نُسَلِّمُ أن "ما" فيها للنفي، إذ لها معاني غير ذلك فتخصيص النفي من بينها هاهنا تحكم. سلمنا أنها النافية لكن لا نُسَلِّمُ أنَّ معنى مُفْرَدَيْهَا أعني "إنَّ" و "ما" بعد التركيب مَعْنَاهُمَا قَبلَهُ، لأنَّ التركيب يُغَيرُ معاني المفردات نحو "لولا" هي مُرَكَّبَةٌ من "لو" و "لا" وليس معناها معنى واحد منهما. حجة القائلين بعدم الحصر من وجوه: أحدها: أنها وردت لغير الحصر كثيرًا فلتكن حقيقة فيه كما سبق. الثَّاني: أنا إذا قلنا: إنَّما قام زيد، حسن أن يقال: فهل قام عمرو؟ ولو كانت للحصر لما حسن هذا الاستفسار (أ)، لأنَّه استعلام المعلوم وتحصيل الحاصل. ¬

_ (أ) في م الاستفهام.

الثالث: لو كانت للحصر لاستوى قولنا: إنَّما قام زيد، وقولنا: ما قام إلَّا زيد، لكنهما لا يستويان، إذ الثَّاني أقوى من الأول. الرابع: أن أسامة بن زيد رضي الله عنه روى "إنَّما الرِّبا في النسيئة" (¬1) ولم ينحصر الرِّبا فيها، بل هو ثابت في التفاضل. والجواب عن الأول: بالمعارضة بما سبق. وعن الثَّاني: بأنَّه إنَّما حسن الاستفسار لاحتمال أنها استعملت في غير الحصر مجازًا، لا لأنها ليست تقتضي الحصر. وعن الثالث: بالتزام استواء الصيغتين في الحصر، ولئن سلمنا تفاوتهما فيه لكن لا يلزم أنَّ (إنما) ليست للحصر، لجواز أن للحصر قدرًا مشتركًا استويا فيه، واختصت إحداهما بمزيد قوة فيه، كما اشتركت السِّين وسوف في معنى التنفيس، وكانت سوف أكثر تنفيسا لكثرة حروفها، وكذلك "ما قام إلَّا زيد" أكثر حروفًا من "إنَّما قام زيد" ولأن الحصر في "إنَّما قام زيد" معنوي، وفي "ما قام إلَّا زيد" لفظي، فاقتضى التصريح (أ) فيها بـ (ما) و (إلا) جمعًا بين النفي والإثبات بالمطابقة. وعن الرابع: أن ابن عباس من أهل اللسان وقد فهم من حديث أسامة الحصر وقال به، وإنَّما ثبت (ب) الرِّبا في التفاضل عند من ذهب إليه بأدلة أخر ¬

_ (أ) في م لفظي للتصريح. (ب) في م يثبت. (¬1) رواه مسلم 3/ 1218.

ناسخة لمفهوم الحصر في حديث أسامة، كما نسخ حدَّثنا عائشة ونحوه في التقاء الختانين (¬1) مفهوم حديث "إنَّما الماء من الماء" (¬2). حجة القائلين باقتضائها للحصر (أ) عرفا لا وضعا لأن الوضع غائب عنا، وعليه من الشبه ما سبق فلا يثبت بالشك. أمَّا في عُرفِ الاستعمال فنحن نجدهم يبادرون عند إرادة الحصر إلى "إنَّما" كما يبادرون إلى تصريح النفي والإثبات بما كان إلَّا كذا نحو قوله: ......................... وإنَّما ... يدافعُ عن أحسابهم أنا أو مثلي (¬3) ............................. ... وإنَّما العزة للكاثر (¬4) وقوله عزَّ وجلَّ {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [سورة التحريم: 7] كما قال عزَّ وجلَّ {وَمَا تُجْزَوْنَ إلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون} [سورة الصافات: 39] و {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ} [سورة طه: 89] كما قال {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إلا اللَّهُ} [سورة ص: 65] وهو كثير، فثبت أنها للحصر يعرف الاستعمال. قلت: الأشبه أنها ليست للحصر مطلقًا لقوله عليه الصَّلاة والسلام "ما من نبي من الأنبياء إلَّا وقد أوتي من الآيات ما آمن عليه البشر، وإنَّما ¬

_ (أ) في م الحصر. (¬1) رواه مسلم 1/ 272 من حديث عائشة. (¬2) رواه مسلم 1/ 269 من حديث أبي سعيد الخدري. (¬3) البيت للفرزدق ينظر ديوانه 2/ 153. وصدره: أنا الضامن الراعي عليهم، وإنَّما. (¬4) البيت للأعشي الكبير ينظر ديوانه 179. وصدره: ولستَ بالأكثرِ منهم حَصًى.

كان الذي أوتيته وحيًا" (¬1) فلو كانت إنَّما للحصر لانحصرت آيات النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - ومعجزاته في الوحي، وانتفى غيره بإقرار النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بحصرها في القرآن، فكنَّا نحتاج في إثبات غيره من المعجزات بعد ذلك إلى تعب لأنَّ الخصم يقول لنا: أنتم تثبتون لنبيكم من الآيات ما هو مصرح بنفيه، ومن المعلوم أن من نفى بَينَتَهُ لم تسمع منه بعد ذلك. أما إذا جعلنا إنَّما للإثبات المؤكَّد لا يلزمنا هذا السؤال، لأنَّا نقول: إنَّما (أ) أراد النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بهذا الكلام إثبات الوحي، لا نفي ما عداه، وقد ثبت له غيره من الآيات ما لا يُحصى، وقوله (ب) عليه الصَّلاة والسلام غير منكر له، فيجب القول بثبوته. فرع: من قال: إن (إنما) للحصر قال: إن حصرها قد يكون عامًّا نحو {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ} وقد يكون خاصًّا باعتبار أمر خاص نحو {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [سورة النساء: 171] أي: باعتبار إنكار منكري التوحيد (جـ) لا مطلقًا، فإنَّ لله عزَّ وجلَّ صفات كثيرة غير التوحيد (جـ). وللحصر أدوات وأنواع ذكرت في كتب الأصول. البحث الثَّاني: قوله: "الأعمال بالنيات" الأعمال مبتدأ وبالنيات ¬

_ (أ) في م أن النَّبيَّ عليه السلام إنما أراد. (ب) في م وهو عليه السلام غير. (جـ) في م الوحدانية. (¬1) سبق تخريج الحديث.

متعلق بالخبر المحذوف، واختلف فيه، فمنهم من قدره بالصحة، أى: الأعمال صحيحة أو جائزة بالنيات، فيحصر صحتها وجوازها فيما إذا كانت منوية فيقتضي أن لا يصح عمل إلا بنية إلا بدليل مخصص، ومنهم من قدره بالكمال، أي: الأعمال كاملة بالنيات فيكون المحصور في النيَّة كمالها لا صحتها، ولا يلزم من ذلك انتفاء صحتها بدون النيَّة، وكلا الأمرين جائز لكن الأول أظهر لقوله عليه الصَّلاة والسلام: "وإنما لكل امرئ ما نوى" إلى آخر الحديث، مع ما روي من قوله عليه الصَّلاة والسلام: "ليس للمرء من عمله إلَّا ما نواه، ولا عمل إلَّا بالنية" (¬1) فإنَّ ذلك قوي جدًّا في إرادة حصر صحة الأعمال في النيات، لا حصر الكمال فقط. البحث الثالث: قوله: "وإنما لكل امرئ ما نوى" أي: جزاء ما نوى من خير أو شر، فهو من باب حذف المضاف نحو واسأل القرية أي: أهل القرية ونحوه. وحكى عن الشَّافعي رضي الله عنه أنه قال: يدخل هذا الحديث في سبعين بابًا من الفقه. قال: يريد الأبواب الكلية كالطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والطلاق ونحوها من الأبواب، أما المسائل الجزئية التفصيلية فأكثر من أن تحصر (أ). ¬

_ (أ) في م تحصى. (¬1) لم أقف عليه بهذا اللفظ.

ومن مشهور مسائل هذا الباب أن النيَّة شرط في الوضوء للحديث والقياس على التَّيمم. وقال أبو حنيفة: لا تشترط، وأجاب عن الحديث بأنَّ معناه الأعمال كاملة بالنية، ونحن نقول به، ولا يلزم منه نفي الصحة كما سبق. وهو أيضًا (أ) عام مخصوص بِرَد الغصوب والأمانات ونحوها وهي أعمال، ولا تتوقف صحتها على النيَّة، فَيُخَصُّ محل النزاع بالدليل (¬1)، وفرَّق بين الوضوء والتيمم بأنَّ الماء يطهر (ب) بطبعه فاستغنى بقوته عن النيَّة بخلاف التَّيمم. وأيضًا فقوله عزَّ وجلَّ {فَتَيَمَّمُوا} أمر بالتيمم وهو القصد، وهو حقيقة النيَّة بخلاف الوضوء فإنَّ الآية (جـ) وهي {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْتسِلُوا} ليس فيها تصريح بالنية ولا تعريض. وأجيب عن الأول بأنا قد (د) بينا أن المحصور في النيات هو الصحة لا مجرد الكمال، والحديث عام في الوضوء وغيره، ولا مخصص له منه، ولا نُسَلِّمُ أن الماء يطهر (هـ) بطبعه لأنَّ الطهارة عبادة لا تأثير فيها للطبع بخلاف ¬

_ (أ) في أوأيضًا فهو. (ب) في م مطهر لطبعه. (جـ) في م آيته. (د) في م قدمنا. (هـ) في م مطهر. (¬1) ينظر اللباب في الجمع بين السنة والكتاب للمنبجي 1/ 127 - 128.

الري فإنَّه ليس بعبادة، والوضوء والتيمم طهارتان (أ) فكيف يفترقان، وهذا لفظ الشافعي في إلزامهم النيَّة للوضوء قياسًا على التَّيمم (¬1). واختلف العلماء في النيَّة في الطهارات فأوجبها الشَّافعي وأحمد رضي الله عنهما في آخرين في الطهارة بالمائع والجامد (¬2)، ونفاها زفر (¬3) والحسن بن صالح (¬4) فيهما لأن الطهارة وسيلة إلى العبادة فلا تعتبر فيها (ب) النيَّة، إنَّما النيَّة للعبادات (¬5)، وأوجبها أبو حنيفة رضي الله عنه في التَّيمم دون الوضوء لما مَرَّ. ومن مسائل النيَّة أنه لو وطئ امرأة أجنبية يظنها (جـ) زوجته أو أمته لا إثم عليه، ولو وطئها يعتقدها (د) أجنبية فإذا هي مباحة له أثم ولولا مصادفة ¬

_ (أ) في م عبادتان. (ب) في م لها. (جـ) في م يظن أنها. (د) في م معتقدا أنها. (¬1) لم أقف في الأم ولا في الرسالة. (¬2) ينظر الأم 1/ 100، 186 طبعة د / أحمد بدر الدين حسون والمغني لابن قدامة 1/ 156، 329. (¬3) هو زفر بن الهذيل بن قيس العنبري أحد أصحاب الإمام أبي حنيفة ت 158 الطبقات السنية 3/ 254. (¬4) هو الحسن بن صالح بن حي الكوفيِّ الهمداني الفقيه العابد ت 167 الطبقات السنية في تراجم الحنفية 3/ 65. (¬5) قال أبو جعفر الطحاوي: وقال الحسن بن حَيٍّ: يجزئ الوضوء والتيمم جميعًا بغير نية، قال أبو جعفر: ولم نجد هذا القول في التَّيمم عن غيره. أهـ. مختصر اختلاف العلماء 1/ 135.

المحل المباح لَحُدَّ، وكذا لو شرب مباحًا يعتقده حرامًا أثم. أو بالعكس لا يأثم. ولو قال لامرأته: أنت طالق يظنها (أ) أجنبية طلقت زوجته لمصادفة الطلاق محله. ولو قال لأجنبية: أنت طالق وظَنَّها (ب) زوجته اختلف فيه، والأشبه طلاق زوجته اعتبارًا للنية، وقيل: لا تطلق لفوات المحل. ولو قال لرقيق له: أنت حُرٌّ يَظُنُّه أجنبيًّا عتق لمصادفة العتق مَحَلَّه، وفي عكسه خلاف، العتق للنية، وعدمه لفوات المحلَّ. وعلي هذا القياس في مسائل الشريعة والحقيقة والمعاملات الظاهرة والباطنة، ولهذا افتتح البُخاريّ كتابه به مع أنه لا يناسب ترجمة "باب بدء نزول الوحي"، إنما أراد التنبيه على تصحيح النيَّة في الأعمال حتَّى قال بعضهم: ينبغي لكل بادئ عمل أو مصنف (جـ) كتاب أن يفتتح به. وقد روى أبو يعلى الموصلي في مسنده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقول الله عزَّ وجل للحفظة يوم القيامة: "اكتبوا لعبدي كذا وكذا من الأجر، فيقولون: رَبَّنَا لم نحفظ ذلك عنه ولا هو في صحفنا فيقول: إنَّه نواه" (¬1). ¬

_ (أ) في م يظن أنها. (ب) يظنها. (جـ) في م تصنيف. (¬1) لم أقف عليه في مسند أبي يعلى.

قلت: ولهذا المعنى ونحوه قيل: "نية المرء (أ) خير من عمله" (¬1) وقد ذهب بعض العلماء إلى وقوع الطلاق بالنية المجردة، ولزوم النذر بها اعتمادا على هذا الحديث، ولا يَرِدُ عليهم (ب) قوله عليه الصَّلاة والسلام: "إن الله تجاوز لأمَّتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به" (¬2) لأنَّ المعفو (جـ) عنه في هذا الحديث هو الخطرات والهمم الضعيفة، بخلاف ما عقدت عليه العزائم، وهم إنَّما يوقعون الطلاق ونحوه بالنية إذا قويت وصارت عزيمة أكيدة. وسيأتي الكلام في نحو هذا إن شاء الله عزَّ وجلَّ. البحث الرابع: قوله: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله" هذا تفصيل لما سبق في قوله: "إنَّما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" وإنَّما فرض الكلام في الهجرة لأنها السبب الباعث على هذا الحديث وذلك لأن رجلًا من أهل مكّة كان يهوى امرأة يقال لها: أم قيس فهاجرت إلى المدينة فهاجر الرجل لأجلها لا تدينًا فَعَرَّض النبي - صلى الله عليه وسلم - به في الحديث تنفيرا عن (د) مثل قصده، وكان ذلك الرجل ¬

_ (أ) في س، م المؤمن. (ب) في س عليه. (جـ) في م المرفوع. (د) في م من مثل فعله. (¬1) رواه الطّبرانيّ في المعجم الكبير 6/ 228 من حديث سهل بن سعد الساعدي، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 61 ورجاله موثقون إلَّا حاتم بن عباد بن دينار الجرشي لم أر من ذكر له ترجمة. (¬2) رواه البُخاريّ 2/ 894 ومسلم 1/ 117 من حديث أبي هريرة.

بعد يُدعى مهاجر أم قيس (¬1). ثم قيل على هذه الجملة: إن قاعدة الجملة الشّرطيّة أن يكون الشرط فيها غير الجزاء نحو من أطاع أُثيب، ومن عصى عوقب، أما هذه الجملة فالشرط فيها هو الجزاء بعينه، وهما الهجرة إلى الله ورسوله، فهو بمثابة قولنا: من أكل أكل، ومن شرب شرب، ومن كان مؤمنًا فهو مؤمن ومن كان كافرًا فهو كافر. وجوابها أن الشرط والجزاء في هذه الجملة إنَّما اتحدا لفظا لا معنًى، والاعتبار بالمعاني لا بالألفاظ. ومعنى الكلام من كانت هجرته إلى الله ورسوله قصدًا ونية، فهجرته إلى الله ورسوله ثوابًا وأجرًا؛ أي: من هاجر إلى الله كان أجره على الله، وكانت هجرته مقبولة فاندفع السؤال. البحث الخامس: قوله: "ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" قلت: اللام في لدنيا يحتمل أنها للتعليل على بابها، أي: من كانت هجرته لعلة دنيا أو لأجل دنيا، ويحتمل أنها بمعنى إلى، أي: من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها لأنه قابله بقوله: ¬

_ (¬1) قال العلامة أحمد بن محمد القسطلاني في كتابه إرشاد الساري إلى شرح صحيح البُخاريّ 1/ 55 وقد اشتهر أن سبب هذا الحديث قصة مهاجر أم قيس المروية في المعجم الكبير للطبراني بإسناد رجاله ثقات من رواية الأعمش، ولفظه عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها: أم قيس، فأبت أن تتزوجه حتَّى يهاجر فهاجر فتزوجها، قال: فكنا نسميه مهاجر أم قيس أهـ ولم أقف عليه في المعجم الكبير المطبوع.

"فهجرته إلى ما هاجر إليه" ولم يقل فهجرته لما هاجر إليه، وهذا جيدٌ، والأول أشبه، وتقديره فمن كانت هجرته لأجل دنيا يحصلها انتهت هجرته أو كانت نهاية هجرته إلى ذلك، لا يحصل له غيره. وقوله: "لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها" يحتمل أن مهاجر أم قيس المذكور كان يُحبها لمالها وجمالها فجمعهما في التعريض به. ويحتمل أنه كان يطلب نكاحها، وغيره من النَّاس هاجر لتحصيل (أ) دنيا من جهةٍ ما فَعَرَّض بهما، ويحتمل أنه - عليه السلام - عرَّض لطلب نكاح المرأة، وأنشأ ذكر المال إنشاءً تقريرًا لقاعدة زجر النَّاس عن قصده بنيَّة الهجرة كما أنه لما سئل عن طهورية ماء البحر فقال: "هو الطهور ماؤه الحِلُّ ميتته" (¬1) فزاد على السبب تمهيدًا لقاعدة أخرى، وهذا من باب زيادة النص على السبب. البحث السادس: يقال: لم اتحد الشرط والجواب في الجملة السابقة واختلفا هاهنا؟ وَهلَّا قيل: من كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها كما قيل: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله"؟. والجواب أن اتحاد الشرط والجزاء خلاف الأصل، وإنَّما اتحدا في قوله: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله" تبركا ¬

_ (أ) في م لتحصل له دنيا. (¬1) رواه أبو داود 1/ 64 والترمذي 1/ 101 والنسائي 1/ 50 وابن ماجه 1/ 136 من حديث أبي هريرة، قال التِّرمذيُّ هذا حديث حسن صحيح.

وتعظيمًا لهما بتكرار ذكرهما، وكونه أبلغ في حصول مقصود (أ) الهجرة إليهما، لأنَّ من سعى إلى خدمة الملك تعظيمًا له أجزل عطاءً ممن يسعى ليأخذ كسرة من سماطه، بخلاف الدنيا والمرأة فإنهما لا يستحقان التعظيم ولا يحصل بذكرهما تبرك، والعدول عن ذكرهما أبلغ في (ب) الزجر عن قصدهما كأنه قال: "فهجرته إلى ما هاجر إليه" وهو حقير مهين لا يجدي، وأيضًا فإنَّ ذكر الدُّنيا ونكاح المرأة ممَّا يستحلى عند عامة النَّاس فلو كرَّر ذكره ربما عَلِقَ بقلب (جـ) بعض السامعين فيقول: قد رضيا أن (د) تكون هجرتي إلى دنيا أصيبها أو امرأة أنكحها، فهل العيش إلَّا ذلك؟ فكان قوله: "فهجرته إلى ما هاجر إليه" أبلغ وأجدر باندفاع هذا المحذور. البحث السابع: هذا الحديث أصل في الإخلاص وله مرجع إلى الكتاب والسنة. أما مرجعه من الكتاب فكل آية تضمنت مدح الإخلاص أو ذم الرياء نحو {وَمَا أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة البينة: 5] {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة غافر: 14] {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [سورة يوسف: 24] {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [سورة الكهف: 110] {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} ¬

_ (أ) في م المقصود بالهجرة. (ب) في م من. (جـ) في م بقلوب. (د) في م بأنَّ.

[سورة البقرة: 264] {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} الآية [سورة البقرة: 266] {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ} [سورة البقرة: 266] الآية. وأمَّا مرجعه من السنة فقوله عليه الصَّلاة والسلام: "يقول الله عزَّ وجلَّ "أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملًا أشرك فيه غيرى فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك" (¬1) وفي رواية "تركته وشركه" (¬2). وعن أبي موسى أن رجلًا قال يا رسول الله: الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" (¬3) رواه السبعة الذين رووا حديث "إنَّما الأعمال بالنيات". البحث الثامن: قوله: "الأعمال بالنيات" قدمنا (أ) أن معناه الأعمال صحيحة بالنيات، ثم الصحة هي ترتب آثار الفعل عليه، لكن هذا الحديث مخصوص (ب) بالحس والنظر، أما تخصيصه بالحس فلأن الأعمال العادية ¬

_ (أ) في م قد بينا. (ب) في م مخصص. (¬1) رواه أحمد 2/ 301 وابن ماجه 2/ 1405 من حديث أبي هريرة صححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 2/ 409. (¬2) رواه مسلم 4/ 2289 من حديث أبي هريرة. (¬3) رواه أحمد 4/ 397 والبخاري 1/ 58 ومسلم 3/ 1513 وأبو داود 3/ 31 والترمذي 4/ 179 والنَّسائيُّ 6/ 23 وابن ماجه 2/ 931.

كالأكل والشرب والنوم والنكاح وبناء الدور وزرع الزروع (أ) ونحوه تصح بدون النيَّة إذ يترتب آثارها عليها بمجرد عملها، وأمَّا تخصيصه بالنظر فلأن قضاء الديون ورد الغصوب والأمانات ودفع النفقات الواجبة تصح (ب) ويترتب أثرها عليها وهو براءة العهدة منها بدون النيَّة، وهذا التخصيص إنَّما لحق الجملتين الأوليين من الحديث وهما: "إنَّما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" لعمومهما في أعمال العادات والعبادات، أما الجملتان الأخيرتَان وهما "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها" فهما على عمومهما لم يُخَصَّا بشيء لاختصاصهما بالهجرة التي هي من أعمال العبادات، والعبادات تشترط لها النيات. البحث التاسع: إن قيل: لم قال: "إنَّما الأعمال بالنيات" ولم يقل: إنَّما الأفعال؟ قلنا: قال بعض العلماء: إنَّما قال: إنَّما الأعمال لأنَّه لو قال: إنَّما الأفعال بالنيات لتناول أفعال القلوب، ومنها النيَّة، ومعرفة الله تعالى، فكان يلزم أن لا يصحَّا إلَّا بالنية، لكن النيَّة فيهما محال. أما في النيَّة فلأنها لو توقَّفَت على نيَّة أخرى لتوقَّفت الأخرى على نيَّة أخرى، ولزم تسلسل النيَّات، أو الدور وهما محالان، وأمَّا معرفة الله عزَّ وجلَّ فلأنها لو توففت على النيَّة -مع أن النيَّة قصد المنوي بالقلب (¬1) - ¬

_ (أ) في ب الزرع. (ب) في م يصح ترتب آثارها عليها وهي. (¬1) في هامش أ "أي فتكون المعرفة سابقة على النيَّة حتَّى تكون مقصودة بالنية إذ لا يُقصد ما لا يُعلم".

لزم أن يكون الإنسان عارفًا بالله عزَّ وجلَّ قبل معرفته به، وأن يكون الله عزَّ وجلَّ معروفًا له قبل أن يكون معروفًا له، وأن يكون المُكَلَّفُ عارفًا بالله عزَّ وجلَّ غير عارف به في حالة واحدة وكل ذلك محال. تم الكلام على هذا الحديث إن شاء الله تعالى، وهو من أحاديث أعمال القلوب والطاعات المتعلقة بها، وعليه مدارها وهو قاعدتها، وهي قاعدة، فهذا الحديث قاعدة الدين لتضمنه حكم النيات التي محلها القلب بخلاف الذكر الذي محله اللسان، ولهذا لو نوى الصَّلاة بلسانه دون قلبه لم تصح، ولو قرأ (أ) الفاتحة بقلبه دون لسانه لم تصح. والله أعلم. ¬

_ (أ) في س اوقرا.

الحديث الثاني

الحديث الثَّاني: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضًا قال: بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتَّى جلس إلى النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفَّيه على فخديه وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلَّا الله وأن محمدًا رسول الله وتقيم الصَّلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا. قال: صدقت. قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإنَّ لم تكن تراه فإنَّه يراك. قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن أمارتها؟ قال: أن تلد الأمَّة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان. ثم انطلق فلبثت مليًّا. ثم قال: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنَّه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم. رواه مسلم (¬1). الكلام على هذا الحديث في لفظه ومعناه. أما لفظه فمنها قوله: "بينما نحن عند رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - إذ طلع علينا ¬

_ (¬1) رواه مسلم 1/ 36.

رجل" أي: كان طلوعه علينا بَيْنَ، أو في أثناء أزمنة كوننا عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن بين تقتضي شيئين فصاعدًا، وهذا تأويله هاهنا. وقد يقال في بينما: بينا بحذف الميم تخفيفًا، قال الشاعر: بَينَا نَحنُ نَرْقُبُهُ أتانَا ... مُعَلّقَ وَفْضَةٍ وَزِنَادَ رَاعِي (¬1) ومنها قوله: "ذات يوم" ذات ها هنا تأنيث ذو بمعنى صاحب، أي: بينا نحن في ساعة ذات مرَّة في يوم فحذفت هذه المضافات لوضوح الأمر كما حذفت من قوله: إذَا أقَامَتَا تَضَوَّعَ المِسْكُ مِنْهُمَا ... نَسِيمَ الصِّبا (¬2) .......... أي: تضوَّع تضوعا مثل تضوع نسيم الصبا. ومنها قوله: "لا يُرى عليه أثر السفر" هو بضم الياء آخر الحروف من يُرَى على ما لمَّ يسمَّ فاعله، وهو أبلغ من نرى بالنون على تسمية الفاعل ومنها قوله: "أخبرني عن أمارتها" بفتح الهمزة أي: علامتها وربما روي أماراتها على الجمع، يقال: أمارة وأمارات وأمار، نحو ضلالة وضلالات وضلال، من باب ما بين واحده وجمعه حذف الهاء نحو تمرة وتمر. أما الإمارة بكسر الهمزة فالولاية. ومنها "رَبَّتها" أي: سيدتها ومالكتها تأنيث رَبٍّ وقد سبق معناه. ومنها "الحفاة" بحاء مهملة جمع حاف وهو الذي لا نعل له. والعُرَاة ¬

_ (¬1) البيت لرجل من قيس عيلان ينظر الكتاب لسيبويه 1/ 87 وشرح أبيات سيبويه للسيرافي 1/ 405 والوفضة: جعبة السهام، وزناد راعي: الخشبة التي تقدح بها النَّار. (¬2) البيت رقم 6 من معلقة امرئ القيس.

جمع عار. والعالة جمع عائل وهو الفقير ومنه {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [سورة الضحى: 8] و {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ لا تعولوا} [سورة النساء: 3] أي: لا تفتقروا. ورعاء الشاء رعاة الغنم ومنه {حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} [سورة القصص: 23] ومنها قوله: "فلبثت مليا" قال الشَّيخ: هو بتشديد الياء أي: زمانًا كثيرًا، وكان ذلك ثلاثا. هكذا جاء مبينًا في رواية أبي داود والترمذي (¬1) وغيرهما انتهى. قلت: مَلِيٌّ غير مهموز ومنه {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [سورة مريم: 46] لأنه من الملوان وهو الليل والنهار {وَأُمْلِي لَهُمْ} [سورة القلم: 45] وإن الله عزَّ وجلَّ ليملي للظالم، ولا همز في شيء من ذلك. أما الملئ ضد المعدم، فمهموز لأنَّه من ملأ كيسه ونحوه مالًا، ومن الملاءة (أ) وهي اليسار، وكذلك الملأ الأعلى، والملأ من النَّاس مهموز ذلك كله. وقوله: "فلبثت مليًّا" أي: زَمَانًا مَلِيًّا أي: طويلًا فحذف الموصوف لظهوره. ومنها جبريل، وهو اسم أعجمي سرياني، قيل: معناه عبد الله. والدين: الملة والشريعة، ويستعمل أيضًا في الجزاء، ومنه {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} أي: الجزاء، وبمعنى العادة ومنه قوله (¬2): ¬

_ (أ) في ب الملاء. (¬1) رواه أبو داود 5/ 69 والترمذي 5/ 6. (¬2) البيت رقم 7 من معلقة امرئ القيس.

كَدِيْنكَ مِن أُم الحُوَيرِثِ قَبلَهَا ... ........................ وروي كدأبك، وهو أشهر. وقول الآخر (¬1): تَقُولُ: وَقَد ذَرَأتُ لَها وَضِيْني ... أَهَذا دِيْنُهُ أَبَدًا وَدِيني أي: عادته وعادتي. وأمَّا معانيه ففيها أبحاث: البحث الأول: قوله: "شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر" هو إشارة إلى غرابة هذه القضية لأنَّ الرجل هيئته هيئة حاضر لا يخفى عليه أمر الدين مع اشتهاره غالبًا خصوصًا في المدينة، وسؤاله سؤال أعرابي وارد غير عالم بالدين. وهذا بخلاف حديث طلحة بن عبيد الله جاء أعرابي ثائر الرأس من أهل نجد يُسمع دويُّ صوته الحديث (¬2)؛ إذ وصفه بصفة الأعراب الواردين فلم يكن في سؤاله غرابة ولا عجب. وقوله: "بياض الثياب، وسواد الشعر" مطابقة جَيدَةٌ تامَّةٌ. ¬

_ (¬1) البيت للمُثَقِّب العَبدِي، ينظر ديوان شعر المثقب العبدي 195 ورواية الديوان هكذا: تقولُ: إذا دَرَأتُ لَهَا وَضيني ... أهَذَا دِينُهُ أبدًا وَدِيني أخرى: أقول: إذا ذَرَأتُ لها وَضيْنًا ذَرَأته: أزَلتُهُ عن موضعه. وفي هامش الديوان: يريد أن ناقته سئمت كثرة ما يرحلها، فإذا شَدَّ عليها الوضين -والوضين إنَّما يُشدُّ عليها مع الرحل- ضَجَّت، فكأنها في حالة الذي لو تكَلَّم لنطق بهذا القول، وشَكَا حَالَهُ. (¬2) رواه البُخاريّ 1/ 25 ومسلم 1/ 40.

وفيه أيضًا استحباب التجمل وتحسين الهيئة للعالم والمتعلم لأن هذا الرجل هو جبريل - عليه السلام - كما بين في آخر الحديث وهو معلم من جهة لقوله عليه الصلاة والسلام: "جاء يعلمكم دينكم" ومتعلم من جهة أنه في سورة سائل. قوله: "ولا يعرفه منا أحد" إشارة إلى غرابة القضية أيضًا لأن هيئته تقتضي أنه من أهل المدينة، ولو كان منها لعرفناه أو بعضنا فقد حصل فيه (أ) أمارة معرفتنا لَهُ، مع عدم معرفتنا لَهُ. والله أعلم. البحث الثاني: قوله: "فأسند ركبتيه إلى ركبتيه" تقتضي أنه جلس بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلا لم يتصور إسناد ركبتيه إلى ركبتيه، لأنه لو جلس إلى جانبه لما أمكنه إلا إسناد ركبة واحدة منه إلى ركبة واحدة من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا جلوس المتعلمين بين يدي المشايخ (ب) للتعلم. وقوله: "ووضع كفيه على فخذيه" الضمير في كفيه للرجل، وفي فخذيه يحتمل أنه للرجل أيضًا، وأنه وضع كفيه على فخذي نفسه معتمدا عليهما وقت السؤال، ويحتمل أنه للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأن الرجل وضع كفيه على فخذي النبي - صلى الله عليه وسلم - استئناسًا باعتبار ما بينهما من الأنس في الأصل حين يأتيه جبريل - عليه السلام - لتبليغ (جـ) الوحي، وهذا الاحتمال أرجح، وإنما رُجحَ ¬

_ (أ) في م منه. (ب) في م الشيخ. (جـ) في م السلام بالوحي.

الاحتمال في ضمير فخذيه، دون ضمير ركبتيه، لجواز وضع الإنسان يده على فخذيه، وعلى فخذي غيره، واستحالة إسناد ركبتيه إلى ركبتي نفسه والله أعلم. البحث الثالث: قوله: "يا محمد أخبرني عن الإسلام" فيه فوائد: الأولى: جواز تسمية المتعلم شيخه، والمرؤوس رئيسه باسمه، لكن قد غلب في العرف تسمية المشايخ والرؤساء بالأسماء الشريفة المفخمة فينبغي اتباعه إلا أن يعلم أن الشيخ لا ينقبض من تسميته باسمه الأصلى، ولا يكون ذلك على سبيل الوضع منه، فيكون ذلك هو الأولى اتباعا لهذه السنة وغيرها، ولأنه أقرب إلى التواضع وأولى بالصدق. الثانية: أن للمسؤول من مفت وغيره أن يجيب عن السؤال معتمدا على ما فهم بالقرينة، وذلك لأن هذا السائل قال: أخبرني عن الإسلام، وهو سؤال مجمل، يحتمل أن يكون عن حقيقة الإسلام، وعن شروطه، وعن أركانه، وعن زمانه ومكانه، وغير ذلك من لواحقه، ثم إنه عليه الصلاة والسلام أجابه بماهية الإسلام وحقيقته مبادرًا من غير استفسار، وما ذلك إلا لما فهمه بالقرينة من أنه سأل عن الماهية، ولأن القرائن كالنصوص فجاز الاعتماد عليها في الخطاب سؤالًا وجوابًا وشواهده كثيرة. الثالثة: فيه دليل على أن الإسم غير المسمى لأن جبريل قال: ما الإسلام؟ ما الإيمان؟ ما الإحسان؟ فأتى بأسمائها وأجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعانيها، ولو كان الإسم هو المسمى لما احتاج إلى السوال عنه لعلمه به، ولما أجابه

النبي - صلى الله عليه وسلم - بل كان يقول له: إنك عالم بمسمى ما سألت عنه، لأنك عالم باسمه لتلفظك به. واعلم أن للناس في هذه المسألة أقوالًا: أحدها: أن الإسم غير المسمى كما قلنا. والثاني: أنه هو المسمى لقوله عزَّ وجلَّ {سبح اسم ربك الأعلى} [سورة الأعلى: 62] والتسبيح إنما هو للرب عزَّ وجلَّ فدلَّ على أن اسمه هو هو، وحوابه: أنه ضمن (سبح اسم) معنى اذكر فكأنه قال: اذكر اسم ربك كقوله عزَّ وجلَّ {واذكر اسم ربك بكرة وأصيلًا} [سورة الإنسان: 25] وعكس ذلك قوله عزَّ وجلَّ {واذكر ربك} [سورة الأعراف: 205] ضمن (اذكر) معنى سبح ونزه، أي: نزه ربك عما لا يليق به، واحتجوا أيضًا بقوله عزَّ وجلَّ {بغلام اسمه يحيى} [سورة مريم: 7] ثم قال: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} [سورة مريم: 12] فنادى الاسم فدلَّ على أنه المسمى. وجوابه أن المعنى: يا أيها الغلام الذي اسمه يحيى. والثالث: أن الاسم المسمى (¬1) لا هو هو، ولا هو غيره، كالواحد من العشرة لا هو هي ولا هو غيرها، وجوابه أن هذا لا يتحقق، لأن قولنا: إن هذا الشيء لهذا الشيء، إما بمعنى أنه يملكه أو يستحقه أو يختص به اختصاص الموصوف بالصفة ونحوه، وعلى كل تقدير هو يقتضي المغايرة لأن ملك الشيء نفسه واستحقاقه لها واختصاصه بها محال. ¬

_ (¬1) كذا في النسخ والسياق يقتضي أن يكون (للمسمى).

واعلم أن المغايرة تارة تكون بالذات نحو زيد غير عمرو، وتارة بالأحوال والصفات، نحو قولنا: وجه زيد اليوم غير وجهه أمس، وقد دخل عمرو بغير الوجه الذي خرج به، أي: حاله وصفته الآن غير حاله وصفته الذي كان، والمغايرة بين الإسم والمسمى بالذات لأن الاسم لفظ محل وجوه اللسان كلفظ زيد الذي هو الزاي والياء والدال، والمسمى ذات محل وجودها الأعيان كشخص زيد الطويل المنتصب القامة الذي هو حيوان ناطق، وهذه مغايرة ذاتية بالضرورة (¬1). واعلم أن لنا اسما ومُسَمَّى بفتح الميم، ومُسَمِّي بكسرها، وتسمية، فالاسم هو اللفظ الموضوع للذات لتعريفها أو تخصيصها عن غيرها كلفظ زيد، والمسمَّى: هو الذات المقصود تمييزها بالاسم كشخص زيد، والمسمي: هو الواضع ذلك اللفظ لتلك الذات كأبي زيد الذي وضع اسمه لشخصه، والتسمية: هي وضع ذلك اللفظ لتلك الذات، والوضع هو تخصيص لفظ بمعنى بحيث إذا أطلق ذلك اللفظ فهم ذلك المعنى، فبهذا التفصيل يعلم أن الاسم غير المسمَّى بالضرورة. ¬

_ (¬1) قال الإمام أبو جعفر الطبري في رسالته صريح السنة: 26 وأما القول في الاسم أهو المسمى أم غير المسمى فإنه من الحماقات الحادثة التي لا أثر فيها فيتبع، ولا قول من إمام فيسمع، فالخوض فيه شين والصمت عنه زين، وحسب امرئ من العلم به والقول فيه أن ينتهي إلى قول الله عزَّ وجلَّ ثناؤه الصادق، وهو قوله: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} وقوله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} أهـ وينظر كتاب الفنون لأبي الوفاء علي بن عقيل الحنبلي 1/ 238 - 240.

ومن شبه الخصم أن الله عزَّ وجلَّ قال {اعبدوا الله}. فإن عبدتم المسمى خالفتم النَّصَّ، وإن عبدتم الاسم سلَّمتُم أنه المسمَّى، وجوابه أنَّا نعبد المسمَّى وهو الذات التي اسمها "الله" والتقدير: اعبدوا المسمى أو الذات التي اسمها الله واندفع الإشكال. وليس {اعبدوا الله} نصًّا في عبادة الاسم ولا ظاهرا ولا له على ذلك دلالة (أ) أصلًا. ومن شبههم أنَّا لو كتبنا الجلالة على قرطاس أو أرض فإن كانت هي المعبود كان ذلك إشراكا وإن كان المعبود غيرها كان كفرا لعبادة غير الله عزَّ وجلَّ. وجوابه أن الجلالة المكتوبة معظَّمَةٌ، والمعبود غيرها وهو مدلولها ومسمَّاها وهو الذَّات القديمة الواجبة الوجود، ولا نُسَلِّمُ أن عبادة غيرها عبادة غير الله عزَّ وجلَّ حتى يكون كفرًا. البحث الرابع: قوله - عليه السلام -: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا قال: صدقت فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره قال: صدقت" الكلام عليه من (ب) أمور: ¬

_ (أ) في م ولا له عليه دليل. (ب) في أ، م في.

أحدها: أن قوله: تشهد منصوب بأن، وباقي الأفعال عطف عليه، وهي تقيم، وتؤتي، وتصوم، وتحج. فأمَّا تؤمن فنصب بأن مباشرة مثل تشهد. وتنبيهنا على هذا لأن بعض الناس يغلط فيه فيرفع بعض هذه الأفعال ظنًّا أنها مستأنفة. الثاني: لم قيد الحج بقوله: إن استطعت إليه سبيلا، ولم يقيد بذلك الصلاة والزكاة والصوم مع أنَّها إنَّما تجب بالاستطاعة (أ) لقوله عزَّ وجلَّ {فاتقوا الله ما استطعتم} [سورة التغابن: 16] وهذه العبادات من التقوى. وقوله - عليه السلام -: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعم" وكان ينبغي أن يقيد الجميع بالإستطاعة أولًا يقيد أحدًا (ب) منها بها. فالجواب أن الخطب في هذا يسير، وأنه عليه الصلاة والسلام تابع القرآن في قوله عزَّ وجلَّ {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلًا} [سورة آل عمران: 97] ولم يقل ذلك في خصوص غيره من العبادات، فإن قيل: ينتقل السؤال إلى القرآن لم قيد الحج بالاستطاعة دون غيره؟ قلنا: لأنه يتعلق بقطع مسافة، وفيه من المشقة ما ليس في غيره فكان أحقَّ بالتقييد بالاستطاعة من غيره. الثالث: قوله: "فعجبنا له يسأله ويصدقه" لأن سُؤاله يقتضي عدم العلم بما سأل عنه وتصديقه النبي عليه الصلاة والسلام فيما أجابه به يقتضي ¬

_ (أ) في م مع الاستطاعة. (ب) في م واحدا.

أنه عالم به، فكان ظاهر حاله أنه عالم بذلك، غير عالم به، وهو محل التعجب (أ)، وإنما زال التعجب عنهم بقوله عليه الصلاة والسلام: "أنه حبريل أتاكم يعلمكم دينكم". فتبين أنه كان عالما في صورة متعلم لقصد التعليم والتبيين لهم وذلك لا عجب فيه. الرابع: الإسلام مصدر أسلم إسلاما، وهو في اللغة الطاعة والانقياد، وفي الشرع ما فَسَّر به في هذا الحديث، وهو الأعمال الظاهرة كالشهادتين وباقي العبادات. والإيمان مصدر آمن إيمانًا وزن أكرم إكرامًا فالهمزة الثانية في آمن نظير الكاف في أكرم فإذًا آمن من أفعل، لا فَاعَلَ إذ لو كان فاعل لكان مصدره فِعَالًا نحو قاتل قِتَالًا، وضارب ضِرَابًا ونحوه وهو قياس في مصدر فاعل الفِعَال والمفاعلة كالمقاتلة والمضاربة. الخامس: اختلف في الإسلام والإيمان هل هما واحد أو متغايران وهذا الحديث يقتضي تغايرهما لأن حبريل - عليه السلام - سأل عنهما سؤالين، وأجيب عنهما بجوابين، وفُسرَ له الإسلام بأعمال الجوارح كالصلاة والزكاة والحج، وفُسرَ الإيمان بعمل القلب وهو التصديق، ولو كانا واحدًا لكان السؤال والجواب عن أحدهما كافيا عن السؤال عن الآخر، ولكان تفسير أحدهما هو عين تفسير الآخر كما لو سأل عن الخمر والعقار لكان حوابه أنهما جميعا الشراب المسكر. ¬

_ (أ) في ب، م العجب.

احتج القائل بأنهما واحد بقوله عزَّ وجلَّ {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 35، 36] والمراد بهما آل لوط، فوصفهم تارة بأنهم مؤمنون، وتارة بأنهم مسلمون، فَدَلَّ على أن الإسلام والإيمان شيء واحد. وحوابه أنه معارض بقوله عزَّ وجلَّ {قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} [سورة الحجرات: 14] الآية فنفى الإيمان عنهم وأثبت الإسلام، ولو كانا واحدًا لمّا صَحَّ ذلك. ثم الجواب عن الآية الأولى أنه وصف آل لوط بمجموع الأمرين الإيمان والإسلام لأنه أمدح وأكمل، وأيضًا لئلا تتكرر فاصلة واحدة في آيتين متواليتين. واحتج أيضًا بحديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لوفد عبد القيس: هل تدرون ما الإيمان؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تؤدوا خمسا من المغنم" (¬1) الحديث. ففسر الإيمان هاهنا بما فسر به الإسلام في حديث جبريل من الأعمال الظاهرة فدلَّ على أنهما شيء واحد. وجوابه من وجوه: أحدها: أن حديث حبريل مصطحب، وحديث ابن عباس هذا مضطرب لأن فيه أنه عليه الصلاة والسلام أمرهم بأربع ولم يأمرهم إلا ¬

_ (¬1) متفق عليه رواه البخاري 1/ 29 ومسلم 1/ 47 - 48.

بالإيمان وحده (¬1). فإن قيل: الإيمان يشتمل على الأربع ولذلك فسَّره بها. قلنا: هذا لكم أن تقولوه، غير أنه فسر الإيمان بخمس: إحداهن: الشهادتان، والثانية: الصلاة، والثالثة: الزكاة، والرابعة: الصوم، والخامسة: أداء الخمس من الغنيمة، وفي بعض الروايات أنه قال: شهادة أن لا إله إلا الله وعقد واحدة (¬2). ¬

_ (¬1) للمؤلف سقطات سيئة من نواح عدة في الكلام على حديث ابن عباس هذا المتفق عليه، الحائز أعلى درجات الصحة والقبول، حيث تصور أنه معارض لحديث عمر السابق، فنثر كنانته ليرفع هذا التعارض وليزيل هذا التدافع فلم يجد فيها أجود من خروجه على الناس بعلل رديئة بعضها أردأ من بعض لم يسبق إليها، وقد وافق بينهما وألف أهل العلم من غير إحداث هذه الشناعة، قال الحافظ أبو عمرو بن الصلاح: فقوله: "أمرهم بالإيمان بالله" إعادةٌ لذكر الأربع ووصفٌ لها بأنها إيمان بالله ثم فسر الأربع بالشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم فهذا إذا موافق لقوله - عليه السلام - "بني الإسلام على خمس" ولتفسير الإسلام بخمس في حديث جبريل - صلى الله عليه وسلم - على ما سبق تقريره من أن ما يسمى إسلامًا يسمى إيمانًا، وأن الإيمان والإسلام مجتمعان ويفترقان، وقد قيل: إنما لم يذكر الحج في هذا الحديث لكونه لم يكن فرض حينئذ والله أعلم. وأما قوله: "أن تؤدوا خمسًا" فليس عطفًا على قوله: "شهادة أن لا إله إلا الله" فإنه يلزم منه أن يكون الأربع خمسًا، وإنما هو عطف على قوله: "وأمرهم بأربع" فيكون مضافًا إلى الأربع، لا واحدًا منها، وإن كان واحدا من مطلق شعب الإيمان, وحسن أن يقرأ: وأن يؤدوا بياء المغايبة، ويجوز بتاء المخاطبة ... فافهم ذلك وتدبره تجده إن شاء الله تعالى مما هدانا سبحانه لِحَلِّه من العقد والعضل والله أعلم. أهـ صيانة صحيح مسلم. وينظر فتح الباري للحافظ ابن حجر 1/ 161 - 163. (¬2) رواه البخاري 4/ 1588 ومسلم 1/ 47.

وهو يقتضي أنها ستٌّ، فإذا أخبر بأنه أمر (أ) بأربع، ثم أمر بست، كان ذلك اضطرابا في الحديث لعدم مطابقة العدد المعدود والخبرِ المُخبَرَ. وقد روي هذا الحديث من غير جهة ابن عباس في الصحيح (¬1)، وهو مضطرب أيضًا كذلك (¬2)، فالاضطراب لازم له، فلا يعارض حديث جبريل المنتظم المصطحب. فإن قيل: الاضطراب إنما يكون في الإسناد لا في المتن قلنا: بل يكون فيهما واضطراب هذا الحديث في متنه. الوجه الثاني: أن حديث ابن عباس ليس فيه ذكر الحج فلا يخلو وقوعه إما أن يكون بعد فرض الحج أو قبله فإن كان بعده فمحال أن لا يذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - للقوم في جملة خصال الإيمان خصوصًا وهم في مقام البيان. وحينئذ يكون سقوط الحج من الحديث مؤكدا لاضطرابه موجها للقدح فيه لترك راويه بعض مهماته (¬3)، وإن كان قبله فابن عباس كان حينئذ صغيرًا لا يضبط ما يروي فلا تعارض روايته رواية عمر المتقن الضابط المشاهد لما روى، ويترك حديث ابن عباس هاهنا إما لذلك كما ترك حديثه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة ¬

_ (أ) في م يأمر. (¬1) رواه مسلم 1/ 48 - 50 من حديث أبي سعيد الخدري. (¬2) كلا بل هو حديث صحيح، والقول باضطرابه ساقط لسقوط ما بني عليه. (¬3) يسوق الرواه الحديث بطوله أحيانًا، ويختصرونه أحيانا، فيقتصرون منه على بعض ألفاظه لسببٍ ما، وليس هذا من الاضطراب في شيء.

وهو محرم (¬1)، أو حملا لحديثه على أنه أرسله عن غيره كما أرسل حديث: "إنما الربا في النسيئة" (¬2) عن أسامة بن زيد، ومراسيل الصحابة وإن كانت صحيحة لكنها لا تعارض متصلاتهم، وحديث عمر في مغايرة الإسلام الإيمان متصل فلا يعارضه مرسل ابن عباس في اتحادهما. الوجه الثالث: أن حديث ابن عباس قول رسول واحد وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده، وحديث جبريل قول رسولين محمد - صلى الله عليه وسلم -، وجبريل - عليه السلام - لأنه أقَرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما قاله، وتقريره كقوله وقول رسولين أرجح من قول رسول واحد (¬3). فإن قيل: النبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم وحده، ومع غيره فلا أثر لهذا الترجيح. قلنا: الترجيح بين أخبار الآحاد يحصل بما ذكرناه، وما هو دونه في القوة كالترجيح بكثرة الرواة والروايات وهذا شبيه بقول عبيدة السلماني لعلي حين ¬

_ (¬1) الأصل أنه ضابط متقن سامع لما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يُترك هذا الأصل إلا لدليل قاطع ناقل عن هذا الأصل، كما أنه لا يُسلِّم للمؤلف أن مراسيل الصحابة عن الصحابة لا تعارض متصلاتهم، بل مراسيل الصحابة عن الصحابة صحيحة، فإذا وقع تعارض بين مراسيلهم ومتصلاتهم يُسلك مسالك أهل العلم في ذلك، وليس منها هذا المسلك الذي اخترعه لنا المؤلف غفر الله له. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) هذا سقط من القول، وَخَلْفٌ من الكلام، وجري وراء بحث كاذب وتحقيق فاسد، فإن كون هذا الحديث قول رسولين جبريل والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتعلق به ترجيح من حيث إنه قول رسولين على قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده، فإن قوله قول معصوم لا ينطق عن الهوى، والصمت عن هذا كله كان أوفر لدينه وعلمه وعرضه.

خالف في بيع أم الولد: رأيك مع الجماعة خير من رأيك لنا وحد (¬1) ك (¬2). الوجه الرابع: أن حديث عمر هو تعليم جبريل لجمهور المسلمين أو لجميعهم مجموع الدين، وحديث ابن عباس هو تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - لشرذمة يسيرة من الناس بعض أحكام الدين، فكانت العناية في حديث جبريل أشَدّ (¬3)، فكان تقديمه أولى. البحث الخامس: قوله: "الإيمان أن تؤمن بالله" إن قيل: في هذا تعريف الشيء بنفسه لأن تؤمن مشتق من الإيمان فهو كقوله: الأكل أن تأكل، والشرب أن تتسرب، والتصديق أن تصدق! فجوابه: أنا لا نسلم أن هذا من باب تعريف الشيء بنفسه، وإنما هو من باب تعريف الشرعي باللغوي، وذلك أن الإيمان في اللغة التصديق، وفي الشرع تصديق خاص وهو التصديق بالله عزَّ وجلَّ وما ذكره بعد فكأنه قال: الإيمان شرعًا هو التصديق بهذه الأشياء، أو الإيمان الشرعي هو الإيمان اللغوي بهذه الأشياء، كما يقال: الصلاة شرعًا هي الصلاة لغة وهي الدعاء وزيادة أمور أخر وهو كلام صحيح. واعلم أنه قد تبين من هذا الحديث أن مسمى الإيمان والإسلام لغة غير مسمَّاهما شرعا. وفيه دليل على إثبات الحقائق الشرعية، وهي من ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في المصنف 6/ 436 والبيهقي في السنن الكبرى 10/ 348. (¬2) كلا، لا شبه بين هذين الأمرين، وهل يجرؤ مؤمن يؤمن بالله ورسوله أن يقول: إن كلام الرسول مع كلام جبريل أحب إلينا من كلام الرسول وحده. (¬3) هذه شناعة أخرى ظاهرة للمؤلف حول هذا الحديث، وقى الله شرَّها عنا وعنه.

مسائل الخلاف في أصول الفقه (¬1). البحث السادس: لم قدم السائل في سؤاله الإسلام على الإيمان وهل له وجه مناسب أم وقع اتفاقا؟ وحوابه بأنَّ في رواية الترمذي قدم الإيمان على الإسلام، وهي أولى بالتقديم. فإن قيل: لم تلك (أ)، ومسلم أشهر بالصحة وأقعد بها من الترمذي؟ قلنا: لأن السنة بيان لكتاب الله عزَّ وجلَّ فأولاها بالتقديم أوفقها للكتاب، ورواية الترمذي هاهنا أوفق لكتاب الله عزَّ وجلَّ في تقديم الإيمان على الإسلام بدليل قوله عزَّ وجلَّ {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} [سورة الأنفال: 2] الآيتين، قدم فيهما الإيمان على الإسلام. وقوله عزَّ وجلَّ {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1، 2] فقدم ذكر الإيمان. وقوله {فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك} [سورة محمد: 19] و {سبح باسم ربك} [سورة الواقعة: 74] فقدم التوحيد الذي هو من قبيل الإيمان، على الاستغفار والتسبيح الذي هو من قبيل الإسلام، لأنه اعتقاد، وهما عمل. وقوله عزَّ وجلَّ {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 177] الآية ذكر فيها الإيمان بأركانه قبل الإسلام بأعماله. ¬

_ (أ) في أ، م ذلك. (¬1) ينظر التمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب الحنبلي 1/ 88 - 97.

فإن قيل: علام تحمل رواية مسلم في تقديم الإسلام؟ قلنا: تحمل على التقديم والتأخير من بعض الرواة بناء على الرواية بالمعنى، أما الجمع بينهما بوجه من الوجوه فعسر جدًّا. البحث السابع: قوله: "فأخبرني في الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" اعلم أنه فسر الإحسان بالمراقبة والإخلاص في العبادة، وأن الإنسان يشاهد الله عزَّ وجلَّ بعين إيمانه مطلعا عليه في جميع أحواله حتى كأنه يشاهده عيانا فلا يَنْحرِف في عبادته عن الطريق الذي نهجه له الشرع وأدَّاه إليه طريق المعرفة، فإن الله عزَّ وجلَّ قائم على كل نفس بما كسبت، مشاهد لكل واحد من خلقه في حركته وسكونه، فمن أحسن الأدب أحسن إليه، ومن أساء الأدب عاقبه أو عفا عنه، فمن اعتقد هذا وصدق به جرى على طريق الاستقامة، ووقى الحسرة والندامة، وكان في عبادة الرب جل جلاله كشخص ضعيف، بين يدي ملك جبار قوي بينهما حجاب، وهو يتيقن أنه ملاحظ له فإنه يتحرى أن لا يصدر منه سوء أدب فيأمر بتأديبه عليه. واعلم أن العبادة تكون إما بالقلب كالإيمان، وإما بالبدن كالإسلام، ولما كان الإحسان هو المراقبة في العبادة كان الإحسان هو المراقبة والإخلاص في الإيمان والإسلام فلا يظهر الإيمان رياء أو خوفا فيكون منافقا، ولا يظهر أعمال الإسلام كالصلاة ونحوها لغير الله عزَّ وجلَّ، فيكون مرائيا مشركا، بل يرى أن الله عزَّ وجلَّ معه مطلع عليه وأقرب إليه مما سواه فلا يعبد إلا إياه ولا يراقب سواه، وعلى هذا فالإحسان شرط في الإسلام والإيمان أو كالشرط فيهما إذ بدون الإخلاص والمراقبة فيهما

لا يقبلان لقوله - عليه السلام -، إن الله عزَّ وجلَّ لا يقبل إلا ما كان خالصًا لوجهه (¬1)، ويدل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه} [سورة البقرة: 112]. {ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى} [سورة لقمان: 22] فشرط الإحسان في الإسلام. وقال عزَّ وجلَّ {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا} [سورة المائدة: 93] الآية، فاشترط الإحسان في التقوى والإيمان. فائدة: حكى بعض (أ) الفقراء عن الشيخ أبي محمد (ب) بن سكران وهو من مشاهير مشايخ بغداد المتأخرين رحمة الله عليه وعليهم أجمعين أنه ذكر هذا الكلام يوما فقال: "اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه" (¬2) ثم وقف هاهنا. وهي إشارة صوفية معناها أنك إذا فنيت عن نفسك فلم ترها شيئًا شاهدت الله عزَّ وجلَّ، فإن النفس ورؤيتها حجاب دون الله عزَّ وجلَّ، فمن ألقى الحجاب شاهد الجناب. وهذا شبيه بما حكي عن بعض المشايخ أنه قال: رأيت رب العزة في النوم فقلت: يا رب كيف الطريق إليك؟ فقال: خَل نفسك وتعال. ¬

_ (أ) في م عن بعض. (ب) في أ، م محمد بن سكزن. (¬1) رواه النسائي 6/ 25 من حديث أبي أمامة. (¬2) شِنْشِنَة أعرِفُهَا مِن أخْزَم، ورفض السياق هذا المعنى الذي تفضل به ابن سكران، ولم أقف على ترجمته.

البحث الثامن: قوله: "فأخبرني عن الساعة" يعني عن القيامة، أي: عن زمن وجودها، سميت ساعة وإن طال زمنها اعتبارا بأول أزمنتها فإنها تقوم بغتة في ساعة، ومن الناس من يكون قد تناول لقمة فلا يمهل حتى يبتلعها {فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها} [سورة محمد: 18] قوله: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل" أي: كلانا سواء في عدم العلم بزمن وقوعها {إن الله عنده علم الساعة} [سورة لقمان: 34] {إن الساعة آتية أكاد أخفيها} [سورة طه: 15] {يسئلونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي} [سورة الأعراف: 187] الآيات. وفي الصحيح "مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله" وتلا {إن الله عنده علم الساعة} (¬1) الآية. قوله: "فأخبرني عن أمارتها" أي: شرطها وعلامتها، قال: "أن تلد الأمة ربتها" فيه وجوه: أحدها: أن تكثر السراري حتى تلد الأمة السُّريه بنتًا لسيدها وبنت السيد في معنى السيد. والثاني: أن يكثر بيع السراري حتى تشتري المرأة أمَّهَا فتستعبدها جاهلة أنها أمها. الثالث: معناه أن الإماء يلدن الملوك فتلد الأمة الملك وهي من رعيته فهو كَرَبهَا. قوله: "وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان" ¬

_ (¬1) رواه البخاري 4/ 1793 من حديث ابن عمر.

قال الشيخ: معناه أن أسافل الناس يصيرون أهل ثروة ظاهرة، انتهى كلامه. قلت: ولعل هذا ينظر إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة" (¬1) لأن أسافل الناس وأراذلهم ليسوا من أهل الإمرة (أ) والولاية، فإذا تأمروا آثروا. قلت: وقد ذكر للساعة أمارات وشروط كثيرة في كتب الحديث، كطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، والدجال، ويأجوج ومأجوج، وكثرة الهرج، وفيض المال حتى لا يقبله أحد، وأن يحسر الفرات عن جبل من الذهب، ونحو ذلك كثير. ولعله إنما اقتصر في هذا الحديث على هاتين الأمارتين تحذيرا للحاضرين وغيرهم منها، أعني كثرة اتخاذ السراري وبيعهن، والتطاول في البنيان، وتوسيد الأمر إلى غير أهله، لاقتضاء الحال ذلك إذ لعلهم كانوا يتعاطون شيئًا من ذلك فزجرهم عن (ب) ذلك. قوله: "فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" قيل: إنه عليه الصلاة والسلام لم يعرف جبريل حين سأله، وإنما عرفه بعد ذلك بوحي أو نظر. ويقال: إنه عليه الصلاة والسلام قال: "ما جاءني في صورة لم أعرفها ¬

_ (أ) في س الإمارة. (ب) في م عنه. (¬1) رواه البخاري 1/ 33 من حديث أبي هريرة.

إلا هذه المرة" (¬1) وجبريل لم يعلمهم شيئًا، وإنما الذي علمهم بالحقيقة هو النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن جبريل لما كان سؤاله سببا للتعلم من النبي - صلى الله عليه وسلم - نسب التعليم إليه مجازا من باب إطلاق اسم المُسَبَّبِ على السبب. البحث التاسع: احتج الاتحادية والحلولية من هذا الحديث على مذهبهم بوجهين (أ): أحدهما: أن جبريل - عليه السلام - روحاني وقد خلع في هذا الحديث صورة الروحانية وظهر بمظهر البشرية، مع أن جبريل أحد مخلوقات الله عزَّ وجلَّ، ولذلك كان يظهر في سورة دحية الكلبي فيعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - مَلَكا، والناس حوله يعتقدونه بشرا. قالوا: فالله عزَّ وجلَّ أقدر على الظهور في صورة الوجود الكلي أو بعضه، وبنحو هذا احتج ابن الفارض في نظم السلوك (¬2). الوجه الثاني: قوله عليه الصلاة والسلام: "فإن لم تكن تراه فإنه يراك" قالوا: هذا يدل على أنه عزَّ وجلَّ ماهية لطيفة في غاية اللطافة بحيث أنه يَرَى ¬

_ (أ) في م من وجهين. (¬1) رواه أحمد 4/ 129، 164، من حديث عامر الأشعري. وصحَّح الحافظ ابن حجر سنده فتح الباري 1/ 116. (¬2) هو عمر بن علي بن مرشد الحموي ثم المصري. صاحب الاتحاد الذي قد ملأ به التائية، فإن لم يكن في تلك القصيدة الذي لا حيلة في وجوده فما في العالم زندقة ولا ضلال. أهـ سير أعلام النبلاء 22/ 368 ونظم السلوك هي قصيدته التائية الاتحادية في نحو ثمانمائة بيت تنعق بصريح الاتحاد.

ولا يُرى، ويشهد لذلك قوله عزَّ وجلَّ {وهو معكم أينما كنتم} [سورة الحديد: 4] {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} [سورة المجادلة: 7] {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} [سورة ق: 16] {ونحن أقرب إليه منكم} [سورة الواقعة: 85] {ونعلم ما توسوس به نفسه} {لا تدركه الأبصار} الآية [سورة الأنعام: 103] وقوله عليه الصلاة والسلام: "إن المصلي يناجي ربه فلا يتنخمنَّ في قبلته فإن الله عزَّ وجلَّ بينه وبين قبلته" (¬1) وقوله عليه الصلاة والسلام: "اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا بصيرًا أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته" (¬2) قالوا: فكل هذه النصوص من الكتاب والسنة تدل على أن الله عزَّ وجلَّ سار بذاته في الوجود. والجواب: أن البرهان قد قام على استحالة الاتحاد مطلقا، وعلى استحالة الحلول على الرب جلَّ جلاله. وما ذكرتموه من الاستدلال بهذا الحديث وغيره ظواهر لا تعارض البرهان القاطع. وقد أجمع علماء الكتاب والسنة على تأويلها على خلاف ما ذكرتم فبطل ما ادعيتم والحمد لله رب العالمين. وإنما ذكرت استدلالهم وحوابه لئلا يُمَوهَ به بعضهم على أحد، ويحتج بهذا الحديث الصحيح ونحوه عليه فيقبله وليس كذلك، فإن الحديث صحيح، ¬

_ (¬1) رواه البخاري 1/ 159 ومسلم 1/ 390 من حديث أنس بنحوه. (¬2) رواه البخاري 3/ 1091 ومسلم 4/ 2077 من حديث أبي موسى الأشعري.

ولكن الاستدلال به على ما ذكرتموه باطل، ولا يلزم من صحة النقل صحة الاستدلال به. البحث العاشر: أن اللام في "الحفاة العراة العالة" يحتمل أنها فيه للعموم، فيكون مخصوصا بقاطع العادة، إذ العادة تقتضي أن ليس جميع الفقراء يتطاولون في البنيان بل بعضهم. ويحتمل أنها لمعهود بين المتخاطبين، أو لتعريف الماهية، أو لبعض الجنس كما ذهب إليه بعضهم، فلا عموم ولا تخصيص. وكذلك قوله: "أن تلد الأمة ربَّتها" ليست اللام للعموم إذ ليس كل أمة يتفق لها ذلك ففيها الوجهان في لام الحفاة. وقوله عليه الصلاة والسلام لعمر: "أتدري من السائل" إلى آخره فيه دليل على استحباب تنبيه المعلم تلاميذه والرئيس من دونه على سائر فوائد العلم وغرائب الوقائع طلبا لنفعهم وفائدتهم. البحث الحادي عشر: هذا الحديث يرجع من كتاب الله عزَّ وجلَّ إلى آيات كثيرة تضمنت ما تضمنه من ذكر الإسلام والإيمان نحو قوله {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} إلى قوله {ومما رزقناهم ينفقون} [سورة الأنفال: 2 - 3] {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه} الآية [سورة البقرة: 285]. {ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر} الآية [سورة النساء: 136] {ليس البر أن تولوا وجوهكم} الآية [سورة البقرة: 177] ونحو ذلك. ويرجع من السنة إلى أحاديث منها الثالث والثامن من هذه الأربعين. ثم هاهنا سؤال: وهو أنه عليه الصلاة والسلام سمَّى مجموع ما تضمنه

هذا الحديث دينا وهو الإسلام والإيمان والإحسان بقوله: "إنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" وإنما علمهم هذه الثلاثة فمجموعها هو الدين، لكن هذا معارض لقوله عزَّ وجلَّ {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [سورة المائدة: 3] إذ يقتضي أن الدين هو الإسلام وحده، وهو جزء الدين المذكور في حديث جبريل. وهذا سؤال أوردته في درس بعض الفضلاء فلم يحصل عنه ما يشفي. والذي أستحضره الآن في الجواب عنه: أن الدين لفط يطلق على الثلاثة التي سأل عنها جبريل، وعلى الأول منها وحده، وإطلاقه على هذين المعنيين إما بالاشتراك، أو بالحقيقة والمجاز، أو بالتواطئ أو غير ذلك، ففي الحديث أطلق الدين على مجموع الثلاثة، وهو أحد مدلوليه، وفي الآية أطلق على الإسلام وحده وهو مسماه الآخر. ويحتمل أن يقال في الجواب: إن قوله عزَّ وجلَّ {ورضيت لكم الإسلام دينا} لا عموم فيه لأن دينا نكرة لا عموم لها، وهي نصب على التمييز، والتقدير رضيت لكم الإسلام من الدين، والمتيقن من ذلك أن الإسلام بعض الدين لا كله، وهو موافق للحديث لأن الإسلام فيه بعض الدين وهو ثلثه، خصلة من ثلاث خصال، وهي الإسلام والايمان والإحسان، لكن هذا الجواب يعارضه قوله عزَّ وجلَّ {إن الدين عند الله الإسلام} [سورة آل عمران: 19] وقوله عزَّ وجلَّ {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه} [سورة آل عمران: 85] فإنه يقتضي أن الإسلام جميع الدين، لا بعضه والأقرب هو الجواب الأول.

البحث الثاني عشر: أن الإيمان هل هو التصديق المجرد أو التصديق بالقلب مع أعمال الجوارح الظاهرة. حجة الأول حديث جبريل هذا حيث قال: "الإيمان أن تؤمن بالله" وهو التصديق كما مَرَّ، وخص أعمال الجوارح باسم الإسلام، وأيضًا قوله عزَّ وجلَّ {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات} [سورة الكهف: 107] والعطف يقتضي التغاير فالأعمال غير الإيمان (أ). حجة الثاني وهم جمهور أهل الحديث حديث ابن عباس في وفد عبد القيس حيث فسر لهم الإيمان بالأعمال مع التوحيد وقد سبق أنه لاضطرابه لا يعارض حديث جبريل (¬1)، وأيضًا احتجوا بقوله عليه الصلة والسلام: "الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان" (¬2). وجوابه: أن الأعمال من آثار الإيمان وَمسَبَّباتِهِ لا من حقيقته، بدليل ما سبق من حجة الآخرين وجمعا بينه وبين حديث جبريل. واحتجوا بما رووه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان". وجوابه أن هذا لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو قول بعض مجتهدي أئمة ¬

_ (أ) في م والإيمان غير الأعمال. (¬1) سبق الكلام على هذا الاضطراب المزعوم. (¬2) رواه البخاري 1/ 13 ومسلم 1/ 63 من حديث أبي هريرة.

السلف، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث جبريل حجة عليهم في أن الإيمان هو التصديق المجرد. فإن قيل: قوله عليه الصلاة والسلام: "الإيمان بضع وسبعون شعبة" يقتضي أن أعمال الجوارح من الإيمان فلم لا يجعل هذا زيادة على مقتضى حديث جبريل فيعمل به (أ)، ويكون الإيمان هو التصديق مع الأعمال عملا بالحديثين؟ قلنا (ب): لأن حديث جبريل محل تعليم وبيان بحضرة رسولي السماء والأرض ومعصومي الملائكة والبشر (¬1)، فلو كان الإيمان زيادة على التصديق لما أخر بيانه عن وقت الحاجة. وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن جبريل علمهم دينهم ومقتضاه أنه علمهم دينهم كاملًا، فلو كان مع ذلك قد أخل بجزء الإيمان ولم يبينه لم يكن قد علمهم دينهم كاملًا هذا خلف، فثبت أن الإيمان هو التصديق، وهو مذهب أبي حنيفة وجماعة من العلماء (¬2)، نعم يتفاضل الناس في آثار الإيمان وهي الأعمال. البحث الثالث عشر: أنه - عليه السلام - ذكر أجزاء الدين ثلاثة: أحدها: الإسلام وهو الشهادتان والعبادات الخمس وتفصيلها التام في ¬

_ (أ) في أ، م بها. (ب) في س قلت. (¬1) سبق ما فيه. (¬2) سيأتي التعليق على هذه المسألة في شرح الحديث الرابع والثلاثين.

كتب الفقه، والثاني: الإحسان وهو المراقبة والإخلاص وتفصيلها التام في كتب التصوف والحقائق والمعاملات كالرعاية للمحاسبي (¬1)، وقوت القلوب لأبي طالب المكي (¬2)، والإحياء للغزالي ونحوها، والثالث: الإيمان ومُتَعَلَّقُهُ ستة أشياء الله عزَّ وجلَّ وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، والعلم بهذه (أ) الأشياء الستة هو العلم المسمى بأصول الدين، فأما ما ضَمَّته إليه متأخروا المتكلمين فموضعه اللائق به كتب الفلسفة، ولا حاجة بالمسلم إليه إلا ليناضل به عن دينه أو يعرف غثَّ كلام الناس من سمينه، ونحن إن شاء الله تعالى نشير إلى بعض تفصيل هذه الجملة لتكون كالعقيدة المختصرة، ولئلا يلتبس على بعض الناس ما هو من أصول الدين بغيره فنقول: أما الإيمان فقد سبق القول في لفظه وأنه التصديق المجرد وأنه مغاير للإسلام، وقال بعض العلماء: لا يدخل الجنة والنار إلا مؤمن! لكن إيمان أهل الجنة نافع لأنه مستصحب من حين التكليف، وإيمان أهل النار لا ينفع (ب)؛ لأنه مستأنف حينئذ اضطرارًا {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} الآية [سورة غافر: 85] ونحوها. ¬

_ (أ) في أ، م بأحكام هذه. (ب) في م لا ينتفع به. (¬1) هو الزاهد العارف شيخ الصوفية أبو عبد الله الحارث بن أسد البغدادي المحاسبي صاحب التصانيف الزهدية ت 243 سير أعلام النبلاء 12/ 17 طبع كتابه (الرعاية) مرات. (¬2) هو الزاهد العارف شيخ الصوفية أبو طالب محمد بن علي بن عطية المكي المنشأ العجمي الأصل ت 386 السير / 536 طبع كتابه (قوت القلوب) مرات.

أما الله عزَّ وجلَّ فيتعلق الإيمان بذاته وصفاته وأفعاله، أما ذاته فيجب الإيمان بوجودها وجودا قديما لم يسبقه ولا يلحقه عدم، وأن ما سواه محدث هو أحدثه وأوجده: وأما صفاته فَضَرْبَان: ذاتي مقارن في الوجود للذات لم يفارقها كالعلم والحياة والقدرة والإرادة والكلام والسمع والبصر، وغير ذاتي وهو إما سلبي أو إضافي (¬1)، وقد اشتمل على أكثر ذلك الأسماء الحسنى، وتفصيل أحكام الصفات يطول، ومنها الوحدانية وهو أنه عزَّ وجلَّ واحد لا شريك له، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، وصفاته الذاتية معان زائدة على مفهوم ذاته قائمة بها عند الجمهور ولا محذور. وأما أفعاله فهي متعلق الإيمان بالقدر فيجب اعتقاد أن الله قدر الخير والشر قبل خلق الخلق وأن جميع الكائنات بقضاء الله عزَّ وجلَّ وقدره وهو مريد لها، وأن له رحمة من شاء من خلقه متفضلا، وله تعذيب من شاء من خلقه عادلًا، كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وأنه أعلم بطباع خلقه منهم {هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم} الآية [سورة النجم: 32] فما فعل فيهم فهو غير ملوم ولا مطعون على عمله ولا عدله، وله تكليفهم بما شاء من الأفعال مع تقدير أسباب منعهم منها، وهو المسمى تكليف ما لا يطاق. ¬

_ (¬1) تابع المؤلف طائفة من الفلاسفة في تقسيم صفات الله إلى صفات سلبية أو إضافية. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقاربهم طائفة من الفلاسفة وأتباعهم فوصفوه بالسلوب والإضافات دون صفات الإثبات". التدمرية 17.

قال بعض العلماء: يجب السكوت عن (كيف) في صفاته، وعن (لم) في أفعاله. وأما الملائكة فيجب الإيمان بأنهم عباد مكرمون، وأنهم خلقوا من نور، وأنهم مطيعون معصومون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فقولنا: عباد، رَدٌّ على من تألههم كالكفار، وقولنا: مكرمون، رَدٌّ على من تنقصهم كاليهود. أما التفضيل بين الملائكة والبشر فالأشبه أنهم أفضل من البشر في الجملة، وأما التفصيل ففيه تطويل، وأنهم جواهر روحانية أعطوا من القوة والنفوذ في الموجودات ما لم يعط غيرهم، وأنهم كثيرون بحيث لا يعلم جنود ربك إلا هو. وأما الكتب المنزلة من السماء كالتوراة والإنجيل والزبور والفرقان (أ) فيجب الإيمان بإنزالها وبما تضمنته من حكم وخبر والعمل بما فيها ما لم يثبت نسخه، أما قدمها وحدوثها فقد اختلف فيه المتكلمون، والتحقيق فيه يحتاج إلى تدقيق من نظر دقيق. وأما الرسل فيجب الإيمان بعد النظر في معجزاتهم بإرسالهم وبما أرسلوا به وأن إرسالهم واجب من الله عزَّ وجلَّ لا عليه، واختلف (ب) في النبوة: هل هي موهبة أو مكتسبة (¬1). ¬

_ (أ) في م القرآن. (ب) في م واختلفوا. (¬1) هذا خلاف للزنادقة، وليس بين أهل الحق خلاف في النبوة هل هي موهبة من الله سبحانه =

وأما اليوم الآخر فأوله من ساعة الموت إلى المحشر، ثم إلى الأبد إما في نعيم مخلد -جعلنا الله وإياكم من أهله- وإما في عذاب شديد (أ) -أعاذنا الله عزَّ وجلَّ وإياكم منه، فيجب الإيمان بما بينَ الموت إلى دخول إحدى الدارين فما بعد ذلك مما صحَّت به نصوص الشرع، إذ لا طريق إلى معرفة ذلك إلا خبر الشرع المعصوم، وهي كثيرة موجودة في كتاب البعث والنشور (¬1) للبيهقي، وفي العاقبة لعبد الحق (¬2)، وفي غيرهما من كتب السنة، وفي القرآن العظيم أكثرها؛ بل جميعها، لكن على طريق الإجمال في بعضها. وأما القدر: فقد سبق معنى الإيمان به في ذكر أفعاله عزَّ وجلَّ. وظاهر هذا الحديث أن القدرية يكفرون بإنكار القدر لأنه عليه الصلاة والسلام جعل الإيمان به من جملة أركان الدين التي لا يتم بدونها، ويشهد لهذا قول ابن عمر: أخبرهم: يعني القدرية أني منهم برئ، ولولا أنه علم كفرهم من السنة لما تبرأ منهم، وقوله عليه الصلاة والسلام: "القدرية ¬

_ (أ) في م سرمد. = وتعالى أم مكتسبة، بل هم مطبقون على أن النبوة موهبة ربانية لا تُدرك برياضات صوفية، ولا مجاهدات اتحادية، وكان للمؤلف سعة في السكوت عنه وعدم نقل مثل هذا الإلحاد في كتاب يشرح فيه حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي وأمي. (¬1) طبع طبعات ناقصة. (¬2) هو عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله الأزدي الإشبيلي الأندلسي الإمام الحافظ البارع ت 581 السير 21/ 198 وكتابه (العاقبة في ذكر الموت والآخرة) طبع مرات، أجودها طبعة الكويت.

مجوس هذه الأمة" (¬1) والأشبه أنهم لا يكفرون لأن تعارض الشبه في مسألة القدر شديد، فهم فيه معذورون، وكذلك غيرهم من فرق الأمة ممن حاله في ذلك كحالهم. وتحقيق ذلك أن مسائل الشريعة إما قاطع كالتوحيد والنبوات فيكفر منكره، وإما ظني (أ) اجتهادي كمسائل الفروع فلا يكفر منكره كإنكار وجوب النية للوضوء، وجواز الوضوء بالنبيذ، أو متردد بين القسمين كمسألة الجبر والقدر، وحدوث الكلام، وإثبات صفة العلو، ونحوها مما قويت فيه الشبهة من الطرفين فاختلف الناس في التكفير به، والأشبه عدم التكفير إلحاقا له بالاجتهاديات. واعلم أنه لو لم يكن في الأربعين، بل في السنة جميعها غير هذا الحديث ¬

_ (أ) في ب، س: وظني. (¬1) رواه أبو داود 4/ 66 والحاكم 1/ 85 واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة 3/ 712 من طريق عبد العزيز بن أبي حازم عن أبي حازم عن ابن عمر. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع أبي حازم من ابن عمر ولم يخرجاه. ورواه اللالكائي 3/ 707 والآجري في الشريعة 1/ 378 من طريق زكريا بن منظور عن أبي حازم عن ابن عمر. ورواه الآجري 1/ 379 وابن أبي عاصم في السنة 1/ 150 من طريق الجعيد بن عبد الرحمن عن نافع عن ابن عمر. ورواه أحمد 10/ 252 من طريق عمر بن عبد الله مولى غفرة عن نافع عن ابن عمر. ورواه أيضًا 9/ 415 من طريق عمر بن عبد الله مولى غفرة عن ابن عمر وقد حسن الحديث الألباني في ظلال الجنة.

لكان وافيا بأحكام الشريعة لاشتماله على جملها مطابقة، وعلى تفاصيلها تضمنا، وجمعه بين الطاعات المتعلقة بالقلب والبدن أصولا وفروعا. تم الكلام على هذا الحديث إن شاء الله عزَّ وجلَّ.

الحديث الثالث

الحديث الثالث: عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان. رواه البخاري ومسلم (¬1). أقول: هذا الحديث داخل في ضمن الذي قبله حيث سأل جبريل عن الإسلام فأجابه عليه الصلاة والسلام بهذه الخمس. وقوله: "بني الإسلام" أي أُسِّسَ. وقوله: "على خمس" أي: خمس دعائم، هي خصاله المذكورة، فلذلك لم تلحق التاء في خمس، ولو أراد الأركان لقال على خمسة. وإقام الصلاة، أصله إقامة الصلاة لكن حذف التاء تبعًا للفظ القرآن، وحذفت في القرآن طلبا للازدواج مع وإيتاء الزكاة، والحذف ونحوه للازدواج كثير في كلام العرب نحو الغَدايَا (¬2) والعشَايَا (¬3)، و"ارجعن مأزورات غير مأجورات" (¬4) ¬

_ (¬1) رواه البخاري 1/ 12 ومسلم 1/ 45. (¬2) الغدايا: مفرده غدوة، وجمعه غُدًا وغدوات قال الجوهري: قولهم إني لآتيه بالغدايا والعشايا هو لازدواج الكلام. الصحاح 6/ 2444. (¬3) العشايا: العَشِيُّ كغني والعشيَّة كغنية وجمعه عَشَايَا. تاج العروس 19/ 677. (¬4) رواه ابن ماجه 1/ 503 والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 77 من حديث علي، وهو حديث ضعيف. وكان الأصل "ارجعن موزورات" لأن المادة الوزر، ولكن قيل: مأزورات للازدواج مع مأجورات.

"والرِّجْسُ النِّجْسُ" (¬1) وهو كثير. وإيتاء الزكاة محذوف المفعول، أي: وإيتاء الزكاة أهلها، بدليل {وآتى المال على حبه ذوي القربى} [سورة البقرة: 177] والإيتاء الإعطاء. وقد سبق معنى الصلاة. وأما الزكاة فهي في اللغة: الزيادة والنماء، ومنه {أقتلت نفسا زكيَّة} [سورة الكهف: 74] {ويزكيهم} [سوره آل عمران: 164] و {قد أفلح من زكَّاها} [سورة الشمس: 10] ولعلها مأخوذة من الزَّكَا، وهو الاثنين (¬2) من قوله في وصف السيف (¬3): إذَا هَوَى فِي جُثَّةٍ غَادَرَها ... مِنْ بعدِ ما كانَتْ خَسًا وَهْيَ زَكَا أي: من بعد ما كانت واحدا وهي اثنان. وفي الشرع: إخراج جزء مقدر من مال مخصوص إلى جهة مخصوصة على جهة القربة. والحج في اللغة: القصد، وفي الشريعة (أ): قصد المسجد الحرام وما حوله ¬

_ (أ) في م الشرع. (¬1) في تاج العروس: زعم الفراء: أنهم إذا بدءوا بالنجس ولم يذكروا الرجس فتحوا النون والجيم، وإذا بدعوا بالرجس ثم أتبعوه بالنجس كسروا النون، فهم إذا قالوه مع الرجس أتبعوه إياه، وقالوا: رِجْسٌ نِجْسٌ، كسروا لمكان رجس. مادة نجس. (¬2) في اللسان: والزكا مقصور الشفع من العدد، وزكا الشفع، يقال: خَسًا أو زَكًا، والعرب تقول للفرد: خَسًا، وللزوحين اثنين زَكًا. (¬3) هو البيت السابع والسبعون من مقصورة ابن دريد، وانظر شرحه في "شرح مقصورة ابن دريد" لابن هشام اللخمي (طبعة مؤسسة الرسالة) ص 288.

لأداء النسك. والصوم في اللغة: الإمساك، وفي الشرع: إمساك ما بين طلوع الفجر وغروب الشمس عن المفطرات الشرعية بنية القربة. ورمضان قيل: من أسماء الله تعالى، والصحيح أنه اسم الشهر المشهور سمى رمضان لاشتداد حَرِّ الرمضاء فيه حين وضع له هذا الاسم. واعلم أن الشرع تعبَّدَ الناس في أبدانهم وأموالهم فلذلك كانت العبادات إما بدنية كالصلاة أو مالية كالزكاة أو مركبة منهما كالحج والصوم لدخول التكفير بالمال فيهما، وعمل البدن فيهما ظاهر كالطواف وتجويع البدن. وقوله: "بني الإسلام على خمس" شبهه ببيت بني على دعائم خمس كما قال في حديث آخر "ألا أنبئك بملاك الأمر وعموده وذروة سنامه؟ الجهاد" (¬1) ثم من المعلوم أن البيت لا يثبت بدون ركنه ودعائمه (أ) التي يبنى عليها. وظاهر هذا الحديث أن من ترك شيئًا من هذه الخمس يخرج عن كمال الإسلام الجزئي بقدر ما ترك منها لكنه لا يدخل في الكفر إلا إن ترك (ب) ذلك جاحدا لوجوبه، إذ قد بينا أن الإسلام غير الإيمان وإنما يكفر من فارق الإيمان ¬

_ (أ) في أ، م دعامته. (ب) في م يترك. (¬1) الحديث التاسع والعشرون من هذا الأربعين.

بأن كذبَ الله (أ) وملائكته وكتبه ورسله واليومَ الآخِرَ أو بعضها (ب)، أما من فارق الإسلام (¬1) أو بعضه فإنما يدخل في الفسق لا في الكفر، وظاهر هذا التقرير أن تارك الصلاة تهاونا لا يكفر خلافا لمشهور قول الحنابلة (¬2). وها هنا تقسيم: وهو أن الإيمان والإسلام قد عرفت حقيقتهما ومعناهما، فمن أتى بهما فهو مؤمن كامل، ومن تركهما فهو كافر كامل، ومن ترك الإسلام وحده فهو فاسق وهو مؤمن ناقص، ومن ترك الإيمان وحده فهو منافق يؤمن بلسانه وفعله، ويكفر باعتقاده وقلبه. ومرجع هذا الحديث من آي الكتاب إلى قوله عزَّ وجلَّ {فاعلم أنه لا إله إلا الله} [سورة محمد: 19] {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} [سورة الفتح: 29] {أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} [سورة البقرة: 43] {كتب عليكم الصيام} [سورة البقرة: 183] {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [سورة البقرة: 185] {وأتموا الحج والعمرة لله} [سورة البقرة: 196] {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} [سورة آل عمران: 97] ومن السنة إلى نظائره وهي عديدة، والله عزَّ وجلَّ أعلم بالصواب. ¬

_ (أ) في أ، م بالله. (ب) في أ، م وببعضها. (¬1) إلا الشهادتين فلا يكون مسلمًا من فارق الشهادتين بأن لم ينطق بهما مع القدرة عليهما، انظر الكلام على حقيقة الإسلام والإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية 185. (¬2) انظر المغني لابن قدامة 3/ 354.

فائدة: إن قيل: هذا الحديث مطلق في الأزمان لا عموم له فيها فيقتضي تقرر الإسلام المعتبر لمن أتى بهذه الأركان الخمسة مرة واحدة، فبماذا يثبت (أ) عمومها في الأزمان، وتكَرُّرُهَا فيها؟ قلنا: بالأدلة المنفصلة الدالة على العموم، نحو قوله - صلى الله عليه وسلم - "خمس صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم والليلة" (¬1). وقوله عليه الصلاة والسلام: "من ترك الصلاة فقد كفر" (¬2) يقتضي من تركها مرة واحدة كفر، وذلك يقتضي عموم وجوبها في الأزمان، والأدلة على ذلك كثيرة. ¬

_ (أ) في أ، م ثبت. (¬1) رواه أبو داود 2/ 130 والنسائي 1/ 230 وابن ماجة 1/ 448 وابن حبان (الإحسان 5/ 23) من حديث عبادة بن الصامت. (¬2) رواه الترمذي 5/ 14 والنسائي 1/ 231 وابن ماجه 1/ 342 من حديث بريدة. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

الحديث الرابع

الحديث الرابع: عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق إن أحدكم مجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد. فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها". رواه البخاري ومسلم. الكلام على هذا الحديث في لفظه ومعناه. أما لفظه فمنه قوله: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو أصل فيما يستعمله المحدثون من قولهم حدثنا، وأخبرنا، وأنبأنا. ومعنى حدثنا أنشأ لنا خبرًا حادثا. ومنه الصادق المصدوق فالصادق الآتي بالصدق، وهو الخبر المطابق، والمصدوق الذي يأتيه غيره بالصدق، وعلى هذا القياس الكاذب والمكذوب، ومنه قول على رضي الله عنه يوم النهروان: والله ما كَذَبْتُ وما كُذِبتُ (¬1)، أي: ما كذبني من أخبرني. ¬

_ (¬1) انظر الكامل للمبرد (3/ 1105 - 1106 طبعة الدالي).

والنبي - صلى الله عليه وسلم - صادق فيما أخبر به، مصدوق فيما أخبر لأن جبريل مخبره، وعكسه ابن صياد حين قال: يأتيني صادق وكاذب، وأرى عرشا على الماء فقال: "خُلِّط عليه الأمر" (¬1) فهو إذًا كاذب مكذوب (¬2). ومنه قوله: "يجمع خلقه في بطن أمه" أي: مادة خلقه، وهو الماء الذي يخلق (أ) منه. و "يجمع" أي: يضم ويحفظ. ومنه العلقة قطعة دم، والمضغة قطعة لحم قدر ما يمضغ. ومنه الروح وهو المعنى الذي يحيى به الإنسان، وهو من أمر الله عزَّ وجلَّ كما أخبر، وللناس في تحقيقه خلاف كثير، ولفظه مشترك بين عدة معانٍ. ومنه الرزق وهو ما يتناوله الإنسان في إقامة بدنه من مأكول ومشروب وملبوس وغيره. والأجل مدة الحياة. وأما معناه ففيه أبحاث: الأول: قوله: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه" إلى قوله: "ثم يرسل الملك" هو راجع إلى قوله عزَّ وجلَّ {هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة} [سورة غافر: 67] وأيضًا {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} [سورة المؤمنون: 12] الآية ونحوها. ¬

_ (أ) في م خلق. (¬1) رواه البخاري 1/ 454 ومسلم 4/ 2244 من حديث ابن عمر. (¬2) في هامش "أ" أي كاذب فيما أخبر مكذوب فيما أخبر به.

البحث الثاني: أنه ذكر نفخ الملك الروح في الجنين بعد مائة وعشرين يوما، مضروب ثلاثة في أربعين، فاستفيد من ذلك أنه لا يصلى على السقط حتى يستكمل أربعة أشهر وهي مائة وعشرون يوما، إذ قبل ذلك لا روح فيه وما لا روح فيه فهو موات، والصلاة إنما تكون على الميت، وهو من حلَّه (أ) الروح، ثم فارقه لا على الموات بالأصالة. فإن قيل: قد تضمن هذا الحديث أن الجنين يُصلَّى عليه بعد ثلاثة أطوار وهي طور النطفة والعلقة والمضغة، وإذا صُلِّي عليه ضمن بالجناية عليه. ونقل عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: لا يضمن حتى تأتي عليه الأطوار السبعة. يعني المذكورة في أوَّل سورة المؤمنين (¬1). فاعلم أنه لا تعارض بين الحديث وقول عليّ لأن الأطوار الثلاثة في الحديث متضمنة الأطوار (ب) السبعة التي في الآية، وهي السلالة، والنطفة، والعلقة، والمضغة، ثم العظام، ثم كسوتها لحما، ثم إنشاؤها خلقا آخر، وهي الصورة الإنسانية الكاملة التي تضمن الحديث أنها تكون بعد مائة وعشرين يوما. البحث الثالث: يستفاد من الحديث أن الأمة لا تصير أم ولد إلا بوضع ما تجاوز أربعة أشهر من سيدها لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في أم الولد: "أعتقها ¬

_ (أ) في س دخله. (ب) في م للأطوار. (¬1) رواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار 5/ 174.

ولدها" (¬1) فعلق العتق بالولد، ومقتضى حديث ابن مسعود أنه لا يسمى ولدا قبل أربعة أشهر لأنه سماه قبلها نطفة وعلقة ومضغة، ولا شيء من ذلك بولد لغة ولا عرفا، وإنما يسمى ولدا إذا نفخ فيه الروح بعد ذلك، ثُمَّ وُلِدَ. فإن قيل: الشرع علَّق عتقها بالولد، والولد مشتق من الولادة، وهي الخروج من الرحم؟ قلنا: يلزم على هذا أن تصير أم ولد بوضع النطفة إذا خرجت من الرحم وليس كذلك، ولو قال به قائل لكان بعيدا عن دليل الشرع، وإنما ذهب بعض الفقهاء إلى صيرورتها أم ولد بدون ما ذكرناه حرصا على عتقها وتشوُّفا إليه ولو بسبب ضعيف كالعتق بالسراية. البحث الرابع: أن نفخ الروح في هذا الحديث بعد مائة وعشرين يوما، وصحَّ في حديث آخر أنه بعد أربعين، أو اثنين وأربعين يومًا (أ) (¬2). وأشبه ما يجمع به بينهما حمله على أن بعض الأجنّة ينفخ فيه الروح بعد مائة وعشرين يوما، وبعضهم بعد اثنين وأربعين تخصيصا لكل واحد من الحديثين بالآخر. والله أعلم. ¬

_ (أ) في س بعد اثنين وأربعين يوما. (¬1) رواه ابن ماجه 2/ 841 والحاكم 2/ 19 من حديث ابن عباس. قال الزيلعي: والحديث معلول بابن أبي سبرة وحسين فإنهما ضعيفان. نصب الراية 3/ 287. (¬2) لكن في حديث حذيفة بن أسيد -ولعله الذي يشير إليه المؤلف- "يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة وأربعين ليلة" صحيح مسلم 4/ 2037.

البحث الخامس: قوله: "يؤمر بأربع كلمات" أي: بكتابة أربعة أشياء من أحوال الجنين، رزقه قليلا أو كثيرا، حراما أو حلالا، من أي جهة هو ونحو ذلك، وأجله طويل أو قصير، وعمله صالح أو فاسد، وشقي في الآخرة أو سعيد. قوله: "فيسبق عليه الكتاب" أي: حكم الكتاب الذي كتب له في بطن أمِّه مستندا إلى سابق العلم الأزلي فيه "فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها" يعني بحكم القدر الجاري عليه المستند إلى خلق الدواعي والصوارف في قلبه إلى ما يصدر عنه من أفعال الخير والشر، فمن سبقت له السعادة صرف الله قلبه إلى خير يختم له به، ومن سبقت له الشقاوة صرف الله عزَّ وجلَّ قلبه إلى شرٍّ يختم له به. وفي بعض روايات هذا الحديث "وإنما الأعمال بالخواتيم، والأعمال بخواتيمها" (¬1) وفي حديث آخر "اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فييسَّرُ لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فييسَّرُ لعمل أهل الشقاوة" (¬2) وهذا أيضًا إشارة إلى تصريف الإنسان في أفعاله إلى ما يراد منه بحسب القدر الجاري عليه المستند إلى سابق العلم فيه بحسب خلق الدواعي والصوارف فيه المشار إليه بقول النبي عليه الصلاة والسلام: "قلوب الخلق بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف ¬

_ (¬1) لم يأت في حديث ابن مسعود، وإنما جاء في حديث سهل بن سعد الذي أخرجه الإمام أحمد 5/ 335. (¬2) رواه البخاري 4/ 1891 ومسلم 4/ 2039 من حديث علي.

يشاء" (¬1). البحث السادس: قوله: "يعمل بعمل أهل الجنة" إلى آخره، هو قسمان من أربعة، لأن الإنسان إما أن يعمل بعمل أهل الجنة من أول عمره إلى آخره، أو بعمل أهل النار مثل ذلك، أو يعمل بعمل أهل الجنة أول عمره ويعمل بعمل أهل النار عند انختامه (أ)، أو بالعكس. واعلم أن أهل التحقيق اختلفوا، فمنهم: من يراعى (ب) حكم السابقة وجعلها نصب عينه، ومنهم: من راعى حكم الخاتمة، والأشبه الأول لأن الله سبحانه وتعالى سبق في علمه الأزلي سعيد العَالَم وشقيه، ثم الخاتمة عند الموت مرتبة على العلم الأزلي ومبنية عليه بحسب صلاح العمل عندها وفساده ثم حقيقة السعادة والشقاوة في الدار الآخرة مبنية على الخاتمة، والمبنيُّ على المبنيِّ على الشيء مبنيٌّ على ذلك الشيء، فحقيقة السعادة والشقاوة مبنية على سابق العلم بها، فهي إذن أولى بالخوف منها والمراعاة لها. البحث السابع: قوله: "إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، ويعمل بعمل أهل النار فيسبق عليه الكتاب فيعمل ... " كل هذا إشارة إلى أنه لا بُدَّ من سببيَّة الأعمال للسعادة والشقاوة. ¬

_ (أ) في م الخاتمة. (ب) في م راعى. (¬1) رواه ابن ماجه 2/ 1260 وابن أبي عاصم في السنة 1/ 101 من حديث أنس وصححه الألباني في ظلال الجنة.

وتحقيق هذا المقام أن الله عزَّ وجلَّ خلق الخلق وركب (أ) فيهم طباع الخير والشر، فعلم ما يكون منهم بحسب مقتضى طباعهم المركوزة فيهم، فلو أسعدهم وأشقاهم بدون تكليف وعمل اعتمادًا على سابق علمه وحكمته فيهم لكان في ذلك مأمونا غيرَ مُتَّهَمٍ، لكنه سبحانه وتعالى عادل في حكمته (ب) حليم في عدله، والحكمة تقتضي اجتناب مظان التُّهَمِ، فلو عذب بعضهم بموجب علمه فيهم لاتَّهَمُوهُ، فدفع هذه التهمة بأن كلَّفهم حتى ظهرت معصيتهم عن طباعهم المركوزة فيهم من القوة إلى الفعل، وهذا هو سِرُّ قوله عزَّ وجلَّ {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} [سورة النساء: 165] وقوله عليه الصلاة والسلام في أطفال المشركين: "الله أعلم بما كانوا عاملين" (¬1) وفي هذا المقام بسط وتحقيق وفيما ذكرناه تنبيه على المقصود منه. ومرجع هذا الحديث من الكتاب إلى آيات القدر، نحو {إنا هديناه السبيل إمَّا شاكرا وإمَّا كفورا} [سورة الإنسان: 3] {من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدا} [سورة الكهف: 17]. ومن السنة إلى أحاديث القدر، كحديث محاجَّة آدم وموسى، وحديث عليٍّ "كل ميسر لما خلق له" (¬2) وقوله عليه الصلاة والسلام "اعملوا على ¬

_ (أ) في م وركز. (ب) في م حكمه. (¬1) رواه البخاري 1/ 465 ومسلم 4/ 2049 من حديث أبي هريرة. (¬2) سبق تخريجه قريبا.

مواقَع القدر" وقوله: "قدَّر الله المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف عام" (¬1) أو كما قال وهي كثيرة. البحث الثامن: تصرف الله في خلقه إما ظاهر أو باطن، والظاهر إما بخرق العادات كالمعجزات، أو بنصب الأدلَّة والأمارات كأحكام التكليفات، والباطن إما بتقدير الأسباب نحو {ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد} [سورة الأنفال: 42] وشبهه، أو بخلق الدواعي والصوارف نحو {كذلك زيّنا لكل أمَّة عملهم} [سورة الأنعام: 108] {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم} [سورة الأنعام: 110] {ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم} [سورة التوبة: 137] وقوله عليه الصلاة والسلام: "يا مصرف القلوب صَرِّفْ قلبي على طاعتك" (¬2). وهذا البحث مناسب لما ذكرنا في قوله: "فيسبق عليه الكتاب". وهذا الحديث يتعلق (أ) بمبتدأ الخلق ومنتهاه، وأحكام القدر في المبدأ والمعاد. تم الكلام على هذا الحديث إن شاء الله عزَّ وجلَّ. ¬

_ (أ) في م متعلق. (¬1) رواه مسلم 4/ 2044 من حديث عبد الله بن عمرو بنحوه. (¬2) رواه مسلم 4/ 2045 من حديث عبد الله بن عمرو.

الحديث الخامس

الحديث الخامس: عن أم المؤمنين أم عبد الله عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ" رواه البخاري ومسلم (¬1)، وفي رواية لمسلم "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ". الكلام على إسناده ولفظه ومعناه. أما إسناده ففي موضعين: أحدهما: أن عائشة رضي الله عنها وغيرها من أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقال لهن: أمَّهات المؤمنين لقوله عزَّ وجلَّ {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم} [سورة الأحزاب: 6] ولهذا حرم نكاحهن على غيره بدليل {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا} [سورة الأحزاب: 53] ولأنه لما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - للناس كالأب لرأفته ورحمته بهم -ولذلك قال: "إنما أنا لكم كالوالد أعلمكم" (¬2) كُنَّ أزواجه كالأمَّهات لهم، فأمَّا قوله عزَّ وجلَّ {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله} [سورة الأحزاب: 40] فالمراد نفي أبوة النسب، ولذلك لم يعش له ابن حتى يصير من الرجال. الموضع الثاني: إنما كنيت عائشة أم عبد الله بابن أختها أسماء، روي أنها قالت: يا رسول الله كل نسائك لهن كنى إلا أنا، فقال: "اكتني بابن ¬

_ (¬1) رواه البخاري 2/ 959 ومسلم 3/ 1343 - 1344. (¬2) رواه أبو داود 1/ 18 والنسائي 1/ 38 وابن ماجه 1/ 114 من حديث أبي هريرة.

أختك عبد الله بن الزبير" (¬1) فقيل لها: أم عبد الله، وإلا فالأصحُّ أنها لم تلد من النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا، وقيل: ألقت سقطا وليس بثابت. وأما لفظه فقوله: "من أحدث" أي: أتى بأمر حادث، و "أمرنا" ديننا وشرعنا، و "ما ليس منه" أي: لا يستند إلى شيء من أدلة الشرع "فهو رَدٌّ" أي: مردود كالخلق بمعنى المخلوق، وثوب نسج اليمن أي: منسوجه، ومنه في الحديث "الغنم والوليدة ردٌّ عليك" (¬2) أي: مردودة (أ). وقوله: "ليس عليه أمرنا" أي: لا يرجع إلى دليل شرعنا كما سبق في قوله: "ما ليس منه". وأما معناه من حيث الجملة فهو أن ما خرج عن الشرع فهو باطل، لا صيور له ولا عبرة به. وأما من حيث التفصيل فهذا الحديث على إيجازه واختصاره من أعظم قواعد الشرع وأعمِّهَا نفعا من جهة منطوقه ومفهومه. أما من جهة منطوقه فلأنه مقدمة كلية في كل دليل نافٍ لحكم، مثل أن يقال في الوضوء بماء مغصوب، أو مسروق، أو نجس، أو بدون النية، وفي الصلاة لغير القبلة، أو بغير سترة، أو الصوم بلا نية من الليل، أو بيع الغائب، أو النجش، أو الغرر، أو نكاح الشغار، أو المتعة، أو بلا وليٍّ أو شهود ¬

_ (أ) في م مردود. (¬1) رواه أحمد 6/ 186 وأبو داود 4/ 253. (¬2) رواه البخاري 2/ 959 ومسلم 3/ 1325 من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني.

ونحو ذلك (أ) من أحكام لا تحصى، يقال في كل واحد منها: هذا عمل ليس من الشرع، أو ليس عليه أمر الشرع، وكل ما كان كذلك فهو باطل مردود، فهذا العمل باطل مردود، فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث الصحيح الصريح، وإنما يتجه النزاع في المقدمة الأولى فإذا ثبت تم الدليل، وثبتت الدعوى، وانتفى الحكم. وأما من جهة مفهومه فهو مقدمة كلية في كل دليل مثبت للحكم، لأن مفهوم قوله: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ" أن من عمل عملا عليه أمرنا فليس مردودًا، فيكون صحيحًا، فيقال في الوضوء بدون المضمضة والاستنشاق، والتسمية، وغسل اليدين من نوم الليل، وبدون النية، والترتيب، والموالاة، واستيعاب مسح الرأس ونحوها: كل واحد منها عمل عليه أمر الشرع، وكل ما دَلَّ (ب) عليه أمر الشرع فهو صحيح، فهذا العمل أو الوضوء صحيح. والمقدمة الثانية ثابتة بمفهوم هذا الحديث الصحيح عند من يحتج بالمفهوم، وإنما النزاع في الأولى فيثبتها المستدل بدليلها إن أمكنه، فيتم الدليل وتثبت الدعوى ويثبت الحكم. وهذه قاعدة كلية في إثبات الأحكام ونفيها، وهذا الحديث يصلح أن يسمى نصف أدلة الشرع لأن الدليل إنما يتركب من مقدمتين صغرى ¬

_ (أ) في أ، ب، م ونحوها من أحكام. (ب) في أ، م ما كان.

وكبرى، وإن شئت قلت: أولى وأخرى، ثم المطلوب بالدليل إما إثبات الحكم أو نفيه، وهذا الحديت مقدمة كبرى في إثبات كل حكم شرعي، ونفيه، وإنما يقع الخلاف في المقدمة الصغرى، فلو وجد حديث يكون مقدمة صغرى في إثبات كل حكم شرعي ونفيِه لاستقل الحديثان بأدلة أحكام الشرع، لكن هذا لم يوجد، فإذن هذا الحديث نصف أدلة الشرع باعتبار ما ذكرناه. فإن قيل: كثير من أوامر الشرع العامة خُصَّت بصور فتلك الصور ليس عليها أمر الشرع، وإلا لما كان مخصوصًا بها، ومع ذلك فهي صحيحة في الشرع فإذًا قد صَحَّ في الشرع ما ليس عليه أمر الشرع. قلنا: تخصيص تلك الصور من أوامر الشرع إن كان بغير دليل شرعي فهي باطلة، ولا نسلم صحتها، وإن كان بدليل شرعي فعليها أمر الشرع فلا نسلم خروجها عن أمر الشرع. فإن قيل: ثبت أن خالد بن الوليد تأمَّر على جيش مؤتة بعد قتل أُمَرَائِهِ من غير إمرة (¬1)، وهي ولاية ليس عليها أمر الشرع، ثم قد صحَّت؛ قلنا: لا نسلم أنه ليس عليها أمر الشرع، لأن المراد بأمر الشرع دليله، وإمرة خالد يومئذ كان عليها دليل الشرع من وجهين: أحدهما: أنه هو وأصحابه رأوا في إمرته المصلحة العامة الراجحة للمسلمين، واعتبار المصالح من أدلة الشرع القوية على ما سنقرر في أثناء هذا ¬

_ (¬1) ينظر السيرة النبوية لابن هشام 3/ 379 - 380.

الكتاب إن شاء الله عزَّ وجلَّ، وقد قال به مالك رحمه الله حيث اعتبر المصالح المرسلة (¬1). الوجه الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بلغه إمرة خالد سُرَّ بها ورضي، وهو عليه الصلاة والسلام صاحب الشرع، ورضى صاحب الشرع أقوى أدلة الشرع والله أعلم. ¬

_ (¬1) سيأتي العزو إليه في أثناء شرح حديث "لا ضرر ولا ضرار".

الحديث السادس

الحديث السادس: عن أبي عبد الله النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع (أ) فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب. رواه البخاري ومسلم (¬1). النعمان هذا هو الذي تنسب إليه معرة النعمان لأنه كان مقيما بها أو واليا عليها، وأمه عمرة بنت رواحة، أخت عبد الله بن رواحة، أحد الأمراء الذين قتلوا بمؤتة، وأبوه بشير بن سعد الذي قال: يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ (¬2) وهو بفتح الباء الموحدة وبشين معجمة مكسورة. ثم الكلام في لفظه ومعناه. أما لفظه فالحرام الممنوع منه شرعا لأن حكمه أن يُحرَمَهُ الإنسانُ، أي: ¬

_ (أ) في س، م يقع. (¬1) رواه البخاري 1/ 28 ومسلم 3/ 1219. (¬2) كلا، لم يروِ بشير بن سعد هذا الحديث، ولكن رواه كعب بن عجرة، أخرج عنه البخاري 5/ 2338 ومسلم 1/ 305.

يمنع منه حِسًّا، والحلال ضده (¬1). والمشتبهات ما تَردَّد بينهما فقامت فيه شبهة الحل وشبهة الحرمة. واتقى: اجتنب، والشبهات جمع شبهة، وهي ما خُيِّلَ (أ) للناظر أنه حجة وليس كذلك. واستبرأ لدينه مهموز وقد يخفَّف، ومعناه طلب البراءة لدينه من النقص وحصَّلها له، وكذلك استبرأ من البول حصَّل البراءة منه. وعرضه بكسر العين محل المدح والذم منه. والحمى هو الشيء الممنوع، وحمى الملك ما تحجَّره لخيله ونحوها من آلات مصالحه ومنع منه غيره، ومنه حمى كليب، قال الشاعر: (¬2) أَبَحْتَ حِمَى تِهَامَةَ بَعْدَ نَجْدٍ ... وَمَا شَيءٌ حَمَيْتَ بِمُسْتَبَاح ومحارم الله عزَّ وجلَّ ما حرَّم على خلقه. والقلب عضو باطن في الجسد عليه مدار حال الإنسان، قيل: سمي قلبا لتقلبه (ب) كما قال الشاعر: وما سمي الإنسانُ إلا لِنَسْيِهِ (جـ) ... ولا القلبُ إلا أنه يتقلبُ (¬3) ¬

_ (أ) في أ، م يخيل. (ب) في س من أجل تقلبه. (جـ) في س لانسه. (¬1) في أأسفل هذه الكلمة "أي فهو المأذون فيه شرعا". (¬2) البيت لجرير، انظر ديوانه 77، وهو في خزانة الأدب 6/ 42 بلا نسبة. (¬3) والبيت في الدر المصون للسمين الحلبي 1/ 119 وتاج العروس 1/ 124 (شرح خطبة المصنف).

وهو عضو صغير الجِرْمِ، ولذلك سماه مضغة ولكنه عظيم الجُرْمِ. وأما معناه ففيه أبحاث: الأول: أن قسمة أحكام الأشياء إلى حلال وحرام وما بينهما قسمة صحيحة، لأن كل شيء أو فعل يفرض فإما منصوص على الإذن فيه، وهو الحلال البين، أو على المنع منه وهو الحرام البين، أو لا ينص فيه لا على هذا ولا على هذا، وهو المسكوت عنه، وهو مشتبه بناء على أن الأصل في الأشياء الإباحة أو الحظر، أو ينص فيه عليهما فإن علم آخر النصين فالحكم له من حِلٍّ أو حرمة، والأول منسوخ به ويرجع هذا إلى الحلال أو إلى الحرام، وإن لم يعلم آخر النصين فهو مشتبه أيضًا. وقد يقع الاشتباه من جهة أخرى وهي أن تكاليف الشرع إما أن تأتي بالتخيير بين الفعل والترك وهو الإباحة، أو باقتضاء الفعل، أو باقتضاء الترك لكن الاقتضاء تارة يُصرَّح فيه بالجزم فيكون إيجابا أو حظرا، وتارة بعدم الجزم فيكون ندبا أو كراهة، وتارة يطلق فلا يُصرح فيه بجزم ولا بعدمه فيبقى مترددًا بين الأمرين الإيجاب والندب، أو الكراهة والحظر، فينشأ الاشتباه من ها هنا. البحث الثاني: قوله: "لا يعلمهن كثير من الناس" أي: ليست أحكام تلك الشبهات معطلة لا تعلم، بل يعلمها بعض الناس وهم أولوا العلم والنظر في أحكام الشرع، وفيه إشارة إلى فضل العلماء لعلمهم بما لم يعلم غيرهم، وحَلِّهم ما أشكل على غيرهم. ثم الناس في الشبهات قسمان:

أحدهما: يتَّقيها ويتجنَّبُهَا (أ) فذلك يستبرئ لدينه وعرضه، أي: يصونهما عن النقص والخلل، ووقوع الناس فيه، لاتهامهم إياه بمواقعة المحظورات، وقد جاء في الأثر "من وقف موقف تهمة فلا يلومنَّ من أساء به الظن" ولهذا لما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلين ومعه امرأته صفية قال لهما: "على رسلكما، إنها صفية بنت حيي" خشية أن يتهماه (¬1) فيأثما (¬2)، ولذلك قالا له: يا رسول الله من كنا نتهمه فلا نتهمك، فقال: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرًّا" (¬3) وكذلك لما رأى تمرة ملقاة قال: "لولا أني أخشى أنَّها من الصدقة لأكلتها" (¬4) وذلك من اتقاء الشبهة تورعا. فإن قيل: لم لم يتورع عن لحم بريرة والشبهة قائمة به؟ قلنا: لا نسلم أن الشبهة قائمة به، وقد بين انتفاء الشبهة بقوله: "هو عليها صدقة، ولنا هدية" (¬5) ولئن سلمنا قيام الشبهة به لكنه عليه الصلاة والسلام ¬

_ (أ) في أ، م ويجانبها. (¬1) في هامش أ "حاشية لو اتهماه بريبة كفرا كذا صرح به الأئمة". (¬2) وقد استنبط الشافعي من الحديث معنى لطيفا، روى البيهقي في مناقب الشافعي 2/ 241 قال ابن عيينة للشافعي: ما فقه هذا الحديث؟ فقال الشافعي: إن كان القوم اتهموا النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا بتهمتهم إياه كفارا، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - أدَّبَ من بعده، فقال إذا كنتم هكذا، فافعلوا هكذا لكيلا يظن بكم السوء، فقال ابن عيينة: جزاك الله خيرا، ما يجيئنا منك إلا كل ما نحب. (¬3) رواه البخاري 2/ 175 ومسلم 4/ 1712 من حديث صفية. (¬4) رواه البخاري 2/ 725 ومسلم 2/ 752 من حديث أنس بن مالك. (¬5) رواه البخاري 2/ 543 ومسلم 2/ 755 من حديث عائشة.

كان مُشَرِّعًا، فهو تارة يترك الشيء تورعا لئلا ينهمك الناس في الشبهات، وتارة يفعل الشيء توسيعا (أ) لئلا يَحْرَجَ الناسُ بضيق مجال الشهوات. والثاني: من يواقع الشبهات فذلك يعرض دينه للنقص وعِرْضَه للمضغ، ثم تفضي به مواقعة (ب) الشبهات إلى مواقعة المحظورات بالتدريج والتسامح ولذلك أمثلة: أحدهما: ما ضربه النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلًا لذلك وهو الراعي يرعى حول الحمى وهو المرعى الممنوع منه، فيوشك، أي: يقرب أن يرتع فيه لأن من قارب الشيء خالطه غالبا، ومنه {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] نهى عن المقاربة حذرا من المواقعة. وثانيها: يسير الخمر ليس محذورا في نفسه، وإنما حرم لئلا يتدرج منه إلى الكثير المحذور. وثالثها: الخلوة بالأجنبية لا محذور فيه إلا كونه داعية بالتدريج إلى الوطء المحرم. ورابعها: قبلة الصائم إذا حَرَّكت شهوته تكره لئلا يتدرج بها إلى الوطء المفسد للصوم. وخامسها: في التدريج قوله عليه الصلاة والسلام: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده" (¬1) الحديث. ¬

_ (أ) في أ، م توسعا. (ب) في م مواقع. (¬1) رواه البخاري 6/ 2490 ومسلم 3/ 1314 من حديث أبي هريرة.

أي: يتدرج من سرقة مالا يقطع به، إلى سرقة ما يقطع به، وأمثلة هذا كثيرة. وقد أجاز بعض أهل العلم وطء الزوحة والأمة فيما بين الأليتين، وهذا الحديث يقتضي كراهته (أ) لما فيه من التعريض للإيلاج المحرم، والتعرض (ب) للحرام أقل أحواله أن يكون مكروها، وأقل ما يقال فيه: إن الورع تركه. البحث الثالث: قوله: "ألا وإن لكل ملك حمى" أي: ما يحميه ويمنعه عن غيره، وأقل ذلك ملكه وبلاده فيمنعها (جـ) من غيره أن يغلبه عليها، وقد يكون الحمى خاصة (د) كما سبق ذكره. وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حول المدينة اثني عشر ميلا حِمىً (¬1)، أي: حرما لا يقطع شجره ولا يصاد صيده، وحمى عمر رضي الله عنه لإبل الصدقة أرضا ترعى فيها (¬2) "ألا وإن حمى الله محارمه" هذا من باب قياس الغائب على الشاهد، والمعقول على المحسوس. ونظم القياس هكذا: الله عزَّ وجلَّ ملك، وكل ملك فله حمى، فالله عزَّ وجلَّ له حمى، ثم حمى كل ملك ما منعه، فكذلك حمى الله عزَّ وجلَّ ¬

_ (أ) في م كراهيته. (ب) في م والتعريض. (جـ) في أ، م التي يمنعها. (د) في أ، م خاصا. (¬1) رواه مسلم 2/ 1000 من حديث أبي هريرة. (¬2) رواه البخاري 3/ 1113 عن زيد بن أسلم عن أبيه.

ما منعه وهو المحارم. قوله: "ألا وإن" هو افتتاح كلام يقصد به تنبيه السامعين لفهم الكلام نحو {أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ} [هود: 8]، {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ} [فصلت: 54] {أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت: 54]. البحث الرابع: قوله: "ألا وإن في الجسد مضغة" إلى آخره معناه أن صلاح الجسد تابع لصلاح القلب، وفساده تابع لفساده، لأن القلب مبدأ الحركات البدنية والإرادات النفسانية، فإن صدرت عنه إرادة صالحة تحرك الجسد حركة صالحة، وإن صدرت عنه إرادة فاسدة تحرك الجسد حركة فاسدة. وبالجملة فالقلب كالملك، والجسد وأعضاؤه كالرعية، ولا شك أن الرعية تصلح بصلاح الملك، وتفسد بفساده، وأيضًا القلب كالعين والجسد كالمزرعة إن عَذُبَ ماءُ العين عذب الزرعُ، أو مَلُحَ مَلُحَ، وأيضًا القلب كالأرض وحركات الجسد كالنبات {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إلا نَكِدًا} [الأعراف: 58] وشاهد ما ذكرناه من أمر القلب والجسد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شق عن قلبه مرتين (¬1)، واستخرج منه علقة سوداء، قيل: هذه حظُّ الشيطان منك، ثم غسل بالماء المبارك الطهور، فلما طاب قلبه طاب جسده، ثم صار إماما للمتقين، ورحمة للعالمين، ¬

_ (¬1) روى أحمد قصة شق قلبه المرة الأولى 5/ 139 من حديث ابن عباس، وكان للنبي - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين وأشهر. وروى البخاري 1/ 135 ومسلم 1/ 148 من حديث أنس قصة شق قلبه المرة الثانية في ليلة الإسراء والمعراج.

وخاتما للنبيين صلوات الله عليه وعليهم أجمعين. البحث الخامس: هذا الحديث أصل في الورع وهو ترك المشتبه من الأفعال إلى غيره (¬1). وإن شئت قلت (أ): هو (¬2) الأخذ في الأفعال بنفس الإباحة وبراءة الذمة. وقد نقل عن الحسن البصري أنه قال: أدركنا قوما يتركون سبعين بابًا من الحلال خشية الوقوع في باب من الحرام. وقد ثبت عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه أكل شبهة غير عالم بها، فلما علم بها أدخل يده في فيه (ب) فقاءها (¬3). وهذا الحديث يرجع من آي الكناب إلى قوله عزَّ وجلَّ {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] وإطلاق الطيب يقتضي المحض الخالي من الشبهة، لأن الشيء إما طيب، أو خبيث، أو مركب منهما، والخبيث لا يدخل تحت لفظ الطيب، والمركب منهما يرجع كل جزء منه إلى أصله، فلا يدخل منه تحت لفظ الطيب إلا الجزء الطيب، ومن السنة إلى قوله عليه الصلاة والسلام: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" وهو من أحاديث الأربعين. ¬

_ (أ) في م قل. (ب) في س، م فمه. (¬1) في هامش أ "وهو ما لا اشتباه فيه أصلا". (¬2) في هامش أ "أي الورع". (¬3) رواه البخاري 3/ 1395.

الحديث السابع

الحديث السابع: عن أبي رُقية تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم رواه مسلم (¬1). قال المصنف: رقية بضم الراء وفتح القاف وتشديد الياء، والداري منسوب إلى جد له اسمه الدار، وقيل: إلى موضع يقال له: دارين، ويقال له أيضًا: الديري نسبة إلى دير كان يتعبد فيه، انتهى كلامه. والنصيحة إخلاص القول والعمل، وهي في العرف إخلاص الرأي من الغش للمستشير ونحوه، وإيثار مصلحته. والنصيحة على ما ذكرنا تختلف باختلاف المنصوح. فنصيحة الله عزَّ وجلَّ الإيمان به، وطَاعَتُهُ بالقلبِ توحيدًا وبالبدن عِبَادةً، وفي التنزيل {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91]. ونصيحة كتاب الله تعظيمه، والإيمان به، والعمل بما فيه. ونصيحة الرسول - صلى الله عليه وسلم - تصديقه فيما جاء به، وإعانته على إقامة أمر ربه بالقول والعمل والاعتقاد، كما فعل الصحابة رضي الله عنهم. ونصيحة أئمة المسلمين بالوفاء لهم بعهدهم، والتنبيه لهم على مصالحهم ورشدهم. ونصيحة عامة المسلمين بذلك، وبأن يحب لهم ما يحب لنفسه. ¬

_ (¬1) 1/ 74.

واعلم أن هذا الحديث وإن أوجز في العبارة فلقد أعرض في الفائدة، وهذه الأحاديث الأربعون وسائر السنن داخلة تحته، بل تحت كلمة منه وهي قوله: "ولكتابه" لأن الكتاب مشتمل على أمور الدين جميعًا أصلا وفرعًا، وعملا واعتقادًا، فإذا آمن به وعمل بما تضمنه على ما ينبغي فقد جمع الكل. تنبيه: تميم الداري روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث، وروى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث الدجال إذ وجده تميم وأصحابه في البحر (¬1)، وهذه من غرائب مسائل علم الحديث، يقال: أي الصحابة روى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقال: تميم الداري روى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - الحديث المذكور. تنبيه: إن قيل: هل الدين محصور في النصيحة على قاعدة حصر المبتدأ في الخبر، أو وراء النصيحة من الدين شيء ويكون قوله: "الدين النصيحة" من باب قوله: "الحج عرفة" (¬2) أي: معظم الدين النصيحة؟ قلنا: بل الدين محصور في النصيحة لأن من جملة النصيحة طاعة الله ورسوله، والإيمان والعمل بما قالاه من كتاب وسنة، وليس وراء ذلك من الدين شيء، إذ قد سبق في حديث حبريل أن الدين هو الإسلام والإيمان والإحسان وجميع ذلك مندرج تحت ما ذكرناه في النصيحة والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه مسلم 4/ 2261 - 2264. (¬2) رواه أبو داود 2/ 486 والترمذي 3/ 237 والنسائي 5/ 256 وابن ماحه 2/ 1003 من حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي.

الحديث الثامن

الحديث الثامن: عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى. رواه البخاري ومسلم (¬1). في هذا الحديث مباحث: الأول: قوله: "أمرت" أي: أمرني الله تعالى إذ ليس فوق رتبة النبي - صلى الله عليه وسلم - من يأمره إلا الله عزَّ وجلَّ، ولا يأتي هاهنا الاحتمال الوارد في قول الصحابي: أُمِرْنَا أَوْ نُهِيْنَا، لأن فوق الصحابي من يحتمل إضافة الأمر إليه، والإحالة به عليه من خليفة ومعلم ووالد ورئيس ونحوه، وليس فوق الرسول عليه الصلاة والسلام من يضاف أمره إليه إلا الله عزَّ وجلَّ وجبريل، وهو إنما يأتي بأمر الله عزَّ وجلَّ. البحث الثاني: "أمرت أن أقاتل الناس" أي: بأن أقاتل، لأن أمر غالبًا إنما يتعدى غالبًا بالباء، و "أمرتُك الخيرَ" ونحوه قليل جاء في الشعر (¬2)، على أنهم قد جعلوا أمر مما يتعدى بنفسه وبغيره، وتقدير الحديث ¬

_ (¬1) رواه البخاري 1/ 17 ومسلم 1/ 53. (¬2) يشير إلى البيت المستشهد في كتب النحو واللغة: أمرتكَ الخيرَ فافعلْ ما أُمرتَ به ... فقد تركتُك ذا مالٍ وذَا نَشَبِ وانظر الخلاف في نسبته إلى عمرو بن معدي كرب أو غيره في خزانة الأدب 1/ 339، 343 وشرح أبيات سيبويه 1/ 250.

أمرت بقتال الناس. ولو قال قائل: أمرت قتال الناس لكان نائيًا عن اللسان. البحث الثالث: قوله: "حتى يشهدوا" إلى آخره، فيه دليل على قتل تارك الصلاة والزكاة غير جاحد لهما لأن غاية الأمر بالقتال فعل الصلاة والزكاة، فما لم يفعلا لا يبلغ القتال غايته، فيكون قتال تاركهما جائزًا بل واجبا بموجب الأمر الإلهي، ثم القتال ينتهي إلى القتل غالبًا ولو لم يكن إلا جواز إفضائه إليه، وذلك يدل على جواز بل وجوب قتل تاركهما. فإن قيل: الحديث إنما دل على قتال الكافر الأصلي حتى يؤمن ويصلي ويزكي، فلم قلتم: إن المسلم إذ تركهما يجوز قتاله؟ قلنا: لوجهين: أحدهما: أن الكافر الأصلي إذا قوتل على تركهما مع أنه لا يعتقد وجوبهما، فالمسلم المعتقد لوجوبهما أولى بالقتال عليهما. ولمثل هذا قال أهل العلم: إن المرتد يقضي بعد إسلامه ما تركه في حال ردته، بخلاف الكافر الأصلي. الوجه الثاني: أن قوله عليه الصلاة والسلام: "حتى يشهدوا" إلى آخره وإن كان غاية ففيه معنى الشرط، ولهذا قيل: إن حكم ما بعد الغاية مخالف لما قبلها، فصار كفُّ القتال عنهم مشروطا بالشهادتين والصلاة والزكاة، وإذا انتفى الشرط انتفى المشروط، فإذا انتفى فعل الصلاة والزكاة انتفى كفُّ القتال والقتل، وصار التقدير إن صلوا وزكوا كُفَّ عنهم القتالُ، ويشهد لهذا قوله عزَّ وجلَّ {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11] {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5].

البحث الرابع: إذا ثبت أن في الحديث دليلًا على قتله فيشبه أن فيه دليلا على كفره لقوله عليه الصلاة والسلام: "فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأمولهم إلا بحق الإسلام" مفهومه إن لم يفعلوا ذلك لم يعصموا مني دماءهم، يعني بحق الكفر؛ لأن حق الإسلام فد ذكره بعد إلا، وما بعدها مخالف لما قبلها، والذي بعدها هو حق الإسلام، والذي قبلها وهو عدم العصمة، لعدم الفعل، يكون بحق الكفر. ومعنى عصموا: منعوا. فإن قلت: لم ذكر الصوم والحج في الحديث الثاني والثالث، وهو من رواية ابن عمر أيضًا، ولم يذكرهما هاهنا؟ قلنا: لأنه عليه الصلاة والسلام قال هذا الحديث قبل فرضهما، بخلاف الحديثين الآخَرَينِ (أ) فإنه قالهما بعد فرض الحج والصوم، فروى الراوي كل حديث على ما سمعه، والحديثان الأولان مع هذا من باب الزيادة في الأحكام، وليس من باب التعارض ولا النسخ. البحث الخامس: قوله: "إلا بحق الإسلام" يعني القتل بالقصاص والزنا والقطع بالسرقة فإنها حدود واجبة بحق الإسلام، والمسلم التزمها بإسلامه فتقام عليه بمقتضى إسلامه (ب) "وحسابهم على الله عزَّ وجلَّ" أي: أنا أحكم فيهم بهذه الأحكام أهل الكفر والإسلام ظاهرا، وحسابهم فيما يتعلق بالباطن إلى الله عزَّ وجلَّ، فرب عاص في الظاهر يصادف عند الله ¬

_ (أ) في م الأخيرين. (ب) في أ، س، م التزامه.

عزَّ وجلَّ خيرا في الباطن، وبالعكس. وشبيه بهذا قوله عليه الصلاة والسلام: "إنكم تختصمون إليَّ (أ) ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض" (¬1) الحديث، وقوله عليه الصلاة والسلام: "نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر" (¬2). واعلم أن من العجب أن هذا الحديث الثابت كان عند ابن عمر، وهو نص في قتال مانعي الزكاة، ولم يبلغ أبا بكر وعمر حتى تشاجرا في قتالهم، وجرت بينهما مناظرة في ذلك، واحتاج أبو بكر إلى القياس بأن قال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، وإلى الاستنباط من قوله عليه الصلاة والسلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" قال أبو بكر: والزكاة من حقها. قلت: فلعل ابن عمر كان غائبًا أو مريضًا أو ناسيًا للحديث ذلك الوفي، ولقد وُفِّق أبو بكر حيث وقع استنباطه وقياسه موافقا لهذا النص، وخالفه عمر في هذا المقام، وكان الأولى موافقته لما عهد منه من موافقة النصوص، حتى قال: وافقت ربي في ثلاث (¬3). ثم إن عمر رجع في هذه القضية إلى متابعة أبي بكر والله عزَّ وجلَّ أعلم بالصواب. ¬

_ (أ) في س لدي. (¬1) رواه البخاري 2/ 868 ومسلم 3/ 1337 من حديث أم سلمة. (¬2) قال الشوكاني في الفوائد المجموعة 200 يحتج به أهل الأصول، ولا أصل له. (¬3) رواه مسلم / 1865 ولفظه: وافقت ربي في ثلاث: في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسارى بدر.

الحديث التاسع

الحديث التاسع: عن أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرةُ مسائِلهِمْ واختلافُهُمْ على أنبيائهم. رواه البخاري ومسلم (¬1). الكلام على هذا الحديت في إسناده ولفظه ومعناه. أما إسناده: فإن أبا هريرة كني بهرة كان يصحبها إمَّا صغيرًا يلعب بها، أو كبيرًا يحسن إليها، لأنه هو الذي روى أن امرأة عذبت في هرة (¬2). فلعله أخذ بقياس العكس (¬3)، ورجا الثواب في هرة. واختار الشيخ من أسمائه عبد الرحمن بن صخر، وفيه بضعة عشر قولا، أصحها هذا. وأما لفظه: فقوله: "واختلافهم" مضموم الفاء، لا مكسورها (أ) عطفا على كثرة، لا على مسائلهم، أي: أهلكم كثرة مسائلهم (ب) وأهلكهم اختلافهم، وهو أبلغ لأن الهلاك بمسمى الاختلاف ومطلقه أبلغ في الزجر والازدجار من الهلاك بالاختلاف الكثير. ¬

_ (أ) في م لا بكسرها. (ب) في م سؤالهم. (¬1) رواه البخاري 6/ 2658 ومسلم 2/ 975. (¬2) رواه البخاري 3/ 1205 ومسلم 4/ 1760. (¬3) قياس العكس: هو إثبات نقيض حكم الشيء في غيره، لافتراقهما في علة الحكم. انظر التمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب 3/ 360.

وأما معناه فاعلم أن هذا الحديث من الجوامع، وقد تضمن أحكامًا: أحدها: وجوب ترك المنهيات لقوله: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه" والأمر باجتنابه للوحوب. والثاني: وجوب فعل المستطاع من المأمورات لقوله: "فأتوا" أي: فافعلوا منه ما استطعتم، والأمر بفعله للوجوب، وهذا راجع إلى قوله عزَّ وجلَّ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. فإن قيل: الآية دلت على وجوب اتباع أوامره - صلى الله عليه وسلم - مطلقًا، ولم يستثن المستطاع من غيره، والحديث المذكور خصَّ المستطاع من ذلك دون غيره، فهذا الحديث مخصص للآية أو مبين لها. قلنا: يحتمل أن يقال هذا، ويحتمل أن يقال: إن الآية المذكورة خُصَّت بقوله عزَّ وجلَّ {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] والتقوى تشتمل على جميع المأمورات فصار ذلك في قوة قوله: ما آتاكم (أ) به فافعلوا منه ما استطعتم، ثم جاء هذا الحديث موافقا لهذه الآية، كما جاء قوله في حديث جبريل: "وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا" موافقا لقوله عزَّ وجلَّ {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]. فإن قيل: ما الفرق بين المأمور به، وبين المنهي عنه حيث سقط التكليف بما لا يستطاع من الأول، دون الثاني؟. قلنا: لأن ترك المنهي عنه عبارة عن استصحاب حال عدمه والاستمرار ¬

_ (أ) في م آتيتكم.

على عدمه، وليس في ذلك ما لا يستطاع حتى يسقط التكليف به، بخلاف فعل المأمور به فإنه عبارة عن إخراجه من العدم إلى الوجود، وذلك يتوقف على شروط وأسباب كالقدرة على الفعل ونحوها، وبعض ذلك يستطاع، وبعضه لا يستطاع، فلا جرم سقط التكليف به، لأن الله عزَّ وجلَّ أخبرنا أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، وهذه رخصة عظيمة في كثير من الأحكام، مثل من لم يجد إلا ما يكفي بعض الوضوء أو الغسل، أو وجد ترابا يكفي بعض التيمم، أو لم يقدر إلا على غسل بعض محل الحديث، أو لم يجد إلا بعض الفطرة، أو لم يقدر أن يصلي إلا جالسًا، أو نائما، أو لا يطوف إلا راكبًا، أو لا يفي من الإيلاء إلا بالقول، وهي فيئة المعذور ونحو ذلك كله يأتي منه بالمستطاع ويسقط غيره هدرًا أو إلى بدل. فإن قيل: لو وجد بعض الرقبة في الكفارة هل يلزمه عتقه، ويسقط ما لم يجده منها؟. قلنا: لا، لأن الرقبة لها بدل، وهو الإطعام أو الصيام بخلاف الفطرة إذا وجد بعضها إذ لا بدل لها. الحكم الثالث في الحديث: تحريم الاختلاف وكثرة المسائل عن (أ) غير ضرورة لأنه توعد عليه بالهلاك، والوعيد على الشيء يقتضي تحريمه. أما الاختلاف فلأنه سبب تَفَرُّقِ (ب) القلوب وَوَهْنِ الدين كما جرى للخوارج حين تبرأ بعضهم من بعض وهن أمرهم واندحضوا، وذلك حرام، ¬

_ (أ) في س من. (ب) في ب يفرق.

وسبب الحرام حرام. وأما كثرة السؤال عن غير ضرورة فلأنه مشعر بالإعنات ومفض (أ) إليه، وهو (ب) أيضًا حرام. وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قيل وقال، وكثرة السؤال (¬1)، ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الأغلوطات، وهي صعاب المسائل (¬2). وكان أبي بن كعب (¬3) وزيد بن ثابت (¬4) وغيرهما من أفاضل (جـ) الصحابة إن سئل أحدهم عن مسألة يقول: أوَقَعت هذه؟. فإن قيل: نعم، قال فيها بعلمه، أو أحال على غيره، وإن قيل: لا، قال: فدعها حتى تقع. وهذا الحكم يرجع إلى قوله عزَّ وجلَّ {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الأنعام: 159] {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الروم: 31 - 32] الآيات ونحوها والله عزَّ وجلَّ أعلم بالصواب. ¬

_ (أ) في س ويفضي. (ب) في ب وهذا. (جـ) في س من أكابر. (¬1) رواه البخاري 2/ 848 ومسلم 3/ 1341 من حديث المغيرة بن شعبة. (¬2) رواه أحمد 5/ 435 وأبو داود 4/ 65. (¬3) رواه الخطيب في الفقيه والمتفقه 2/ 14. (¬4) رواه الدارمي 1/ 54، والخطيب في الفقيه والمتفقه 2/ 14.

الحديث العاشر

الحديث العاشر: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك. رواه مسلم (¬1). وغذي بالحرام بغين معجمة مضمومة، وذال معجمة مكسورة مخففة، أي: كان غذاؤه الحرام. ثم في هذا الحديث أبحاث: البحث الأول: قوله: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا" هذا توطئة لباقي الحديث، وهو طيب المطعم لإجابة الدعاء. واعلم أن الطيب يطلق بمعان: أحدهما: المُستَلَذُّ طبعا نحو هذا طعام طيب {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]. والثاني: بمعنى الحلال، ويقابله الخبيث نحو قوله {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100]. ¬

_ (¬1) 2/ 703.

والثالث: الطيب بمعنى الطاهر ومنه قوله عزَّ وجلَّ {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} {وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور: 26] أي: الطاهرون من العيوب للطاهرات، والله عزَّ وجلَّ طيب بهذا المعنى، أي: هو طاهر منزه عن جميع النقائص، فلا يقبل من الأعمال إلا طاهرًا من المفسدات كالرياء، والعجب ونحوه، ولا من الأموال إلا طاهرا (أ) من الحرام، وفي الحديث: "من عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشركه" (¬1) وفيه "من صلى في ثوب قيمته عشرة دراهم فيه درهم حرام لم يقبل الله له صلاة " (¬2). البحث الثاني: قوله: "وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين" إلى آخره، فيه دليل على أن الرسل وأممهم سواء في عبادة الله عزَّ وجلَّ، والدخول تحت خطابه إلا ما قام عليه الدليل من اختصاصهم على الأمم ببعض الأحكام لأن الجميع عبيد الله، ومأمورون بعبادة الله عزَّ وجلَّ. والظاهر أن المراد بالطيبات في الآيتين الحلال بدليل ما سِيْقَ (ب) قبله وما بعده من ذم المطعم الحرام. البحث الثالث: قوله: "ثم ذكر الرجل يطيل السفر" هذا من كلام أبي هريرة رضي الله عنه يعني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ما سبق ذكره استطرد الكلام ¬

_ (أ) في أإلا ما كان. (ب) في م سبق. (¬1) سبق تخريجه. (¬2) رواه أحمد (10/ 24 الطبعة المحققة) من حديث ابن عمر بنحوه وضعف محققو المسند إسناده جدا.

حتى ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر إلى آخره. وفيه أمران: أحدهما: قوله: "يمد يديه" إلى السماء يدل على أن من أدب الدعاء رفع اليدين إلى السماء، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه في الاستسقاء حتى يرى بياض إبطيه، أو كما روى أنس (¬1). وجاء في الحديث "إن الله عزَّ وجلَّ حيي كريم يستحي من عبده أن يرفع إليه كفيه ثم يردهما صفرا " (¬2). والثاني: أن تناول الحلال في المطعم والمشرب والملبس ونشوء الجسد على الغداء الحلال -وبالجملة اجتناب الحرام من كل شيء- شرط في إحابة الدعاء، وأن تناول الحرام مانع منه لقوله: "فأنى يستجاب لذلك" ووجه ذلك أن مبدأ إرادة الدعاء القلب، ثم تفيض تلك الإرادة على اللسان فينطق به، والقلب يفسد بتناول الحرام، وهو مدرك بالنظر والوحدان، وإذا أفسد القلب فسد الجسد وجوارحه، والدعاء نتيجة الجسد الفاسد، ونتيجة الفاسد فاسدة، فالدعاء فاسد، والفاسد ليس بطيب، والله عزَّ وجلَّ لا يقبل إلا الطيب، فالله عزَّ وجلَّ لا يقبل دعاء من أكل الحرام وغذي به. وللدعاء آداب وشروط أخر ذكرها القرافي (¬3) وغيره في كتاب الدعاء. ¬

_ (¬1) رواه البخاري 1/ 349 ومسلم 2/ 612 من حديث أنس. (¬2) رواه أبو داود 2/ 165 والترمذي 5/ 557 وابن ماجه 2/ 1271 من حديث سلمان. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. (¬3) لعله شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أبي العلاء إدريس الصنهاجي القرافي المصري ت 684 هـ صاحب الذخيرة فإن له كتابًا في الأدعية (المنجيات والموبقات في الأدعية وما يجوز منها وما يكره وما يحرم) له نسخة في مكتبة البلدية بالأسكندرية رقم (16) فقه مالكي.

منها أن الداعي لا يدعو بمعصية كالإثم وقطيعة الرحم. ومنها أن لا يدعو بمحال لأن وجوده ممتنع. ومنها أن لا يخرج عن العادة خروجا بعيدا لأنه سوء أدب على الله عزَّ وجلَّ لأنه جعل للأشياء عادات مضبوطة فالدعاء بخرقها شبيه بالتحكم على القدرة. قلت: إلا أن يدعوه باسمه الأعظم فيجوز تأسيا بالذي عنده علم من الكتاب إذ دعا بحضور عرش بلقيس فأجيب. ومنها حضور القلب عند (أ) الدعاء لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فإن الله لا يسمع دعاء من قلب غَافِلٍ لاَهٍ" (¬1). ومنها أن يحسن ظنه بالإجابة للحديث المذكور قبله، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: يقول الله عزَّ وجلَّ: "أنا عند ظن عبدي بي" (¬2). ومنها أن لا يستعجل فيقول: قد دعوت فلم يستجب لي لأن ذلك استحثاث للقدرة، وهو سوء أدب، ولأن ذلك يقطعه عن الدعاء فتفوته الإجابة. واعلم أن هذا الحديث عظيم (ب) النفع لأنه تضمن بيان حكم الدعاء، ¬

_ (أ) في أفي. (ب) في س، م كثير. (¬1) رواه الترمذي 5/ 517 والحاكم 1/ 493 قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو أخرجه أحمد (11/ 235 الطبعة المحققة). (¬2) رواه البخاري 6/ 2694 ومسلم 4/ 2102 من حديث أبي هريرة.

وشرطه، ومانعه، والدعاء كما ورد في السنة "مخ العبادة" (¬1) وقال الله عزَّ وجلَّ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر: 60] الآية جعل الدعاء عبادة، ولأن الداعي إنما يدعو الله عزَّ وجلَّ عند انقطاع أمله مما سواه، وذلك حقيقة التوحيد والإخلاص ولا عبادة فوقهما. فالدعاء مخ العبادة من هذا الوجه. والله عزَّ وجلَّ أعلم بالصواب. ¬

_ (¬1) رواه الترمذي 5/ 456 من حديث أنس وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه.

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر: عن أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وريحانته رضي الله عنهما قال: حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. رواه النسائي والترمذي وقال: حديث حسن صحيح (¬1). الكلام في إسناده ولفظه ومعناه. أما إسناده فسبط الرجل هو ابن ابنته. وقوله: "ريحانته" إشارة إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحسن والحسين: "هما ريحانتاي من الدنيا" (¬2) أي: يُسَرُّ بهما ويَتَرَوَّحُ، وكنية الحسن أبو محمد. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه: "إن ابني هذا سيد ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" (¬3) فأصلح الله به بين أهل العراق والشام، وسلَّم الأمر لمعاوية صلحا. وكان الحسن رضي الله عنه من الحلماء الكرماء الأسخياء، وكان مطلاقًا للنساء، فيقال: إنه أحصن مائة امرأة أو أكثر. وكنية الحسين أبو عبد الله، وكنية علي أبو الحسن، كني بالحسن أكبر أولاده، وأبو تراب كناه به النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ وجده نائما في المسجد على التراب. وأما لفظه فقوله: "يريبك" بفتح الياء وضمها لغتان، والفتح أفصح ¬

_ (¬1) رواه الترمذي 4/ 668 والنسائي 8/ 328. (¬2) رواه البخاري 3/ 1371 من حديث ابن عمر. (¬3) رواه البخاري 3/ 1369 من حديث أبي بكرة.

يقال: راب يريب ثلاثيا، وأراب يُريب رباعيا، من الريبة وهي الشك والتردد. وأما معناه: فاترك ما فيه شك من الأفعال إلى ما لا شك فيه منها. وهذا أصل في الورع، وهذا (أ) موافق لقوله - عليه السلام -: "الحلال بين الحرام بين" إلى قوله: "فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه". ويروي عن زيد بن ثابت أنه قال: ما شيء أسهل من الورع إذا أرابك (ب) شيء فدعه. قلت: هذا سهل على من سهله الله عزَّ وجلَّ عليه، وهو على كثير من الناس أصعب من نقل الجبال، وإنما هذا شبيه بقول بعض سليمي الصدور: لا شيء أسهل من صيد الأسد! قيل: وكيف ذلك؟ قال: واحد يفتح رأس الجوالق (جـ)، وآخر يكشكش! (¬1). واعلم أن الأشياء إما واضح الحِل، أو واضح الحرمة، أو مرتاب فيه، والريبة، قد تقع في العبادات والمعاملات والمناكحات وسائر أبواب الأحكام، وترك الريبة في ذلك كله إلى غيرها أمر عميم النفع كثير الفائدة وتفاصيل ذلك تكثر، وهذه قاعدته، والله عزَّ وجلَّ أعلم بالصواب. ¬

_ (أ) في ب، م وهو. (ب) في أرابك. (جـ) في ب الجواليق. (¬1) يبدو من السياق أنها عبارة عن صوت دفع الأسد في الجوالق.

الحديث الثاني عشر

الحديث الثاني عشر: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. حديث حسن رواه الترمذي وغيره هكذا (¬1). يقال: عناه الأمر يعنيه إذا تعلقت عنايته به، وكان من غرضه وإرادته، والذي يعني الإنسان من الأمور ما يتعلق بضرورة حياته في معاشه، وسلامته في معاده، وذلك يسير بالنسبة إلى ما لا يعنيه، فإذا اقتصر الإنسان على ما يعنيه من الأمور سلم من شر عظيم عميم، وذلك يعود بحسن الإسلام لأن السلامة من الشر خير عظيم (أ)، والسلامة من الشر من حسن إسلام المرء. ومن كلام بعض السلف: من علم أن كلامه من عمله قلَّ كلامه إلا فيما يعنيه. ومن كلام بعضهم من سأل عما لا يعنيه كما يُعنِّيه. فإن قيل: لم قال: من حسن إسلام المرء، ولم يقل من حسن إيمانه؟. قلنا (ب): لأنه سبق أن الإسلام هو الأعمال الظاهرة، والترك والفعل ¬

_ (أ) في س عميم. (ب) في س قلت. (¬1) رواه الترمذي 4/ 558 وابن ماجه 2/ 1315 من طريق الأوزاعي، عن قرة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. ورواه في الموطأ 2/ 903 - ومن طريقه الترمذي- عن الزهري، عن علي بن الحسين مرسلًا. قال الترمذي: وهذا أصح عندنا من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة أهـ. وقال الدارقطني: والصحيح حديث الزهري عن علي بن الحسين مرسلًا. العلل 8/ 27.

ضدان إنما يتعاقبان على الأعمال الظاهرة دون الباطنة، لأن الظاهرة حركات اختيارية يتأتى فيها الترك والفعل اختيارا والباطنة اضطرارية تابعة لما يخلقه (أ) الله عزَّ وجلَّ في النفوس من العلوم ويوقعه فيها من الشبه (ب). فإن قيل: فلم قال: من حسن إسلام المرء على التبعيض، ولم يقل: حسن إسلام المرء؟. قلنا: لأن ترك ما لا يعني ليس هو كل حسن الإسلام، بل بعضه، وإنما جميع حسن الإسلام ترك ما لا يعني، وفعل ما يعني، فإذا فعل ما يعنيه وترك ما لا يعنيه فقد كمل حسن إسلامه. فإن قيل: فلم قال: من حسن إسلامه، ولم يقل من إسلامه؟. قلنا: لأن ترك ما لا يعني ليس هو نفس الإسلام ولا جزءًا منه (جـ)، بل هو وصفه وهو حسنه، وحسن الشيء ليس هو ذاته ولا جزءَه. أما الإسلام نفسه فهو الانقياد لغة، والأركان الخمسة شرعا فهو كالجسم، وترك ما لا يعني كالشكل واللون له. واعلم أن كل شيء فإما أن يعني الإنسان أو لا يعنيه، وعلى التقديرين فإما أن يفعله أو يتركه فهي أربعة أقسام: فعل ما يعني، وترك ما لا يعني، وهما حسنان، وترك ما يعني وفعل ¬

_ (أ) في أخلق. (ب) في م الشبهة. (جـ) في س ولا جزأه.

ما لا يعني، وهما قبيحان. والذي يعني الإنسان من أمر معاشه ما يشبعه من جوع، ويرويه من عطش، ويستره من ظهور عورته، ويعفه من زنا، وما تعلق بذلك على جهة دفع الضرورة لا على جهة التلذذ والتمتع والاستكثار، والذي يعنيه من أمر معاده الإسلام والإيمان والإحسان على ما سبق بيانه، والإمعان في ذلك والاستكثار أولى من الإقلال والاختصار. وهذا الحديث يرجع إلى قوله تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام: 120] ونحوه، لأن ذلك جميعه مما لا يعنيه. والله عزَّ وجلَّ أعلم بالصواب.

الحديث الثالث عشر

الحديث الثالث عشر: عن أبي حمزة أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. رواه البخاري ومسلم (¬1). الكلام على إسناده ومعناه. أما إسناده: فأبو حمزة كنية أنس، وهو بحاء مهملة وزاي معجمة، وهي بقلة كني بها. أما أبو جمرة الضبعي الراوي عن ابن عباس فهو بجيم وراء مهملة (¬2). وأنس خدم النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين فلذلك قيل: خادم النبي صلى الله عليه وسلم. وأما معناه فمقصوده ائتلاف قلوب الناس وانتظام أحوالهم، وهو (أ) قاعدة الإسلام الكبرى التي أوصى الله عزَّ وجلَّ بها بقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] وبيان ذلك أنه إذا أحبَّ كل واحد من الناس لباقيهم ما يحب لنفسه أحسن إليهم، ولم يؤذهم لأنه هو يحب لنفسه أن يُحسَنَ إليه، ولا يُؤذَى، وإذا أحسن إليهم، ولم يؤذهم أحبوه فتسري بذلك المحبة بين الناس، وبسريان المحبة بينهم يسرى الخير ¬

_ (أ) في س وهذه. (¬1) رواه البخاري 1/ 14 ومسلم 1/ 67. (¬2) نصر بن عمران بن عصام الضُّبعي بضم المعجمة وفتح الموحدة بعدها مهملة، أبو جمرة بالجيم البصري نزيل خراسان من الثالثة ع التقريب.

ويرتفع (أ) الشر، وبذلك ينتظم أمر المعاش والمعاد وتصلح أحوال العباد. وقوله: "لا يؤمن" أي: لا يؤمن إيمانا كاملًا، أو لا يكمل إيمانه بدليل ما سبق في حديث جبريل أن الإيمان هو التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، ولم يذكر حُبَّ الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه، فدل على أنه من كمال الإسلام لا من أجزائه بحيث تختل ذاته بعدمه. ويشبه أن محبة الإنسان لغيره ما يحب لنفسه إنما هو باعتبار عقله، أي: يحب له ذلك ويؤثره من جهة عقله، أما التكليف بذلك من جهة الطبع فصعب (ب)، إذ الإنسان مطبوع (جـ) على حب الاستئثار على غيره بالمصالح، بل على الغبطة والحسد لإخوانه، فلو كلف أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه بطبعه لأفضى إلى أن لا يكمل إيمان أحد إلا نادرا. وفي الحديث "انظر ما تحب أن يأتيه الناس إليك فأته إليهم" (¬1). وفي كلام بعضهم: "ارضَ للناس ما لنفسك ترضَى" (¬2) وهذا الحديث عام مخصوص بأن الإنسان يحب لنفسه وطء زوجته أو أمته ولا يجوز أن يحب ذلك لأخيه حال كون المرأة في عصمته لأن ذلك حرام، وليس له أن يحب لأخيه فعل الحرام، وبما أشبهه من الصور. والله عزَّ وجلَّ أعلم بالصواب. ¬

_ (أ) في ب ويرفع. (ب) في م فيصعب. (جـ) في أفصعب على الإنسان فإنه مطبوع. (¬1) رواه أحمد 6/ 382 والطبراني في المعجم الكبير 19/ 209 - 210 من حديث أبي المنتفق بنحوه. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث 1477. (¬2) شطر بيت من الشعر، ولم أجد تتمته وقائله.

الحديث الرابع عشر

الحديث الرابع عشر: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة. رواه البخاري ومسلم (¬1). المقصود بهذا الحديت يبين عصمة الدماء، وما يباح منها وما لا يباح. والأصل في الدماء العصمة عقلا وشرعا، أما عقلا فلأن في القتل إفساد الصورة الإنسانية المخلوقة في أحسن تقويم، والعقل ينكر ذلك، وأما شرعا فلقوله عزَّ وجلَّ {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلا بِالْحَقِّ} [الإسراء: 33] {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93] الآية. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها". وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليحذر أحدكم أن يحول (أ) بينه وبين الجنة ملء كفٍّ من دم يهريقه بغير حق" (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة لقي الله مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله" (¬3) ثم استثنى من ذلك ثلاثة يجوز قتلهم لتعلق ¬

_ (أ) في م أن يكون. (¬1) رواه البخاري 6/ 2665 ومسلم 3/ 1302. (¬2) رواه عبد الرزاق في المصنف 10/ 26 ومن طريقه الطبراني في المعجم الكبير 2/ 159 من حديث جندب بن عبد الله بنحوه. قال الهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 298 رجاله رجال الصحيح. (¬3) رواه البيهقي في شعب الإيمان 4/ 346 من حديث ابن عمر، وابن ماجه 2/ 874 وابن عدي في الكامل 7/ 2715 من حديث أبي هريرة، وقال: ليس بمحفوظ.

المصلحة به، بل يجب على الإمام ذلك. أحدهم: الثيب الزاني يقتل رجما، وهل يجلد قبل الرحم؟ فيه خلاف، أوجبه أحمد (¬1)، ونفاه الشافعي (¬2) أعني الجلد. ودليل قتله ما ثبت من القرآن المنسوخ لفظا الثابت حكما {الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة} (¬3) ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم ماعزًا (¬4) والغامدية (¬5)، والجهنية (¬6) والتي اعترفت بالزنا فرجمها أنيس (¬7)، ولأن في الزنا مفسدة عظيمة فكانت الحكمة في درءها بهذا الحد. والثيب احتراز من البكر فإنه يجلد ويغرب ولا يرحم. وتفاصيل ذلك في الفقه. والثاني: القاتل يقتل قصاصا لقوله عزَّ وجلَّ {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ورضَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - رأس يهودي بين حجرين قصاصا بجارية فعل بها ذلك (¬8)، واقتص الخلفاء بعده، وأجمع عليه الناس، ¬

_ (¬1) انظر المغني لابن قدامة 12/ 308. (¬2) انظر المهذب 5/ 372. (¬3) رواه مالك في الموطأ 2/ 824. (¬4) رواه البخاري 6/ 2502 من حديث أبي هريرة. (¬5) روى مسلم قصتها 3/ 1322 من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه. (¬6) روى مسلم قصتها 3/ 1324 من حديث عمران بن حصين. (¬7) روى البخاري 6/ 2503 ومسلم 3/ 1324 قصتها من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني. (¬8) رواه البخاري 6/ 2524 ومسلم 3/ 1299 من حديث أنس بن مالك.

ولأن في القتل العدوان مفسدة عظيمة، وفي القصاص مصلحة جسيمة دافعة لها فوجب لذلك. والثالث: التارك لدينه المفارق للجماعة يعني المرتد يقتل لأن في إقراره على الردة حلًّا لنظام عقد الإسلام فوجب قتله دفعا لذلك. واختلف (أ) في المرأة المرتدة هل تقتل أم لا؟ فقال الشافعي (¬1) وأحمد (¬2): تقتل لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من بدل دينه فاقتلوه" (¬3) وهو عام في الرجل والمرأة، ولأن إشارة الحديث المذكور إلى أن العلة تبديل الدين، وهي موجودة في المرأة فوجب قتلها كالرجل، وقال أبو حنيفة: لا تقتل (¬4) لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء (¬5)، وهو خاص فيهن فيقدم على عموم "من بدل دينه فاقتلوه" ولأن العلة في قتل الرجال بالردة أنه لو أُقِرَّ لَلَحِقَ بالكفار فكثَّر سوادهم، وحارب المسلمين فَكُفَّت عاديته بالقتل، وهذا مفقود في المرأة فإنها ليست من أهل الحرب والنكاية فلا يخاف منها. والأول أجود لسلامة علته من التخصيص بمن لا نكاية له كالأعمى والزمن (ب) ¬

_ (أ) في س واختلفوا. (ب) في س والمريض. (¬1) انظر المهذب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي 5/ 249. (¬2) انظر المغني لابن قدامة 13/ 44. (¬3) رواه البخاري 6/ 1098 من حديث ابن عباس. (¬4) انظر رؤوس المسائل للزمخشري 361. (¬5) رواه البخاري 3/ 1098 ومسلم 3/ 1364 من حديث ابن عمر.

والأعرج ونحوهم. وقوله: "المفارق للجماعة" أي: بقلبه واعتقاده بخلاف قوله: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" (¬1) فإن المراد التفرق بأبدانهما. فإن قيل: النبي - صلى الله عليه وسلم - استثنى الزاني والقاتل والمرتد من المسلم، واستثناء الزاني والقاتل منه ظاهر لأن الزنا والقتل لا يخرجهما عن الإسلام، أما المرتد فاستثناؤه من المسلم مشكل لأنه بالردة يصير كافرا واستثناء الكافر من المسلم لا يجوز. فالجواب أنه استثنى (أ) من المسلم باعتبار ما كان قبل ردته مسلمًا خصوصًا وعلاقة الإسلام مرتبطة به بدليل أنه لا يقتل حتى يستتاب ثلاثًا، ولهذا قال بعضهم: لا يجوز أن يشتري الكافر مرتدا لبقاء عُلقة الإسلام. وأكثر ما في هذا الجواب الجمع بين حقيقة المسلم وبين مجازه في جملة واحدة، وهي مسألة خلاف، والظاهر جوازه خصوصًا إذا اقتضاه دليل. ثم هنا مسائل: الأولى: أن الله عز وجل قال {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} [المائدة: 33] فأوجب قتلهم وليسوا زناة ولا قاتلين ولا مرتدين، فبطل حصر من يجوز قتله في الثلاثة المستثنين في الحديث. ¬

_ (أ) في س مستثنى. (¬1) رواه البخاري 2/ 732 ومسلم 3/ 1164 من حديث حكيم بن حزام.

والجواب أن العلماء اختلفوا في قطاع الطريق، فقال بعضهم: إن قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإن قتلوا فقط قتلوا، وإن أخذوا المال فقط قطعوا (¬1)، وهؤلاء لا يرد السؤال عليهم لأنهم لم يقتلوا منهم إلا قاتلا كما في الحديث، وذهب بعضهم إلى تخيير الإمام فيهم بين القتل والصلب والقطع والنفي (¬2)، وهو ظاهر الآية، لكن يلزمهم الجواب عن السؤال المذكور. وجوابهم عنه بأن قتل قطاع الطريق وإن لم يقتلوا ثبت (أ) بدليل وارد (ب) على الحديث المذكور وهو هذه الآية، ويحمل الحديث على أنه صدر من النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل نزول الآية، فلا تنافيه زيادتها عليه، بخلاف ما لو كان صدوره بعدها فإنه يصير مُصادمًا لها. المسألة الثانية: قوله: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث" مفهومه حل دم الكافر بدونها حربيًّا كان أو ذميًّا لعموم المفهوم فيهما، لكن خرج منه الذمي بدليل منفصل عن الحديث (¬3)، فلا يجوز قتله في الذمة ¬

_ (أ) في س يثبت. (ب) في م زائد. (¬1) ذهب إلى هذا القول ابن عباس وقتادة وأبو مجلز وحماد والليث والشافعي وإسحاق. انظر المهذب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي 5/ 449 والمغني لابن قدامة 12/ 475. (¬2) ذهب إلى هذا القول سعيد بن المسيب وعطاء ومجاهد والحسن والضحاك والنخعي وأبي الزناد وأبي ثور وداود. انظر المغني لابن قدامة 12/ 476. (¬3) مثل حديث من قتل رجلا من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاما رواه أحمد 4/ 237 والنسائي 8/ 25 عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.

فيبقى (أ) الحربي على مقتضى المفهوم يقتل. المسألة الثالثة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "النفس بالنفس" يقتضي بعمومه قتل الحر بالعبد، والمسلم بالذمي، وهو قول أبي حنيفة (¬1)، وروى في مسنده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل مسلمًا بذمي وقال: "أنا أحق من وفى بذمته" (¬2) وخالفه الشافعي (¬3) وأحمد (¬4) لقوله عزَّ وجلَّ {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} ومفهومه أن الحر لا يقتل بالعبد، ولأن العبد ناقص فلا يؤخذ به كامل، وإن ذلك خلاف ما يقتضيه لفظ القصاص ومعناه، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقتل مسلم ¬

_ (أ) في أفبقي. (¬1) انظر رؤوس المسائل للزمخشري 454، 455. (¬2) رواه أبو حنيفة (مسند الإمام أبي حنيفة لأبي نعيم الأصبهاني 104) عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد الرحمن البيلماني عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكره. ورواه عبد الرزاق 10/ 101 ومن طريقه الدارقطني 3/ 135 والبيهقي 8/ 31 عن الثوري عن ربيعة بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن البيلماني يرفعه. ورواه ابن أبي شيبة في المصنف 9/ 290 ومن طريقه الدارقطني 3/ 135 عن حجاج عن ربيعة عن عبد الرحمن بن البيلماني قال: قتل. ورواه البيهقي 8/ 30 عن محمد بن المنكدر عن عبد الرحمن بن البيلماني أن رجلا. ورواه الدارقطني 3/ 135 والبيهقي 8/ 30 عن إبراهيم بن محمد عن ربيعة بن عبد الرحمن عن ابن البيلماني عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الدارقطني لم يسنده غير إبراهيم بن أبي يحيى وهو متروك الحديث. والصواب عن ربيعة عن ابن البيلماني مرسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وابن البيلماني ضعيف لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث فكيف بما يرسله. (¬3) انظر المهذب للشيرازي 5/ 11. (¬4) انظر المغني لابن قدامة 11/ 466، 473.

بكافر، ولا ذو عهد في عهده" (¬1) وفي المسألة تأويل وبحث طويل (¬2). المسألة الرابعة: عموم قوله {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} يقتضي وجوب القصاص في القتل بالمُثَقَّل كالخشبة والحجر، وهو قول الشافعي (¬3) وأحمد (¬4) ولأنه أخذ نفس بنفس، فأوجب القصاص كالقتل بالمُحَدَّدِ، وقال أبو حنيفة: لا قصاص فيه (¬5) ولو رماه بأبا قبيس، هكذا (أ) لفظه: بأبا قبيس بالألف، وهو لغة في أبا (¬6) مثل عصا، لأن القتل بالمثقل ليس بكامل، فلا يؤخذ به قتل كامل، وذلك يلزمهم في قتل الحر بالعبد. المسألة الخامسة: عموم قوله "التارك لدينه" يقتضي أنه إذا تهَوَّد نصراني، أو تنصَّر يهودي أنه يقتل لأنه تارك لدينه. ولقائل أن يقول: التارك لدينه مستثنى من المسلم كالزاني والقاتل، وحينئذ لا يدل على ما ذكرتم وهو سؤال صحيح. المسألة السادسة قوله: "الثيب والقاتل والمرتد" هي بيان لقوله: "إلا ¬

_ (أ) في س هذا. (¬1) رواه أبو داود 4/ 669 والنسائي 8/ 24 من حديث علي بن أبي طالب وأصله في البخاري 1/ 53. (¬2) انظر المغني 11/ 466. (¬3) المهذب للشيرازي 5/ 21. (¬4) المغني لابن قدامة 11/ 447 - 448. (¬5) انظر رؤوس المسائل للزمخشري 456. (¬6) انظر كلام أبي عمرو بن العلاء في كلام أبي حنيفة في (مجالس العلماء لأبي القاسم عبد الرحمن الزجاجي 237).

بإحدى ثلاث" يعني خصال، وبدل منه، والثلاثة المذكورون لا يصح إبدالهم من الخصال لأن المذكر لا يبدل من المؤنث. والجواب أن هذا بدل على المعنى، والتقدير إلا بإحدى ثلاث خصال، خصلة الزاني، والقاتل، والمرتد، أو خصلة الزاني، وخصلة ذي النفس، أي: قاتل النفس ونحو هذا من التقدير. والله أعلم بالصواب.

الحديث الخامس عشر

الحديث الخامس عشر: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فيكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه. رواه البخاري ومسلم (¬1). اللام في ليقل وليصمت وليكرم لام الأمر، ويصمت قال الشيخ: بضم الميم قلت: وقد سمعناه بكسرها، وهو القياس لأن قياس فعل بفتح العين ماضيا، يفعل بكسرها مضارعا، نحو ضرب يضرب، ويفعل بضم العين فيه دخيل. نص عليه ابن جني في الخصائص (¬2). وقد بسطت الكلام في هذا في أول شرح الفصيح. والصمت السكوت مع القدرة على الكلام فإن كان عن العجز (أ) عنه فإمَّا لفساد آلة النطق فهو الخرس، أو لتوقفها وهي العِيُّ. وقوله: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" ظاهره توقف الإيمان على هذه الأشياء المذكورة، إكرام الضيف والجار، وقول الخير أو الصمت، وليس كذلك، وإنما هو على المبالغة في الاستجلاب إلى هذه الأفعال كما يقول القائل لولده: إن كنت ابني فأطعني، ونحوه ¬

_ (أ) في ب لعجز. (¬1) رواه البخاري 5/ 224 ومسلم 1/ 68. (¬2) انظر الخصائص 3/ 86 - 87.

تحريضا وتهييجا له على الطاعة، لا على أنه بانتفاء طاعته ينتفي أنه ابنه، أو على أن المعنى من كان كامل الإيمان بالله واليوم الآخر فليقل خيرا، أو ليصمت وليكرم، فيكون متوقفا على هذه الأفعال كمال الإيمان لا حقيقته، وكلا التأويلين جيد. ثم في الحديث ثلاثة أحكام: أحدها: أمر المؤمن بأنه إما أن يقول خيرا أو يسكت، لأن قول الخير غنيمة، والسكوت عن الشر سلامة، وفوات الغنيمة والسلامة ينافي حال المؤمن وما يقتضيه شرف الإيمان، لأن الإيمان مشتق من الأمان، ولا أمان لمن فاتته الغنيمة والسلامة. وضبط هذا الموضع أن الإنسان إما أن يتكلم، أو يسكت، فإن تكلم فإما بخير وهو ربح، أو بشر فهو خسارة، وإن سكت (أ) فإما عن شر فهو ربح، أو عن خير فهو خسارة، فللإنسان في كلامه وسكوته ربحان ينبغي أن يحصلهما وخسارتان ينبغي أن يتخلص عنهما. وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ربح قول الخير والسكوت عن الشر، ونبه على ترك خسارة قول الشر والسكوت عن الخير. وهذا راجع إلى قوله عزَّ وجلَّ {وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70]: وقوله - صلى الله عليه وسلم - "أمسك عليك لسانك. . . وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم" (¬1). ¬

_ (أ) في س يسكت. (¬1) الحديث التاسع والعشرون من هذا الأربعين.

الحكم الثاني: الأمر بإكرام الجار ومقصوده مقصود قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" (¬1) من الألفة والاجتماع وعدم التفرق والانقطاع، لأن الناس جيران بعضهم لبعض، فإذا أكرم كل منهم جاره ائتلفت القلوب واتفقت الكلمة وقام الإسلام بذلك، وإذا أهان كل منهم جاره تنافرت القلوب واختلفت الكلمة فانعكس الحال، وأيضًا فإن الجاهلية كانوا شديدين (أ) في مراعاة الجار وحفظ حق الجوار (ب)، فكان في الوصية بإكرام الجار ما يرغبهم في الإسلام ويحسنه في أعينهم. وهذا يرجع إلى قوله عزَّ وجلَّ {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ} [النساء: 36] وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" (¬2). قلت: والجيران ثلاثة: كافر فله حق واحد بالجوار، ومسلم أجنبي فله حقان بالجوار والإسلام، ومسلم قريب فله ثلاث حقوق بالجوار والإسلام والقرابة (جـ)، كذا قاله بعض العلماء. الحكم الثالث: إكرام الضيف والمقصود به كالمقصود بإكرام الجار لأن ¬

_ (أ) في م يشددون. (ب) في س الجار. (جـ) في س والقربى. (¬1) رواه البخاري 1/ 14 ومسلم 1/ 67. (¬2) رواه البخاري 5/ 2239 ومسلم 4/ 2025 من حديث عائشة.

الناس إما ضيف، أو مضيف فإذا أكرم بعضهم بعضا ائتلفت كلمتهم، ولأن العرب كانوا شديدين العناية (¬1) بالضيف، فكان في الأمر بإكرامه استجلابهم إلى الإيمان. واعلم أن الحكم الأول وهو قول الخير أو الصمت عام مخصوص بما لو أكره على قول شر، أو سكوت عن خير، أو نسي، أو خاف على نفسه من قول الخير ونحوه، كمن خاف من إنكار منكر ونحوه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (¬2) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم" (¬3) ونحوه من المخصصات. أما إكرام الجار والضيف فيحتمل تخصيصهما بالجار الفاسق والمبتدع والمؤذي ونحوهم فلا يكرمون، بل يهانون ردعا لهم عن فجورهم، ويحتمل جعلهم من ذوات الجهتين فيكرمون من حيث إنهم جيران، ويهانون من حيث إنهم فُجَّار، كل جهة بما تستحق، ولأن الكافر يرعى حق حواره، فالمسلم على علاته أولى، وكما قيل: "في كل كبد حَرَّى أجر" (¬4). وقال بعضهم: حتى الحية والكلب العقور ونحوه يطعم ويسقى إذا اضطر إلى ذلك ثم يقتل. والله أعلم بالصواب. ¬

_ (¬1) كذا في النسخ. (¬2) رواية للحديث التاسع والثلاثين من هذا الأربعين. (¬3) الحديث الرابع من هذا الأربعين. (¬4) رواه البخاري 2/ 833 ومسلم 4/ 1761 من حديث أبي هريرة بنحوه.

الحديث السادس عشر

الحديث السادس عشر: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أوصني، قال: لا تغضب، فردَّد مرارا، قال: لا تغضب. رواه البخاري (¬1). الغضب في حق الآدمي قيل: فوران دم القلب وغليانه، وقيل: عرض يتبعه غليان دم القلب لإرادة الانتقام. وفي الحديث "الغضب جمرة تتوقد في قلب ابن آدم أما ترون إلى انتفاخ أوداجه وحمرة (أ) عينيه" (¬2) أو كما قال، وأما غضب الله عزَّ وجلَّ -أعاذنا الله سبحانه وتعالى منه- فقيل: هو إرادة الانتقام (¬3)، وقيل غير ذلك. واعلم أن هذا الحديث تضمن دفع أكثر الشرور عن الإنسان لأن الإنسان في مدة حياته بين (ب) لذة وألم، فاللذة سببها ثوران الشهوة للأكل أو الشرب أو النكاح أو غيره، ودفع الألم والمكروه سببه ثوران الغضب، ثم كل واحد من اللذة والألم قد يكون تناوله أو دفعه مباحا كنكاح الزوجة ودفع قاطع الطريق، وقد يكون حرامًا كالزنا وقتال المسلمين عدوانا، وهذا ¬

_ (أ) في م احمرار. (ب) في ب في. (¬1) رواه البخاري 5/ 2267. (¬2) رواه أحمد 3/ 19 والترمذي 4/ 484 قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. (¬3) الغضب من الصفات الخبرية التي وردت في الكتاب والسنة، والحق فيها إثبات بلا تشبيه، وتنزيه بلا تعطيل، وإرادة الانتقام ليست هي هو، ولكنها لازمة له.

القسم أعني دفع المكروه عدوانا هو شَرٌّ سببه الغضب، فإذا اجتنب الغضب اندفع عنه نصف الشر بهذا الاعتبار، وأكثره في الحقيقة، فإن الإنسان يغضب فيقتل أو يقذف أو يطلق امرأته أو يهاجر صاحبه أو يحلف يمينًا فيحنث فيها أو يندم عليها كما جاء في الحديث "اليمين حنث أو ندم" (¬1) وقد يغضب فيكفر كما كفر جبلة بن الأيهم (¬2) حين غضب من لطمة أخذت منه قصاصا. وبالجملة فالشر إنما يصدر عن الإنسان بشهوة كالزنا أو غضب كالقتل فهما أعني الشهوة والغضب أصل الشرور ومبدؤها، ولهذا لما تجرد الملائكة ¬

_ (¬1) رواه البخاري في تاريخه 2/ 129 وابن ماجه 1/ 680 والحاكم 4/ 303 والبيهقي 10/ 30 من طرق عن أبي معاوية عن بشار بن كدام عن محمد بن زيد عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما الحلف حنث أو ندم. ورواه البخاري 2/ 129 ومن طريقه البيهقي 10/ 31 قال البخاري: وقال لنا أحمد بن يونس حدثنا عاصم بن محمد بن زيد، قال: سمعت أبي يقول: قال عمر بن الخطاب: اليمين إثمة أو مندمة. قال البخاري: وحديث عمر أولى بإرساله. (¬2) هو جبلة بن الأيهم الغساني ملك آل جفنة، أسلم في عهد عمر بن الخطاب، وحج فوطئ على إزاره رجل فحلَّه فغضب ولطمه فهشم أنفه، وطلب منه عمر القود فرفض ولحق بهرقل وتنصَّرَ ومات على النصرانية. وهو القائل: تَنَصَّرَتِ الأشرافُ من أجْلِ لَطمَةٍ ... وما كانَ فيها لو صَبَرتُ لها ضَرَرْ تَكَنَّفنِي منها لَحَاجٌ ونَخْوَةٌ ... وبعتُ لَهَا العينَ الصَّحِيحَةَ بالعَوَرْ فيا لَيتَ أُمِّي لم تَلِدْني وَلَيتَنِي ... رَجَعْتُ إلى القولِ الذي قاله عُمَرْ وَيَا لَيتَنِي أرعَى المَخَاضَ بِقَفْرَةٍ ... وكُنتُ أسيرًا في رَبِيعَةَ أو مُضَرْ وانظر تمام القصة في الوافي بالوفيات 11/ 53 - 57.

عن الشهوة والغضب تجردوا عن جميع الشرور البشرية (أ). وللغضب دواء مانع ورافع، فالمانع تذكر فضيلة العلم، وخوف الله عز وجل، كما حكي (ب) عن بعض الملوك: أنه كتب ورقة فيها "ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء، ويل لسلطان الأرض من سلطان السماء، ويل لحاكم الأرض من حاكم السماء، اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب" ثم دفعها إلى وزيره وقال له: إذا غضبت فادفعها إليَّ (جـ)، فجعل الوزير كلما غضب الملك دفعها إليه فينظر فيها فيسكن غضبه. والرافع للغضب نحو ما ذكرناه (د) عن الملك، وما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا غضب أحدكم وهو قائم فليقعد، وإذا (هـ) كان قاعدا فليضطجع" (¬1) والغرض أن يبعد عن هيئة الوثوب والتسرع إلى الانتقام ما أمكن حسما لمادة المبادرة (و). وكان معاوية يقول: ما غضبي على من أقدر عليه، وما غضبي على من لم أقدر عليه. يعني أن الغضب لا فائدة فيه، بل هو تعب محض ومفسدة ¬

_ (أ) في أالإنسانية. (ب) في م يحكى. (جـ) في س لي. (د) في أحكيناه. (هـ) في م وان. (و) في م البادرة. (¬1) رواه أحمد 5/ 152 وأبو داود 5/ 141 وابن حبان (الإحسان 12/ 501) من حديث أبي ذر.

محضة، لأن المؤذي لي إن كنت قادرا عليه عاقبته إن شئت ولا حاجة إلى الغضب، وإن لم أكن قادرا عليه فالغضب المجرد لا يشفيني منه، فلا حاجة إليه. واعلم أن هذا الكلام مقبول بادئ الرأي، وعند النظر يظهر فيه شيء، وهو أن الغضب من الأعراض الطبيعية التي لا تندفع (أ) بالاختيار كالخجل والوجل لأنه فوران دم القلب باطنا فهو كالرعاف ظاهرا، وإنما جعله الله عزَّ وجلَّ سببًا للانتقام ودفع المكاره وحينئذ لا يندفع الغضب عند قيام سببه، كما لا يندفع الخوف عند قيام سببه. وحكي عن موسى - صلى الله عليه وسلم - أنه لما قيل له: {خُذْهَا وَلَا تَخَفْ} [طه: 21] لَفَّ كمَّه على يده وتناولها بها، فقيل له: أرأيت لو أذن الله عزَّ وجلَّ فيما تحذر هل كان ينفعك كُمُّكَ؟ قال: لا، ولكني ضعيف، ومن ضعف خلقت (ب). والتحقيق أن الناس في الغضب على ضربين: أحدهما: مغلوب للطبع الحيواني فلا يمكنه دفعه وهو الغالب نمط الناس. والثاني: غالب للطبع بالرياضة فيمكنه منعه، ولولا هذا وإلا لكان قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تغضب" تكليفا أو أمرا بما لا يطاق. وأقوى الأشياء في منع الغضب ورفعه التوحيد الحقيقي العام وهو اعتقاد الإنسان أن لا فاعل في ¬

_ (أ) في أ، م لا تمتنع. (ب) في أومن ضعف خاف.

الوجود إلا الله عزَّ وجلَّ، وأن الخلق آلات لفعله (¬1)، فإذا تَوَجَّهَ إليه مكروه من جهة غيره يرى فاعله الله عزَّ وجلَّ لا غيره، وأن ذلك الغير آلة للفعل الإلهي كالسيف للضارب والقوس للرامي والرمح للطاعن والقدوم للنجار والسكين للجزار، وحينئذ يندفع عنه الغضب، لأنه لو غضب والحالة هذه لكان غضبه إما على الخالق وهي جُرأةٌ تنافي العبودية، أو على المخلوق وهو إشراك ينافي التوحيد، ولهذا جاء في حديث أنس (أ) قال: خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين، فما قال لشيء فعلته لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله لم لم تفعله؟ ولكن يقول: "قدر الله وما شاء فعل، أو لو قدر لكان" (¬2). قلت: وما ذاك إلا لكمال معرفته - صلى الله عليه وسلم - بأن لا فاعل (¬3) ولا معطي ولا ¬

_ (أ) في أولهذا قال أنس. (¬1) هذا قول الجبرية. وقول أهل السنة في هذه المسألة أن العبد فاعل لفعله حقيقة، وله قدرة حقيقة، قال تعالى {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} {فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}. وأوجد الله للعبد إرادة وقدرة يفعل بهما فعله، فيوصف الفعل بكونه فعلا للعبد وكسبًا له، ويوصف بأنه مخلوق لله لأن الله خالق العبد وقدرته وإرادته، والله قادر مستقل، والعبد قادر يجعل الله له قادرًا. وبذلك الفعل يصير العبد عاصيا أو مطيعًا، وبه يعاقب أو يثاب، والفرق بين العقاب على الفعل الاختياري وغير الاختياري مستقر في الفطر والعقول. انظر درء تعارض العقل والنقل 7/ 276 والاستغاثة في الرد على البكري 1/ 175 وشرح العقيدة الطحاوية 650. (¬2) رواه البخاري 3/ 1018 ومسلم 4/ 1804 بنحوه. (¬3) كلا، بل ذاك لحسن حلقه ولين جانبه وطيب عشرته.

مانع إلا الله عزَّ وجلَّ، بخلاف غيره من الناس فإن غلامه إذا لم يقف شغله غضب عليه وقام فضربه، فعلى هذا لا فاعل في الوجود إلا الله وحده (أ)، وله آلات كبرى وصغرى ووسطى، فالكبرى من له قصد واختيار كالإنسان الضارب بالعصا، والصغرى ما لا قصد له ولا اختيار كالعصا المضروب بها، والوسطى من له قصد ولا عقل له كالدابة ترفس ونحوها (¬1). فإن قلت: قد صح في الحديث أن موسى - صلى الله عليه وسلم - اغتسل عريانا، ووضع ثوبه على حجر، فنفر (ب) الحجر، فجمح موسى في أثره يقول: ثوبي يا حجر، ثوبي يا حجر، ثم طفق يضربه بعصاه، وإن أثر عصاه بالحجر (جـ) لندب ستة أو سبعة (¬2). وإنما ذلك غضب على الحجر مع أن موسى كان من أعرف الناس (د) بالله عزَّ وجلَّ وتوحيده وأن لا فاعل غيره. فالجواب أن الحجر إنما فرَّ بثوب موسى لحياة خلقها الله عزَّ وجلَّ فيه ¬

_ (أ) في ب، س، م فعلى هذا الفاعل في الوجود هو الله عزَّ وجلَّ وحده. (ب) في ب، م ففر. (جـ) في م في الحجر. (د) في أ، م الخلق. (¬1) هذا تقسيم فاسد يجعل الإنسان، وعصاه التي يضرب بها باختياره وإرادته، ودابته التي يركبها في مرتبة واحدة من حيث إن كلَّها آلات لفعل الله فحسب. (¬2) رواه البخاري 1/ 107 ومسلم 1/ 267 من حديث أبي هريرة.

فصار كالدابة تجمح براكبها، أو تفر بصاحبها (أ)، فله أن يضربها تأديبًا لها أو زجرا، ويحتمل أن يجعل غضبه على الحجر من باب غلبة الطباع، كما غلب عليه الطبع البشري حتى لَفَّ كُمَّه على يده عند أخذ العصا، وقد ثبت أن موسى كان حديدًا حتى كان إذا غضب خرج شعر جسده من مدرعته كَسَل (¬1) النخل، ولهذا لما علم بما أحدث قومه من بعده أخذ برأس أخيه ولحيته يجره إليه. وكذلك يحكى أنه لما خرق الخضر السفينة غضب موسى وأخذ برجل الخضر يجره ليلقيه في البحر حتى ذكره يوشع عهده مع الخضر فخلّاه. والله عزَّ وجلَّ أعلم بالصواب. وقوله: "فردَّد مرارا" يعني السائل كرَّر السؤال مرارا يقول: أوصني يا رسول الله لأنه لم يقنع بقوله: "لا تغضب" فطلب وصيَّةً أنفع وأبلغ منها فلم يزده النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها لعلمه بعموم نفعها، ونبه السائل على ذلك بتكرارها وصار هذا (ب) كما قال له العباس علمني دعاء أدعو به يا رسول الله فقال: "سل الله العافية" فعاوده العباس مرارا، فقال له: "يا عباس يا عم رسول الله سل الله العافية في الدنيا والآخرة، فإنك إذا أعطيت العافية أعطيت كل ¬

_ (أ) في ب، س، م تفر من صاحبها. (ب) في م ذلك. (¬1) كذا في النسخ، ولعلَّها محرفة عن (كَسُلَّاءة النخل) كَرُمَّانة شوكة النخل الجمع سُلَّاء. انظر تاج العروس مادة سلل.

خير" (¬1) أو كما قال. وكذلك لما قال لأصحابه: "اجتمعوا فإني أتلو عليكم ثلث القرآن، فاجتمعوا فَتَلاَ عليهم {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} إلى آخرها ثم دخل منزله، فأقاموا ينتظرونه ليكمل لهم ثلث القرآن فخرج عليهم، فقال: "ما تنتظرون أما إنها تعدل ثلث القرآن" (¬2) يعني سورة الإخلاص. والله عزَّ وجلَّ أعلم بالصواب. ¬

_ (¬1) رواه أحمد 1/ 209 والترمذي 5/ 534 من حديث عباس قال الترمذي هذا حديث صحيح. (¬2) رواه مسلم 1/ 557 من حديث أبي هريرة.

الحديث السابع عشر

الحديث السابع عشر: عن أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِبحة، وليُحِدَّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" رواه مسلم (¬1). أبو يعلى كنية هذا الصحابي، وكنية حمزة رضي الله عنه (¬2) عَمُّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكنية: أبي يعلى الموصلي صاحب المسند (¬3)، وكنية القاضي أبي يعلى ابن الفراء (أ) الحنبلي (¬4)، ويكنى حمزة أبا عمارة أيضًا. ويعلى مضارع عَلِيَ يعلى مثل رَضِيَ يَرضَى، وعلى هذا الوزن يرفأ (¬5) مولى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. قال الشيخ: القِتْلَة والذِبْحَة بكسر أَوَّلهما لأنهما من باب الهيئة كالجلسة والرِّكبة، أي: هيئة الذبح والقتل والجلوس والركوب. قال: وليحد بضم الياء وكسر الحاء وتشديد الدال، يقال: أحَدَّ السكين ¬

_ (أ) في ب أبو يعلى الفراء. (¬1) رواه مسلم 1/ 1548. (¬2) ينظر أسد الغابة لابن الأثير 2/ 51. (¬3) هو أبو يعلى الإمام الحافظ شيخ الإسلام أحمد بن علي بن المثنى التميمي الموصلي صاحب المسند والمعجم ت 307 السير 14/ 174. (¬4) هو القاضي أبو يعلى مُحَمَّدُ بن الحسين بن مُحَمَّدُ بن الفراء ت 390 طبقات الحنابلة 2/ 193. (¬5) انظر ترجمته في تاريخ خليفة بن خياط 156، والطبقات لمسلم بن الحجاج 1/ 232 وتاج العروس مادة رفأ.

وحدَّدها واستحدَّها بمعنى. قلت: قوله: "على كل شيء" يحتمل أن على بمعنى إلى، أو في، تقديره كتب الإحسان إلى كل شيء، أو في كل شيء، ويحتمل أن على على بابها، والتقدير كتب الإحسان في الولاية على كل شيء. وكتب بمعنى أوجب نحو {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] {يَكُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178] {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] ونحوه كثير. ويشهد لذلك قوله عزَّ وجلَّ {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90] وقوله عزَّ وجلَّ {وَأَحْسِنُوا} [البقرة: 195] ونحوه (أ). ثم قوله: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء" هو قاعدة الحديث الكلية، ثم ذكر من جزئياته التخفيف في الذبح، والقتل عن الحيوان، إما لأنَّ سبب الحديث اقتضاه لأنهم كانوا في الجاهلية يذبحون بالمدى الكالَّة ونحوها مما يعذب الحيوان، ويمثلون في القتل كَجَدْع الأنوف وصَلْمِ الآذان (ب) وقطع الأيدي والأرجل فنهى عن ذلك بقوله: "أحسنوا الذبحة والقتلة". وإما أنه ضرب ذلك مثالًا للإحسان اتفاقا لا عن مقتضى خصَّه بالذكر، وقد تبيَّن فائدة قوله: "ليحد أحدكم شفرته" بقوله: "وليرح ذبيحته" لأن الذبح بآلة كالة يعذب الذبيحة فراحتها في الذبح بآلة ماضية موجبة، ¬

_ (أ) في أونحوها. (ب) في أالأذن.

وكذلك يجب أن يقتص بآلة حادة فلو اقتص بآلة كالَّة لم يُعدَّ مريحا، فلو سرى القصاص ضمن لتفريطه، ومن ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين" (¬1) أي: فقد عرض نفسه لعذاب يجد فيه ألما كألم الذبح بغير سكين أو نحو هذا. واعلم أن هذا الحديث هو قاعدة الدين العامة، فهو متضمن لجميعه لأن الإحسان في الفعل هو إيقاعه على مقتضى الشرع أو العقل، ثم الأفعال التي تصدر عن الشخص إما أن تتعلق بمعاشه أو بمعاده، والمتعلق بمعاشه إما سياسة نفسه وبدنه، أو سياسة أهله وإخوانه وملكه، أو سياسة باقي الناس، والمتعلق بمعاده إما الإيمان وهو عمل القلب، أو الإسلام وهو عمل البدن كما مَرَّ في حديث جبريل فإذا أحسن الإنسان في هذا كله وأتى به على مقتضى الشرع فقد حصل على (أ) كل خير وسلم من كل شرٍّ ووفى بجميع عهد الشرع، ولكن دُونَ ذَلِكَ خَرْطُ القَتَاد (¬2)، وأبْعَدُ مِمَّا دُونَ سُعَاد. يقال: أحَدُّ يُحِدُّ إحدادًا، وكذلك أحدَّت المرأة في عدتها إحدادًا، ويقال: حدَّت أيضًا ثلاثيًّا. والشفرة المدية، وهي السكين ونحوه مما يذبح به، سميت باسم شفرتها وهي حَدُّها، تسمية للشيء باسم جزئه. ¬

_ (أ) في ب له. (¬1) رواه أبو داود 4/ 4 والترمذي 3 وابن ماجه 2/ 774 من حديث أبي هريرة قال الترمذي هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. (¬2) "دون ذلك خرط القتاد" مثل يضرب للأمر دونه مانع. انظر مجمع الأمثال للميداني 1/ 467.

ويقال: أراح يريح إراحة إذا حلب الراحة للشيء (أ)، أو تسبب إلى حصولها له بوجه. والذبيحة أي: المذبوحة فعيلة بمعنى مفعولة كأنه قال: الدابة الذبيحة، أو يكون من باب غلبة الاسمية على الوصفية. قال الخطابي كلامًا، معناه: أن العلماء لما كانوا ورثة الأنبياء، ومما ورثوا عن الأنبياء تعليم الناس كيفية الإحسان إلى كل شيء ألهم الله عز وجل الأشياء الاستغفار (ب) للعلماء مكافأة لهم على ذلك (¬1)، فمن ثُمَّ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتَّى الحيتان في جوف البحر" (¬2) وتفاصيل الإحسان إلى كل شيء كثير لا ينحصر، لكن نذكر منه شيئًا على طريق (جـ) ضرب المثل. وذلك كما قالوا: لا تجاع الدابة، ولا يحمل عليها ما تعجز عنه، ولا تركب واقفة إلا لحاجة، وإذا ذبحت فلا يسلخ جلدها حتَّى تزهق نفسها، ولا تُحدُّ المُدْيَةُ وهي تراها، ولا تُوَلَّهُ على ولدها، ولا يحلب منها ما يضرُّ به، ولا يشوي السمك والجراد حتَّى يموت، ولا يُضَّارُّ (5) شيء عبثًا ¬

_ (أ) في م إلى الشيء. (ب) في م للاستغفار. (جـ) في ب طريقة. (د) في س ولا يصاد شيء عبثا. (¬1) معالم السنن للخطابي 4/ 183. (¬2) رواه أبو داود 4/ 58 والترمذي 5/ 49 وابن ماجه 1/ 81 من حديث أبي الدرداء.

ونحو ذلك كثير. واعلم أن الموجود إما قديم أو حادث، والقديم لا حاجة به إلى الإحسان إليه لاستغنائه بذاته عما سواه، والحادث إما عرض ولا يتأتى الإحسان إليه، أو جوهر وهو إما جماد أو نبات أو حيوان، والجماد -فيما أحسب- كالعرض لا يتأتى الإحسان إليه لعدم إحساسه، والنبات والحيوان إنسان أو غيره يتأتى الإحسان إليه لاشتماله على قوة النماء والحِسِّ. ويَعُمُّ الحديث الإِحسان إلى الملائكة والجن، أما الملائكة فبإِحسان عشرتهم بأن لا يفعل بحضرة الحفظة ما يكرهون، ولا يأكل ما يتأذون بريحه كالثوم والبصل ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم" (¬1) وقال: "إني أناجي من لا تناجي" (¬2). يعني الملك. واعلم أن الملائكة يستغفرون لبني آدم كما ورد في التنزيل {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [سورة غافر: 7]. والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض. وقد كان بعض أهل العلم يقرأ القرآن، ويسبح ويذكر الأذكار المأثورة (أ)، ¬

_ (أ) في أالشرعية وفي س، م الشريفة. (¬1) رواه مسلم 1/ 395 من حديث جابر. (¬2) رواه البخاري 6/ 2679 ومسلم 1/ 395 من حديث جابر وهو جزء من الحديث السابق، والجزء السابق منه ليس في البخاري.

ويهدي ثواب ذلك ونوره لكل عبد لله عزَّ وجلَّ صالح في السموات والأرض من ذكر أو أنثى من ملك أو جني نبي أو صديق أو شهيد، فينبغي لمن وُفِّقَ فِعلُ ذلك. وقد صح لي عن بعض من كان يفعل ذلك صحة قاطعة لا ريب فيها أنَّه نام يومًا بعد هذا الذكر وأهدى ثوابه إلى من ذكر فرأى في منامه كأنه عُرج به إلى السماء وأنه خرج للقائه كل من فيها من الأنبياء والملائكة وغيرهم، فكان يرى أن ذلك دليل على أنَّه يصل إليهم ما أهداه لهم وأنهم خرجوا للقائه مكافأة له على ذلك. واعلم أن ذكر الله عَزَّ وجلَّ عظيم وإن قلَّ لفظه، وثوابه جزيل، فلا تكسل أن تقرأ سورة الإخلاص ثلاث مرات تعدل ختمة، أو تقول: سبحان الله وبحمده، أو سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإن هذا أحب الكلام إلى الله عز وجلَّ كما ثبت في الصحيح (¬1)، ثم تقول: اللهم أثبني على هذا الذكر واجعل ثوابي عليه هدية مني إلى كل عبد لك صالح في السموات والأرض. ولا يمنعك من هذا قول من لا يرى (¬2) وصول ثواب القرآن إلى الميت ¬

_ (¬1) الَّذي في البخاري 6/ 2749 من حديث أبي هريرة: كلمتان حبييتان ....... سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم. وروى النسائي في عمل اليوم والليلة (485 طبعة المغرب) من حديث بعض أصحاب مُحَمَّدُ - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أحب الكلام إلى الله أربع لا يضرك بأيهن بدأت، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. (¬2) وهو الإمام الشافعي، انظر تفسير ابن كثير 7/ 440 وتفسير آيات أشكلت لشيخ الإسلام ابن تيمية 1/ 451 - 568.

احتجاجًا بقوله عز وجلَّ {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلا مَا سَعَى} [سورة النجم:39] فإنه مذهب مرجوح بيَّنَّا (أ) ضعفه في غير موضع، وباقي الأئمة على خلافه. ومذهب أحمد أن الحيَّ إذا تطوع بقربة وأهدى ثوابها لميت مسلم نفعه ذلك، وفي الحيِّ وجهان: أصحهما ينفعه أيضًا وهو موجب النظر. وأما الجن فقد ثبت وجودهم بالنصوص القاطعة، وقد أحسن النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم ليلة وفدوا عليه فعلَّمهم وقراهم بأن جعل لهم كل عظم طعاما لهم، وكل روثة وبعرة علفا لدوابهم (¬1)، وفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة، فإذا اتفق ظهورهم لأحد من الناس فينبغي أن يحسن إليهم بما يليق بهم. فأما الشياطين والمردة ونحوهم فينبغي الإحسان إليهم بدعائهم إلى الخير وترك الشرِّ، كما يدعى كفار (ب) الإنس، فإن أبوا فلا حظَّ لهم في الإحسان، بل في الإساءة والهوان. وأما الحشرات والهوامُّ والسباع المؤذية بالفعل أو القوة فلا حظَّ لها في الإحسان، بل الإساءة، وهي مخصوصة من عموم هذا الحديث بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحية والعقرب والفأرة والحدأة والكلب العقور" وقوله: "اقتلوا الأبتر وذا الطفيتين فإنهما يسقطان الحبل ويطمسان البصر" والله عزَّ وجلَّ أعلم بالصواب. ¬

_ (أ) في م بينت. (ب) في ب، م كافر. (¬1) رواه مسلم 1/ 332 من حديث ابن مسعود.

الحديث الثامن عشر

الحديث الثامن عشر: عن أبي ذر جندب بن جنادة، وأبي عبد الرحمن معاذ بن جبل رضي الله عنهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: اتق الله حيث ما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن. رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وفي بعض النسخ حسن صحيح. من عَرَفَ اللهَ فلم تُغْنِهِ ... مَعْرِفَةُ اللهِ فذاك الشَّقِي ما يَصنَعُ العبد بِعِز الغِنَى ... فالعزُّ كل العِز للمُتَّقِي جُندب وجُنَادة بضم الجيم، ومعاذ بضم الميم، وأبو ذر أصدق الناس لهجة وزهدًا، ومعاذ أعلم الأمة بالحلال والحرام. وفي الحديث أحكام ثلاثة جامعة في بابها: أحدها: يتعلق بحق الله عزَّ وجلَّ، وهو أن يتقيه حيث ما كان فإن الله عزَّ وجلَّ معه وناظر إليه ورقيب عليه حيث ما كان. وتقوى الله عزَّ وجلَّ: امتثال مأموره واجتناب محظوره، وقيل: تقوى الله عزَّ وجلَّ: أن لا يراك حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك، ولهذا قال بعضهم لصاحبه: إذا أردت أن تعصي الله فاعصِه حيث لا يراك -ففيه غاية الاعتبار، وأي شيء يمنع الإنسان من رؤيته تعالى- أو أخرج من داره، أو كل غير رزقه. وتقوى الله عزَّ وجلَّ يتضمن ما تضمنه قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء" وما تضمنه حديث جبريل من الإسلام والإيمان والإحسان، لأن سائر أحكام التكليف لا تخرج عن الأمر والنهي،

فإذا اتقى الله بفعل ما أمر، وترك ما نهى فقد أتى مجميع وظيفة التكليف. الحكم الثاني: يتعلق بحق المُكلَّفِ، وهو أنَّه إذا فعل سيئة أتبعها حسنة تمحوها، وتدفع عنه حكمها لقوله عزَّ وجلَّ {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [سورة هود: 114] أي: عظة لمن اتعظ، فلا تعجَزَنَّ أيها الإنسان إذا أتيت بسيئة بقلبك أو لسانك أو جارحتك أن تتبعها حسنة من صلاة ركعتين، أو صدقة وإن قلَّت، أو ذكر الله عزَّ وجلَّ، ولو أن تقول: سبحان الله وبحمده فإنه أحبُّ الكلام إلى الله عز وجلَّ، والحمد لله تملأ الميزان. وفي الصحيح: "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم" فلا تعجزن عن إتباع السيئة نحو هذا الكلام المبارك يمحها إن شاء الله عزَّ وجلَّ. ثم إن كانت السيئة صغيرة كفاها الحسنة اليسيرة، والذكر اليسير، وإن كانت كبيرة فأكثر مما يمحوها من ذلك. الحكم الثالث: يتعلق بحقوق الناس وهو مخالقتهم، أي: معاشرتهم بخلق حسن، والخلق الحسن قيل: كفُّ الأذى وبذل الندى. والأشبه تفسيره بأن يحب للناس ما يحب لنفسه، ويأتي إليهم ما يحب أن يؤتى إليه، ففي ذلك أعني معاشرتهم بخلق حسن اجتماع القلوب (أ)، وانتظام الأحوال، وكفُّ الشرِّ عنهم واكتفاء شرهم، وذلك جماع الخير وملاك الأمر ¬

_ (أ) في س للقلوب.

إن شاء الله عزَّ وجلَّ. ومما يتعلق بالحكم الأول: وهو التقوى أنها مذكورة في قوله عزَّ وجلَّ {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [سورة البقرة: 177] الآية. ثم قال الله عزَّ وجلَّ {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [سورة يونس: 62 - 63] فنقول: من أتى بما في الآية الأولى من الإيمان والإسلام فهو متقى، والمتقي (أ) وليُّ الله عزَّ وجلَّ، فصار معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "اتق الله حيث ما كنت" كن وليًّا لله بتقواك إياه. وفيه دليل على أن الولاية (ب) مكتسبة، وإلا لم يصحَّ الأمر بها، ولا يجيء في النبوة مثل ذلك لأن النبوة ولاية خاصة كاملة، لكن الجمهور على أنهما موهوبتان (جـ) من الله عز وحل لا مكتسبتان، والتحقيق أنهما موهوبتان (جـ) من فضل الله عزَّ وجلَّ، وهو مرتب على زكاء النفس وصلاح (د) العمل كالرزق هو من فضل الله عزَّ وجلَّ، وهو مرتب على الأسباب، والاكتساب الَّذي جرت به العادة في حصول الرزق، وكما قال الله ¬

_ (أ) في أوالتقي. (ب) في أعلى الولاية أنها مكتسبة. (جـ) في س، م موهبتان. (د) في م إصلاح.

عزَّ وجلَّ {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [سورة الملك: 15] وقال {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [سورة السجدة: 24] وقال الله عزَّ وجلَّ {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [سورة الأنبياء: 90] يعني الأنبياء المذكورين في سورتهم، علَّل ما مَنَّ به عليهم بمسارعتهم في الخيرات وما بعده. ومن شعر أبي الدرداء في التقوى (أ): يريد المرءُ أن يعطَى مُناه ... ويأبَى اللهُ إلا ما أَرادَا يقول المرءُ: فائِدَتِي وَمَالِي ... وَتَقوَى اللهِ أفضلُ ما استَفَادَا (¬1) وأما قول الترمذي حديث حسن صحيح فهو مشكل على اصطلاحه، لأنه قد ذكر في كتاب العلل من جامعه (¬2): أنَّه يريد بالحسن ما ليس في إسناده من يتهم بالكذب، ولا يكون شاذا، ويروى مع ذلك من غير وجه. والصحيح عنده وعند غيره: ما رواه العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه. ثم إن الترمذي كثيرًا ما يقول في كتابه: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وهذا ينافي اشتراطه في الحسن أن يكون قد روي من غير وجه. والذي أجيب عن قول الترمذي حديث حسن صحيح فيما يُعلم وجهان: ¬

_ (أ) في أشعر أبي الدرداء حيث قال في التقوى. (¬1) البيتان له في حلية الأولياء 1/ 225 والمدخل إلى تقويم اللسان لابن هشام اللخمي ص 238. (¬2) جامع الترمذي 5/ 758.

أحدهما: أن معناه أنَّه حسن بإسناد صحيح بإسناد آخر، وما ذكرناه (أ) من قوله: حسن صحيح غريب يبطل هذا الجواب. والثاني: أن قوله: حسن، يريد به الحسن اللغوي، وهو ما يوافق القلب، وتهواه النفس وهو باطل بأنَّ الترمذي فسَّر الحسن بغير ذلك وهو ما ذكرناه، وبأن من أحاديثه (ب) ما ليس حسنا باعتبار اللغة نحو "من نوقش الحساب عذب" (¬1) وأشباهه من نصوص الوعيد فإنها لا توافق القلب ولا تهواها النفس، بل تجد منها كربا وألما من الخوف. والصواب في ذلك ما أشار إليه بعض العلماء، وهو أن الحسن قسم من الصحيح، لكن ليس قسيمه (¬2). ¬

_ (أ) في ب وما ذكرته. (ب) في س حديثه. (¬1) رواه البخاري 1/ 51 ومسلم 4/ 2204 من حديث عائشة. (¬2) وقد ظهر لي معنى جديد لقول الترمذي "حسن صحيح" لم يذكره العلماء، واستفدته من مشايخي. وهو أن الترمذي يقصد به أعلى درجة من الصحة، فيكون قوله "حسن" مزيد تأكيد لمعنى "صحيح" ويكون حكمه على الحديث بـ "حسن صحيح" أقوى مرتبة من مجرد "صحيح" و "حسن". ومما يؤيد هذا المفهوم أن الترمذي يطلق هذا الحكم عادة على الأحاديث التي أخرجها البخاري ومسلم، ولا يكتفي بقوله "صحيح" فيها إلَّا نادرًا، ويظهر ذلك بمراجعة "تحفة الأشراف" ورموزه للصحيحين والترمذي، حيث نجد أن أغلب الأحاديث المتفق عليها يحكم عليها الترمذي بقوله "حسن صحيح". وبهذا يبطل قول من يجعل "حسن صحيح" أدنى مرتبة من "صحيح"، ومن يفهم منه التردد ويقدّر (أو)، ومن يفهم منه الجمع بين حكمين بالنظر إلى إسنادين ويقدّر (و). هذه خلاصة ما توصلت إليه، وللتفصيل مقام آخر. عزير.

قلت: وبيانه أن مدار الرواية على عدالة الراوي، وضبطه، فإن كان مبرزًا فيهما كشعبة وسفيان ويحيى القطان ونحوهم فحديثه صحيح، وإن كان دون المبرز فيهما، أو في أحدهما، لكنه عدل ضابط بالجملة فحديثه حسن، هذا أجود ما قيل في هذا المكان. واعلم أن العدالة والضبط إما أن ينتفيا من (أ) الراوي، أو يجتمعا فيه جميعا، أو توجد فيه العدالة وحدها، أو الضبط وحده، فإن انتفيا منه (ب) لم يقبل حديثه أصلا، وإن اجتمعا فيه قبل، وهو الصحيح المعتبر، وإن وجدت فيه العدالة دون الضبط قُبِلَ حديثه لعدالته، ويُوْقَفُ فيه -لعدم ضبطه- على شاهد منفصل، يجبر ما فات من صفة الضبط، وإن وجد فيه الضبط دون العدالة لم يقبل حديثه لأن العدالة هي الركن الأكبر في الرواية، ثم كل واحد من العدالة والضبط له مراتب عليا ووسطى ودنيا، ويحصل بتركيب بعضها مع بعض مراتب الحديث (جـ) مختلفةً في القوة (¬1) والضعف، ظاهرةً مما ذكرناه. واعلم أن نسخ الترمذي تختلف في التحسين والتصحيح (¬2)، ففي بعضها ¬

_ (أ) في ب، س، م في الراوي. (ب) في س، م فيه. (جـ) في ب للحديث. (¬1) من قوله: واعلم، إلى قوله: في القوة، في (المقنع في علوم الحديث لابن الملقن 1/ 96 - 97). (¬2) هذا الاختلاف قديم، وينبغي الاعتماد الآن على ما نقله المزّي في تحفة الأشراف، وما ذكره المنذري في كتبه، والزيلعي في نصب الراية. وأفضل طبعة للسنن هي التي مع "تحفة الأحوذي" طبعة الهند، فقد قوبلت على عدة نسخ وكثيرًا ما يشير في الشرح إلى اختلاف الروايات.

يوجد حديث حسن، وفي بعضها حسن صحيح، وفي بعضها حسن غريب، وفي بعضها حسن صحيح غريب، أعني في بعض أحاديثه هذا وغيره، وذلك بحسب اختلاف الرواة عنه لكتابه والضابطين له، والله عزَّ وجلَّ أعلم بالصواب.

الحديث التاسع عشر

الحديث التاسع عشر: عن أبي العباس عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا فقال: يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسئل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفّت الصحف. رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح (¬1)، وفي رواية غير الترمذي "احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا" (¬2). الكلام في لفظه ومعناه. فأما لفظه: فقوله: "كنت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي: على دابة فرس أو بعير أو غيره، كذلك جاء في بعض الروايات، وشبيه (1) به قول معاذ: كنت ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، وفيه جواز الإرداف على الدابة. ¬

_ (أ) في أويشبه. (¬1) 4/ 667. (¬2) انظر مسند الإمام أحمد (طبعة شعيب الأرنؤوط 4/ 487، 5/ 19). (¬3) رواه البخاري 1/ 60 ومسلم 1/ 58.

وقوله: "يا غلام" هو بضم الميم لأنه نكرة مقصودة، وكان ابن عباس رضي الله عنهما حينئذ غلامًا لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي وله عشر سنين. وتجاهك وأمامك بفتح الهمزة: قدامك يلي وجهك، وأصل تُجاه وُجاه بضم الواو وكسرها قلبت واوها تاء كما في تراث وتخمة وتُكَأَة وتهمة. وجفَّت الصحف، بالجيم: أي: فرغ من الأمر وجفَّت كتابته لأن الصحيفة حال كتابتها لا بد أن تكون رطبة المداد أو بعضه، بخلاف ما إذا فرغ منها. تعرَّف إلى الله بتشديد الراء، أي: تحبب إليه بالطاعة حتَّى يعرفك في الرخاء مطيعا، فإذا وقعت في الشدة عرفك بالطاعة، فجعلك ناجيا. وأما معناه فقوله: "إني أعلمك كلمات" هو مقدمة يسترعي (أ) بها سَمْعَهُ ليفهم ما يسمع ويقع منه بموقع. وقوله: "احفظ الله يحفظك" أي: احفظ الله بالطاعة يحفظك بالرعاية. "احفظ الله تجده تجاهك": أي: أمامك يراعيك في أحوالك، وهذا في معنى الَّذي قبله وتأكيد له، وهذا يشبه قوله عزَّ وجلَّ {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40] {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [سورة البقرة: 152] أي: أذكروني بالطاعة، أذكركم بالمغفرة والرعاية. وقوله: "إذا سألت فاسئل الله" هو كقوله عَزَّ وَجَلَّ {وَسْئَلُوا اللهَ ¬

_ (أ) في م يستدعي.

مِنْ فَضْلِهِ} [سورة النساء: 32] ومعناه وحد الله في السؤال، فإن خزائن الوجود بيده، وأمرها (أ) إليه لا معطي ولا مانع سواه. قوله: "وإذا استعنت فاستعن بالله" أي: وحده في الاستعانة به إذ لا معين غيره. {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قدَّم المفعول ليفيد الاختصاص. قوله: "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء" إلى آخره هو راجع إلى قوله عزَّ وجلَّ {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} الآية. والمعنى وحد الله في لحوق الضر (ب) والنفع، فهو الضار النافع ليس لأحد معه في ذلك شيء. وبيانه أن أزمَّة الموجودات بيده منعًا وإطلاقا، فإذا أراد زيد مثلًا ضُرَّ (جـ) عمرو بما لم يكتب عليه صَدَّ الله عَزَّ وَجَلَّ ذلك الضُّرَّ عنه بأن يمنع زيدا من مراده بمرض أو بشغل أو نسيان أو صرف قلب أو نحوه، أو بأن يعارض فعل زيد ما يبطله ويَرُدَّهُ، مثاله: لو أراد زيد أن يرمي عمرًا بسهم وأراد الله دفع كيده (د) فإما أن يمنع زيدًا من الرمي بأن يضعفه عن مَدِّ القوس ونحوه، أو ¬

_ (أ) في م وازمتها. (ب) في ب في الضر. (جـ) في م ضرر. (د) في س يده.

يعارض سهمه. مما يَرُدَّ ضرره مثل أن يرسل عليه ريحا عاصفة (أ) تشوش حركته وتميل به عن سمته فيخطئه. وإذا أردت أن تعرف تصاريف الأقدار في الوجود فانظر إلى رقعة الشطرنج كيف بعض أقطاعها (ب) تحمي بعضها، وبعضها يقتل بعضا، كذلك أسباب المقادير في الوجود بعضها يمنع وصول الشر إلى زيد، وبعضها يوصله إلى عمرو، ومصائب قوم عند قوم فوائد. ولعلك تستغرب هذا فإن (جـ) نظرته وجدته كما ذكرت. وقوله: "كتب الله لك، وكتبه عليك" سبق في حديث الصادق المصدوق "يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد". وقوله: "رفعت الأقلام": أي: تركت الكتابة بها لفراغ الأمر وإبرامه كما سبق في "وجفَّت الصحف". وقوله: "وما أخطأك لم يكن ليصيبك" إلى آخره يرجع إلى قوله عَزَّ وَجَلَّ {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [سورة الحديد: 22] أي: قد فرغ مما أصابك، أو أخطأك من خير أو شر، فما أصابك كانت إصابته لك محتومة فلا يمكن أن يخطئك، وما أخطأك فسلامتك منه لك محتومة فلا يمكن أن يصيبك، لأن ذلك كالسهام ¬

_ (أ) في س، م عاصفا. (ب) في م قطعها. (جـ) في ب فإذا.

الصائبة وُجِّهت من الأزل فلا بد أن تقع مواقعها. واعلم أن كل أمر بالنسبة إلى كل إنسان فهو لذاته جائز أن يصيبه، وأن يخطئه على جهة الإمكان الخاص، وإنما تعين في بعض الأمور إصابة الشخص، وفي بعضها خطؤه له بتعلق الإرادة والعلم الأزليين بذلك، فقتل عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب مثلًا هو لذاته كان جائزا أن يصيبهم، وأن لا يصيبهم، وإنما تعين وتحتم وقوعه بتخصيص الإرادة وتعلق العلم الأزليين بذلك. وإذا تعلق علم الله عزَّ وجلَّ بوقوع الممكن أو عدم وقوعه فهل يبقى خلاف ما تعلق به العلم مقدورًا؟ فيه قولان للمتكلمين (¬1) حكاهما الإمام فخر الدين الرازي (¬2) في نهاية العقول. قوله: "إن النصر مع الصبر، وإن الفرج مع الكرب" اعلم أن هذه المعية تؤخذ تارة بالنظر إلى العلم الأزلي، وتارة بالنظر إلى الوجود الحقيقي الخارج، فإن (أ) أخذت بالنظر إلى العلم الأزلي كانت (مع) على أصلها في ¬

_ (أ) في أفاذا. (¬1) قال شيخ الإسلام: إن الله قادر أيضًا على خلاف المعلوم والمراد، وإلا لم يكن قادرًا إلا على ما فعله، مجموع الفتاوى 8/ 374. (¬2) هو محمد بن عمر بن الحسين التيمي البكري فخر الذين الرازي، ابن خطيب الريِّ إمام المتكلمين ت 606 انظر طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 8/ 18 وكتابه "نهاية العقول في دراية الأصول" في علم الكلام، وله نسخ خطية، وانظر "فخر الدين الرازي وآراؤه الكلامية والفلسفية" لمحمد صالح الزركان ص 76.

اقتضاء المقارنة والمصاحبة لأن النصر والصبر مقترنان في تعلق العلم الأزلي بهما، أي: لم يكن نفس تعلقه بأحدهما بعد الآخر، وإن تعلق بأن أحدهما سيقع بعد الآخر، مثاله: لو أطلقنا سهمين في مدة واحدة ثم وقعا الأرض متعاقبين، وهذا كلام متحقق فلا تظنه متناقضًا، وإن أخذت بالنظر إلى الوجود الحقيقي، أعني وقوع الصبر والنصر، كانت (مع) بمعنى بعد، أي: أن النصر بعد الصبر، والفرج بعد الكرب، لأن بينهما تضادًا أو شبيها به فلا يتصور أحدهما مع الآخر مقارنة، إنما يكون أحدهما بعد الآخر، ويحتمل تخريج (مع) على بابها أيضًا بأن آخر أوقات الصبر أول أوقات النصر، فقد حصلت المعية والاقتران بينهما في آخر أوقات الصبر إذ هو بينهما مشترك. "وإن مع العسر يسرا" هذا نص القرآن، والكلام في (مع) فيه كما سبق. وجاء عن ابن عباس أنَّه قال: لن يغلب عسر يسرين (¬1)، يشير إلى قوله عَزَّ وَجَلَّ {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} فَنَكرَ اليُسر، وَعَرَّفَ العسر، والمُنَكر متعدد، والمُعَرَّفُ متحد بناء على أن اللام فيه للمعهود السابق نحو {أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [سورة المزمل: 15، 16]. واعلم أنَّا إذا ذكرنا اسمين لفظهما ومعناهما واحد أحدهما بعد الآخر، ¬

_ (¬1) لم أقف عليه عن ابن عباس، ولكن رواه الطبري 30/ 236 عن الحسن، وقتادة مرسلًا بنحوه، ورواه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 380 موقوفًا على ابن مسعود.

فإما أن يكونا معرفتين، أو نكرتين (أ)، أو أحدهما معرفة والآخر نكرة، فهي أربعة أقسام: أحدهما: أن يكونا معرفتين نحو لقيت الرجل، فقلت للرجل فكلاهما راجع إلى معهود سابق. الثاني: أن يكونا نكرتين نحو لقيت رجلا، فقلت لرجل، فالثاني غير الأول. الثالث: أن يكون الأول معرفة فقط نحو لقيت الرجل، فقلت لرجل، فكالذي قبله. الرابع: عكس الثالث نحو لقيت رجلا فقلت للرجل فالثاني هو الأول، وهذا مع تجرد الكلام عن قرينه، فإن كان هناك قرينة تدل على خلاف ما ذكرناه فهو من خاص دلالتها. وهذا الحديث أصل في رعاية حقوق الله تعالى والتفويض لأمر (ب) الله سبحانه وتعالى. ويقال: إن العبد إذا تعرف إلى الله عزَّ وجلَّ بالطاعة في الرخاء، ثم دعا في الشدة، قال الله تعالى هذا صوت أعرفه، وإذا لم يكن متعرفا إليه قال: هذا صوت لا أعرفه، دعوه، أو كما قيل. والله عَزَّ وَجَلَّ أعلم بالصواب. ¬

_ (أ) في ب أو نكرتين أو تكون الأولى معرفة والأخرى نكرة أو العكس فهي. وفي م أو منكرين. (ب) في ب إلى أمر الله.

الحديث العشرون

الحديث العشرون: عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن مما أدركه الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت. رواه البخاري (¬1). قلت: أبو مسعود البدري لم يشهد بدرًا، وإنما سكنها، أو نزلها مرة فنسب إليها (¬2)، وشبه هذا أبو سعيد المقبري كان ينزل المقبرة (أ) أو يكثر غشيانها فنسب إليها (¬3)، ويزيد الفقر كان من رجال الصحيح لم يكن فقيرا من المال إنما انكسر فقاره فقيل له: الفقير، وفلان الضال لم يضل في دينه بل في طريق مكة. وقوله: "فاصنع ما شئت" هل هو أمر تهديد، أو أمر إباحة؟ فيه قولان (ب): أحدهما: أنَّه أمر تهديد نحو {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ}. وقوله - صلى الله عليه وسلم - لبشير أبي النعمان والد نعمان: "اشهد على هذا ¬

_ (أ) في س، م المقابر. (ب) في س وجهان. (¬1) 3/ 1284. (¬2) قال الحافظ ابن حجر: واختلفوا في شهوده بدرا، فقال الأكثر نزلها فنسب إليها، وحزم البخاري بأنه شهدها، واستدل بأحاديث أخرجها في صحيحه، في بعضها التصريح بأنه شهدها. الإصابة 2/ 490. (¬3) انظر نزهة الألبان في الألقاب للحافظ ابن حجر 2/ 310، 72، 1/ 435 وفلان يقصد به معاوية بن عبد الكريم الضَّال.

غيري" (¬1) والمعنى على هذا إذا نزع منك الحياء فافعل ما شئت، فإن الله يجازيك عليه، ويكون هذا تعظيمًا لأمر الحياء، وتثبيتا (أ) لموضعه عند فقده. والثاني: أنَّه أمر إباحة، أي: إذا أردت فعل شيءٍ فإن كان مما لا يستحى من الله ولا من الناس في فعله فافعله، وإلا فلا. قال الشيخ: وعلى هذا مدار الإسلام. قلت: لأن أفعال الإنسان جميعها إما ما يستحى منه أو ما لا يستحى منه، فالأول: يشمل الحرام والمكروه وتركهما هو المشروع. والثاني: يشمل الواجب والمندوب والمباح وفعلها مشروع في الأولين، جائز في الثالث، وهذه هي أحكام الأفعال الخمسة تضمنها الحديث لم يشذَّ منها شيء، فثبت أن عليه مدار الإسلام. وقال بعضهم: معناه إذا لم تستح (ب) صنعت ما شئت، وهو خبر، معناه: إن عدم الحياء يوجب الاستهتار والانهماك في هتك الأستار. وقد ثبت أن الحياء شعبة من الإيمان (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الحياء لا يأتي إلا بخير" (¬3) وقال: "استحوا (جـ) من ¬

_ (أ) في م وتبيينا. (ب) في ب، م تستحي. (جـ) في أ، م استحيوا. (¬1) رواه البخاري 2/ 914، ومسلم 3/ 1244. (¬2) رواه البخاري 1/ 13 ومسلم 1/ 63 من حديث أبي هريرة. (¬3) رواه البخاري 5/ 2267 ومسلم 1/ 64 من حديث عمران بن حصين.

الله حق الحياء" (¬1). وهذا الحديث شبيه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس" (¬2) والله عزَّ وجلَّ أعلم بالصواب. ¬

_ (¬1) رواه الترمذي 4/ 637 وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/ 299 من حديث ابن مسعود. (¬2) الحديث السابع والعشرون من الأربعين.

الحديث الحادي والعشرون

الحديث الحادي والعشرون: عن أبي عمرو، وقيل أبي عمرة، سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدا غيرك، قال: قل آمنت بالله ثم استقم. رواه مسلم (¬1). عمرة تأنيث عمرو، ومنه عمرة بنت رواحة أم النعمان بن بشير، وعمرة بنت عبد الرحمن التي تروي عن عائشة. وسفيان مثلث السين. وقوله: "قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك" أي: قولًا لا احتاج معه إلى سؤال غيرك. وقوله: "قل آمنت بالله ثم استقم" هذا مقتضب من قوله عزَّ وجلَّ {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [سورة فصلت الآية: 20] فقوله: "آمنت بالله" هو بمعنى قوله {رَبُّنَا اللَّهُ} إذ لا يعتقد ربوبيته إلا من آمن به. وهذا (أ) على اختصاره من أجمع الأحاديث لأصول الإسلام، إذ الإسلام توحيد وطاعة، فالتوحيد حاصل بقوله: "آمنت بالله" والطاعة حاصلة بجميع أنواعها في ضمن قوله: "استقم" لأن الاستقامة هي امتثال كل مأمور، واجتناب كل محظور، وذلك يدخل فيه أعمال القلوب والأبدان من الإيمان والإسلام والإحسان. ¬

_ (أ) في س وهو. (¬1) 1/ 65.

وروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "شيبتني هود وأخواتها" (¬1) وإنما أهمَّه أمر هود لأن فيها قوله عزَّ وجلَّ {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [سورة هود: 112] فهي كلمة جامعة لجميع أنواع التكاليف وفي التنزيل {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [سورة فصلت: 6] والله عزَّ وجلَّ أعلم بالصواب. ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في المعجم الكبير 17/ 287 من حديث عقبة بن عامر، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير 1/ 692.

الحديث الثاني والعشرون

الحديث الثاني والعشرون: عن أبي عبد الله جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما أن رجلًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أرأيت إذا صليت المكتوبات وصمت رمضان وأحللت الحلال وحرَّمت الحرام ولم أزد على ذلك شيئًا أأدخل الجنّة؟ قال: نعم. رواه مسلم (¬1). ومعنى حرمت الحرام: اجتنبته، ومعنى أحللت الحلال: فعلته معتقدًا حلّه والله أعلم. جابر بن عبد الله بن حرام الأنصاري قتل أبوه عبد الله يوم أحد، وجابر من المكثرين من (أ) الرواية. وقوله: "أرأيت" حقيقته همزة الاستفهام، ودخلت على رأيت، وهي بمعنى ترى من رؤية القلب كأنه قال: أترى وتقضي بأني إذا فعلت هذه الأفعال أدخل الجنّة؟ ولعله إنما اقتصر من العبادات على الصلاة والصوم ولم يذكر الحج، لأنَّ الحجَّ لم يكن فرض كما سبق في حديث ابن عمر (¬2)، أو أنَّه أدرجه في تحليل الحلال وتحريم الحرام لأن ترك الحج وغيره من الواجبات حرام فتناوله تحريم الحرام. ومعنى أحللت الحلال: اعتقدت حله سواء فعله أو لم يفعله. ¬

_ (أ) في م في. (¬1) 1/ 44. (¬2) انظر شرح الحديث الثامن.

ومعنى حرمت الحرام: اجتنبته معتقدًا تحريمه، وتحليل الحلال وتحريم الحرام كلام جامع لأصول الدين وفروعه لأن أحكام الشرع إما قلبية أو بدنية، وعلى التقديرين إما أصلية أو فرعية، فهي أربعة بحسب القسمة، ثم جميعها إما مأذون فيه وهو الحلال، أو ممنوع منه وهو الحرام، واللام في الحلال والحرام للاستغراق فإذا أحَلَّ كل حلال، وحرَّم كل حرام، فقد أتى بجميع وظائف الشرع، وذلك مستقل بدخول الجنّة إن شاء الله تعالى. والله عَزَّ وَجَلَّ أعلم بالصواب.

الحديث الثالث والعشرون

الحديث الثالث والعشرون: عن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن، أو تملأ ما بين السموات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها، أو موبقها. رواه مسلم (¬1). الطهور بفتح الطاء ما يتطهر به من مائع أو حامد، وبضمها هو التطهر به، وهو المراد هاهنا (¬2). وقال المصنف: المراد بالطهور الوضوء. قلت: وهو أعم من ذلك، إذ يشمل الوضوء والغسل وغيرهما. ثم في قوله: "الطهور شطر الإيمان" أقوال: ذكرها المصنف: أحدها: أنَّه ينتهى تضعيف ثوابه إلى نصف أجر الإيمان. الثاني: أن الإيمان يَجُبُّ ما قبله من الخطايا، وكذلك الوضوء، لكن الوضوء تتوقف صحته على الإيمان فصار نصفا، أي: لأن الوضوء يحتاج إلى نيَّة، والنِّيَّة لا تصح من الكافر والله أعلم. ¬

_ (¬1) قال ابن هشام اللخمي في المدخل إلى تقويم اللسان ص: 80 "أما الطّهور فهو بفتح الطاء، سواء أردتَ المصدر أو الماء، وقول عامة زماننا (الطُّهور) لحن". ونقل عن سيبويه أن من المصادر التي شذّت فجاءت مفتوحة الأوائل: الوضوء، والطهور، والوقود، والولوع، والقبول. (¬2) 1/ 203.

الثالث: أن المراد بالإيمان الصلاة، والطهور شرط لصحتها فصار كالشطر. قلت: يشهد لهذا قوله عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [سورة البقرة: 143] أي: صلاتكم (أ) إلى بيت المقدس قبل أن تفرض الصلاة إلى الكعبة وتحت هذا كلام طويل ليس هذا محله. قال المصنف: وقيل: معناه غير ذلك. قلت: الإيمان شرط لصحة الصلاة باطن، والطهور شرط لها ظاهر، فاقتسماها بالشرطية أشبه افتِسَامَهُمَا لها بالشَّطريَّة. قوله: "والحمد لله تملأ الميزان" أي: ثوابها يملأ الميزان خيرًا، ولعل السبب المناسب لذلك أن اللام في الحمد لله للاستغراق، وجنس الحمد الَّذي يجب لله عزَّ وجلَّ ويستحقه يملأ الميزان فكذا ثوابه. وهذا الحديث ظاهر في ثبوت الميزان في المعاد حقيقة خلافًا للمعتزلة أو بعضهم إذ قالوا: إن الميزان الوارد ذكره في الكتاب والسنة كناية عن إقامة العدل في الحساب، لا أنَّه ميزان حقيقة ذو كفَّتين ولسان، كما يقال: يد فلان ميزان، والظواهر (ب) في إثبات كونه حقيقة مع أهل السنة. وقد قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أين نجدك يا رسول الله في القيامة؟ قال: "عند الحوض أو الصراط أو الميزان" (¬1) وهو كما تراه ظاهر فيما ذكرناه. ¬

_ (أ) في م صلواتكم. (ب) في م والظاهر. (¬1) رواه الترمذي 4/ 622 من حديث أنس. وقال: هذا حديث حسن غريب.

قوله: "وسبحان الله والحمد لله تملآن، أو تملأ ما بين السموات والأرض" أقول: إن هذا التردد في تملآن، وتملأ شك من بعض الرواة، وكلا الأمرين جائز لغة لأن سبحان الله والحمد لله جملتان في اصطلاح النحاة، ويطلق (أ) عليهما كلمة عند أهل اللغة كما يسمون الخطبة والقصيدة والرسألة كلمة، ويقولون: قال فلان في كلمته، فإن كانت الرواية سبحان الله والحمد لله تملآن فباعتبار كونهما (ب) جملتين اصطلاحًا، وإن كانت تملأ فباعتبار أنهما كلمة لغة. ومعنى سبحان الله: نزهت الله عما لا يليق به، وسبحان الله علم على معنى التنزيه، قال الشاعر (¬1): سُبْحَان ذِي العَرْشِ سُبْحَانًا يَدُوْمُ لَهُ ... وَقَبْلُ سَبَّحَهُ الجُوْدِيُّ وَالجُمُدُ قال المصنف: ومعناه أن ثوابهما لو قدر جسما لملأ ما بين السماء والأرض وسببه ما اشتملتا عليه من التنزيه والتفويض إلى الله تعالى. قلت: أما التنزيه فظاهر من سبحان الله، وأما التفويض إلى الله فلعله مأخوذ من عموم الحمد لله، إذ يقتضي عموم الحمد على كل حال من السراء والضراء، وذلك رضى وتفويض. قوله: "والصلاة نور" ذكر الشيخ فيه أقوالًا: ¬

_ (أ) في أ، ب، م يصدق. (ب) في م أنهما جملتان. (¬1) البيت نسب إلى أمية بن أبي الصلت وغيره، وفيه روايات أخرى، انظر ديوان أمية بن أبي الصلت (333 طبعة بهجة عبد الغفور الحديثي).

أحدها: أن الصلاة تمنع من المعاصي، وتنهى عن الفحشاء، وتهدي إلى الصواب، فهي نور بهذا الاعتبار. والثاني: أن ثوابها يكون نورًا لصاحبها يوم القيامة. الثالث: أنها سبب في استنارة القلب. قلت: الأقوال الثلاثة صحيحة، ويجوز أن يكون جميعها مرادة. قوله: "والصدقة برهان" ذكر المصنف فيه قولين: أحدهما: أنها حجة لصاحبها في أداء حق المال. الثاني: أنها حجة في إيمان صاحبها لأن المنافق لا يفعلها غالبًا. قلت: البرهان هو الحجة المركبة من مقدمات قاطعة (¬1)، وهو حاصل هاهنا فإنه يقال مثلًا: فلان يؤدي الزكاة، وكل من أدى الزكاة فقد أدَّى حقَّ المال، ففلان أدَّى حقَّ المال، أو يقال: فلان أدَّى الزكاة طيبة بها نفسه، وكل من أدَّى الزكاة طيبة بها نفسه فهو مؤمن، ففلان مؤمن. قوله: "والصبر ضياء" قال الشيخ أي: الصبر المحبوب، وهو الصبر على طاعة الله تعالى، والبلاءِ ومكارهِ الدنيا، وعن المعاصي، ومعناه لا يزال صاحبه مستضيئا مستمرا على الصواب. ¬

_ (¬1) هذا تعريف المناطقة للبرهان، ولم يرد في الكتاب والسنة بهذا المعنى، فلا حاجة إلى صياغة مقدمات -على طريقة المناطقة- توصل إلى النتيجة. وانظر ردّ شيخ الإسلام ابن تيمية عليهم في كتابه الفذ "الردّ على المنطقيين" ص 250، حيث ذكر أن الدليل أو البرهان هو المرشد إلى المطلوب والموصل إلى المقصود، وقد يكون مقدمة واحدة متى عُلِمَتْ عُلِم المطلوب، وقد يحتاج المستدل إلى مقدمتين أو أكثر، وليس لذلك حدّ مقدّر يتساوى فيه جميع الناس في جميع المطالب. عزير.

قلت: يحتمل وجهين: أحدهما: أن ثواب الصبر ضياء ونور في الآخرة. والثاني: أن أثر الصبر على الطاعات وعن المعاصي نور (أ) القلب واستضاءتُهُ (ب) بالحق، وشاهده في قياس العكس {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [سورة المطففين: 14] أي: أن المعاصي سوَّدت قلوبهم وصيَّرتها مظلمة سوداء، لما ورد أن الشخص إذا أذنب ذنبًا انتكت في قلبه نكتة سوداء، فإذا أذنت الثاني انتكت كذلك، ولا يزال كلما أذنب ذنبا انتكت نكتة إلى أن يسودَّ القلب كله، والعياذ بالله فيصير أسود مظلما. فهذا معنى ما قلنا من أن المعاصي تُسَودُ القلب. فإن قلت: لم جعل الصلاة نورا والصبر ضياء، وهل بينهما فرق؟. قلت: أما الفرق بين النور والضياء فقد قيل: إن الضياء أعظم وأبلغ من النور بدليل قوله عزَّ وجلَّ {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} [سورة يونس: 5] والشمس أعم وأعظم نورًا من القمر، ولذلك قال الله عزَّ وجلَّ {ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ} [سورة البقرة: 17] ولم يقل بضيائهم لأن نفي الأعم أبلغ. وأورد على هذا قوله عزَّ وجلَّ {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [سورة النور: 35] ولم يقل ضوءهما ولا ضياءهما {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ ¬

_ (أ) في س ينور. (ب) في ب واستعانة بالحق.

رَبِّهِا} [سورة الزمر: 69] ولم يقل بضوء ربها. وأجيب بأن معنى الآية: الله نَوَّر السموات والأرض. وأورد عليه أن السؤال باق، ولم يقل: مضيء أو يضئ السموات والأرض. فأجيب بأن النور أعمَّ وأشمل لأنه ليلا ونهارًا، والضوء ليس إلا نهارًا (أ) بالشمس، على أن المراد بنور السموات والأرض هادي أهلهما، وإنما جرت العادة لغة وشرعًا أن يقال: نور الهداية لا ضوء الهداية وبذلك استعمل في الكتاب والسنة نحو {يُخْرِجَهُمْ مِنَ الْظُّلُمَاتِ إِلَى الْنُّورِ} [سورة البقرة: 257] {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور: 40]. أما قوله عزَّ وجلَّ {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبْهِا} ولم يقل بضوء ربها، فيجاب عنه بأن الضوء كالوصف الزائد على النور، وإنما يحتاج إلى النور المخلوق الناقص، أما نور الله عزَّ وجلَّ فهو قديم كامل لذاته لا يحتاج إلى معنى زائد يضيء به، كما أن القديم لذاته لم يحتج إلى علة توحده، ويحتمل أن المعنى أشرقت الأرض بنور ملائكة ربها، أو بنور عدل ربها بدليل أن الأرض لو أشرق عليها نور الرب جل جلاله لاضطربت وتصدعت كالجبل لما تجلَّى له، ولا يلزم من نور الملائكة والعدل أن يكون ضوءًا. وبالله عَزَّ وَجَلَّ التوفيق. وأما لم جعل الصلاة نورًا والصبر ضياء، فلأن الصبر أخص من الصلاة ¬

_ (أ) في م للنهار.

لاشتماله على الصلاة وغيرها من الطاعات، أو تعلقه بذلك إذ هو حبس النفس على الطاعة، وعن المعصية فكان جعله الضياء الَّذي هو أخص من النور أولى به، ولأن الله عزَّ وجلَّ قال: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [سورة البقرة: 45] والتقديم للأهم فالأهم. وقال الله عزَّ وجلَّ {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [سورة السجدة: 24] ولم يقل لما صلوا. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما أعطي أحد خيرًا وأوسع عطاء من الصبر" (¬1). وقال الله عزَّ وجلَّ {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [سورة الزمر: 10] ولم يأت ذلك لغيرهم. قوله: "والقرآن حجة لك أو عليك" يعني إن عملت به واهتديت بأنواره كان حجة لك، وإن أعرضت عنه كان حجة عليك. وفي الحديث: "القرآن شافع مشفع، وما حل مصدق، من قدمه أمامه قاده إلى الجنّة، ومن جعله وراءه دفع في قفاه إلى النار" (¬2) ذكر معناه ابن الأنباري (¬3). وإنما تقوم الحجة بالقرآن لمن اتبعه عملًا، وإن حَفِظَهُ تَذَكرَهُ وتَعَاهَدَهُ تلاوةً. ¬

_ (¬1) رواه البخاري 2/ 535 ومسلم 2/ 729 من حديث أبي سعيد الخدري. (¬2) رواه ابن حبان (الإحسان 1/ 331) من حديث جابر. وفيه كلمة نفيسة لأبي حاتم ابن حبان في بيان معنى الحديث. (¬3) لعله ذكره في: "غريب الحديث" له، وهو مفقود الآن.

قوله: "كل الناس يغدو" إلى آخره، أي: يسعى، فمنهم من يبيع نفسه بطاعة الله عزَّ وجلَّ فيعتقها من العذاب، ومنهم من يبيعها للشيطان بطاعته فيوبقها، أي: يهلكها بسخط الله عَزَّ وَجَلَّ، أعاذنا الله من ذلك. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

الحديث الرابع والعشرون

الحديث الرابع والعشرون: عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه عزَّ وجلَّ أنَّه قال: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدْخِلَ البَحْرَ، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله تعالى، ومن وجد شرًّا فلا يلومن إلا نفسه. رواه مسلم (¬1). القول في لفظه ومعناه. أما لفظه فقوله: "لا تظالموا" بفتح التاء أصله لا تتظالموا. ¬

_ (¬1) 4/ 1994.

وقوله: "تخطئون بالليل والنهار" ضبطه بعض الفضلاء بفتح التاء والطاء على وزن تفترون من الافتراء، وقال: لم أخطأ يخطيء رباعى إذا فعل عن غير قصد، وخَطِيء يَخْطَأُ وزن عَلِمَ يَعْلَمُ ثلاثيا إذا فعل عن قصد، ومنه {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ}. قال: وإنما وجب أن يكون هاهنا تَخطئون ثلاثيا لأنه جعله ذنبا يغفر لقوله: "وأنا أغفر الذنوب جميعًا" والخطأ عن غير قصد معفو عنه ولا يعتد به ذنبًا أصلا ولا غيره، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "عفى لأمتي عن الخطأ والنسيان" (¬1). وينقص يستعمل لازمًا نحو نقص المال، ومعتديا نحو نقصتُ زيدًا حقَّه. وينقص المَخِيَطُ هاهنا متعد لأن محل من البحر نصب به (¬2). والمخيط الإبرة ونحوها وهو بكسر الميم وسكون الخاء وفتح الياء وهو من الآلات فلذلك كسر أوَّله. وأما معناه فقوله: "إني حرمت الظلم على نفسي". قال الشيخ: إني تقدست عنه، فالظلم مستحيل في حق الله عزَّ وجلَّ لأنه مجاوزة الحد، أو التصرف في غير ملك، وهما جميعا محال في حق الله عزَّ وجلَّ. ¬

_ (¬1) الحديث التاسع والثلاثون من هذا الأربعين. (¬2) هذا الإعراب فيه نظر، وذلك أن لفظ الحديث: "إلا كما ينقص المخيط إذا ادخل البحر" وليس "إذ أدخل من البحر" حتَّى يقال: إن محل من البحر نصب بينقص. والظاهر أن "البحر" تنازع فيه العاملان "ينقص" و"أدخل" فأعمل أحدهما في لفظه، وأعمل الآخر في ضميره، ثم حذف لأنه منصوب.

قلت: هذا قول الجمهور (¬1)، وقد ذهب قوم إلى أن الله عزَّ وجلَّ قادر على الظلم، وهو متصور منه، لكنه لا يفعله عدلًا منه، وتنزها عنه، واحتجوا بقوله عزَّ وجلَّ {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [سورة ق: 29] وهو تمدح بنفي الظلم، والحكيم (أ) لا يمتدح إلا بما يقدر عليه، ويصح منه، ولو قال الأعمى: إني لا أنظر إلى المحرمات على جهة التمدح (ب) لضحك منه الناس، وقالوا: شيء لا يقدر عليه، كيف يتمدح بتركه، وأيضًا قوله: "إني حرمت الظلم ¬

_ (أ) في س والحكم. (ب) في م المدح. (¬1) تناول المؤلف لهذه المسألة فيه نظر، يعلم مما يأتي: قال الإمام ابن القيم: إن طرق الناس اختلفت في حقيقة الظلم الَّذي يُنزه عنه الرب سبحانه وتعالى، فقالت الجبرية: هو المحال الممتنع لذاته كالجمع بين الضدين، وكون الشيء موجودا معدوما، قالوا: لأن الظلم إما التصرف في ملك الغير بغير إذنه، وإمَّا مخالفة الآمر، وكلاهما في حق الله تعالى محال، فإن الله مالك كل شيء، وليس فوقه آمر تجب طاعته، قالوا: وأما تصور وجوده وقدر وجوده فهو عدل كائنا ما كان، وهذا قول جهم ومن اتبعه، وهو قول كثير من الفقهاء أصحاب الأئمة الأربعة، وغيرهم من المتكلمين. وقال أهل السنة والحديث ومن وافقهم: الظلم وضع الشيء في غير موضعه، وهو سبحانه حكم عدل، لا يضع الشيء إلا في موضعه الَّذي يناسبه ويقتضيه العدل والحكمة والمصلحة ... وهذا قول أهل اللغة قاطبة، وتفسير الظلم بذينك التفسيرين اصطلاح حادث، ووضع جديد ... وهذا القول هو الصواب المعروف في لغة العرب والقرآن والسنة، وإنما تحمل ألفاظهما على لغة القوم، لا على الاصطلاحات الحادثة، فإن هذا أصل كل فساد وتحريف وبدعة، وهذا شأن أهل البدع دائمًا يصطلحون على معان يضعون لهما ألفاظا من ألفاظ العرب، ثم يحملون ألفاظ القرآن والسنة على تلك الاصطلاحات الحادثة. (مختصر الصواعق 198 - 199 دار الندوة الجديدة بيروت).

على نفسي" حقيقته أني منعت نفسي منه، وإنما يمنع الحكيم نفسه مما يقدر على فعله، ولو قال آدمي: إني منعت نفسي من صعود السماء لسخر منه كذلك، ولأن الله عزَّ وجلَّ عامل عباده معاملة المستأجر مع الأجراء (أ) حيث قال لأهل الكتاب: هل ظلمتكم من أجوركم شيئًا؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء. والمستأجر يصح منه ظلم الأجراء، ولأن ترك الظلم مع إمكانه والقدرة عليه، أمدح من تركه مع استحالته والعجز عنه، كما أن ترك الفحل الزنا أمدح له بالعفاف من ترك الخصي والعنين له. وقوله: "وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا" أصله تتظالموا فحذفت إحدى التاءين تخفيفا، أي: حرمته عليكم ومنعتكم منه شرعا. والظلم لغة وضع الشيء في غير موضعه، وشرعا التصرف في غير ملك، أو في ملك الغير، (فلا تظالموا) أي: فلا يظلم بعضكم بعضًا. ويحتج بهذا أهل القدر، ووجه الحجة أنَّه نهى عن الظلم، فلو كان خالقًا له لكان ناهيًا عما خلق، وهو باطل. وجوابه بمنع بطلانه، فإن لله عزَّ وجلَّ في خلقه تصريفين ظاهرًا وباطنا، فبتصريفه للظاهر (ب) ينهى عنه شرعًا، وبتصريفه للباطن (جـ) يقضي به ويخلقه حقيقة، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن. قوله: "كلكم ضال إلا من هديته" هذا كقوله عزَّ وجلَّ {مَنْ يَهْدِ ¬

_ (أ) في م الأجير. (ب) في م الظاهر. (جـ) في م الباطن.

اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} [سورة الأعراف: 178] ونحوها {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} ولبيان ذلك أنَّه عزَّ وجلَّ خلق النفوس بقواها وطباعها وما أرصد لها من الأهواء والشياطين، مائلة إلى الضلال، فمن أراد ضلاله أرسله على سجيته وتخلى عنه، ومن أراد هدايته عارضه بأسباب الهدى فصده عن الضلال فاهتدى. ومثال (أ) ذلك راع له إبل عطاش أو جياع فهي بداعيتها تهوي إلى موارد الهلكة ومراتع الغرة إلا ما عارضه الراعي فصدَّه عن ذلك، وفي التنزيل {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [سورة يونس: 25]. "فاستهدوني" أي: اسألوني (ب) الهداية، واعلموا واعتقدوا أنها لا تكون إلا من فضلي وبأمري "أهدكم". قوله: "كلكم جائع إلا من أطعمته" وذلك لأن الناس عبيد، لا يملكون شيئًا، وخزائن الرزق بيد الله عزَّ وجلَّ، فمن لا يطعمه بفضله بقي جائعًا بعدله (جـ)، إذ ليس عليه إطعام أحد. فإن قلت: كيف هذا مع قوله عزَّ وجلَّ {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [سورة هود: 6]. قلنا: هذا التزام منه تفضلا، لا أن عليه للدابة حقًّا بالأصالة، ويشبه (د) ¬

_ (أ) في م ومثل. (ب) في م سلوني. (جـ) في أفمن يطعمه بفضله ومن يتركه جائعا فبعدله. (د) في م وشبيه بهذا.

هذا قوله عزَّ وجلَّ {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [سورة النساء: 17] الآية: أي: ذلك واجب منه تفضلًا التزاما، لا عليه لزوما. فإن قيل: كيف نسب (أ) الإطعام إلى الله عزَّ وجلَّ ونحن نشاهد الأرزاق مرتبة على هذه الأسباب الظاهرة من الحرف والصناعات وأنواع الاكتسابات؟. قلنا: هو المقدر لتلك الأسباب الظاهرة بقدرته وحكمته الباطنة، فالجاهل محجوب بالظاهر عن الباطن، والعارف محجوب بالباطن عن الظاهر. وفي بعض الحكمة: ابن آدم أنت أسوأ بربك ظنا حين كنت أكمل عقلًا لأنك تركت الحرص جنينا محمولًا ورضيعًا مكفولًا، ثم ادَّرَعْتَهُ عاقلا قد أصبت رشدك وبلغت أشدَّك. معناه عن عيسى بن مريم. "فاستطعموني" أي: سلوني الطعام "أطعمكم" أي: بتقدير أسبابه وتيسير طِلَابه واسألوا الله من فضله. واعلم أن العالم جماده وحيوانه مطيع لله عزَّ وجلَّ طاعة العبد لسيده، فكما أن السيد يقول لعبده: أعط فلانًا كذا، وأهد لفلان كذا وتصدق على هذا الفقير بكذا، كذلك الله عَزَّ وَجَلَّ يُسَخِّرُ السحابَ فيسقي أرض فلان، أو البلد الفلاني، ويحرك قلب فلان لإعطاء فلان، ويخرج فلان إلى فلان بوجه من الوجوه لينال منه نفعا ونحو ذلك، وتصرفات الله عزَّ وجلَّ في العالم عجيبة لمن تدبرها {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [سورة الذاريات: 58]. ¬

_ (أ) في م ينسب.

قوله: "إنكم تخطئون بالليل والنهار" هذا من باب مقابلة الجمع بالجمع، أي: تصدر منكم الخطيئة (أ) ليلًا ونهارا، من بعضكم ليلا، ومن بعضكم نهارا، وليس (ب) كل عبد من العباد يخطئ بالليل والنهار، مع أنَّه غير ممتنع، فيجوز أن يكون مرادًا. وقوله في هذا الحديث متكررا: "يا عبادي" متناول للإماء، وهن النساء إجماعا، ولكن بقرينه التكليف. وقد قال الأصوليون: إن الخطاب إما بلفظ يخص الذكور كالرجال، أو يخص الإناث كالنساء فحكمه واضح، أو بلفظ يصلح لهما نحو من، والأناسي فيتناول القبيلين (جـ)، واختلف في نحو المسلمين والمؤمنين هل يتناول النساء أم لا؟ فالأشبه أنَّه لا يتناولهن وضعا، بل بقرينة أو عرف (¬1). قوله: "وأنا أغفر الذنوب جميعًا" هو كقوله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الْذُّنُوبَ جَمِيْعًا} [سورة الزمر: 53] وهو عام مخصوص بالشرك وما شاء الله عزَّ وجلَّ أن لا يغفره، لقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}. "فاستغفروني" أي: اطلبوا مني المغفرة "أغفر لكم" وجاء في الحديث ¬

_ (أ) في م الخطيئات. (ب) في م إذ ليس. (جـ) في س، م القبيلتين. (¬1) انظر التمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب 1/ 290.

"لو أنكم لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم غيركم فيذنبون فيستغفرون فيغفر لهم" وأصل الغفر الستر، وغفرت المتاع سترته، والمغفر وقاية تستر (أ) الرأس في الحرب، وغفر الذنب ستره ومحو أثره وأمن عاقبته. قوله: "يا عبادي إنكم لم تبلغوا ضري فتضروني" إلى آخره. اعلم أن الإجماع والبرهان على أن الله عزَّ وجلَّ منزه مقدس غني بذاته لا يلحقه ضرٌّ ولا نفع ولا يحتاج إلى ذلك، وظاهر هذا الحديث أن لضره ونفعه غاية لكن لا يبلغها العباد، وهذا الظاهر مؤول محمول على ما دلَّ عليه الإجماع من غناه المطلق، أو يكون من باب: ......................... ... وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ (¬1) وقوله: عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِه (¬2) ... .......................... ¬

_ (أ) في س ستر وفي م لستر. (¬1) صدر البيت: لا يَفْزَعُ الأرنَبَ أهْوَالُهَا. وهو لعمرو بن أحمر، وقد خرجه محقق الدر المصون للسمين الحلبي. قال السمين: أي ليس فيها أرنب فيفزع لهولها، ولا ضَبٌّ فينجحر، وليس المعنى أنَّه ينفي الفزع عن الأرنب، والانجحار عن الضَّبِّ. الدر المصون في علوم الكتاب المكنون 2/ 625. وقال ابن جني: أي لا أرنب بها فتفزعها أهوالها. الخصائص 3/ 165. (¬2) عجز البيت: إذا سَافَهُ العَوْدُ النَّباطِيُّ جَرْجَرَا. وهو لامرئ القيس. انظر ديوانه (طبعة محمد أبو الفضل إبراهيم 66). وفي شرح الديوان: قرله "لا يهتدي بمناره" أي ليس فيه علم ولا منار فيهتدي به، يصف أنه طريق غير مسلوك فلم يجعل فيه علم.

أي: لا ضب بها فينجحر، ولا منار له لم فَيُهتَدَى به، كذلك المعنى هاهنا، لا يتعلق بي ضر ولا نفع فتضروني أو تنفعوني، ولأن الحق جل جلاله غنيٌّ مطلق، والعبد فقير مطلق {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} والفقير المطلق لا يملك ضرًّا ولا نفعًا خصوصا للغني المطلق. قوله: "لو أن أولكم وآخركم" إلى آخره، معناه إنَّ تقوى العالم بأجمعه لا يزيد في ملك الله شيئًا، وكذلك فجورهم لا ينقص من ملكه شيئًا، لأن ملك الله عزَّ وجلَّ يرتبط (أ) بقدرته وإرادته، وهما دائمان لا انقطاع لهما، فكذلك ما ارتبط بهما، وإنما يفيد (ب) التقوى والفجور على أهلهما نفعا أو ضرًّا. قوله: "قاموا في صعيد واحد" أي: في أرض واحدة ومقام واحد "ما نقص ذلك من ملكي شيئًا" إلى آخره، لأن ملك الله عزَّ وجلَّ بين الكاف والنون، إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن فيكون. وفي بعض الأثر: "عطائي كلام، ورضاي كلام" أو كما قال، إشارة إلى قوله: كن، فيكون. فإن قيل: هل يعقل ملك يعطى منه هذا العطاء العظيم ولا ينقص؟ قلنا: نعم كالنار والعلم يقتبس منهما ما شاء الله ولا ينقصان (جـ)، بل يزيد العلم على البَذْل. ¬

_ (أ) في م مرتبط. (ب) في م عايد. (جـ) في م ولا ينقص منهما شيء.

وفي الحديث "يد الله ملأى سَحَّاءُ الليلَ والنهارَ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض لم ينقص ما في يمينه" (¬1) أو كما قال. قوله: "إلا كما ينقص المخيط من البحر" أي: لا ينقص شيئًا لأن الإبرة لا يتعلق بها من الماء شيء أصلا، وهذا بظاهره مخالف لقول الخضر لموسى: "ما نقص علمي وعلمك من علم الله عزَّ وجلَّ إلا كما نقص هذا العصفور من البحر" فإن نقر العصفور من البحر لا بد أن ينقصه شيئًا وإن قلَّ، لأن منقار العصفور يتعلق به شيء من الماء، ولذلك يزيل عطشه، بخلاف الإبرة، لكن ليس المراد أن علمهما نقص من علم الله عزَّ وجلَّ قليلًا ولا كثيرًا، إنما المراد تقريب أنَّه لم ينقص (أ) من علم الله شيئًا أصلًا. ويحكى أن رجلًا سأل ابن الجوزي: هل ينقص بشرب العصفور البحر؟ فقال: أمعه شيء يضعه فيه؟. وهذا جواب على جهة التحقيق، وقول الخضر لموسى على جهة التقريب، وإلا فلو فرضنا الوجود مملوءًا خردلًا وأخذنا (ب) منه خردلة لنقصه بالضرورة. قوله: "أحصيها لكم" أي: تضبطها (ح) الحفظة. فإن قيل: ما ¬

_ (أ) في م لم ينقص شيء من علم الله. (ب) في ب وأخذ أحد، وفي م وأخذ العصفور. (جـ) في س أي الحفظة، وفي أ، م أي بعلمي وملائكتي الحفظة. (¬1) رواه البخاري 4/ 1724 ومسلم 2/ 691 من حديث أبي هريرة.

الحاجة إلى الحفظة مع علمه (أ)؟ قيل: ليكونوا شهودا بين الخالق وخلقه، ولهذا يقال لبعض الناس يوم القيامة: كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا، وبالكرام الكاتبين شهودا، وقيل فيه غير ذلك. وقوله: "ثم أوفيكم إياها" أي جزاءها وثوابها، فحذف المضاف فانقلب الضمير المخفوض منصوبا منفصلًا كالمفعول المحذوف. قوله: "فمن وجد خيرًا فليحمد الله" إلى آخره، أي: أن الطاعات التي يترتب عليها الثواب والخير بتوفيق الله عزَّ وجلَّ، فيجب حمده على التوفيق، والمعاصي التي يترتب عليها العقاب والشر وإن كان بقدر الله عزَّ وجلَّ وخذلانه العبد فهي بكسب العبد فليلم نفسه لتفريطه بالكسب القبيح (ب). ويحتج القدرية بهذا، ووجه احتجاحهم منه أن لوم العبد نفسه على سوء العاقبة يقتضي أنَّه الخالق لأفعاله، وقوله عزَّ وجلَّ: "فلا يلومن إلا نفسه" تنصل من القضية، وأنه ليس له فيها أثر بخلق فعل ولا تقديره. وجوابه بما سبق بقوله: "لا تظالموا" ثم يلزمهم أن من وجد خيرًا لا يحمد الله إذ ليس له في القضية أثر كما ذكروا، بل يحمد الإنسان نفسه لأنه الخالق لطاعته الموجب لسلامته، وهو مراغمة للنص (جـ) المذكور وغيره. ¬

_ (أ) في م مع العلم. (ب) في م الخبيث. (جـ) في م النص.

وقد أخبر الله عزَّ وجلَّ عن أهل الجنّة أنهم يقولون فيها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [سورة الأعراف: 43]. فإن قلت: فوله: "إنما هي أعمالكم" إلى آخره، يقتضي انحصار فائدة الناس في معادهم في ثواب أعمالهم، ونفي المزيد من فضل الله عزَّ وجلَّ، لكن بالنص والإجماع يثبت المزيد نحو {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [سورة ق: 35] {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [سورة يونس: 26]. فالجواب أن الحصر إنما هو للجزاء في سببية الأعمال، أي: لا جزاء إلا عن عمل يكون سببًا له، أما الجزاء وزيادته وتضعيفه فالجميع من فضل الله عزَّ وجلَّ، إذ العبد وعمله ملك لسيده، لا يستحق عليه ثوبًا إلا تفضلًا. والله عزَّ وجلَّ أعلم بالصواب.

الحديث الخامس والعشرون

الحديث الخامس والعشرون: عن أبي ذر أيضًا رضي الله عنه أن ناسًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: أوليس قد جعل الله لكم ما تَصَدَّقُون. إنَّ بِكُل تسبيحةٍ صدقةً، وكل تكبيرةٍ صدقةً، وكل تحميدةٍ صدقةً، وكل تهليلةٍ صدقةً، وأمرٍ بالمعروف صدقةً ونهي عن منكر صدقةً، وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته فيكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر. رواه مسلم (¬1). القول في لفظه ومعناه. أما لفظه فالدثور بضم الدال والثاء المثلثة الأموال، واحدها دثر كفلس وفلوس. والبضع بضم الباء وإسكان الضاد المعجمة كناية عن الجماع. وأصله آلة الجماع ذكرًا أو فرجا. والوزر الإثم. وأما معناه ففيه أبحاث: الأول: إن أجر التسبيح والتكبير والتحميد كأجر الصلاة والصيام والصدقة في الجنس لأن الجميع صادر عن رضى الله عزَّ وجلَّ مكافأة على طاعته عزَّ وجلَّ، أما في القدر والصفة فيتفاوتان بتفاوت الأعمال في مقاديرها وصفاتها، فليس ثواب ركعتين، أو صوم يوم، كثواب أربع ركعات، ¬

_ (¬1) 2/ 697.

وصوم يومين، وليس ثواب عتق رقبة نفيسة، كثواب عتق رقبة دونها. البحث الثاني قوله: "بكل تسبيحة صدقة" أي: حسنة كحسنة الصدقة في الجنس لأن الأعمال مقدرة بالحسنات بدليل {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [سورة الأنعام: 160] والحسنة صفة في الأصل تستعمل في العمل وجزائه يقال: عَمِلَ فلانٌ حسنةً، فجزاؤه حسنة، أي: عمل خصلة حسنة، فجزاؤه خصلة حسنة، كأنه قال: في كل تسبيحة خصلة حسنة تأتيكم من الله عزَّ وجلَّ. البحث الثالث: قوله: "في كل تسبيحة حسنة" (¬1) أي: بسببها كقوله عليه الصلاة والصلام: "في النفس المؤمنة مائة من الإبل" أي: بسبب قتلها وجوب مائة، وقيل: هي ظرف مجازا كأن النفس لما ضمنت بمائة من الإبل صارت كالظرف لها. البحث الرابع: التكبيرة قول: الله أكبر، والتسبيحة قول: سبحان الله، والتهليلة قول: لا إله إلا الله، وهو شبيه بالبسملة والهيللة والحيعلة والسبحلة ونحوها من المصادر المنحوتة. قوله: "وأمر بالمعروف صدقة، ونهى عن منكر صدقة" لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واحدٌ على الكفاية، فإذا قام به شخص فقد أسقط الفرض عن نفسه، وعن سائر المكلفين، وهي عبادة عامة متعدية وهي من أفضل (أ) العبادات، حتَّى قال إمام الحرمين: إن أداء فرض الكفاية ¬

_ (أ) في س أفضل. (¬1) هكذا في النسخ، ونص الحديث "بكل تسبيحة صدقة".

أفضل من أداء فرض العين لهذا المعنى، وحقيقة الصدقة أو شبيه بها جدًّا موجودة فيه لكونه ينتفع به باقى الناس بأداء الفرض عنهم. فإن قيل: لم أتى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مُنَكَّرًا (¬1)، فقال: وأمر ونهي ولم يقل: والأمر والنهي؟ قلنا: لأن التنكير أبلغ في المقصود إذ يقتضي أن كل فرد من أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صدقة، ولو عَرَّفَ لاقتضى أن جنس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صدقة، ولا يلزم أن كل فرد منه صدقة، لأن اللام للاستغراق. البحث الخامس: قوله: "وفي بضع أحدكم صدقة". قال الشيخ رحمه الله: إذا نوى به العبادة، وهو قضاءُ حق الزوجة وطلبُ ولدٍ صالح وإعفافُ النفس وكَفُّها عن المحارم. قلت: ظاهر الحديث يقتضي أن الوطء صدقة وإن لم ينو به شيئًا، كما أنَّه لو زنى لأثم وإن لم ينو شيئًا، وإنما هذا أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقياس العكس الَّذي ذكره حيث قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام" إلى آخره، وإذا ثبت ذلك فهو يشير إلى شبيه بما قاله الكعبي (¬2) من أن المباح مأمور به، لأن كل مباح تركه حرام، وترك الحرام مأمور به، فَكُلُّ مباح مأمور به، وعليه ¬

_ (¬1) نص الحديث: "وأمر بالمعروف ونهي عن منكر". (¬2) هو شيخ المعتزلة أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي المعروف بالكعبي، من نظراء أبي علي الجبائي ت 329. سير أعلام النبلاء 14/ 313.

ما ذكر في الأصول من الاعتراض (¬1). البحث السادس: الاستدلال الَّذي ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - يُسَمَّى قياسَ العكس فهو: إثبات ضد الحكم في ضد الأصل، كإثبات الوزر الَّذي هو ضد الصدقة، في الزنا الَّذي هو ضد الوطء المباح، ومثله قول ابن مسعود: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنّة" وأنا أقول: "من مات يشرك بالله شيئًا دخل النار" (¬2). والقياس على ضربين: قياس عكس، وهو ما ذكرناه، وقياس طرد، وهو إثبات مثل حكم الأصل في الفرع، ثم هو على ثلاثة أضرب: قياس علة، وقياس دلالة، وقياس شَبَهٍ (¬3)، فالأول: مثل قولنا: النبيذ مسكر فكان حراما كالخمر، والثاني: كقولنا: الذمي صحَّ طلاقه، فصح ظهاره، كالمسلم، والثالث: كقولنا: العبد يباع ويوهب فَلا يَمْلِكُ كالبهيمة. والله عزَّ وجلَّ أعلم بالصواب. ¬

_ (¬1) وتنظيم الاعتراض عليه هكذا: المباح لا ترجيح فيه، وكلُّ ما لا ترجيح فيه فهو غير مأمور به، فالمباح غير مأمور به. وانظر شرح مختصر الروضة للمؤلف 1/ 387 - 390. (¬2) رواه البخاري 1/ 417 وَعَكَسَ المؤلف الحديث، والمرفوع منه: "من مات يشرك بالله شيئًا دخل النار". (¬3) انظر تعريف هذه الأضرب الثلاثة في التمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب 1/ 24 - 29.

الحديث السادس والعشرون

الحديث السادس والعشرون: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس، تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرحل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة. رواه البخاري ومسلم (¬1). السلامى بضم السين وتخفيف اللام وفتح الميم هو المفاضل والأعضاء، وجمعه سُلَامَيَاتٌ بفتح الميم. ومعنى قوله: "على كل سلامي صدقة" أي: على كل عضو ومفصل صدقة، وفي المراد به احتمالان: أحدهما: أن الصدقة كما قيل: تدفع البلاء (أ)، فإذا تصدق عن أعضائه كما ذكر كان جديرًا أن يدفع عنها البلاء. الثاني: أن لله عزَّ وجلَّ على الإنسان في كل عضو ومفصل نعمة، والنعمة تستدعي الشكر، ثم إنَّ الله عزَّ وجلَّ وهب (ب) ذلك الشكر لعباده صدقة عليهم، كأنه قال: أجعل شكر نعمتي في أعضائك أن تعين بها عبادي وتتصدق عليهم بإعانتهم. ¬

_ (أ) في ب البلايا. (ب) في ب جعل. (¬1) رواه البخاري 2/ 964 ومسلم 2/ 699.

وقوله: "كل يوم تطلع فيه الشمس" لأن دوام نعمة الأعضاء نعمة أخرى، ولما كان الله عزَّ وجلَّ قادرًا على سلب نعمة الأعضاء عن عبده كل يوم، وهو في ذلك عادل في حكمه كان عفوه عن ذلك وإدامة العافية عليه صدقة توجب الشكر والرعاية، ثم النعمة دائمة فالشكر يجب أن يكون دائمًا. واعلم أن الصدقة على ضربين: صدقة الأموال: كالزكاة وصدقة التطوع، وصدقة الأفعال: كالذي ذكره في هذا الحديث، ويجمعها عبادة الله عزَّ وجلَّ كالمشي إلى الصلاة ونفع الناس، فمنه العدل بين اثنين تحاكما أو تخاصما سواء كان حاكما أو مصلحا إذا نوى بذلك دفع المنافرة بينهما امتثالا لقوله عزَّ وجلَّ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [النساء: 135] ونحوه من الأمر بذلك، ومنه إعانة الرجل بحمله أو حمل متاعه على الدابة لأنه نفع له، ومنه الكلمة الطيبة نحو سلام عليك، وحياك الله، وإنك لمحسن، وأنت إن شاء الله عزَّ وجلَّ رجل صالح، ولقد أحسنت جِوَارَنَا أو ضيافتنا ونحو ذلك؛ لأنه مما يَسُرُّ السامع ويجمع القلوب ويؤلفها، ومنه إماطة الأذى عن طريق الناس، أي: إزالته كالشوك المؤذي، والحجر الذي يعثر به، والحيوان المخوف منه، ودعم الجدار المائل ونحوه؛ لأنه نفع عام، وفي الحديث "الإيمان بضع وستون (أ) شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" (¬1). ويروى أن رجلًا ممن كان قبلكم رأى غصن شوك في الطريق فقطعه ¬

_ (أ) في أ، م وسبعون. (¬1) سبق تخريجه.

فشكر الله له ذلك فغفر له (¬1). واعلم أنه ليس مراد الحديث حصر أفعال الصدقة فيما ذكر فيه، وإنما هي مثال لذلك، ويجمعها ما قلنا من أفعال العبادة أو نفع خلق الله عزَّ وجلَّ، حتى إن رجلًا رأى فرخا قد وقع من عُشه فردَّه إليه فغفر الله له، وآخر رأى كلبا يأكل الثرى من العطمش فسقاه فغفر له (¬2)، وكذلك امرأة بغي رأت كلبا عطشانًا فنزعت له بخفها ماء فسقته فغفر لها (¬3)، وعكس ذلك امرأة دخلت النار في هرة ربطتها فلا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض (¬4). وقد ورد "في كل كبد حَرَّى أجر" (¬5) وقد سبق "أن الله عزَّ وجلَّ كتب الإحسان على كل شيء" (¬6) وورد "أن الخلق عيال الله فأحب الناس إلى الله أشفقهم على عياله" (¬7) وإذا تصدق كل واحد من الناس عن أعضائه ¬

_ (¬1) رواه مسلم 4/ 2021 من حديث أبي هريرة. (¬2) رواه البخاري 1/ 75 من حديث أبي هريرة. (¬3) رواه مسلم 4/ 1761 من حديث أبي هريرة. (¬4) سبق تخريجه. (¬5) سبق تخريجه. (¬6) الحديث السابع عشر من هذا الأربعين. (¬7) للحديث روايات كثيرة، وأقرب ألفاظه إلى لفظ المؤلف ما رواه أبو يعلى 6/ 64 والبزار (كشف الأستار 2/ 398) من حديث أنس. قال الهيثمي: وفيه يوسف بن عطية الصفار وهو متروك. مجمع الزوائد 8/ 191.

بنفع خلق الله حصل من ذلك مقصود قوله: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" (¬1) "ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فيكرم جاره، وليكرم ضيفه" (¬2) من جمع القلوب وائتلافها وإقامة كلمة الحق بواسطة ذلك، فإذًا يكون نفع ذلك خاصًّا بالمسلم المتصدق وعامًّا للإسلام والمسلمين، وهذا هو مقصود الشرع. وهذا الحديث يرجع إلى قوله عزَّ وجلَّ {اعْبُدُوا اللَّهَ} {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وإلى قوله عليه الصلاة والسلام: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا" (¬3) "المؤمن كثير بأخيه" (¬4) "المؤمن مرآة المؤمن" (¬5). أي: يبصره (أ) من نفسه بما لا يراه كالمرآة، وهو ضرب من الإعانة "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا" (¬6) يعني إعانة المظلوم بنصرته، ¬

_ (أ) في م ينظر من نفسه ما لا يراه. (¬1) الحديث الثالث عشر من هذا الأربعين. (¬2) الحديث الخامس عشر من هذا الأربعين. (¬3) رواه البخاري 1/ 182 ومسلم 4/ 1999 من حديث أبي موسى. (¬4) ورد بلفظ "المرء كثير بأخيه"، أخرجه أبو الشيخ في الأمثال ص 30 والقضاعي في مسند الشهاب 1/ 141 وابن الجوزي في الموضوعات 3/ 80 من حديث أنس. وفي إسناده سليمان بن عمرو النخعي، وهو كذاب. وانظر: المقاصد الحسنة ص: 378. (¬5) رواه أبو داود 5/ 217 والبخاري في الأدب المفرد 93 من حديث أبي هريرة. حسَّنه الألباني في صحيح الأدب المفرد 107. (¬6) رواه البخاري 2/ 863 من حديث أنس.

وإعانة (أ) الظالم بِكَفِّهِ عن ظلمه "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كالجسد الواحد" (¬1) الحديث ونحوه. والله أعلم بالصواب. ¬

_ (أ) في س ونصرة. (¬1) رواه البخاري 5/ 2238 ومسلم 4/ 1999 من حديث النعمان بن بشير.

الحديث السابع والعشرون

الحديث السابع والعشرون: عن النواس بن سمعان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس. رواه مسلم (¬1). وعن وابصة بن معبد - رضي الله عنه - قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: جئتَ تسأل عن البر؟ قلت: نعم، فقال: استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك. حديث حسن رويناه في مسندي الإمامين أحمد بن حنبل والدارمي بإسناد حسن (¬2). القول في لفظه ومعناه. أما لفظه فالنواس بفتح النون وتشديد الواو. وسمعان بكسر السين وفتحها. والبر ضد الفجور والإثم، ولذلك قابله به. وحاك في نفسك أثَّر وتردَّد، ومنه قولهم: ضربته فما حاك فيه السيف، أي: ما أثَّر. ووابصة بباء موحدة مكسورة ثم صاد مهملة. واطمأن سكن، ومنه {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ} [النساء: 103] أي: سكنتم من انزعاج الحرب وحركته. وأما معناه فقوله: "البر حسن الخلق" قد سبق تفسير حسن الخلق بأنه بذل الندى، وكف الأذى، وأن يحب للناس ما يحب لنفسه. ¬

_ (¬1) 4/ 1980. (¬2) رواه أحمد 4/ 227 والدارمي (2/ 696 طبعة مصطفى البغا).

وأما البر فتارة يقابل بالفجور والإثم، فيكون عبارة عما اقتضاه الشرع وجوبا أو ندبا، كما أن الإثم عبارة عما نهى الشرع عنه، وتارة يقابل بالعقوق فيكون عبارة عن الإحسان، كما أن العقوق عبارة عن الإساءة. قوله: "والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس" اعلَم أن النفس لها شعور من أصل الفطرة بما تحمد عاقبته، وما لا تحمد عاقبته، ولكن الشهوة غالبة (أ) عليها بحيث توجب لها الإقدام على ما يضرها كاللص تغلبه الشهوة على السرقة وهو خائف من الوالي أن يقطعه، والزاني ونحوه كذلك. إذا عرفت (ب) هذا فقد تضمنت هذه الجملة علامتي الإثم (جـ): إحداهما: تأثيره (د) في النفس وتردده، وما ذلك (هـ) إلا لشعورها بسوء عاقبته. والثانية: كراهية اطلاع الناس على الشيء يدل على أنه إثم لأن النفس بطبعها تحب اطلاع الناس على خيرها وبرها. ومن ثم هلك جمع كثير من الناس بالرياء، فإذا كرهت بعض اطلاع الناس على بعض أفعالها علمنا أنه ليس خيرًا وبرًّا، فهو إذًا شِرٌّ وإثم. ¬

_ (أ) في س غلبت. (ب) في ب، م عرف. (جـ) في م علامتين للإثم. (د) في س بتأثيره. (هـ) في ب، م وما ذاك.

ثم يحتمل أن هذين العلامتين علامة واحدة مركبة من أمرين، ويحتمل أنهما علامتان مستقلتان، والأول أظهر لأنه عطف إحداهما على الأخرى بواو الجمع، وينشأ لنا من هذا (أ) قسمة رباعية، وهي أن الفعل إما أن يحيك في النفس ويكره اطلاع الناس عليه، أو لا يحيك فيها ولا يكره اطلاعهم عليه، أو يحيك ولا يكره الاطلاع عليه، أو يكره الاطلاع عليه ولا يحيك فيها، فإن حاك في النفس وكره الاطلاع عليه فهو إثم كالربا والزنى، وإن لم يحك فيها (ب) ولا كره الاطلاع عليه فليس بإثم كالعبادة والأكل والشرب ونحوه، وإن حاك فيها ولم يكره الاطلاع عليه، أو كره الاطلاع عليه ولم يحك في النفس فهذا إن أمكن وجوده مشتبه متردد بين الإثم والبر من باب قوله: "الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات" (¬1) أو يكون مكروهًا تنزيها. والكراهة المعتبرة ها هنا هي الكراهة الدينية الجازمة، فالدينية احتراز عن العادية، كمن يكره أن يرى على الأكل حياء أو بخلًا ونحو ذلك، والجازمة احتراز عن غير الجازمة كمن يكره أن يركب بين المشاة تواضعا أو نحوه، ثم لو رأى كذلك لم يبال لأن كراهته لذلك غير جازمة. واعلم أن الأفعال إما من أعمال الجوارح، أو من أعمال القلوب، وعلى التقديرين فهي إما أن لا يكره اطلاع الناس عليها كالعبادة والأكل والشرب ¬

_ (أ) في س هذه. (ب) في م في النفس. (¬1) الحديث السادس من هذا الأربعين.

والإخلاص والمعرفة والتوكل ونحوه فهو برٌّ، أو يكره اطلاع الناس عليه فهو إما من أعمال الجوارح كالزنا والسرقة والغصب ونحوه فهو إثم، أو من أعمال القلوب فهو إمَّا مستقل أو غير مستقل، فإن كان مستقلا بأن لا يتوقف الجزاء عليه على عمل في الجوارح كالحسد والكبر ونحوه فهو إثم، وإن كان غير مستقل كنية الزنا والغصب والهم بقتل النفس ونحوه، فإن ضعف ذلك حتى كان من باب الخطرات والهمم غير الجازمة فليس بإثم لقوله - صلى الله عليه وسلم - "إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست به نفوسها ما لم تعمل به أو تتكلم" (¬1) وربما أثيب على مثل هذا لأن الفرض أنه حاك في النفس وكره اطلاع الناس عليه، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في مثله "ذلك صريح الإيمان" (¬2) حيث قيل له: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن ينطق به، أي: إعظام النطق به صريح الإيمان، فكذلك إذا هَمَّ شخص بالزنا أو القتل ثم حاك ذلك في نفسه ونفرت منه جاز أن يثاب على نفور نفسه منه، إذ لم ينفرها منه إلا ضرب من التقوى والإيمان فصار من باب قوله: "اكتبوها له حسنة، إنما تركها من جَرَّائِي" (¬3) أو قريبا منه، وإن قوي ذلك حتى جزمت النفس بالإقدام عليه وصار من باب العقود والعزائم فهو إثم لقوله عليه الصلاة والسلام: "الإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس" وهذه مسألة خلاف، وقد كان عموم ¬

_ (¬1) رواية للحديث التاسع والثلاثين من هذا الأربعين. (¬2) رواه مسلم 1/ 119 من حديث أبي هريرة. (¬3) رواه مسلم 1/ 118 من حديث ابن عباس.

هذا الحديث يقتضي أن الخطرات والهمم الضعيفة بالمعاصي إثم، لكن خصصنا عمومه بها لقوله عليه الصلاة والسلام "إن الله تجاوز لأمتي" الحديث جمعا بين الحديثين. وحينئذ نقول: في كل عزم على معصية بدنية هذا العزم يحيك في النفس ويكره أن يطلع عليه الناس، وكلما كان كذلك فهو إثم، فهذا العزم إثم، ومما يشهد لما ذكرناه قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" قيل: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: "إنه كان حريصًا على قتل صاحبه" (¬1) فَعَلَّل دخولَه النار بحرصه على قتل صاحبه، وهو عزم مجرد ترتب عليه العقاب فدل على أنه معصية. فإن قيل: هذا الحرص قد اقترن به العمل، وهو لقاؤه خصمه بالسيف، فاندرج تحت قوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تتكلم". قلنا: تعليل دخول النار بمجرد الحرص فلغا ما ذكرتم، وأيضًا مما يشهد لذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "الرجال أربعة: رجل أوتي مالا فأنفقه في البر، ورجل قال: لو كان لي مثل مال فلان لفعلت كما فعل، قال: فهما سواء في الأجر، ورجل آتاه الله مالا فأنفقه في الفجور، ورجل قال: لو كان لي مثل مال فلان لفعلت كما (أ) فعل، قال: فهما في الوزر ¬

_ (أ) في م مثل ما. (¬1) رواه البخاري 1/ 20 ومسلم 4/ 2213 من حديث أبي بكرة.

سواء" (¬1). قلت: فهذا وزر على العزم المجرد على المعصية إذ لم يقارنه فعل معصية. فإن قيل: هو وإن لم يقترن (أ) به عمل بمعصية فقد قارنه القول، وهو قوله: "لو كان لي مثل مال فلان لفعلت كما (ب) فعل" فدخل تحت قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست به صدورها ما لم تعمل أو تتكلم به" قلنا: هذا ليس بشيء لأن معنى الحديث ما لم تعمل أو تتكلم به كلاما مؤثرًا في المفسدة مثل أن يعزم على القذف فيقذف، أو على الكذب فيكذب أو على النميمة فَيَنُمَّ، أما كلام لا أثر له في المفسدة فوجوده كعدمه. وقوله: "لو كان لي مثل مال فلان لفعلت كما فعل" فكلام لا أثر له في مفسدة هذا الحكم، فكان وجوده كعدمه، وبقي ترتب الوزر على مجرد العزم. وهذا (جـ) من باب تنقيح المناط بحذف ما لا يصلح لتعليق الحكم به من الأوصاف، وانتقاء ما يصلح لذلك منها، فافهم هذا البحث. وقوله لوابصة: "جئت تسأل عن البر" هو من باب الكشف، كذلك جاء في بعض الروايات أن وابصة جاء يتخطى رقاب الناس حتى جلس إلى (د) ¬

_ (أ) في ب لم يقرن. (ب) في م مثل ما. (جـ) في س وهو. (د) في م بين يدي. (¬1) رواه الترمذي 4/ 563 وابن ماجه 2/ 1413 من حديث أبي كبشة الأنماري. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا وابصة تحدثني ما جئت فيه، أو أحدثك؟ " فقال: بل أنت حدثني يا رسول الله فهو أحب إليَّ، فقال: "جئت تسأل عن البر والإثم" قال: نعم. قوله: "استفت قلبك" إلى آخره هو راجع إلى ما سبق من شعور النفس والقلب بما يحمد أو يذم. وقوله: "البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن له القلب" هو كقوله أولًا: "البر حسن الخلق" لأن حسن الخلق تطمئن إليه (أ) النفس والقلب. وقوله: "الإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر" هو شبيه بقوله: "الإثم ما كرهت أن يطلع عليه الناس" لأن ما تردد في الصدر فهو إثم أو محل شبهة ولا بد، وذلك مما يكره اطلاع الناس عليه. قوله: "وإن أفتاك الناس وأفتوك" أي: قد أعطيتك علامة الإثم فاعتبرها في اجتنابه، ولا تقلد من أفتاك في مقاربته. واعلم أن بين هذا، وبين حديث "الحلال بين" ضرب من التعارض لأن قوله ها هنا: "الإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر" يقتضي أن الأمور المشتبهة إثم لأنها تحيك في النفس وَتَرَدَّدُ في الصدر، وقوله هناك: "فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه" يقتضي أنها ليست إثما وإنما شرع اجتنابها ورعًا كما مَرَّ، فقد اجتمع فيها ما يدل على أنها إثم، وأنها ليست بإثم، وهو عين التعارض. ¬

_ (أ) في ب، م له.

ويجاب عن هذا بوجهين: أحدهما: لا نسلم أن قوله: "فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه" يقتضي أنها ليست إثما؛ لأن الاستبراء للدين والعرض واجب، واتقاء الشبهات طريق إليه، والطريق إلى الواجب واجب، فاتقاء الشبهات واجب، فملابستهما إثم. الوجه الثاني: سلمنا أن حديث النعمان يقتضي أنها ليست إثما، لكنه محمول على ما إذا ضعفت الشبهة فيبنى على أصل الحل، ويجتنب محل الشبهة وَرَعًا، وحديث وابصة محمول على ما تَرَدَّدَ في الصدر لقوة الشبهة وتمكنها في النفس، فيكون إثما أخذًا بظاهر قوة الشبهة، ويكون من باب ترك الأصل للظاهر، أعني أصل الحل لظاهر الشبهة وتمكنها، ويزول التعارض. قوله: "أفتاك الناس وأفتوك" إنما وَحَّدَ الفعل الأول لاستناده إلى ظاهر، وجمع الثاني لاستناده إلى ضمير، والأصل فيه أن الفعل إنما يكون له فاعل واحد، فإن كان ظاهرًا امتنع اتصال ضميره بالفعل نحو أفتاك الناس، لئلا يتعدد الفاعل، وهو غير جائز، وإن لم يكن ظاهرًا وحب إضماره، نحو أفتوك لئلا يتجرد الفعل عن الفاعل وهو غير جائز. وأما قوله عزَّ وجلَّ {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء: 3] و {عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} [المائدة: 71] فهو من باب البدل من الضمير، لا من باب تعدد الفاعل، ولا من باب أكلوني البراغيث، فإنها لغة ضعيفة، وقد تأوَّلها قوم على أن الضمير علامة جمع الفاعل كالتاء في قامت هند علامة تأنيث الفاعل.

والدارمي منسوب إلى دارم من تميم، الذي يقول فيهم الفرزدق (¬1): .................... ... وَأَعْبَدُ أَنْ تُهْجَى كُلَيبٌ بِدَارِمِ ومسند الدارمى لطيف، وغالبه الصحة، وأما مسند أحمد بن حنبل فكثير، سمعناه من نسخة عشرين مجلدا أو أكثر، وجملة ما فيه من الأحاديث أربعون ألف حديث، يتكرر منها (أ) عشرة آلاف، يبقى (ب) ثلاثون ألف حديث. قال أحمد: جمعته من سبعمائة وخمسين ألف حديث، وجعلته حجة بيني وبين الله عزَّ وجلَّ، فكل حديث لا تجدونه فيه فليس بشيء (¬2). وهذا يدل على إحاطته بالسنة واطلاعه عليها، وكذلك قوله في المحنة: كيف أقول ما لم يُقَلْ، يدل على ذلك أيضًا لأنه لم يجزم بأن ذلك لم يُقَل إلا بعد اطلاعه على السنة، وأقوال الأئمة، ومع ذلك فقد أخَلَّ فيه بحديث أُم زَرْعٍ، وهو في الصحيح (¬3). وخرج ابن الجوزي في الموضوعات عن مسند أحمد سبعة أحاديث، وفي العلل المتناهية في الأحاديث الواهية كثيرا، لكن ابن الجوزي جازف في موضوعاته احتياطا لتهذيب السنة، وقد أنكر عليه ذلك علماء الحديث. ¬

_ (أ) في ب فيه. (ب) في م فبقي. (¬1) لم أجد البيت في الديوان والنقائض، وهو في تهذيب اللغة 2/ 238 وصدره: أُولَئِكَ قَومٌ إِنْ هَجَونِي هَجَوتُهُم، قال الأزهريُّ: أعْبَدُ: أَي آنَفُ. (¬2) خصائص المسند لأبي موسى المديني المطبوع في أول المسند (1/ 21 طبعة أحمد شاكر). (¬3) رواه مسلم 4/ 1896 من حديت عائشة.

واعلم أن أحمد بن حنبل لم يلتزم الصحيح في مسنده، إنما أخرج فيه ما لم يجتمع الناس على تركه. واعلم أن مسند أحمد بن حنبل ومسند إسحاق بن راهويه ومصنف ابن أبي شيبة متقاربة في الكثرة والشهرة، ومسند البزار ومسند أبي يعلى الموصلي متقاربان في التوسط، ومسند الحميدي والدارمي متقاربان في الاختصار. ومصنفوا الحديث منهم من رتبه على المسانيد كمسند أحمد وإسحاق وأبي يعلى والبزار، ومنهم من رتبه على الأحكام وأبواب العلم كالبخاري ومسلم وابن أبي شيبة في مصنفه ونحوهم، وفي كل فائدة وحكمة. والله عزَّ وجلَّ أعلم بالصواب.

الحديث الثامن والعشرون

الحديث الثامن والعشرون: عن أبي نجيح العرباص بن سارية - رضي الله عنه - قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله عز وجل والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة. رواه أبو داود والترمذي (¬1) وقال: حديث حسن صحيح. الكلام (أ) على لفظه ومعناه. أما لفظه: فالعرباص بعين مهملة وباء موحدة، وسارية بسين مهملة وياء آخر الحروف، ووجلت خافت من الوجل {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} وذرفت بفتح الذال المعجمة والراء المهملة أي: سالت، والنواجذ الأنياب، وقيل: الأضراس، وهي بذال معجمة، والبدعة لغة: ما كان مخترعا على غير مثال سابق، أما في الشرع: فهي ما أحدث على خلاف أمر الشارع ودليله. وأما معناه: فقوله: "وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يقتضي استحباب موعظة الرجل أصحابه لينفعهم في دينهم ودنياهم. وقوله: "موعظة" وفي بعض الروايات "موعظة بليغة" (¬2) إلى آخره ¬

_ (أ) في س القول. (¬1) رواه أبو داود 5/ 13 والترمذي 5/ 44 وابن ماجه 1/ 16. (¬2) هي رواية أبي داود.

فيه استحباب الإبلاغ في الموعظة لترقق القلوب فتكون (أ) أسرع إلى الإجابة (ب)، وفي التنزيل {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء: 63] وكان عليه الصلاة والسلام إذا خطب احمَرَّت عيناه، وانتفخ وَدَجَاهُ كأنه منذر جيش، يقول: صَبَّحَكُم مَسَّاكم (¬1). وقوله: "كأنها موعظة مُوَدعٍ" فيه جواز الحكم بالقرائن لأنهم إنما فهموا توديعه إياهم بقرينة إبلاغه في الموعظة أكثر من العادة. وقوله: "أوصنا" فيه استحباب استدعاء الوصية والوعظ من أهلهما، واغتنام أوقات أهل الخير والدين قبل فواتهم. قوله: "أوصيكم بتقوى الله عزَّ وجلَّ"، جمع في ذلك كلما يحتاج إليه لما سبق أن التقوى (جـ) امتثال المأمورات واجتناب المحظورات وتكاليف الشرع ليست إلا بذلك. قوله: "والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد" هذا عطف خاص على عام، إذ قد اشتملت الوصية بتقوى الله عزَّ وجلَّ على السمع والطاعة. وأعلم أن العرب تعطف الخاص على العام نحو {فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] {وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] وتعطف العام على الخاص نحو {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا ¬

_ (أ) في م لتكون. (ب) للإجابة. (جـ) في س تقوى الله. (¬1) رواه مسلم 2/ 592 من حديث جابر.

الْخَيْرَ} [الحج: 77]. وقوله عزَّ وجلَّ: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} [آل عمران: 200]. قوله: "من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا" الظاهر أن هذا بوحي أوحي إليه، فإنه - صلى الله عليه وسلم - كشف له عما يكون إلى أن يدخل أهل الجنة والنار منازلهم كما صح ذلك في حديث أبي سعيد (¬1) وغيره، ويحتمل أنه بنظر واستدلال، فإن اختلاف المقاصد والشهوات لاختلاف الآراء والمقالات (أ)، ويجوز أن يكون بقياس أمته على أمم الأنبياء السابقين (ب) بعَدهم، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: "إنها لم تكن نبوة إلا كان بعدها اختلاف" (¬2) أو كما قال. قوله: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين" اختلف الناس في هذه اللام، فقال أهل السنة: هي للعهد، والخلفاء الراشدون هم الأربعة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بدليل قوله: "اقتدوا باللَّذين من بعدي أبي بكر وعمر" (¬3) ¬

_ (أ) في س والمقامات. (ب) في م السالفين. (¬1) رواه الترمذي 4/ 483 وقال: حديث حسن صحيح. (¬2) لعله يقصد الحديث الذي رواه الترمذي 5/ 323 ضمن حديث طويل عن عمران بن حصين بلفظ "قاربوا وسددوا فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (¬3) رواه الترمذي 5/ 609 من حديث حذيفة وقال: هذا حديث حسن.

ونحوه، وقال: الشيعة: اللام لاستغراق الوصف، أي: كل من اتصف بالرشد والهداية من الخلفاء بعدي، فعليكم بسنته، وإنما قالوا ذلك لأن أبا بكر وعمر وعثمان عندهم ليسوا من الخلفاء الراشدين المهديين لتقدمهم على علي بن أبي طالب بغير حق، ووضعهم الخلافة في غير النصاب الذي وضع الله عزَّ وجلَّ فيه النبوة، وهم بنو هاشم بزعمهم. ونصوص السنة وإجماع أهلها ترد عليهم في ذلك. والراشد الذي أتى بالرشد واتصف به، والمهدي الذي هداه الله عز وجل لأقوم الطرق. قوله: "عضوا عليها بالنواجذ" هو كناية عن شدة التمسك بها لأن النواجذ مُحَدَّدَةٌ فإذا عضت على شيء نشبت فيه فلا يتخلص، وكذلك يقال: هذا الشيء يعقد عليه الخناصر ويلوى عليه الأنامل، قال الشاعر: حَنَانَيكَ يَا ابنَ الأكرَمِينَ فَلم تَدعْ ... لَنَا أَمَلًا يُلوىَ عَلَيهِ الأَنَامِلُ قوله: "وإياكم ومحدثات الأمور" أي: اتقوها واحذروا الأخذ بها فإنها بدعة، والمراد ما أحدث من الأمور غير راجع إلى أصل، أو دليل شرعي، وإلا فسنة الخلفاء الراشدين من محدثات الأمور، وقد أمرنا باتباعها وسوَّاها بسنته في وجوب الاقتداء بها، وما ذلك (أ) إلا لرجوعها إلى أصل شرعي، واعتمادها على دليل مرعي، فإذًا قوله: "إياكم ومحدثات الأمور" عام أريد به الخاص، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام "عليكم بسنة ¬

_ (أ) في م وما ذاك.

الخلفاء الراشدين" هو عام أريد به الخاص، إذ لو فرض خليفة راشد في عامة أموره سنَّ سنة لا يعضدها دليل شرعي لما جاز اتباعها. فإن قلت: هذا لا يتصور؛ لأن رشده ينافي أن يسن مثل هذه السنة. قلنا (أ): لا نسلم إذ قد يخطيء المصيب ويزيغ المستقيم يومًا ما، وفي الحديث "لا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة" (¬1). واعلم أن كلام العرب يجئ بالإضافة إلى العموم والخصوص على أربعة أقسام: أحدها: عام يراد به العام نحو {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35]. وثانيها: خاص يراد به الخاص نحو {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37]. وثالثها: عام يراد به الخاص (ب) نحو {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا} [النمل: 23] و {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25] وقول لبيد (¬2): ................... ... وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ ورابعها: خاص يراد به العام (جـ) نحو {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] خص التأفيف بالنهي عنه، والمراد النهي عن جميع أنواع ¬

_ (أ) في ب قلت. (ب) في س أو عام أريد به خاص. (جـ) في ب، م رابعها خاص أريد به العام. (¬1) رواه الترمذي 4/ 379 من حديث أبي سعيد وقال: هذا حديث حسن غريب. (¬2) ديوان لبيد بن ربيعة العامري 256.

أذاهما. فاعرف هذه القاعدة فإنه لا يخرج عنها شيء من الكلام. قوله: "كل بدعة ضلالة" أي: كل بدعة لا يساعدها دليل الشرع ضلالة؛ لأن الحق فيما جاء به الشرع، فما لا يرجع إليه بوجه يكون ضلالة، إذ ليس بعد الحق إلا الضلال. واعلم أن كل حكم فإما أن يجيزه الشرع، أو يمنعه وحكمهما واضح، أو مجيزه ويمنعه معًا فآخرهما ناسخ للأول، أو لا يرد عن الشرع إجازته ولا منعه ولا يمكن رَدَّهُ إليه بوجه فهذا يرجع فيه إلى المصلحة السياسية فما وافقها منه أخذ، وما لم يوافقها ترك. وفي بعض روايات هذا الحديث "فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار" (¬1) وهو قياس مركب متصل من الشكل الأول، ينتج أن كل محدثة في النار، يعني صاحبها من فاعل ومتبع. والله عز وجل أعلم بالصواب. ¬

_ (¬1) ليست هذه الرواية في حديث العرباض بن سارية، وإنما هي رواية في حديث جابر بن عبد الله، أخرجها النسائي 3/ 188 والبيهقي في الأسماء والصفات 82 وسندها صحيح.

الحديث التاسع والعشرون

الحديث التاسع والعشرون: عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلي الجنة ويباعدني عن النار، قال: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يَسَّرَهُ الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت. ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير، الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفيء الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل، ثم تلا {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} حتى بلغ {يَعْمَلُونَ} قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه، قلت: بلى يا رسول الله قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد، ثم قال: ألا أخبرك بِمِلاَكِ ذلك كله، قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه وقال: كُفَّ عليك هذا، قلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به! فقال: ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم. رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح (¬1). القول في لفظه ومعناه. أما لفظه: فالجنة الوقاية والساتر، ومادة (جن) كيفما تصرفت تفيد معنى الستر. ¬

_ (¬1) 5/ 11.

وقوله: "من جوف الليل" أي: في جوفه، وحروف الصفات (¬1) تتناوب، ويحتمل أن مبدأ الصلاة جوف الليل فتكون لابتداء الغاية، ويحتمل أنها للتبعيض، أي: صلاته بَعْضَ -أَيْ في بَعْضِ- جوف الليل. ورأس الأمر، أي: العبادة أو الأمر الذي سألت عنه. وعموده ما اعتمد عليه كعمود الخيمة. وذروة سنامه بكسر الذال المعجمة وضمها، أي: أعلاه، استعار له صورة البعير وأجزاءه. ومِلاَك ذلك بكسر الميم مقصوده وجماعه. وحصائد الألسنة ما اكتسبته من الإثم بالكلام (أ) فيما لا يباح. وأما معناه فقوله: "لقد سألت عن عظيم" هو كما قال - عليه السلام -؛ لأن عظم المُسَبَّبَات بعظم الأسباب، ودخول الجنة والتباعد عن النار أمر عظيم سببه امتثال كل مأمور، واجتناب كل محظور. وذلك عظيم صعب قطعًا، ولولا ذلك لما قال الله عزَّ وجلَّ {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17] قوله: "وإنه ليسير على من يسره الله عليه" أي: بشرح الصدر للطاعة وتهيئة أسبابها والتوفيق لها {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125] وبالجملة فالتوفيق إذا ساعد على ¬

_ (أ) في م في الكلام. (¬1) يسمي الكوفيون حروف الجر بحروف الصفات. انظر عدة السالك إلى تحقيق أوضح المسالك 3/ 3.

شيء تَيَسَّرَ ولو نقل الجبال، قال الشاعر: ...................... ... إذَا اللهُ سَنَّى عِنْدَ شَيْءٍ تَيَسَّرَا (¬1) قوله: "تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة" إلى "وتحج البيت" الظاهر أن المراد بالعبادة ها هنا التوحيد بدليل قوله "لا تشرك به شيئًا" ومنه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] أي: وحدوه {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] أي: يوحدون، فعلى هذا يكون قد ذكر له التوحيد وأعمال الإسلام، ويحتمل أن العبادة ها هنا ما يتناول الإيمان الباطن والإسلام الظاهر فيكون قوله: "وتقيم الصلاة" إلى آخره عطف خاص على عام لتضمن قوله: "تعبد الله" لما بعده. قوله: "ألا أدلك على أبواب الخير" أي: طرقه الموصلة إليه. وقوله: "ألا أدلك" عرض نحو {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10] أي: عرضت ذلك عليك فهل تحبه أو نحو ذلك (أ). ¬

_ (أ) في م هذا. (¬1) شطر بيت مشهور، وهو عجز بيت لبشار، وصدره: فَبِاللهِ ثِقْ إنْ عَزَّ مَا تبتغي وقُلْ ووقع أيضًا في كلام معاوية. انظر: تمام المتون ص 356. وهو بلا نسبة في عيون الأخبار 1/ 102 وتهذيب اللغة 13/ 78 والتمثيل والمحاضرة للثعالبي ص 9. وهو في عامة المصادر برواية "عَقْدَ أمرٍ" وهو الصواب، وفي تهذيب اللغة "عِنْد" تحريف. وفيه: قولك: سنَّيت الأمر: إذا فتحت وجهه.

قوله: "الصوم جنة" أي: وقاية من ثورة (أ) الشهوة في العاجل، ومن النار في الآجل (ب)، والجنة بضم الجيم. قوله: "والصدقة تطفئ الخطيئة" أي: تمحوها {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] وإنما استعار لفظ الإطفاء بمقابلته بقوله (جـ): "كما يطفئ الماء النار"، أو أن الخطيئة يترتب عليها العقاب الذي هو أثر الغضب، والغضب يستعمل فيه الإطفاء، يقال: طفئ غضب فلان، وانطفأ غضبه لأنه في الشاهد فوران دم القلب عن غلبة الحرارة، ولعله إنما خص الصدقة لتعدي نفعها، ولأن الخلق عيال الله عزَّ وجلَّ، والصدقة إحسان إليهم، والعادة أن الإحسان إلى عيال شخص يطفئ غضبه. وسبب إطفاء الماء النار أن بينهما غاية التضاد إذ النار حارة يابسة، والماء بارد رطب، فقد ضادها بكيفيته جميعا، والضد يدفع الضد ويعدمه. وقوله: "وصلاة الرجل من جوف الليل" أي: وسطه أو آخره، إذ في الحديث "أي الدعاء أسمع قال: جوف الليل الآخر" (¬1) والمعنى أن صلاة الرجل من الليل من أبواب الخير، وإنما خص الرجل بالذكر لأن السائل ¬

_ (أ) في أ، م سورة. (ب) في م في الآخرة. (جـ) في أ، ب، م بمقابلة كما يطفئ. (¬1) رواه الترمذي 5/ 527 والنسائي في عمل اليوم والليلة (186 طبعة المغرب) من حديث أبي أمامة. قال الترمذي: هذا حديث حسن. وحسنه الألباني أيضًا في صحيح سنن الترمذي 3/ 168.

رجل، ولأن الخير غالب في الرجال، وأن أكثر أهل النار النساء، وتلاوته {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} شاهد لما قال من أن الصلاة من جوف الليل من أبواب الخير لأنه رتب عليها {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]. قوله: "ألا أخبرك برأس الأمر" إلى آخره لأن الجهاد مقرون بالهداية بدليل قوله عزَّ وجلَّ {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] والهداية محصلة لمقصود هذا السائل إذ يلزمها دخول الجنة، والمباعدة عن النار، فلا جرم كان الجهاد رأس أمر السائل وعموده وذروة سنامه. قوله: "ألا أخبرك بملاك ذلك كله" إلى آخره أي: رابطه وضابطه لأن الجهاد وغيره من أعمال الطاعات غنيمة، وكف اللسان عن المحارم سلامة، والسلامة في نظر العقلاء مقدمة على الغنيمة. وقد سبق قوله عليه الصلاة والسلام: "من كان يومن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" وثبت في الحديث "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله عزَّ وجلَّ لا يلقي لها بَالًا يكتب له رضوانه إلى يوم يلقاه (أ)، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يعلم أنها تقع حيث تقع فيكتب له بها سخطه إلى يوم يلقاه، أو قال يهوي بها في النار سبعين خريفا" (¬1) أو كما قال. ¬

_ (أ) في س يوم القيامة. (¬1) رواه البخاري 5/ 2377 من حديث أبي هريرة بنحوه.

وقوله: "كف عليك هذا" إما أنه وضع (على) موضع (عن)، أي: كُفَّهُ عنك، أو أنه ضمن كُفَّ بمعنى احبس، أي: احبس عليك لسانك، لا يَزِلُّ عليك بكلام يؤذي. وفي الحكمة "لِسَانُكَ أَسَدُكَ إِن أَطْلَقْتَهُ فَرَسَكَ، وإن أَمْسَكْتَهُ حَرَسَكَ" وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يمسك لسانه فيقول: هذا الذي أوردني الموارد (¬1). وقوله: "كف عليك" يحتمل أنه عام خص بالكلام بالخير لقوله "فليقل خيرا أو ليصمت" ويحتمل أنه من باب المطلق، وقد عمل به في كف اللسان عن الشر فلا تبقى له دلالة على غير ذلك، وأصل الاحتمالين أن الفعل يدل على المصدر لكن هل يقدر المصدر مُعَرَّفًا فيعم نحو (اكفف الكفَّ) أو منكرا فلا يعم نحو (اكفف كفًّا) أو يبنى على أن المصدر جنس فيعم، أو لا فلا يعم. وعليه اختلف فيما أحسب فيما إذا قال: (طلقتك طلاقا) هل يقع ثلاثا أو واحدة. قول معاذ: "وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به" هذا استفهام استثبات وتعجب واستغراب يدل على أن معاذا لم يكن يعلم ذلك. فإن قيل: كيف (أ) خفي هذا عن معاذ مع قوله عليه الصلاة والسلام: "أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل" (¬2) والكلام المؤاخذ به حرام، ¬

_ (أ) في ب، س فأين. (¬1) رواه ابن أبي شيبة في المصنف 9/ 66 وهناد في الزهد 2/ 512 عن زيد بن أسلم عن أبيه. (¬2) رواه الترمذي 5/ 665 وابن ماجه 1/ 55 من حديث أنس قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.

وها هو (أ) لم يعلمه؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أن ظاهر الحلال والحرام في المعاملات الظاهرة بين الناس، لا في معاملة العبد مع ربه، فلا يرد السؤال. الوجه الثاني: إنما صار أعلمهم بالحلال والحرام بعد هذا بمثل هذا السؤال وأمثاله من طريق التعلم والاستفادة. قوله: "ثكلتك أمك" حقيقته الدعاء بموته، وليس المراد ذلك، إنما غلب في ألسنتهم للتحريض على الشيء والتهييج إليه، أو لاستقصار المخاطب عن أمر، ونحو ذلك بحسب الحال وقرائنه، وكذلك تَرِبَتْ يَدَاكَ، وعَقْرَى حَلْقَى، ولا أُمَّ لَكَ ولا أبَا لَكَ، ولا دَرَّ دَرُّكَ، وأشباه ذلك. قوله: "وهل يكب الناس" هو بضم الكاف أي: يلقيهم "في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم" جمع حصيدة بمعنى محصودة، شبه ما تكسبه الألسنة (ب) من الكلام الحرام بحصائد الزرع بجامع الكسب والجمع. قوله: "وهل يكب الناس" استفهام إنكار أي: ما يكب الناس إلا حصائد ألسنتهم، وهو يقتضي أن كل من يكب في النار فسبب ذلك لسانه، وهو عام أريد به الخاص، فإن في الناس من يكب في النار بكلامه، وبعضهم بعمله، وإنما خرج هذا مخرج المبالغة في تعظيم الكلام كقوله: ¬

_ (أ) في م وهذا. (ب) في ب الألسن.

"الحج عرفة" (¬1) والمراد معظمه الوقوف، كذلك معظم أسباب النار الكلام كالكفر والقذف والسب والنميمة والغيبة ونحو ذلك، ولأن الأعمال يقارنها الكلام غالبا فله حصة في سببية الجزاء ثوابًا وعقابًا. وفي المثل "يقول اللسان للقفا كل يوم: كيف أصبحت؟ فيقول: بخير إن سلمت منك" والله عزَّ وجلَّ أعلم بالصواب. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

الحديث الثلاثون

الحديث الثلاثون: عن أبي ثعلبة الخشني جرثوم بن ناشر رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدَّد حدودا فلا تعتدوها، وَحَرَّمَ أشياءَ فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياءَ رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها. حديث حسن رواه الدارقطني وغيره (¬1). قلت: يقال أيضًا: جرهم، وفي اسم أبيه ناشب (¬2). وقد تضمن هذا الحديث قواعد الشرع؛ لأن الحكم الشرعى في نفس الأمر إما مسكوت عنه، أو متكلم به، وهو إما منهي عنه، أو مأمور به، أو حَدٌّ زَاجِرٌ عن منهى عنه، والمنهي عنه إما مكروه أو محرم، والمأمور به إما مندوب أو مفروض، فالمفروض حقه أن لا يُضَيَّعَ كالإيمان والإسلام وما وجب من خصالهما، والحرام حَقُّهُ أن لا يقارب كالكفر والزنى والربا والسرقة والقذف والسحر وشهادة الزور وأكل مال اليتيم، والحدود وهي الزواجر الشرعية كحد الردة والزنى والسرقة والشرب ونحوها حقها أن تقام على أهلها من غير محاباة ولا عدوان لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "حد يقام في الأرض خير ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني 4/ 184 والبيهقي في السنن الكبرى 10/ 12 والطبراني في المعجم الكبير 22/ 589 والخطيب في الفقيه والمتفقه 20/ 16. وَحَسَّنَهُ النووي، ولكن إسناده ضعيف، وقد تكلم عليه الألباني في "غاية المرام" حديث 4 فراجعه. (¬2) قال الحافظ ابن كثير في جامع المسانيد 13/ 443 اختلف في اسمه واسم أبيه على أقوال تبلغ العشرين، فقيل: جرثوم بن ناشب، وقيل: ابن ناشر.

من مطر أربعين صباحا" (¬1) وإنما حملنا (أ) الحدود في الحديث على أنها الزواجر دون الوقوف عند النواهي والأوامر لئلا يتكرر مع ما قبلها وبعدها، إذ الفرائض المفروضة حدود محدودة لأنها مقدرة محصورة يجب الوقوف عند تقدير الشرع فيها، وكذلك المحرمات المحظورة حدود محدودة، وكلا الأمرين محتمل فيها، أعني حملها على الزواجر، وعلى الوقوف عند النواهي والأوامر. فإن حملت على الزواجر فمعنى لا تعتدوها أي: لا تزيدوا عليها عما (ب) أمر به الشرع. فإن قيل: كيف جلد عمر ثمانين في الخمر وإنما جلد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر فيه أربعين؟ (¬2). قلنا: قد قال علي: "إن ذلك كله سنة" (¬3) ولأن الناس أكثروا من الشرب في زمن عمر ما لم يكثروا منه قبله فزاد في جلدهم تنكيلا وزجرًا، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" (¬4) وقال: ¬

_ (أ) في م حملت. (ب) في م على ما. (¬1) رواه النسائي 8/ 76 وابن ماجه 2/ 848 من حديث أبي هريرة وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 2/ 317. (¬2) رواه مسلم 3/ 1331 من حديث أنس بن مالك. (¬3) رواه مسلم 3/ 1332. (¬4) سبق تخريجه.

"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" فمن ها هنا كانت زيادة عمر في حد الشرب سنة إذ كان مأمورا بالاقتداء به. فإن قيل: فكيف قال علي: "لا يموت أحد في حد وفي نفسي منه شيء إلا شارب الخمر فإنه لو مات وديته، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يَسُنَّهُ" (¬1) وهذا يعارض قوله: "وكل سنة". قلنا: أراد لم يسنه بِنَصٍّ بقوله (أ) أو بفعله، وأراد بقوله: "كل سنة" لأن حكم عمر بذلك مجتهدًا فيه مراعيا للمصلحة به سنة أيضًا. وإن حملت (ب) الحدود على الوقوف عند النواهي والأوامر فمعنى لا تعتدوها لا تجاوزوا مَا حُدَّ لكم بمخالفة المأمور، وارتكاب المحظور. وإضاعة الفرائض إما بتركها، أو بتأخيرها عن وقتها وهو أيسر التضييعين. وتنتهكوها ترتكبوها مقتحمين لها. وأما ما سكت الله عزَّ وجلَّ عنه أي: لم يذكر حكمه فهو رحمة لهم وتخفيف عنهم لا نسيان لتلك الأحكام {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52] ويشهد لهذا قوله عليه الصلاة والسلام: "إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسئلته" (¬2) دَلَّ على أنَّ ¬

_ (أ) في م بنص قوله وبفعله. (ب) في م حملنا. (¬1) رواه مسلم 3/ 1332. (¬2) رواه البخاري 6/ 2658 ومسلم 4/ 1831 من حديث سعد.

ثَمَّ أشياءَ لم تذكر أحكامها، أو لا أحكام لها. قوله: "فلا تبحثوا عنها" لا تستكشفوا عن أحوالها وتسألوا، ويرجع هذا إلى قوله عزَّ وجلَّ {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]. واعلم أن للظاهرية في هذا الحديث ضربا من التمسك لأن مذهبهم اتباع ظواهر النصوص، وما لا حكم له في النصوص ردوه إلى حكم ما قبل الشرع، وهو ظاهر هذا الحديث؛ لأنه نهي عن البحث عما سكت عنه، والقول بالقياس وإلحاق المسكوت عنه بالمنطوق بحكمه بحث عما سكت عنه فيكون على خلاف الشرع، فيكون مردودًا عملا بقوله عليه الصلاة والسلام: "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ". واعلم أن هذا الاستدلال ظني، وأدلة القياس قاطعة فلا يعارضها الظني. والله عزَّ وجلَّ أعلم بالصواب.

الحديث الحادي والثلاثون

الحديث الحادي والثلاثون: عن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس فقال: "ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس" حديث حسن رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة (¬1). أمَّا أن الزهد في الدنيا سبب لمحبة الله عزَّ وجلَّ فلأن الله عزَّ وجلَّ يحب من أطاعه، ويبغض من عصاه، وطاعة الله عزَّ وجلَّ مع محبة الدنيا مما لا يجتمع، عرف ذلك بالنصوص والنظر والتجربة والطبع والتواتر، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "حب الدنيا رأس كل خطيئة" (¬2) والله عزَّ وجلَّ لا يحب الخطايا ولا أهلها، ولأن الدنيا لهو ولعب والله عزَّ وجلَّ لا يحب اللهو ولا اللعب، ولأن القلب بيت الرب عزَّ وجلَّ، والله عزَّ وجلَّ لا شريك له، ولا يحب أن يشركه (أ) في بيته حب الدنيا ولا غيره. وبالجملة فنحن نعلم قطعا أن محب الدنيا مبغوض عند الله عزَّ وجلَّ، فالزاهد فيها الراغب عنها محبوب له عزَّ وجلَّ، ومحبة الدنيا المكروهة هي إيثارها لقضاء شهوات النفس وأوطارها لأن ذلك يَشغل عن الله عزَّ وجلَّ، ¬

_ (أ) في م يشرك به. (¬1) رواه ابن ماجه 2/ 1374 صححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 3/ 344. (¬2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذا معروف عن جندب بن عبد الله البجلي، وأما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فليس له إسناد معروف. أحاديث القصاص 74 وانظر الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة لعلي القاري 179.

أما محبتها لفعل الخير وتقديم الآخرة (أ) بها عند الله عزَّ وجلَّ ونحو ذلك فهي عبادة لقوله عليه الصلاة والسلام: "نعم المال الصالح للرجل الصالح يصل به رحما أو يصنع به معروفا" (¬1) أو كما قال. وفي الأثر "إذا كان يوم القيامة جمع الله عزَّ وجلَّ الذهب والفضة كالجبلين العظيمين ثم يقول: هذا مالنا عاد إلينا سَعِدَ به قوم وشقي به آخرون". وأمَّا أن الزهد فيما عند الناس سبب لمحبة الناس فلأن الناس يتهافتون على الدنيا بطباعهم، إذ الدنيا ميتة والناس كلابها، فمن زاحمهم عليها بغضوه (ب)، ومن زهد فيها وَوَفَّرَهَا عليهم أحبوه، وعَدُوُّ المرء من يعمل عمله. ومما يروى من شعر الشافعي - رضي الله عنه - في هذا المعنى قوله (¬2): وَمَنْ يَذُقِ الدُّنْيَا فَإِنِّي طَعِمْتُهَا ... وَسِيْقَ إِلَيْنَا عَذْبُهَا وَعَذَابُهَا فَلَمْ أَرَهَا إلا غُرُوْرًا وَبَاطِلًا ... كَمَا لاَحَ فِي ظَهْرِ الفَلاَةِ سَرَابُهَا وَمَا هِيَ إلا جِيفَةٌ مُسْتَحِيْلَةٌ ... عَلَيْهَا كِلاَبٌ هَمُّنَّ اجتِذَابُهَا فَإِن تَجْتَنِبْهَا كُنْتَ سِلْمًا لأَهْلِها ... وَإِن تَجْتَذِبْهَا نَازَعَتْكَ كِلاَبُهَا. ¬

_ (أ) في أ، س، م الأجر. (ب) في م أبغضوه. (¬1) رواه البخاري في الأدب المفرد 84 (الطبقة السلفية) وأحمد 4/ 197 من حديث عمرو بن العاص بنحوه. وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد 127. (¬2) ديوان الشافعي 131 طبعة د / محمد زهدي يكن.

واعلم أن الزهد في اللغة هو الإعراض عن الشيء لاستقلاله واحتقاره وارتفاع الهمة عنه، مأخوذ من قولهم: شيء زهيد، أي: قليل. وفي الحديث "إنك لزهيد" (¬1). وقال الشاعر: وَأَغْدُو عَلَى القُوْتِ الزَّهِيدِ ... ................... البيت وأما في الحكم فهو على أضرب: أحدها: الزهد في الحرام، وهو الزهد الواجب العام. والثاني: الزهد في الشبهات، والأشبه وجوبه لأنه وسيلة إلى اتقاء الوقوع في الحرام لقوله عليه الصلاة والسلام: "ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام" الحديث، واجتناب الحرام واجب، ووسيلة الواجب واجبة، فالزهد في الشبهات واجب. الثالث: الزهد فيما عدا الضرورات من المباحات وهو المراد من هذا الحديث ظاهرا، وهو زهد الخواص العارفين بالله عزَّ وجلَّ. والرابع: الزهد فيما سوى الله عزَّ وجلَّ من دنيا وجنة وغير ذلك، فلا قصد لصاحب هذا الزهد إلا الوصول إلى الله عزَّ وجلَّ والقرب منه، وهو زهد المقربين، فلا جرم لما حصل لهم مقصودهم اندرج في ضمنه كل مقصود لغيرهم عفوا من غير طلب ولا قصد له، ولا جعلوه ثمن عبادتهم، و "كل الصيد في جوف الفرا" (¬2) والله عزَّ وجلَّ أعلم بالصواب. ¬

_ (¬1) رواه الترمذي 5/ 407 من حديث علي بن أبي طالب. وقال: هذا حديث حسن غريب. (¬2) المثل في مجمع الأمثال للميداني 3/ 11.

الحديث الثاني والثلاثون

الحديث الثاني والثلاثون: عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا ضرر ولا ضرار. حديث حسن رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مسندًا، ورواه مالك في الموطأ عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا فأسقط أبا سعيد (¬1)، وله طرق يُقَوَّى بعضُها ببعض. الكلام على إسناد هذا الحديث ولفظه ومعناه. أما إسناده فالكلام عليه في مواضع: أحدها: الخدري بخاء معجمة مضمومة بعدها دال مهملة ساكنة، نسبة إلى خدرة اسم قبيلة من الأنصار، وإنما ضبطت هذا اللفظ على ظهوره لأن بعض مشايخنا الفضلاء أخبرني (أ) أنه تنازع هو وولده، وكان أيضًا فاضلا، في الخدري هل هو بدال مهملة أو معجمة وأنهما سألا عن ذلك الشيخَ تقي الدين ابن دقيق العيد رحمه الله فأخبرهما أنها بدال مهملة. الموضع الثاني: في المسند والمرسل وهما من ألقاب الحديث، فالمسند المتصل الذي لم يحذف من إسناده أحد، والمرسل ما حذف من إسناده الصحابي عند المحدثين، وَأَيَّ رَاوٍ كَانَ عند الأصوليين. ¬

_ (أ) في س أخبرنا. (¬1) رواه مالك في الموطأ 2/ 745 مرسلًا وابن ماجه 2/ 784 عن إسحاق بن يحيى بن الوليد، عن عبادة بن الصامت، والدارقطني 3/ 77 عن الدراوردي، عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري. وقد خالف الدراوردي مالكا، ويقدم قول مالك على قوله. انظر سلسله الأحاديث الصحيحة حديث 250.

الموضع الثالث: أن الحديث اللين، أو الضعيف من جهة الضبط قد يقوى بالشواهد المنفصلة حتى يبلغ درحة ما يجب العمل به، كالمجهول من الناس إذا وجد مزكيا صار عدلا تقبل شهادته وروايته، ثم الشاهد قد يكون كتابًا مثل أن يضعف الحديث لكن يوافقه ظاهر آية، أو عموم، فيقوى بها ويتعاضدان على صيرورتهما دليلا، وقد يكون سنة إما عن راوي الحديث نفسه، أو عن غيره، وقد قيل في المثل: لَا تُخَاصِمْ بِوَاحِدٍ أَهْلَ بَيْتٍ ... فَضَعِيفَانِ يَغْلِبَانِ قَوِيَّا وقال الآخر: إِنَّ القِدَاحَ إذَا اجتَمَعْنَ فَرَاَمَها ... بِالكسْرِ ذُو حَنَقٍ وبَطْشٍ أَيِّدِ عَزّتْ فلم تُكْسَرْ، وَإِنْ هِيَ بُدِّدَتْ ... فَالكَسْرُ والتَّوْهِيْنُ لِلْمُتَبَدِّدِ (¬1) قلت: فكذلك الأسانيد اللينة إذا اجتمعت حصل منها إسناد قوي، كما قال الشافعي - رضي الله عنه - في قلتين نجستين (أ) ضمت (ب) إحداهما إلى الأخرى صارتا طاهرتين، وله نظائر (جـ)، فإذًا هذا الحديث ثابت يجب العمل بموجبه. وأما لفظه فالضرر مصدر ضَرَّة يَضرُّة ضُرًّا وضَرَرًا، والضرار مصدر ضارَّهُ يُضَارُّهُ ضِرارًا. وفي التنزيل {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [سورة ¬

_ (أ) في س متنجستين. (ب) في ب جمعت وفي م إذا ضمت. (جـ) في س نظير. (¬1) البيتان لقيس بن عاصم المنقري في أدب الدنيا والدين (ص 238 تحقيق ياسين السواس) وجمهرة الأمثال للعسكري 1/ 48، ولباب الآداب لابن منقذ ص 31.

البقرة: 231] والضرر إلحاق مفسدة بالغير مطلقا، والضرار إلحاق مفسدة به على جهة المقابلة، أي: كل منهما يقصد ضرر (أ) صاحبه. ويروى هذا الحديث "ولا إضرار" بزيادة ألف، وهو مصدر أضر به إضرارًا إذا ألحق به ضررًا، وهو في معنى الضرر. وقوله: "لا ضرر ولا ضرار" فيه حذف، أصله لا لحوق أو إلحاق ضَرَرٍ بأحد، ولا فعل ضِرَارٍ مع أحد. ثم المعنى لا لحوق ضرر شرعا إلا بموجب خاص مُخَصصٍ، أما التقييد بالشرع فلأن الضرر بحكم القدر الإلهي لا ينتفي، وأما استثناء لحوق الضرر لموجب خاص فلأن الحدود والعقوبات ضرر لاحق بأهلها، وهو مشروع بالإجماع، وإنما كان ذلك لدليل خاص، وإنما كان الضرر منفيا (ب) شرعا فيما عدا ما استثني لأن الله عزَّ وجلَّ يقول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28] {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6] {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقال - صلى الله عليه وسلم - "الدين يسر" (¬1) "بعثت بالحنفية السمحة السهلة" (¬2) ونحو ذلك من النصوص المصرحة بوضع الدين على ¬

_ (أ) في م ضر. (ب) في ب، م منتفيا. (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه.

تحصيل النفع والمصلحة، فلو لم يكن الضرر والضرار (أ) منفيا شرعا لزم وقوع الخلف في الأخبار الشرعية المتقدم ذكرها وهو محال. وأما معناه فهو ما أشرنا إليه من نفى الضرر والمفاسد شرعا، وهو نفي عام إلا ما خَصَّصَهُ (ب) الدليل، وهذا يقتضي تقديم مقتضى هذا الحديث على جميع أدلة الشرع وتخصيصها به في نفي الضرر وتحصيل المصلحة؛ لأنا لو فرضنا أن بعض أدلة الشرع تَضَمَّنَ ضررا فإن نفيناه بهذا الحديث كان عملا بالدليلين، وإن لم ننفه به كان تعطيلا لأحدهما وهو هذا الحديث، ولا شك أن الجمع بين النصوص في العمل بها أولى من تعطيل بعضها. ثم نقول: إن أدلة الشرع تسعة عشر بالاستقراء، لا يوجد بين العلماء غيرها. أولها: الكتاب، وثانيها: السنة، وثالثها: إجماع الأمة، ورابعها: إجماع أهل المدينة، وخامسها: القياس، وسادسها: قول الصحابي، وسابعها: المصلحة المرسلة، وثامنها: الاستصحاب، وتاسعها: البراءة الأصلية، وعاشرها: العوائد، الحادي عشر: الاستقراء، الثاني عشر: سد الذرائع، الثالث عشر: الاستدلال، الرابع عشر: الاستحسان، الخامس عشر: الأخذ بالأخف، السادس عشر: العصمة، السابع عشر: إجماع أهل الكوفة، الثامن عشر: إجماع العشرة، التاسع عشر: إجماع الخلفاء ¬

_ (أ) في م والإضرار. (ب) في ب، م خصه.

الأربعة، وبعضها متفق عليه، وبعضها مختلف فيه، ومعرفة حدودها، ورسومها، والكشف عن حقائقها، وتفاصيل أحكامها مذكور في أصول الفقه. ثم إن قوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار" يقتضي رعاية المصالح إثباتا، والمفاسد نفيا، إذ الضرر هو المفسدة، فإذا نفاها الشرع لزم إثبات النفع الذي هو المصلحة لأنهما نقيضان لا واسطة بينهما. وهذه الأدلة التسعة عشر أقواها النص والإجماع، ثم هما إما أن يوافقا رعاية المصلحة، أو يخالفاها، فإن وافقاها فَبِهَا وَنِعْمَت، ولا نزاع إذ قد اتفقت الأدلة الثلاثة على الحكم، وهي النص والإجماع ورعاية المصلحة المستفادة من قوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار" وإن خالفاها وجب تقديم رعاية المصلحة عليهما بطريق التخصيص والبيان لهما، لا بطريق الافتيات عليهما والتعطيل لهما، كما تقدم السنة على القرآن بطريق البيان. وتقرير ذلك أن النص والإجماع إما أن لا يقتضيا ضررًا ولا مفسدة بالكلية، أو يقتضيا ذلك، فإن لم يقتضيا شيئًا من ذلك فهما موافقان لرعاية المصلحة، وإن اقتضيا ضررا فإما أن يكون مجموعَ مدلوليهما أو بعضَه، فإن كان مجموعُ مدلوليهما ضررًا فلا بد أن يكون من قبيل ما استثني من قوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار" وذلك كالحدود والعقوبات على الجنايات، وإن كان الضررُ بعضَ مدلوليهما فإن اقتضاه دليل خاص اتبع الدليل فيه، وإن لم يقتضه دليلٌ خاصٌّ وجب تخصيصهما بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار" جمعا بين الأدلة.

ولعلك تقول: إن رعاية المصلحة المستفادة من قوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار" لا تقوى على معارضة الإجماع لتقضي عليه بطريق التخصيص والبيان؛ لأن الإجماع دليل قاطع، وليس كذلك رعاية المصلحة؛ لأن الحديث الذي دَلَّ عليها واستفيدت منه ليس قاطعا، فهي أولى. فنقول لك: إن رعاية المصلحة أقوى من الإجماع، ويلزم من ذلك أنها أقوى أدلة الشرع؛ لأن الأقوى من الأقوى أقوى، ويظهر ذلك بالكلام (أ) في المصلحة والإجماع. أما المصلحة: فالنظر في لفظها، وَحَدهَا، وبيان اهتمام الشرع بها، وأنها مُبَرْهَنَةٌ. أما لفظها: فهو مفعلة من الصلاح، وهو كون الشيء على هيئة كاملة بِحَسَبِ مَا يُرَادُ ذلك الشيء له، كالقلم يكون على هيئته الصالحة للكتابة به، والسيف على هيئته الصالحة للضرب به. وأما حدها بحسب العرف: فهي السبب المؤدي إلى الصلاح والنفع كالتجارة المؤدية إلى الربح، وبحسب الشرع هي السبب المؤدي إلى مقصود الشارع عبادة أو عادة. ثم هي تنقسم إلى ما يقصده الشارع لحقه كالعبادات، وإلى ما يقصده لنفع المخلوقين وانتظام أحوالهم كالعادات. ¬

_ (أ) في ب من الكلام.

وأما بيان اهتمام الشرع بها: فمن جهة الإجمال والتفصيل: أما الإجمال فلقوله (أ) تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس: 57] الآيتين، ودلالتهما من وجوه: أحدها: قوله عزَّ وجلَّ {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} حيث اهتم بوعظهم، وفيه أكبر مصالحهم، إذ في الوعظ كفهُّم عن الردى (ب) وإرشادهم إلى الهدى. الوجه الثاني: وصف القرآن بأنه شفاء لما في الصدور، يعني من شك ونحوه، وهو مصلحة عظيمة. الوجه الثالث: وصفه بالهدى. الوجه الرابع: وصفه بالرحمة، وفي الهدى والرحمة غاية المصلحة. الوجه الخامس: إضافة ذلك إلى فضل الله عزَّ وجلَّ ورحمته ولا يصدر عنهما إلا مصلحة عظيمة. الوجه السادس: أمره إياهم بالفرح بذلك لقوله عزَّ وجلَّ {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} وهو في معنى التهنئة لهم بذلك، والفرح والتهنئة إنما يكونان لمصلحة عظيمة. الوجه السابع: قوله عزَّ وجلَّ {هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} والذي ¬

_ (أ) في م فقوله. (ب) في ب، م الأذى.

يجمعونه هو من مصالحهم، فالقرآن ونفعه أصلح من مصالحهم، والأصلح من المصلحة غاية المصلحة، فهذه سبعة أوجه من هذه الآية تدل على أن الشرع راعى مصلحة المكلفين واهتَمَّ بها، ولو استقريت النصوص لوجدت على ذلك أدلة كثيرة. فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون من جملة ما راعاه من مصالحهم نصب النص والإجماع دليلا لهم على معرفة الأحكام؟. قلنا: هو كذلك، ونحن نقول به في العبادات، وحيث وافقا المصلحة في غير العبادات، وإنما نحن نرجح رعاية المصالح في العادات والمعاملات ونحوها؛ لأن رعايتها في ذلك هي قطب مقصود الشرع منها، بخلاف العبادات فإنها حق الشرع، ولا يعرف كيفية إيقاعها إلا من جهته نصًّا أو إجماعًا. وأما التفصيل ففيه أبحاث: الأول: في أن أفعال الله عزَّ وجلَّ معللة أم لا؟ حجة المثبت: أن فعلًا لا علة له عبث، والله عزَّ وجلَّ منزه عن العبث، ولأن القرآن مملوء من تعليل الأفعال نحو {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس: 5] ونحوه. حجة النافي (أ): أن كل من فعل فعلا لعلة فهو مستكمل بتلك العلة ما لم يكن له قبلها، فيكون ناقصا بذاته، كاملًا بغيره، والنقص على الله ¬

_ (أ) في س المنافي.

عزَّ وجلَّ محال. وأجيب عنه بمنع الكلية، فلا يلزم ما ذكروه إلا في حق المخلوقين. والتحقيق أن أفعال الله عزَّ وجلَّ معللة بِحِكَمٍ غائية يعود بنفع المكلفين، فَكَمَالُهُمْ لا ينفع اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَمَالَهُ، لاستغنائه بذاته عما سواه. البحث الثاني: أن رعاية المصالح تفضل من الله عزَّ وجلَّ على خلقه عند أهل السنة، واجبة عليه عند المعتزلة. حجة الأولين: أن الله عزَّ وجلَّ متصرف في خلقه بالملك، ولا يجب لهم عليه شيء، ولأن الإيجاب يستدعى موجبا أعلى، ولا أعلى من الله عز وجل يوجب عليه. حجة الآخرين: أن الله عزَّ وجلَّ كلَّف خلقه بالعبادة، فوجب أن يراعى مصالحهم إزالة لعللهم في التكليف، وإلا لكان ذلك تكليفا بما لا يطاق أو شبيهًا به. وأجيب عنه بأن هذا مبني على تحسين العقل وتقبيحه، وهو باطل عند الجمهور. والحق أن رعاية المصالح واجبة من الله عزَّ وجلَّ حيث التزم التفضل بها، لا واجبة عليه، كما قلنا في {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 17] أن قبولها واجب منه، لا عليه، وكذلك الرحمة في قوله عزَّ وجلَّ {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] ونحو ذلك. البحث الثالث: في أن الشرع حيث راعى مصالح الخلق هل راعى مطلقها في جميع محالها، أو أكملها في جميع محالها، أو أوسطها في جميع محالها،

أو راعى مطلقها في بعض، وأكملها في بعض، وأوسطها في بعض، أو أنه راعى منها في كل محل ما يصلحهم وينتظم به حالهم؟ والأقسام كلها ممكنة، وأشبهها الأخير (أ). البحث الرابع: في أدلة رعاية المصلحة على التفصيل، وهي من الكتاب والسنة والإجماع والنظر، ولنذكر من كل منها يسيرا على جهة ضرب المثال إذ استقصاء ذلك يتعذر. أما الكتاب: فنحو قوله عزَّ وجلَّ {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وهو كثير، ورعاية مصلحة الناس في نفوسهم وأموالهم وأعراضهم مما ذكرناه ظاهرة، وبالجملة فما من آية من كتاب الله عزَّ وجلَّ إلا وهي تشتمل على مصلحة، أو مصالح كما بينَّاه (ب) في غير هذا الموضع. وأما السنة: فنحو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا يبع حاضر لباد" (¬1) "ولا تنكح المرأة على عمتها أو خالتها، إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم" (¬2) وهذا ونحوه في (جـ) السنة كثير؛ لأنها بيان الكتاب، ¬

_ (أ) في أ، ب الآخر. (ب) في س نبهنا وفي ب بيناها. (جـ) في ب من. (¬1) رواه البخاري 2/ 752 ومسلم 3/ 1155 من حديث أبي هريرة. (¬2) رواه أبو داود 2/ 554 والترمذي 3/ 432 وابن حبان (الإحسان 9/ 446) والزيادة الأخيرة له.

وقد بيَّنا اشتمال كل آية منه على مصلحة، والبيان على وفق المُبَيَّن. وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء إلا من لا يعتد به من جامدي (أ) الظاهرية على تعليل الأحكام بالمصالح ودرء المفاسد، وأشدهم في ذلك مالك حيث قال بالمصالح المرسلة، وفي الحقيقة لم يختص بها، بل الجميع قائلون بها غير أنه قال بها أكثرَ منهم (¬1)، وحتى إن المخالفين في كون الإجماع حجة قالوا بالمصالح، ومن ثَمَّ عُلِّلَ وجوبُ الشفعة برعاية حق الجار ومصلحته، وجواز السلم والإجارة لمصلحة الناس مع مخالفتهما القياس (ب)، إذ هما معاوضة على معدوم. وسائر أبواب الفقه ومسائله فيما يتعلق بحقوق الخلق معلل بالمصالح. وأما النظر: فلا شك عند كل ذي عقل صحيح أن الله عزَّ وجلَّ راعى مصلحة خلقه عموما وخصوصا، أما عموما ففي مبدئهم ومعاشهم. أما المبدأ فحيث أوجدهم بعد العدم على الهيئة التي ينالون بها مصالحهم في حياتهم ويجمع ذلك قوله عزَّ وجلَّ {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)} [الانفطار: 6 - 8] وقوله عزَّ وجلَّ {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]. ¬

_ (أ) في س، م جاهل. (ب) في م للقياس. (¬1) قال القرافي: يحكى أن المصلحة المرسلة من خصائص مذهب مالك، وليس كذلك، بل المذاهب كلها مشتركة فيها. انظر نفائس الأصول في شرح المحصول 9/ 4095.

وأما المعاش فحيث هيَّأ (أ) لهم أسباب ما يعيشون به ويتمتعون به من خلق السموات (ب) والأرض، وما فيهما، وما بينهما، وجماع ذلك في قوله عزَّ وجلَّ {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)} [الجاثية: 13] وتفصيله بعض التفصيل في قوله عزَّ وجلَّ {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6)} إلى قوله {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} [النبأ: 6 - 17] وفي قوله عزَّ وجلَّ {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} إلى قوله عزَّ وجلَّ {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)} [عبس: 24 - 32]. وأما خصوصا فرعاية مصلحة المعاد (جـ) في حق السعداء حيث هداهم السبيل ووفقهم لنيل الثواب الجزيل في خير مقيل. وعند التحقيق إنما راعى مصلحة المعاد (د) عموما حيث دعا الجميع إلى الإيمان الموجب لمصلحة المعاد، ولكن بعضهم فرط بعدم الإجابة بدليل قوله عزَّ وجلَّ {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17]. وتحرير هذا المقام أن الدعاء كان عموما والتوفيق المُكَملُ للمصلحة ¬

_ (أ) في ب فحيث تهيأ، وفي س فهيأ لهم. (ب) في ب السماء. (جـ) في م العباد السعداء. (د) في س، م العباد.

المُصَححُ لوجودها كان خصوصا بدليل قوله عزَّ وجلَّ {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25] فدعا عاما، وهدى ووفَّق خاصًّا. إذا عرف هذا فمن المحال أن يراعى الله عزَّ وجلَّ مصلحة خلقه في مبدئهم ومعادهم ومعاشهم، ثم يهمل مصلحتهم في الأحكام الشرعية، إذ هي أهم، فكانت بالمراعاة أولى، ولأنها أيضًا من مصلحة معاشهم إذ بها صيانة أموالهم ودمائهم وأعراضهم فلا معاش لهم بدونها فوجب القول بأنه راعاها لهم، وإذا ثبت (أ) رعايته إياها لم يجز إهمالها لها بوجه من الوجوه، فإن وافقها النص والإجماع وغيرهما من أدلة الشرع فلا كلام، وإن خالفها دليل شرعي وُفِّقَ بينه وبينها بما ذكرناه من تخصيصه بها، وتقديمها بطريق البيان. وأما رعاية المصلحة مبرهنة فقد دلَّ عليه ما ذكرناه من اهتمام الشرع بها وأدلته. وأما الإجماع فالنظر في لفظه وحَده وأدلته والاعتراض عليها، ثم معارضتها. أما لفظه: فهو إفعال من أجمع يُجمِع، وهو في اللغة العزم والاتفاق يقال: أجمع القوم على كذا إذا عزموا، وإذا اتفقوا أيضًا. وأما حده اصطلاحا: فهو اتفاق مجتهدي هذه الأمة على أمر ديني. ¬

_ (أ) في ب تمت.

وأما أدلته فالكتاب والسنة والنظر. أما الكتاب ففيه (أ) آيات: الأولى: قوله عزَّ وجلَّ {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]. وجه دلالتها (ب) أنه عزَّ وجلَّ توعَّد من شاقق الرسول واتبع غير سبيل المؤمنين، والوعيد لا يكون إلا عن فعل محرم، أو ترك واجب، والإجماع هو سبيل المؤمنين، وقد وقع الوعيد على تركه، فهو محرم، فاتباعه واجب. والاعتراض عليه بوجوه كثيرة أقواها ستة: أحدها: أن الوعيد في الآية على شيئين: مشاقة الرسول، واتباع غير سبيل المؤمنين، فهما جميعا واجبان، ولا يلزم من وجوب الشيء مع غيره وجوبه منفردًا (جـ)، لجواز أن يكون الآخر شرطا فيه، أو ركنًا له. الثاني: أن اللام في المؤمنين يحتمل العهد والاستغراق، وبتقدير كونها للعهد لا يتم الدليل لاحتمال إرادة جماعة من المؤمنين مخصوصة كالصحابة، أو بعضهم، كما ذهب إليه الظاهرية من أن الحجة في إجماع الصحابة، لا غير؛ لأن الخطاب لهم، وفي عصرهم فيختص بهم. ¬

_ (أ) في أ، ب، م فمنه. (ب) في ب دلالته. (جـ) في س مفردا.

الثالث: أن الإضافة في غير سبيل المؤمنين ليست محضة (¬1)؛ لأن غير لا تتعرف بالإضافة لشدة إبهامها، وحينئذ لا تدل الآية على ترتب الوعيد على كل فرد فرد من اتباع غير سبيل المؤمنين، إذ يبقى تقدير الآية: ويتبع أمرًا مغايرا لسبيل المؤمنين، فيحمل ذلك الأمر على غير (أ) سبيلهم في الإيمان، ¬

_ (أ) في ب، س مغاير. (¬1) هذا فيه نظر، فإن الإضافة على ثلاثة أنواع: نوع: يفيد تعرف المضاف بالمضاف إليه إن كان معرفة كغلام زيد، وتخصص المضاف بالمضاف إليه إن كان نكرة، كغلام امرأة. ونوع: يفيد تخصص المضاف دون تعرفه، وضابطه أن يكون المضاف متوغلا في الإبهام كغير إذا أريد بها مطلق المغايرة، لا كمالها، ولذلك صحَّ وصف النكرة بها في قولك مررت برجل غيرك، وتسمى الإضافة في هذين النوعين معنوية؛ لأنها أفادت أمرًا معنويًّا، ومحضة، أي: خالصة من تقدير الانفصال. ونوع لا يفيد شيئًا من ذلك، وضابطه أن يكون المضاف صفة تشبه المضارع في كونها مرادًا بها الحال أو الاستقبال، وهذه الصفة ثلاثة أنواع: اسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبهة، وتسمى الإضافة في هذا النوع لفظية؛ لأنها أفادت أمرا لفظيا، وغير محضة؛ لأنها في تقدير الانفصال. اهـ. مختصرًا من أوضح المسالك إلى ألفية بن مالك 3/ 86. قلت: حاصل قول النحاة أن (غير) إذا أريد بها مطلق المغايرة لا تتعرف بالإضافة، وإن أريد بها المغايرة الكلية تعرفت بالإضافة، وهنا المقصود من الآية -والله أعلم-: المغايرة الكلية لسبيل المؤمنين مغايرة معتبرة شرعًا، إذ السبل ثلاثة: سبيل المؤمنين، وسبيل غير المؤمنين، والسبيل المتوسط بينهما، وهو غير معتبر شرعًا في الوعيد، فبقي سبيل المؤمنين، وسبيل غير سبيل المؤمنين أيًّا كان. وحينئذ تدل الآية على ترتب الوعيد على كل فرد من اتباع سبيل غير سبيل المؤمنين، فيشمل ذلك اتباع غير سبيلهم في الإيمان والإجماع.

وحينئذ يصير الوعيد على مشاقة الرسول والكفر، ولا دليل فيه على اتباع الإجماع. وفي هذا الوجه نظر، لأن الكلام في سياق الشرط، والنكرة في سياق الشرط تعم، كما في سياق النفى، ويمكن دفع هذا النظر بأن يحمل الأمر المنكور (أ) في قوله: (ويتبع أمرا مغايرا لسبيل المؤمنين) (¬1) على معهود معين وهو الكفر، ويدل عليه سياق الآية بعدها وقبلها، فإنها في الكفر والكفار. ويمكن تقرير هذا الوجه ابتداء بأن يمنع العموم في سبيل المؤمنين، فيحمل على سبيلهم في خصوص الإيمان، فيكون الوعيد على مخالفتهم فيه بالكفر، وهذا غير ما قَدَّرَته أوَّلًا، لأن هذا منعٌ لعموم سبيل المؤمنين، وذلك منعٌ لعموم المغايرة التي دلت عليها غير. الرابع: أن السبل ثلاث: سبيل المؤمنين، وسبيل غير المؤمنين، والسبيل المتوسط بينهما، لا سبيل هؤلاء، ولا سبيل هؤلاء، بل السبيل المباحة التي لا وعد عليها ولا وعيد، وبتقدير وجود هذه الواسطة لا يتم الدليل على وجوب اتباع سبيل المؤمنين. الخامس: أن الآية مقابلة للتي قبلها في الجملة الشرطية والعطف عليها، وفي التي قبلها خصال ثلاث، فوجب أن يكون المراد بسبيل المؤمنين فيها أضداد تلك الخصال الثلاث تصحيحًا للمقابلة، وتحقيقا لها في الآيتين. ¬

_ (أ) في س المنكر. (¬1) هذا تقدير المؤلف فحسب.

بيان ذلك أن الآية التي قبل هذه {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما} [سورة النساء: 115] ثم قابلها بقوله عزَّ وجلَّ {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين} أي: في الأمر بالصدقة والمعروف والإصلاح، بأن أمر بأضداد ذلك، وهذا (أ) تأويل له ظهور في الآية ولو لم يكن إلا مجرد احتماله قدح في دلالة الآية على المطلوب. السادس: بتقدير تسليم ما ذكرتم فإنما يدل على وجوب اتباع الإجماع، ونحن نقول به في العبادات وأشباهها من المقدرات التي لا تعلم إلا بالنص أو ما قام مقامه، والنزاع إنما هو (ب) في تقديم المصلحة عليه بطريق البيان لكونها أقوى منه، وليس في دليلكم ما يمنع ذلك. الآية الثانية (¬1): قوله عزَّ وجلَّ {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس} [سورة البقرة: 144] وجه دلالتها (جـ) أن الوسط هو العدل الخيار، والعدل الخيار لا يصدر عنه إلا الحق، والإجماع صادر عن هذه الأمة العدول الخيار، فليكن حقًّا. ¬

_ (أ) في س وهو. (ب) في ب والنزاع لنا هنا في تقديم. (جـ) في ب دلالته. (¬1) من أدلة الإجماع.

والاعتراض عليه أن العدل إنما يلزم صدور الحق عنه بطريق الظاهر فيما طريقه الصدق والكذب، وهو نقل الأخبار، وأداء الشهادات، أما فيما طريقه الخطأ والصواب في استخراج الأحكام والاجتهاد فيها فلا. فإن قيل: إذا ثبت عدالة الأمة لزم أنهم لا يجمعون إلا عن مستند قاطع، والقاطع يجب العمل به. قلنا: لا نسلم أنهم لا يجمعون إلا عن قاطع، وقد صرح جمهور مثبتي الإجماع بجواز انعقاده عن الأمارات كالقياس وخبر الواحد، بل قد ذهب كثير إلى انعقاد الإجماع لا عن مستند أصلا، بل بالبحث المحض بناء على أن الأمة معصومة، فكيفما اتفقت على حكم كان اتفاقها حجة، عن مستند كان أو غيره. سلمنا أنهم لا يجمعون إلا عن قاطع، لكن ما المراد بالقاطع؟ إن أريد به القاطع القطع العقلي الذي لا يحتمل النقيض فمثله نادر، أو متعذر في أدلة الشرع، وبتقدير وجوده لا نسلم أنه يخالف المصلحة فيعود إلى الوفاق، وإن أريد به القاطع الشرعي فقد بيَّنَّا أن أدلة الشرع تسعة عشر، وليس فيها ما بمكن دعوى القطع فيه إلا الإجماع والنص ورعاية المصلحة. أما الإجماع فلا يجوز اعتباره في مستند (أ) الإجماع لأنه إثبات الشيء بنفسه، ولو اعتبر كان نزاعنا فيه كالنزاع في فرعه المنعقد عنه. وأما النص فهو إما متواتر أو آحاد، وعلى التقديرين فهو إما صريح في ¬

_ (أ) في أ، س، م، مسند.

الحكم أو محتمل، فهي أربعة أقسام: فإن كان متواترا صريحا فهو قاطع من جهة متنه ودلالته، لكن قد يكون محتملا من جهة عموم أو إطلاق (أ)، وذلك يقدح في كونه قاطعا مطلقا، فإن فرض عدم احتماله من جهة العموم والإطلاق ونحوه وحصلت فيه القطعية من كل جهة بحيث لا يتطرق إليه احتمال بوجه منعنا أن مثل هذا يخالف المصلحة فنعود إلى الوفاق. وإن كان آحادا محتملا فلا قطع، وكذا إن كان متواترا محتملا، أو آحادا صريحا لا احتمال في دلالته بوجه، لفوات قطعيته من أحد طرفيه إما متنه أو سنده، وأيضًا فإن الإجماع أقوى من النص فإذا نازعناكم في الإجماع ورجحنا عليه المصلحة فالنص بذلك أولى، فانتفت بذلك دعوى القطعية في مستند (ب) الإجماع من جهة الإجماع والنص، فلم يبق إلا رعاية المصلحة، فإذا استند الإجماع إليها فهو موافق لما نقوله، لأنا نعتمد في الأحكام المصلحة سواء كانتا بواسطة الإجماع ونحوه أو بغير واسطة. الآية الثالثة (¬1): قوله عزَّ وجلَّ {كنتم خير أمة أخرجت للناس} [سورة آل عمران: 111] الآية، وهو ثناء عليهم، وثناء الله عزَّ وجلَّ عليهم تعديل لهم فليكن إجماعهم حجة. ¬

_ (أ) في م العموم أو الإطلاق. (ب) في أ، م مسند. (¬1) من أدلة الإجماع.

والاعتراض عليه كالاعتراض على الذي قبله فهذه الآيات المستدل بها على الإجماع من القرآن. وأما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام: "أمتي لا تجتمع على ضلالة" (¬1) وما ورد بمعناه. وجه الاستدلال به أنه ورد بألفاظ كثيرة، وروايات متعددة تبلغ التواتر المعنوي، كشجاعة علي، وسخاء حاتم، ودلالته قاطعة في وجوب اتباع الإجماع، فصار في قوة النص القاطع إسنادًا ومتنا على المطلوب، فيجب اتباعه. والاعتراض عليه بأن هذا الخبر وإن تعددت ألفاظه ورواياته لا نسلم أنه بلغ رتبة التواتر المعنوي، لأنا إذا عرضنا هذا الخبر على أذهاننا، وسخاء حاتم، وشجاعة علي، ونحوهما من المتواترات المعنوية وجدناها قاطعة بثبوت الثاني، غير قاطعة بالأول، فهو إذًا في القوة دون سخاء حاتم، وشجاعة علي، وهما متواتران، وما دون المتواتر ليس بمتواتر، فهذا الخبر ليس بمتواتر، لكن في غاية الاستفاضة. فإن قيل: تلقته الأمة بالقبول فدل على ثبوته (أ)، فجوابه من وجوه: أحدها: لا نسلم تلقيها له بالقبول، إذ منكروا الإجماع كالنظام والشيعة والخوارج والظاهرية -فيما عدا إجماع الصحابة- لو تلقوه بالقبول لما خالفوه. ¬

_ (أ) في س تقويته. (¬1) قطعة من حديث ابن عمر، يأتي تخريجه قريبا.

الثاني: أن الاحتجاج بتلقي الأمة له بالقبول احتجاج للإجماع (أ) بالإجماع، وهو إثبات الشيء بنفسه. الثالث: سلمنا تلقيهم له بالقبول، لكن قبولا مظنونا لا مقطوعًا، والظن لا يصلح مستندًا للإجماع (ب) المُدَّعَى قطعيته، وكونه أقوى أدلة الشرع بحيث تُسْفَكُ به الدماء وتترتب عليه الأحكام القواطع، فإن ذلك (جـ) تفريع للقوي على الضعيف، والقاطع على المظنون. سلمنا أنه بلغ رتبة التواتر، لكن لا نسلم أنه قاطع في وجوب اتباع الإجماع، لاحتمال أنه أراد (د) بها لا تجتمع على ضلالة الكفر، فلا يكون حجة في وجوب اتباع الإجماع فيما سوى الإيمان المقابل للكفر. فأما نحو قوله عليه الصلاة والسلام: "اتبعوا السواد الأعظم، فإنه من شذ شذ في النار" (¬1) و "يد الله على الجماعة" (¬2) فإنما المراد به طاعة الأئمة والأمراء، وترك الخروج عليهم بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اسمعوا وأطيعوا ¬

_ (أ) في ب، س الإجماع. (ب) في ب مستند الإجماع. (جـ) في ب، س إذ ذاك. (د) في م أن يراد. (¬1) رواه الحاكم في المستدرك 1/ 115، 116 من حديث ابن عمر، ورواه أبو نعيم في تاريخ أصبهان 2/ 208 بنحوه من حديث سمرة بن جندب وسنده ضعيف. (¬2) رواه الترمذي 4/ 446 والحاكم 1/ 116 من حديث ابن عباس قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

وإن تأمر عليكم عبد حبشي" (¬1) وقوله عليه الصلاة والسلام: "من مات تحت راية عمية مات ميتة جاهلية" (¬2). ثم يرد على دليل الإجماع من الكتاب والسنة سؤالان: أحدهما: أنه استدلال بظواهر سمعية إذ (أ) لا قاطع فيها لورود الإشكالات المذكورة عليها، والظواهر السمعية إنما وجب الاحتجاج بها بالإجماع، فلو ثبت الإجماع بها لزم الدور. الثاني: أن المؤمنين في الآية وأمتي في الخبر يقتضي كل مؤمن وجميع الأمة، لكن الأمة قد افترقت بموجب النص على ثلاث وسبعين فرقة، ونحن نقول بموجب الدليل، فإنَّ ما اجتمعت عليه الأمة بجميع فرقها الثلاث والسبعين حجة قاطعة يجب اتباعها، لكن مجموع الأمة بفرقها إنما أجمعوا على الإيمان بالله ورسوله (ب)، ومسائل يسيرة بعد ذلك، ولا جرم أن إجماعهم في تلك المسائل حجة، وبهذا يظهر سر قوله عليه الصلاة والسلام: "أمتي لا تجتمع على ضلالة" (¬3) أي: أمتي بفرقها. وأما النظر (¬4) فلأن الجمَّ الغفير من أهل الفضل والذكاء مع استفراغ ¬

_ (أ) في م ولا. (ب) في ب ورسله. (¬1) رواه البخاري 1/ 246 من حديث أنس بنحوه. (¬2) رواه مسلم 3/ 1478 من حديث جندب بن عبد الله البجلي بنحوه. (¬3) قطعة من حديث ابن عمر السابق. (¬4) من أدلة الإجماع.

الوسع في الاجتهاد (أ) وإمعان النظر في طلب الحكم يمتنع في العادة اتفاقهم على الخطأ. واعترض عليه بالنقض بإجماع اليهود والنصارى وسائر أهل الملل على ضلالهم مع كثرتهم وفضلهم واجتهادهم وإمعانهم في النظر، ثم إنهم مخطئون بإجماع المسلمين. وأما معارضة أدلة الإجماع فمن وجوه: أحدها: لو كان الإجماع حجة لكان إما لذات المجتمعين، أو لشهادة الشرع لهم بالعصمة، والأول باطل، إذ المجمعون ليسوا معصومين على إرادتهم، إذ لا يلزم من فرض عدم عصمتهم محال لذاته، والثاني باطل، لأن شهادة الشرع بعصمتهم إما متواترة، لكن تواترها ممنوع كما تقرر، أو آحاد، وهو لا يفيد المقصود، فظهر أن الإجماع ليس بحجة. الوجه الثاني: قوله عليه الصلاة والسلام: "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" (¬1) مع قوله: "أمتي لا تجتمع (ب) على ضلالة" فنقول: المراد بالأمة التي لا تجتمع على ضلالة، مجموع الفرق الثلاث والسبعين، أو الفرقة الناحية منهم؟ ¬

_ (أ) في م والاجتهاد. (ب) في ب لا تجتمع أمتي. (¬1) رواه أبو داود 5/ 4 والترمذي 5/ 25 وابن ماجه 2/ 1321 من حديث أبي هريرة قال الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح.

فإن أريد مجموع الفرق لم يصح (أ) لوجهين: أحدهما: أن منهم من لا يقول بالإجماع، فلا يصح اعتبار إجماع من لا يرى الإجماع حجة. الثاني: أن من فرق الأمة من يكفر ببدعته، والكافر لا يعتبر في الإجماع، وإن أريد الفرقة الناجية فليست مجموع الأمة، بل هي ثُمُنُ تُسُعِ الأمة تقريبا، جزء من ثلاثة وسبعين جزءًا، فيبقى تقدير الحديث ثمن تسع أمتي لا يجتمع على ضلالة، أو جزء من ثلاثة وسبعين جزءًا من أمتي لا يجتمع على ضلالة، وهو ركيك من الكلام، لا يجوز نسبة مثله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. الوجه الثالث: أن عثمان بن عفان رضي الله عنه والإمامين قبله حجبوا الأم عن الثلث إلى السدس بأخوين، ولم يحجبها ابن عباس إلا بثلاثة، وناظر عثمان في ذلك، حيث قال لعثمان: إن الله عزَّ وجلَّ يقول: {فإن كان له إخوة فلأمه السدس} [سورة النساء: 12] وليس الأخوان إخوة في لسان قومك، فقال عثمان: إني لا أدع أمرا كان قبلي (¬1). وهذا احتجاج من عثمان بالإجماع، ولو كان حجة لما خالفه ابن عباس لظاهر القرآن ابتداء، ولما أقره عثمان على خلافه دومًا (ب)، بل كان يأخذ على يده، ويرده إلى إجماع الناس، وهذا يدل على أن الإجماع دون ظواهر ¬

_ (أ) في س لم أر. (ب) في ب، م دواما. (¬1) رواه ابن جرير في التفسير (8/ 41 طبعة محمود شاكر) والحاكم 4/ 335 والبيهقي في السنن الكبرى 6/ 227 قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

النصوص في القوة، كما فعله ابن عباس حيث قدم ظاهرًا من ظواهر الكتاب على الإجماع، وخصوصا إجماع الخلفاء الثلاثة ومن في عصرهم. الوجه الرابع: أن الصحابة أجمعوا على جواز التيمم للمرض وعدم الماء، وخالف ابن مسعود حيث قال: لو رخصنا لهم في هذا لأوشك أن يبرد على أحدهم الماء فيتيمم وهو يرى الماء، فاحتج أبو موسى عليه بالآية، وحديث عمار فلم يلتفت (¬1)، وهذا ترك للنص (أ) والإجماع بمجرد المصلحة، ثم اشتهر هذا عن ابن مسعود ولم ينكر عليه أحد، فهو في ذلك إما مصيب أو مخطئ، فإن كان مصيبا لزم جواز ترك النص والإجماع بالمصلحة ونحوها، وهو المطلوب، وإن كان مخطئا لزم خطأ أهل الإجماع في ترك الإنكار عليه، فأحد الأمرين لازم، إما جواز ترك الإجماع لفعل ابن مسعود فلا يكون حجة، أو وقوع الإجماع على الخطأ، لإقرار الصحابة ابن مسعود على خطئه، وكلا الأمرين قادح في الإجماع. فإن قيل: لا نسلم انعقاد الإجماع على التيمم عند عدم الماء لمخالفة ابن مسعود فيه، ولا نسلم اتفاق الصحابة على ترك الإنكار على ابن مسعود قوله، لرد أبي موسى عليه، فبطل ما احتججتم به على القدح في الإجماع. قلنا: بتقدير أن ابن مسعود لم يخالف الإجماع فقد خالف النص الذي هو أصل الإجماع بمجرد المصلحة، وأنتم لا تقولون بترك النص لقياس ولا مصلحة، فهو إذًا مخطئ عندكم، وقد أقره الصحابة على الخطأ، ولزم ¬

_ (أ) في ب النص. (¬1) رواه البخاري 1/ 132 بنحوه.

المحذور، وأما رَدُّ أبي موسى على ابن مسعود فهو رَدُّ مُنَاظَرَةٍ وجدال، لا رَدُّ إنكار، والفرق بينهما واضح. واعلم أن غرضنا من هذا كله ليس القدح في الإجماع وإهداره بالكلية، بل نحن نقول به في العبادات والمقدرات ونحوهما، وإنما غرضنا بيان أن رعاية المصلحة المستفادة من قوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار" أقوى من الإجماع، ومستندها أقوى من مستنده. وقد ظهر ذلك مما قررناه في دليلها (أ)، والاعتراض على أدلة الإجماع. ومما يدل على تقديم رعاية المصلحة على النصوص والإجماع على الوجه الذي ذكرناه وجوه: أحدها: أن منكري الإجماع قالوا برعاية المصاع فهو إذًا محل وفاق، والإجماع محل خلاف (ب)، والتمسك بما اتفق عليه أولى من التمسك بما اختلف فيه. الوجه الثاني: أن النصوص مختلفة متعارضة فهي سبب الخلاف في الأحكام المذموم شرعا (¬1)، ورعاية المصالح أمر حقيقي في نفسه ولا يختلف فيه، ¬

_ (أ) في س دليلهما وفي م فيما قررناه في دليلهما. (ب) في م الخلاف. (¬1) هذه كلمة شنيعة، وجرأة ذميمة، جَرَّه إليها التعسف الذي ركبه الشارح في تقرير المصلحة كما يريدها، ذلك لأنه يستحيل أن يقع تضاد وتعارض في الواقع ونفس الأمر بين نصوص الوحي من كتاب وسنة، وإنما التعارض الظاهر في أفهام الناس ومداركهم. وقد نقل عن إمام الأئمة أبي بكر ابن خزيمة أنه قال: "لا أعرف أنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثان بإسنادين صحيحين متضادين، فمن كان عنده فليأتني به لأؤلف بينهما".

فهو سبب الاتفاق المطلوب شرعا، فكان اتباعه أولى. وقد قال الله عزَّ وجلَّ {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} [سورة آل عمران: 104] {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء} [سورة الأنعام: 160] وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم" (¬1) وقد قال عزَّ وجلَّ في مدح الاجتماع {وألَّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم} [سورة الأنفال: 64] وقال عليه الصلاة والسلام "وكونوا عباد الله اخوانا" (¬2) ومن تأمل ما حدث بين اتباع أئمة المذاهب من التشاجر والتنافر (أ) علم صحة ما قلنا، حتى إن المالكية استقلوا بالمغرب، والحنفية بالمشرق، فلا يُقارُّ أحد المذهبين أحدًا من غيره (ب) في بلاده إلا على وجهٍ ما، حتى بلغنا أن أهل جيلان من الحنابلة إذا دخل إليهم حنفي قتلوه وجعلوا ماله فيئًا، كحكمهم في الكفار، وحتى بلغنا أن بعض بلاد ما وراء النهر من بلاد الحنفية كان فيه مسجد واحد للشافعية، فكان والي البلد يخرج كل يوم لصلاة الصبح فيرى ذلك المسجد، فيقول: أما آن لهذه الكنيسة أن تغلق! فلم يزل كذلك حتى أصبح يومًا وقد سُدَّ باب ذلك المسجد بالطين واللبن ¬

_ (أ) في س والتنازع. (ب) في م من الآخر. (¬1) رواه مسلم 1/ 323 من حديث أبي مسعود. (¬2) قطعة من الحديث الخامس والثلاثين من هذا الأربعين.

فأعجب الوالي ذلك. ثم إن كُلًّا من أتباع الأئمة يفضل إمامه على غيره في تصانيفهم ومحاوراتهم (أ). (¬1) حتى رأيت حنفيًّا صنف مناقب (ب) أبي حنيفة فافتخر فيه (جـ) بأتباعه كأبي يوسف ومحمد وابن المبارك ونحوهم، ثم قال (د) يعرض بباقى المذاهب: أُولَئِكَ أَصْحَابِي فَجِئْنِي بِمِثْلِهِمْ ... إِذَا جَمَعَتْنَا يَا جَرِيرُ المَجَامِعُ (¬2) وهذا شبيه بدعوى الجاهلية، وغيره كثير. وحتى أن المالكية يقولون: إن الشافعي غلام مالك، والشافعية يقولون: أحمد بن حنبل غلام الشافعي، والحنابلة يقولون: الشافعي غلام أحمد بن حنبل، وقد ذكره أبو الحسين ابن الفراء في كتاب الطبقات (¬3)، من أتباع أحمد، والحنفية يقولون: الشافعي غلام أبي حنيفة، لأنه غلام محمد بن ¬

_ (أ) في س محاضراتهم. (ب) في م في مناقب. (جـ) في ب، م فيها. (د) في س ثم مال يعرض بباقي المذاهب حتى يقول. (¬1) فمن المالكية: القاضي عياض في مقدمة ترتيب المدارك، وابن فرحون في مقدمة الديباج المذهب، ومن الأحناف: أكمل الدين البابرتي في رسالة في ترجيح مذهب الإمام أبي حنيفة، والكردري في مناقب أبي حنيفة، ومن الشافعية: الجويني في مغيث الخلق، والغزالي في خاتمة المنخول، والرازي في مناقب الشافعي، ومن الحنابلة: ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد .... وغيرهم كثير. (¬2) ديوان الفرزدق 1/ 418 (طبعة دار بيروت) وفيه: أولئك آبائي. (¬3) طبقات الحنابلة 1/ 280.

الحسن، ومحمد غلام أبي حنيفة، قالوا: ولولا أن الشافعي من أتباع أبي حنيفة لما رضينا أن ننصب معه الخلاف، وحتى أن الشافعية يصفون (أ) أبا حنيفة بأنه من الموالي، وأنه ليس من أئمة الحديث، وأحوج ذلك الحنفية إلى الطعن في نسب الشافعي، وأنه ليس قرشيا، بل هو من موالي قريش، ولا إمامًا في الحديث لأن البخاري ومسلما أدركاه (¬1)، ولم يرويا عنه، ولم يدركا إمامًا إلا ورويا عنه، حتى احتاج الإمام فخر الدين والتميمي (¬2) في تصنيفهما مناقب الشافعي إلى الاستدلال على هاشميته (¬3). وحتى جعل كل فريق يروي السنة في تفضيل إمامه، فالمالكية رووا "يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل، فلا يوجد عالم أعلم من عالم المدينة" (¬4) قالوا: وهو مالك. ¬

_ (أ) في أيضعون من أبي حنيفة. (¬1) انتهى الكلام على حديث 32 في نسخة (أ) ثم خالفت نسخة (أ) جميعَ النسخ الثلاثة (ب) (س) (م) تماما، فهي تمثل كتابًا آخر، لا علاقة له بكتاب الطوفي، وهو تصرف من أحد النساخ سامحه الله. (¬2) هو عبد القاهر بن طاهر بن محمد التميمي أبو منصور البغدادي ت 429. انظر طبقات الشافعية الكبرى 5/ 136 ذكر له حاجي خليفة في كشف الظنون 2/ 1839 كتابًا في مناقب الشافعي. (¬3) انظر مناقب الإمام الشافعي لفخر الدين الرازي 25 - 28. (¬4) رواه أحمد 2/ 299 والترمذي 5/ 47 وقال: هذا حديث حسن، وقد روي عن ابن عيينة أنه قال: إنه مالك بن أنس.

والشافعية رووا "الأئمة من قريش" (¬1) و "تَعَلَّمُوْا من قريش وَلَا تُعَلِّمُوْهَا" (¬2) و "عالم قريش يملأ الأرض علمًا" (¬3) قالوا: ولم يظهر من ¬

_ (¬1) رواه أحمد في المسند 3/ 128 والنسائي في السنن الكبرى 3/ 467 من حديث أنس. (¬2) رواه أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده (المطالب العالية النسخة المسندة 4/ 326) وفي المصنف 12/ 169 وعنه ابن أبي عاصم في السنة 2/ 636 من طرت عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري، عن سهل بن أبي حثمة مرفوعا. قال البوصيري: رحاله ثقات (بواسطة هامش المطالب العالية). ورواه عبد الرزاق في المصنف 11/ 55 ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى 3/ 121 عن معمر عن الزهري (في المصنف عن سليمان بن أبي حثمة، وفي السنن الكبرى عن ابن أبي حثمة) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال. ورواه البيهقي في مناقب الشافعي 1/ 20 - 21 من طريق شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال: كان أبو بكر بن سليمان بن أبي حثمة -وكان من علماء قريش- يقول: فذكره. قال البيهقي: هكذا رواه شعيب بن أبي حمزة. ورواه محمد بن الوليد الزبيدي، عن الزهري، عن عبد الله بن واقد، عن أبي بكر بن سليمان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهو مرسل جيد. - ورواه الشافعي في المسند 2/ 194 ومن طريقه البيهقي في معرفة السنن والآثار (1/ 154 طبعة قلعجي) عن ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب أنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فذكره. - وروى أيضًا من حديث جبير بن مطعم رواه ابن أبي عاصم في السنة 2/ 636 والبيهقي في مناقب الشافعي 1/ 22 - 23. - وروى أيضًا من حديث عتبة بن غزوان، ومن حديث عبد الله بن السائب أخرجهما ابن أبي عاصم في السنة. - وروى أيضًا من حديث أنس، أخرجه أبو نعيم في الحلية 9/ 64 فالحديث صحيح بهذه المتابعات والشواهد. (¬3) رواه أبو داود الطيالسي في مسنده وأبو نعيم في حلية الأولياء 9/ 65 والخطيب في تاريخ بغداد 2/ 60 والبيهقي في مناقب الشافعي 2/ 26 من حديث ابن مسعود قال الذهبي: النضر، قال فيه أبو حاتم: متروك الحديث. سير أعلام النبلاء 10/ 82.

قريش بهذه الصفة إلا الشافعي. والحنفية رووا "يكون في أمتي رجل يقال له: النعمان، هو سراج أمتي، هو سراج أمتي، هو سراج أمتي، ويكون فيهم (أ) رجل يقال له: محمد بن إدريس هو أضر على أمتي من إبليس" (¬1). والحنابلة رووا "يكون في أمتي رجل يقال له: أحمد بن حنبل يصبر على سُنَّتِي صبر الأنبياء"، أو كما قال، ذهب عني لفظه. وقد ذكره أبو الفرج الشيرازي (¬2) في أول كتابه المبهج (ب). واعلم أن هذه الأحاديث ما بين صحيح لا يدل، أو دالٍّ لا يصح. أما الرواية في مالك والشافعي فجيدة لكنها لا تدل على مقصودهم، لأن عالم المدينة إن كان اسم جنس فعلماء المدينة كثير، ولا اختصاص لمالك دونهم، وإن كان اسم شخص فمن علماء المدينة الفقهاء السبعة وغيرهم من مشايخ مالك الذين أخذ عنهم، وكانوا حينئذ أشهر منه فلا وجه لتخصيصه ¬

_ (أ) في م في أمتي. (ب) في م المنهج. (¬1) قال أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب الموضوعات 2/ 48 هذا حديث موضوع، لعن الله واضعه، وهذه اللعنة لا تفوت أحد الرجلين، وهما مأمون، والجويباري، وكلاهما لا دين له، ولا خير فيه، كانا يضعان الحديث. (¬2) هو عبد الواحد بن محمد بن علي بن الشيرازي ثم المقدسي ثم الدمشقي أبو الفرج الأنصاري شيخ الشام في وقته، كان إماما عارفا بالفقه والأصول، شديدًا في السنة، زاهدا، له عدة تصانيف في الفقه والأصول منها (المبهج) ت 486 بدمشق. كتاب الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب 1/ 68.

بذلك دونهم، وإنما حمل أصحابَهُ على حمل الحديث عليه كثرةُ أتباعه وانتشار مذهبه في الأقطار، وذلك أمارة على ما قالوه. وكذلك "الأئمة من قريش" لا اختصاص للشافعي به، ثم (أ) هو محمول على الخلفاء في ذلك، وَرِدْفٌ على ذلك، احتجَّ به أبو بكر رضي الله عنه يوم السقيفة. وكذلك "تعلموا من قريش" لا اختصاص لأحد به. أما قوله: "عالم قريش يملأ الأرض علما" فابن عباس يزاحم الشافعي فيه، وهو أحق به لسبقه وصحبته ودعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - له في قوله: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" (¬1) وكان يسمى بحر العلم وحبر العرب، وإنما حمل الشافعية الحديث على الشافعي لاشتهار مذهبه وكثرة أتباعه، على أن مذهب ابن عباس مشهور بين العلماء لا ينكره أحد. وأما الرواية في أبي حنيفة وأحمد بن حنبل فموضوعة باطلة لا أصل لها. أما حديث "هو سراج أمتي" فأورده ابن الجوزي في الموضوعات، وذكر أن مذهب الشافعي لما اشتهر أراد الحنفية إخماله (ب) فتحدثوا مع مأمون بن أحمد السلمي (¬2)، وأحمد بن عبد الله الجويباري (¬3)، وكانا كذابين ¬

_ (أ) في م بل هو. (ب) في م إخماده. (¬1) رواه البخاري 1/ 66 ومسلم 4/ 1927 من حديث ابن عباس. (¬2) قال الذهي: أتى بطامَّات وفضائح. ميزان الاعتدال 3/ 429. (¬3) قال الذهبي: الجويباري ممن يضرب المثل بكذبه. ميزان الاعتدال 1/ 107.

وضَّاعين فوضعا هذا الحديث في مدح أبي حنيفة، وذم الشافعي، ويأبى الله إلا أن يتم نوره. وأما الرواية في أحمد بن حنبل فموضوعة قطعا، لأنا قدَّمنا أن أحمد كان أحفظ الناس للسنة وأشدهم بها إحاطة، حتى ثبت أنه كان يذاكر بألف ألف حديث، وأنه قال: خرجت مسندي من سبعمائة ألف حديث وخمسين ألف حديث، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله عزَّ وجلَّ، فما لم تجدوه فيه فليس بشيء. ثم إن هذا الحديث الذي أورده الشيرازي في مناقب أحمد ابن حنبل ليس في مسنده، فلو كان صحيحًا لكان هو أولى الناس بإخراجه والاحتحاج به في محنته التي طبق الأرض ذكرها. فانظر بالله أمرًا يحمل الأتباع على وضع الأحاديث في تفضيل أئمتهم وذم بعضهم، وما سَبَبُه إلّا تَنَافِيْهِم في المذاهب، بتحكيمهم الظواهر ونحوها على رعاية المصالح، الواضع بيانُها الساطعِ برهانُها، فلو اتفقت كلمتهم بطريق ما لما كان شيء مما ذكرناه عنهم. واعلم أن (أ) من أسباب الخلاف الواقع بين العلماء تعارض الروايات والنصوص. وبعض الناس يزعم أن السبب في ذلك عمر بن الخطاب، وذلك أن الصحابة (ب) استأذنوه في تدوين السنة من ذلك الزمان فمنعهم من ذلك، ¬

_ (أ) في م أن أسباب. (ب) في م أصحابه.

وقال: لا أكتب مع القرآن غيره، مع علمه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اكتبوا لأبي شاه" (¬1) خطبة الوداع، وقال: "قيدوا العلم بالكتابة (أ) " (¬2) قالوا: فلو ترك الصحابة يدون كل واحد منهم ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لانضبطت السنة، ولم يبق بين أحد (ب) من الأمة وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل حديث إلا الصحابي الذي دون روايته، لأن تلك الدواوين كانت تتواتر عنهم إلينا، كما تواتر البخاري ومسلم ونحوهما (¬3). ¬

_ (أ) في م بالكتاب. (ب) في س أحد الأمة، وفي م آخر الأمة. (¬1) رواه البخاري 1/ 53 من حديث أبي هريرة. (¬2) رواه الحاكم في المستدرك 1/ 106، والطبراني في المعجم الأوسط 1/ 259 من حديث عبد الله بن عمرو وفي سنده عبد الله بن المؤمل. قال الذهبي في التلخيص: ابن المؤمل ضعيف. (¬3) بئس هؤلاء الناس الذين يطعنون في الخليفة الراشد الهادي المهدي بذلك، فإنه لم ينفرد بالمنع، بل أُثِرَ المنع من كتابة الحديث عن جماعة من الصحابة، منهم أبو سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود، وأبي موسى الأشعري، وأبي هريرة، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، ومن التابعين عمر بن عبد العزيز، وعبيدة السلماني، والقاسم بن محمد، وعمرو بن دينار، والضحاك، وغيرهم، وقد ساق الخطيب البغدادي في تقييد العلم روايات المنع من كتابة الحديث عنهم. ثم قال: ثبت أن كراهة من كره الكتاب من الصدر الأول إنما هي لئلا يضاهى بكتاب الله تعالى غيره، أو يشتغل عن القرآن بسواه. 57. تنبيه: عَدَّ الحافظ ابن رجب هذا الكلام كذبا وفجورا من الطوفي، ودسيسة من دسائسه الخبيثة المتضمنة: أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه هو الذي أضل الأمة قصدا منه وتعمدا. انظر ذيل طبقات الحنابلة 2/ 368.

الوجه الثالث (¬1): فقد ثبت في السنة معارضة النصوص بالمصالح ونحوها في قضايا؛ منها: معارضة ابن مسعود النص (أ) والإجماع في التيمم لمصلحة الاحتياط للعبادة كما سبق. ومنها قوله عليه الصلاة والسلام لأصحابه حين فرغ من الأحزاب: "لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة" (¬2) فصلى بعضهم قبلها، وقالوا: لم يرد منا ذلك، وهو شبيه بما ذكرناه. ومنها قوله عليه الصلاة والسلام لعائشة: "لولا قومك حديث عهد بالإسلام لهدمت الكعبة، وبنيتها على قواعد إبراهيم" (¬3) وهو يدل على أن بناءها على قواعد إبراهيم هو الواجب في حكمها، فتركه لمصلحة التألف (ب). ومنها أنه عليه الصلاة والسلام لما أمرهم يحعل الحج عمرة، قالوا: كيف وقد سَمَّينَا الحَجَّ؟ (¬4) وتوقفوا، وهو معارضة للنص بالعادة، وهو شبيه بما نحن فيه، وكذلك يوم الحديبية لما أمرهم بالتحلل توقفوا تمسكا ¬

_ (أ) في ب للنقل. (ب) في م الناس. (¬1) من وجوه أدلة تقديم رعاية المصلحة على النصوص والإجماع عند المؤلف. (¬2) رواه البخاري 1/ 321 ومسلم 1/ 1391 من حديث ابن عمر. (¬3) رواه البخاري 2/ 573 ومسلم 2/ 968 من حديث عائشة. (¬4) انظر صحيح البخاري 2/ 567 ومسلم 2/ 910.

بالعادة في أن لا حلَّ (أ) قبل قضاء المناسك، حتى غضب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: ما لي آمر بالشيء فلا يفعل (¬1). ومنها ما روى أبو يعلى الموصلي في مسنده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا بكر ينادي: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، فوجده عمر فَرَدَّهُ، وقال: إذن (ب) يتكلوا (¬2). وكذلك رَدَّ عمر أبا هريرة عن مثل ذلك في حديث صحيح (¬3). وهو معارضة لنص الشرع بالمصلحة. ومنها ما روى الموصلي أيضًا أن رجلا دخل المسجد يصلى فأعجب الصحابة سمته، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: "اذهب فاقتله" فذهب فوجده يصلي، فرجع عنه، ثم أمر عمر بذلك فرجع عنه، كلاهما يقول: كيف أقتل رجلا يصلي؟ ثم أمر عليا بقتله فذهب فلم يجده، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو قتل لم يختلف من أمتي إثنان" (¬4). فهذان الشيخان قد تركا النص، ¬

_ (أ) في م إن أحد لا يحل. (ب) في س إذا. (¬1) انظر صحيح البخاري 2/ 978. (¬2) رواه أبو يعلى في مسنده 1/ 100 قال الهيثمي: وفي إسناده سويد بن عبد العزيز وهو متروك. مجمع الزوائد (1/ 172 طبعة حسين سليم أسد). (¬3) رواه مسلم 1/ 60 من حديث أبي هريرة. (¬4) رواه أبو يعلى في مسنده 1/ 90 قال الهيثمي: وفيه موسى بن عبيدة وهو متروك. مجمع الزوائد 6/ 226.

ولا مستند لهما إلا استحسان إقباله على العبادة. ولا يقال: إنما تركا هذا النص على قتله بقوله عليه الصلاة والسلام: "نهيت عن قتل المصلين" (¬1) لأن ذلك نسخ في حق هذا الشخص لهذا النص الخاص المتأخر، فظهر أن تركهما للأمر (أ) بقتله إنما كان استحسانًا منهما مُجَرَّدًا، وهو من باب ما نحن فيه من معارضة النصوص ونحوها بالمصالح. هذا مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر عليهما ترك أمره، ولا عاتبهما، ولاَ ثرَّب عليهما، بل سلَّم لهما حالهما، وأجاز اجتهادهما لما علم من مرتبتهما وصدقهما (ب) في ذلك، فكذلك من قدم رعاية مصالح المكلفين على باقي أدلة الشرع، يقصد بذلك إصلاح شأنهم وانتظام حالهم وتحصيل ما تفضل الله عزَّ وجلَّ به عليهم من الصلاح وجمع الأحكام عن التفريق (جـ)، وائتلافها عن الاختلاف، فوجب أن يكون جائزا إن لم يكن متعينا، ووجب أن يكون تقديم رعاية المصالح على باقي أدلة الشرع من مسائل الاجتهاد على أقل أحواله، وإلا فهو راجح (د) متعين كما ذكرنا، فقد ظهر بما قررناه أن ¬

_ (أ) في ب وظهر تركهما الأمر، وفي م أن تركهما الأمر. (ب) في س، م وقصدهما. (جـ) في س من التفرق. (د) في س أرجح. (¬1) رواه الطبراني في المعجم الكبير 18/ 26 من حديث أنس. قال الهيثمي وفيه عامر بن يساف وهو منكر الحديث. مجمع الزوائد 1/ 296.

دليل رعاية / المصالح أقوى من دليل الإجماع فلنقدم (أ) عليه، وعلى غيره من أدلة الشرع عند التعارض بطريق البيان. فإن قيل: حاصل ما ذهبتم إليه تعطيل أدلة الشرع بقياس مجرد، وهو كقياس إبليس فاسد الوضع والاعتبار. قلنا: هذا وَهَمٌ، واشتباه من نائم بعيد الانتباه، وإنما هو تقديم دليل شرعي على أقوى منه (¬1) وهو متعين، للإجماع على وجوب العمل بالراجح، كما قدمتم أنتم الإجماع على النص، والنص على الظاهر. وقياس إبليس وهو قوله {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} [سورة الأعراف: 13] لم يقم عليه ما قام على رعاية المصالح من البراهين، وليس هذا من باب فساد الوضع، بل من باب تقديم الراجح (ب) كما ذكرنا. فإن قيل: الشرع أعلم بمصالح الناس وقد أودعها أدلة الشرع وجعلها أعلامًا (جـ) عليها يعرف بها، وترك أدلته لغيرها مراغمة ومعاندة له. قلنا: أما كون الشرع أعلم بمصالح المكلفين فنعم، وأما كون ما ذكرناه من رعاية المصالح تركا لأدلة الشرع بغيرها فممنوع، بل إنما يترك أدلته بدليل شرعي راجح عليها مستند إلى قوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار" ¬

_ (أ) في س فليقدم. (ب) في م رعاية المصالح. (جـ) في س علامات. (¬1) كذا في النسخ، ولعل المقصود "وإنما هو تقديم دليل شرعي على (ما هو) أقوى منه.

كما قلتم في تقديم الإجماع على غيره من الأدلة. ثم إن الله عزَّ وجلَّ جعل لنا طريقا إلى معرفة مصالحنا عادة، فلا نتركه لأمر مبهم يحتمل أن يكون طريقا إلى المصلحة، ويحتمل أن لا يكون. فإن قيل: إجماع الأمة حجة قاطعة فلا يُخَالَفُ. قلنا: إن عنيتم بكونه قاطعا القطع (أ) العقلي الذي لا يحتمل النقيض كقولنا: الواحد نصف الاثنين، فلا نسلم أن الإجماع قاطع بهذا المعنى، وإن عنيتم به استناده إلى دليل قاطع فقد سبق تفصيل جوابه في الاعتراض على دلالة الآية الثانية من أدلة الإجماع، وإن عنيتم به أنه لا يجوز خلافه فهو عين الدعوى ومحل النزاع، بل عندنا يجوز خارقه بأقوى منه وقد بيناه. فإن قيل: خلاف الأمة في مسائل الأحكام رحمة واسعة (ب) فلا يحويه حصرهم في جهة واحدة لئلا يضيق عليهم مجال الاتساع. قلنا: هذا الكلام ليس منصوصا عليه من جهة الشرع حتى يُمتثل، ولو كان لكنَّ مصلحة الوفاق أرجح من مصلحة الخلاف فتقدم. ثم ما ذكرتموه من مصلحة الخلاف بالتوسعة على المكلفين مُعَارَضٌ بمفسدة تعرض منه، وهو أن الآراء إذا اختلفت وتعددت اتبع بعض الناس رخص (جـ) المذاهب فأفضى إلى الانحلال والفجور كما قال بعضهم: ¬

_ (أ) في م القاطع. (ب) في م وسعة. (جـ) في م أرخص.

فَاشْرَبْ وَلُطْ وَازْنِ وَقَامِر وَاحْتَجِجْ ... فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ بِقَوْلِ إمامِ (¬1) يعني بذلك شرب النبيذ، وعدم الحد في اللواط على رأي أبي حنيفة، والوطء في الدبر على ما يعزى إلى مالك، ولعب الشطرنج على رأي الشافعي. وأيضًا فإن بعض أهل الذمة ربما أراد الإسلام فيمنعه كثرة الخلاف وتعدد الآراء ظنا منه أنهم يخطئون (¬2) في عمياء، لأن الخلاف منفور عنه بالطبع، ولهذا قال الله عزَّ وجلَّ {الله نزل أحسن الحديث كتابًا متشابها} [سورة الزمر: 23] أي: يشبه بعضه بعضا، ويصدق بعضه بعضا، لا يُختَلَفُ إلا بما فيه من المتشابهات، وهي ترجع إلى المحكمات بطريقها، ولو اعتمدت رعاية المصالح المستفادة من قوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار" على ما تقرر لَاتَّحَدَ طريقُ الحكم، وانتفى الخلاف فلم يكن ذلك شبهة في امتناع (أ) من أراد الإسلام من أهل الذمة وغيرهم. فإن قيل: هذه الطريقة التي سلكتها إما أن تكون خطأ فلا يلتفت إليها، أو صوابا فإما أن ينحصر الصواب فيها أو لا، فإن انحصر لزم أن الأمة من أول الإسلام إلى حين ظهور هذه الطريقة على خطأ، إذ لم يقل بها أحد ¬

_ (أ) في م منع. (¬1) البيت الأخير من مقطوعة أوردها السبكي في معيد النعم ومبيد النقم 102 ونسبه لبعض سفهاء الشعراء. وقال: رأيي في مثل هذا الشاعر أن يضرب بالسياط ويطاف به في الأسواق. قبحه الله تعالى وأخزاه. وانظر بقية كلامه فيه ص 103. (¬2) كذا في النسخ، ولعلها يخطبون.

منهم، وإن لم ينحصر فهي طريق جائزة من الطرق، لكن طرق الأئمة التي اتفقت الأمة على اتباعها أولى بالمتابعة لقوله عليه الصلاة والسلام: "اتبعوا السواد الأعظم، فإنه من شذ شذ في النار" (¬1). فالجواب أنها ليست خطأ، لما ذكرنا عليها من البرهان، ولا الصواب منحصر فيها قطعا، بل ظنا واجتهادا، وذلك يوجب المصير إليها، إذ الظن في الفرعيات كالقطع في غيرها، وما يلزم على هذا من خطأ الأمة فيما قبله لازم على رأي كل ذي قول أو طريقة انفرد بها غير مسبوق إليها، والسواد الأعظم الواجب اتباعه هو الحجة والدليل الواضح، وإلا لزم أن يتبع العلماء العامة إذا خالفوهم، لأن العامة أكثر، وهو السواد الأعظم. والله عزَّ وجلَّ أعلم بالصواب. واعلم أن هذه الطريقة التي قررناها مستفيدين لها من الحديث المذكور ليست هي القول بالمصالح المرسلة على ما ذهب إليه مالك، بل هي أبلغ من ذلك، وهي التعويل على النصوص والإجماع في العبادات والمقدرات، وعلى اعتبار المصالح في المعاملات وباقي الأحكام. وتقرير ذلك أن الكلام في أحكام الشرع إما أن يقع في العبادات والمقدرات ونحوها، أو في المعاملات والعادات وشبهها، فإن وقع في الأول اعتبر فيه النص والإجماع ونحوهما من الأدلة، غير أن الدليل على الحكم إما أن يَتَّحِدَ أو يَتَعَدَّدَ، فإن اتَّحَدَ مثل أن كان فيه آية أو حديث أو قياس أو غير ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

ذلك ثبت به، وإن تَعَدَّدَ الدليل مثل أن كان آية وحديثا وقياسا واستصحابا ونحوها، فإن اتفقت الأدلة على إثبات أو نفي ثبت بها، وإن تعارضت فيه فإما تعارضا يقبل الجمع، أو لا يقبله، فان قبل الجمع جمع بينهما لأن الأصل في أدلة الشرع الإعمال، لا الإلغاء، غير أن الجمع بينهما يجب أن يكون بطريق قريب واضح لا يلزم منه التلاعب ببعض الأدلة، وإن لم يقبل الجمع فالإجماع مقدم على ما عداه من الأدلة التسعة عضر، والنَّصُّ مقدم على ما سوى الإجماع. ثم إنَّ النص منحصر في الكتاب والسنة، ثم لا يخلو إما أن ينفرد بالحكم أحدهما أو يجتمعا فيه، فإن انفرد به أحدهما فإما الكتاب أو السنة، فإن انفرد به الكتاب فإما أن يَتَّحِدَ الدليلُ أو يَتَعَدَّدَ، فإن اتحد بأن كان في الحكم آية واحدة عمل بها إن كانت نَصًّا أو ظَاهِرًا فيه، وإن كانت مجملة فإن كان أَحَدُ احتماليها أو احتمالاتها أشبَهَ بالأدب مع الشرع عمل به، وكان ذلك كالبيان، وإن (أ) استوت احتمالاتها في الأدب مع الشرع جاز الأمران، والمختار أن يتعبد بكل منهما مرة، وإن لم يظهر وجه الأدب فيها وقف الأمر على البيان، وإن تَعَدَّدَ الدليل من الكتاب بأن كان في الحكم منه آيتان فأكثر فإن اتَّفَقَ مقتضاهن فكالآية الواحدة، وإن اختلف فإن قبل الجمع جمع بينهن بتخصيص أو بتقييد أو نحوه، فإن لم يقبل الجمع فإن علم نسخ بعضها بعينه فالعمل على ما سواه، وإن لم يعلم نسخ بعضها بعينه فالمنسوخ ¬

_ (أ) في س إذا.

منها مبهم، ويستدل عليه بموافقة السنة غيره، إذ السنة بيان الكتاب وهي إنما تبين ما ثبت حكمه، لا ما نُسِخَ. وإن انفردت السنة بالحكم فإن كان فيه حديث واحد، فإن صح عمل به كالآية الواحدة، وإن لم يصح لم يعتمد عليه وأخذ الحكم من الكتاب إن وجد، وإلا فمن الاجتهاد إن ساغ مثل أن يعمل بما هو الأشبه بالأدب مع الشرع وتعظيم حقه، وإن لم يَسُغْ فيه الاجتهاد وقف على البيان، وإن كان فيه أكثرُ من حديث فإن صحت جميعها فإمَّا أن تتساوى في الصحة أو تتفاوت، فإن تساوت في الصحة فإن اتفق مقتضاها فكالحديث الواحد، وإن اختلف فإن قبل الجمع جمع بينهما، وإلا فبعضها منسوخ، فإن تعين، وإلا استدل عليه لموافقة الكتاب أو الإجماع غيره، أو بغير ذلك من الأدلة، وإن لم يصح جميعها فإن كان الصحيح منها واحدا فكما لو لم يكن في الحكم إلا حديث واحد وإن كان الصحيح أكثر من واحد فإن اتفقت عمل بها، وإن اختلفت جمع بينهما إن أمكن الجمع، وإلا فبعضها منسوخ كما سبق فيما إذا كان جميع الأحاديث صحيحا، فإن تفاوتت في الصحة بأن كان بعضها أصح من بعض، فإن اتفق مقتضاها فلا إشكال، وهي كالحديث الواحد، وإن تعارضت فإن قبلت الجمع جمع بينهما، فإن لم تقبله قدم (أ) الأصح فالأصح، ثم إن اتحد الأصح عمل به، وإن تعدد فإن اتفق فكالحديث الواحد، وإن تعارض جمع بينه إن قبل الجمع، وإلا فبعضه منسوخ معين أو مبهم ¬

_ (أ) في م يقدم.

يستدل عليه بما سبق. وإن اجتمع في الحكم كتاب وسنه فإن اتفقا عمل بهما وأحدهما بيان للآخر (أ) أو مؤكد له، وإن اختلفا فإن أمكن الجمع بينهما جمع، وإن لم يمكن فإنه اتَّجهَ نسخ أحدهما بالآخر نسخ به، وإن لم يَتَّجِهْ فهو محل نظر وتفصيل. والأشبه تقديم الكتاب لأنه الأصل الأعظم فلا يترك بفرعه (ب). هذا تفصيل القول في أحكام العبادات. أما المعاملات ونحوها فالمتبع فيها مصلحة الناس كما تقرر، فالمصلحة وباقي أدلة الشرع إما أن يتفقا أو يختلفا، فإن اتفقا فبها ونعمت كما اتفق النص والإجماع والمصلحة على إثبات الأحكام الخمسة الكلية الضرورية، وهي قتل القاتل والمرتد وقطع السارق وحد القاذف والشارب ونحو ذلك من الأحكام التي وافقت فيها أدلة الشرع المصلحة، وإن اختلفا فإن أمكن الجمع بينهما بوجه ما جُمِعَ، مثل أن يحمل بعضُ الأدلة على بعض الأحكام أو الأحوال دون بعض، على وجه لا يخل بالمصلحة، ولا يُفضي إلى التلاعب بالأدلة أو بعضها، فإن تعذر الجمع بينهما قدمت المصلحة على غيرها لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار" وهو خاص في نفي الضرر المستلزم لرعاية المصلحة فيجب تقديمه، ولأن المصلحة هي المقصود من سياسة المكلفين بإثبات الأحكام، وباقي الأدلة كالوسائل، والمقاصد واجبة ¬

_ (أ) في م الآخر. (ب) في ب لفرعه.

التقديم على الوسائل. ثم إن المصالح والمفاسد قد تتعارض، فتحتاج إلى ضابط يدفع محذور تعارضها، فنقول: كل حكم تفرضه فإما أن تتمحض مصلحته، أو مفسدته، أو يجتمع فيه الأمران، فإن تَمحَّضَت مصلحته فإن اتحدت مصلحته بأن كانت فيه مصلحة واحدة حُصلَتْ، وإن تعددت بأن كان فيه مصلحتان أو مصالح فإن أمكن تحصيل جميعها حُصلَ، وإن لم يمكن حُصلَ الممكنُ، فإن تعذَّرَ تحصيل ما زاد على المصلحة الواحدة فإن تفاوتت المصالح في الاهتمام بها حُصلَ الأَهَمُّ منها، وإن تساوت في ذلك حُصلَتْ واحدةٌ منها بالاختيار إلا أن يقع هاهنا تهمة فبالقرعة. وإن تَمَحَّضَت مفسدته فإن اتَّحَدَتْ دُفِعَتْ، وإن تَعَدَدَّتْ فإن أمكن درء جميعها دُرِئَتْ، وإن تعذر دُرِئَ منها الممكنُ، فإن تَعَذَّرَ دَرْأُ مازاد على مفسدة واحدة، فإن تفاوتت عظم المفسدة دُفِعَ أعظمها، وإن اتساوت في ذلك فبالاختيار أو بالقرعة إن تحققت (أ) التهمة. وإن اجتمع فيه الأمران المصلحة والمفسدة فإن أمكن تحصيل المصلحة ودفع المفسدة تعين، وإن تعذر فعل الأهم من تحصيل أو دفع إن تفاوتا في الأهمية، وإن تساويا فبالاختيار أو القرعة إن اتَّجَهَتْ التُّهْمَةُ. وإن تعارض مصلحتان أو مفسدتان، أو مصلحة ومفسدة وترجح كل واحد من الطرفين بوجه (ب) دون وجه اعتبرنا أرجح الوجهين تحصيلا أو دفعا، ¬

_ (أ) في س تمحضت. (ب) في م من وجه.

فإن تساويا في ذلك عدنا إلى الاختيار أو القرعة. فهذا ضابط مستفاد من قوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار" يتوصل به إلى أرجح الأحكام غالبا، وينتفي به الخلاف بكثرة الطرق والأقوال، مع أن في اختلاف الفقهاء فائدة عرضية خارجة عن المقصود، وهي معرفة الحقائق التي تتعلق بالأحكام وأعراضها ونظائرها وأشباهها، والفرق بينها، وهي شبيهة بفائدة الحساب من جزالة (أ) الرأي. وإنما اعتبرنا المصلحة في المعاملات ونحوها دون العبادات وشبهها لأن العبادات حقُّ الشرعِ خَاصٌّ به، ولا يمكن معرفة حقه كمًّا وكيفًا وزمانا ومكانا إلا من جهته، فيأتي به العبد على ما رَسَمَ له سَيدُهُ، ولأن غلام أحدنا لا يعد مطيعًا (ب) خادمًا له إلا إذا امتثل ما رَسَمَ له سَيدُهُ، أو فعل ما يعلم أنه يرضيه فكذلك هاهنا؛ ولهذا لما تعبدت الفلاسفة بعقولهم ورفضوا الشرائع أسخطوا الله عزَّ وجلَّ وضلوا وأضلوا، وهذا بخلاف حقوق المكلفين فإن أحكامها سياسية شرعية وضعت لمصالحهم فكانت هي المعتبرة، وعلى تحصيلها المُعَوَّلُ (جـ). ولا يقال: إن الشرع أعلم بمصالحهم (د) فيؤخذ (هـ) من أدلته؛ ¬

_ (أ) في جزالة. (ب) في س طائعا. (جـ) في م هو المعول. (د) في م بمصالحها. (هـ) في م فليؤخذ.

لأنا (أ) نقول: قد قررنا أن رعاية المصلحة من أدلة الشرع، وهي أقواها وأَخَصُّهَا فلنقدمها في تحصيل المصالح. ثم إن هذا إنما يقال في العبادات الى تَخفَى مصالحها على (ب) مَجَارِي العقول والعادات، أما مصلحة سياسة المكلفين في حقوقهم فهي معلومة لهم بحكم العادة والعقل، فإن (جـ) رأينا دليل الشرع متقاعدا عن إفادتها، علمنا أنه أحالنا في تحصيلها على رعايتها، كما أن النصوص لما كانت لا تفي بالأحكام علمنا أَنَّا أُحِلْنَا بتمامها على القياس، وهو إلحاق المسكوت عنه، بالمنصوص عليه، بجامع بينهما. والله عزَّ وجلَّ أعلم بالصواب. ¬

_ (أ) في م فإنا. (ب) في م عن. (جـ) في ب فاذا.

الحديث الثالث والثلاثون

الحديث الثالث والثلاثون: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموالَ قومٍ ودماءَهمْ، ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر. حديث حسن، رواه البيهقي وغيره هكذا (¬1)، وبعضه في الصحيحين. الكلام على هذا الحديث في مباحث: الأول: قوله: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم" إن قيل: قد اشتهر في (لو) أنها تقتضي امتناع الشيء لامتناع غيره، فهي إذًا هاهنا تقتضي امتناع دعوى رجال أموال غيرهم، لامتناع أن يعطى الناس بدعواهم، لكن ذلك لم يمتنع (أ)، إذ دعوى بعض الناس مال بعض ودمه كثير جدًّا. فجوابه من وجهين: أحدهما: أن قولهم في (لو): إنها تقتضي امتناع الشيء لامتناع غيره (¬2)، هي عبارة مشايخ النحاة، أما عبارة إمام الفن سيبويه فيها فهي: إنَّ (لَوْ) لِمَا كان سيقع لوقوع غيره (¬3). وعلى هذا فلا إشكال، فإن (ب) دعوى ¬

_ (أ) في ب تلك لم تمتنع. (ب) في ب لان. (¬1) رواه ابن ماجه 2/ 778 والبيهقي في السنن الكبرى 10/ 252 صححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 2/ 252. (¬2) انظر همع الهوامع في شرح جمع الجوامع للسيوطي 4/ 343. (¬3) الكتاب لسيبويه 4/ 224.

رِجَالٍ مَالَ قَوْمٍ كان سيقع، لوقوع إعطاء الناس بدعاويهم (أ). فإن قيل: الإشكال باق لأن الناس يدعى بعضهم مال (ب) بعض، سواء أعطُوا بدعاويهم (جـ)، أو لم يعطَوا. فجوابه بالوجه الثاني: وهو أن المراد بدعوى الرجال أَمْوَالَ قَومٍ إعطاؤهم إياها، ودفعها إليهم. وتقدس الحديث: لو يعطى الناس بدعواهم لأخذ رجال أموالَ قومٍ وسفكوا دماءهم، فوضع الدعوى موضع الأخذ، لأنها سببه، ولا شك أن أخذ مال المُدَّعَى عليه يمتنع، لامتناع إعطاء المُدَّعِي بمجرد دعواه (¬1)، وكذلك أخذ مال المُدَّعَى عليه سيقع لوقوع إعطاء المُدَّعِي بدعواه (¬2)، ولا يقع بدون ذلك. فصح معنى (لو) في الحديث على القولين فيه. البحث الثاني: أن الرجال هم ذكور بني آدم بلا خلاف، أما القوم فهل يختص بالرجال، أم يعمهم والنساء؟ فيه قولان: حجة الأول: قوله عزَّ وجلَّ {لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرًا منهن} [سورة الحجرات: 12]. ¬

_ (أ) في م بدعواهم. (ب) في م على بعض. (جـ) في م بدعواهم. (¬1) هذا التقرير مبني على أن لو حرف امتناع الشيء لامتناع غيره. (¬2) وهذا مبني على أنها لو حرف لما كان سيقع لوقوع غيره.

وقول زهير (¬1): وما أَدرِي -وَسَوفَ إِخَالُ أَدْرِيْ- ... أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ وجه الدلالة أنه في الآية قابل بين القوم والنساء مقابلة صحيحة، والمقابلة الصحيحة إنما هي بين الرجال والنساء، فالقوم إذًا هم الرجال، لا غير. حجة الثاني: قوله عزَّ وجلَّ {كذبت قوم نوح} [سورة الشعراء: 106] ونحوه، والمراد الرجال والنساء جميعا، وكذلك العرب يقول (أ) أحدهم: هذا ليس في أرض قومي، وليس من لسان قومي ونحوه، ومراده الرجال والنساء. فقد بان مأخذ القولين، وعلى كل واحد منهما اعتراض: أما الأول: فيعترض عليه بأنه إنما دل على أن القوم هم الرجال خاصة بقرينة التقسيم، إذ قابل بين القوم والنساء، كما يقابل بين الرجال والنساء، حتى إنه لولا ذلك لم يدل على اختصاص القوم بالرجال. وأما الثاني: فيعترض عليه بأن النساء إنما دخلن في لفظ القوم بقرينة التكليف ونحوها (ب)، ولولاها (جـ) لما دخلن فيه. إذا عرف هذا فالمتداعيان إما رجلان، أو امرأتان، أو رجل وامرأة. فإن قيل (د): فلم قال: "لادَّعى رجال أموال قوم" ولم يقل: رجالٌ ¬

_ (أ) في م يقول ليس هذا. (ب) في م ونحوه. (جـ) في (س) ولولاهما. (د) في م قلت. (¬1) شعر زهير بن أبي سلمى صنعة الأعلم الشنتمري (136 تحقيق د / فخر الدين قباوة).

أموالَ رجالٍ، أو قومٌ أموالَ قومٍ؟ قلنا: يحتمل أنه غاير بين اللفظين دفعا لتكرار (أ) أحدهما بغير فائدة، ويحتمل على القول بأن النساء يدخلن في لفظ القوم أن يقال: لما كان الغالب أن المدعي إنما يكون رجلا إذ (ب) المرأة ليست من أهل الدعوى وحضور مجالس الحُكَّامِ، والمُدَّعَى عليه يكون رجلا وامرأة قال: "لا دَّعى رجال أموال قوم" حملا على الغالب في ذلك. البحث الثالث: لم قدم ذكر الأموال على الدماء مع أنها أهم من الأموال وأعظم خطرا، ولذلك أول ما يُقْضَى بين الناس يوم القيامة في الدماء (¬1). وجوابه: أن الخصومات في الأموال أكثر، لأن أخذها أيسر (جـ)، وامتداد الأيدي إليها أسهل (د)، ولهذا ترى الإنسان يسرق ويغصب ويخطف ويجحد المال في عمره ألف مرة وأكثر، ولعله لا يقتل أحدا أبدا، وإن قتل فنفسًا واحدة أو نفسين، وهو قليل بالنسبة إلى أخذ المال. ولو قدم ذكر الدماء على الأموال هاهنا لكان ذلك لكونها أهم كما ذكرنا، على أن عطف الدماء على الأموال بالواو، وهي لا تفيد ترتيبا. ¬

_ (أ) في (س) لتكرر. (ب) في م لأن. (جـ) في م أسهل. (د) في م أيسر. (¬1) رواه البخاري 6/ 2517 ومسلم 3/ 1304 من حديث ابن مسعود.

البحث الرابع: قوله: "لكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر" إن قيل: لكن معناها الاستدراك، وهي إنما تكون بين نفي وإثبات نحو ما قام زيد، لكن عمرو قام، وزيد قائم، لكن عمرو لم يقم. وليست لكن هاهنا كذلك، إذ لا (أ) بعدها إثبات، ولا نفي قبلها. قلنا: هي كذلك في المعنى، إذ معنى قوله: "لو يعطى الناس بدعواهم" لا يعطى الناس بدعواهم المجردة، لكن بالبينة، وهي على المدعي، وهو كلام صحيع جار على القاعدة في لكن. البحث الخامس: قد كان يمكن أن يقال: البينة على المدعي واليمين على المنكر، والبينة على من ادعى واليمين على من أنكر، والبينة على من ادعى واليمين على المنكر، والبينة على المدعي واليمين على من أنكر، كما في لفظ الحديث، فلم خص هذه العبارة، دون العبارات الثلاث الأُوَّلِ؟ قلنا: يحتمل أن يكون هذا من باب الاتفاق، وأنه لو أتى بغير هذه العبارة من تلك العبارات لجاز، ويحتمل أن يقال: إن في المدعى ضربا من التعريف المعنوي لظهوره وإقدامه على الدعوى فأتى فيه بلام التعريف المناسب له، والمنكر فيه ضرب من الإبهام والتنكير لاستخفائه (ب) وتأخره وكونه إذا (جـ) سكت لم يترك، فأتي فيه بِمَنْ إذ فيها إبهام وتنكير شبيه بحاله، ¬

_ (أ) في (ب) ليس. (ب) في (ب) لإخفائه. (جـ) في م إن.

ويحتمل أن يجعل هذا السؤال دوريًّا مردودًا لأنه لو أتى بغير هذه العبارة لقيل: لم لم يأت بغيرها؟ البحث السادس: وجه الحكمة في أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر هو أن جانب المدعي ضعيف لدعواه خلاف الأصل، وجانب المنكر قوي لموافقته الأصل (أ) في براءة ذمته، والبينة حجة قوية لبعدها عن التهمة، واليمين حجة ضعيفة لقربها منها، فجعلت الحجة القوية وهي البينة في الجانب الضعيف وهو جانب المدعي، والحجة الضعيفة في الجانب القوى وهو جانب المنكر تعديلا، وهو توجيه حسن ذكره بعض أهل العلم. واعلم أن قوله: "واليمين على من أنكر" عام خُصَّ بِصُوَرٍ استثنيت منه: إحداهن: اليمين مع الشاهد الواحد في جانب المدعي. الثانية: يمين المدعى إذا ردَّها عليه المنكر على رأي الشافعي (¬1)، ورواية عن أحمد، ووجه في مذهبه (¬2). الثالثه: يمين ولي الدم في القسامة وهو مدعي. الرابعة: أيمان الأمناء حين يتهمون في دعاويهم كالوكيل والمرتهن ونحوهما وما وجد من هذه الصور. والله عزَّ وجلَّ أعلم بالصواب. ¬

_ (أ) في (س) للأصل. (¬1) انظر المهذب للشيرازي (5/ 571 طبعة الزحيلي). (¬2) انظر المغني لابن قدامة (14/ 220 طبعة التركي).

الحديث الرابع والثلاثون

الحديث الرابع والثلاثون: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان. رواه مسلم (¬1). هذا الحديث قاله أبو سعيد حين غَيَّرَ مروان أو غيره شيئًا في الصلاة، فقام رجل فقال: غيرتم يا مروان أو نحو هذا، فلم يلتفت إليه، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... الحديث. والمنكر ما لا يجوز في الشرع، فدليله يأباه وينكره، والمعروف خلافه. قوله: "من رأى منكم منكرا فليغيره" هو خطاب للأمة جميعها، حاضرها حينئذ بمشافهتها بالأمر، وغائبها ممن يأتي لقوله عليه الصلاة والسلام: "حكمي على الواحد حكمي (أ) على الجماعة" (¬2) أو لأن الحاضر يتضمن (ب) الغائب. وقوله: "رأى" يحتمل أنه من رأي (جـ) العين، ثم يقاس عليه ما علمه ولم يره فيجب تغييره مع القدرة؛ لأن المقصود دفع مفسدة المنكر، ولا فرق ¬

_ (أ) في م كحكمي. (ب) في ب، م تضمن. (جـ) في م رؤية. (¬1) 1/ 69. (¬2) لا أصل له. انظر: المقاصد الحسنة ص 192، والدرر المنتثرة للسيوطي ص 110، والفوائد المجوعة للشوكاني ص 200.

بين ما أبصره، أو علمه ولم يره، ويحتمل أن رأى من رؤية القلب، أي: من علم منكم منكرا فليغيره، فهو أعم مما أبصره أو علمه، وهو أشبه في النظر وإن كان لفظ رأى ظاهرا في الإبصار. وقوله: "فليغيره" أي: يزيله ويبدله بغيره، وغير المنكر هو المعروف، وهو ما عرفه الشرع وأجازه من واجب أو مندوب أو مباح، ولا واسطة بينهما على هذا، أعني تفسير المعروف والمنكر. مما يجوز وبما لا يجوز، وربما أريد بالمعروف الطاعة، وبالمنكر المعصية، فعلى هذا ثبتت الواسطة بينهما، وهو المباح إذ ليس بطاعة ولا معصية. ثم الأمر بتغيير المنكر يقتضي وحوب إنكاره مطلقا، والتحقيق التفصيل وهو أن من رأى منكرا فإن قدر على إنكاره، وأمن على نفسه، ولم يخف تزايد المنكر بإنكاره -وبالجملة إن لم يعارض مصلحةَ الإنكار مفسدة راجحة ولا مساوية- لزمه الإنكار، وإن عجز عن إنكاره فهو معذور، والمكلف به غيره من الناس، إذ إنكاره فرض كفاية، وإن قدر على إنكاره ولكن خاف على نفسه ضررًا من هلاك أو غيره فيه احتمالان: أحدهما: لا يجب؛ لقوله عزَّ وجلَّ {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} [سورة النحل: 107] فأجاز النطق بكلمة الكفر عند الخوف والإكراه وهو في معنى ترك إنكار المنكر لذلك. والثاني: يجب؛ لعموم قوله: "فليغير" ولقوله عليه الصلاة والسلام: "يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقول الله عزَّ وجلَّ: ما منعك إذ رأيت كذا وكذا أن تنكره؟ فيقول: يا رب خشيت الناس، فيقول الله عزَّ وجلَّ: أنا

كُنتُ أَحَقَّ أن تخشى" (¬1) وهذا يقتضي أن لا يسقط الإنكار عند الخوف، وإن أمن على نفسه لكن عارض مصلحة الإنكار مفسدة راجحة أو مساوية، أي: مثل من خشى إن أنكر قتل نفس قتل نفسين أو نفس أخرى فإن كان لزوم تلك المفسدة المعارضة متيقنا سقط (أ) الإنكار، وإن كان مشكوكا فيه لم يسقط، وإن كان مظنونا فهو محل نظر فليرجع (ب) فيه إلى اجتهاد المنكر بحسب ما يقتضيه الحال والقرائن ونحوها، فإن ترجح عنده الإنكار أنكر وإلا ترك. وظاهر الحديث أن من علم منكرا فعليه تغييره على التفصيل المذكور ولا يتوقف ذلك على إذن الإمام لقوله: "فليغيره بيده" وهو مخصوص بما إذا خاف من ترك إذن الإمام مفسدة راجحة أو مساوية من انحراف ولي الأمر عليه، أو تعلقه عليه بأنه افتات عليه ونحوه فيجب حينئذ استئذان من ولي الأمر في الإنكار (جـ) دفعا للمفسدة المذكورة. وقوله: "من رأى منكم منكرا" عام في الأشخاص مخصوص بما لا تكليف (د) عليه كالصبي والمجنون، أو لا قدرة له على الإنكار كالعاجز عنه فلا يجب على هؤلاء. وربما قيل: إن الخطاب بقوله: "من رأى منكم" ¬

_ (أ) في (ب) يسقط. (ب) في (س) فليراجع. (جـ) في م في إنكاره. (د) في (ب) يكلف. (¬1) رواه أحمد 3/ 30، 48 وابن ماجه 2/ 1328 من حديث أبي سعيد الخدري بنحوه.

للمكلفين القادرين فلا تخصيص إذ لم يتناول غير المكلف وغير القادر حتى يُخصَّا منه. وقوله: "فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه" هذا تنزل في تغيير المنكر بحسب الاستطاعة الأبلغ في ذلك فالأبلغ، إذ اليد أبلغ في التغيير ككسر أوعية الخمر والملاهي من يد (أ) مستعمليها، ثم اللسان بأن يغوث عليهم ويصيح فيتركوا ذلك، أو يسلط عليهم بلسانه من يفعل ذلك، ثم القلب بأن ينكر المنكر بقلبه وينوي أنه لو قدر على تغيير المنكر لغيره لأن الإنسان يجب عليه كراهة ما يكرهه الله عزَّ وجلَّ من المعاصي، والأعمال بالنيات. وشبيهه بهذا التنزل والتدريج قوله عليه الصلاة والسلام لعمران بن حصين: "صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب" (¬1). وقول الفقهاء: يتنزل في دفع الصائل من الكلام إلى العصا إلى السيف ونحوه، الأسهل فالأسهل، غير أن التنزل في تغيير المنكر من الأعلى إلى الأدنى، بخلاف دفع الصائل فإنه من الأدنى إلى الأعلى، والمعتبر في ذلك تحصيل المصلحة وأمن المفسدة. قوله: "وذلك أضعف الإيمان" يعني (ب) التغيير بالقلب، ظاهره أن ¬

_ (أ) في س، م من بين يدي. (ب) في م أي. (¬1) رواه البخاري 1/ 376.

تغيير المنكر من الإيمان، وتأويله على ما سبق من أنه من آثار الإيمان ومقتضاه، لا من حقيقة معناه إذ سبق في حديث جبريل - عليه السلام - أن الإيمان هو التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فوجب تأويل هذا على ما ذكرنا جمعا بين الحديثين (¬1)، فالتقدير إذًا: وذلك أضعف آثار الإيمان وثمراته؛ لأن تغيير المنكر بالقلب لازم وهو كراهة الشخص له، وتغييره باليد واللسان مُتَعَدٍّ، إذ فيه كراهة المنكر وإزالته. وجاء في حديث آخر "وهو أضعف الإيمان" "ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" (¬2) لأنه إذا لم يكره المنكر بقلبه فقد رضي بمعصية الله عزَّ وجلَّ وليس ذلك من شأن أهل الإيمان. فإن قيل: إذا رضي بالمنكر بقلبه ولم يكره هل يكفر بذلك أم لا؟ ¬

_ (¬1) كلا، لا يجب ذلك، ولا يستحب، ولا يباح، بل دخول الأعمال في الإيمان من أبرز مذاهب أهل السنة. قال ابن رجب في فتح الباري: وأكثر العلماء قالوا: هو قول وعمل، وهذا كله إجماع من السلف وعلماء أهل الحديث. وحكى الشافعي: إجماع الصحابة والتابعين عليه، وحكى أثور الإجماع عليه أيضًا. فتح الباري في شرح صحيح البخاري 1/ 5. (¬2) خلط المؤلف حديث أبي سعيد الخدري بحديث ابن مسعود، ذلك أن جملة "وهو أضعف الإيمان" من حديث أبي سعيد، وجملة "وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" من حديث ابن مسعود، وأوله "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون، وأصحاب يأحذون بسنته ويقتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدمهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن. وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".

قلنا: إن رضيه معتقدا جوازه فهذا تضمن (أ) تكذيب الشرع في تحريمه وهو كفر، وإن رضي به لغلبة الهوى والشهوة مع اعتقاده تحريمه فهو فسق لا كفر. واعلم أن هذا الحديث يصلح أن يكون نصف الشريعة لأن أعمال (ب) الشريعة إما معروف يجب الأمر به، أو منكر يجب النهي عنه، فهو نصف بهذا الاعتبار. ثم الناس إما آمِرٌ بمعروف ناه عن المنكر فهو المؤمن العدل، أو لا آمِرٌ بمعروف ولا نَاهٍ عن منكر، فإن كان مع عدم الحاجة إلى ذلك فهو معذور، وإن كان مع الحاجة إليه فإن كان لعذر (جـ) مُسقطٍ ذلك عنه، وأقام غيره مقامه فلا حرج عليه، وإلا فهو آثم فاسق، أو آمِرٌ بالمعروف غير نَاهٍ عن المنكر ففي تركه النهي عن المنكر التفصيل المذكور في القسم قبله، أو ناهٍ عن المنكر غير آمِرٍ بالمعروف فالتفصيل المذكور أيضًا، أو آمِرٌ بالمنكر نَاهٍ عن المعروف فهو منافق لأن الله عزَّ وجلَّ وصف المنافقين بذلك. ثم النفاق على ضربين: نفاق في الإيمان، ونفاق في الأعمال فهذا لا بد له من أحدهما. واعلم أن هذا الحديث يرجع إلى قوله عزَّ وجلَّ {كنتم خير أمة ¬

_ (أ) في (س) يتضمن. (ب) في م الأعمال الشرعية (جـ) في (س) بعذر.

أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} [سورة آل عمران: 111] {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} [سورة التوبة: 72] وقوله عزَّ وجلَّ {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه} [سورة المائدة: 80] وأشباه ذلك. ومن السنة إلى قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا ظهر المنكر في أمتي فلم ينكروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده" (¬1) في أحاديث أخر مشهورة. والله عزَّ وجلَّ أعلم بالصواب. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود 4/ 510 والترمذي 4/ 467 وابن ماجه 2/ 1327 من حديث أبي بكر بنحوه. قال الترمذي: هذا حديث صحيح.

الحديث الخامس والثلاثون

الحديث الخامس والثلاثون: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه. رواه مسلم (¬1). هذا حديث كثير الفائدة كبيرها، وفيه أبحاث: الأول: "لا تحاسدوا" أي: لا يحسد بعضكم بعضا، وقد أجمع (أ) الناس من المشرعين وغيرهم على تحريم الحسد وقبحه، ووردت نصوص الشرع بذلك، وهذا الحديث يقتضي تحريمه. فإن قيل: ما معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "لا حسد إلا في اثنتين ... " (¬2) الحديث هل هو إباحة للحسد في الخصلتين المذكورتين أم لا؟. قلنا: الحسد لا يباح بوجه من الوجوه. وأما قوله: "لا حسد إلا في اثنتين" فالمراد به الغبطة، أي (ب): ليس ¬

_ (أ) في (ب) (س) اجتمع. (ب) في (ب) (م) اذ. (¬1) 4/ 1986. (¬2) سبق تخريجه.

شيء في الدنيا حقيق بالغبطة عليه إلا هاتان الخصلتان: إنفاق المال، والعلم في سبيل الله عزَّ وجلَّ. والفرق بين الحسد والغبطة أن الحسد تمني زوال النعمة عن الغير، والغبطة تمني الإنسان مثل ما لغيره من غير أن يزول عن الغير ماله. وفي ذم الحسد آيات وأحاديث مشهورة. ووحه قبح الحسد أنه اعتراض على الخالق ومعاندة له، حيث ينعم على زيد فيكره عمرو إنعامه عليه، ثم يحاول نقض فعله وإزالة فضله. وفي المعنى قول بعضهم (¬1): ألاَ قُلْ لِمَنْ بَاتَ لِي حَاسِدًا ... أَتَدْرِي عَلَى مَنْ أَسَأْتَ الأَدَبْ أَسَأْتَ عَلَى اللهِ فِي حُكْمِهِ ... لأَنَّكَ لَمْ تَرضَ لِي مَا وَهَبْ يعني على الله عزَّ وجلَّ، حيث كرهت فضله وعاندت فعله. وقال أبو الطيب (¬2): وَأَظْلَمُ أَهْلِ الأرْضِ مَنْ بَاتَ حَاسِدًا ... لِمَنْ بَاتَ فِي نَعْمَائِهِ يَتَقَلَّبُ ووجه ظلم الحاسد أنه يجب عليه أن يحب لمحسوده ما يحب لنفسه، وهو لا يحب لنفسه زوال النعمة، فقد أسقط حق محسوده عليه، ولأن في الحسد ¬

_ (¬1) وهو المعافى بن زكريا النهرواني الجريري المعروف بابن طرارة والبيتان في معجم الأدباء للحموي (6/ 2704 طبعة إحسان عباس). (¬2) ديوان أبي الطيب المتنبي بشرح أبي البقاء العكبري. 1/ 185. وفيه: وأظلم أهل الظلم.

تعب النفس وحزنها بغير فائدة بطريق (أ) محرم (ب)، فهو تصرف رديء {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله} [سورة النساء: 54]. وفي الحكمة: الحَسُوْدُ لَا يَسُوْدُ (¬1)، وَالحَسُوْدُ مَحْبُوْسٌ فِي جِلْدَتِه. وفي ذم الحسد (جـ) من الشعر ما يطول ذكره. البحث الثاني: قوله: "ولا تناجشوا" أي: لا ينجش بعضكم على بعض، وهو أن يزيد في ثمن المبيع غير راغب فيه، لِيُغِرَّهُ (د) واشتقاقه من نَجَشْتُ الصيدَ إذا أثرته، كأن الناجش بالجيم والشين المعجمة يثير كثرة الثمن بنجشه. والنجش محرم للنهي عنه، ولأنه غش وخداع، وهما حرام، "من غشنا فليس منا" (¬2) ولأنه ترك النصح الواجب وترك الواجب حرام. ثم النجش إما أن يكون بمواطأة البائع أو بدونها، وعلى التقديرين فقد اختلف في صحة البيع المنجوش فيه، فقيل: يبطل لأنه منهي عنه، والنهي يقتضي الفساد، وقيل: لا يبطل لأن النهي فيه ليس راجعا إلى العقد، ولا ما يلزمه من ركن أو شرط. ¬

_ (أ) في س، م وبطريق. (ب) في م محرمة. (جـ) في م الحسود. (د) في ب، س لغيره. (¬1) انظر: التمثيل والمحاضرة للثعالبي ص 451. (¬2) رواه مسلم 1/ 99 من حديث أبي هريرة.

نعم (أ) للمشتري الرجوع على البائع بمقدار ما غبن بالنجش، ويحتمل أن له الخيار في (ب) الرد أو الإمساك كالمصراة. وقد اختلف الأصوليون في النهي، فقيل: يقتضي الفساد مطلقا لأن الشرع إنما نهى (جـ) عما ترجحت مفسدته، وإعدام المفاسد واجب، وطريقه (د) إفساد المنهى عنه، وقيل: لا يقتضي الفساد لأن ترتيب الصحة على سبب حرام ليس محالا عقلا، فكذا شرعا، وقيل: يقتضي الفساد في العبادات دون المعاملات. والفرق أن العبادات حق الله تعالى، وهو غني عن عبادة منهى عنها، بخلاف المكلف فإنه قد يحتاج إلى عقد منهي عنه، فلو اقتضى النهي فساد المعاملات ضاق على المكلفين طرق المعاش، وقيل: إن رجع النهي إلى معنى في المنهي عنه اقتضى الفساد، وإن رجع إلى أمر خارج عنه لم يقتض الفساد. والتحقيق أن النَّهي إن كان لذات المنهي عنه، أو لوصف لازم له اقتضى الفساد، وإن كان لأمر خارج أو وصف غير لازم فلا. البحث الثالث: "لا تباغضوا" أي: لا يبغض بعضكم بعضا، والبغض للشيء هو النفرة منه لمعنى (هـ) مستقبح فيه. ¬

_ (أ) في م وللمشتري. (ب) في م بالرد. (جـ) في س ينهى. (د) في ب بطريق. (هـ) في س بمعنى.

والظاهر أن البغض والكراهة واحد، أو هما متقاربان. واعلم أن التباغض بين شخصين إما من الطرفين بأن يُبغض كل واحد منهما صاحبه، أو من أحدهما بأن يبغض أحدهما صاحبه دون الآخر، فهي ثلاث صور. ثم البغض فيهن إما لله عزَّ وجلَّ أو لغيره، والتباغض والبغض حرام للنهي عنه إلا في الله عزَّ وجلَّ فإنه واجب ومن كمال الإيمان، لقوله عزَّ وجلَّ {لا تتخدوا عدوي وعدوكم أولياء} [سورة الممتحنة: 1] وقوله عليه الصلاة والسلام: "من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان" (¬1). فإذًا عموم النهي عن التباغض مخصوص بالبغض في الله عزَّ وجلَّ، فهو محرم خص بواجب أو مندوب، فإذا تباغض اثنان في الله عزَّ وجلَّ أثيبا على غيرتهما لله وتعظيم حقه، وإن كانا عند الله عزَّ وجلَّ من أهل السلامة أو الزلفة، وذلك بأن يؤدي كل منهما اجتهاده إلى اعتقادٍ أو عملٍ ينافي اجتهاد الآخر فيبغضه على ذلك، وهو معذور عند الله عزَّ وجلَّ بخروجه عن عهدة التكليف بالاجتهاد. وأحسب -إن شاء الله تعالى- أن تخالف (أ) طوائف الأمة وفرقها من ¬

_ (أ) في ب، م غالب. (¬1) رواه أحمد 3/ 438، وأبو داود 5/ 60 والبغوي في شرح السنة من حديث أبي أمامة وحَسَّن سنده الشيخ شعيب الأرنؤوط في تحقيق شرح السنة.

هذا الباب ما لم يتضمن رأي بعضها كفرا أو فسقا بواحا. وما ذاك إلا كاثنين اختلفا في جهة القبلة فصلى كل منهما إلى جهة، فكل منهما يعتقد خطأ صاحبه، ومجرم عليه الائتمام به، وهما معذوران مأجوران، ولاَ تحْسَبَنَّ هذا قياسا فاسدا، إذ هو قياس أصل على فرع، وقطعي على اجتهادي، إذ قد بيّنا قَبْلُ أن أكثر العقائد المختلف فيها بين الأمة احتهادي أو يلحق (أ) بالاجتهادي. واعلم أن كل متباغضين فإما أن يبغض كل منهما الآخر في الله عز وجل، أو يبغض أحدهما صاحبه في (ب) الله والآخر يبغضه في غير (جـ) الله عزَّ وجلَّ، وبكل حال فالمبغض في الله عزَّ وجلَّ مثاب، والمبغض لغير (د) الله معاقب لفعله المحرم. البحث الرابع: "لا تدابروا" أي: لا يدبر بعضكم عن بعض، أي: يعرض عنه بما يجب عليه من حقوق الإسلام من الإعانة والنصرة ونحوهما، ولا ملازمة بين التباغض والتدابر لأن الشخص قد يبغض صاحبه عادة، ويقبل عليه بتوفية حقوق الإسلام عبادة، وقد يعرض عنه وهو يحبه خشية تهمة، أو تأديبًا له ونحو ذلك، وفي نحو هذا قيل: لَا يَكْتُمُ الحُبَّ إلا خَشْيَةُ التُّهَمِ. وقوله: "ولا تدابروا" أصله تتدابروا بتاءين حذفت إحداهما تخفيفا، ¬

_ (أ) في م ملحق. (ب) في ب لله. (جـ) في ب لغير الله. (د) في س، م لغيره.

وهل هي تاء المضارعة أو فاء الكلمة (¬1)، فيه خلاف، وكذلك الثلاث قبلها وهي "تحاسدوا" و "تناجشوا" و"تباغضوا". البحث الخامس: "ولا يبع بعضكم على بيع بعض" وذلك لأن فيه تفريقا للقلوب، وتنفيرا لبعضها من بعض، إذ يفسد أحدهما على الآخر مصلحته. وقد جاء في هذا أو نحوه "إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم" (¬2) فإن باع مسلم على بيع مسلم حرم فعله، وفي صحة البيع خلاف، ووجهه ما سبق من أن النهي لمعنى خارج عن المنهي عنه هل يقتضي الفساد أم لا؟. أما بيع المسلم على الذمي فيحتمل جوازه لنقص حرمته، ولأن القصد من ذلك بين المسلمين أن لا يتنافروا والذمي نافر عن (أ) المسلم لا تؤلفه محاباته في بيع ولا غيره، ويحتمل تحريمه لأنه في ذمة الإسلام، فله ما للمسلم إلا ما خصه الدليل. أما بيع الذمي على المسلم فلا يجوز له ولا يبعد أن يؤدب عليه لأنه افتيات على المسلمين واستخفاف بحقهم. فإن قلت: المتبايعان لهما ثلاثة أحوال (ب): قبل المساومة، وبعد المعاقدة، ¬

_ (أ) في ب من. (ب) في م أوجه. (¬1) والذي حذف عند سيبويه (تاء) تفاعل، وعند الكوفيين (تاء) المضارعة. انظر شرح شافعية ابن الحاحب للرضي 3/ 290. (¬2) سبق تخريجه.

وفيما بين ذلك، فما محل النهي المذكور عن البيع على البيع؟. قلنا (أ): هو بين المساومة والمعاقدة حين يسكن أحدهما إلى الآخر، أما قبل التساوم وبعد المعاقدة فلا وجه للمنع. والبيع على البيع هو أن يشتري سلعة بخمسة مثلًا فيقول له قائل: أنا أبيعك خيرا منها بخمسة، أو مثلها بأربعة، وضرره على البائع. والشراء على الشراء هو أن يشتري سلعة بخمسة فيقول قائل للبائع: أنا أشتريها منك بستة، وضرره على المشتري. والبيع على البيع، والشراء على الشراء، والسوم على السوم، والخِطبة على الخِطبة كل ذلك منهي عنه، وكذلك كل ما في معناه مما يفرق (ب) القلوب، ويورث التباغض إلا أن يرضى من له الحق فيجوز، مثل أن يأذن له في شراء ما ساوم عليه، أو في خِطبة من كان خطبها لأن الحق له وقد تركه وزال محذور التنافر. البحث السادس: "وكونوا عباد الله إخوانا" هذا شبيه بالتعليل لما تقدم، كأنه قال: إذا تركتم التحاسد والتناجش والتباغض والتدابر وبيع بعضكم على بعض كنتم إخوانا، وإن (جـ) لم تتركوا ذلك كنتم (د) أعداء. والإخوان الإخوة من غير النسب، والإخوة من النسب. ¬

_ (أ) في م قلت. (ب) في م ينفر. (جـ) في ب، م وإذا. (د) في س صرتم.

وقوله: "وكونوا إخوانا" أي: اكتسبوا ما تصيرون به إخوانا فيما سبق ذكره وغيره من فعل المؤلفات وترك المنفرات. وقوله: "عباد الله" أي: عبادًا لله، وفيه إشارة إلى أنكم عبيد الله عزَّ وجلَّ فحقكم أن تطمعوه بأن تكونوا إخوانا. فإن قيل: ما وجه طاعة الله عزَّ وجلَّ في كونهم إخوانا؟. قلنا: التعاضد على إقامة دينه وإظهار شعائره (أ)، إذ بدون ائتلاف القلوب لا يتم ذلك. ألا ترى إلى قوله عزَّ وجلَّ {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [سورة الأنفال: 64] الآية. البحث السابع: "المسلم أخو المسلم" اعلم أن الأخوة تارة تكون نَسَبِيّة بأن يجمع الشخصين ولادةٌ من صلب أو رحم أو منهما، وتارة تكون دينية بأن مجمعهما دين واحد أو رأي واحد. وفي التنزيل {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [سورة الحجرات: 11] وفي السنة "المسلم أخو المسلم" والأخوة الدينية أعظم من النسبيّة، بدليل أن الأخوين من النسب إذا افترقا في الدين لم يتوارثا، والأجنبيان إذا اتفقا في الدين توارثا، إما بإسلام أحدهما على يدي (ب) الآخر كما كان أولًا ثم نسخ، أو بعموم الدين عند فقد القرابة كما وَرَّثَ الشافعي بيت مال المسلمين لاجتماعهم في ¬

_ (أ) في م شعاره. (ب) في س، م يد.

الإسلام أو لغير ذلك. قوله: "لا يظلمه" أي: لا يدخل عليه ضررا بغير إذن شرعي، لأن ذلك حرام ينافي أخوة الإسلام، بل الظلم حرام حتى للكافر فالمسلم أولى، فالظلم يكون في النفس والدين والمال والعرض ونحو ذلك، وكله حرام منهي عنه بدليل آخر الحديث. قوله: "ولا يخذله" أي: لا يترك نصرته الجائزة مع القدرة عند الحاجة لأن من حقوق أخوة الإسلام التناصر لقوله عزَّ وجلَّ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [سورة المائدة: 4] وقوله: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [سورة الأنفال: 73] وقوله عليه الصلاة والسلام: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" (¬1) وسواء كان الخذلان دنيويًّا مثل أن ترى عَدُوًّا يريد أن يبطش به فلا تعينه عليه، أو دينيًّا بأن ترى الشيطان مستوليا عليه في بعض الأعمال أو الأحوال يريد أن يستفزه ويهلكه في دينه فلا تعينه على الخلاص من حبالته بوعظ أو نحوه وكلا النوعين من الخذلان حرام. قوله: "ولا يكذبه" أي: يخبره بأمر على خلاف ما هو عليه لأنه غش وخيانة، والكذب أشد الأشياء ضررا، والصدق أشدها نفعا، ولهذا كانت رتبة الصدق فوق رتبة الإيمان لأنه إيمان وزيادة، ولهذا قال الله عزَّ وجلَّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [سورة التوبة: 120] فأمر المؤمنين أن يكونوا مع الصادقين ولأن الصدق مرادف التقوى بدليل قوله ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

عزَّ وجلَّ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [سورة البقرة: 178]. ثم التقوى أخص من الإيمان فكذا الصدق الذي هو رديفها أو كرديفها واستفيد هذا من قوله عزَّ وجلَّ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [سورة البقرة: 178] الآية. ويروى أن أعرابيا بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن يترك خصلة من خصال وهي الزنا والسرقة والكذب ونحوها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "دع لي منهن الكذب" فذهب الأعرابي فجعل إن همَّ بزنا أو سرقة أو غيرهما قال: كيف أصنع إن فعلت، ثم سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - هل زنيت؟ فإن قلت: نعم، حدَّني، وإن قلت: لا، كذبت، وقد عاهدني على ترك (أ) الكذب، فترك الفواحش كلها لترك الكذب (¬1). وبالجملة فموضع الكذب من القبح مقابل الصدق من الحسن. قوله: "ولا يحقره" أي: يستصغر شأنه ويضع من قدره؛ ولأن الله عزَّ وجلَّ لم يحقره حين خلقه ورزقه وخاطبه وكلفه فاحتقار المخلوق مثله له تجاوز لحد الربوبية في الكبرياء، وهو حرب عظيم، وهذا وجه قوله عليه الصلاة والسلام: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم" أي: يكفيه من الشر في أخلاقه ومعاشه ومعاده. ومعنى هذه الجملة أن من حق الإسلام وإخوته أن لا يظلم المسلم أخاه ¬

_ (أ) في س بترك. (¬1) أورده المبرد في الكامل 2/ 748 وقال الشيخ أحمد محمد شاكر في تحقيقه للكامل 566: وهذا الحديث لم أجده في شيء من كتب الحديث.

ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره. وللإسلام حقوق أخر قد ذكرت في غير هذا الحديث، وقد جمعت في قوله عليه الصلاة والسلام: " ... حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" ومفهوم قوله: "لا يحقر المسلم" أن الكافر يجوز احتقاره إذ لا حرمة له لعصيانه الله عزَّ وجلَّ {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [سورة الحج: 19]. قوله: "التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات" يعني أن محل التقوى القلب الذي هو في الصدر، وتحقيق هذا أن مادة التقوى في القلب؛ لأن حقيقة التقوى اجتناب عذاب الله عزَّ وجلَّ بفعل المأمور واجتناب المحظور، ومادة ذلك -وهو الخوف الحامل على ذلك الاجتناب- في القلب، هذا تحقيقه فتأمله. البحث الثامن: "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه" أقول: كل المسلم مبتدأ وحرام خبره، ودمه وما بعده بدل منه، وجعل هذه الثلاثةَ كُلَّ المسلم وحقيقَتَهُ لشدة اضطراره إليها. أما الدم فلأن به حياته، والمال مادة الدم، فهو مادة الحياة، والعرض به قيام صورته المعنوية، واقتصر على هذه الثلاثة لأن ما سواها فرع عليها، وراجع إليها لأنه إذا قامت الصورة البدنية والمعنوية فلا حاجة إلى غير ذلك. وقد وقع في هذا الحديث إضافة كل إلى المعرفة، وقد أنكره بعضهم، وقال: لا تضاف إلا إلى نكرة نحو {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلا وَجْهَهُ} [سورة القصص: 88] والله عزَّ وجلَّ أعلم بالصواب.

الحديث السادس والثلاثون

الحديث السادس والثلاثون: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من نَفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يَسَّر على معسر يَسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه. رواه مسلم بهذا اللفظ (¬1). القول في لفظه ومعناه. أما لفظه فقوله: "نَفَّس" فَرَّج، وهو من تنفس الخناق، وأصله من التنفس (أ)، كأنه يرخي له الخناق حتى يأخذ نفسا. والكربة ما أهَمَّ النفس وغمَّ القلب، كأنها مشتقة من "كرب" التي للمقاربة لأن الكربة تقارب أن تزهق النفس. والطريق فعيل من الطرق لأن الرجل ونحوها تطرقه. ويلتمس يطلب ويبغي. والسكينة ثبوت الطمأنينة. وغشيتهم الرحمة خالطتهم وعمتهم. وحفتهم أحاطت بهم {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ ¬

_ (أ) في س من التنفيس. (¬1) 4/ 2074.

الْعَرْشِ} [سورة الزمر: 75]. وبَطَّأَ بِهِ، وأَبْطَأَ بِهِ: أخَّره. وأما معناه ففيه أمور: الأول: فضيلة تنفيس الكرب عن المؤمنين وأن ذلك يجازى عليه بجنسه من تنفيس كرب الآخرة. والأصل والقياس أن الجزاء يكون من جنس العمل ثوابا وعقابا كالتنفيس بالتنفيس، والستر بالستر، والعون بالعون في هذا الحديث، ونظائره كثيرة في أحكام الدنيا والآخرة. وقياس هذه القاعدة أن يقطع ذكر الزاني وفرج الزانية لتكون العقوبة في محل الجناية قياسا على قطع اليد والرجل في السرقة، لكن لما كان الذكر والفرج آلة التناسل الحافظ للنوع كان مراعاة (أ) بقائه أصلح. وإنما كان تنفيس الكرب مطلوبا للشرع مثابا عليه لأن الخلق عيال الله عزَّ وجلَّ فتنفيس كربهم إحسانٌ إليهم، والعادة أن السيد والملك يحب الإحسان إلى عياله وحاشيته والمحسن إليهم. وفي الأثر "الخلق عيال الله فأحبهم إلى الله أرفقهم بعياله" (¬1). الثاني: فضيلة التيسير على المعسر، والجزاء عليه بحسبه في الآخرة كما مَرَّ في تنفيس (ب) الكربة. ¬

_ (أ) في م رعاية. (ب) في س تفسير. (¬1) سبق تخريجه.

الثالث: فضيلة ستر عورة المسلم، والمكافأة عليها بجنسها كما مَرَّ، ولأن الله عزَّ وجلَّ حَيِيٌّ كريم، وستر العورة من الحياء والكرم، ففيه تخلق بِخُلُق الله عزَّ وجلَّ، والله عزَّ وجلَّ يحب التخلق بأخلاقه. فإن قلت (أ): لم قال: "من نَّفَّسَ عن مؤمن كربة .... " وقال: "من ستر مسلما .... ". قلت (ب): يحتمل أنه من باب تغاير الألفاظ دفعا للتكرار، ويحتمل أن الكربة لما كانت معنى باطنا على ما مَرَّ من (جـ) تفسيرها ناسبت الإيمان الذي هو باطن، وهو التصديق كما مَرَّ في حديث حبريل - عليه السلام -، والستر لما كان إنما يتعلق بالأمور الظاهرة غالبا كالأعمال العلانية ناسب وصف الإسلام الذي هو أعمال ظواهر (د). فإن قيل: لم قال: "نَفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ... " ولم يقل: من كرب الدنيا، وقال: "ستره الله في الدنيا والآخرة .... " فكافأه بالستر فيهما؟. قلنا: يحتمل أن هذا اتفاق لأن الترغيب حاصل بكلا الأمرين، أعني التنفيس والستر في الدارين، أو في أحدهما، ويحتمل أن الدنيا لما كانت محل ¬

_ (أ) في س فان قيل. (ب) في س قلنا. (جـ) في م في. (د) في ب ظاهرة.

العورات والمعاصي احتيج إلى الستر فيها، وأما الكُرَبُ فهي وإن كانت الدنيا محلا لها لكن لانسبة لِكُرَبِهَا إلى كرب الآخرة حتى تذكر معها. الرابع: فضيلة عون الأخ على أموره والمكافأة عليها بجنسها من الإعانة اللإهية. وقوله: "ما كان العبد في عون أخيه" أي: مدة كونه في عونه، ولا فرق بين كونه في عونه بقلبه أو بيده أو بهما لأن الكل عون. فإن قيل: هل يثاب على تنفيس كربة غير المؤمن والتيسير عليه وستره وإعانته أم يختص ذلك بالمؤمن؟. قلنا: ظاهر الحديث اختصاصه بالمؤمن والمسلم والأخ في الدين، والأشبه أن ذلك يثاب عليه في المومن والكافر لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء" (¬1) وقوله: "في كل كبد حَرَّى أجر" (¬2) ويحمل الحديث المذكور على أن المؤمن أولى بتنفيس الكربة عنه من الكافر لشرف (أ) الإيمان، والأجر عليه أعظم، ثم يليه الذمي، ثم المستأمن، ثم الحربي على حسب قوة تعلقهم بالإسلام وضعفه وهذا أحسن. الخامس: أن سلوك طريق العلم يجازى عليه بتسهيل طريق (ب) إلى الجنة، ¬

_ (أ) في س بشرف. (ب) في س طريق الجنة. (¬1) الحديث السابع عشر من هذا الأربعين. (¬2) سبق تخريجه.

وهو يحتمل وجهين: أحدهما: أن طلب العلم وتحصيله يرشد إلى سبيل الهداية والطاعة الموصلة إلى الجنة، وذلك بتسهيل الله عزَّ وجلَّ له (أ)، وإلا فبدون لطفه وتوفيقه لا ينتفع بشيء من علم ولا غيره. والثاني: أنه يجازى على طلب العلم وتحصيله بتسهيل دخول الجنة بقطع العِقَابِ (¬1) الشاقة دونها يوم القيامة، بأن يُسَهَّلَ عليه الوقوف في المحشر (ب) والجواز على الصراط ونحو ذلك. والعلم الذي يترتب على التماسه تسهيل طريق الجنة هو العلم الشرعي النافع بنية القربة والانتفاع، ونفع الناس به كعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله ونحو ذلك، لا الخارج عن علم الشرع كالفلسفة من منطق وإلاهي وطبيعي (جـ) ورياضي إلا أن يقصد بتعليمها معرفة مذاهب أهلها للرد عليهم ودفع شبههم (د) وكف شرهم عن الشريعة فيكون من باب إعداد العدة، هذا قول غالب مشايخ الشريعة كالحليمي في شعب الإيمان (¬2)، وغيره، وهو ¬

_ (أ) في س عليه. (ب) في س الحشر. (جـ) في م وطبعي. (د) في ب شبهتهم. (¬1) جع عقبة. (¬2) الحليمي هو الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم أوحد الشافعيين بما وراء النهر ت 403 طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 4/ 333 وانظر المنهاج في شعب الإيمان 5/ 192 - 200.

كلام صحيح، غير أنا نستثني من ذلك النطق فإنه علم مفيد لا محذور فيه، إنما المحذور في غيره من علومهم، ولأنه نحو المعاني، كما أن النحو منطق الألفاظ، ولأن بعض فضلاء الأصوليين صَرَّحَ، وبعضهم عَرَّضَ بأن المنطق علم شرعي، وهو كالعربية في أنه من مواد أصول الفقه لأن الأحكام الشرعية لا بد من تصورها والتصديق بها إثباتا أو نفيا، والعلم المرصد لبيان أحكام التصور والتصديق هو المنطق، فوجب أن يكون علما شرعيا، إذ المراد بالعلم الشرعي ما صدر عن الشرع، أو توقف عليه العلم الصادر عن الشرع توقف وجود كعلم الكلام، أو توقف كمال كعلم العربية (أ) والمنطق. واعلم أني قررت هذا البحث مع علمي بأن أكثر الفقهاء يكرهونه لما تقرر عندهم من النفرة عن المنطق، ومع أني -علم الله- لا أعرف المنطق، وإنما هو شيء قاد إليه الدليل، ثم إن لهم فيه سلفا فاضلا كالغزالي والرازي وأبي الحسين البصري والسيف الآمدي وابن الحاحب وشراح كتابه من بعده كل هؤلاء عارفون بالمنطق فلا وجه لنفرتهم عنه وإنكارهم له (¬1). ¬

_ (أ) في ب، م كالعربية. (¬1) اشتد نكير الأئمة الذين صفت مشاربهم من كدر المنطق والفلسفة وخلصت مشارعهم من لوثة التراث اليوناني على الذين أدخلوا المنطق والفلسفة في علوم الإسلام، وفتحوا على المسلمين باب شر بذلك فقال الإمام أبو عمرو بن الصلاح: "الفلسفة أس السفه والإنحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة، ومن تفلسف عميت بصيرته عن محاسن الشريعة المؤيدة بالححج الظاهرة والبراهين الباهرة، ومن تلبس بها تعليما وتعلما قارنه الخذلان والحرمان، واستحوذ عليه الشيطان". إلى أن قال: "وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة، ومدخل الشر شر، وليس الاشتغال بتعليمه =

فإن قلت: قوله: "من سلك طريقا يلتمس فيه علما" عام في كل علم شرعي أو فلسفي، فلم خصصتموه بالعلم الشرعي؟. قلنا: بدليل قوله: "سهل الله له به طريقا إلى الجنة" والعلوم التي يطلب بها الجنة ويسهل بها طريقها هي الشرعية (أ) دون غيرها. السادس: أن الاجتماع في بيوت الله عزَّ وجلَّ لمذاكرة الكتاب ¬

_ (أ) في س الشريعة. = وتعلمه مما أباحه الشارع، ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين والسلف الصالحين وسائر من يقتدي به من أعلام الأمة وسادتها، وأركان الأمة وقادتها قد برأ الله الجميع من معرة ذلك وأدناسه وطهرهم من أوضاره. وأما استعمال الاصطلاحات المنطقية في مباحث الأحكام الشرعية فمن المنكرات المستبشعة والرقاعات المستحدثة، وليس بالأحكام الشرعية - ولله الحمد - افتقار إلى المنطق أصلا. وما يزعمه المنطقي للمنطق من أمر الحد والبرهان فقعاقع قد أغنى الله عنها كل صحيح الذهن، لا سيما من خدم نظريات العلوم الشرعية، ولقد تمت الشريعة وعلومها وخاض في بحار الحقائق والدقائق علماؤها حيث لا منطق ولا فلسفة ولا فلاسفة" فتاوى ابن الصلاح (1/ 209 طبعة قلعجي). وقال شيخ الإسلام -وهو حامل لواء الإجهاز على المنطق والفلسفة-: "وقد صنف في الإسلام علوم النحو واللغة والعروض والفقه وأصوله والكلام وغير ذلك، وليس في أئمة هذه الفنون من كان يلتفت إلى المنطق، بل عامتهم كانوا قبل أن يعرب هذا المنطق اليوناني". إلى أن قال: "بل إدخال صناعة المنطق في العلوم الصحيحة يطول العبارة، ويبعد الإشارة، ويجعل القريب من العلم بعيدا، واليسير منه عسيرا، ولهذا تجد من أدخله في الخلاف والكلام وأصول الفقه وغير ذلك لم يفد إلا كثرة الكلام والتشقيق، مع قلة العلم والتحقيق" نقض المنطق 169. ولشيخ الإسلام كتابان في رد المنطق أحدهما: كتاب الرد على المنطقيين، وثانيهما: نقض المنطق، ولجلال الدين السيوطي كتاب حافل في جمع فتاوى العلماء الذين حَرَّموا المنطق، وهو: القول المشرق في تحريم الاشتغال بالمنطق. وقد حققه الأخ البحاثة محمد عزيز شمس.

ومدارسته يجازى عليه بأشياء: أحدها: نزول السكينة عليهم لأنها الطمأنينة، وبذكر الله عزَّ وجلَّ تطمئن القلوب، والمراد أنها تطمئن للإيمان حتى يفضي بها إلى الروضات (أ) في جوار الرحمن. الثاني: غشيان الرحمة لهم لأن ذكر الله تعالى إحسان، والرحمة إحسان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان. الثالث: حفت الملائكة بهم لاستماع الذكر تعظيما للمذكور وإكراما للذاكر. الرابع: ذكر الله عزَّ وجلَّ لهم فيمن عنده من الملائكة لقوله عزَّ وجلَّ {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [سورة البقرة: 152] {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [سورة العنكبوت: 45] وقوله: "من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منه" (¬1). وقوله: "وما اجتمع قوم" قد سبق الخلاف في القوم، فإن قلنا: هم الذكور والإناث فلا إشكال، وإن قلنا: هم الرجال خاصة ألحق النساء بهم في ذلك بالقياس، وأنهن إذا اجتمعن لذكرٍ أو تلاوة حصل لهن الجزاء المذكور لاشتراك القبيلتين (ب) في التكليف. ¬

_ (أ) في س، م الرضوان. (ب) في ب القبيلين. (¬1) رواه البخاري 6/ 2694 ومسلم 4/ 2061 من حديث أبي هريرة.

فإن قلت: قوله: "في بيوت الله" هل هو قيد في حصول الجزاء المذكور أم لا؟. قلنا: يحتمل ذلك إظهارًا لتشريف بيوت الله عزَّ وجلَّ على غيرها، والأشبه أنه لا يختص، بل الذكر في بيوت الله عزَّ وجلَّ كالذكر في غيره لأن الأرض كلها مسجد، غير أنه في البيوت المعدة للعبادة أكمل (أ). السابع: أن الإسراع إلى السعادة إنما هي بالأعمال، لا الأنساب لقول الله عزَّ وجلَّ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [سورة الحجرات: 13] وقوله عليه الصلاة والسلام: "ائتوني بأعمالكم ولا تأتوني بأنسابكم". وقوله عليه الصلاة والسلام: "كلكم من آدم، وآدم من تراب" (¬1) ولأن الله عزَّ وجلَّ خلق الخلق لطاعته، وهي المؤثرة لا غيرها {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101]. واعلم أن الناس إما عامل بنسب، أو لا عامل ولا نسب، أو عامل لا نسب (ب)، أو نسب لا عامل، والتأثير ذلك كله للعمل لا للنسب. والله عزَّ وجلَّ أعلم بالصواب. ¬

_ (أ) في م أفضل. (ب) في س لا بنسب. (¬1) رواه الترمذي 5/ 389 بنحوه من حديث ابن عمر. صححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/ 108 وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم حديث 2700.

الحديث السابع والثلاثون

الحديث السابع والثلاثون: عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى قال: إن الله تعالى كتب الحسنات والسيئات، ثم بَيَّنَ ذلك، فمن هَمَّ مجسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، وإن همَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هَمَّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة. رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما بهذه الحروف (¬1). قوله: "إن الله كتب الحسنات والسيئات" أي: أمر الحفظة بكتابتها، أو كتبها في علمه على وفق الواقع منها. قوله: "ثم بين ذلك" أي: فَصَّله، يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - فَصَّل بقوله: "فمن هَمَّ بحسنة .... " إلى آخره ما أجمله بقوله: "إن الله كتب الحسنات والسيئات". ثم اعلم أن الإنسان إذا هَمَّ بعمل فإمَّا أن يَهُمَّ بحسنة، أو سيئة، وعلى التقديرين فإما أن يعملها أو لا يعملها، فإن هَمَّ بحسنة ولم يعملها كتبت حسنة؛ لأن الهمَّ بالحسنة سبب إلى عملها، وسبب الخير خير، فالهَمُّ بالحسنة خير، وإن هَمَّ بها وعملها كتبت عشر حسنات بالتضعيف تفضلا {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [سورة الأنعام: 160] ثم تضاعف بحسب النية ¬

_ (¬1) رواه البخاري 5/ 2381 ومسلم.

والإخلاص ونحوهما من الأعمال الصالحة إلى ما ذكر في الحديث، لقوله عزَّ وجلَّ {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261] يعني بعد سبعمائة ضعف بدليل الحديث " ... إلى أضعاف كثيرة ... " فإن هَمَّ بسيئة ولم يعملها كتبت حسنة كاملة لأنه إنما تركها بعد أن هَمَّ بها مراقبة لله عزَّ وجلَّ. وفي بعض الحديث "إنما تركها من جَرَّائي" (¬1) أي: من أجلي، وإن هَمَّ بسيئة فعملها كتبت سيئة واحدة أخذًا (أ) بالتفضيل في جانب الخير والشَر وكقوله عزَّ وجلَّ {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إلا مِثْلَهَا} [سورة الأنعام: 160]. قلت: ثم إن الشيخ محيي الدين المصنف رحمه الله تعالى عقب هذا الحديث بكلام تضمن (ب) تنبيها على بعض فوائد الحديث، وأنا أذكرها بلفظه. قال رحمه الله تعالى: فانظر يا أخي -وفقنا الله وإياك- إلى عظيم لطف الله تعالى، وتأمل هذه الألفاظ، وقوله: "عنده" إشارة إلى الاعتناء بها، وقوله: "كاملة" للتأكيد وشدة الاعتناء، وقال في السيئة التي هَمَّ بها ¬

_ (أ) في س أخذ. (ب) في س يتضمن. (¬1) هي رواية لمسلم ضمن الحديث.

ثم تركها، "كتبها الله حسنة كاملة" فأكدها بكاملة، "وإن عملها كتبها الله سيئة واحدة" فأكَّد تقليلها بواحدة، ولم يؤكدها بكاملة. فلله الحمد والمنة سبحانه لا نحصي ثناء عليه، وبه التوفيق. انتهى كلامه. قلت: حاصل هذا أن لفظ الحديث نطق معناه في إفادة فضل الله عز وجل وبِطَوْلهِ بتضعيف الحسنات وتكميلها والاعتناء بها، وإفراد السيئة وتقليلها، وبالجملة مسامحة الله عزَّ وجلَّ خلقه في المعاملة تضعيفا في الخير، وتخفيفا في الشر، ولذلك جاء في بعض الروايات الصحيحة "ولا يهلك على الله إلا هالك" (¬1) أي: لا يُعَاقَبُ مع هذه المسامحة إلا مفرط غاية التفريط. واعلم أن قوله في أول الحديث: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه يقتضي أنه من الأحاديث الإلاهية المنسوبة إلى كلام الله عزَّ وجلَّ نحو "أنا عند ظن عبدي بي" (¬2) وليس المراد ذلك، إنما المراد فيما يحكيه عن فضل ربه، أو حكم ربه، أو نحو ذلك. والله عزَّ وجلَّ أعلم بالصواب. ¬

_ (¬1) هي رواية لمسلم ضمن الحديث. (¬2) سبق تخريجه.

الحديث الثامن والثلاثون

الحديث الثامن والثلاثون: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه. رواه البخاري (¬1). أقول: هذا من الأحاديث الإلاهية لأنه من كلام الله عزَّ وجلَّ، غير أنه ليس له حكم القرآن لعدم تواتره. قوله: "من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب" أي: أعلمته أني محارب له، ومنه {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [سورة البقرة: 280] وولي الله عزَّ وجلَّ من تولاه بالطاعة والتقوى، فتولاه (أ) الله عزَّ وجلَّ بالحفظ والنصرة. وقد استمرت العادة أن عَدُوَّ العدو صديق، وصديقَ الصديق صديق، وعَدُوَّ الصديق عَدُوٌّ، وصديقَ العَدُو عَدُوُّ، فكذلك عَدُوُّ ولي الله عَدُوُّ اللهِ، فلا جرم يحاربه الله تعالى، ومحاربة الله عزَّ وجلَّ عبده تحصل بأكل الربا، وبمعاداة أوليائه وبقطع الطريق خصوصا، وبالجملة بعموم معاصيه، وإنما الصور المخصوصة التي ذكرناها وردت في الكتاب والسنة. ¬

_ (أ) في س، والاه فتولاه الله. (¬1) 5/ 2385.

قوله: "وما تقرب إليَّ عبدي" إلى آخره. اعلم أن التقرب إلى الله تعالى إما أن يكون بالفرائض أو بالنوافل، وأحبها إلى الله عزَّ وجلَّ وأشدها إليه تقريبا (أ) الفرائض لأن الأمر بها جازم، وهي تتضمن أمرين: الثواب على فعلها، والعقاب على تركها، بخلاف النوافل فان الأمر بها غير جازم، ويثاب على فعلها، ولا يعاقب على تركها، فالفرائض أكمل، فكانت إلى الله عزَّ وجلَّ أحب وأشد تقريبا. ويقال: إن النفل جزء من سبعين جزءًا من الفرائض (ب)، فركعة الفرض مثلًا بسبعين من النفل، فبالضرورة يكون الفرض أحب إلى الله عزَّ وجلَّ، وأشد تقريبا في الأصل، فصار الفرض كالأصل والأُس، والنفل كالفرع (جـ) والبناء على الأس. وسِرُّ ذلك أن الفرض فيه العمل والإيمان بوجوبه، وهو من باب الإيمان بالغيب، وهو عظيم. قوله: "وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه" هذا معلوم من الشاهد، فإن الإنسان إذا داوم على خدمة (د) السلطان ومهاداته أَحَبَّه وقربه. ¬

_ (أ) في ب تقربا. (ب) في ب الفرض. (جـ) في م الفروع. (د) في ب، م داوم خدمة.

قوله: "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به" إلى آخره. اختلف الناس في وجه هذا الكلام، والعلماء المعتد بقولهم على أنه مجاز وكناية عن نصرته وتأييده وإعانته حتى كأنه سبحانه وتعالى نزل نفسه من عبده منزلة الجوارح والآلات التي يدرك ويستعين بها، ولهذا يقول في رواية "فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي". والاتحادية زعموا أن الكلام على حقيقته وأن الله عزَّ وجلَّ هو عين عبده، أو حال فيه كما أشرنا إليه من دليلهم في حديث جبريل - عليه السلام -. وقوله: "وإن سألني أعطيته" يعني ما سأل "ولئن استعاذني لأعيذنه" يعني مما يخاف لأن التقدير أنه تقرب إلى الله عزَّ وجلَّ فأحبه، وهذه حال (أ) الحبيب مع المحب يعطيه ما سأل ويعيذه مما استعاذ. وقوله: "حتى أحبه" بضم الهمزة وفتح الباء، ويبطش بفتح الياء وكسر الطاء، واستعاذني ضبط بالنون والباء ثاني الحروف، وكلاهما صحيح، يقال: استعذت زيدًا من كذا، واستعذت به من كذا. وقوله: "مما افترضته عليه" أي: من أدائه كما صرح به في رواية. وهذا الحديث يرجع إلى قوله عزَّ وجلَّ {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] وقوله عزَّ وجلَّ {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [سورة الأنفال: 18] إذ هو شبيه بقوله: "ويده التي يبطش بها" وقوله: "فبي يسمع وبي يبطش (ب) ". ¬

_ (أ) في م حالة. (ب) في م يبصر.

وهذا الحديث أصل في السلوك إلى الله عزَّ وجلَّ والوصولِ إلى معرفته ومحبته، وطريقُهُ أداءُ المفروضات، وهي إما باطن وهو الإيمان، أو ظاهر وهو الإسلام، أو مركب منهما وهو الإحسان فيهما كما مَرَّ في حديث جبريل - عليه السلام -، والإحسان هو المتضمن لمقامات السالكين التي ذكرها شيخ الإسلام الأنصاري (¬1)، وغيره من التوكل والزهد والإخلاص والمراقبة والتوبة واليقظة ونحوها، وهي كثيرة، فإذًا حديث جبريل جمع الشريعة والحقيقة (¬2). والله عزَّ وجلَّ أعلم بالصواب. ¬

_ (¬1) هو الإمام القدوة، الحافظ الكبير، أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الهروي، من ذرية أبي أيوب الأنصاري، مؤلف كتاب "ذم الكلام" وكتاب "منازل السائرين" الذي شرحه ابن القيم بـ "مدارج السالكين" قال الذهبي: ولقد بالغ أبو إسماعيل في "ذم الكلام" على الاتباع فأجاد، ولكنه له نفس عجيب لا يُشبه نفس أئمة السلف في كتابه "منازل السائرين" ففيه أشياء مطربة، وفيه أشياء مشكلة، ومن تأمَّله لاح له ما أشرت إليه. سير أعلام النبلاء 18/ 509. (¬2) تقسيم الدين إلى حقيقة وشريعة تقسيم فاسد لأن الحقيقة عند أهلها: هو السلوك لذي لا يتقيد صاحبه بأمر الشارع ونهيه، ولكن بما يراه ويذوقه ويجده، ونحو ذلك. انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام 10/ 169 والصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن القيم 3/ 1051.

الحديث التاسع والثلاثون

الحديث التاسع والثلاثون: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. حديث حسن رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما (¬1). قلت: وقد يروى هكذا "عفي لأمتي عن الخطأ" (¬2) الحديث، وهو أحسن انتظامًا، ووجه انتظام الأولى أن تجاوز ضُمنَ (أ) معنى ترك تقديره: إن الله ترك لي عن أمتي الخطأ، أو تقديره: إن الله تجاوز لي من أمتي عن الخطأ (¬3). وأحْسِبُهَا مُرَكَّبَةً من عَجُزِ هذا الحديث، وَصَدرِ قَولهِ: "أن الله تجاوز لأمَّتِي عمَّا وسوست به صُدورُهَا" الحديث. وبالجملة إذا فُهِمَ المعنى فلا مبالاة باضطراب الألفاظ. وهذا الحديث عام النفع، عظيم الوقع، وهو يصلح أن يسمى نصف الشريعة؛ لأن فعل الإنسان إما أن يصدر عن قصد واختيار، وهو العمد مع الذكر اختيارا، أو لا عن قصد واختيار، وهو الخطأ والنسيان، أو الإكراه، وهذا القسم معفو عنه، والأول مؤاخذ به، فإذن هذا الحديث نصف ¬

_ (أ) في ب تضمن. (¬1) رواه ابن ماجه 1/ 659 والبيهقي 7/ 356. (¬2) قال الألباني: لم أجده بلفظ "عفي" إرواء الغليل 1/ 123. (¬3) وقال الحافظ ابن رجب: تقديره: إن الله رفع لي عن أُمَّتي الخطأ، أو ترك ذلك عنهم فإن "تجاوز" لا يتعدَّى بنفسه. جامع العلوم والحكم (2/ 366 تحقيق شعيب الأرناؤوط).

الشريعة بهذا الاعتبار. والعفو عن هذه الأفعال هو مقتضى الحكمة والنظر مع أن الله عزَّ وجلَّ لو وَاخَذَ بها لكان عادلا. ووجه ذلك أن فائدة التكليف وغايته تمييز الطائع من العاصي {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [سورة الأنفال: 43] لكن الطاعة والمعصية يستدعيان قصدا ونية يستند إليهما الثواب والعقاب، والمخطئ والناسي لا قصد لهما، وكذلك المكره إذ القصد لمن أكرهه لا له، وهو كالآلة المكرهة، ولهذا ذهب غالب الأصوليين إلى أن هؤلاء الثلاثة غير مكلفين. ووجه عموم نفع هذا الحديث أن الفعل خطأ ونسيانا وإكراها يقع في الطهارات والصلوات والصيام والحج والطلاق وغيرها من أبواب العلم في صور كثيرة ومسائل عديدة. ثم قوله: "عفي لأمتي عن الخطأ، وتجاوز لي عن أمتي الخطأ" هل التجاوز عن حكم الخطأ، أو عن إثمه، أو عنهما جميعا؟ وكل محتمل، والأشبه العفو عن الإثم، فمن ثم قيل: الكلام في الصلاة، والأكل في الصوم والوطء فيه، وفي الحج ناسيا يبطلهن حكما، ولا إثم على الفاعل. وفي هذه المسائل ونحوها خلاف بين الأئمة، فإن قلنا: العفو عن حكم الفعل وإثمه احتيج في تعليق الأحكام ببعض صور الخطأ والنسيان والإكراه إلى دليل منفصل، وذلك كالقتل إذا كان عمدا أثم القاتل، ولزمه الضمان حكما، وإن كان خطأ سقط الإثم، والضمان حكما بمقتضى العفو عنهما،

لكن الإجماع على وجوب الضمان بالدية ما لم يَعْفُ الولي، فيحتاج لوجوب (أ) الضمان إلى دليل منفصل، وهو أن الضمان حق المكلف واستيفاؤه من باب العدل، لا من باب التكليف، ودليل العدل قائم قاطع فلتجب الدية في الخطأ بموجبه. وإن قلنا: إن العفو في الخطأ عن الإثم فقط بقي الحكم على أصل اقتضاء الفعل له عمدا، فيسقط الإثم عن القاتل خطأ بموجب العفو في الحديث المذكور، ويبقى وجوب الضمان على الأصل لأنه كان واجبا حال العمد، والأصل بقاء ما كان على ما كان. والفرق بين العمد والخطأ حاصل بارتفاع الإثم، أما ترتب الإثم على الخطأ (ب) ونحوه فهو تكليف ما لا يطاق. وهاهنا مسألة تتعلق بالإكراه، وهي مسألة التقية التي اختلف فيها الشيعة وأهل السنة، وحجة أهل السنة على إنكارها: هو أن التقية نفاق، والنفاف حرام، فالتقية حرام. أما أن التقية نفاق فلأن النفاق هو إظهار الإيمان وإخفاء الكفر مخافة لحوق المكروه، والتقية هي إظهار الإنسان خلاف ما يُبطنه خيفة على نفسه وهذا هو حد النفاق بعينه. وأما أن النفاق حرام فلورود الشرع بذم المنافقين عليه، ولا يذمهم إلا على حرام. والإجماع يُثبت أن التقية حرام. ¬

_ (أ) في م في إيجاب. (ب) في م على الخطأ فهو جائز على تكليف.

وحجة الشيعة: أن التقية ثابتة بكتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفتاوى العلماء والنظر. أما الكتاب فلقوله (أ) عزَّ وجلَّ {إلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [سورة النحل: 107] وهو نص في التقية، إذ هو تجويز لإظهار (ب) الكفر وإخفاء الإيمان خوفا، وقوله عزَّ وجلَّ {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [سورة آل عمران: 29] وقرئ {تقية} (¬1) باللفظ المتنازع فيه. وأما السنة فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استأذن عليه رحل فقال: "بئس فتى العشيرة هذا" ثم دخل الرجل فَأَلاَنَ له القول وضحك إليه، فلما سئل عن ذلك قال: "إن أشر الناس من أكرمه الناس اتقاء فحشه" (¬2) وكذلك صالح الكفار يوم الحديبية على أمور هو يعتقد خلافها، وذلك عين التقية، ولقوله عليه الصلاة والسلام لعمار بن ياسر: "إن عادوا فعد" (¬3). ¬

_ (أ) في م فقوله. (ب) في ب، م باظهار. (¬1) قال أبو حيان: وقرأ ابن عباس ومجاهد وأبو رجاء وقتادة والضحاك وأبو حيوة ويعقوب وسهل وحميد بن قيس والمفضل، عن عاصم تَقِيَّةً على وزن مَطِيَّةٍ وجَنِيَّةٍ، وهو مصدر على وزن فعيلة وهو قليل نحو النميمة. بحر المحيط 2/ 424. (¬2) رواه البخاري 5/ 2244 ومسلم 4/ 2002 من حديث عائشة. (¬3) رواه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 311 وابن سعد في الطبقات 3/ 249 وابن جرير في التفسير 14/ 182 وابن أبي حاتم في التفسير 7/ 2304.

قالوا: ولأن عليا رضي الله عنه إنما بايع أبا بكر رضي الله عنه تقية، لما ثبت في الصحيحين من حديث الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت في أثناء حديث البيعة: فكان لعلي وجه من الناس في حياة فاطمة، فلما توفيت فاطمة انصرفت وجوه الناس عن علي، فلما رأى علي انصراف وجوه الناس عنه ضرع لمصالحة أبي بكر، فقال له: موعدك البيعة العشية ... (¬1) الحديث. ومعنى ضرع: ذلَّ وخضع وانقاد، وهو نصٌّ فيما ادعيناه. وأما فتاوى العلماء فلأن أكثرهم على أن يمين المكره وطلاقه وهبته وتصرفاته لا تنفذ (أ) حتى ضرب مالك في ذلك سبعين سوطا على أن يفتي بانعقاد يمين المكره فلم يفعل، دليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا طلاق في إغلاق" (¬2) أي: في إكراه. وأما النظر فلأن في التقية جمعا بين مصلحتين حفظ الاعتقاد (1) الباطن، ودفع الضرر عن الظاهر، ونقلوا عن جعفر الصادق أنه قال: "التقية ديني ودين آبائي" (¬3). ¬

_ (أ) في ب لا تنعقد. (ب) في م للاعتقاد. (¬1) رواه البخاري 4/ 1549 ومسلم 3/ 1380. (¬2) رواه أبو داود 2/ 642 وابن ماجه 1/ 660 من حديث عائشة. حسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 2/ 179. (¬3) الكافي للكليني 2/ 219 وهو عند الرافضة كالبخاري عند أهل السنة.

وأجابوا عن حجة (أ) الأولين؛ أن قولكم: التقية نفاق؛ يمكن تسليمه، لكن لم قلتم: إن كل نفاق حرام، وظاهر أنه ليس كذلك، فإن النفاق ضربان: لغوي، وعرفي، فاللغوي هو إظهار الإنسان خلاف ما في نفسه خوفا من المكروه، والعرفي إظهار الإيمان والسنة وإخفاء الكفر والبدعة خوفا من المكروه، فالنفاق لغة أعم منه عرفا، والحرام إنما هو النفاق عرفا، لا النفاق لغة، وإلا لوجب أن يكون من أظهر الكفر وأخفى الإيمان خوفا منافقا آثما، وهو خلاف نص القرآن، وحينئذ نقول: التقية التي فيها النزاع -إن سلَّمنا أنها نفاق- فهي نفاق لغوي، لا عرفي فلا يكون حراما (¬1). واعلم أن هذا النزاع الطويل بينهم في التقية استدلالًا وحوابا ذاهب في السائب هدرًا (ب)، فإن جُلَّ (جـ) الخلاف بينهم إنما هو في مبايعة علي بن أبي طالب أبا بكر رضي الله عنهما تقية، فادَّعاه الشيعة كما مَرَّ، ونفاه أهل السنة لأنه نفاق، وهو لا ينبغي نسبته إلى علي رضي الله عنه. أما التقية في غير ذلك فلا مبالاة بإثباتها وجوازها، وإنما يكره عامة الناس لفظها لكونها من مستندات الشيعة، وإلا فالعلماء مطبقون على ¬

_ (أ) في ب: عن حجة الأولى إن التقية نفاق. (ب) في م لا أثر له هدرا. (جـ) في م محل. (¬1) لم يحسن المؤلف صنعا، حيث ساق استدلال أهل السنة مبتورا في قالب ضعيف، وساق استدلال الرافضة مستوفى في أحسن سياق، وذلك يُطرِّقُ عليه الشائنين له، الناسبين إليه التشيع.

استعمالها، وبعضهم يسميها مداراة، وبعضهم مصانعة، وبعضهم عقلا معيشيا، ودَلَّ عليها دليل الشرع كما سبق (¬1). وهذا الحديث يرجع إلى قوله عزَّ وجلَّ {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [سورة الأحزاب: 5] ونحوه. والله عزَّ وجلَّ أعلم بالصواب. ¬

_ (¬1) عرف الحافظ ابن حجر التقية بأنها: الحذر من إظهار ما في النفس من معتقد وغيره للغير. الفتح (12/ 314 الطبعة السلفية). وتقية أهل السنة وتقية الرافضة مختلفتان: - فالتقية عند الرافضة ركن من أركان دينهم، بل هي تسعة أعشار الدين عندهم، ولا دين لمن لا تقية له، وهي أحد الذنبين اللذين لا يغفران، ترك التقية وتضييع حقوق الإخوان عندهم. ويلتزم بها الرافضة ويستعملونها مع من يأمنون جانبه، ومع من يحذرونه، وبهذا تلتقي التقية مع الكذب والنفاق والخداع. وأما التقية عند أهل السنة فهي رخصة في حالة الضرورة، والعزيمة أفضل منها. وقد أفاض العلامة أبو محمد عبد الحق بن عطية الأندلسي في تفسيره المحرر الوحيز في تفسير الكتاب العزيز 3/ 73 - 76 في أقسامها وأحكامها، والحافظ ابن حجر في فتح الباري 12/ 314 - 315. وانظر (أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية) تأليف د / ناصر الفقاري 2/ 805 - 819.

الحديث الأربعون

الحديث الأربعون: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنبكي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك. رواه البخاري (¬1). وهذا الحديث أصل في الفراغ عن الدنيا والزهد فيها والرغبة عنها والاحتقار لها والقناعة فيها بالبلغة. قال الشيخ: معناه لا تَرْكَنْ إليها ولا تتخذها وطنا، ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها، ولا بالاعتناء بها، ولا تتعلق منها إلا بما يتعلق به الغريب في غير وطنه، ولا تشتغل فيها إلا بما يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله. انتهى. قلت: عابر السبيل المارُّ على الطريق قاطعًا (أ) لها بالسير، أو من في معناه غير مقيم بها. ولا شك أن الإنسان إنما أوجد ليمتحن بالطاعة والمعصية ليكون من أهل الثواب أو العقاب، أو من أصحاب اليمين، أو الشمال بدليل قوله عزَّ وجلَّ {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7] وقوله عزَّ وجلَّ {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ ¬

_ (أ) في س قاطع. (¬1) 5/ 2358.

عَمَلًا} [سورة الملك: 2] وحينئذ هو كعبد أرسله سيده في حاجة إلى بلد غربة، فهو فيه غريب عابر سبيل فشأنه أن يبادر بقضاء ما أرسله فيه ثم يعود إلى وطنه. وقول ابن عمر رضي الله عنه هو مقتضب من معنى الحديث لأن الغريب لا يدري متى يتوجه إلى وطنه مساء أو صباحًا فهو إذا أمسى في بلد غربة لا ينتظر الصباح، وإذا أصبح لا ينتظر المساء، فكذلك الإنسان في الدنيا الذي هو مشبه (أ) بالغريب في حاله وإمكان (ب) حدوث ترحاله (جـ). وقوله: "خذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك" أي: اعمل في حياتك ما تلقى (د) نفعه بعد موتك، وبادر أيام صحتك فإن المرض قد يطرأ فيمنعك من العمل فتقدم المعاد بغير زاد. والله عزَّ وجلَّ أعلم بالصواب. ¬

_ (أ) في م يشبه الغريب. (ب) في م وآن. (ب) في س تراحله. (د) في س يبقى.

الحديث الحادي والأربعون

الحديث الحادي والأربعون: عن أبي محمد عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به. حديث حسن صحيح، رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح. أقول: هذا الكتاب هو (كتاب الحجة في اتباع المحجة في عقيدة أهل السنة) وهو كتاب جيد نافع، وقدره كالتنبيه مرتين، أو مرة ونصفا، وقد طالعته أو أكثره، ولا استحضر الآن اسم مصنفه (¬1). وهذا الحديث على وجازته واختصاره من الجوامع لهذه (أ) الأربعين وغيرها من السنة، وبيانه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما جاء بالحق وصَدَّقَ المرسلين، ثم إن شئت فسرت الحق بالدين، وهو مشتمل على الإيمان والإسلام والإحسان، والنصح لله ولرسوله وكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، وعلى الإيمان والاستقامة، وهذه أمور جامعة لا يبقى بعدها إلا تفاصيلها التي هي في ضمنها، وإن شئت فسرت الحق بالتقوى، وهي مشتملة على ما ذكرناه أيضًا، فإذا (ب) كان هوى الإنسان تبعا لما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الدين والتقوى فقد استوفى حقيقة الإيمان. ¬

_ (أ) في م لهذا. (ب) في س، م فان. (¬1) هو الشيخ الإمام العلامة القدوة المحدث مفيد الشام شيخ الإسلام أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الفقيه الشافعي ولد قبل سنة عشر وأربعمائة، وصنف كتاب "الحجة على تارك المحجة" توفي سنة تسعين، يعني وأربعمائة. السير 19/ 136 - 142.

ثم (أ) اعلم أن كلا من الناس إما أن يكون هواه تابعا لما جاء به الرسول، أو يكون ما جاء به الرسول تابعا لهواه، أو يكون هواه تابعا لبعض ما جاء به الرسول دون البعض. والأول: المؤمن الكامل. والثاني: الكافر لأن التقدير أنه أعرض عن جميع ما جاء به الرسول إلى هواه، ومما جاء به الرسول الإيمان، ومن أعرض عن الإيمان فهو كافر لا محالة. والثالث: إما أن يكون البعض الذي تابع فيه الرسول هو أصل الدين دون فروعه، أو فروعه دون أصله، فإن تابعه في أصل الدين وهو الإيمان، وخالفه فيما سواه فهو مؤمن فاسق، وإن كان بالعكس فهو منافق. واعلم أن الهوى يميل بالإنسان بطبعه إلى مقتضاه ولا يقدر على جعله تبعا لما جاء به الرسول إلا كل ضامر مهزول. وحقيقة الهوى شهوات النفس، وهي ميلها إلى ما يلائمها (أ)، وإعراضها عما ينافرها، مع أنه ربما كان عطبها في الملائم وسلامتها في المنافر. ويقال: إن هشام بن عبد الملك لم يقل في عمره إلا بيتا واحدًا، وهو قوله: إِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْصِ الهَوَى قَادَكَ الهَوَى ... إِلَى بَعْضِ مَا فِيهِ عَلَيكَ مَقَالُ (¬1) ¬

_ (أ) في م واعلم. (أ) في س ملائمها. (¬1) البيت بلا نسبة في الكامل للمبرد 2/ 517 وهو لهشام في عيون الأخبار 1/ 37 والفاضل للمبرد ص 123 وبهجة المجالس 1/ 810. وهو برواية أخرى بلا نسبة في البيان والتبيين 3/ 187.

وقال آخر (أ): إِنَّ الهَوَان هُوَ الهَوَى قُصِرَ اسْمُهُ ... فَإِذَا هَوِيْتَ فَقَدْ لَقِيْتَ هَوَانَا (¬1) وقال آخر (ب): أَنَا بِالهَوَى رَاضٍ وَأَعْلَمُ أَنَّهُ ... عِزي وَإنْ ضُمَّتْ إِلَيهِ النُّون وقال ابن دريد (¬2): وَآفَةُ العَقْلِ الهَوَى فَمَن عَلاَ ... عَلَى هَوَاهُ عَقْلُهُ فَقَد نَجَا وقال بعض الأصوليين في مسألة تفضيل الملائكة على البشر: من غلب عقله هواه فهو خير من الملائكة، ومن غلب هواه عقله فالبهيمة خير منه. والله عزَّ وجلَّ أعلم بالصواب. ¬

_ (أ) في ب وقال غيره، وفي م ولغيره. (ب) في م ولغيره. (¬1) البيت لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر في التمثيل والمحاضرة ص 103 ورواية صدره فيه: نونُ الهوانِ من الهوى مسروقةٌ. (¬2) انظر شرح مقصورة ابن دريد لابن هشام اللخمي ص: 413.

الحديث الثاني والأربعون

الحديث الثاني والأربعون: عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتي لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة. رواه الترمذي، وقال: حديث حسن (¬1). الكلام على لفظه ومعناه. أما لفظه فآدم قيل: هو أعجمي لا اشتقاق له، وقيل: هو عربي مشتق من أديم الأرض لأنه خلق منه، وهو لا ينصرف للعلمية ووزن الفعل إذ وزنه أفعل مثل أحمد. قوله: "إنك ما دعوتني" أي: مدة دعائك، فهي زمانية نحو {مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [سورة فاطر: 38] وعنان السماء بفتح العين قيل: هو السحاب، وقيل: ما عَنَّ لك منها، أي: ظهر إذا رفعت رأسك. وقراب الأرض بضم القاف وكسرها لغتان، والضم أشهر، ومعناه ما يقارب ملأها، وقيل: ملأها، وهو أشبه (أ) لأن الكلام في سياق المبالغة. وأما معناه فالدعاء سؤال النفع والصلاح. والرجاء: تأميل الخير، وهو اعتقاد قرب وقوعه. ¬

_ (أ) في ب الأشبه. (¬1) 5/ 548 في الطبعة الهندية مع تحفة الأحوذي: هذا حديث حسن غريب. وفي طبعة إبراهيم عطوة: هذا حديث غريب.

وقوله: "إنك ما دعوتي ورجوتني غفرت لك" لأن الدعاء مخ العبادة، والرجاء يتضمن حسن الظن بالله عزَّ وجلَّ وهو يقول: "أنا عند ظن عبدي بي" (¬1) وعند ذلك تتوجه رحمة الله تعالى إلى العبد، وإذا توجهت لا يتعاظمها شيء لأنها وسعت كل شيء. وقوله: "ولا أبالي" كأنَّه من البال، فإذا قال القائل: لا أبالي، كأنه قال: لا يشتغل بالي بهذا الأمر، أو شبيه (أ) بذلك. قوله: "لو بلغت ذنوبك عنان السماء" إلى آخره أي: ملأت الأرض والفضاء حتى ارتفعت إلى السماء "ثم استغفرتني غفرت لك" وذلك لأن الله عزَّ وجلَّ كريم، والاستغفار استقالة والكريم يقبل العثرة ويغفر الزلة. وقال حاتم الطائي: وأَغْفِرُ عَوْرَاءَ الكَرِيمِ ادخَارَهُ ... وأُعْرِضُ عَن شَتْمِ اللَّئِيمِ تكَرُّمَا (¬2) وفي التنزيل {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [سورة نوح: 11] {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [سورة هود: 3] الآية ونحوها (ب). وفي الحديث "لو أنكم لا تذنبون لذهب الله بكم، ¬

_ (أ) في م شبه. (ب) في م ونحو هذا. (¬1) سبق تخريجه. (¬2) ديوان شعر حاتم بن عبد الله الطائي وأخباره ص 238 ورواية الديوان هكذا. وأغفِرُ عَورَاءَ الكريمِ اصطِنَاعَهُ ... وأصفَحُ عن شتم اللئيم تكرمًا

ولجاء بقوم غيركم، فيذنبون، فيستغفرون فيغفر لهم" (¬1) وفي التنزيل {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [سورة الزمر: 55] وهذا الحديث على عمومه لأن الذنب إما شرك فيغفر بالاستغفار منه وهو الإيمان، أو دونه فيغفر بالاستغفار منه وهو سؤال المغفرة، وحقيقة لفظه اللهم اغفر لي، ويقوم مقامه استغفر الله؛ لأنه خبر في معنى الطلب. قوله: "لو أتيتني بقراب الأرض خطايا" إلى آخره معناه أن الإيمان شرط في غفران الذنوب التي هي دون الشرك لأن الإيمان أصل يبنى عليه فبقول الطاعات غفران المعاصي. أما مع الشرك فلا أصل يبنى عليه ذلك {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]. والترمذي يجوز فيه ضم التاء والميم، وفتحهما، وكسرهما. واعلم أن الشيخ محيي الدين رحمه الله تعالى صدر الخطبة أنه يأتي بأربعين حديثًا، وقد أتى باثنين وأربعين فقد زاد خيرا، وكأنه أعجبه الحديثان الزائدان، وهما جديران بذلك، فناسب عنده إلحاقهما لأن أولهما: من باب الوعظ بمخالفة الهوى ومتابعة الشرع، وثانيهما: ترغيب في الدعاء والرجاء والاستغفار من الذنوب والإطماع في رحمة علام الغيوب، فكان ختم الكتاب به مناسبا. فإن قيل: ما وجه تخصيص الأربعين دون سائر مقادير العدد حتى صنف ¬

_ (¬1) رواه مسلم 4/ 2105 من حديث أبي أيوب الأنصاري بنحوه.

العلماء أربعينياتهم؟. قلنا: أما الحديث في ذلك فقد سبق أنه لم يصح، وإنما (أ) ذهب العلماء في ذلك إلى ما روي عن بعض السلف (¬1) أنه قال: يا أهل الحديث أدّوا زكاة الحديث ربع العشر (ب)، اعملوا من كل أربعين حديثًا بحديث، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أدوا ربع عشر أموالكم، من (جـ) كل أربعين درهما درهم" (¬2) وإنما قال ذلك لأنه أقل عدد له ربع عشر صحيح، وإلا فزكاة الفضة إنما تجب في مائتي درهم فصاعدا. وليكن هذا الحديث آخر الإملاء في شرح الأربعين، وقد كنت التزمت في خطبتها التزاما، ثم لم يتهيأ لي في أثنائها تحقيق مراعاته لأسباب عرضت. فإن رأيتني أيها الناظر قد وفيت بما التزمت فبها ونعمت، والحمد لله، وإن رأيتني أخللت بشيء منها فقد أوضحت لك العذر. ¬

_ (أ) في م فان ما ذهب إليه العلماء. (ب) في م عشره. (جـ) في ب في. (¬1) يعزى إلى الإمام المحدث الزاهد القدوة الرباني بشر بن الحارث الحافي أنه قال: يا أهل الحديث علمتم أنه يجب عليكم فيه زكاة، كما يجب على من ملك مائتي درهم خمسة فكذلك يجب على أحدكم إذا سمع مائتي حديث أن يعمل منها بخمسة أحاديث. تاريخ بغداد 7/ 69 وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم الأصبهاني 8/ 337، 347 وسير أعلام النبلاء للإمام الذهبي. قال الذهبي: هذا على المبالغة، وإلا فإن كانت الأحاديث في الواحبات فهي موجبة، وإن كانت في فضائل الأعمال، فهي فاضلة، لكن يتأكد العمل بها على المحدِّث. (¬2) لا يوجد بهذا اللفظ.

ثم اعلم أني إنَّما أشرت إلى تقرير قواعد الأحاديث على وجه كلي في جميعها أو بعضها، وإلا فلو قررت على جهة (أ) التفصيل لاستدعى تطويلا (ب) أقل ما يكون في ثلاث مجلدات تفصل في أحدها أحكام الإيمان، وهو علم أصول الدين، وفي الثاني حكم الإسلام، وهو أحكام العبادات وما يتبعها من أحكام الفروع، وهو علم الفقه أخذا من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "قل آمنت بالله ثم استقم" مع حديث حبريل ونحوه من الأحاديث الكلية، وفي الثالث حكم الإحسان، وهو علم التصوف والمعاملة والمراقبة، على ما دل عليه حديث جبريل من الإيمان والإسلام والإحسان. واعلم أنه قد فات الشيخ أن يلحق بالأربعين حديث "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفروض فلأولى رجل ذكر" فإنه من الجوامع في علم الفرائض، وهو نصف العلم على ما عرف ولو ألحقه لتكلمنا عليه وضَمَّنَّا الكلام عليه قواعد علم الفرائض (جـ) التي يحتاج إليها ولا يستغني كثير من الناس عنها، لكن حكم المصنف وحسن نظره لا ينكر، ولعله ترك ذلك لضرب من النظر. والحمد لله رب العالمين. واعلم أني أملأت هذا الشرح إملاء فلذلك تراني أورد الحديث المستشهد به باللفظ تارة، وتارة بالمعنى، وتارة أحفظ منه صدره، أو عجزه، ¬

_ (أ) في س وجه. (ب) في ب طولا. (جـ) في م الفرائض.

وربما اقتصرت على عنوانه واليسير (أ) منه، وأكثرت (ب) في كلامي التردد كقولي: كذا، أو كذا، أو كما قال، أو نحو ذلك، أو شبيه به، كل ذلك احترازا من أن أجزم فيه بشيء من (جـ) غير يقين، فلا تنكر ذلك فقد عرفت (د) عذري فيه، غير أنك لا تجد فيه حكمًا إلا (هـ) ظاهر الحجة، واضح المحجة إن شاء الله عزَّ وجلَّ. وكان ابتدائي فيه يوم الاثنين ثالث عشر ربيع الآخر، وفراغي منه يوم الثلاثاء ثامن عشرينه (كذا) كلاهما من سنة ثلاث عشر (كذا) وسبعمائة بمدينة قوص من أرض الصعيد حامدًا لله عزَّ وجلَّ ومصليا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومَجَّد وكرَّم وفخَّم وَعَظَّمَ (¬1). ¬

_ (أ) في س والمتيسر. (ب) في م ويكثر. (جـ) في ب على غير. (د) في م عرفتك. (هـ) في ب إلا حكما ظاهر. (¬1) في نهاية نسخة (ب): ضم كتاب شرح الأربعين النواوية بحمد الله، وهو تأليف .... ومولانا العالم العلامة الأوحد الفاضل .... الحبر الفهامة مفتي المسلمين ..... ثم الطوفي رضي الله عنه ...... عن شيخه وعن والديه وعن .... المسلمين وكتب بالجامعة ... يد كاتبه الفقير عبد الرحمن ... الطولوني ..... بتاريخ خامس شهر محرم ......... وفى نهاية نسخة (س). ...... واضح المحجة إن شاء الله تعالى، والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبي ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. نجز كتاب شرح الأربعين النووية للعلامة البغدادي بالتمام والكمال، وكان الفراغ من نسخ هذا الشرح نهار الأربع (كذا) يوم عشرين خلت من شهر القعدة سنة 1155 من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام. وفى نهاية نسخة (م). .... واضح المحجة إن شاء الله عزَّ وجلَّ، وكان ابتدائي فيه يوم الاثنين ثالث عشر ربيع الآخرة، وفراغي منه يوم الثلاثاء السابع عشر (كذا) من (كذا) كلاهما من سنة ثلاث عشر وسبعمائة. وكان بمدينة قوص من أرض الصعيد حامدًا لله عزَّ وجلَّ، مصليًّا على رسوله - عليه السلام -. وكان الفراغ من نسخة يوم الأحد الثامن عشر من شهر ذي الحجة سنة ست وخمسين وسبعمائة. وحسبنا الله ونعم الوكيل. قال محققه نجز نسخ هذا الشرح وكتابة بعض التعليقات نهار الأربعاء 1/ 1 / 1418 من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.

§1/1