التعليق على شرح السنة للبربهاري - ناصر العقل

ناصر العقل

شرح السنة [1]

شرح السنة [1] كتاب شرح السنة للإمام البربهاري يعد من الكتب العظيمة الجامعة لعقائد أهل السنة والجماعة، فهو يقرر فيه ضرورة اتباع السنة، والوقوف على ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من الأمر بلزوم الجماعة، وترك البدع والمحدثات، وترك الجدال والخصومات، والإيمان بالحشر والنشر والصراط والميزان والشفاعة والأنبياء والملائكة والجنة والنار، وغير ذلك مما يجب الإيمان به.

مقدمة في التعريف بالكتاب والمؤلف

مقدمة في التعريف بالكتاب والمؤلف بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فنبدأ مستعينين بالله درسنا الجديد (شرح السنة) لإمام أهل السنة والجماعة في عصره أبي محمد الحسن بن علي بن خلف البربهاري المتوفى سنة (329)، وكان من كبار أئمة السنة الذين اشتهروا بتقرير العقيدة والدفاع عنها، وكان قوياً صلباً في الحق، وعقيدته هذه من أقدم ما كتب في عقائد السلف، وهي تتميز بالشمول والإيجاز، كما أنه أيضاً تحرى فيها مذهب أهل السنة في كثير من أصولهم ومناهجهم، وإن كانت له بعض الآراء التي قد يخالفه فيها غيره، لكنها من الأمور التي لا تخرج عن مجال الاجتهاد السائغ أو مما قد يكون للعالم فيه قول قد يبالغ فيه أو يتجاوز ما عليه الأئمة عن اجتهاد، ولا يسلم البشر من مثل هذه الأمور، ومع ذلك فإن شرح السنة للبربهاري من عقائد السلف المعتمدة عند أئمة السنة. ونبدأ الآن بأول هذه العقيدة، والنسخة التي بين يدي هي النسخة المحققة بتحقيق الردادي، وهناك نسخة سبقتها وهي نسخة الشيخ محمد سعيد القحطاني، وكلاهما جيدة ولا أفضل واحدة على الأخرى.

معاني السنة

معاني السنة قال الإمام أبو محمد الحسن بن علي البربهاري رحمه الله تعالى: [الحمد لله الذي هدانا للإسلام ومن علينا به، وأخرجنا في خير أمة، فنسأله التوفيق لما يحب ويرضى، والحفظ مما يكره ويسخط. اعلموا أن الإسلام هو السنة والسنة هي الإسلام، ولا يقوم أحدهما إلا بالآخر]. أحسن المحقق في ترقيم هذه الفقرات، وهذه هي الفقرة الأولى، فبدأ في الفقرة الأولى حسب ترقيم المحقق بشرح معنى السنة، وهذا مدخل طيب؛ ذلك أن موضوع الكتاب هو شرح السنة، فمن المناسب جداً أن يبين معنى السنة، وقد لخص معنى السنة بمفهوم شرعي موجز كعادة السلف في القرون الثلاثة الفاضلة في تعريفهم للمعاني الشرعية، وذلك أنهم يقتصرون على الألفاظ الشرعية ويوجزون بأبلغ عبارة، وما كانوا يتكلفون التشقيق والتفريع، وما جاء تشقيق العبارة وتفريعها إلا في القرن الرابع وما بعده. فقوله: (اعلموا أن الإسلام هو السنة)، هذا أيضاً ينعكس فإن السنة هي الإسلام، وقصده أن الإسلام الذي أمر الله بالأخذ به هو ما سنه الرسول صلى الله عليه وسلم، من السنة بمعناها العام التي هي الإسلام. إذاً نقول: كما أن الإسلام هو السنة، فكذلك السنة هي الإسلام، فهما مترادفان على هذا المعنى الشامل. قوله: (ولا يقوم أحدهما إلا بالآخر)، معناه: لا تستقيم السنة إلا بالتسليم والإذعان لله عز وجل، وكذلك لا تتم ثمرة الإذعان والتسليم إلا بالعمل بالسنة، وهذه من الكلمات الجوامع التي تجمع معاني الإسلام بألفاظ موجزة، وهذا المعنى -أي: شرح الإسلام بالسنة وشرح السنة بالإسلام- يجعلنا نقف قليلاً في شرح معاني السنة التي تتفرع عن هذا المعنى الإجمالي، فالسنة لها معان كثيرة أولها هذا المعنى الذي ذكره البربهاري، وهو أنها تعني الإسلام بجملته، أي: ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم جملة وتفصيلاً فهو السنة. ثانياً: تطلق السنة مقابل القرآن، أي المصدر الثاني للدين، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في وصيته: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله وسنتي) فجعل السنة نوعاً آخر من مصادر الدين بعد القرآن. والمعنى الثالث: التقرير والهدي، وهذا يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: (من رغب عن سنتي فليس مني)، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) يعني: جملة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال والتقريرات والهدي، وهذا المعنى يرادف المعنى الأول، لكن هذا أكثر تفصيلاً. الرابع من معاني السنة: أنها تطلق في مقابل البدعة، يقال: هذه سنة وهذه بدعة، كما أنها تطلق مغايرة للبدعة، فالسنة خلاف البدعة، أي: ما شرع بدليل شرعي، ويقابل هذا ما جاء في بعض الآثار: ما أحدث الناس بدعة إلا تركوا من السنة مثلها، فهي تطلق مقابل البدعة. المعنى الخامس: تطلق السنة على ما عليه السلف من العلم والعمل. المعنى السادس: تطلق السنة مقابل الواجب، فتأتي بمعنى النافلة وبمعنى المستحب أو الأمر الشرعي غير المؤكد، وقد تطلق على المؤكد مما دون الفرض، وهذا في جانب التشريع والأحكام، وكثيراً ما يقال هذا سنة أي: ليس بفرض، أو يقال: هذه سنة أي: ليست بواجبة. فالسنة ترادف الأمر المؤكد الذي لا يجب، أو الأمر المستحب مما دون المؤكد، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل فرض عليكم صيام رمضان وسننت لكم قيامه)، فالفرض أعظم من السنة، والسنة دون الفرض. وهذا كثير في ألفاظ الشرع وكثير أيضاً عن الأئمة والفقهاء، فقد يقولون: سنة يعني ليس بواجب وليس بمفروض، وكل هذه الإطلاقات صحيحة، لكن أشملها وأعظمها وأكثرها مدلولاً هو السنة بالمعنى الأول، أي: أنها الإسلام، وما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الاعتقاد والقول والعمل والهدي والتقرير وسائر الدين.

من ركائز السنة لزوم الجماعة

من ركائز السنة لزوم الجماعة قال رحمه الله تعالى: [فمن السنة لزوم الجماعة، فمن رغب غير الجماعة وفارقها، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، وكان ضالاً مضلاً]. وهذه هي الفقرة الثانية، ويمكن أن يعنون لها: بأساس السنة أو من ركائز السنة. فمن ركائز السنة لزوم الجماعة، فهي من الأسس العظيمة للسنة، فالسنة لا تتحقق بمعناها الشامل، ولا يتحقق تطبيق الشرع كما أمر الله إلا بلزوم الجماعة بمعناها العام، أعني جماعة أهل الحق في الاعتقاد والقول والعمل، وفي مصالح الأمة العظمى. الجماعة التي تجتمع على الإمام، وتجتمع على الحق، وتجتمع على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الهدى.

معاني الجماعة

معاني الجماعة والإشارة إلى أن أساس السنة لزوم الجماعة يجعلنا نقف قليلاً عند معاني الجماعة؛ لأن الشيخ سيذكر هذه المعاني كثيراً في الكتاب كما يذكرها السلف أيضاً كثيراً، فالجماعة ترد على معان مختلفة بعضها شاملة وبعضها دون ذلك، فهي في ذلك كالسنة.

جماعة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه

جماعة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأول ما تطلق الجماعة على جماعة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، وهم الذين مثل بهم النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بالاستمساك بالجماعة قيل: (من هم الجماعة؟ قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي)، فالجماعة تعني النموذج الأول لجماعة المسلمين وهم النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، ولزومهم أي: باقتفاء أثرهم في الاعتقاد والقول والعمل.

أئمة الدين المقتدى بهم

أئمة الدين المقتدى بهم المعنى الثاني: تطلق الجماعة على أئمة الدين المقتدى بهم، أئمة أهل السنة والجماعة، فهم أول من يندرج تحت مسمى الجماعة بعد الصحابة، في كل عصر بحسب حاله، فأئمة الدين الأحياء منهم والأموات هم الجماعة، وهم أئمة الهدى القدوات.

الاجتماع على السنة والمصالح الكبرى للأمة

الاجتماع على السنة والمصالح الكبرى للأمة المعنى الثالث: أن الجماعة قد تطلق على معنى الاجتماع على السنة والحق والمصالح الكبرى للأمة. والاجتماع على السنة قد يكون معنى حسياً، وقد يكون حسياً واعتبارياً، وقد يكون اعتبارياً فقط، بمعنى أنه قد تتحقق الجماعة في زمن غربة الإسلام بمن يستمسك بها وإن تفاوتت أوطانهم وتباعدت أجسادهم؛ لأنهم يجتمعون على السنة، فقد تكون مجموعة منهم في هذه البلاد، وأخرى في الشام، وأخرى في أفريقيا، وثالثة في أقصى الدنيا، وقد يكون من الجماعة أفراد ولو في الصين، وقد يكون فرد على السنة والجماعة، فيدخل في مسمى الجماعة بهذا المفهوم الشرعي الأصيل. إذاً: الجماعة هم الذين اجتمعوا على السنة وإن تفارقت أجسادهم، واجتمعوا على الحق وإن اختلفت أوطانهم وأزمانهم، وهم أيضاً من اجتمعوا على المصالح العظمى للأمة سواء في بلد معين أو في بلد مختلف.

عموم المسلمين

عموم المسلمين والمعنى الرابع للجماعة: هم عموم المسلمين الذين لا يزالون على أصل الإسلام. قد يتمثل فيهم معنى الجماعة خاصة عندما تحيط بالأمة الأزمات والنكبات والمصائب العظمى، فإنه قد يجتمع شمل المسلمين على ما هم فيه من اختلاف في المذاهب الفقهية، وعلى ما هم فيه أحياناً من اختلاف في الآراء، فقد يتحقق فيهم المعنى العام لجماعة المسلمين ما داموا على الحق، بما في ذلك العامة وبما في ذلك الذين عندهم شيء من الأخطاء التي لا تصل إلى حد الخروج عن أهل السنة والجماعة خروجاً متعمداً، حتى من ارتكب بدعة من غير قصد يدخل في مسمى الجماعة ما لم تكن بدعته مكفرة، أما إذا قصد وصار داعية بدعة خرج من مسمى الجماعة. إذاً: من إطلاقات الجماعة جماعة عموم المسلمين وهو ما يعبر عنه بالسواد الأعظم، وهذا مشروط بمن كان على الحق أئمتهم وولاتهم وعامتهم.

أهل الحل والعقد

أهل الحل والعقد الخامس من معاني الجماعة: تطلق الجماعة على أهل الحل والعقد، وهذا كثير خاصة فيما يتعلق بالوُلاية أو الوَلاية، ويتعلق بالسلطان. فتطلق الجماعة على أهل الحل والعقد، وعلى رأسهم الولاة والعلماء، ثم من كان له أثر في الأمة بحكم مسئوليته وموقعه، فيدخل في ذلك أمراء وقواد الجيوش، ويدخل في ذلك الوزراء ورؤساء العشائر، والزعماء المطاعون في أقوامهم، ويدخل في ذلك أهل الرأي والمشورة الذين لرأيهم أثر في مصالح الأمة، وينتظم بهم معنى الجماعة عند الخطوب وإن لم يكونوا على الاستقامة. وهذا أمر خالفت فيه جميع الفرق ولم يجتمع عليه إلا أهل السنة والجماعة، فإنهم لما نظروا إلى أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وجدوا أنه أمر بالاجتماع على الأمراء والسلاطين، وعلى أهل الحل والعقد، وعدم الخروج عن الجماعة على هذا المعنى، حتى وإن كان في الأمراء والسلاطين تقصير وأثرة وظلم؛ لأن الاجتماع يتحقق به الخير وتندفع به المفاسد، وبالفرقة يحصل الفساد في الدنيا والدين، وهذا يخالف قواعد الدين وغايات الشرع. إذاً: أهل الحل والعقد يدخلون في مفهوم الجماعة في كثير من الحالات، وليس في كل الحالات، إذا استغنت الأمة بإمامة راشدة وبالعلماء الراسخين فقد يجتمع فيهم جميع هذه المعاني، أما إذا تخلفت شروط الولاية، أو وجد في الأمة نقص وتقصير، فإنه لا بد أن ترجع الأمة إلى أدنى من يمكن أن يجتمع عليه، فمن اجتمعت عليه الأمة من أهل الحل والعقل فهو داخل في مفهوم الجماعة، ومن خالفهم فهو داخل في الوعيد الوارد في الخروج على الجماعة، وهذا المعنى أكثر المعاني غموضاً عند كثير من الناس، وهي التي يكون فيها الخلاف والنزاع بين أهل السنة ومخالفيهم.

الاجتماع على مصالح الناس

الاجتماع على مصالح الناس المعنى الأخير للجماعة: هم الفريق من الناس الذين يجتمعون على مصلحة الناس، سواء كانت دينية وهو الأولى مثل جماعة المسجد، جماعة الحي، جماعة الحسبة، جماعة الجهاد، فهؤلاء جماعة ولهم حقوق شرعية مرعية، فجماعة المسجد لها حقوق فلا تصح الصلاة للرجل إلا في المسجد، والمسجد أيضاً ينبغي أن يكون منطلق شورى لأهل الحي وجماعة المسلمين، وكثير من قضايا الأمة وعقودها الضرورية تعقد في المسجد. فالفريق من الناس الذين يجتمعون على عمل ما سواء المصالح الدينية كما ذكرت، أو اجتماعات دنيوية كالجماعة الذين في سفر يتحقق فيهم معنى الجماعة، وقد يكون الشذوذ عنهم إثماً، حتى وإن كانت المصلحة دنيوية، لكن يتفاوت هذا الإثم، فالإثم في الخروج على الجماعة الدنيوية ليس كإثم الخروج عن الجماعة التي يتحقق بها معنى الدين ومصالح الأمة الكبرى. إذاً: كل هذه المعاني تدخل في قول الشارح: (فمن السنة لزوم الجماعة، فمن رغب غير الجماعة وفارقها فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، وكان ضالاً مضلاً)، وقد تكون بعض صور الجماعة لا يقتضي الخروج عنها الخروج من الملة، لكن الصور الكبرى التي ذكرتها وهي الأولى والثانية والثالثة وكذلك الرابعة، فهذه الغالب أنها تكون فيها المعاني الكبرى للجماعة.

تبنى الجماعة على أساس التزام السنة والاتباع

تبنى الجماعة على أساس التزام السنة والاتباع قال رحمه الله تعالى: [والأساس الذي تبنى عليه الجماعة هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ورحمهم الله أجمعين، وهم أهل السنة والجماعة، فمن لم يأخذ عنهم فقد ضل وابتدع، وكل بدعة ضلالة، والضلالة وأهلها في النار]. هذه أيضاً قاعدة عظيمة، وهي تنبني على الأساس في الجماعة، والأساس في الجماعة ذكره الشيخ هنا ضمناً، فلذلك أرى أن تعلقوا بعد قوله: (والأساس الذي تبنى عليه الجماعة)، أن تضعوا كلمة: التزام السنة والاتباع، أي: (الأساس الذي تبنى عليه الجماعة هو التزام السنة والاتباع). إذاً: لا تكون الجماعة مجرد دعوى، بل لا بد من التزام السنة واتباع الأئمة المهتدين.

قيام الحجة بظهور السنة

قيام الحجة بظهور السنة قال رحمه الله تعالى: [وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا عذر لأحد في ضلالة ركبها حسبها هدى، ولا في هدى تركه حسبه ضلالة، فقد بينت الأمور، وثبتت الحجة، وانقطع العذر]. أيضاً هذا تقرير أصل عظيم من أصول السنة، وهو أنه بظهور السنة قامت الحجة، هذا ملخص هذه الفقرة. فالنبي صلى الله عليه وسلم أظهر السنة وبقيت بعده ظاهرة إلى قيام الساعة، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخبر الصدق: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ومن عاداهم إلى قيام الساعة) فهذا الظهور تقوم به الحجة. إذاً: تقوم الحجة بظهور السنة؛ لأن الحق ظاهر بأهله، وهم القدوات، وما دامت القدوة موجودة، ولن تزال موجودة إلى قيام الساعة، ولن تزول القدوة إلا بآخر لحظة من الدنيا، حينما تأتي الريح التي تقبض المؤمنين مع عيسى بن مريم في آخر الزمان، وما ورد من أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه عند قيام الساعة لا يبقى من يقول: الله الله)، فهذا بعد انفراط أشراط الساعة الكبرى، وقتل الدجال، وبعد أن يحكم المهدي في المسلمين حكماً راشداً، فبعد ذلك كله لا يبقى في الأرض إلا شرار الخلق يتهارشون تهارش الحمر، وهم الذين لا يبقى فيهم من يقول: الله الله. أما قبل ذلك فلا يظن ظان أن تخلو الأرض من أهل السنة، فضلاً عن عموم أهل الحق، فضلاً عن عموم المسلمين، هذا وعد من الله عز وجل، أقول هذا لأني لاحظت من بعض الذين تناولوا هذه المسألة أنهم أخطئوا في الفهم، وظنوا أنه يمكن أن يأتي زمان قبل ظهور علامات الساعة الكبرى ينعدم فيه الحق أو يزول فيه الحق، ولا يبقى في الأرض من يقول: الله الله، وهذا القول خلاف النصوص، فمقتضى النصوص أنه لا بد أن يبقى الحق ظاهراً إلى أن يأذن الله عز وجل. قال رحمه الله تعالى: [وذلك أن السنة والجماعة قد أحكما أمر الدين كله، وتبين للناس، فعلى الناس الاتباع]. طبعاً الذي يرتكب ضلالة يظن أنها هدى قد لا يخرج من الملة أو لا يكفر، لكنه لا يعذر مع وجود القدرة؛ لأنه لا يكفي مجرد الظن، والحق يتميز بأهله. إذاً: قصده هنا ظاناً أن أكثر الذين بدأت البدع عندهم كانوا يظنون أنهم على هدى، وأن منهم من يتعمد، لكن ليس المقصود المتعمد، المقصود أن من يزل ظاناً أنه على هدى، ليس له في ذلك حجة، إنما يختلف حكمه عن حكم المتعمد فقط.

مصادر الدين

مصادر الدين قال رحمه الله تعالى: [واعلم رحمك الله أن الدين إنما جاء من قبل الله تبارك وتعالى، لم يوضع على عقول الرجال وآرائهم، وعلمه عند الله وعند رسوله، فلا تتبع شيئاً بهواك، فتمرق من الدين فتخرج من الإسلام، فإنه لا حجة لك، فقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته السنة وأوضحها لأصحابه وهم الجماعة، وهم السواد الأعظم، والسواد الأعظم الحق وأهله، فمن خالف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من أمر الدين فقد كفر]. هذه الفقرة كلها في مصادر الدين، وقد ذكر أن الأصل في الدين الوحي، أي: ما جاء عن الله تعالى، وما جاء عن رسوله صلى الله عليه وسلم. فقوله: (إنما جاء من قبل الله تبارك وتعالى) يعني بذلك الوحي، والوحي يشمل القرآن وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير. ثم ذكر مصادر الضلالة التي عولت عليها الفرق وأهل الأهواء والديانات الباطلة، وهي التعويل على عقول الرجال، وهذا يشمل أغلب مصادر التلقي عند أهل الأهواء؛ لأن التعويل على العقول يشمل الفلسفات ومناهج المتكلمين، ويشمل أيضاً تقديم العقل على النقل، ويشمل تحكيم الأهواء، كما يشمل مصادر التلقي عن الأشخاص، مثلما يسميه الصوفية الكشف والذوق والتلقي عن الولي أو ما يسمونه الإلهام أحياناً، والكرامات وغير ذلك، والكرامات في الأصل حق، لكنهم يسمون دجل الشياطين كرامات، فكل ذلك راجع إلى عموم التعويل على عقول الرجال. ثم ذكر أن ذلك كله جامعه الهوى فقوله: (فلا تتبع شيئاً بهواك فتمرق من الدين فتخرج من الإسلام)، يقصد بذلك أن من استمد الدين من غير الكتاب والسنة فلا شك أنه يمرق من الدين، خاصة من لم يتأول، أما المتأول فقد التبس عليه الحق بالباطل فظن أنه اعتمد على مصادر الدين، في حين أنه جعل عقله أو مقرراته التي يدين بها هي الأصل، ثم راح يلتمس لها الأدلة من النصوص، لكن مع ذلك فإن المتأول لا يخرج من الملة إلا بعد إقامة الحجة بشروطها، وأما من تعمد أخذ الدين عن غير مصادره الأصلية فلا شك أنه ينطبق عليه حكم المؤلف وهو الخروج من الإسلام. وذكر أن سبب ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بين الدين كله، ولم يعد لأحد حجة، ولا له أن يدعي أن الدين يحتاج إلى بيان أو تقرير أو إلى استمداد من غير الكتاب والسنة.

أهل السنة والجماعة هم السواد الأعظم

أهل السنة والجماعة هم السواد الأعظم ثم أشار إلى الجماعة وأنهم السواد الأعظم، وهذه العبارة لها عدة معان، فالسواد الأعظم عبارة وردت في بعض الآثار، وإن كانت لا يصح إطلاقها على عموم المسلمين. فالمقصود بالسواد الأعظم هنا من وصفهم المؤلف بقوله: (الحق وأهله)، بصرف النظر عن العدد والكثرة، وإن كان مفهوم السواد الأعظم قد يقصد به الأكثرية، لكن مع ذلك فإن كثيراً من المفاهيم اللغوية تحددها المفاهيم الشرعية، فالمعنى الشرعي عن السلف للسواد الأعظم أنهم الأعظم قدراً، وهم أئمة الدين ومن تبعهم من عامة المسلمين، ذلك أن العامة الذين على الفطرة هم الأكثر عدداً، فربما يطلق على عموم المسلمين على هذا الوجه ما لم يتلبسوا ببدعة ظاهرة، هذا أمر. والأمر الآخر: أنه يطلق على الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وتابعيهم في القرون الفاضلة السواد الأعظم، من باب أنهم هم الأكثر عدداً وهم الأقوى، وهم الأكثر اعتباراً، فالأمة في تلك العصور الفاضلة إنما تدين لأهل السنة والجماعة، أئمة الدين، وعامة المسلمين تبع لهم حتى الولاة. فمن هنا يكون السواد الأعظم في القرون الثلاثة الفاضلة هم أئمة السنة ومن تبعهم، وهم الأكثر من المسلمين؛ لكن بعد كثرة الفرق عدداً خاصة بعد القرون الفاضلة من القرن الرابع وما بعده، كانت تسود الفرق ويكثر عدد أتباعها، ويكثر سوادهم، فمن هنا لا بد من حصر السواد الأعظم على من كان على مذهب السنة والجماعة، أي: السواد الأعظم في العصور الفاضلة، أي: فلا بد من حصر السواد الأعظم بعد أكثرية الفرق بالحق وأهله وإن قلوا. إذاً: السواد الأعظم لا بد من تحديده بمفهوم اصطلاحي شرعي، فلا يخضع للمفهوم اللغوي وهو اعتبار الأكثرية؛ لأن الأكثرية لا اعتبار بها، إنما الاعتبار للحق وأتباعه.

من أسباب البدع ترك السنة

من أسباب البدع ترك السنة قال رحمه الله تعالى: [واعلم أن الناس لم يبتدعوا بدعة قط حتى تركوا من السنة مثلها، فاحذر المحدثات من الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، والضلالة وأهلها في النار]. وعلى هذا فإن من أسباب البدعة ترك السنة، يعني: أن الذين وقعوا في البدعة قديماً وحديثاً نجد أن من أعظم أسباب وقوعهم في البدعة جهلهم بالسنة، وتركها عمداً أو جهلها بغير عمد، فالخوارج مثلاً هم أول من أظهر البدع ودعا إليها وقننها، وإذا تأملنا حالهم وجدنا أن وقوعهم في البدعة سببه الرئيس والأول هو جهلهم بالسنة؛ لأنهم لم يكن عندهم علم وليس عندهم قدرة على التفقه في الدين، لأن مداركهم فيها بساطة وفيها ضعف، ثم إنهم لم يتلقوا الدين، ومن تلقى منهم شيئاً قليلاً لم يتلقه على منهج سليم، فهم لم يأخذوا الدين عن الصحابة -أعني: الخوارج الأوائل- ولم يأخذوه من مصادره الأصلية بأسلوب منهجي علمي صحيح، بل أخذوا العلم على غير قواعده. ثم إن بضاعتهم من العلم والنصوص قليلة جداً، فأدى بهم هذا إلى الجهل من حيث يشعرون أو لا يشعرون، فلما جهلوا ابتدعوا. وهكذا من جاء بعدهم، كالسبئية الشيعة ومن تفرع عنهم، ثم القدرية، ثم الجهمية والمعتزلة إلى آخره، ولذلك نجد أن أهل السنة وصفوا رءوس البدع بأنهم جهلة، قالوا بأن الجهم جاهل، وقالوا بأن معبد الجهني عنده شيء من الاستعجال وعدم التثبت في العلم، وقالوا عن غيلان بأنه يجهل وهكذا. فإن رءوس البدع كان من أعظم أسباب وقوعهم في البدعة أنهم يجهلون السنة، مع ما هم فيه من جرأة وما هم فيه من استعلاء وغرور، فيكون عند الواحد منهم شيء من التهور فيقع في البدعة لجهله بالسنة. ثم من لوازم الوقوع في البدعة ما ذكره الشيخ: الوقوع في المحدثات، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، فأدى هذا إلى انتشار الضلالات بين أهل الأهواء، ويظنون أنهم على الحق، وهذا طريق إلى النار، نسأل الله السلامة. ثم في الفقرة التالية سيتكلم عن نشأة البدع وأنها تبدأ صغاراً.

نشأت البدع صغارا ثم صارت كبارا

نشأت البدع صغاراً ثم صارت كباراً قال رحمه الله تعالى: [واحذر صغار المحدثات من الأمور؛ فإن صغير البدع يعود حتى يصير كبيراً، وكذلك كل بدعة أحدثت في هذه الأمة كان أولها صغيراً يشبه الحق، فاغتر بذلك من دخل فيها، ثم لم يستطع الخروج منها، فعظمت وصارت ديناً يدان بها، فخالف الصراط المستقيم، فخرج من الإسلام]. هذه أيضاً فائدة عظيمة ينبغي أن يرعاها طلاب العلم ويعوها جيداً، وأن يحذروا من أن تتكرر مثل هذه الغلطات التي وقعت من أهل البدع أو تساهل فيها بعض المنتسبين للعلم، وهو أن صغار البدع والمحدثات طريق إلى الأمور الكبار، أولاً: أن صغار المحدثات إذا تساهل فيها أهل العلم هي طريق إلى الوقوع في الأمور الكبار. الأمر الثاني: أن كل الفرق التي ظهرت في التاريخ تبدأ بدعها بأمور صغار، أو ببدع محدودة، ثم كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم: (تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه) يعني: تمضي بهم الأهواء كما يمضي المرض الخطير بصاحبه يأخذه رويداً رويداً حتى يهلكه، وقد يبدأ دون أن يشعر به صاحبه أو يشعر به الناس، ثم إذا ظهرت مظاهر المرض ولم تعالج بسرعة، فإنها تفتك بالإنسان حتى يهلك. ومصداق ذلك واقع في كل الفرق التي أصبحت الآن فرقاً كباراً، فرقت الأمة وأنهكتها ولا تزال تفرق وتتشعب على الأمة إلى يومنا هذا، فالفرق الكبرى أولها الخوارج، ومشكلتهم الأولى في مرتكب الكبيرة، حينما زعموا أن علي بن أبي طالب ومعاوية رضي الله عنهما حكما الرجال، وقالوا: تحكيم الرجال كبيرة أو كفر، وهذا الكفر عندهم مخرج من الملة، فجعلوا الكبيرة كفراً، ثم حكموا على صاحب الكبيرة بأحكام الكافر. فالخوارج لم يكونوا يتكلمون عن غير هذه المسألة لمدة عقود من السنين، وما بدأت بهم الأهواء الأخرى إلا بعد منتصف القرن الأول الهجري، فقد ظهروا سنة (36هـ أو 37هـ) فظلوا إلى ما بعد سنة (60هـ) وهم لا يعرف عنهم أنهم تكلموا إلا في مسائل محدودات تتعلق بمرتكب الكبيرة، ثم بعد ذلك أصبحوا معطلة؛ لأن قولهم بالحكم على مرتكب الكبيرة بالكفر أدى بهم إلى القول بخلوده في النار، وأدى بهم إلى أن يعتقدوا في المسلمين أنهم من المشركين والكفار، ثم أدى بهم هذا إلى إنكار الشفاعة، ثم أدى بهم هذا إلى إنكار الرؤية، ثم أدى بهم هذا إلى إنكار الصفات، ثم أصبحوا الآن جهمية ومعتزلة. ثم بعد ذلك يأتي القدرية، فالقدرية جاءت بكلمة واحدة، وهي قولهم: لا قدر والأمر أنف، يعني: لم يقدر الله أفعال العباد، وهي مستأنفة، ليس لها سابق تقدير، ثم تجارت بهم الأهواء حتى صارت القدرية مذاهب، وحتى اندمجت القدرية مع المعطلة المعتزلة اندماجاً كاملاً، ففي القرن الثاني لا تعرف القدرية إلا أنها معتزلة. وبدأت الجهمية بإنكار الاستواء ثم تكلموا بعد ذلك في مسألة كلام الله عز وجل، ثم جاء الجعد وتكلم في ثلاث مسائل: الاستواء والخلة والتكليم فقط، وجاء بعده الجهم فأعلن إنكار الأسماء، ثم بعد ذلك لم يقف الجهمية على مسألة الأسماء فقالوا بالجبر، وقالوا بالإرجاء الغالي إلى آخره. وهكذا بقية الفرق، فالأشاعرة على سبيل المثال وهم من المعاصرين، كانت مشكلتهم الأولى في مسألة كلام الله عز وجل؛ وذلك أنهم جعلوا الكلام من لوازم ذات الله عز وجل، وقالوا: بأن الكلام قديم النوع، وليس حادث الآحاد، وقالوا بأن الكلام هو المعنى القائم بالنفس، ولم يزيدوا عن هذا الأمر في عهد الأشعري، ثم تجارت بهم الأهواء حتى أصبحوا في عهد الشهرستاني والجويني والبغدادي والرازي جهمية، والآن أكثر مذاهب الجهمية موجودة في متكلمة الأشاعرة والماتريدية. فهكذا تنسحب القاعدة حتى في العصور المتأخرة، فكثير من الفرق أو الجماعات أو الأحزاب أو أصحاب الشعارات التي ظهرت الآن صارت أقرب إلى الافتراق، وكانت بداياتهم عن حسن نية، وفي مسائل معدودة خالفوا فيها أهل العلم، ثم تجارت بهم الأهواء، حتى قرروا مناهج ووضعوا لأنفسهم أصولاً وشعارات، وصاروا يوالون عليها ويعادون وهكذا. فينبغي لطلاب العلم أن يعوا جيداً هذه المسألة، وألا يستهينوا بصغار المسائل والمخالفات لأهل العلم، أما أن يكون في الناس خلاف، أو يوجد خلافات في الأمور الخلافية السائغة فهذا لا حرج فيه، وإنما المشكلة الإصرار على أمر يكون فيه خروج عن المنهج حتى في المسائل الصغار، فمن خرج عن مناهج أهل العلم في وقته، فيخشى أن يكون ممن بذر بذرة الافتراق وهو لا يشعر، وما أظن -والله أعلم- أن أكثر الذين أسسوا الفرق يظنونها تصل إلى هذا المستوى من الافتراق عن السنة، لكن المسألة خرجت عن حد ما أرادوا.

التثبت في الدين

التثبت في الدين قال رحمه الله تعالى: [فانظر رحمك الله كل من سمعت كلامه من أهل زمانك خاصة، فلا تعجلن ولا تدخلن في شيء منه حتى تسأل وتنظر، هل تكلم به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحد من العلماء، فإن وجدت فيه أثراً عنهم فتمسك به ولا تجاوزه لشيء، ولا تغتر عليه شيئاً فتسقط في النار]. هذه الفقرة متعلقة بالتثبت في الدين، وهذه المسألة أحوج ما يكون إليها طلاب العلم في هذا العصر، فمن الظواهر الملفتة في أيامنا هذه بالذات قلة تثبت كثير من طلاب العلم في الأمور، سواء فيما يتعلق بقضايا الدين، أو قضايا العلم، أو الأخبار والشائعات، أو النقل عن الآخرين، أو الحكم على الأشخاص، فهناك بعض الخصال أو السمات التي يستغربها الذين عاشوا زمناً مع أهل العلم وسبروا أحوال العلماء وعايشوهم. نلاحظ في الآونة الأخيرة ظواهر تحتاج إلى وقفة، وهي تسرع كثير من طلاب العلم في الأحكام والمواقف تجاه الأحداث والأشخاص، وهذا يحتاج إلى شيء من التأمل والمراجعة، فلعل مرد ذلك والله أعلم أن أغلب طلاب العلم في العصر الحاضر لم يعودوا يلتزمون مناهج العلماء في التلقي، وأغلبهم أخذ العلم عن غير الأصول الصحيحة السليمة، أعني أن أغلب مصادر العلم الآن القراءة الفردية، أو من خلال وسائل الإعلام، أو من خلال الأشرطة، أو المجالسة غير المركزة، مجالسة القيل والقال والهذر وهذه كلها لا تعطي طالب العلم الشخصية المنضبطة المتزنة، والغالب أن يكون عنده شيء من الاستقلالية التي تجعله لا يستفيد من مناهج العلماء العملية التطبيقية في التثبت وعدم التسرع والاستعجال، وإلا فما معنى أن تشغل هذه الظاهرة بال كثير من المصلحين والعلماء الراسخين وأئمة الدين؟ لقد أصبحت من الأمور التي جعلت كثيراً من العلماء يتحفظ ويتردد في نشر العلم خاصة في القضايا الخطيرة الحساسة، فمن هنا كان التثبت في الدين أمراً ضرورياً، ولذلك قال المؤلف رحمه الله في هذه الفقرة: (فانظر رحمك الله كل من سمعت كلامه من أهل زمانك خاصة فلا تعجلن، ولا تدخلن في شيء منه حتى تسأل وتنظر). وقد ذكرنا أن هذا يتعلق بالتثبت في أمر الدين، ويتبعه التثبت في الأحكام على الأشياء والأحكام على الأشخاص، حتى في الأمور الصغيرة. بالأمس اتصل بي أحد الشباب في الصباح الباكر يتثبت من خبر لو ثبت فهو مزعج جداً، لكن وقع في قلبي طمأنينة من أنها نفخة شيطان؛ فدفعت خبره ثم تعوذت من الشيطان الرجيم، فوجدت أن الأمر لا يعدو أن يكون نفخة من الشيطان. هذا الرجل فيه غيرة، وأنا أشكره على تثبته وأعتبره نموذجاً لطالب العلم المتثبت الذي ينبغي أن نقتدي به، لكن كيف وصله هذا النبأ المزعج، وكيف أزعجه وجعله يتصل مبكراً ليتأكد؟ فهذا أنموذج لما يدور من كثرة الشائعات وتقبل بعض طلاب العلم لها أو استعدادهم لها، فلا ينبغي لطالب العلم أن يكون مستعجلاً في أحكامه فضلاً عن علمه وفتواه ونحو ذلك.

الخروج من السنة إلى البدعة بإحدى طريقين

الخروج من السنة إلى البدعة بإحدى طريقين قال رحمه الله تعالى: [واعلم أن الخروج من الطريق على وجهين: أما أحدهما: فرجل قد زل عن الطريق وهو لا يريد إلا الخير، فلا يقتدى بزلته فإنه هالك. وآخر عاند الحق وخالف من كان قبله من المتقين، فهو ضال مضل شيطان مريد في هذه الأمة، حقيق على من يعرفه أن يحذر الناس منه ويبين للناس قصته؛ لئلا يقع في بدعته أحد فيهلك].

زلة العالم

زلة العالم هذه الفقرة تتعلق بزلة العالم، فالخروج عن طريق الحق والسنة في الاستقراء لا يعدو أن يكون على أحد هذين الطريقين: إما أن يكون الخروج عن السنة والجماعة والوقوع في البدعة بسبب اجتهاد عالم زل أو طالب علم زل يظن أنه على حق، أراد الخير لكن لم يصبه، فهذا يعبر عنه بزلة العالم، فلا يتابع في زلته، وإن كانت قد لا تقدح في دينه وذمته، ولا تنقص من قدره وعلمه، وكم وقع كبار من الأئمة قديماً وحديثاً في زلات، لكن الله عز وجل قيض للحق من ينصره ويبينه وينفي عن الدين هذه الزلة، فيتضح أنها كبوة من عالم، وهذه الكبوة لا يتابع عليها، وهذا كثير سبق ضرب الأمثلة عليه، مثلما حدث من بعض الذين قالوا بالقدر، وبعض الذين قالوا بالإرجاء كـ أبي حنيفة وشيخه حماد وغيره، فهؤلاء أئمة كبار يعترف لهم بالفضل والسبق والدين والعلم، لكنهم في هذه المسألة زلوا عن طريق الحق فوقعوا في البدعة، فصاروا فتنة للآخرين، فما افتتنت المرجئة بالإرجاء إلا لأنه قال به أبو حنيفة وشيخه وبعض تلاميذه، ففتن عدد كبير من الفقهاء، بل مذهب من المذاهب الفقهية الأربعة التي تنسب إلى السنة، وقع سائر أهلها في الإرجاء؛ وهم الأحناف؛ لأنهم فتنوا بزلة العالم، وظنوا أنه لما كان إماماً من أئمة السنة فإنه معصوم، وهذا غلط، والصواب أن يوزن كلامه بميزان الكتاب والسنة.

معاندة المبتدع للحق

معاندة المبتدع للحق أما النوع الثاني: فيكون في الغالب من تبييت مبتدع غره الشيطان، وهو الواقع من أكثر رءوس البدع الذين شجعوها بعدما قامت عليه الحجة، فبعدما تقوم الحجة لا يصر على الوقوع في الافتراق والبدعة إلا معاند للحق، خالف من قبله من المتقين الصالحين، فهو ضال مضل شيطان مريد، حتى وإن التبس بالصالحين، بل سبق أن ذكر أهل العلم أن أغلب أهل الأهواء يكون ظاهرهم الصلاح والاستقامة، ولذلك اغترت بهم الغوغاء، ومن هنا لا ينبغي أن يكون الصلاح الظاهر هو الدليل على الحق، بل الدليل على الحق اتباع الكتاب والسنة. والله أعلم.

شرح السنة [2]

شرح السنة [2] لا يتم إيمان عبد حتى يكون مصدقاً مسلّماً متبعاً لما جاء في الكتاب والسنة، ومن ذلك الإيمان والتسليم بما جاء في الكتاب والسنة من صفات الرب سبحانه، والإيمان برؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، والإيمان بالميزان، والحوض، والشفاعة، والصراط، والملائكة، والجنة والنار، إيماناً جازماً لاشك فيه ولا مراء ولا جدال ولا خصومة.

مستلزمات الإسلام

مستلزمات الإسلام قال أبو محمد الحسن بن علي البربهاري رحمه الله تعالى: [واعلم رحمك الله أنه لا يتم إسلام عبد حتى يكون متبعاً مصدقاً مسلماً، فمن زعم أنه قد بقي شيء من أمر الإسلام لم يكفوناه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كذبهم، وكفى به فرقة وطعناً عليهم، وهو مبتدع ضال مضل محدث في الإسلام ما ليس فيه]. هنا ذكر مستلزمات الإسلام، الأصول التي يستلزمها الإسلام: الأصل الأول: التصديق، والشيخ لم يذكرها مرتبة. الأصل الثاني: التسليم؛ لأن التسليم معنى زائد عن التصديق؛ ذلك أن كثيراً من البشر قد يصدقون الأنبياء في الجملة، لكن لا يسلمون لهم في الجانب العملي، أو لا يخضعون خضوعاً قلبياً ولا خضوعاً عملياً. إذاً: المستلزم الأول للإسلام هو تصديق ما جاء به الرسل عموماً، وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم على وجه الخصوص من قول أو فعل أو تقرير، وأول ذلك التصديق بالقرآن الذي جاء عن الله عز وجل. ثانياً: التسليم، ومعناه: تسليم القلب وتسليم الجوارح. ثالثاً: الاتباع، وهو ما نعبر عنه بالتطبيق، أي: العمل بمقتضى الدين، والاتباع للطريق المستقيم، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في الاعتقاد والقول والعمل، ثم اتباع سبيل المؤمنين الذي هو صراط الله المستقيم. إذاً: فهذه المستلزمات الثلاثة لا يصح الإسلام إلا بها جميعاً: التصديق فالتسليم فالاتباع.

منع القياس في العقائد

منع القياس في العقائد قال رحمه الله تعالى: [واعلم رحمك الله أنه ليس في السنة قياس ولا يضرب لها الأمثال، ولا تتبع فيها الأهواء، وإنما هو التصديق بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا كيف ولا شرح، لا يقال: لم؟ وكيف؟]. المقصود بالقياس الممنوع: القياس في أمور الاعتقاد ومناهج السنة وأصول الدين؛ لأنها توقيفية، والموضوع هنا موضوع العقيدة، فالسنة المقصود بها العقيدة كما عنون لها الشيخ هنا، ولا قياس فيها؛ لأنها تنبني على الأصول القطعية وعلى مناهج الدين العلمية والعملية، ومناهج الدين أصول توقيفية، مأخوذة عما جاء عن الله تعالى وثبت عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه السلف من سنة الخلفاء الراشدين وما اتفقوا عليه بعد ذلك، فهذه أمور لا قياس فيها. أما القياس الفقهي، القائم على قاعدة شرعية مستمدة من النصوص، وهو قياس النوازل الحادثة في تصرفات البشر على ما سبق مما هو من سنن الهدى أو مما تقرر في النصوص، فهذا لا يدخل في مفهوم القياس الوارد في العقيدة، فيجوز أن تقاس قضية اجتهادية على قضية سبقت، وعليه عمل المسلمين. إذاً: فينبغي أن نفهم معنى القياس الممنوع، وهو القياس في أصول الدين وفي قضايا العقيدة، فلا قياس فيها لأنها توقيفية لا زيادة فيها ولا نقص.

ذم الكلام والخصومة والمراء في الدين

ذم الكلام والخصومة والمراء في الدين قال رحمه الله تعالى: [والكلام والخصومة والجدال والمراء محدث، يقدح الشك في القلب، وإن أصاب صاحبه الحق والسنة]. وهذه قاعدة عظيمة من القواعد المقررة في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم واتفق عليها السلف، وهي: أن الكلام والخصومة في الدين وما يستتبعهما من المراء والجدل كل ذلك حرام، وما حدث من المراء منذ نهاية القرن الأول أمر محدث لم يكن عليه سلف الأمة، وإنما أحدثته الفرق، ومع ذلك بقي الصحابة والتابعون والسلف وأئمة الدين يتفادون الوقوع في المراء والجدل إلا في حالات ضرورية يضطرون فيها لنصر الدين بالجدال بالتي هي أحسن، كما حدث من ابن عباس وعلي بن أبي طالب مع الخوارج، وكما حدث من بعض أئمة السلف كـ الأوزاعي والثوري وغيرهم مع القدرية والجهمية. ثم بعد ذلك لما كثرت الفرق صارت للسلف بعض المواقف لجئوا فيها إلى الجدال لكن بدون مراء، فما كانوا يلجئون إلى المراء، وكان هذا مما يستفز الخصوم، كما حدث من الإمام أحمد رحمه الله، حيث كان لا يجادل بأكثر من إقامة الدليل، وإذا وجد أن خصمه يماري سكت، وكان سكوته مما يغضب عليه بعض الخلفاء والرءوس الذين حضروا المجادلة أو حضروا المناظرة؛ لأن السلف يرون أن القصد بالجدل هو إقامة الحجة، وما عدا ذلك إذا تبين أن الخصم يماري فيكرر القضية بأكثر مما يحتاج الناس، فهذا لا ينبغي أن يتمادى معه صاحب الحق. إذاً: الجدال والمراء محدث؛ لأن مبنى الدين على التسليم، كما أن من ثمرات المراء أنه يقدح الشك في القلب، وذلك أن الدين مبناه على التسليم والتثبيت واليقين، فأي سؤال ينشأ ولو على سبيل الافتراض فإنه يحدث في النفس شيئاً، سواء لمن أنشأه أو لمن سمعه شاء الإنسان أم أبى، ولذلك نجد أن نصوص الشرع التي وردت في الرد على أهل الأهواء جاءت مختصرة لا تثير الشكوك، إنما تبني اليقين بالبدهيات الفطرية والعقلية، كما هو ظاهر من الردود التي ذكرها الله عز وجل في كتابه على الكفار والمشركين، فالبرهان العقلي الذي استدل به القرآن يتكون غالباً من كلمتين أو ثلاث، وهذا هو الذي قد يحتاجه من يجادل أهل الباطل، لكن إثارة الشكوك أو الافتراضات أو حتى التمادي في الإجابة على شكوك المشككين لا يستقيم على المنهج الحق ومنهج أهل السنة والجماعة. ولذلك فإن عجوز نيسابور لما رأت الرازي مع تلاميذه بالعشرات وهم يكتبون ما يتلفظ به من الأوهام والخيالات وسفاسف الأمور؛ ومن إعجابهم به كانوا يحيطون به كإحاطة الناس بالزعماء والملوك والسلاطين، فلما رأتهم تعجبت وقالت لأحد تلاميذ الرازي: من هذا الرجل، أهو السلطان؟ قال: لا، قالت: أهو نائب السلطان؟ قال: لا، قالت: أهو القائد فلان؟ قال: لا قالت: إذاً فمن يكون؟ قال: هذا العالم فلان الذي يملك على وجود الله ألف دليل، قالت: لقد والله تعس وخسر وخاب، أفي الله شك؟ إن كان الأمر كما تقول، فإن في قلبه ألف شك. {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [إبراهيم:10]، هذا هو مقتضى الفطرة، ولذلك فإن الشك سواء كان على سبيل الافتراض أو كان حقيقياً أو أحدثه السؤال أو أنشأه المراء والجدال، فإنه باب ضلالة وفتنة، وينبغي لطالب العلم ألا يعرض نفسه ولا غيره لأي نوع من أنواع الشك بقصده، أما إذا حدث من غير قصد، فينبغي أن يعالج الشك بأقصى درجات الكتمان، وألا يوسع دائرة الجواب على الشكوك في الدروس العامة والمنابر والمناظرات.

الكلام في الله تعالى بغير ما ورد بدعة وضلالة

الكلام في الله تعالى بغير ما ورد بدعة وضلالة قال رحمه الله تعالى: [واعلم رحمك الله أن الكلام في الرب تعالى محدث، وهو بدعة وضلالة، ولا يتكلم في الرب إلا بما وصف به نفسه عز وجل في القرآن، وما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، فهو جل ثناؤه واحد ليس كمثله شيء وهو السميع البصير]. هذا تفصيل للإجمال السابق، حينما ذكر أن الكلام والخصومات والجدال والمراء محدثات، ذكر أعظم وأخطر الكلام والخصومات، وهي الخصومات في الله عز وجل، فذكر أن الكلام في الرب عز وجل محدث؛ لأن الأصل في الناس التسليم بالعقل والفطرة فيما يتعلق بالله عز وجل على جهة الإجلال، ثم التسليم المطلق فيما ثبت عن الله تعالى في ذاته وأسمائه وصفاته على سبيل التفصيل، ولا طاقة للعقول في أن تتكلم عن الله عز وجل، وذلك ورد الإرشاد إلى التفكر في خلق الله وآلائه وما يدل على اليقين بحقوقه عز وجل، ولا يكون التفكر في ذات الله؛ لأنه مما لا طاقة للعقول به، ولأن الإيمان بالله ينبني على التسليم، هذا أمر. الأمر الآخر: أن الكلام في الرب عز وجل لا شك أنه سوء أدب؛ لأن الله عز وجل كفانا كل ما يتعلق بذاته وأسمائه وصفاته، فقد ذكر الله لنا من صفات الكمال له ما لا يمكن أن يخطر على بال بشر، ولو تكلم البشر بجميع ألسنتهم ولغاتهم وبجميع قواهم العقلية ليأتوا بصفة لله أعظم مما وصف به نفسه ما استطاعوا أبداً، بل كثير مما وصف الله به نفسه في كتابه مما لا يمكن أن يدرك بالعقول. فإذاً: لا حاجة للناس أن يتكلموا في الرب عز وجل وقد نهوا عن ذلك، وهو تطاول على الله عز وجل ورجم بالغيب. ومن هنا ندرك خطورة مناهج المتكلمين، أما الجهمية والمعتزلة فعوار منهجهم واضح، لكن البلوى عمت بمن جاء بعدهم من المتكلمين الذين هم أقرب إلى السنة، كمتكلمة الأشاعرة والماتريدية، هؤلاء لا يعرفون غالباً من التوحيد إلا الثرثرة في أسماء الله وصفاته وأفعاله وتوحيد الربوبية، وارتقوا مرتقى صعباً لا طاقة لهم فيه، فأخذوا يقررون توحيد الربوبية ويتكلمون في الأسماء والصفات بقواعد عقلية لم ترد في كتاب ولا سنة، إنما هي أوهام ما زادت على أن أوقعت فيهم الشك في أسماء الله وصفاته، فوقعوا في التأويل، حتى أنهم لم يثبتوا لله عز وجل إلا سبع صفات وابتدعت الماتريدية صفة ثامنة أيضاً، وأنكروا بقية الصفات؛ لأنهم خاضوا في الله عز وجل وفي ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله بغير ما ورد في الكتاب والسنة، ثم لم يسلموا بما ورد في الكتاب والسنة، وكان هذا لهم جزاءً وفاقاً، فكل من عدل عن شيء من السنة ابتلي بالبدعة، فلما عدلوا عن الإقرار بأسماء الله وصفاته وصفوا الله بما لم يصف به نفسه، تورعوا عن أن يصفوا الله بصفاته الواردة في الكتاب والسنة تورعاً كاذباً، فوقعوا في أن وصفوا الله بالأوصاف البدعية، فقالوا: ليس بعرض ولا جوهر ولا بجهة ولا مباين ولا مفاصل ولا داخل العالم ولا خارجه ولا ولا، من اللاءات التي تجعل الله عز وجل على صورة المعدوم، تعالى الله عما يزعمون. إذاً: كل ذلك منشؤه ما أحدثته الجهمية تبعاً للفلاسفة من الكلام في الرب عز وجل، وهو بدعة وضلالة كما قال الشيخ، فلا يُتكلم في الرب إلا بما وصف به نفسه، وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، مع إثبات جميع وصفه به، ونفي المشابهة على قاعدة قوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].

رؤية الله عز وجل يوم القيامة

رؤية الله عز وجل يوم القيامة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ربنا أول بلا متى، وآخر بلا منتهى، يعلم السر وأخفى، وعلى عرشه استوى، وعلمه بكل مكان، لا يخلو من علمه مكان، ولا يقول في صفات الرب: كيف ولم إلا شاك في الله تبارك وتعالى. والقرآن كلام الله وتنزيله ونوره؛ ليس بمخلوق، لأن القرآن من الله، وما كان من الله فليس بمخلوق، وهكذا قال مالك بن أنس وأحمد بن حنبل والفقهاء قبلهما وبعدهما، والمراء فيه كفر. والإيمان بالرؤية يوم القيامة؛ يرون الله عز وجل بأبصار رءوسهم، وهو يحاسبهم بلا حاجب ولا ترجمان. والإيمان بالميزان يوم القيامة].

الرؤية العامة ومراحلها

الرؤية العامة ومراحلها الكلام هنا فيما يتعلق بالرؤية مجمل، والرؤية على نوعين: الرؤية العامة والرؤية الخاصة كما ورد في النصوص، فالرؤية العامة هي التي وردت في حق أهل المحشر، وهي أن الناس جميعاً يرون ربهم يوم القيامة في المحشر على مراحل: المرحلة الأولى: يراه جميع البشر، لكنها رؤية مجملة، ليس عندنا يقين بأنها بصرية، فربما تكون رؤية قلبية. وهي رؤية تليق بجلاله عز وجل، وتكون بحسب أحوالهم، فالمؤمنون يتمتعون بهذه الرؤية -نسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم- والمنافقون والكفار لا يتمتعون بها، بل يرونه رؤية المذنب المنكسر الحسير الذي لا يمكن أن يتمتع بهذه الرؤية، بل يعذب بها؛ لأنه عاص لربه. المرحلة الثانية: وهي في المحشر أيضاً، وهي أن يراه المؤمنون دون المنافقين ودون الكفار، حيث يحتجب عز وجل عن الكفار والمنافقين. وبعضهم قسمها إلى ثلاث: الرؤية العامة لجميع البشر، والرؤية الثانية يراه المؤمنون ومعهم منافقون؛ لأنهم كانوا يزعمون في الدنيا أنهم مع المؤمنين فيطمعون في هذه الرؤية، مما يجعل العذاب عليهم بعد ذلك أشد، فيطمعهم عز وجل برؤية ثانية، ثم في رؤية ثالثة يحتجب الله عن المنافقين كما احتجب عن الكفار ولا يراه إلا المؤمنون، وهذا وردت فيه الروايات بإجمال.

الرؤية الخاصة في الجنة

الرؤية الخاصة في الجنة فعلى هذا تكون الرؤية العامة بهذا التفصيل رؤية مجملة ليست مفسرة، أما ما ذكره الشيخ، فهو يقصد به النوع الثاني، وهو رؤية المؤمنين لربهم في الجنة نسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم وأن يمتعنا بهذه الرؤية. فهذه رؤية تكون بالأبصار بعيون رءوسهم، أما رؤيتهم وهو يحاسبهم فهي الرؤية العامة، ولا شك أنها بلا حجاب ولا ترجمان، أما رؤية في الجنة فهي بعين رءوسهم، أما الرؤية العامة فهي مجملة ليس عندنا عليها قطع بأنها عينية.

الإيمان بالميزان والحوض

الإيمان بالميزان والحوض قال رحمه الله تعالى: [والإيمان بالميزان يوم القيامة يوزن فيه الخير والشر، له كفتان وله لسان، والإيمان بعذاب القبر ومنكر ونكير، والإيمان بحوض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكل نبي حوض إلا صالح النبي صلى الله عليه وسلم، فإن حوضه ضرع ناقته]. هذا الكلام ليس عليه دليل، بل ربما يكون من الأمور التي لا أصل لها، حتى ما ورد فيه من حديث فهو موضوع؛ أعني القول بأن صالحاً النبي صلى الله عليه وسلم حوضه ضرع ناقته، فإن ثبت أن لكل الأنبياء حوض يوم القيامة، فكذلك نبي الله صالح فهو ضمن الأنبياء. إذاً: الأصل الإيمان بحوض النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ورد مفصلاً بعرضه وطوله وشكله وهيئته وما يدور حوله من مشاهد القيامة، وأن لكل نبي حوضاً، كذلك ثبت في آثار وأحاديث، ويدخل في ذلك صالح عليه السلام، وما قيل من أن حوضه ضرع ناقته لا يصح.

الإيمان بالشفاعات

الإيمان بالشفاعات قال رحمه الله تعالى: [والإيمان بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم للمذنبين الخاطئين في يوم القيامة وعلى الصراط]. هذه الشفاعة تسمى الشفاعة لأهل الكبائر، المذنبين الخاطئين، وليس الكفار، فالكفار الخلص ليس لهم شفاعة ولا تنفعهم شفاعة الشافعين. قال رحمه الله تعالى: [ويخرجهم من جوف جهنم، وما من نبي إلا له شفاعة، كذلك الصديقين والشهداء والصالحين]. وورد أن للقرآن أيضاً شفاعة وللصيام شفاعة، والراجح أنها صحيحة. قال رحمه الله تعالى: [ولله بعد ذلك تفضل كثير فيمن يشاء، والخروج من النار بعدما احترقوا وصاروا فحماً]. ثبت في الصحيح أن الله عز وجل حينما يأذن للشفعاء يشفع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ويشفع النبيون عليهم السلام، ويشفع الصديقون والشهداء والصالحون ومن أذن الله لهم بالشفاعة، ثم بعد ذلك يقول الله عز وجل: لم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين، فيخرج من شاء، فيقبض قبضة بيده ممن لم يعملوا خيراً قط، ولله الأمر من قبل ومن بعد يفعل في خلقه ما يشاء، لا معقب لحكمه.

الإيمان بالصراط والأنبياء والملائكة والجنة والنار

الإيمان بالصراط والأنبياء والملائكة والجنة والنار قال رحمه الله تعالى: [والإيمان بالصراط على جهنم، يأخذ الصراط من شاء الله، ويجوز من شاء الله، ويسقط في جهنم من شاء الله، ولهم أنوار على قدر إيمانهم. والإيمان بالأنبياء والملائكة، والإيمان بأن الجنة حق، والنار حق مخلوقتان؛ الجنة في السماء السابعة وسقفها العرش، والنار تحت الأرض السابعة السفلى وهما مخلوقتان، قد علم الله تعالى عدد أهل الجنة ومن يدخلها، وعدد أهل النار ومن يدخلها، لا تفنيان أبداً، بقاؤهما مع بقاء الله تبارك وتعالى أبد الآبدين في دهر الداهرين]. على أي حال أبدية الجنة والنار لا شك فيها، وهي رأي جمهور السلف، أما أبدية الجنة ونعيم الجنة فلا جدال فيه، وهو محل إجماع معلوم من الدين بالضرورة، وكذلك القول بأبدية النار هو الأصل، وإن نازع فيه بعض المجتهدين فنزاعهم محمول لا على فناء النار، إنما على انقطاع العذاب عند بعضهم، ومع ذلك فهذا رأي مرجوح لا ينبغي أن يخرج عن الأصل. أما عبارة: (هما مع بقاء الله تبارك وتعالى) فيظهر لي أنها غير لائقة؛ لأنه لا يجوز أن نقرن شيئاً من خلق الله مع صفات الله عز وجل، فنقول: هما باقيتان لا تفنيان أبداً، فالذي يظهر لي أن العبارة ينبغي أن نتورع عنها؛ لأن الله عز وجل له الكمال المطلق، فهو الآخر الذي ليس بعده شيء. والله أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

محاسبة الله لكل واحد من عباده بلا حجاب ولا ترجمان

محاسبة الله لكل واحد من عباده بلا حجاب ولا ترجمان Q الأخ يسأل عن قوله: (بلا حجاب ولا ترجمان). A أولاً: كلمة (بلا حجاب) لأن الله عز وجل يتبدى لعباده بلا حجاب بينهم وبينه على ما يليق بجلاله عز وجل، حتى أنه ورد في حديث أبي هريرة وحديث أبي سعيد الخدري وغيرهما قضية الصورة، أنهم يرونه في غير الصورة التي يعرفونها، ثم يرونه في الصورة التي يعرفونها، ففي الأولى يقولون: لست ربنا، وفي الثانية: يقولون: أنت ربنا، فهذا يدل على أنه ليس بينه وبينهم حجاب وهذا كلام مجمل أيضاً. فأما المؤمنون فيحاسبون حساباً يسيراً، وأما العصاة والكفار فيحاسبون حساباً عسيراً، فالله عز وجل يكلم كل واحد من عباده كلاماً خاصاً بواحاً ليس بينه وبينه ترجمان، ويقول له: ألم تفعل كذا، ألم أستر عليك كذا إلى آخره، حتى أنه ورد في النص أن الله عز وجل يحاسبهم جميعاً في وقت واحد، وكل واحد يظن أن الله لا يحاسب غيره ولا يكلم غيره. فالمقصود بالإشارة إلى الترجمان: أن الله يكلم عباده أفراداً كما يكلمهم جميعاً.

ترتيب مواقف القيامة

ترتيب مواقف القيامة Q الرجاء ترتيب هذه المشاهد يوم القيامة؛ لأنه كثر فيها الخلاف؟ A قصده المشاهد التي مرت، وليس هناك خلاف في ترتيب المشاهد إلا فيما يتعلق بالحوض، مشاهد القيامة أولها البعث ثم النشور ثم الحشر، ثم بعد الحشر يكون الحساب، وأثناء الحساب تكون أمور مثل الصحف والميزان والكتب، ثم بعد ذلك يكون الصراط، وبقي الخلاف في الحوض، هل هو قبل الصراط أو بعده؟ هذه مسألة خلافية، ذكرت كمثال من الأمثلة التي أشكلت فيها الآثار.

معنى المراء في الدين

معنى المراء في الدين Q ما معنى المراء في الدين؟ A المراء في الدين هو الجدل في أمر الدين، والأصل في الدين هو إقرار الحق بدليله، أو السؤال عن الحق بدليله، لكن لا يكون هناك جدال، بمعنى أنه لو كان لك وجهة نظر مع دليلها فإنك تقولها ولا تزيد، فلا تكرر حجة، ثم تثير الشبه وترد على الشبه، ثم ترد على الرد، والآخر يرد على الرد وهكذا، كما يحدث في مجالس الناس الآن إذا أثيرت قضية شرعية تجد اللغط فيها والكلام ورفع الأصوات، وأحياناً التشابك بالأيدي، فهذا نموذج من المراء المحرم، بل من كبائر الذنوب، فلا يجوز للناس أن يتجادلوا، وإذا بحثوا قضية شرعية فينبغي أن يقفوا فيها على مجرد ما يوجد عند الحاضرين معلومة بدليلها. ولا داعي لإثارة إشكالات أو التعصب للرأي، والجزم بما يراه أحد الحاضرين، فالمراء هو ما يزيد عن مجرد ذكر القضية ودليلها. والمحاورات والمناظرات التي تحدث في وسائل الإعلام خاصة في القنوات الفضائية الأصل فيها المنع، إلا في حالات استثنائية بشروطها؛ لكن لما عمت بها البلوى فأرى أنه لا مانع من أن يتصدى طالب العلم لأهل الباطل الذين يعرضون آراءهم في هذه القنوات، لكن بشرط أن يكون ملماً بالقضية التي سيناقش فيها وبأدلتها، وأن يكون ملماً بشبهة الخصم قبل أن يتعرض لها، وأن يكون عنده القدرة والجدارة، وأن يلتزم بشروط المناظرة، ويلزم خصمه بأن يضع شروطاً وضوابط في بداية المناظرة وبداية النقاش، فيشترط لنفسه؛ لئلا ينهزم فيظن أن الحق انهزم بسببه، وذلك من الآثار السيئة لوجود النقاش غير المتكافئ، وهو المحرم الذي حرمه السلف. ومن آثار النقاش غير المتكافئ أن بعض شبابنا فتنوا ببعض آراء الفرق، وفعلاً جاءني الآن بعض الشباب، يقول: إني أعرف من زملائي من اقتنع برأي فرقة من الفرق الضالة الكبرى بسبب مناظرة رآها في إحدى القنوات الفضائية، فصار المناظر في سبيل الباطل من العتاة المفتنين، والآخر ادعى السنة وهو لا يعرف كوعه من كرسوعه، فجلس ضعيفاً ذليلاً منهزماً يردد كلامه لا يكاد يبدي ولا يعيد، فظهر وكأن الحق انهزم، هذا شيء. الشيء الآخر أن أغلب القائمين على القنوات الفضائية، والقائمين على هذه البرامج فيهم خبث، فهم يتصيدون الشياطين من أصحاب الفرق، ويتصيدون الضعفة ممن ينتسبون للسنة، وربما ليسوا سنة أصلاً، فحسب ما سمعت من أسمائهم أصلاً لا يمثلون السنة مع الأسف، فهم بحاجة إلى أن يناظروا وأن تصحح عقائدهم، فكيف يمثلون السنة؟ فالوقوع في مثل هذه الحبائل حرام إلا بشروطه وضوابطه، ولذلك ينبغي لكل طالب علم يريد أن يتصدى لمثل هذه الأمور أن يستشير المختصين، وأن يتعرف على مؤهلاته هو، وما ينبغي أن يقول وما ينبغي أن يفعل ومؤهلات خصمه.

شرح السنة [3]

شرح السنة [3] يعتقد أهل السنة والجماعة أن الجنة مخلوقة الآن وهي الباقية إلى يوم القيامة، ويومنون بنزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان، ويعتقدون أن خير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام، وأفضلهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين، ويحفظون لهم حقهم، ويثنون عليهم، ويترحمون عليهم، ويمسكون عما شجر بينهم، ومن منهجهم السمع والطاعة لولاة أمر المسلمين في طاعة الله ورسوله، فإذا أمروا بمعصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

الجنة التي أخرج منها آدم هي جنة الآخرة

الجنة التي أخرج منها آدم هي جنة الآخرة قال أبو محمد الحسن بن علي البربهاري رحمه الله: [وآدم عليه السلام كان في الجنة الباقية المخلوقة فأخرج منها بعدما عصى الله عز وجل]. قوله: (المخلوقة) فيه إشارة إلى خلاف بعض الفرق الذين زعموا أن الجنة التي خرج منها آدم ليست هي الجنة التي وعد الله المتقين، وهناك من زعم أن جنة الآخرة لم تخلق ولم توجد بعد، وهذه كلها مذاهب خاطئة، فالجنة هي الجنة الأولى والباقية اليوم وإلى ما شاء الله، وهي أيضاً جنة الآخرة الأبدية، فالجنة واحدة، ومخلوقة وموجودة، وهي في السماء، عرضها كعرض السماوات والأرض أعدت للمتقين، نسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم.

الإيمان بالمسيح الدجال ونزول عيسى عليه السلام

الإيمان بالمسيح الدجال ونزول عيسى عليه السلام قال رحمه الله تعالى: [والإيمان بـ المسيح الدجال، والإيمان بنزول عيسى بن مريم عليه السلام ينزل فيقتل الدجال، ويتزوج ويصلي خلف القائم من آل محمد صلى الله عليه وسلم، ويموت ويدفنه المسلمون]. يقصد بالقائم المهدي الذي وردت به الآثار، وهو أيضاً من آل محمد صلى الله عليه وسلم، يصلحه الله في ليلة كما ورد في الآثار، وتكون على يده آخر الملاحم، ثم ينزل عيسى عليه السلام عليه وعلى المؤمنين، ويقيم بينهم حتى يتوفاه الله عز وجل، ثم يدفن عيسى عليه السلام، بل كل المؤمنين يحصل لهم بعد عيسى بقليل حياة ليست طويلة، ثم يقبض الله أرواحهم بريح طيبة، فلا يبقى في الأرض آخر الزمان إلا شرار الخلق نسأل الله العافية. ونزول عيسى من علامات الساعة الكبرى، ويكون من الأشياء التي تصاحب عيسى آخر مراحل الدجال؛ لأن عيسى ينزل والمسلمون يقاتلون الدجال، فإذا رآه الدجال ذاب كما يذوب الملح الماء؛ لأنه عرف اليقين الذي وعد الله به، فيقتله عيسى عليه السلام، ثم أيضاً يحدث في وقت عيسى من الآيات الكبرى يأجوج ومأجوج، فهم يخرجون وعيسى في ظهراني المسلمين. ويحدث أيضاً من العلامات الريح التي تقبض أرواح المؤمنين، لكن قيل إنها بعد وفاة عيسى، وهو الراجح.

الإيمان قول وعمل يزيد وينقص

الإيمان قول وعمل يزيد وينقص قال رحمه الله تعالى: [والإيمان بأن الإيمان قول وعمل، وعمل وقول ونية وإصابة، يزيد وينقص، يزيد ما شاء الله، وينقص حتى لا يبقى منه شيء]. يبدو لي أن هذا من باب تنويع العبارة لتأكيدها قوله: (الإيمان بأن الإيمان قول) المقصود به قول القلب وقول اللسان، فاللسان معبر عن القلب. (وعمل) يعني: عمل القلب وعمل الجوارح لا عمل الجوارح فقط؛ فعمل القلب هو المتمثل بالمحبة والرجاء والخوف واليقين والإنابة والتوكل، هذه كلها تسمى أعمال القلوب، فدخلت في العمل، وهي تزيد وتنقص، وكذلك عمل الجوارح يسمى عملاً، وأعمال الجوارح تزيد وتنقص، فيبدو لي أن التقديم والتأخير هنا لإحكام المسألة. ثم قال بعد ذلك: و (نية) والمقصود بالنية الإخلاص، لأن النية هنا موجهة إلى العمل المطلوب، والصحيح أن: (لكل امرئ ما نوى)، فمن نوى وجه الله عز وجل فله ذلك، ومن نوى غير وجه الله خسر دينه وإن كسب ما ينويه من أمور الدنيا، لكن المقصود هنا النية الخالصة، وذلك أن الإيمان لا يصح إلا بالإخلاص، فكما أنه قول وعمل فهو كذلك إخلاص لله عز وجل. قوله: (وإصابة) أي: موافقة للسنة، وهي أيضاً من شرائط صحة الإيمان. ثم قال: (يزيد وينقص) أي: كل ذلك يزيد وينقص قول القلب عمل القلب وعمل الجوارح، فالزيادة والنقصان تشمل جميع هذه الأقوال. كذلك النية، النية قد تكون خالصة وقد تكون مشوبة، فالنية الخالصة يزيد بها الإيمان والنية المشوبة ينقص بها الإيمان، وكذلك الإصابة الكاملة يكمل بها الإيمان، والإصابة المشوبة التي فيها شيء من الجهل أو نحو ذلك، أو الإصابة التي تكون خاطئة لكنها عن اجتهاد قد ينقص بها الإيمان، وليس كمالها ككمال الإصابة الكاملة. إذاً: كل هذه الأمور تعتبر من الإيمان، وكل ذلك يزيد ما شاء الله، وينقص حتى لا يبقى منه شيء، فيزيد بقدر ما يسدد الله العبد من أعمال الآخرة والنيات والصدق والإخلاص في الأعمال الظاهرة. قوله: (وينقص) أي: الإيمان (حتى لا يبقى منه شيء) أي: في حالة ما إذا خرج الإنسان من الإيمان بالكلية نسأل الله العافية، وهي الردة أو النفاق الخالص أو الشرك، فهذه لا يبقى معها من الإيمان شيء. وكذلك قد لا يبقى من أثر الإيمان شيء في لحظات كما فسره بعض السلف في حديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، قال بعضهم: لا يبقى عنده من الإيمان شيء إلا الأصل، لكن ثمرة الإيمان تنمحي في ذلك الوقت من المؤمن.

اعتقاد أهل السنة في الصحابة

اعتقاد أهل السنة في الصحابة

أفضل الصحابة الثلاثة الخلفاء

أفضل الصحابة الثلاثة الخلفاء قال رحمه الله تعالى: [وخير هذه الأمة بعد وفاة نبيها أبو بكر وعمر وعثمان، هكذا روي لنا عن ابن عمر قال: (كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا: إن خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان ويسمع النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فلا ينكره)]. النصوص في ترتيب أفضلية الصحابة وردت متدرجة في ذكر أفضلية الصحابة في نوعها وفي حجمها، فأكثر الفضائل فضائل أبي بكر رضي الله عنه، ثم ذكر فضائل أبي بكر مع عمر في الدرجة الثانية، ثم الدرجة الثالثة: ذكر الثلاثة، وكثيراً ما ترد نصوص فيها الثلاثة أبو بكر وعمر وعثمان، ثم الدرجة الرابعة في الأربعة بإضافة علي رضي الله عنه، وهذه أقلها. ولذلك يذكر بعض السلف الثلاثة ولا يذكر علياً، لا استنقاصاً لـ علي رضي الله عنه؛ لكن لبيان أن الثلاثة ورد ذكرهم منفردين في نصوص كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة كذلك، ولأن الثلاثة من الخلفاء الراشدين لم يختلف عليهم الناس، واختلفوا على علي رضي الله عنه ولا يعني هذا أن الاختلاف عليه سائغ؛ لكنه وقع من قبل أهل الأهواء أو المجتهدين الذين ما أصابوا في اجتهادهم، وإلا فالأولى عند ترتيب مقامات الصحابة أن يذكر الأربعة بما فيهم علي رضي الله عنه دفعاً للبس، ومع ذلك وردت أحاديث مستفيضة في ذكر أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين، ووردت بعدها في الدرجة الرابعة ذكر علي مع هؤلاء الثلاثة فيكونون أربعة. ولذلك كثيراً ما ينص عليهم بأنهم الأربعة الخلفاء، وأن أفضل الصحابة الأربعة، وهكذا.

أفضل الناس بعد الثلاثة بقية العشرة ثم بقية الصحابة

أفضل الناس بعد الثلاثة بقية العشرة ثم بقية الصحابة قال رحمه الله تعالى: [ثم أفضل الناس بعد هؤلاء علي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة عامر بن الجراح وكلهم يصلح للخلافة]. هنا عد بقية العشرة المبشرين بالجنة، فمنهم الأربعة الخلفاء الراشدون ثم طلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة، هؤلاء الستة مع الأربعة هم المبشرون بالجنة، وقد ورد إفرادهم في حديث ذكره الشيخ. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم أفضل الناس بعد هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، القرن الأول الذي بعث فيهم المهاجرون الأولون والأنصار، وهم من صلى إلى القبلتين، ثم أفضل الناس بعد هؤلاء من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً أو شهراً أو سنة أو أقل من ذلك أو أكثر]. بمعنى أن كل من صحب الرسول صلى الله عليه وسلم فهو من الصحابة ولو يوماً، والأولى أن يقال: من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أو شهراً أو يوماً.

واجبنا نحو الصحابة

واجبنا نحو الصحابة قال رحمه الله تعالى: [ترحم عليه، وتذكر فضله، وتكف عن زلته، ولا نذكر أحداً منهم إلا بخير، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا ذكر أصحابي فأمسكوا)]. الشيخ: هذا الحديث صحيح، وأوضح منه الحديث الذي رواه عدد من أصحاب السنن وأحمد في المسند وغيرهم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، هذا الحديث صحيح صححه الألباني وغيره. أما الحديث التالي الذي سيذكره فهو موضوع. قال رحمه الله تعالى: [وقال سفيان بن عيينة: (من نطق في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمة فهو صاحب هوى). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)]. هذا الحديث لا أصل له والله أعلم.

مسألة الإمامة والسمع والطاعة للولاة

مسألة الإمامة والسمع والطاعة للولاة قال رحمه الله تعالى: [والسمع والطاعة للأئمة فيما يحب الله ويرضى، ومن ولي الخلافة بإجماع الناس عليه ورضاهم به فهو أمير المؤمنين]. مسألة السمع والطاعة والولاية وما يستتبعها من أصول وقواعد، السمع والطاعة للأئمة طبعاً بالمعروف، لذلك قال: (فيما يحب الله ويرضى) وسيقرر هذا في قاعدة مستقلة فيما بعد. قوله: (السمع والطاعة للأئمة) يعني: من ولاه الله أمر المسلمين.

صور نصب الولاة والأئمة

صور نصب الولاة والأئمة ثم ذكر صورة من صور الولاية وهي: (ومن ولي الخلافة بإجماع الناس عليه ورضاهم به فهو أمير المؤمنين). الصورة المثلى لقيام الخلافة أو الولاية، هي أن تكون الخلافة بإجماع الناس، وإجماع الناس يتحقق بصور شتى، فغالباً ما يكون باتفاق أهل الحل والعقد؛ لأن الناس في شعائر الدين الكبرى مثل الحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي مصالح الدنيا العظمى مثل البيعة والسمع والطاعة وغيرها، لا يتم أمرهم إلا بأهل الحل والعقد منهم، ومن سوى أهل الحل والعقد تبع لأهل الحل والعقد بالضرورة؛ لأن الدهماء والعامة والغوغاء والسواد الأعظم لا يمكن تحقيق رغبتهم جميعاً أو التعرف على آرائهم بطريق سليم، ولا يمكن أيضاً أن يكون عندهم من الفقه والرشد ما يجعلهم يعرفون المصالح العظمى للأمة كما يريد الله عز وجل، وكما هو على قواعد الشرع. فعلى هذا فالإجماع ينعقد في مسألة الولاية والخلافة ببيعة أهل الحل والعقد، وهذه صورة من صور الولاية تتبعها أو تأتي دونها صور أخرى كالتغلب، فهو صورة من صور إقامة الإمامة في الدين، أما إمامة الناس في دينهم ودنياهم وهي الإمارة التي لها السمع والطاعة فقد تكون بالغلبة أيضاً، حتى لو لم يكن الأمر برضا أهل الحل والعقد، وبين الصورتين صور كثيرة. ثم قال: [ولا يحل لأحد أن يبيت ليلة ولا يرى أن ليس عليه إمام]. بمعنى أنه لا يحل لمسلم أن يبقى ليلة ليس في عنقه بيعة ما دام أمر المسلمين قائماً، سواء كانت الولاية على الشروط الشرعية أو تخلفت فيها الشروط الشرعية، فيجب أن يكون في عنق المسلم بيعة للإمام الواقع أو للإمامة الحاصلة في وقته، سواء كان هذا الإمام متوفرة فيه شروط الإمامة أو لا تتوفر، فيجب على كل مسلم أن يكون في عنقه بيعة وألا يبيت ليلة إلا وعليه إمام براً كان أو فاجراً كما ذكر أهل العلم، بناء على الأحاديث الواردة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

بيان من هم أهل الحل والعقد

بيان من هم أهل الحل والعقد أما من هم أهل الحل والعقد فإنهم يكونون بحسب حال المسلمين في أي زمان وفي أي مكان، وأساليب تحقيق الحل والعقد في الناس تختلف من عصر إلى عصر، ومن مكان إلى مكان، ومن أمة إلى أمة، فالعرب يختلفون عن العجم مثلاً في تحقيق وجود أهل الحل والعقد، لكن الصور المثلى أو الصور الظاهرة لأهل الحل والعقد على مدار التاريخ سواء منها ما ذكرته النصوص الشرعية أو ما عرف بالاستقراء كما يلي: أولاً: أهل الحل والعقد هم العلماء أهل الفقه في الدين الذين يهمهم أمر المسلمين، كما حدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم من أئمة الصحابة، فهم أدركوا أن أهل الحل والعقد الجديرين بأن يكونوا هم أهل اختيار الولاية هم الذين تميزوا بالعلم الراسخ والفقه في دين الله عز وجل مع الرأي والمشورة، أي: تميزوا بصفات القيادة الشرعية والدنيوية، وهم أهل الشورى من الصحابة، وهذا هو الأمثل على مدار التاريخ. فأول أهل الحل والعقد هم أهل العلم الذين يتوفر فيهم الفقه والرأي، ثم يليهم من دونهم ممن لهم اعتبار في الحل والعقد. أحياناً أهل الحل والعقد يكون منهم الفاسق والفاجر لكنه مطاع في قومه، ولا يستتب أمر المسلمين إلا باعتباره، كرؤساء العشائر وقواد الجيوش وأمراء الأقاليم ونحو ذلك ممن له اعتبار في مصائر الناس بحيث يطاع وله رأي رشيد، فيدخل في عموم أهل الحل والعقد بحسب حال المسلمين. وهذه الصور تكررت على مدار تاريخ الإسلام في القرون الأولى الفاضلة، فقد كان يعتبر من أهل الرأي من كان له اعتبار حتى لو لم يكن معروفاً بالفضل والاستقامة ما دام مطاعاً في قومه أو صاحب رأي سديد، وما دام له كيان كما نعبر في أسلوبنا المعاصر.

حكم الانتخابات

حكم الانتخابات الانتخابات لها صورتان: الصورة الأولى: انتخابات أهل الحل والعقد الذين تتوافر فيهم الشروط الشرعية والشروط الاعتبارية، فهذه واردة؛ لأن الصحابة كانوا يعملون ذلك، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه استعمل هذه الطريقة لكن مع النخبة من فقهاء الصحابة، فلما أعلن ترشيح عثمان قال: إني أرى الناس لا يعدلون بـ عثمان، ومعناه أنه استقرأ رأي أهل الحل، حتى كان يطرق الأبواب يستشيرهم. فهذه صورة من الصور الشرعية الصحيحة التي هي اعتبار التصويت والانتخابات في نخبة ممن تتوافر فيهم الشروط الشرعية. الصورة الثانية: اعتبار التصويت لعموم الناس، وهذا يؤدي في الغالب إلى الغوغائية والفتنة ويؤدي إلى الخروج من مقتضى الدين؛ لأنه إذا استفتى عامة الناس والغوغاء وغير أهل الحل والعقد أو غير أهل الاعتبار والاستقامة، وأخذ تصويتهم في قضايا الأمة في دينها ودنياها، ففي الغالب أنهم يختارون ما يحقق أهواءهم بصرف النظر عن المصالح الشرعية، حتى وإن كانوا من المتدينين ما داموا لا يفقهون. فهذا باب خطير يؤدي إلى الإعراض عن دين الله عز وجل، وهو من مسالك الجاهلية والأمم الضالة، ومن مسالك العلمنة، ولا اعتبار لهذا التصويت، فلو استفتي الناس اليوم في بعض المعاصي لاختاروها رغم أننا في مجتمع يعتبر من أفضل المجتمعات؛ قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116].

الحج والغزو والصلاة مع الإمام

الحج والغزو والصلاة مع الإمام

الاجتماع على الأئمة في الحج والغزو

الاجتماع على الأئمة في الحج والغزو قال رحمه الله تعالى: [والحج والغزو مع الإمام ماض، وصلاة الجمعة خلفهم جائزة، ويصلى بعدها ست ركعات يفصل بين كل ركعتين، هكذا قال أحمد بن حنبل]. هاتان قضيتان منفصلتان، أما المسألة الأولى فهي قوله: (الحج والغزو مع الإمام وصلاة الجمعة خلفهم جائزة) وهذا حق، فمن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يرون وجوب الحج مع إمام المسلمين أو من ينيبه، ولا يجوز للناس أن يخالفوه سواء كان براً أو فاجراً. وكذلك الغزو مع إمام المسلمين أو قواد الجيوش الذين يوليهم، وهو من شعائر الدين الظاهرة. وكذلك صلاة الجمعة خلف إمام المسلمين أو من يعينهم من أئمة المساجد، ولا يجوز لأحد أن يسوغ لنفسه الشذوذ عن الناس في الحج، أو الشذوذ عن الناس في الغزو، أو الشذوذ عن الناس في الجمعة؛ لأن هذه شعائر الدين. والشيخ ضرب مثلاً بأمرين: الحج؛ لأنه يمثل شعائر الدين التي هي من الشعائر الظاهرة التي يجتمع عليها الناس، فالناس في شعائر الدين يجب أن يجتمعوا على أئمتهم. والغزو من مصالح الأمة العظمى، ويدخل فيه قتال الدفاع عن البلد، فهذا من مصالح الأمة العظمى التي يجب أن يجتمع فيها المسلمون على أئمتهم مهما كان هناك شيء من الجور والظلم أو الاختلاف في الرأي، فيجب أن تجمع الكلمة على شعائر الدين العظمى وعلى مصالح الأمة العظمى.

الكلام على صلاة الجمعة ونافلتها

الكلام على صلاة الجمعة ونافلتها القضية الثانية: قضية ليس لها علاقة بموضوع الحج والغزو، إنما جاءت بمناسبة الكلام على صلاة الجمعة وليس لها مدخل في مسألة الإمامة، لكن أقحمها الشيخ إقحاماً، وهي قوله: (ويصلي بعدها) أي بعد صلاة الجمعة (ست ركعات يفصل بين كل ركعتين، هكذا قال الإمام أحمد). الإمام أحمد رحمه الله لم يأت بشيء من عنده كما هو معروف، فهذه السنة مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم وربما أتى بها الشيخ هنا؛ لأنه كان في وقته من خالف السنة. وصلاة النافلة بعد صلاة الجمعة لها عدة صور بعضها واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضها لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم لكن كان الصحابة يفعلونها دون أن ينكر بعضهم على بعض، فصلاة الركعتين بعد صلاة الجمعة وردت في السنة، وصلاة أربع وردت في السنة، وثبتت كلها في البخاري ومسلم وغيرهما. وكذلك صلاة ست ركعات في البخاري ومسلم وغيرهما، سواء صلى ركعتين ركعتين أو صلى ركعتين ثم أربعاً كما ورد في بعض ألفاظ الحديث، فكل هذه الصور جائزة، ولو لم يصل فقد ورد عن بعض الصحابة أنهم كانوا لا يصلون بعد الجمعة، وقد ذكر كثير من أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أثرت عنه جميع هذه الأحوال، فليس على أحد حرج أن يفعل هذا أو ذاك. وهذه من المسائل الخلافية التي لا ينبغي أن تدخل في مسائل الاعتقاد إلا من باب التنبيه على أنها من السنن النوافل. مداخلة: شيخ، هل كان السلف يفرقون في الصلاة خلف الفاجر في صلاة الجمعة عن غيرها من الصلوات؟ الشيخ: يفرق في الصلاة خلف البر أو الفاجر في صلاة الجمعة عن غيرها؛ لأن صلاة الجمعة آكد، ولا يسع أحداً تركها؛ هذا أمر. الأمر الآخر أن الذي يتولى صلاة الجمعة غالباً هم الولاة، أما الصلاة العادية فتنعقد بين المسلمين حتى ممن لم يوله الأمير صلاة الجماعة، والغالب أن أمراء الأمة في تاريخ الإسلام لا يهتمون بتعيين كل إمام في الفرائض، لكنهم يعنون بأئمة الجمعة؛ لأن الجمعة أظهر شعاراً؛ ولأن الجمعة كان يتولاها الولاة كما في القرن الأول والثاني والثالث وما بعدها، فكان اجتماع الكلمة عليهم على هذه الصورة هو المقصود هنا. أما إمامة المساجد فيتولاها الأمراء وغير الأمراء، ويتولاها من ولي ومن لم يول ممن يصلح للإمامة، فمن هنا كان الأمر فيها أخف، أما الجمعة فالأمر فيها أشد.

الخلافة في قريش

الخلافة في قريش قال رحمه الله تعالى: [والخلافة في قريش إلى أن ينزل عيسى بن مريم عليه السلام]. هذه المسألة أيضاً فيها خلاف، وقد ورد في الأحاديث: (الأئمة من قريش)، وكان جمهور السلف يرون أن هذا شرط من شروط الإمامة إذا أمكن، أما إذا لم يمكن فإنهم يجيزون التحول عن شرط الكمال إلى شرط الإجزاء، والدليل حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ولو عبداً حبشياً)، وغيره من الأحاديث التي أمرت بطاعة الوالي مطلقاً قرشياً وغير قرشي. فإذاً هذه المسألة تقرر على عدة صور: الصورة الأولى: إذا كان المجال مجال الاختيار المحض فيجب أن يكون قرشياً إن وجد، يعني: إن وجد قرشي فيه كفاءة؛ لأنه ورد في بعض الأحاديث أن قريشاً تضمحل في آخر الزمان، فقد لا يجد الناس في فئة من الفئات أو في مكان من الأمكنة الكفء من قريش فيولون من تتوفر فيه الصفات ولو لم يكن قرشياً. إذاً: هذا في الغالب أنه شرط كمال. الأمر الثاني: هل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش)، من باب الأمر أو من باب الخبر؟ هذه مسألة لا تزال محل خلاف، فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش)، قد يكون من باب الخبر؛ لأن أغلب الخلافة الكبرى التي قامت على مدى تاريخ الإسلام الطويل كانت في بني أمية وبني العباس، ثم إن الولايات التي قامت في تاريخ الإسلام أغلبها من قريش حتى افترقت الأمة الإسلامية وصارت دويلات متفرقة متمزقة، فمن هنا قد لا تتحقق القرشية في بعض البلاد فتكون الولاية فيمن تتوفر فيه شروط الولاية أو تتحقق له الإمامة ولو بالغلبة بمقتضى الأحاديث الأخرى. فعلى هذا فالظاهر أنه يمكن أن يحمل الحديث على أنه من باب الخبر، أو أنه من باب الأمر لكن من باب الأمر فيما إذا تمكن المسلمون، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وفيما إذا وجد القرشي الكفء الذي يختاره أهل الحل والعقد، ولا تحدث بسببه فتنة، وهي الصورة الثانية. هناك صورة ثالثة للخلافة: وهي فيما إذا كان الإمام أو الوالي غالباً على الناس، فتجب طاعته بصرف النظر عن كونه قرشياً أو غير قرشي، وقد حدث هذا في طيلة تاريخ التاريخ الإسلامي، بل حدثت دول كبرى في تاريخ الإسلام ليس الإمام فيها قرشياً، فلا يعني ذلك أنه يتحقق ذلك في كل الأزمان وكل الأمكنة بل ربما لا يتحقق.

حكم الخروج على الأئمة

حكم الخروج على الأئمة قال رحمه الله تعالى: [ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين فهو خارجي، وقد شق عصا المسلمين، وخالف الآثار، وميتته ميتة جاهلية]. وهذه أيضاً مسألة مهمة يجهلها كثير من الناس، فالمعروف عن أئمة السلف قديماً وحديثاً أنهم يطلقون كلمة الخوارج على الإطلاق الأول، وهي الفرقة المعروفة بالحرورية ومن جاء بعدها على منهجها، هذا الإطلاق الأول. الإطلاق الثاني: كان السلف بل والأحاديث أيضاً تشير إلى إطلاق كلمة (الخوارج) على كل من نازع ولاة المسلمين وخرج عن الطاعة، فيسمى خارجياً حتى لو لم يكن على مذهب الخوارج في الأصول الأخرى، ولذلك كان السلف يطلقون على جميع أهل البدع كالمعتزلة والشيعة خوارج؛ لأنهم لا يرون لأئمة المسلمين بيعة. فإذاً: الخوارج تطلق على الإطلاقين: الإطلاق الأول: الفرق التي تتمثل فيها أصول الخوارج وعقائد الخوارج والإطلاق الثاني: كل من خرج على أئمة المسلمين أو على إمام من أئمة المسلمين له بيعة، فهذا يسمى خارجياً حتى لو كان يظهر السنة.

تحريم الخروج على السلطان أو قتاله

تحريم الخروج على السلطان أو قتاله قال رحمه الله تعالى: [ولا يحل قتال السلطان والخروج عليه وإن جار، وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر الغفاري رضي الله عنه: (اصبر وإن كان عبداً حبشياً)، وقوله للأنصار: (اصبروا حتى تلقوني على الحوض)، وليس في السنة قتال السلطان فإن فيه فساد الدين الدنيا]. وهذه قاعدة عظيمة وهو قوله: (ليس في السنة قتال السلطان)، والمستقرئ لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم أولاً، ثم لمنهج السلف الذي استقر عليه الأمر بعد الفتن التي حصلت في آخر الخلافة الراشدة إلى وقت فتنة ابن الأشعث وما وقع بين هذين العهدين من فتن بعد ذلك كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من المحققين، استقر مذهب السلف على أنه ليس في السنة قتال السلطان وإن جار. والمقصود هنا السلطان المسلم؛ لأنه لا يتصور السلف أن يكون على المسلمين وال كافر، ولو حدث ذلك فلأهل الحل والعقد أن ينظروا في الأمر على قواعد الشرع. فلو ابتلي المسلمون بسلطان كافر فليس معنى ذلك أن كل إنسان يعلن الخروج، فإن هذا معلق بدرء المفاسد وجلب المصالح ودرأ الفتنة التي تؤدي إلى ما هو أعظم، لكن ليس للكافر على المسلم ولاية، لا على قلبه ولا على أعماله إلا فيما يحقق المصالح المشتركة بين الناس. الإنسان يحترم النظام حتى في ولاية الكافر؛ لأن احترام النظام إقامة لدين الناس ودنياهم، لكن ليس في قلب المسلم ولاء ولا اعتقاد بولاية الكافر أما السلطان المسلم حتى وإن كان ظالماً جائراً أو عنده شيء من الأثرة ونحو هذا فيجب ألا يقاتل. قد يقول قائل: حدثت صور من قتال الأمراء والسلاطين من بعض المسلمين. و A أن هذه الصور قد قرر العلماء أنها زلات من أناس اجتهدوا ممن ينتسبون للسنة، ينتسبون بالسنة كما حدث من أهل الحرة، وكما حدث من الذين قاتلوا الحجاج، وكما حدث من فعل الشيعة مع الحسين واستنهاضهم له ضد الخلافة. كل هذه الصور تعتبر اجتهاداً من أناس خالفهم غيرهم مخالفة صريحة واضحة من أئمة الدين الذين هم أكبر وأعلم وأفقه، فغاية ما يقال فيها إنها اجتهادات خاطئة من أناس إما لم تبلغهم النصوص وهو الغالب، أو تأولوا، ويغفر الله لنا ولهم، وليس هذا هو المنهج، ولذلك ذكر شيح الإسلام ابن تيمية أنه بعد فتنة ابن الأشعث وخروجه على الحجاج وتورط بعض الفقهاء معه ندموا كلهم وأعلنوا أنهم كانوا مخطئين، مثل الشعبي وسعيد بن جبير. لكن نفترض أن هذا أمر حدث من هؤلاء الأئمة فأقول: إنه قد استقر عند السلف أنه خطأ، وأن الذين شاركوا فيه من أهل الفقه شاركوا عن تأول وأدركوا أنهم أخطئوا، ولعله من فضل الله ونعمته على أهل السنة أن أغلب الفقهاء الذين شاركوا في قتال الحجاج مع ابن الأشعث أعلن أنه كان مخطئاً في اجتهاده، فحسمت القضية على هذا الوجه.

شرط طاعة الولاة وقتال الخوارج

شرط طاعة الولاة وقتال الخوارج قال رحمه الله تعالى: [ويحل قتال الخوارج إذا عرضوا للمسلمين في أموالهم وأنفسهم وأهليهم، وليس له إذا فارقوه أن يطلبهم، ولا يجهز على جريحهم، ولا يأخذ فيئهم، ولا يقتل أسيرهم، ولا يتبع مدبرهم. واعلم رحمك الله أنه لا طاعة لبشر في معصية الله عز وجل].

شرط طاعة الأئمة أن تكون في غير معصية

شرط طاعة الأئمة أن تكون في غير معصية هذا استدراك حسن، فبعد ذكر القواعد في لزوم الطاعة والصبر على الأثرة وعدم جواز الخروج والقتال ذكر الشرط الأساس للطاعة، وهو أن تكون في غير معصية، وإذا أمر الإنسان بمعصية فلا يعني ذلك أن يجوز له الخروج، غاية ما في الأمر أنه لا يطيع في المعصية إنما يطيع بالمعروف. وهذه مسألة ربما يقف عندها بعض الناس من غير تبصر، وهي أن هناك أشياء قد يأمر بها الوالي المسلم فتكون معصية عند المأمور، لكن هي محل خلاف عند الآخرين، فهذه القضية يرجع فيها إلى أهل العلم، لأنك قد تؤمر بأمر تظن أنه معصية فتعصي الوالي فيترتب على هذا فتنة، في حين أن هذا الأمر قد يكون جائزاً عند آخرين من أهل العلم، فيجب في مثل هذه القضايا أن يرجع إلى أهل العلم ولا يجتهد فيها الفرد برأيه. أما المعاصي المجمع عليها كما لو قال لك: اسرق أو كل الربا، فلا يجوز أن يطاع الوالي في معصية الله عز وجل، هذا أمر.

شرط قتال الخوارج أن يعرضوا للمسلمين

شرط قتال الخوارج أن يعرضوا للمسلمين الأمر الآخر في قوله: (ويحل قتال الخوارج إذا عرضوا للمسلمين) هذا يعني قتال كل من رفع السيف على السلطان أو رفع السيف على الأمة، حتى قطاع الطريق يسمون خوارج وإن لم يكونوا على مذهب الخوارج، فمن رفع السيف على الأمة المسلمة أو على البلد المسلم وإمامه فهو خارجي يجب قتاله وإن كان مسلماً. وأيضاً إذا قوتل لا يعامل معاملة الكفار، فلا يطلب إذا هرب، ولا يقتل إذا استسلم، ولا يجهز على الجريح إلى آخر الأحكام المعروفة، والله أعلم.

شرح السنة [4]

شرح السنة [4] أهل السنة والجماعة متبعون للكتاب والسنة في جميع أمورهم، ومن ذلك أنهم لا يشهدون لأحد بجنة ولا نار، ولكنهم يرجون للمحسن ويخافون على المسيء، ويعتقدون أنه ما من ذنب إلا وللعبد منه توبة، ويقيمون الحدود ومنها الرجم، ويمسحون على الخفين، ويقصرون ويفطرون في السفر، ويصلون على من مات من أهل القبلة وإن كان عاصياً، ولا يخرجون أحداً من أهل القبلة من الإسلام إلا إذا ارتكب ما يخرجه منه.

عدم القطع بالجنة أو النار لأحد

عدم القطع بالجنة أو النار لأحد قال أبو محمد الحسن بن علي البربهاري رحمه الله تعالى: [ومن كان من أهل الإسلام فلا تشهد له بعمل خير ولا شر، فإنك لا تدري بما يختم له عند الموت، ترجو له رحمة الله، وتخاف عليه ذنوبه، ولا تدري ما سبق له عند الموت إلى الله من الندم، وما أحدث الله في ذلك الوقت إذا مات على الإسلام، ترجو له رحمة الله وتخاف عليه ذنوبه]. هذه القاعدة معروفة، وهي أن من كان مسلماً من أهل القبلة فلا نجزم له أنه من أهل الخير؛ فكلمة (لا نشهد) هنا لا يقصد بها مجرد الشهادة الظاهرة، لأن الشهادة الظاهرة مطلوبة، لكنه يقصد الجزم بما في القلب أو الجزم بالمصير بعد الموت؛ لأن الشهادة للحي تختلف عن الشهادة للميت. الشهادة للحي شهادة عامة على ظواهر أعماله، فلك أن تشهد للإنسان بظاهر عمله لكن لا تشهد بما في قلبه؛ لأنه لا يعلم ما في القلوب إلا علام الغيوب سبحانه. إذاً: لابد من تفصيل: فالمسلم الذي تظهر عليه شعائر الإسلام وتظهر عليه الأعمال الصالحة نشهد له بالخير، وإن ظهر منه خلاف ذلك كذلك نشهد له بما يظهر منه من الخير ونشهد عليه بما ظهر عليه من خلاف ذلك من المعاصي والفسوق وهذا يتعلق بالشهادة وبالولاء وبالحب والبغض. فإذاً: المسلم الذي يظهر شعائر الدين نشهد له بالخير شهادة عامة من غير جزم، ونشهد على الظاهر لا على القلب، ومن هنا نحب فيه هذه الأمور ونحبه في الله ونواليه بقدر ما فيه من الخير، والعكس إذا ظهر منه ما يخالف ذلك، فنشهد بما ظهر لنا لكن لا نجزم بما في قلبه، وأيضاً إذا ظهر لنا شيء من الفسوق والعصيان نكره منه ذلك، وله من الولاء بقدر ما فيه من الخير، ومن البراء بقدر ما عليه من المخالفة. أما بعد الموت فإننا أيضاً نشهد للإنسان شهادة عامة ولا نجزم بمصيره، كما أننا لم نجزم في الدنيا بما في قلبه لكن نرجو للمحسن الخير والجنة، ونخاف على المسيء وهذه قاعدة: ينبغي أن تكون واضحة؛ لأنها مهمة عند التطبيق وعند التعامل مع المسلمين.

كل ذنب وله توبة

كل ذنب وله توبة قال رحمه الله تعالى: [وما من ذنب إلا وللعبد منه توبة]. حتى الشرك إذا تاب صاحبه ودخل الإسلام تاب الله عليه، فباب التوبة مفتوح لجميع البشر إلى قيام الساعة ولكل إنسان حتى تغرغر هذه الروح، أي: حتى يصل إلى الحالة التي يكون فيها قد انقطع من الدنيا، فعند ذلك لا ينفعه إيمانه وتوبته؛ لأنه لا فضل له في التوبة بعد معاينة الحقيقة كما فعل فرعون عندما رأى الموت! ومن كتب الله عليه الشقاء والضلالة فلا شك أنه لا يوفق للتوبة لكن لا ندري من هو بعينه، فأعتى الناس وأبعدهم عن الله عز وجل ربما يوفقه الله للتوبة فيتوب، والعكس صحيح. وكذلك مما عرف من قواعد الشرع أن صاحب الهوى إذا أصر على هواه بعد قيام الحجة فالغالب أنه لا يوفق في التوبة، ومن هنا كاد السلف أن يتفقوا على أن صاحب البدعة لا يوفق للتوبة، وهم لا يقصدون صاحب الزلة أو الجاهل أو المتأول، فهذا قد يوفقه الله عز وجل ويتوب عليه، لكنهم يقصدون بصاحب البدعة المصر على بدعته بعد إقامة الحجة وظهور الدليل. ومصداق ذلك أن كثيراً ممن عرفوا بالعناد بعد إقامة الحجة لا نعرف أنهم تابوا، هذا أمر. الأمر الآخر: أنهم حتى لو رجعوا عن هذا الباطل وهم أصحاب هوى فإنهم لا يوفقون للسنة، إنما ينتقلون من باطل إلى باطل، ومن بدعة إلى بدعة، يتقلبون في الهوى -نسأل الله العافية- لأن الله كتب عليهم الضلالة ولأنهم لم يريدوا الحق، ولو أرادوه لوفقوا إليه.

الرجم والمسح على الخفين

الرجم والمسح على الخفين قال رحمه الله تعالى: [والرجم حق والمسح على الخفين سنة]. ذكر الرجم إشارة إلى جميع الحدود التي تقررت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكأن الشيخ أشار إليه لأنه من الحدود النادرة الوقوع، ولأن نفوس بعض الناس تنفر منه، وتكلم أهل الأهواء في الرجم وجحده الخوارج، وسخر منه الفلاسفة كما سخروا من شرائع الأنبياء. كذلك ذكر المسح على الخفين إشارة إلى الأحكام التي علمت بالقواطع الشرعية أو بالنصوص القطعية ثم أنكرها، من أنكرها فكل حكم من الأحكام الشرعية وإن لم يدخل في العقيدة، كل حكم من الأحكام الشرعية تواترت به النصوص أو أجمع عليه السلف أو كان دليله صحيحاً ولو لم يتواتر فإن جحده يعتبر من مخالفة العقيدة، فلذلك ذكر السلف المسح على الخفين، وقد خالفت فيه الرافضة، كما خالفت في تجويز مسح الرجل بدل الغسل، فردوا السنة وعملوا بعكسها في مقام واحد، وهذا دليل انتكاس عندهم في العقول والأصول، ففي الوقت الذي أنكروا فيه المسح على الخفين أجازوا المسح بدون خفين. وهناك طوائف من الخوارج وطوائف من الجهمية وغيرهم أنكروا المسح على الخفين.

الصلاة في السراويل

الصلاة في السراويل قال رحمه الله تعالى: [وتقصير الصلاة في السفر سنة، والصوم في السفر من شاء صام ومن شاء أفطر، ولا بأس بالصلاة في سراويل]. يشترط في السراويل أن تكون ساترة وأن تكون واسعة وألا يكون فيها تشبه، وينطبق هذا الحكم على الألبسة الحديثة كالبنطلونات، فالبنطلون هو نوع من السراويل لكنه ضيق، ولذلك إذا كان واسعاً فلا حرج فيه، أما إذا لم يكن واسعاً فلا تنبغي الصلاة فيه.

الأصل أن الدنيا دار إيمان وإسلام

الأصل أن الدنيا دار إيمان وإسلام قال رحمه الله تعالى: [والنفاق أن يظهر الإسلام ويخفي الكفر، واعلم بأن الدنيا دار إيمان وإسلام]. الأصل في الدنيا أنها دار إيمان وإسلام، لكن مع ذلك قد تنقلب الدار إلى دار كفر إذا غلب عليها الكفار وصار غير الإسلام هو المهيمن فيها، لكن الأصل في أرض الله عز وجل الواسعة أنها دار إسلام؛ لأن الله عز وجل أنزل البشر فيها ليعبدوه سبحانه، وسخرها لهم ليستغلوها ويستثمروها في عبادته، فالكفر والشرك طارئ على الأرض. قال رحمه الله تعالى: [وأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيها مؤمنون في أحكامهم ومواريثهم وذبائحهم والصلاة عليهم، ولا نشهد لأحد بحقيقة الإيمان حتى يأتي بجميع شرائع الإسلام، فإن قصر في شيء من ذلك كان ناقص الإيمان حتى يتوب، واعلم أن إيمانه إلى الله تعالى تام الإيمان أو ناقص الإيمان إلا ما أظهر لك من تضييع شرائع الإسلام]. لا نشهد لأحد بكمال الإيمان حتى نرى منه أنه وفى بجميع شرائع الإسلام فيما يظهر لنا، ومع ذلك فإن الكمال المطلق مما لا يعلمه إلا الله عز وجل، إلا إذا ثبت لشخص بدليل كما ثبت للنبي صلى الله عليه وسلم، وكما ثبت لجبريل، وكما ثبت للنبيين والذين أثنى الله عليهم ثناء مطلقاً؛ لأن الله عز وجل وفقهم وكملهم أما من عداهم فيشهد له بالكمال دون الجزم، فالموفي بما أمر الله عز وجل والعامل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم إيمانه كامل فيما يظهر لنا لكن لا نجزم بذلك، ومن قصر في شيء من أعمال الإسلام نقص إيمانه بقدر تقصيره. إذاً فالإيمان يزيد وينقص ولا يزول، ولا يزول عن المسلم مسمى الإيمان ما لم يرتد.

الصلاة على من مات من أهل القبلة

الصلاة على من مات من أهل القبلة قال رحمه الله تعالى: [والصلاة على من مات من أهل القبلة سنة، والمرجوم والزاني والزانية والذي يقتل نفسه وغيره من أهل القبلة والسكران وغيره الصلاة عليهم سنة]. إذاً: فأهل الكبائر من المسلمين يبقون على الأصل في حقوقهم حتى أهل البدع الذين بدعهم غير شركية هم من أهل الكبائر، فهم مثل المرجوم والزاني والذي يقتل نفسه، لهم حقوق المسلمين من حيث الصلاة والتوارث والدفن والدعاء لهم؛ لكن قد يحدث أحياناً أن يعمل من له إمامة في الدين على هجر المسلم في حياته أو ترك بعض حقوقه بعد مماته، كأن لا يصلي عليه أو لا يحضر جنازته من باب الردع وإنكار المنكر والبيان للناس، لكن لا يعني أنه يمنع الناس من الصلاة عليه، بل ينبغي أن يأمر الناس أن يصلوا عليه وأن يدفنوه وأن يقيموا شعائر الدين في حقه. إذاً: فهذا الهجر الذي يحدث من بعض الأئمة ومن لهم اعتبارهم من أجل بيان عظم المعصية التي كان عليها الشخص والردع عنها والتغليظ فيها وتنبيه الناس إلى أنها منكر، وهذا من أساليب تفهيم الناس وردعهم، وهي من أساليب الهجر أيضاً، فالهجر يكون في الحياة ويكون بعد الممات، فقد يهجر بهجر جنازته أو نحو ذلك؛ لكن لا يكون هذا من عامي أو من طالب علم لا يطاع أو ليس له اعتبار، فإن هذا يحدث الفتنة.

حكم إخراج شخص من أهل القبلة من الإسلام

حكم إخراج شخص من أهل القبلة من الإسلام قال رحمه الله تعالى: [ولا يخرج أحد من أهل القبلة من الإسلام حتى يرد آية من كتاب الله عز وجل أو يرد شيئاً من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يذبح لغير الله أو يصلي لغير الله، وإذا فعل شيئاً من ذلك فقد وجب عليك أن تخرجه من الإسلام، وإذا لم يفعل شيئاً من ذلك فهو مؤمن مسلم بالاسم لا بالحقيقة]. هذه الفقرة مهمة، فقوله: (ولا يخرج أحد من أهل القبلة من الإسلام حتى يرد آية من كتاب الله عز وجل)، يعني: يرد آية أو مقتضى آية؛ لأن الآية لها حقيقة ولها تفسير، فمن أنكر نص آية حتى لو لم ينكر معانيها فهو كافر؛ وأيضاً إذا أنكر معانيها المعلومة بالضرورة وما يترتب عليها من عقائد وأحكام فقد أنكر الآية وإن لم ينكر لفظها. إذاً: هذا الإنكار يشمل إنكار لفظ الآية وإنكار المعنى المقطوع به، فكل من أنكر شيئاً من ضرورات الدين ومن أصول الدين القطعية فإنه يخرج من مسمى المسلمين ومن أهل القبلة. ثم ذكر الذبح والصلاة لغير الله عز وجل، والذبح لغير الله لم يكن معروفاً قبل عصر المؤلف لكنه وجد في عصره من غلاة ومبتدعة الصوفية والرافضة والباطنية، ففي آخر القرن الثالث وأول القرن الرابع بدأت البدع المغلظة تظهر على أيدي غلاة المتصوفة والمبتدعة والرافضة والباطنية، فوجد الذبح لغير الله، فلذلك ذكر هذا النموذج، مع أننا لو قرأنا كتب السلف في القرن الأول وأول القرن الثاني لم نجد الكلام في هذه الأمور؛ لأنها لا يمارسها الناس. وهذا فيه إشارة مهمة إلى منهج ضروري من مناهج الدين، وهو أنه بقدر ما تشيع البدع يجب الكلام عنه، وهذا فيه رد على بعض الذين يضيقون على طلاب العلم والدعاة وغيرهم إذا تحدثوا عن بعض الظواهر المعاصرة، فيقولون: هذا لم يتحدث عنه السلف، ونحن نجزم أن كثيراً من الظواهر المعاصرة في البدع والمعاصي والفسوق والفجور والكبائر والشركيات التي استجدت لو وجدت في عهد السلف لتكلموا عنها، وهذا من ضرورات بيان الدين وحماية الأمة. وإذا لم يفعل شيئاً من ذلك فهو مؤمن مسلم يعني: وإن ابتدع بدعة غير مغلظة أو غير شركية أو غير كفرية، وإن ارتكب المعاصي والآثام فهو مؤمن مسلم بالاسم لا بالحقيقة يعني: نشهد له ظاهراً، أما الحقيقة الغيبية فمما لا يعلمه إلا الله عز وجل.

شرح السنة [5]

شرح السنة [5] يجب على المؤمن أن يثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه في كتابه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته من صفات وأفعال، ولا يرد شيئاً من ذلك أو يفسره بهواه، ولا يجوز له أن يتفكر في الله أو في صفاته بما لم يرد به الدليل؛ فإن الله تعالى أعظم وأكبر وأجل من كل ما يتخيله المتخيلون سبحانه جل في علاه.

الإثبات والنفي فيما يتعلق بصفات الله وأفعاله

الإثبات والنفي فيما يتعلق بصفات الله وأفعاله قال أبو محمد الحسن بن علي البربهاري رحمه الله تعالى: [وكل ما سمعت من الآثار مما لم يبلغه عقلك نحو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن عز وجل)، وقوله: (إن الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا) و (ينزل يوم عرفة) و (ينزل يوم القيامة) و (جهنم لا يزال يطرح فيها حتى يضع عليها قدمه جل ثناؤه)، وقول الله تعالى للعبد: (إن مشيت إلي هرولت إليك)، وقوله: (إن الله تبارك وتعالى ينزل يوم عرفة)، وقوله: (خلق الله آدم على صورته)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت ربي في أحسن صورة). وأشباه هذه الأحاديث، فعليك بالتسليم والتصديق والتفويض لا تفسر شيئاً من هذه بهواك، فإن الإيمان بهذا واجب، فمن فسر شيئاً من هذا بهواه أو رده فهو جهمي].

قواعد في الأسماء والصفات

قواعد في الأسماء والصفات هذه الفقرة تتعلق بقاعدة الإثبات والنفي فيما يتعلق بالله عز وجل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهذه القاعدة أشار الشيخ إلى شيء منها ثم ضرب لها أمثلة، ومن خلال كلامه أشار إلى بعض المناهج والقواعد عند السلف تجاه هذه الأمور الغيبية، ويمكن أن نلخص القواعد في هذا قبل أن نستعرض هذه الأمثلة التي ذكرها. أولاً: أن كل ما جاء في القرآن أو ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأخبار عن الله تعالى في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، يجب أن يسلم به المسلم، ويثبت لله عز وجل على الحقيقة كما يليق بجلال الله سبحانه. ثانياً: لابد من التصديق والتسليم لهذه الأخبار؛ لأنها أخبار غيب ولأنها جاءت عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، ولأنها جاءت بلسان عربي مبين، ولأننا خوطبنا بها ولا يمكن أن نخاطب بها إلا إذا كانت معانيها وحقائقها تحت مدارك البشر. ثالثاً: لابد من الجزم بنفي المماثلة، أي عندما نثبت هذه الأمور لله عز وجل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله فإننا نعتقد أن الله ليس كمثله شيء، وأن المعنى معلوم لكن الكيفية غير معلومة، ولاشك أن هذه الأسماء والصفات والأفعال تشتمل على معاني الكمال لله عز وجل، والكمال يلزم منه نفي المماثلة ونفي توهم ما يرد في الخاطر أو ما يرد في القلب من تصور وتوهمات. رابعاً: هذه الأمور كلها وغيرها مما ثبت عن الله تعالى فإن الله خاطبنا به؛ لأننا نعرف حقيقته على المعنى الذي يليق بالله عز وجل من وجه، وهو أنه حق وأن له معاني حقيقية، وأن هذه المعاني مدركة في الجملة، ولا نعرفه من وجه وهو الكيفيات، وهذا مما لم نطالب به أصلاً في مجرد التصور، فضلاً عن البحث والتنقيب والسؤال والشك والجدل والمراء والتقرير، فكل ذلك محرم علينا، بل من كبائر الذنوب أن نخوض فيما لا يدخل في مداركنا من كيفيات الأمور الغيبية، وأعلاها وأجلها ما يتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وقد ورد النهي الشديد عن الخوض في هذه الأمور.

إثبات الأصبع لله تعالى

إثبات الأصبع لله تعالى والشيخ ضرب لهذه الأمور أمثلة منها ما يتعلق بالأفعال، ومنها ما يتعلق بالصفات الذاتية، ومنها ما يجمع بين هذا وذاك، ومنها ما يمكن أن يسمى صفات ومنها ما يمكن أن يكون من باب الأخبار عن الله عز وجل، والقاعدة في الأخبار كالقاعدة في الأسماء والصفات والأفعال لا فرق. والمثال الأول قوله: (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن)، هذا ثبت به الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولابد أن نؤمن به على الحقيقة، لأننا خوطبنا به وأمرنا بأن نتدبره وأن نثبت الكمال لله عز وجل وأن لا نخوض في أكثر مما ورد؛ لأن الخوض في أكثر مما ورد محاولة للاطلاع على الغيب، والغيب لا يعلمه إلا الله عز وجل، ولأنه إساءة أدب مع الله، لكن نؤمن به كما جاء وأنه على حقيقته على ما يليق بجلال الله، فإثبات الأصبعين والأصبع لله عز وجل ثابت لكن مع نفي الكيفية قطعاً؛ لأن الله ليس كمثله شيء.

إثبات النزول لله تعالى

إثبات النزول لله تعالى وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تبارك وتعالى ينزل إلى سماء الدنيا)، هذا حق، والنزول لله سبحانه نزول حقيقي؛ لأن الله لا يخبرنا إلا بالحق ولا يتكلم عن نفسه ولا عن غيره إلا بالحق، فيلزم إثبات ذلك على معناه اللائق بجلال الله، والنزول يستلزم الكمال لله عز وجل ولا يستلزم معاني النقص، فإذا كان للنزول لوازم تشعر بالنقص فهي منفية قطعاً، ولا يجوز العدول عن إثبات صفة النزول لمجرد وجود لوازم؛ لأن اللوازم إنما هي مأخوذة من واقع تصورات البشر، وهي لا تحكم في صفات الله عز وجل في شيء. والتكلم في لوازم صفة النزول التي يرى أهل التأويل أنها لوازم باطلة مثل قولهم يلزم من النزول الحركة، نقول: كلمة الحركة كلمة مجملة تشتمل على معنى حق يثبت به الكمال، وعلى معنى باطل لا يليق بالله عز وجل. ثم يقولون: يلزم من النزول إخلاء مكان وشغور مكان آخر، أقول: إذا كان هذا يلزم في حق المخلوق فلأن المخلوق محدود محكوم ناقص والله عز وجل منزه عن هذه الأمور، فاللوازم التي قلتم بها وأولتم النزول لوازم باطلة. قد يقولون: إننا نفهم من السياق أن الله عز وجل ينزل الرحمة، نقول: نعم، من لوازم نزول الله عز وجل الرحمة بالعباد، لكن لا يعني قصر الصفة على لازمها، فإنا نعرف أن كثيراً من الصفات لها لوازم إيجابية وهي كمال وأنها تثبت لله عز وجل من الكمالات؛ لكن لا يعدل إليها عن إثبات الصفة، فالصفة تثبت لله عز وجل كما جاءت في القرآن وكما ثبتت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن التشبيه والتمثيل منفي، وأن هذه الصفات تشتمل على معان صحيحة نثبتها، لكنا لا نحمل الصفة على بعض معانيها وبعض لوازمها. وكذلك قوله: (ينزل يوم عرفة) و (ينزل يوم القيامة) و (جهنم لا يزال يطرح فيها حتى يضع عليها قدمه) هذا فيه إثبات القدم لله عز وجل على ما يليق بجلاله من غير معرفة للكيفية ولا تحكم بها.

معنى الهرولة

معنى الهرولة وقول الله عز وجل للعبد: (إن مشيت إلي هرولت إليك)، الهرولة هنا غير مفسرة بالمعروف عند البشر، وقد اختلف أهل العلم هل الهرولة تثبت لله عز وجل على أنها فعل أو صفة أو مجرد خبر؟ هذه مسألة خلافية بين أهل العلم، لكن هذا النص يثبت لله عز وجل على ما يليق بجلاله والله أعلم بمراده به؛ لكن يختلف هذا النص وأمثاله من النصوص التي جاءت على سبيل المشاكلة والمجازاة عن النصوص الأخرى، فإنها مربوطة بأفعال البشر، فالله عز وجل ذكر عن العبد أنه إن مشى إليه مشى إليه، فقرن فعل الله عز وجل بفعل العبد، فإذا اقترن فعل الله بفعل العبد فهمت منه المجازاة، وهذا يشمل الهرولة ويشمل الاستهزاء والمكر، فهي من باب الأخبار. فإثبات الهرولة لله عز وجل قد يكون من باب الصفة، وهي على ما يليق بجلال الله كما أثبتنا الأصبع وأثبتنا النزول على ما يليق بجلال الله، والهرولة المفهومة عند المخلوق ليست مثبتة لله عز وجل بل تثبت لله على وجه الكمال، هذا إن قلنا صفة، وإن قلنا إنه مجرد فعل من الأفعال فكذلك. أفعال الله عز وجل لا حصر لها وتحمل على وجه الكمال مع الابتعاد عن تشبيهها بأفعال المخلوقين وكذلك إن كانت لمجرد الخبر فهي حق على ما يليق بجلال الله. المهم أن الهرولة ليست محل اتفاق في إثباتها كصفة، إنما تثبت كخبر عن فعل من أفعال الله عز وجل. وقوله: (إن الله ينزل يوم عرفة)، مكرر.

إثبات الصورة

إثبات الصورة (وخلق الله آدم على صورته) أي: صورة الرحمن، وهذا هو قول جمهور السلف وإن شذ عنهم بعض الأئمة لاشتباه عندهم، وإلا فالضمير في قوله: (على صورته) يرجع إلى الله عز وجل في الراجح، وهذا أمر غير مفسر الكيفية لكن معناه المجمل مفهوم عند عامة المخاطبين بأن الله عز وجل له الكمال المطلق في ذاته وأسمائه وأفعاله، والله عز وجل جعل عند المخلوق شيئاً من الكمالات المحدودة التي لا توصله إلى القداسة والكمال المطلق؛ لكنها كمالات محدودة وصفات حميدة. كذلك الصورة ثبتت لله عز وجل بنصوص أخرى، وهي كسائر الصفات ليس هناك ما يبرر التكلف في تأويلها أو نفيها، فهي كسائر الأخبار عن الله عز وجل وكسائر الصفات، كقوله صلى الله عليه وسلم: (رأيت ربي في أحسن صورة). قال: (فعليك بالتسليم والتصديق والتفويض). ولا يقصد التفويض بمعنى عدم إثبات الحقيقة، أو الهروب من الإثبات، ولا يقصد بالتفويض أيضاً اعتقاد أن ليس لها معنى أو أن معناها غير مفهوم عند المخاطبين أو نحو ذلك، إنما يقصد بالتفويض تفويض الكيفية، يعني: أن ما نعلمه بإجمال نثبته، وما لا ندركه ولا نعلمه من الكيفيات نفوضه إلى الله عز وجل؛ لأننا ما أمرنا بالكلام فيه، بل نهينا. والتفويض من الكلمات الحساسة التي ينبغي لطالب العلم أن يتفادى إطلاقها، وليست من الأمور الضرورية في تقرير العقيدة وإن أطلقها بعض السلف كما أطلقها الشيخ هنا، فإنما أطلقها على معنى صحيح لكنه غير شائع وغير مستعمل ويؤدي إلى حرج في إطلاق الصفات، فليس في الصفات ما يفوض على المعنى المفهوم عند المفوضة، إنما تفوض للكيفية؛ إطلاقها في الأمور الغيبية إلا مفسرة، بمعنى أن نقول: إن المفوض هو ما لا نعلمه وما لم نخاطب به، أما ما خوطبنا به فلا نفوضه وهو المعاني والحقائق. وكذلك الحقائق تنقسم إلى قسمين حقائق بمعنى المعاني، هذه معلومة وحقائق بمعنى الكيفيات لا نفسر شيئاً منها بالرأي، بل إن تفسير هذه الأمور بالرأي يعتبر من كبائر الذنوب ومن البدع المغلظة، فإن الإيمان بها واجب، فمن فسر شيئاً منها بهواه أو رده فهو جهمي؛ لأن هذا هو منهج الجهمية الأوائل كانوا يردون النصوص ولا يبالون، فلما رأوا أن هذا المنهج فيه نوع مغالطة وأنه يصادم عقائد المسلمين وصار ينفر منه حتى العوام، سلكوا مسلكاً آخر وهو مسلك التأويل، وهو التفسير بالهوى.

النهي عن التفكر في الله

النهي عن التفكر في الله قال رحمه الله تعالى: [ومن زعم أنه يرى ربه في دار الدنيا فهو كافر بالله عز وجل. والفكرة في الله تبارك وتعالى بدعة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الله، فإن الفكرة في الرب تقدح الشك في القلب)]. المقصود بالفكرة هو أن يسرح الإنسان بفكره وخيالاته إلى التفكر في كيفيات الغيب، والفكرة في الله عز وجل هي التفكر أو إعمال الذهن والعقل والقلب في التفكير في كيفيات ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، فإن هذا هو منهج المتكلمين والفلاسفة بمعناهم الاصطلاحي البحت أو الخاص، لا بالمعنى المتوسع فيه الآن. الفلاسفة الذين يتكلمون في الإلهيات بآرائهم هم خصوم الأنبياء في كل عصر، ومنهجهم يقوم على التفكر في ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله بما لم يرد في النصوص؛ لأن التفكر قد يقصد به معنى سليم، وهو أن يتفكر الإنسان في حقوق الله عز وجل، وفي أسمائه وصفاته وإثبات الحقائق لله سبحانه، فهذا أمر مطلوب، ولا يتم فهم خطاب الله عز وجل وكلامه وخبره إلا بهذا التفكر. لكن تفكر بما لا يتجاوز حدود العقل، وبما لا يتجاوز معاني النصوص المجملة التي تحت مدارك البشر، أما ما تجاوز مدارك البشر فهو ممنوع؛ لأنه خوض فيما لا يعلمه الناس، فمثلاً: إعمال الفكر في إثبات ما لم يثبت لله عز وجل الصفات التي ليس فيها كمال لاشك أنه من التفكر، ومن التفكر إمعان الفكر في محاولة التطلع إلى الكيفيات. فالفكرة في الله -أي: التفكر في كيفية ذاته وأسمائه وصفاته- بدعة إلا ما يخطر على الإنسان رغماً عنه، فإن الخاطر إذا طرده الإنسان وتعوذ بالله من الشيطان الرجيم زال عنه، لكن القصد اتخاذ التفكر في ذات الله عز وجل وأسمائه وصفاته وأفعاله منهجاً، وكذلك أمور الغيب الأخرى. أما منهج الفلاسفة والمتكلمين فيقوم على تقرير العقيدة على هذا الأساس، فهم يسرحون في الخيالات والأوهام ثم يقررون أوهامهم وخيالاتهم، ثم يجعلونها قواعد عقلية، فإذا جاء في القرآن ما يعارضها ردوا القرآن أو أولوه وإذا صح في السنة ما يعارض هذه الأمور ردوه أو أولوه. قوله: (لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الله)) الحديث فيما أعلم ضعيف، لكن ربما يرقى بمجموع طرقه إلى درجة الحسن، وبعض أهل الحديث صححوا الحديث.

سائر المخلوقات مأمورة مسيرة بما قدره الله لها

سائر المخلوقات مأمورة مسيرة بما قدره الله لها قال رحمه الله تعالى: [واعلم أن الهوام والسباع والدواب نحو الذر والنمل والذباب كلها مأمورة، لا يعلمون شيئاً إلا بإذن الله تبارك وتعالى]. قصده بذلك أن هذه المخلوقات مسيرة بما قدره الله عز وجل لها، فالله خلقها وجعل فيها الغرائز وجعل فيها الحركة وأنها ليس لها استقلال عن تدبير الله عز وجل، وعما جعله الله في هذا الكون من السنن التي تسير فيها الحياة، فهي سائرة على سنن الله وبأقدار الله عز وجل فلا تسير نفسها ولا يسيرها أحد من الخلق وحركاتها كلها مبنية على تقدير الله لها وعلى ما جعله الله لها من السنن التي بها تتحرك وتعيش وتحيا وتموت كسائر المخلوقات، وهذه أمثلة لمجموع الخلق كله فإنه تحت تدبير الله عز وجل وتحت ربوبية الله وتصريفه: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} [سبأ:3] سبحانه.

إدخال السلف لبعض المسائل الفقهية ضمن كتب العقائد

إدخال السلف لبعض المسائل الفقهية ضمن كتب العقائد قال رحمه الله تعالى: [والإيمان بأن الله تبارك وتعالى قد علم ما كان من أول الدهر وما لم يكن وما هو كائن، أحصاه الله وعده عداً، ومن قال إنه لا يعلم إلا ما كان وما هو كائن فقد كفر بالله العظيم. ولا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل وصداق قل أو كثر، ومن لم يكن لها ولي فالسلطان ولي من لا ولي له، وإذا طلق الرجل امرأته ثلاثاً فقد حرمت عليه ولا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره. ولا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا اله إلا الله ويشهد أن محمداً عبده ورسوله إلا بإحدى ثلاث: زان بعد إحصان، أو مرتد بعد إيمان، أو قتل نفس مؤمنة بغير حق فيقتل به، وما سوى ذلك فدم المسلم على المسلم حرام أبداً حتى تقوم الساعة]. أدرج الشيخ هنا بعض الأحكام الفقهية كعادة السلف في الأمور التي يكون عند بعض الفرق المعاصرة لهم شيء من الخلاف والخروج عن مقتضى السنة، وكلما خرج الناس بأمر يكون فيه مخالفة صريحة للسنة نوه السلف عن الحق فيه وبينوا القاعدة فيه، كما تقدم في الدرس السابق أن السلف أدخلوا المسح على الخفين ووجوب غسل الرجلين. في باب العقائد مع أنها في باب الأحكام، لأن هناك من خالف فيها وهي من الأحكام الظاهرة المعلومة، فهي إما أن تكون قطعية متواترة أو مجمعاً عليها، أو تكون من السنن الظاهرة أو الرأي الراجح، أو يكون المخالف فيها لم يقصد مجرد المخالفة إنما قصد الحكم تديناً، بمعنى أنه يبدّع غيره فقد تشتهر المخالفة في مثل هذه الأمور عند بعض الفرق وإن كانت من باب الأحكام، لكنها لم تجعلها خلافية، بل جعلتها من الحق الذي لا يمكن أن يُسمح فيه بالاجتهاد، ويبدّع من خالفها ويوالى ويعادى عليها، فمن هنا يذكر السلف مثل هذه الأمور من باب أنها من الأمور التي تقررت على هذا الوجه عند جمهور السلف أو عند أكثرهم، أو تكون هي الراجح أو نحو ذلك.

الأسئلة

الأسئلة

بيان مرجع الضمير في قول المؤلف: (وأمة محمد فيها مؤمنون)

بيان مرجع الضمير في قول المؤلف: (وأمة محمد فيها مؤمنون) Q يقول المؤلف: (واعلم بأن الدنيا دار إيمان وإسلام، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيها مؤمنون في أحكامهم ومواريثهم وذبائحهم والصلاة عليهم). العطف يقتضي تشابك الفقرتين معنى ولفظاً، وجه الإشكال أن الظاهر أن الضمير في قوله: (فيها)، راجع إلى الأمة، في حين أن الصحيح أن الضمير راجع إلى الدنيا؟ A قوله: (وأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيها) أي في الدنيا، (مؤمنون في أحكامهم) وهذا هو الصحيح.

الكلام على خبر الهرولة ونحوه

الكلام على خبر الهرولة ونحوه Q ما هو الراجح في صفة الهرولة ونحوها؛ لكي لا يجد أهل البدع على أهل السنة مستمسكاً؟ A بعض الذين أثبتوا هذه الصفات قالوا: إننا لابد أن نعمم القاعدة بأن كل ما أخبر الله به عن نفسه فلا بد من إثباته وأنه صفة، ويدخل في ذلك الملل: (إن الله لا يمل حتى تملوا) كما ورد في حديث صحيح، والهرولة كما في هذا الحديث، والمشي، والاستهزاء والمكر ونحو ذلك وهذه النصوص لها ما يميزها عن باقي الصفات، وهي أنها كلها جاءت من باب مشاكلة أفعال العباد، ففيها مجانسة ومشاكلة وفيها مجازاة، وغالب النصوص التي تربط الخبر عن الله عز وجل بشيء من عالم الشهادة وأحوال المخلوقين تقيد بهذا التفسير، فمثلاً نحن نعلم أن الاستهزاء جاء ذكره مقابل وعيد المنافقين بأن الله عز وجل سيفعل لهم ما يجازيهم على استهزائهم في الآخرة، أي: بفعل حاصل من المخلوق، وقرن بمعنى معلوم لدى المخاطبين وهو أن هذه المجازاة ستكون من جنس العمل، فرُبط الحال بحال المخلوق. كذلك الهرولة نحن نعلم أنها جاءت مقابل المشي إلى الله عز وجل، ونحن نعلم أن عبادة الله لا تكون بمشي فعلي إليه، إنما يكون المشي على منهجه والسير على الطريق الحق، فإذا كان المشي لا يقصد به المشي الفعلي من العبد فكذلك الهرولة لا يقصد بها الهرولة الفعلية من الله لوجود القرينة المعلومة. أما بقية الصفات فليس عندنا قرينة معلومة، فلما وجدت القرينة المعلومة فسّرنا النص بمعناه الذي جاء به، أما الأمور التي هي غيبية بحتة فلا نفسرها إلا كما جاءت. فمن هنا أثبت بعض السلف هذه الأمور على أنها صفات. وبعضهم قال: إنها أفعال مطلقة وليست من باب الصفات الذاتية أو الفعلية. وبعضهم قال: أفعال، وهي صفات فعلية. وبعضهم قال: هذا مجرد خبر نمره كما جاء لأنه يُشكل، وأي أمر يُشكل نمره كما جاء، أما بقية الصفات الأخرى فلا تشكل؛ لأنها تثبت على قاعدة (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير). فإذاً: ربط فعل الله بفعل العبد جعل بعض أهل العلم يقول: إن هذا الربط قصد به معنى معلوم عند المخاطب وهو المشاكلة أو المجازاة، ومع ذلك تبقى المسألة خلافية لا حرج فيها.

معنى أن الله خلق آدم على صورته

معنى أن الله خلق آدم على صورته Q ما معنى أن الله خلق آدم على صورته؟ A اختلف فيه أهل العلم كثيراً، والراجح أن الله عز وجل خلق آدم على صورة الرحمن، يعني في الكمالات التي تليق بالعباد وليست كمالات مطلقة، بمعنى أنه يوجد اشتراك لفظي بين صفات الخالق وصفات المخلوق، هذا الاشتراك اللفظي يوجد فيه اشتراك في بعض المعاني وليس في كل المعاني، فهذه المعاني المشتركة عُبِّر عنها على أنها نوع من الصورة، ومع ذلك فإن بعض أهل العلم أرجع الضمير إلى غير الله عز وجل، لكن هذا فيه تكلف؛ لأنه ورد في نص آخر صحيح: (على صورة الرحمن)، فيفسّر هذا بذاك.

وجه تخصيص المؤلف للهوام والدواب بأنها مأمورة

وجه تخصيص المؤلف للهوام والدواب بأنها مأمورة Q لماذا خص هذا الكتاب شرح السنة تلك الهوام والدواب بالعلم دون غيره؟ A هذا من باب ضرب المثل فقط.

حكم حكاية بعض صفات الله مع تحريك اليد أو غيرها

حكم حكاية بعض صفات الله مع تحريك اليد أو غيرها Q حديث: (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن عز وجل) ما رأيك فيمن يقرؤه ثم يحرك إصبعيه؟ A النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً يحرك يده أو إصبعه في حكاية بعض الصفات، ولذلك كان بعض رواة الحديث يفعلون ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هذا هو المعهود عند السلف قبل أن تظهر الجهمية والمعتزلة وأهل الكلام، فلما ظهرت بدع الجهمية والمعتزلة وأهل الكلام أشكل على بعض الناس مثل هذه الأمور، وصار في الإشارة شيء من الفتنة، فلذا بعض السلف يشير إذا أمن الفتنة، وبعضهم لا يشير، وبعضهم يمنع فالقاعدة فيما أعرف أنه إذا كان راوي الحديث أو المتكلم عنه بين طلاب علم يفقهون الأمور وليس فيهم عوام أو أناس توجد عندهم إشكالات في الصفات، فلا مانع من فعل ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم بشرط البيان دفعاً للإشكال، أما إذا كان المجلس ليس فيه من يدركون هذه الأمور فالأولى عدم الإشارة دفعاً للفتنة والتوهم؛ لأن الناس تحدثوا في هذه الأمور وصارت مما عمت به البلوى، وأصبح التأويل هو الأصل عند كثير من المسلمين، وفي مثل هذا الفعل فتنة على بعضهم.

حكم تفسير اليد بالقدرة

حكم تفسير اليد بالقدرة Q يقول السائل: إنه سمع في الإذاعة أحد الذين يتكلمون يفسر قول الله عز وجل: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] بأن المقصود به القدرة والهيمنة، وأن الذين يفسّرون هذه الآية بأن لله يداً جانبوا الصواب؛ لأنهم يفسّرون الآية بظاهرها، وكيف يقولون في قوله عز وجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] يقول: هل يفسّرون ذلك أنه سيهلك ويبقى وجهه إلى آخره؟ A هذا جهل مركب، فالذين يثبتون لله اليد هم السلف، وهو القول الحق، فيثبتونها لأنها وردت في الكتاب والسنة ويثبتون ما ذكره من القدرة والهيمنة؛ ولأن اليد وردت كما تعلمون بسياقات كثيرة، منها أنها وردت مثناة ومفردة ووردت بدلالات كثيرة مختلفة فكلها تدل على إثبات الصفة وإثبات ما يلزم منها من القدرة والنعمة والكرم والسخاء إلى آخر ما يلزم من الكمالات، وأن إثبات اليد ليس من الأمور التي هي رأي أو وجهة نظر لبعض الناس، ولا يفسّرون الآية بظاهرها على المعنى الذي يريده هو إذا قصد بظاهرها التشبيه، إنما يفسّرونها بالمعنى الحق. أما استدلاله بقول الله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] فإن هذا استدلال ناقص؛ لأن ثبوت الوجه لله عز وجل ثابت في عدة نصوص، وفي هذه الآية، ومعلوم عند العرب أنهم يعبّرون بالوجه عن الكل، فالله عز وجل لا يقال يفنى كله إلا الوجه؛ لأنه لا شك أن المقصود بذلك ذات الله عز وجل، وأن التعبير بالوجه عن الذات أمر معهود تقتضيه اللغة ويقتضيه السياق ومفهوم بالضرورة، فهذا دليل على جهل من قال بمثل هذا الكلام نسأل الله العافية.

شرح السنة [6]

شرح السنة [6] يعتقد أهل السنة أن الناس يبعثون يوم القيامة على ما ماتوا عليه من خير أو شر، ويقتص لكل أحد ممن ظلمه، ويؤمنون بالقضاء والقدر، وأن الله علم مقادير الخلائق قبل وجودها، ثم كتبها في اللوح المحفوظ، ثم أرادها وشاءها ثم خلقها، ويعتقدون بأن الأموات يسمعون كلام الأحياء على ما جاءت به النصوص.

يبعث الناس على ما ماتوا عليه

يبعث الناس على ما ماتوا عليه قال الإمام الحسن بن علي البربهاري رحمه الله تعالى: [وكل شيء مما أوجب الله عليه الفناء يفنى إلا الجنة والنار، والعرش، والكرسي، والصور، والقلم، واللوح، ليس يفنى شيء من هذا أبداً، ثم يبعث الله الخلق على ما ماتوا عليه يوم القيامة، ويحاسبهم بما شاء فريق في الجنة وفريق في السعير، ويقول لسائر الخلق ممن لم يُخلق للبقاء: كونوا تراباً]. في هذا المقطع عدة مسائل: المسألة الأولى: فيما يتعلق بفناء المخلوقات ما عدا الأمور المذكورة، هذه مسألة تحتاج إلى بحث مستوفى، أرجو أن نتمكن من عرضه في الدرس القادم أو الذي بعده إن شاء الله؛ لأن المسألة طويلة وفيها وجوه كثيرة من الاستدلال وأقوال العلماء. قوله: (ثم يبعث الله الخلق على ما ماتوا عليه يوم القيامة)، يعني على ما ماتوا عليه من أعمال، فيبعثهم الله عز وجل على حالهم التي كانوا عليها في الدنيا، مثل ما ذُكر من أن الحاج الذي يموت وهو محرم يبعث بإحرامه، وكذلك الشهيد يبعث وجرحه يثعب دماً إلى غيرهم. (ويحاسبهم) الله عز وجل (بما شاء)، يعني على ما يشاء من وجوه الحساب، (فريق في الجنة وفريق في السعير)، ونحن نعرف أن أهل الجنة على نوعين كما ورد في النصوص: فريق في الجنة منذ وقت النشر والحساب، بمعنى أنهم يُعطون صحائفهم في اليمين من أول وهلة، وفريق آخر وهم أهل الكبائر، إذا لم يغفر الله لهم ابتداءً يعذبون على قدر أعمالهم ثم يخرجون من النار فهذا الفريق الذين يدخلون الجنة بعد تطهيرهم من الكبائر بالنار، ويخرجون من النار بأسباب كثيرة: أولها برحمة الله عز وجل لطوائف منهم، ثم بالشفاعات التي يهيئها الله لهم بشروطها وأعظمها شفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر من أمته، وشفاعات أخرى. وهؤلاء عند الإجمال يُعدّون من أهل الجنة، أما عند التفصيل فيقال إنهم يعذبون بالنار ثم يُخرجون إلى الجنة. قوله: (ويقول لسائر الخلق ممن لم يُخلق للبقاء: كونوا تراباً)، يعني غير المكلفين، وهم غير الجن والإنس، فإنهم يصيرون إلى التراب إلا من يخلقهم الله عز وجل ممن كُلّف بأعمال أخرى كالملائكة وخدم أهل الجنة.

القصاص بين الخلق يوم القيامة

القصاص بين الخلق يوم القيامة قال رحمه الله تعالى: [والإيمان بالقصاص يوم القيامة بين الخلق كلهم: بني آدم والسباع والهوام حتى للذرة من الذرة]. نعم حتى الجن يدخلون في ذلك. قال رحمه الله تعالى: [حتى يأخذ الله عز وجل لبعضهم من بعض: لأهل الجنة من أهل النار، وأهل النار من أهل الجنة، وأهل الجنة بعضهم من بعض، وأهل النار بعضهم من بعض].

قواعد في باب القدر

قواعد في باب القدر قال رحمه الله تعالى: [وإخلاص العمل لله، والرضا بقضاء الله، والصبر على حكم الله، والإيمان بما قال الله عز وجل، والإيمان بأقدار الله كلها خيرها وشرها وحلوها ومرها، قد علم الله ما العباد عاملون وإلى ما هم صائرون، لا يخرجون من علم الله، ولا يكون في الأرضين ولا في السماوات إلا ما علم الله عز وجل، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولا خالق مع الله عز وجل].

الرضا بقضاء الله

الرضا بقضاء الله في هذه الفقرات إشارة إلى قواعد القدر، كما أن فيها إشارة إلى الرد على كثير ممن ضلوا في القدر، سواء القدرية النفاة أو الجبرية الغلاة، ففي قوله: (الرضا بقضاء الله)، فهذا فيه رد على عموم الخلق الذين يضيقون بقضاء الله وقدره، وكذلك قوله: (والصبر على حكم الله)، فهذا أمر عام يجب فيه على العبد أن يصبر على ما حكم الله وقضى، وهذا فيه إشارة أيضاً إلى نزعة في عموم الخلق الذين يضعف إيمانهم، فضعف الرضا بقضاء الله والصبر على حكمه نزعة توجد متى ضعف إيمان الإنسان حتى لو لم يكن من أصحاب الأهواء والبدع والافتراء، بل قد يكون ممن ينتسب إلى السنة من يتبرم بقضاء الله، وقد لا يصبر الصبر الكافي على حكم الله، فهذا التقرير هو تذكير لأهل الإيمان والتقوى والصلاح والاستقامة ولغيرهم بأن يروضوا أنفسهم على الرضا بقضاء الله والصبر على حكم الله. قوله: (والإيمان بما قال الله عز وجل)، يعني في القدر وغيره، لكن الغالب أنه هنا يقصد ما قال الله في أمر القدر.

مراتب القدر ووجوب الإيمان بها

مراتب القدر ووجوب الإيمان بها قوله: (والإيمان بأقدار الله كلها خيرها وشرها)، هذا فيه رد على عموم القدرية، فإن منهم من ينكر أقدار الله عز وجل في الخير والشر، وهؤلاء القدرية الغلاة، ومنهم من ينكر أن يكون الشر من تقدير الله، وهذا هو قول القدرية الأولى قدرية معبد الجهني وغيلان الدمشقي، وكذلك قول طوائف من القدرية الثانية وهم المعتزلة، فهم يقولون بأن الخير من تقدير الله لكن ينفون أن يكون الشر من تقدير الله، وبعضهم ينفي القدر مطلقاً، ويقول: لا قدر والأمر أنف، يعني أن الله لم يقدر أفعال المكلّفين. فالقدرية الأولى أو ما بدأ قولهم بإنكار القدر إطلاقاً ثم خففت من قولها حتى حصرت إنكار القدر في الشر فقط، زعماً منهم أن نسبتها إلى الله لا تليق! مع أننا نعلم أن نسبتها إلى الله تقديراً غير نسبتها إلى الله عز وجل في الإرادة الدينية أو في الحب والرضا، فإن الله لا يحب الشر ولا يرضاه، لكنه قدره على العباد ابتلاء وجزاء لأعمالهم. وقوله: (وحلوها ومرها) داخلة في خيرها وشرها. الشاهد أن القدرية بداية أمرها كانت تُنكر أن يكون الله عز وجل قدّر أفعال المكلفين إطلاقاً، وهذا معنى شعارهم: لا قدر والأمر أنف، أي أن أفعال العباد مستأنفة لم يكن لله فيها تقدير ولا علم حتى حدثت، فلما حدثت دخلت في علم الله، ثم تدرجوا في التخفيف فأثبتوا العلم وبقوا على إنكار أقدار المكلفين، ثم أثبتوا أن يكون الخير من تقدير الله والشر ليس من تقدير الله، لكنهم أيضاً بفلسفة مخففة. قوله: (قد علم الله ما العباد عاملون)، هذا فيه إثبات العلم المطلق لله عز وجل، وإثبات المرتبة الأولى من مراتب القدر. ومراتب القدر أربع لا بد من الإيمان بها مجملة كلها، ثم لا بد من الإيمان بها مرتبة: فأول مراتب القدر العلم، ومعناه أن الله علم ما كان وما يكون، وما سيكون كيف يكون. ثم بعد ذلك الكتابة، فإن الله كتب كل شيء، فلما خلق القلم قال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء، فكل شيء في كتاب بما في ذلك أفعال العباد، بل أفعال العباد هي الأهم؛ لأنها خلقت من أجل هذه الأمانة التي تحملها العباد، وخُلقت من أجلها السماوات والأرضين. ثم الدرجة الثالثة وهي المشيئة والإرادة: فإن الله أراد كل شيء إرادة كونية وشاءه مشيئة عامة. ثم بعد ذلك الخلق، أي أن آخر مراتب القدر الخلق وهي المرتبة الرابعة، فالله خالق كل شيء فعلم كل شيء، وكتبه، وشاءه، وخلقه ومن هنا تنتظم جميع صور الموجودات في علمها وكتابتها ومشيئتها وتقديرها وخلقها، ومقاديرها التفصيلية كلها داخلة في علم الله عز وجل، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة سبحانه.

علم الله بكل شيء

علم الله بكل شيء قوله: (ولا يكون في الأرضين ولا في السماوات إلا ما علم الله عز وجل)، يعني لا يحدث شيء من دون علمه، وهذا أيضاً فيه إشارة إلى الرد على القدرية الذين يزعمون أن العباد يفعلون أشياء ليست في علم الله عز وجل. قوله: (وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك)، بمعنى أن تعلم أنه إذا حدث لك شيء من خير أو شر فإنه مقدر، وقبل أن يحدث كان بإمكانك أن تفعل الأسباب في درء الشر وجلب الخير؛ لأن الله عز وجل علّق الأقدار بالأسباب في سابق علمه لكن إذا حدث الشيء فيجب ألا تفكّر في أنه بإمكانك أن تدفعه، ولا تدخل في حسابك للأمور السابقة كلمة (لو)، فتقول: لو أني فعلت كذا لحصلت على كذا من الخير، ولو أني فعلت كذا لما أصابني كذا؛ لأن ما أصابك من خير أو شر لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك. قوله: (ولا خالق مع الله عز وجل)، هذا أيضاً فيه رد على المعتزلة أو طوائف من المعتزلة الذين يزعمون أن المكلف هو الذي يخلق أفعاله الاختيارية.

التكبير على الجنازة

التكبير على الجنازة قال رحمه الله تعالى: [والتكبير على الجنائز أربع، وهو قول مالك بن أنس وسفيان الثوري والحسن بن صالح وأحمد بن حنبل والفقهاء، وهكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم]. الشيخ هنا يرجّح أن مسألة التكبير أربع، وهو قول الجمهور، لكن لا يعني أنه هو الصورة الوحيدة للتكبير، فللتكبير صور عديدة فعلها النبي صلى الله عليه وسلم لا ينبغي لأحد أن يُنكر على فاعلها، وكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من صور الأفعال إذا لم يرد له فيها خصوصية أو يرد النسخ فإنها تبقى من صور الفعل الجائزة، مثل صلاة الخوف فلها عدة صور كلها جائزة، وصلاة الكسوف والخسوف لها عدة صور كلها جائزة، وصلاة الاستسقاء لها عدة صور كلها جائزة، وكذلك صلاة الجنازة في تكبيراتها، فالذي عليه جمهور السلف أنها أربع؛ لكن النبي صلى الله عليه وسلم فعل غير ذلك فمن زاد فلا حرج عليه.

سماع الأموات للأحياء

سماع الأموات للأحياء قال رحمه الله تعالى: [والإيمان بأن مع كل قطرة ملك ينزل من السماء حتى يضعها حيث أمره الله عز وجل. والإيمان بأن النبي صلى الله عليه وسلم حين كلم أهل القليب يوم بدر -أي المشركين- كانوا يسمعون كلامه]. هذه مسألة سماع الأموات لكلام الأحياء، وهي مهمة، ولذلك سنقف فنقول: اختلف العلماء في مسألة سماع الأموات لكلام الأحياء، هل يسمعون مطلقاً، أو يسمعون في حال دون حال؟ وماذا يسمعون؟ وإذا قيل بسماعهم مطلقاً فهل يسمعون كل شيء، أو لا يسمعون إلا أشياء ورد تحديدها في الشرع؟ ثم إذا سمعوا هل يجيبون مطلقاً، أو يجيبون في بعض الأمور دون بعض؟

تنبيهات في مسائل سماع الأموات لكلام الأحياء

تنبيهات في مسائل سماع الأموات لكلام الأحياء هذه مسألة خلافية لكن فيها بعض النقاط القول فيها ضعيف، وبعض المسائل القول فيها لا أصل له. فأولاً: القول بأن الأموات يسمعون مطلقاً مرجوح، فهم لا يسمعون مطلقاً إنما سماعهم مقيد بأمور. ثانياً: القول بأن الأموات يجيبون الأحياء لا يصح، فإنهم لا يجيبون إلا في أمور محددة جداً سيرد ذكرها بعد قليل مثل رد السلام. ثالثاً: القول بأنهم ينفعون أو يضرون، قول باطل قطعاً، فالنفع والضر للأحياء من الأموات غير وارد، ومن هنا لا يستجيبون دعاء الداعين. الخلاف بين السلف في مسألة سماع الأمور المشروعة:

أدلة القائلين بسماع الموتى لكلام الأحياء

أدلة القائلين بسماع الموتى لكلام الأحياء فالذين أثبتوا سماع الأموات لكلام الأحياء استدلوا بأمور ظنوا أنها مطلقة مع أن فيها تقييداً في بعض دلالاتها استدلوا أولاً بقصة أصحاب القليب التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر، وهي أن أصحاب القليب من المشركين بعدما دفنوا جاء النبي صلى الله عليه وسلم يخاطبهم فكان يقول: (إني وجدت ما وعدني ربي حقاً، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ فاستنكر الصحابة هذا الأمر وقالوا: أو يسمعون ما تقول؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم)، قالوا: فهذا دليل على أن الأموات يسمعون، فإذا كان المشركون يسمعون فالمؤمنون من باب أولى. وسنبين أن هذه الدلالة مقيدة. واستدلوا أيضاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب أصحاب أحد، وذكر أنهم أحياء، وذكر أنه ما من أحد يسلّم عليهم إلا ردوا عليه إلى يوم القيامة. وكذلك مشروعية زيارة القبور والسلام عليها، قالوا: لو لم يكونوا يسمعون لما كان لزيارتهم معنى. وأيضاً نداؤهم وخطابهم بالسلام عليكم، وأحياناً ينادون كما ورد في بعض ألفاظ الحديث بياء النداء: يا أصحاب القبور، أو يا أهل القبور، فهذا دليل على أن الأموات يسمعون، ولو لم يسمعوا لما شرع خطابهم، وقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم خطابهم فخاطبهم بنفسه وأمرنا بزيارتهم والسلام عليهم. واستدلوا بعد ذلك بآثار منها قصة عمرو بن العاص رضي الله عنه؛ أنه حينما جاءت المنية أمر بألا يستعجل عنه الناس، وأن يبقوا عنده قدر ما تنحر الجزور، وقال: إني أستأنس بكم حتى أراجع ربي، وهو صحابي، والصحابة الذين سمعوا قصته لم ينكروا عليه. قالوا: فهذا دليل على أنهم يسمعون وأنهم يستأنسون بمن حولهم من الأحياء. مجمل هذه الأدلة دلت عند كثيرين من العلماء على أن الأموات يسمعون وأنهم يردون بعض الجواب ولا يردون كل الجواب.

أدلة النافين لسماع الأموات كلام الأحياء سوى ما ورد

أدلة النافين لسماع الأموات كلام الأحياء سوى ما ورد وهناك من نفى سماع الأموات مطلقاً، وقال: إن الأموات يُبلّغون من قبل الملائكة، والملائكة لا شك أنها تعاشر الأحياء والأموات، وأن ما يحدث منا لهم من السلام وغيره يكون بواسطة الملائكة واستدلوا بعمومات النصوص، مثل قوله عز وجل: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80] قالوا: هذا دليل قاطع على أن الموتى لا يسمعون، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يسمع الموتى فغيره من باب أولى. وحملوا النصوص المثبتة على أنها إما خاصة فقالوا: قصة أصحاب القليب خاصة بتلك الحادثة، وكذلك أصحاب أحد الذين سلّم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وخاطبهم من الصحابة الشهداء أن هذا خاص بهم. وقالوا: إن الباقي يكون عن طريق تبليغ الملائكة، أي: السلام على بقية أموات المسلمين. وقال بعضهم: إن إسماع السلام للموتى خاص بهذه الحالة فقط، أي أن الموتى لا يسمعون في قبورهم إلا ما ورد الشرع بفعله معهم، وأن ما حدث من النبي صلى الله عليه وسلم خاص به، وما أمر به من السلام على الأموات عموماً فهو خاص بحالة السلام وأنهم يردون السلام ويسمعونه ولا يسمعون باقي الأمور. وكذلك استدل النافون بنفس قصة أصحاب القليب على وجه آخر، قالوا: إن القصة وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم خاطبهم فيها بما يدل على أنهم لا يسمعون إلا في حالة معينة وهي تلك الحالة التي حدثت للنبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: والدليل على ذلك أن الصحابة لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب أصحاب القليب أنكروا، قالوا: أويسمعون؟ والنبي صلى الله عليه وسلم ما أنكر عليهم إنكارهم، بل أقرهم على أن الموتى لا يسمعون، وأخبرهم أن هؤلاء سمعوه صلى الله عليه وسلم بصفة خاصة، وأن الحدث لا يحدث لغيره، فقالوا: القصة دليل على منع سماع الأموات لا على ثبوته.

الترجيح في مسألة سماع الموتى لكلام الأحياء

الترجيح في مسألة سماع الموتى لكلام الأحياء والقول الراجح الذي عليه المحققون من أهل العلم قديماً وحديثاً أن الموتى لا يسمعون مطلقاً إلا ما ورد النص به، فهم يسمعون السلام، ويحسّون بالزائر لهم الزيارة الشرعية، وأيضاً يسمع الميت قرع نعال الناس حينما ينصرفون من دفنه لكن لا يسمع غير ذلك. وأيضاً فإن الميت قد يستأنس أول دفنه بمن حوله من الناس بناء على قصة عمرو بن العاص التي لم يُنكرها الصحابة، وهذه أمور توقيفية، وهذا هو الراجح أن الأمور التوقيفية يُثبت سماع الأموات فيها كما وردت بالنصوص، وما عداها لا يُثبت لأنه يحتاج إلى دليل، فالنصوص التي نفت تنفي أن يكون للموتى سمع تبقى دلالتها كقوله عز وجل: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80] تبقى دلالتها على أن الموتى لا يسمعون إلا ما ورد استثناءه في النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم وصح. فلو أن إنساناً جاء إلى المقبرة وأخذ يُنشد شعراً أو يرثي وينوح، فالدليل قائم على أن الأموات لا يسمعونه، ومن باب أولى إذا جاء يطلب حوائج أو غيرها، ولو سمعوا ما استجابوا له، لكن الصحيح أنهم لا يسمعون. إذاً فالحاصل أن سماع الموتى محصور فيما ورد به النص، وما عداه يحتاج إلى دليل، وهذا أمر غيبي لا دليل عندنا فيه، ولا يقاس ما لم يرد بما ورد؛ لأن هذه أمور غيبية بحتة لا يصح فيها القياس، وما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم من إسماعه بعض الموتى إما خاص وإما يدخل في عموم ما ثبت لجميع المسلمين أو لجميع الخلق.

سماع النبي صلى الله عليه وسلم لمن يسلم عليه من بعيد

سماع النبي صلى الله عليه وسلم لمن يسلم عليه من بعيد وهناك أيضاً مسألة متفرعة وهي ما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يسمع السلام البعيد والقريب، وهذا ورد به نصوص، لكن لا شك أنه يسمع من يسلم عليه من قريب كغيره من الأموات ويرد السلام، لكن ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم يرد السلام لمن سلّم عليه في أي مكان كان، وأنه يبلغه سلام المسلّمين عليه في أي بقعة من بقاع الأرض، فهل هذا يعني أنه يسمع سلام جميع الناس أم أنه يُبلّغ به من قبل الملائكة؟ الراجح والله أعلم أنه يبلّغ به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغونه السلام. فسماع النبي صلى الله عليه وسلم لسلام المسلمين عن طريق الملائكة، وما ورد من النصوص المطلقة في هذا يُحمل على هذا اللفظ المقيد بتبليغ الملائكة، ومع ذلك تبقى المسألة خلافية، هل النبي صلى الله عليه وسلم يسمع كل من سلّم عليه ويرد عليه في أي مكان كان؟ هذا ورد في نصوص، لكنها مجملة غير صريحة، وورد الحديث المفصّل المبيّن أن لله ملائكة يبلّغونه عن أمته السلام أينما كانوا. وسماع السلام من بعيد خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، أما بقية الأموات فلا يسمعون إلا من يسلّم عليهم عند القبور، والله أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

الفرق بين سلام القريب والبعيد

الفرق بين سلام القريب والبعيد Q هل الفرق بين سلام القريب والبعيد، أن البعيد يصلي الله عليه بها عشراً، والقريب يرد الله على الرسول عليه الصلاة والسلام روحه فيرد عليه السلام؟ A أن القريب لا شك أنه يرد الله عز وجل على الميت روحه، ومن باب أولى النبي صلى الله عليه وسلم، أما الصلاة عشراً فوعد مطلق للبعيد والقريب، فكل من صلى على النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الله عليه بها عشراً، لكن القصد السلام الخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو كالسلام على الميت، هل يسمعه النبي صلى الله عليه وسلم من بعيد أو يبلّغ به؟

ما يراه الأحياء من اهتمام الأموات وتحسسهم

ما يراه الأحياء من اهتمام الأموات وتحسسهم Q ما رأيك في الخلاف في سماع الموتى وعدم سماعهم؟ A في الحقيقة هي مما ليس له ثمرة في أعمال الأحياء تجاه الأموات؛ لأن الأحياء يجب ألا تخرج تصرفاتهم تجاه الأموات عما ورد في السنة، سواء قلنا بأنهم يسمعون أو يبلّغون لا فرق، لكن من باب العلم. أما هذه الأرواح فالله أعلم، فالآن يحدث من الناس الأحياء رؤى تشعر بأن الأموات يهتمون ويتحسسون بأحوال الأحياء سلباً وإيجاباً، لكن هذه المسائل ليست من عالم الشهادة، بل تدخل في عالم الغيب، فالله أعلم بها فإنها ليست مفسّرة عندنا وليس لها تفسير، إلا إنها أمور روحية وليست أموراً عملية جسدية ولا تدخل في باب السلام ورد السلام، فهي من الأمثال التي تُضرب للعباد، قد يكون لقاء أرواح والأرواح لا يحدها شيء والله أعلم.

حدود الولاء والبراء مع غير المسلمين

حدود الولاء والبراء مع غير المسلمين Q أرجو توضيح حدود الولاء والبراء مع غير المسلمين؟ A غير المسلمين ليس معهم ولاء، فمن حيث الاعتقاد والدين والشعور تجاههم البراء الكامل، أما من حيث التعامل فهذا يرجع لجلب المصالح ودفع المفاسد، ويرجع لما يترتب على التصرف من خير أو شر، فبعض الناس يخلط بين مسألة التعامل الدنيوي والبراء القلبي، فالبراء القلبي والبراء الديني والعقدي من غير المسلمين براء كامل وعداء كامل، لكن من حيث التعامل لا بد من تحكيم قواعد الشرع بحسب الزمان والمكان والمصلحة والمفسدة وبحسب الحال والشخص، وبحسب نوع التصرف، فمثلاً المنادمة والمجالسة والتبسط مع الكافر لا تجوز، لكن العمل معه فيما تقتضيه مصلحة عامة للمسلمين أو مصلحة خاصة هذا أمر آخر.

رؤية الأموات أعمال الأحياء

رؤية الأموات أعمال الأحياء Q هل يرى الأموات أعمال الأحياء؟ A الله أعلم، ليس عندنا لهذا دليل ما عدا الرؤى، والرؤى ليست أدلة، إن هي إلا أمثال تُضرب للخلق، فقد يوجد من الناس الأحياء من يرون أحوال الأموات، وأن الأموات يُشعرون الأحياء بأنهم يتفقدون أحوالهم وأنهم يُسرّون بما يسر، ويتألمون بما يضر إلى آخره، لكن هل هذا على الحقيقة من كل وجه؟ الله أعلم ليس عندنا على هذا دليل.

القصاص بين الإنس والجن يوم القيامة

القصاص بين الإنس والجن يوم القيامة Q هل يقتص الإنس من الجن يوم القيامة؟ A الظاهر أن الإنس يقتصون من الجن والجن يقتصون من الإنس، وأغلب ما يكون الأذى من الجن للإنس؛ لأن الجن يرون الإنس ويشعرون بهم والإنس لا يرون الجن ولا يشعرون بهم، فكان الأذى من الجن على الإنس أكثر، ولذلك سيكون القصاص بينهم يوم القيامة كسائر المخلوقات.

وصية الأموات عن طريق الأحياء

وصية الأموات عن طريق الأحياء Q هل يوصي أموات الأحياء عن طريق بعض الأحياء؟ A لا أعرف أنه مشروع، بل لا أصل له، أعني كون الحي يوصي الميت يقول: كلّم لي فلاناً، أو ابحث لي عن فلان عند القبر أو عندما يموت الميت.

الخلاف في حديث خلق آدم على صورة الرحمن

الخلاف في حديث خلق آدم على صورة الرحمن Q ذكرتم في الأسبوع الماضي حديث: (إن الله خلق آدم على صورته)، وأنه جاء في حديث آخر: (إن الله خلق آدم على صورة الرحمن)، وقد سمعنا في شريط للإمام الألباني يقول: هذا الحديث باطل لا يثبت، والصحيح أن الضمير عائد إلى آدم كما جاء في صحيح مسلم: (إن الله خلق آدم على صورته ستون ذراعاً)، وهذا دليل واضح في هذه المسألة؟ A المسألة خلافية بين أهل العلم المعتبرين قديماً وحديثاً، أما حديث (على صورة الرحمن) فصححه كثير من أهل العلم المعتبرين، ومع ذلك قد يجتهد مجتهد من العلماء فيرى ضعفه أو يرى أنه باطل، فهذه مسألة لا تدخل فيما أتكلم فيه أنا، أنا أتكلم فيما أعلم وفيما أرى أنه هو الأرجح عند جمهور السلف من أهل الحديث، ومع ذلك فهذه الأمور هي محل خلاف، سواء تصحيح الحديث، فإن قبل الألباني ابن خزيمة رحمه الله ضعّف الحديث، وهو إمام الأئمة في الحديث والعقيدة، لكن قبِله غيره من الأئمة، فالمسألة كما قلت لا تعدو أن تكون خلافية وليس فيها جزم؛ لأن هذه ليست من الأمور القطعية والله أعلم.

شرح السنة [7]

شرح السنة [7] من رحمة الله تعالى أنه يدخل أهل الجنة الجنة برحمته وعفوه، ويعذب من يستحق العذاب بعدله، ولا يظلم ربك أحداً، ولا يعترض على ذلك وعلى ما ورد من نصوص الكتاب والسنة ولا يقبلها ويطعن فيها إلا صاحب هوى وبدعة وضلالة، وهو متهم في دينه وإسلامه.

الجزاء على الأعمال

الجزاء على الأعمال قال أبو محمد الحسن بن علي البربهاري رحمه الله تعالى: [والإيمان بأن الرجل إذا مرض يأجره الله على مرضه، والشهيد يأجره الله على شهادته. والإيمان بأن الأطفال إذا أصابهم شيء في دار الدنيا يألمون، وذلك أن بكر ابن أخت عبد الواحد قال: لا يألمون. وكذب! واعلم أنه لا يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله، ولا يعذّب الله أحداً إلا بقدر ذنوبه، ولو عذّب أهل السماوات وأهل الأرضين برهم وفاجرهم عذّبهم غير ظالم لهم، لا يجوز أن يقال لله عز وجل إنه ظالم، وإنما يظلم من يأخذ ما ليس له، والله جل ثناؤه له الخلق والأمر، والخلق خلقه والدار داره، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولا يقال لم؟ وكيف؟ لا يدخل أحد بين الله وبين خلقه].

دخول الجنة برحمة الله لا بالأعمال

دخول الجنة برحمة الله لا بالأعمال هذه الفقرة (68) ذكر قواعد هامة من قواعد العقيدة عند السلف فيما يتعلق بالجزاء على الأعمال وفيما يتعلق بالقدر. أما ما يتعلق بالجزاء على الأعمال فإن الله عز وجل لا يُدخل الجنة أحداً إلا برحمته سبحانه، لأن أعمال العباد مهما بلغت من الكمال والوفاء فإنها لا تكافئ نعم الله عز وجل على العبد، ولنأخذ هذا بمثال واضح بيّن تقتضيه الفطرة، وهو أن الأعمال الصالحة بحد ذاتها لم تكن إلا بتوفيق الله، فهذا التوفيق نعمة كبرى لا يكافئها العمل، لأن العبد بنفسه ضعيف فقير إلى الله عز وجل والله هو الغني القوي، والعبد لا يملك لنفسه شيئاً فالله عز وجل هو الذي خلقه، ثم هداه، وبالهداية وفقه للعمل، ثم جعل الله له على عمله ثواباً، وذلك بفضل الله ورحمته. فمن هنا فإن أعماله لا تكافئ شيئاً من نعم الله عليه.

لا يوصف الله تعالى بالظلم

لا يوصف الله تعالى بالظلم ثم بعد ذلك قال: (ولو عذّب أهل السماوات وأهل الأرضين) هذا على سبيل الافتراض؛ لأن (لو) حرف امتناع لامتناع، فإنه يمتنع في وعد الله عز وجل وعدله أن يعذّب أهل السماوات وأهل الأرضين البر والفاجر، فإن الله عز وجل وعد الأبرار بالخير والنعمة، وتوعد الفُجّار جزاء أعمالهم، لكن من باب الافتراض بأن الله عز وجل مالك الملك وكل شيء بيده، وهو الذي خلق الخلق وهم ملكه، فيفعل بملكه ما يشاء، فلو عذّبهم بمشيئته فإن ذلك راجع إليه سبحانه، لكن هذا ممتنع بما ذكره الله عز وجل وبما وعد الله به عباده، وامتنع أن يعذّبهم كلهم، وأن من يُعذّبون إنما يُعذّبون بذنوبهم. كما أنه لا يُنسب إلى الله الظلم، وهذا أمر بدهي ولا يحتاج إلى تقرير، ولذلك لا ينبغي لطالب العلم أن يفصّل في هذه الأمور؛ لأن الإجمال فيها هو مقتضى الفطرة، يقال: إن الله عز وجل لا يظلم أحداً {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، ويقال: إن الله عز وجل يفعل في خلقه ما يشاء، ويقال: إن الله عز وجل ينعم على الطائعين برحمته إلى آخر الأمور الإجمالية؛ لأن التفصيل في هذه الأمور يوقع في الشبهات والشكوك، ثم إنه أيضاً خلاف الأدب مع الله عز وجل، فلا ينبغي أن نبالغ في نفي الظلم عن الله؛ لأن ذلك أمر تقتضيه العقول السليمة والفطر المستقيمة، ولا نبالغ في القول بأن الله عز وجل لو عذّب العباد كلهم لكان له ذلك، لكن نذكرها على سبيل الإجمال من باب الرد على الفرق، ولذلك لم يكن السلف يذكرون هذه الأمور حتى تكلم فيها الناس، فلما تكلم فيها الناس بغير حق وقالوا على الله بغير علم، وعمّت به البلوى وسمعها العامة والخاصة تكلم السلف عنها من باب تقرير الحق ونفي الباطل، والرد على الشبهات. وهذه قاعدة عظيمة في الدين، وهي أن الشبهة إذا لم تشتهر ولم تنتشر فلا يجوز الكلام فيها إلا في حدود ضيقة جداً، وإذا اشتهرت وانتشرت فلا بد من الكلام فيها، ولذلك نجد أن الله عز وجل في كتابه الكريم ما تكلم في أمر من الأمور التي تتعلق بذاته وأسمائه وصفاته مما يوجب نفي النقص تفصيلاً إلا بما تكلم به أهل الضلال، فالله عز وجل إنما نفى عنه الصاحبة لأن هناك من قال بذلك القول العظيم الشنيع، ونفى عن نفسه الولد لأن هناك من قال بذلك، ونفى عن نفسه النصب واللغو لأن هناك من قال بذلك، لكن لا نجد أن مذهباً من المذاهب ذُكر تفنيده في القرآن وهو ليس له وجود ولا شهرة، فالمذاهب المغمورة ينبغي ألا نفصّل عنها وألا نتكلم عنها. المهم أن الشيخ في تقرير نفي الظلم عن الله عز وجل ونحو ذلك إنما أراد أن ينفي ما قالته بعض الفرق أو تكلموا فيه بغير حق.

ألم الأطفال لما يصيبهم

ألم الأطفال لما يصيبهم قوله: (والإيمان بأن الأطفال إذا أصابهم شيء في دار الدنيا يألمون)، يعني أنهم يحسّون بالألم، وذلك أن بكر ابن أخت عبد الواحد، وعبد الواحد هذا ابن زيد من أصحاب عبد الله بن مسعود وابن أخته هذا بكر مشهور بأنه من أصحاب الأهواء قال: (لا يألمون)، وكذب. وهذا كلام أشار إليه الشيخ لأنه اشتهر في وقته أو بمناسبة معينة، أو لأنه اطّلع عليه، فإن مفردات أقوال أهل الأهواء لا حصر لها، وأغلبها مما لا يُعقل، فأقول: ربما قصد الشيخ أن هناك قولاً في هذا الأمر، وأن هذا الأمر غريب فأراد الرد عليه؛ لأن أهل الأهواء تكلموا في كل شيء يرد على أذهانهم وخيالاتهم، فهناك من زعم أن الأطفال لا يحسّون بالألم، زعماً منه بأن إحساسهم بالألم ينافي رحمة الله عز وجل، وأنه لو تألّم الأطفال لكان ظلماً من الله لهم، وهذا ضلال لأن الله عز وجل له في خلقه شئون وله في فعله حكم، فحينما يتألم الحيوان أو الإنسان غير المتسبب كالطفل أو الشيخ الكبير أو المريض فذلك راجع لحكمة يعلمها الله عز وجل. والأطفال أو غيرهم ممن ليسوا مكلفين آلامهم لا بد أن ترجع في المآل إلى مصالح لهم أو لذويهم، ولا تذهب سدى، لأن الله عز وجل ليس بظلام للعبيد. لكن كيف تكون هذه المصالح؟ ربما يكون الألم للطفل وهو صغير في مصالح يدّخرها الله له بعد كبره أو يوم القيامة، أو مصالح ترجع إلى منفعة لوالديه أو لذويه، والله أعلم بالحال. فالقصد أن ابن أخت عبد الواحد أو غيره ممن أنكروا ذلك أنكروه زعماً منهم أن هذا ينافي الرحمة. وقد يقال إن الألم للطفل يجعل الوالدين يهتمان فيكون لهما الأجر في هذا الهم، وهذا جانب، لكن أيضاً ألم الطفل قد لا يظهر، لكن المهم أن ذلك راجع لحكمة علمها الله عز وجل نحن لا نعلمها، وأن ذلك من الله ليس بظلم؛ لأنه إذا استشعرنا كمال الله عز وجل وكمال حكمته وكمال رحمته، نعرف أن ما يوقعه الله عز وجل على غير المكلّفين من الآلام وغيرها راجع لحكمة ومصلحة غائبة لا ندركها، والله أعلم بها. قوله: (وإنما يظلم من يأخذ ما ليس له)، يعني أن الله عز وجل حينما يفعل في العباد شيئاً بما في ذلك تعذيبهم فإن ذلك له عز وجل، لذلك لا يوصف عمله بالظلم لأنه مالك الملك يفعل في ملكه ما يشاء، إنما يوصف بالظلم من يأخذ ما ليس له، أو يفعل ما ليس له حق أن يفعله، والله عز وجل له أن يفعل في ملكه ما يشاء.

الطعن في الآثار من سيما أهل الأهواء

الطعن في الآثار من سيما أهل الأهواء قال رحمه الله تعالى: [وإذا سمعت الرجل يطعن على الآثار ولا يقبلها أو ينكر شيئاً من أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتهمه على الإسلام، فإنه رجل رديء القول والمذهب، وإنما طعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لأنه إنما عرفنا الله وعرفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفنا القرآن، وعرفنا الخير والشر، والدنيا والآخرة بالآثار، وأن القرآن إلى السنة أحوج من السنة إلى القرآن]. قوله: (وإذا سمعت الرجل يطعن على الآثار)، أقول: هذا يتعلق بمنهج شامل وعام لجميع أهل الأهواء والافتراق، وسمة عامة من سماتهم وأصل من أصولهم وهو الطعن في الآثار، والمقصود بالآثار نصوص القرآن والسنة، وأقوال السلف، فالآثار إذا أُطلقت في مثل هذا المقام فيقصد بها كل ما أُثر من نصوص الوحي، وأحياناً تُطلق ويراد بها السنة وآثار السلف، وأحياناً تُطلق ويُراد بها أقوال السلف فقط حسب السياق، لكن المقصود بالآثار هنا الوحي كله القرآن والسنة وما نُقل عن السلف من أقوال وأفعال ومناهج وتقريرات، فالطعن في الآثار أياً كان يعتبر من أصول أهل الأهواء، والرجل إذا طعن في الآثار فإنه مغموز في دينه، صاحب هوى سواء شعر أو لم يشعر.

أنواع الطعن في الآثار

أنواع الطعن في الآثار والطعن في الآثار الذي يتهم صاحبه يُحصر بأنواع على سبيل الإجمال: النوع الأول: كراهة النصوص، يعني كراهة نص من النصوص أو بعض النصوص. فهذا نوع من الطعن، فكثير من أهل الأهواء يكرهون إيراد النصوص التي تخالف أهواءهم حتى وإن كانت آيات، فالمعطّل للصفات أو المؤول للصفات لا يطيق سرد الآيات التي تثبت الصفات؛ لأنها تخالف مبدأه وما هو عليه، ولا يطيق الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات صفات الله عز وجل، ولذلك نجد أن الجهمية والمعتزلة وكثيراً من متكلمة الأشاعرة والماتريدية في كتبهم، وفي مقالاتهم، وفي مناظراتهم لا يوردون أحاديث الصفات إلا للطعن فيها، هذه قاعدة لا تتخلف، ومن شاء فليرجع إلى كتبهم، فإنهم يوردون أحاديث الصفات لردها أو لتأويلها والتشكيك فيها، وإذا أوردوها يوردونها مفردة ولا يسردون النصوص، أي أنهم يوردون ما يكفي لرد النص عندهم أو تأويله، وهذا نوع من الطعن في الآثار، بل هو من أعظم الطعن التي طُعنت به السنة؛ لأنه طعن ملبس. وقد يوردونها ويقولون: الحشوية يقولون كذا، فيوردون الحديث الذي يزعمون أن من قال به فهو حشوي أو مشبّه، وهو من أحاديث الصفات. وأحياناً يكون طعن الآثار بالرد المباشر كما تفعل الجهمية، أعني جهمية القرن الثاني الهجري، فلما جاء القرن الثالث ورأوا أن العامة وعموم أهل العلم تبصروا في هذا الأمر وأنهم لا يطيقون مذهب الجهمية صاروا يؤولون كما فعل بشر المريسي، حتى أن شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره يقول: إنه كان يقول: لا داعي إلى أن نرد النصوص بل نوردها على وجه يتلاءم مع الأصول التي نحن عليها، وأورد النصوص في كتبه وأوّلها، أي أنه أوردها على سبيل الرد، لكنه رد غير مباشر، أما الرد المباشر فهو مذهب الجهمية الأوائل. ولا يزال الرد المباشر للأحاديث هو منهج أهل الأهواء حتى عصرنا هذا، فهناك من يوردون أحاديث لا توافق أهواءهم على سبيل الرد، فمثلاً كثير من العقلانيين الآن يوردون النصوص الواردة في الدجال وأشراط الساعة وأخبار المهدي على سبيل التهكّم والسخرية. هناك من يورد أحاديث تتعلق بالقضايا الغيبية مثل حديث لطم موسى لملك الموت، أوردها أحدهم على سبيل السخرية والتهكّم، ولم يكلف نفسه التثبت من السند هل هو صحيح أو غير صحيح، فهذا نوع من الطعن في الآثار يُتهم صاحبه على الدين. كذلك التشكيك والتأويل ولمز الرواة، أو ذكر بعض ألفاظ الحديث على سبيل السخرية والرد، أو دعوى أن هذه النصوص متشابهة، فهذا أيضاً نوع من الطعن في الآثار؛ لأنه لا يمكن أن يكون ما أخبر الله به وأخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمور الغيب متشابهاً على الناس في معانيه، نعم، قد تتشابه كيفياته، أما معانيه فهي حق، فهم يوردون النصوص بدعوى أنها متشابهة. ومن الطعن في الآثار دعوى عدم حجيتها، مثل قولهم: بأن حديث الآحاد لا يحتج به في العقيدة.

الطعن في رواة الآثار

الطعن في رواة الآثار ومن ذلك الطعن في الرواة، وهذا أيضاً من أعظم أنواع الطعن، وما من فرقة لها رأي يخالف السنة إلا وتطعن في رواة الحديث، فمنهم من يطعن في دون الصحابة، ومنهم من يجرؤ على الصحابة ولا يبالي، فالجهمية طعنوا في الصحابة، والرافضة قبلهم طعنوا في الصحابة، والخوارج طعنوا في الصحابة، والقدرية طعنوا في الصحابة وسبّوهم بأنهم رووا أحاديث القدر، ثم جاءت بعد ذلك المعتزلة ومتأخرة الأشاعرة وطعنوا في الصحابة، فعلى سبيل المثال الرازي حينما أورد نصوص الصفات أورد إشكالاً على الصحابة أنفسهم، فقال ما معناه: كيف نقول بأحاديث الصفات والذين رووها من الصحابة المتأخرين كـ ابن عمر وغيره ما رووها إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثين سنة أو أكثر؟ أي: أنه طعن في الصحابة بأنهم رووا بعد النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثين أو خمسين سنة، وقال: إنهم بشر يعتريهم السهو والخلل والنسيان، وإنه ظهر في عهدهم الأهواء وهذا لمز صريح! فهذا من باب الطعن في الآثار من خلال الرواة، لكن أشده الطعن في الصحابة، بل أحياناً يرتد الطعن إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن من طعن في الآثار طعن فيمن ترجع إليه الآثار، والآثار ترجع إلى المبلّغ عن الله عز وجل وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، والصحابة هم النقلة العدول وهم المؤتمنون على الدين، فالطعن فيهم طعن على الآثار.

معنى أن القرآن إلى السنة أحوج من السنة إلى القرآن

معنى أن القرآن إلى السنة أحوج من السنة إلى القرآن أما قوله: (وأن القرآن إلى السنة أحوج من السنة إلى القرآن)، فقصده بذلك أن السنة أشمل وأنها مبيّنة للقرآن، فحاجة القرآن إلى السنة ليست حاجت أفضلية، فلا شك أن القرآن كلام الله عز وجل وصفته ولا يفضله شيء، فهو كمال يرجع إلى كمال، لكن قصده بالحاجة هنا أن القرآن مجمل في كثير من الأمور، والسنة تبيّن. ولنأخذ على سبيل المثال أركان الإسلام، فأركان الإسلام كلها ذكرت في القرآن مجملة والسنة بينتها، فهذا معنى حاجة القرآن إلى السنة، بمعنى أن المسلم لا يمكن أن يتم إيمانه وإسلامه إلا بأن يعمل بالقرآن على مقتضى السنة، وأن يرجع في فهم القرآن والعمل به إلى السنة المبيّنة له من قول أو تقرير أو فعل عن النبي صلى الله عليه وسلم. هنا كلام في الحاشية قال: عن الدارمي وابن عبد البر في الجامع قال الفضل بن زياد سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل وسئل عن الحديث الذي روي أن السنة قاضية على الكتاب؟ فقال: ما أجسر على هذا، أن أقول: إن السنة قاضية على الكتاب! إن السنة تفسر الكتاب وتبينه، إلى آخره. وهذا من باب الأدب، فمن الصعب أن يقال إن السنة قاضية على القرآن، لكن من قالها نعرف أن قصده أنها شارحة له ومبيّنة لا أنها حاكمة عليه حكم الفضل والتقديم، هذا ظاهر والله أعلم.

شرح السنة [8]

شرح السنة [8] من منهج أهل السنة ذم الكلام والجدال والمراء والخصومة خاصة في باب القدر؛ لأنه سر الله تعالى، فيجب الإمساك عن الكلام فيه إلا بما ورد به الدليل، ويجب الإيمان بأن النبي صلى الله عليه وسلم أسري به إلى بيت المقدس، وعرج به إلى السماوات في ليلة، كما أخبر ربنا سبحانه في كتابه ونبينا صلى الله عليه وسلم في سنته.

الخصومة في القدر

الخصومة في القدر قال أبو محمد الحسن بن علي البربهاري: [والكلام والجدال والخصومة في القدر خاصة منهي عنه عند جميع الفرق؛ لأن القدر سر الله، ونهى الرب تبارك وتعالى الأنبياء عن الكلام في القدر، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخصومة في القدر، وكرهه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون، وكرهه العلماء وأهل الورع، ونهوا عن الجدال في القدر، فعليك بالتسليم والإقرار والإيمان، واعتقاد ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في جملة الأشياء وتسكت عما سوى ذلك].

ذم الخصومة والمراء في القدر

ذم الخصومة والمراء في القدر في هذه الفقرة أشار إلى مسألة مهمة وخطيرة أيضاً وهي مسألة الجدال والمراء، وهي مما ابتلي به الناس قديماً وحديثاً، والجدال والمراء الأصل فيه المنع إلا ما توفرت فيه الشروط، والجدل والمراء من مناهج أهل الأهواء ومن أصولهم وسماتهم، وبالعكس فإن من منهج أهل السنة والجماعة الكف عن الجدال والمراء. وإذا كان الجدال والمراء في سائر الأمور قبيحاً، فهو في أمور الدين والعقيدة أقبح وأشد، ثم هو في القدر بصفة خاصة من كبائر الذنوب، لأن القدر سر الله في خلقه، بمعنى أن القدر من الأمور التي لا تحيط بها عقول البشر. والقدر يتعلق بمقادير العباد، وهي الشقاوة والسعادة، والموت والرزق والأعمال المستقبلية للإنسان، وهي أمور مغيّبة، فهي إذاً سر لا يعلمه إلا الله عز وجل، فكان تحريم الجدال والمراء فيها أشد من غيره. وكذلك في الأسماء والصفات يعد من أعظم الذنوب؛ لأنه إساءة أدب مع الله عز وجل، وقول على الله بغير علم، ولأنه أيضاً مما نهى الله عنه أشد النهي. ثم سائر أمور الغيب لا يجوز المراء فيها حتى ما يتعلق بالأمور الاجتهادية، والناس لهم أن يجتهدوا وأن يختلفوا وأن يناقش بعضهم بعضاً؛ لكن إذا وصل النقاش إلى المراء وهو المحاجة لطلب الغلبة، فإنه يكون حراماً، ولذا سأقف عند بعض المسائل حول هذا الموضوع، حيث ذكر الشيخ شيئاً منها وأشار إلى أشياء مجرد إشارة.

شروط جواز الجدال في الدين

شروط جواز الجدال في الدين الجدل والمراء والخصومة وما يسمى الآن بالحوار، كلها تدور على معان متقاربة؛ لكن أشدها تحريماً وأبعدها عن الحق هو المراء، لأن الجدال إذا توافرت فيه الشروط وكانت الغاية منه غاية شرعية كالدعوة إلى الله عز وجل أو الانتصار للحق والدفاع عنه، فإنه جائز بالتي هي أحسن كما ذكر الله عز وجل، لكن لأن أغلب الجدال الذي يدور بين الناس ليس من هذا النوع فالأصل فيه المنع، أما المراء فهو مذموم كله؛ لأن المراء أمر زائد عن الجدل، فالمماراة والتماري والمراء هي المماحلة والتكلف وطلب الانتصار للنفس، وتكرار الحجج لغير حاجة، أو طلب المغالبة للخصم مع صرف النظر عن الحق. والمناظرات جدل، فإذا توافرت فيها الشروط فهي جائزة، وقد تجب حيث لا يمكن تقرير الحق ولا الدفاع عنه إلا بها، ولذلك يحسن التنبيه إلى ما يجري في عصرنا الآن من المساجلات والمناظرات عبر وسائل الإعلام، وأن هذا من وسائل تقرير العقيدة والدفاع عنها، وأن طالب العلم له أن يشارك في حوار من هذه الحوارات إذا كان عنده القدرة وقد يلزمه ذلك إذا تعين الأمر عليه، كما إذا دُعي من جهة من يملك هذه الأمور، أو دُعي من جهة المشايخ الذين يأمرون طلاب العلم ولهم عليهم الأمر، أو واجه المشكلة مواجهة لا تبرأ الذمة بتركها، بحيث لو لم يتصد لدخل من هو دونه أو دخل مبطل يتكلم باسم الحق. فيجب على طالب العلم أن يُسهم إذا توافرت فيه الشروط في الحوارات التي يكون فيها نصر للعقيدة ودفاع عن الحق، ولا يسعه الاعتذار. أقول هذا لأن كثيراً من طلاب العلم يسألون الآن، وقد يكون عند بعضهم المقدرة لكنه يتورع أو يتهيب، فأقول: لا مجال للتورع في هذه الأمور ولا للتهيب، فإن الباطل ينتفش وأهله صاروا يتكلمون باسم الحق، وتصدى لكثير من أهل الباطل من ينتسبون للسنة وفيهم ضعف وجهل وقلة فقه، فصار دخولهم في هذا المجال خذلاناً واضحاً للحق، وقد سمعنا أن كثيراً من المساجلات والمناظرات التي جرت عبر بعض وسائل الإعلام من جهة أناس ضعاف تسببت في إرباك الناس في فهمهم للعقيدة، وتسببت في إظهار أهل الباطل بمظهر صاحب الحجة الذي يملك زمام المبادرة، وأن الدليل والحجة في وصفه، وسمعت هذا من كثير ممن شاهدوا وسمعوا، حتى أن بعضهم من طلاب علم ومع ذلك يأتون بشيء من الانهزامية والضعف، وبعضهم صار يشكك في مبادئه ومسلّماته العقدية وفي فهمه لمنهج السلف. فهذه المناظرات إذا توافرت شروطها عند طالب العلم وعرف شروط المجادلة بالتي هي أحسن، فيجب عليه أن يشارك ولا يسعه أن يعتذر. هناك مجالات يجوز فيها الحوار والجدال إذا توافرت الشروط، من هذه المجالات: إذا كان المقصود تقرير الحق أو تعليم الناس، أي أنه يجوز للمعلم أن يستعمل أسلوب المحاورة مع طلابه، حتى وإن افترض الأسئلة افتراضاً أو أعاد المسألة أكثر من مرة ما دام القصد التعليم، ليفتّح أذهان السامعين ويبيّن لهم وجوه الاستدلال ويدفع عنهم الشبهات المحتملة، فالحوار بين الشيخ وطلابه، وكذلك بين الطالب وزملائه إذا كان المقصود به إحقاق الحق من الطرفين ولم يصل إلى مستوى المراء فهو جائز، بل هو من وسائل التعليم التي تكون مرغوبة شرعاً. محاورة أهل العلم فيما بينهم ومراجعة بعضهم لبعض لقصد التعلم أو الوصول إلى الحكم الشرعي، أو الوصول إلى الحق، أو المعرفة المفيدة أصل لا غبار عليه، أما إذا قُصد المخاصمة والمغالبة أو الانتصار للرأي أو للحزب أو للجماعة، أو للتشفي بالغير، فإن الأصل فيه المنع حتى وإن كان صاحبه يمثّل الحق فالوسيلة أن يكون التزم شروط الجدال الشرعية لكن غايته ليس نصر الحق إنما كشف الخصم والاستهتار به أو الإحراج أو نحو ذلك، هذا لا يجوز وإن كان صاحب حق، أيضاً من الأمور التي ينبغي أن يتنبه لها أنه من شروط الجائز أن يكون المجادل عالم بما يقول عالم بالدليل كان يجهل الدليل فلا ينبغي له أن يدخل بمجرد أنه مقتنع أو مقلد، فالمقلد لا يجوز له أن يحاور، فلابد أن يكون المحاور ملماً بالمسألة في أصلها ودليلها ووجه الاستدلال؛ لأنه لا يمكن أن يطمئن أن هذا هو الشرع إلا بذلك فلا يحاور، نعم كونه يقتنع برأي شيخ متبع لا حرج فيه، لكن إذا دخل في الحوار والجدال فلا يجوز له أن يجادل إلا إذا فقه المسألة، وعرف الدليل ووجه الاستدلال. ثم من شروط المجادلة المقدرة العقلية والبيانية: بعض الناس عنده علم ولا يفوته الدليل ولا وجه الاستدلال في مسألة ما، لكنه يعرف من نفسه أنه إذا تصدى في المجادلة للخصم قد يرتبك وتخونه العبارة فإذا لم يجد في نفسه الأهلية من ناحية المقدرة البيانية حتى وإن كان عالماً فلا يجوز له أن يدخل في حوار مع خصم قوي أمام الملأ. ثم لابد من العدل في القول والإنصاف في الحكم: أي: لابد للمجادل أن يقصد العدل مع الخصم، فإذا كان مع الخصم شيء من الحجة أو شيء من الحق فليعترف به، وليوطن نفسه أنه لو تبين له أن خصمه هو المحق أن يعلن ذلك أمام الملأ ولا يقول: لست مستعداً لأن أنهزم، أو يراوغ أو يحيد، لأن الحيدة تعتبر بعداً عن العدل والإنصاف في الحكم.

الإيمان بالإسراء والمعراج

الإيمان بالإسراء والمعراج قال رحمه الله تعالى: [والإيمان بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسري به إلى السماء الدنيا، وصار إلى العرش، وكلم الله تبارك وتعالى، ودخل الجنة واطلع في النار، ورأى الملائكة، وسمع كلام الله عز وجل، ونشرت له الأنبياء، ورأى سرادقات العرش والكرسي وجميع ما في السموات وما في الأرض في اليقظة، حمله جبريل عليه السلام على البراق حتى أداره في السموات، وفرضت له الصلاة في تلك الليلة، ورجع إلى مكة في تلك الليلة، وذلك قبل الهجرة]. هذه المسألة تتعلق بأصل من أصول الدين، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أسري به إلى بيت المقدس، وفي نفس الليلة عرج به إلى السماء. والإسراء هو انطلاقه من البيت الحرام إلى بيت المقدس، والمعراج هو عروجه من بيت المقدس إلى السموات السبع وما بعدهما، وهذا أمر حدث فعلاً، وهو من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وخصائصه التي خصه الله بها. وقد تعلقت بالإسراء كثير من الأحكام في العقيدة والشريعة، فالإسراء كان يقظة، وكان بالروح والجسم على الراجح. ولذلك لم يقع عند السلف خلاف قوي في أن الإسراء والمعراج كان يقظة، إنما الخلاف في الروح والجسد، وإن كان هناك ثلاثة أقوال: فهناك قول يقول: بأن المعراج كان بالروح فقط، وممن نسب إليه هذا القول: عائشة ومعاوية رضي الله عنهما، لكن يقولان بأنه يقظة هذا هو الظاهر من قولهم. وقال جمهور السلف قديماً وحديثاً وعليه أغلب الصحابة والتابعين وتابعيهم: إن الإسراء والمعراج بالروح والجسد، وإن هذا هو معنى كونه معجزاً تحدى الله به المشركين، وصار آية من آيات الله عز وجل ومن خصائص النبي صلى الله عليه وسلم. وهناك أقوال أرادت أن تجمع بين هذه الأقوال كالقول بأن الإسراء والمعراج حصلا أكثر من مرة، مرة بالروح والجسد ومرة بالروح فقط، ومرة يقظة ومرة مناماً إلى آخره. ومنهم من قال: إن الإسراء كله منام، وهذا قول ضعيف لا يتماشى مع مقاصد الشرع في ذكر الإسراء والمعراج؛ لأنه لو كان مناماً لكان حلماً، والأحلام لا يتميز بها أحد، فلذلك شنع السلف على هذا القول. ومما يتعلق بالإسراء أن الإسراء لم يتبين وقته في أي ليلة من الليالي ولا في أي شهر على سبيل التعيين والجزم، وهذا مما يسقط دعوى المبتدعة الذين يحتفلون بمناسبة الإسراء والمعراج ليلة السابع والعشرين من رجب، فهم مخطئون في تقدير الوقت ولو أصابوا ما جاز الاحتفال به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك هو ولا أصحابه. والنبي صلى الله عليه وسلم أولى بأن يحتفل بهذه الليلة التي فيها الإسراء والمعراج لو تحددت، لكن لعل من حكمة الله عز وجل أنها لم تتبين ولا يصح في تحديدها خبر كما قال كثير من المحققين من أهل العلم. والنبي صلى الله عليه وسلم حينما أسري به رأى الأنبياء في بيت المقدس وصلى بهم إماماً، ثم رآهم في السماء، ولا تنافي بين هذا وذلك؛ لأن ذلك راجع إلى قدرة الله عز وجل، وهو من أمر الغيب، والغيب لا تحده حدود الزمان والمكان التي تحد واقع البشر في الحياة الدنيا. فالأنبياء حياتهم حياة برزخية والحياة البرزخية لا تقاس بمقاييس الحياة الدنيا التي نعيش فيها فعلى ذلك ليس هناك ما يمنع من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم في بيت المقدس ورأى طائفة منهم في السماء، حيث رأى في السماء الدنيا آدم، وفي السماء الثانية يحيى وعيسى، وفي السماء الثالثة يوسف، وفي السماء الرابعة إدريس، وفي السماء الخامسة هارون، وفي السماء السادسة موسى، وفي السماء السابعة إبراهيم. وأنه تجاوز السموات صلى الله عليه وسلم ووصل إلى سدرة المنتهى، وفرضت عليه الصلاة ورأى أموراً عجيبة من أحوال الجنة وأهلها وأحوال النار وأهلها، وأحوال الأنبياء والملائكة، وأحوال الدنيا والآخرة، ورأى من آيات ربه الكبرى ما أطلعه الله عليه، وهي من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم ومن دلائل فضله وتكريمه، وكان من أعظم ما كرمه الله به أنه رأى ربه بقلبه، وأنه كلمه ربه بواحاً كلاماً يليق بجلال الله عز وجل. وهذه أعظم الفضائل التي يمكن أن ينالها بشر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واعلم أن أرواح الشهداء في قناديل تحت العرش تسرح في الجنة، وأرواح المؤمنين تحت العرش، وأرواح الفجار والكفار في برهوت وهي في سجين]. هذه كلها من أحوال الحياة البرزخية، فأرواح الشهداء في قناديل في الجنة، وكذلك أرواح المؤمنين، وأنها ترتفع وتتفتح لها أبواب السماء، وأنها تكون تحت العرش، هذا كله قد ورد فيه نصوص. وكذلك أن أرواح الكفار في سجين وردت فيها النصوص، أما أن أرواح الكفار والفجار في برهوت فهذا لم يرد فيه نص صحيح والله أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم القراءة في الرقية بمكبر الصوت على مجموعة مرضى

حكم القراءة في الرقية بمكبر الصوت على مجموعة مرضى Q ذكرت في الدروس الماضية والدرس الماضي الرقية الشرعية وبعض أحكامها فما هو حكم من يقرأ على مجموعة من الأشخاص بمكبر الصوت بحجة الزحام؟ A لا أعرف لهذا ما يمنعه شرعاً لكن قد يكون غير لائق؛ لأن الصورة التي تحدث فيها الرقية بهذا الشكل صورة لا تليق بكلام الله عز وجل ولا تليق بالمسلمين أن يفعلوا ذلك، وتشبه أفعال المبتدعة، وهو لم يكن معهوداً مع أن الناس كانوا يحتاجونه في عهود السلف، فقد كان فيهم مرضى يستشفون بالقرآن ويبحثون عن رقية، فما كان السلف يجمعون الناس ويقرءون عليهم قراءة واحدة، ثم إنه ارتبط بصورة جلب المادة، وهي صورة مستبشعة عند العقلاء. فلذلك أنا أرى أن هذا تصرف غير لائق، أما أن نقول إنه محرم فلا، لأنه ليس عندنا دليل على تحريمه ولا على عدم مشروعيته، ولكنه غير لائق ولا ينبغي للراقي أصلاً أن يتفرغ للرقية وأن يتجمهر عنده الناس، هذه كلها أمور بعيدة عن السنة فيما أعرف، صحيح أن الناس ينتفعون؛ لكن هذا أمر أصبحت تهيأ له قاعات كبيرة واستراحات وخرج الأمر عن سمت السنة، فالأمر في هذه المسألة وغيرها من الصور التي تحدث عند الرقاة تحتاج إلى تأمل من قبل العلماء وطلاب العلم.

رؤية الله في الدنيا غير ممكنة

رؤية الله في الدنيا غير ممكنة Q إن الله عز وجل يمكن رؤيته في الدنيا عقلاً لا شرعاً؟ A هذا كلام فلسفي، والعقل ليس عنده دليل على أن الله لا يرى في الدنيا لكن ورد الشرع بأنه لا يمكن رؤية الله عز وجل، وبعض أهل العلم يقول: ممنوع عقلاً وشرعاً رؤية الله عز وجل في الدنيا، لكن العقل لا يملك النفي ولا الإثبات.

إشاعة حدوث فيضانات في المستقبل

إشاعة حدوث فيضانات في المستقبل Q اشتهرت في هذه الأيام في الحضر وما حولها أنه في آخر شهر رجب ستحدث فيضانات ورياح شديدة وزلزال إلى آخره؟ A هذا من التكهنات والدجل؛ ولكن دجل مهذب، وهذا كله رجم بالغيب.

شرح السنة [9]

شرح السنة [9] يجب الإيمان بحياة البرزخ وبنعيم القبر وعذابه كما جاء في الكتاب والسنة، كما يجب الإيمان بالقضاء والقدر، وأن الله تعالى يتكلم متى شاء وكيف شاء كما يليق بجلاله وكماله، وأن الله تعالى فضل العباد بعضهم على بعض في الدين والدنيا، ولا يجوز أن يحكَّم العقل في شيء من ذلك، فإن العقل تابع وليس متبعاً.

الإيمان بحياة البرزخ

الإيمان بحياة البرزخ قال أبو محمد الحسن بن علي البربهاري رحمه الله تعالى: [والإيمان بأن الميت يقعد في قبره ويرسل الله فيه الروح حتى يسأله منكر ونكير عن الإيمان وشرائعه، ثم تسل روحه بلا ألم، ويعرف الميت الزائر إذا أتاه، ويتنعم في القبر المؤمن، ويعذب الفاجر كيف شاء الله]. في هذه الفقرة يقرر أصلاً من أصول الدين القطعية، وهو ما يتعلق بالحياة البرزخية. الحياة البرزخية هي حياة ثابتة، وهي جزء من الآخرة وليست من الحياة الدنيا، بل مرحلة بين الدنيا والآخرة؛ وسميت الحياة البرزخية من البرزخ، وهو الطريق الذي يصل بين زمنين أو بين مكانين. والحياة البرزخية فيها أمور كثيرة ثابتة، منها سؤال الميت، وأنه يأتيه ملكان يسألانه عن ربه وعن دينه وعن نبيه، وورد في بعض النصوص تسمية الملكين وأنهما منكر ونكير، لكن بعض أهل العلم لا يصحح حديث التسمية. وقد خلط بعض الناس بين عدم ثبوت الحديث في اسم منكر ونكير، وبين مسألة الملكين، فالسؤال للملكين ثابت قطعاً أما التسمية فبعض أهل العلم صحح الحديث الذي فيه اسم منكر ونكير وبعضهم لم يصححه. ومن الحياة البرزخية كون الإنسان يأتيه عمله، فإن كان صالحاً أتاه على أحسن صورة، وإن كان غير صالح أتاه على أقبح صورة. وإذا كان الميت من أهل الجنة فتح له باب إلى الجنة ورأى مقعده فيها، وإذا كان من أهل النار فتح له باب من النار فيرى مقعده فيها. وكذلك عودة الروح للإنسان في قبره على نحو الله أعلم به، فإن الإنسان إذا دفن في قبره تأتيه روحه فيحس ويتنعم ويتألم ويشعر بمن حوله بعد الدفن مباشرة ويسمع وقع نعال الذين يدفنونه.

الإيمان بقضاء الله وقدره

الإيمان بقضاء الله وقدره قال رحمه الله تعالى: [واعلم أن لقضاء الله وقدره]. هنا كلام محذوف، ولكن على أي حال الأمور التي بقضاء الله وقدره كثيرة جداً، فالموت بقضاء الله وقدره، وبعض الأحداث الجسام في أمور البشر تكون بقضاء الله وقدره، وكل شيء بقضاء الله وقدره، لكن الغالب أن التنويه في مثل هذا المقام على الأمور التي تكون بقضاء الله وقدره يكون في الأمور التي هي ذات الشأن، فربما أنه أراد أن يقول: إن كل شيء من أفعال العباد أو كل ما يصيب العباد هو بقضاء الله وقدره، أو الموت ونحو ذلك من الأمور الهامة؛ لأن تنويع الأمور الهامة يندرج تحتها ما دونها من الأمور الجزئية. المهم أن كل شيء بقضاء الله وقدره، وكل ما يحدث للعباد ومنهم وعليهم مما هو في مقدورهم أو ليس في مقدورهم كل ذلك بقضاء الله وقدره.

صفة الكلام لله سبحانه

صفة الكلام لله سبحانه قال رحمه الله تعالى: [والإيمان بأن الله تبارك وتعالى هو الذي كلم موسى بن عمران يوم الطور، وموسى يسمع من الله الكلام بصوت وقع في مسامعه منه لا من غيره، فمن قال غير هذا فقد كفر بالله العظيم]. يرد الشيخ هنا على عدة طوائف منهم الجهمية والمعتزلة الذين زعموا أن الله عز وجل هو الذي سمع كلام موسى، ولذلك حرفوا الآية فقالوا: وكلم الله موسى تكليماً، فتلوها على غير تلاوتها المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وبعضهم قد لا يحرف الآية لكن يتأولها بأن المقصود بالكلام أن الله عز وجل علم، ففسر الكلام بالعلم، يعني: أن الله عز وجل علم موسى كلامه ولم يسمعه سماعاً مباشراً. وقالت طوائف من المعتزلة والفلاسفة وأهل الكلام إن الكلام الذي سمعه موسى إنما هو كلام خلقه الله بوسيلة أخرى، إما من كلام الشجرة التي كان عندها التكليم، أو بحروف وأصوات خلقها الله في الجو، أو بواسطة مخلوق تكلم كملك أو غيره، فاختلفوا في هذا اختلافات كثيرة، لكن كلهم أولوا الكلام أو أنكروه، وكل هذه التأويلات باطلة، فإن الله عز وجل كلم موسى تكليماً كما ورد في الآية، والتكليم معناه الإشارة إلى أن الكلام حقيقة من الله عز وجل لموسى على ما يليق بجلال الله عز وجل من غير مماثلة. وجميع هذه التأويلات لا أصل لها، فكون الله عز وجل يرسل ملكاً فيتكلم لا يعني أن الله هو الذي تكلم، وكونه يخلق حروفاً وأصواتاً في الجو ثم يسمعها الشجرة أو يخلقها في الشجرة أو نحو ذلك كل هذه تأويلات لا دليل عليها، وهذا أمر غيب، والله عز وجل أكد أنه كلم موسى على ما يليق بجلاله جاء ذلك بتأكيد صيغة الكلام بقوله {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، بمعنى: كلاماً حقيقياً يليق بالله سبحانه. ولذلك قال الشيخ: (وموسى يسمع من الله الكلام بصوت وقع في مسامعه منه لا من غيره) يقصد بذلك أن الكلام من الله عز وجل لموسى كلام حقيقي، وأن موسى سمع كلام الله، والعبارات الزائدة الأولى الاستغناء عنها. أما أن الله عز وجل يتكلم بالصوت فهذا ثابت في نصوص أخرى، وقوله: (منه لا من غيره) أي: من الله عز وجل لا من غير الله، يقصد أنه لم يكن الكلام من الشجرة ولا من ملك ولا من مخلوق آخر، ولا من أصوات مخلوقة. قوله: (وأن من قال غير هذا فقد كفر) يقصد أن من لم يؤمن بأن الكلام من صفات الله، وأنه كلم موسى كما يليق بجلاله عز وجل فقد أنكر القطعي من الدين، ومن أنكر القطعي من الدين فهو كافر؛ هذا على جهة العموم لكن المعين يحتاج إلى إجراء آخر.

حقيقة العقل

حقيقة العقل قال رحمه الله تعالى: [والعقل مولود، أعطي كل إنسان من العقل ما أراد الله، يتفاوتون في العقول مثل الذرة في السموات، ويطلب من كل إنسان من العمل على قدر ما أعطاه من العقل، وليس العقل باكتساب إنما هو فضل من الله تبارك وتعالى]. العبارات فيها شيء من الاضطراب؛ فقوله: (العقل مولود) يعني: أن العقل من خلق الله عز وجل وأنه فطري وكأنه بذلك يشير إلى مذاهب الفلاسفة وغلاة المتكلمين الذين يرون أن العقل قوة قديمة أزلية، وأنه فيض عن الله، وأنها راجعة إلى صفات الله عز وجل، أو أن العقل المطلق كائن مستقل له وجود غير وجود سائر المخلوقات، وغير ذلك من المذاهب. فكأن الشيخ يريد أن يقول إن العقل موهبة فطرية، وهذا معنى (مولود)، أي: يولد كما تولد وينشأ كما تنشأ المواهب الأخرى في الإنسان، فالعقل كالذكاء والفطنة والحفظ والإدراك والإرادة وغير ذلك في الإنسان، فكل هذه مولودات مع الإنسان، وكل إنسان أعطي من العقل بقدر ما أراد الله له ذلك. فمن الناس من عقله كامل، ومنهم دون ذلك ومنهم من يكون عقله ضعيفاً، وذلك كسائر القدرات والمواهب عند الإنسان. أما قوله: (مثل الذرة في السموات) فلم أفهم له وجهاً. وقوله: (ويطلب من كل إنسان من العمل على قدر ما أعطاه من العقل) يعني: أن الله عز وجل جعل العقل جزءاً من الاستطاعة التي كلف بها البشر، فالعقل مثل سائر مواهب البشر، فهو مثل الاستطاعة والقدرة العملية والقدرة على الحركة والقدرة على التفهم والذكاء والفطنة والحفظ وغير ذلك، فهذه مواهب تتفاوت عند الإنسان، وكل إنسان يكلف بقدر استطاعته، وبقدر ما أعطاه الله من المواهب، فالإنسان الذي أعطاه الله عقلاً كاملاً عليه من التكاليف بقدر ذلك. والإنسان الضعيف العقل ربما يعفى من كثير من أمور الشرع التي لا يفهمها أو لا يدركها عقله. إذاً: على قدر هذه النعمة التي يعطيها الله الإنسان يكون محاسباً على ذلك، ولا يحاسب إلا على ما يستطيعه مما يعقله، ولذلك نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم يعذر بعض البسطاء إذا لم يدركوا بعض أصول الشرع أو بعض أموره؛ لأنهم لا يستطيعون، وبعضهم قد لا يدرك بعض ما نسميه بدهيات لضعف مداركه، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها. إذاً: كل إنسان يطلب منه من العمل من حيث المحاسبة والتكليف الشرعي على قدر ما أعطاه الله من العقل. قوله: (وليس العقل باكتساب) يقصد بذلك أن التعقل والعقل لا يحصل بالرياضة مثلاً ولا يحصل بالتعلم، نعم مدارك العقل تزداد بالتجارب فينتفع منها؛ لكن العقل على حد واحد، فالإنسان الذي عقله ضعيف مهما تعطيه من المعلومات التي ليست في حدود عقله لا يدركها، والإنسان الذكي العاقل الحصيف يدرك أشياء كثيرة بالعقل، وعلى هذا فلا يستطيع الناس أن ينموا الموهبة الأساسية في العقل لكن الإنسان تزداد مداركه بالتدريب على أمور ممكن تنمى عنده المواهب. قوله: (إنما هو فضل من الله تبارك وتعالى)، وهنا أحب أن أنبه إلى أن مقاصد الناس تختلف في التعبير عن العقل، فقد يقصد بالعقل الموهبة الذاتية عند الإنسان، وهذا هو الغالب في تعبير النصوص الشرعية وكلام السلف، وهذه لا يمكن أن يزيد الناس فيها أو ينقصوا منها، وقد يقصد بالعقل وظائف العقل من التفكر والتعقل وازدياد المعلومات والثقافة، فهذه وإن سماها الناس عقلاً فإنما هي من وظائف العقل، وهي تزداد وتنقص بقدر ما يكسبه الإنسان. لكن العقل الذي هو القدرة على التعقل والتفكر يقف إلى الحد الذي وهبه الله الإنسان، ثم تصقل وتهذب.

التفضيل بين العباد

التفضيل بين العباد قال رحمه الله تعالى: [واعلم أن الله فضل العباد بعضهم على بعض في الدين والدنيا عدلاً منه، لا يقال جار ولا حابى، فمن قال إن فضل الله على المؤمن والكافر سواء فهو صاحب بدعة، بل فضل الله المؤمنين على الكافرين، والطائع على العاصي، والمعصوم على المخذول عدل منه، هو فضله يعطي من يشاء ويمنع من يشاء]. هذه قاعدة متعلقة بالقدر، وهو أن الله عز وجل فضل بين العباد فيما يتعلق بالهداية والضلال، أو السعادة والشقاوة، فالله عز وجل يهدي من يشاء فضلاً منه، وأيضاً جعل الهداية متفاوتة بين عباده الصالحين. وكذلك الله عز وجل قدر على من يشاء الضلال، والضلال أيضاً متفاوت، وكما فاوت بين العباد في مسألة الهداية والإضلال ومسألة السعادة والشقاوة فاوت بينهم في الرزق في الدنيا وفي حظوظ الدنيا من الأعمار والصحة والمال والجاه وغير ذلك من مكاسب الدنيا، فإن الله عز وجل فاوت بين العباد لحكمة يعلمها سبحانه، ولا يسأل الله عز وجل عن ذلك، والعباد عباده يفعل فيهم ما يشاء؛ لكن ينبغي أن نعود في مسألة الإضلال والهداية والشقاء والسعادة إلى القاعدة الأخرى ونربطها بهذه القاعدة ليصفو التصور، وهو أن الله عز وجل حينما قدر على بعض العباد الهداية فذلك لسابق علمه أنهم سيعملون بعمل أهل الهداية، وحينما قدر على الآخرين الضلال والشقاوة فذلك لسابق علمه سبحانه بأنهم سيختارون طريق الضلال والشقاوة.

فضل الله تعالى المشترك بين العباد

فضل الله تعالى المشترك بين العباد وقوله: (فمن قال إن فضل الله على المؤمن والكافر سواء فهو صاحب بدعة) بمعنى أن الله عز وجل حينما تفضل على المؤمنين فلا يعني ذلك أن فضله ونعمته على الكفار غير موجودة، فإن لله نعماً على جميع العباد، فقد أنعم على الكفار بالخلق كما أنعم على المؤمنين، وأنعم على الكفار بأن مكنهم في هذه الدنيا وأعطاهم عقولاً وأرسل إليهم رسلاً لكنهم تنكبوا طريق الرسل، وأنعم الله عليهم بأن زين لهم طريق الخير وأرشدهم إليه وأمرهم به ووعدهم عليه، وبين لهم طريق الشر وحذرهم منه وتوعدهم عليه، ففضل الله عز وجل على العباد جميعاً، لكن هناك من الفضل ما يخص الله به بعض العباد لعلمه سبحانه أنهم يستحقون هذا الفضل، وحجب هذا الفضل -فضل الهداية- عن آخرين لعلمه سبحانه أنهم لا يستحقون الهداية. فلذلك قال: (من قال إن فضل الله على المؤمن والكافر سواء) يعني في مسألة الهداية ومسألة التوفيق، فلا شك أن ليس فضل الله على هؤلاء سواء، لكن من قال إن فضل الله على المؤمن والكافر في الرعاية والحفظ وإقامة الحجة فلا شك أن فضل الله على العباد من هذا الوجه سواء؛ لكن من حيث الهداية والتوفيق فليس الفضل سواء، فإن الله عز وجل خص برحمته من قدر لهم ذلك من عباده.

تفضيل الله للمؤمنين على الكافرين والطائعين على العاصين

تفضيل الله للمؤمنين على الكافرين والطائعين على العاصين ويقصد بقوله: (فمن قال إن فضل الله على المؤمن والكافر سواء) الذين لا يفرقون بين الحق والباطل، ولا بين المسلم والكافر، ولا بين الهدى والضلال، وهم الفلاسفة وغلاة الجهمية والباطنية وكثير من غلاة المتصوفة وأغلب الزنادقة في جميع الأمم وكذلك الأمم الدهرية والمشركة، فكثير منهم يعتقدون أن فضل الله على هؤلاء سواء، ولذلك لا يفرقون بين المؤمن والكافر، بل يعتقد كثير منهم أن مصير هؤلاء في الآخرة سواء، ويمثل هذا الاتجاه بشكل واضح ابن عربي، فإنه لا يرى لمؤمن على كافر فضلاً، ولا يرى أن هناك تمييزاً بين المسلم والمجرم. والله عز وجل يقول: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36]، لكنه يرى أنه لا فرق وأن الفرق شكلي: بمعنى كأنه يرى أن هذا الفرق في الدنيا والآخرة تمثيل. ولذلك لما حكى قصص الأنبياء مع خصومهم صور الأنبياء على أنهم أناس عندهم شيء من السذاجة والسطحية، وأن خصوم الأنبياء من المشركين هم أهل الحق والحقيقة، وأنهم هم الأذكياء الذين عرفوا حقيقة التوحيد! ولذلك كتب كتابه (إيمان فرعون) وصور موسى وهارون على أنهما ليسا صاحبي حق، وأن الذين كذبوا موسى هم أصحاب الحقيقة إلى آخره. يزعم أصحاب هذا الاتجاه أن مصير البشر في الآخرة سواء، وأن فضل الله على الجميع سواء، ولذلك فسر ابن عربي عذاب النار بأنه عذاب شكلي وأن الكافرين يتلذذون بالعذاب كما يتلذذ أهل الجنة بالجنة، فالشيخ كأنه يريد الرد على أصحاب هذه المقولة. قوله: (بل فضل الله المؤمنين على الكافرين) يعني: بأن جعلهم خياراً وجعلهم هداة مهتدين صالحين، المخالفون لهم على عكس ذلك. قوله: (والطائع على العاصي، والمعصوم على المخذول، كل ذلك عدل منه، هو فضله يعطي من يشاء ويمنع من يشاء) وهذا أيضاً يرجع إلى قول الله عز وجل: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36]، فإن الله فرق بين المسلمين والمجرمين، وهذا يؤكد ضرورة تنبيه المسلمين في هذا العصر على أهمية التميز للمسلم عن الكافر، وأن يتميز الصالح عن الفاجر، وهذا مما يؤكد ضرورة إعلان الولاء والبراء وتطبيق ذلك في سلوك الناس ومعاملاتهم؛ لأن هذا هو مقتضى تفضيل الله المؤمنين على الكافرين والطائعين على العاصين والمعصومين على المخذولين، فلابد من إظهار هذا التفضيل في الأحوال القلبية وأحوال التعامل، ولابد من إظهاره في حياة الناس جملة وتفصيلاً على نحو معتدل يستقيم مع قواعد الشرع وأصوله بلا غلو ولا تفريط.

النصيحة للمسلمين

النصيحة للمسلمين قال رحمه الله تعالى: [ولا يحل أن تكتم النصيحة للمسلمين برهم وفاجرهم في أمر الدين، فمن كتم فقد غش المسلمين، ومن غش المسلمين فقد غش الدين، ومن غش الدين فقد خان الله ورسوله والمؤمنين، والله تبارك وتعالى سميع بصير].

شرح السنة [10]

شرح السنة [10] يجب الإيمان بكل ما ثبت لله تعالى من أسماء وصفات على ما دلت عليه النصوص، ومن ذلك السمع والبصر والعلم، وأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة في الجنة بأعين رءوسهم، ويجب الإيمان بأن الله تعالى يعذب الكفرة والمجرمين في النار، وأن الصلاة والزكاة مفروضتان كما فرضهما الله في كتابه وبينهما رسوله في سنته، ولا يجوز رد شيء من ذلك أو التشكيك فيه بجدال أو مراء أو خصومة؛ فإنه ما نشأت بدعة ولا ضلالة ولا كفر إلا بسبب الكلام والجدال والمراء والخصومة في الدين.

إثبات صفات الله وسبق علمه بخلقه وما سيعملون

إثبات صفات الله وسبق علمه بخلقه وما سيعملون قال أبو محمد الحسن بن علي البربهاري رحمه الله تعالى: [والله تبارك وتعالى سميع بصير عليم يداه مبسوطتان، قد علم الله أن الخلق يعصونه قبل أن يخلقهم، علمه نافذ فيهم، فلم يمنعه علمه فيهم أن هداهم للإسلام ومن به عليهم كرماً وجوداً وتفضلاً فله الحمد].

مدارك العقول في صفات الله تعالى

مدارك العقول في صفات الله تعالى في هذه الفقرة أشار الشيخ إلى شيء من قواعد إثبات الصفات لله عز وجل، وذكر أنموذجاً من صفاته، وهو السمع والبصر والعلم واليدين، وهذه الصفات منها ما هو خبري ومنها ما هو معلوم بالعقل والخبر، فالعلم معلوم بالعقل بالضرورة لله عز وجل، وكذلك جاء به الخبر. والسمع والبصر كذلك مما تقر به العقول، وقد جاء به السمع، وإن كان بعض أهل العلم يرى أن السمع والبصر موقوفان على الوحي لأنهما سمعيان فقط؛ لكن الصحيح أن العقول السليمة تقتضي إثبات السمع والبصر لله عز وجل كإثبات العلم. أما اليد واليدان فإنما تثبت بالخبر فقط فهي سمعية؛ لأنها لا تدخل في مدارك العقل ولا يد للعقل في إثباتها قبل أن تثبت في السمع وترد في الخبر الصحيح، فلما وردت بالخبر الصحيح فلابد أن يقر بها العقل؛ لأن إدراك العقل على نوعين: النوع الأول: ما يدركه العقل ابتداء، وهذا يشمل جميع صفات الكمال لله عز وجل على جهة الإجمال، وكثير من صفات الكمال على جهة الإفراد. النوع الثاني: ما لا يستطيع العقل أن ينفيه، وإذا ثبت فإنه يؤيده، وهي الصفات الخبرية مثل الاستواء والنزول والمجيء والرضا والغضب واليد، فهذه الصفات خبرية لا ينفيها العقل، ولا يستطيع أن يثبتها استقلالاً لو لم ترد بالكتاب والسنة؛ لأنها خبرية بحتة تتعلق بالأفعال التي لا يمكن استنباطها بالعقول ابتداء، أو تتعلق بالصفات الذاتية التي لا يمكن استنباطها بالعقول ابتداء، لكن إذا ثبتت فإن العقل يؤيدها ولا ينفيها. ولذلك لما لم يوفق أهل الأهواء من المعتزلة والجهمية ومتكلمة الأشاعرة إلى هذا التصور وقعوا في الخلط، فإنهم ظنوا ألا يثبت لله عز وجل إلا ما أثبته العقل استقلالاً، وأن ما لم يثبته العقل استقلالاً فإنه لابد له من تأويل. وهذا غلط! فإننا نقول: ما يدخل في مدارك العقل على نوعين: نوع يثبت ابتداء كالعلم والحكمة والإرادة لله عز وجل، ونوع لا يثبت ابتداء لكنه إذا ورد لا يملك العقل أن ينفيه، أي أنه ليس في إثباته ما يناقض العقل، وهذا كالصفات الخبرية.

سبق العلم لله عز وجل

سبق العلم لله عز وجل ثم ذكر مسألة سبق العلم لله عز وجل، وأن الله علم أن أهل المعاصي يعصونه قبل أن يخلقهم، وهذا فيه رد على القدرية الذين يقولون: لا قدر والأمر أنف، فإن القدرية الأولى تنفي العلم السابق لله عز وجل فيما يتعلق بأفعال الشر التي يفعلها العباد، ويزعمون أنهم عملوها دون أن يقدرها الله عز وجل ودون أن يعلمها، ثم بعد ذلك أثبتوا العلم ونفوا التقدير في مراحل تالية من مراحل تطور القدرية، فهو بهذا يرد على القدرية الأولى. ثم قال: (علمه نافذ فيهم، فلم يمنعه علمه فيهم أن هداهم للإسلام ومن به عليهم كرماً وجوداً وتفضلاً). يشير بهذا إلى أن الله عز وجل حينما قدر الهداية للمهتدين فذلك لسابق علمه بأنهم سيسلكون طريق المهتدين، وكذلك العكس؛ فإن الله عز وجل حينما قدر الشقاوة على أهل الشقاوة فإن ذلك راجع إلى علمه عز وجل السابق بما هم فاعلون، فقدر مصائرهم بنتائج أعمالهم التي يعلم أنهم سيعملونها.

أقسام البشارات عند الموت

أقسام البشارات عند الموت قال رحمه الله تعالى: [واعلم أن البشارة عند الموت ثلاث بشارات: يقال: أبشر يا حبيب الله برضا الله والجنة. ويقال: أبشر يا عدو الله بغضب الله والنار. ويقال: أبشر يا عبد الله بالجنة بعد الإسلام. هذا قول ابن عباس]. يظهر لي والله أعلم أنه يقصد انقسام الناس في مصائرهم يوم القيامة وأنها على ثلاثة أقسام: الأول أهل الجنة الذين يدخلون الجنة ابتداء برحمة الله وفضله، نسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم. والقسم الثاني: الذين يهلكون فيدخلون النار نسأل الله أن يعيذنا من النار. والقسم الثالث هم أهل الكبائر الذين يستحقون العذاب بأعمالهم ثم يطهرهم الله عز وجل في النار ويخرجون بشفاعات الشافعين التي يأذن الله بها وبرحمته عز وجل. فالعبارة فيها نوع من اللبس في الصنف الثالث أو البشارة الثالثة، قال: (ويقال: أبشر يا عبد الله بالجنة بعد الإسلام) فالعبارة فيها اضطراب وركاكة. ولذلك لا يستبعد ما ذكره المحقق في كلمة الإسلام قال: وبدل كلمة الإسلام كلمة (الانتقام) وإن كانت (الانتقام) غير لائقة لكنها واردة في الشرع، أي: فيقال: أبشر يا عبد الله بالجنة بعد التطهير في النار، فهي تناسب الانتقام، فإذا كانت كلمة الانتقام لها أصل في المخطوطات فربما تكون هي الأصح، والله أعلم.

أول من ينظر إلى الله تعالى

أول من ينظر إلى الله تعالى قال رحمه الله تعالى: [واعلم أن أول من ينظر إلى الله تعالى في الجنة الأضراء ثم الرجال ثم النساء، بأعين رءوسهم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته)، والإيمان بهذا واجب وإنكاره كفر]. مسألة الرؤية من أصول الدين الكبرى؛ لكن هذا التفصيل لم ترد به نصوص صحيحة، أعني قوله إن أول من ينظر إلى الله عز وجل هم الأضراء -أي: المؤمنون الذين كانوا مكفوفين في الدنيا- ثم الرجال ثم النساء، فهذا ليس عليه دليل صحيح، وما ورد فيه من آثار فهي ضعيفة أو موضوعة. أما أصل الرؤية فلا شك أنه من قواطع الدين ومما تواترت به النصوص، وصار من الأصول الكبرى الفوارق بين أهل السنة وأهل الأهواء والبدع؛ ولا شك أن الإيمان بها واجب وإنكارها كفر، لا إنكار ما ذكره المؤلف من الترتيب.

نشأة البدع والزندقات بسبب المراء والخصومات

نشأة البدع والزندقات بسبب المراء والخصومات قال رحمه الله تعالى: [واعلم رحمك الله أنه ما كانت زندقة قط، ولا كفر ولا شك ولا بدعة ولا ضلالة ولا حيرة في الدين إلا من الكلام وأهل الكلام والجدال والمراء والخصومة، والعجب كيف يجترئ الرجل على المراء والخصومة والجدال، والله تعالى يقول: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر:4]، فعليك بالتسليم والرضا بالآثار وأهل الآثار والكف والسكوت]. التسليم والكف والسكوت هو الأصل والمراء محرم، لكن بين الأمرين ما يباح عند الحاجة وما يلزم عند الضرورة، وهو الجدال بالتي أحسن، وبشروط الجدال التي سبق الإشارة إليها في درس ماض، فإن هذا يجب عندما يحتاج الدين إلى دفاع، ويحتاج الحق إلى نصر والباطل إلى رد، فإذا ظهرت البدعة واستشرى أمرها واستفحلت شعارات أهل الأهواء والبدع، فلابد من المجادلة بإقامة الحجة عليهم. وكذلك الجدال في الاجتهاديات يجوز ما لم يصل إلى المراء وذلك للوصول إلى الحق الذي يقتضيه الدليل والشيخ في إشارته القوية إلى تحريم المراء والخصومة والجدل يقصد الخصومة التي تصل إلى المراء. وقوله: (واعلم رحمك الله أنها ما كانت زندقة قط ولا كفر إلا بالكلام والجدال والمراء والخصومة)، فهذا في الجملة صحيح لكن لا يدل على حصر وجود هذه الضلالات على هذا السبب، فإن أسباب وجود الزندقة والكفر والشك والبدعة والضلالة والحيرة في الدين كثيرة، لكن أعظمها وأشدها وأنكاها وأبغضها إلى يومنا هذا هو الجدل والمراء والخصومات في الدين، وقد يكون بعضها أقرب إلى الجدل من بعض، فالزندقة لاشك أنها ما دخلت على المسلمين إلا بعد انتشار الجدل وكذلك الكفر، أما البدعة فقد بدأت قبل وجود الجدال وقد اندست بين المسلمين بسبب الجهل وتقليد الأمم الأخرى وبسبب الأهواء، فبدع الخوارج الأولى بدأت شرارتها صامته همساً لم يكن فيها جدال ظاهر، ثم توسعت بالجدال وتعمقت وتجارت بأهلها كما يتجارى الكلب بصاحبه، وشرارتها الأولى كانت شبهات يقذفها شياطين الإنس والجن في آذان ضعاف الدين وضعاف العقول. وكذلك بدع الشيعة الأولى ظهرت بالجدال، وكانت قد بدأت بهمسات من شياطين الجن والإنس في قلوب العجم، وبعد أن ظهرت استفحلت وانتشرت وعمت بها البلوى بالجدال، فالجدال مرحلة تالية من بداية الأهواء، وبعض الأهواء نشأت بسبب الجدال استقلالاً، مثل مذهب القدرية. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية سبباً ظريفاً يؤيد القول بأن الجدل سبب لظهور بعض البدع والفرق، فذكر أن أكبر سبب لظهور القدرية هو جدال الناس في احتراق الكعبة ما بين سنة ستين إلى أربعة وستين تقريباً، فلما احترقت بدأ الناس يتكلمون بعلم وبغير علم: هل احترقت بتقدير من الله أو بغير تقدير من الله؟ فخاض العوام في هذه الأمور، فأدخلت النصارى واليهود شبهاتهم من خلال هذه القصة على الناس! فهذا يدل على أن من الفرق ما كان سبب ظهوره الجدال والخصومات والمراء في الدين. ومن ذلك أيضاً المشبهة، لا شك أنه ما ظهرت المشبهة والمجسمة إلا من المراء والجدال الذي حصل مع الجهمية.

الإيمان بأن الله يعذب الخلق في النار

الإيمان بأن الله يعذب الخلق في النار قال رحمه الله تعالى: [والإيمان بأن الله تبارك وتعالى يعذب الخلق في النار في الأغلال والأنكال والسلاسل والنار في أجوافهم وفوقهم وتحتهم، وذلك أن الجهمية منهم هشام الفوطي قال: إنما يعذب الله عند النار رد على الله وعلى رسوله]. هذه من جرأة أهل الأهواء على الكلام في الأمور الغيبية بغير علم وبغير برهان والجرأة في القول على الله بغير علم، فالأصل في الأمور الغيبية أن نقف على ما ورد به النص ولا نزيد ولا ننقص، فكون الله عز وجل يعذب من شاء في النار، وأن النار فيها أغلال وأنكال وسلاسل وأنها أيضاً تمس أجوافهم وأنها من فوقهم ومن تحتهم؛ هذا كله ثبتت به النصوص في القرآن والسنة، أما فلسفة الجهمية أو بعض الجهمية من قولهم: إن الله يعذب عند النار لا منها فهذه فلسفة جر إليها التلقي عن غير الكتاب والسنة والإمعان في تحكيم العقول فيما لا تدرك، والتمادي مع الأوهام والخيالات والوساوس، ثم إن هذا راجع إلى أصول فلسفية موجودة عند الفلاسفة القدامى الذين هم خصوم الأنبياء، وكل الفلاسفة الإلهيين خصوم للأنبياء، فعندهم مواقف غريبة تجاه الأمور الغيبية بما في ذلك اعتقاداتهم عن النار وعن الجنة أنها مجرد أمور تمس الأرواح وليس الأجسام وأن ما لا يقر به العقل في الدنيا فلا يجوز إقراره ولو عن الآخرة فهم يقولون: النار التي وصفت لا يمكن أن يتحملها جسم الإنسان قياساً على الدنيا، فإذاً: يكون العذاب عند النار لا فيها، وغير ذلك من الشبهات. فلا شك أن هذا رد للحق ورد -كما قال الشيخ- على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قول على الله بغير علم، ولأنه حيدة عن الحق البين في أن الله يعذب أهل النار في النار فهم أهلها خلقت من أجلهم وتمتلئ بهم، نسأل الله العافية. فالقول بأن الله يعذب أهل النار عند النار فيه عدول واضح عن الحق، وفيه تحكيم لأوهام العقول.

الصلاة والزكاة من فرائض الإسلام

الصلاة والزكاة من فرائض الإسلام قال رحمه الله تعالى: [واعلم أن صلاة الفريضة خمس صلوات لا يزاد فيهن ولا ينقص في مواقيتها، وفي السفر ركعتان إلا المغرب، فمن قال أكثر من خمس فقد ابتدع، ومن قال أقل من خمس فقد ابتدع، لا يقبل الله شيئاً منها إلا لوقتها، إلا أن يكون نسياناً فإنه معذور يأتي بها إذا ذكرها، أو يكون مسافراً فيجمع بين الصلاتين إن شاء. والزكاة من الذهب والفضة والتمر والحبوب والدواب على ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن قسمها فجائز وإن أعطاها الإمام فجائز].

فريضة الصلاة لا يزاد فيها ولا ينقص منها

فريضة الصلاة لا يزاد فيها ولا ينقص منها ذكر الشيخ هنا شيئاً من فرائض الدين وأحكام الإسلام وأدخلها في العقيدة؛ لأنها من أركان الإسلام، وبعض الناس يحصر العقيدة بأركان الإيمان وهذا خطأ فإن أركان الإسلام داخلة في العقيدة دخولاً أولياً فأركان الدين الاعتقادية العلمية هي أركان الإيمان، وأركان الدين العملية هي أركان الإسلام، وكلها تمثل أصول الدين، فكما نعتقد في أركان الإيمان الستة أنها عقيدة كذلك أركان الإسلام عقيدة ولا يمكن العمل بها إلا باعتقاد. وإشارته إلى أن الصلوات خمس لا تزيد ولا تنقص يقصد بذلك الرد على كثير من الدجالين المتنبئين الكذابين الذين ظهروا على مدار التاريخ، فإن أكثرهم -خاصة من العجم- يميلون إلى التخفيف عن الناس، فيخفف الصلاة فيجعلها ثلاثاً. فأغلب المتنبئين الذين ظهروا من الباطنية والرافضة يميلون إلى تخفيف الصلاة، وبعضهم قد يزيد فيها، ولا يزال كثير ممن يصابون بهذه اللوثة يحدث عندهم شيء من ذلك، كما حدث لـ محمود طه في السودان قبل سنين فإنه ألغى الصلاة وقصرها على أوقات معينة، واعتبر الصلاة لا تليق بهذا العصر إنما تكفي الصلاة القلبية وقال: إن الصلاة وأركان الإسلام بشكلها الظاهر إنما فرضت لأناس بسطاء سذج يحتاجون إلى الترويض في الأمور العملية الظاهرة؛ لكن في عصر المدنية يكفي أن نصفي قلوبهم؛ لأن أعمالهم منسجمة مع المعيشة ومع واقع الحياة، فلا نحتاج إلى أن نروضهم على الأمور العملية فاختصر في الصلاة وألغى الصلوات الخمس وجعلها مقصورة على أوقات محددة. هذا كله مما يحدث على مدار الزمان من المتنبئين الكذابين ومن غيرهم من أصحاب الدعاوى الباطلة، فلا يظن أن الشيخ قال قولاً غريباً؛ لأن مثل هذا -بحمد الله- ليس بمعروف عندنا ولم نسمع به في بيئاتنا القريبة، لكنه يوجد ما بين وقت وآخر على مدار التاريخ، وأظنه في وقت الشيخ البربهاري وجدت بعض ظواهر المتنبئين الكذابين من الباطنية التي تدعو إلى مثل هذه الأشياء.

فريضة الزكاة وطريقة إخراجها

فريضة الزكاة وطريقة إخراجها وكذلك ما يتعلق بالزكاة فهي الركن الثالث من أركان الإسلام، وهي في الأصناف المذكورة وفيما يقاس عليه عند بعض أهل العلم، وقد ذكر ابن عبد البر الإجماع على أن الزكاة تكون في الشعير والبر والزبيب والإبل والغنم والبقر والذهب والفضة والتمر. لكن قد تظهر أصناف لم تكن تعرف في ذلك الزمان وتلحق بأجناسها مثل الأرز. والزكاة يجوز صرفها من قبل الشخص نفسه، وصرفها من قبل ولي الأمر، ولا ينبغي للمسلم أن يتحرج إذا صرفت الزكاة من قبل أهل الحسبة الذين يعينهم ولي الأمر أو من قبل الجهات المعنية التي تتولى هذا الأمر، فإذا أدى المسلم زكاته من خلال الجهات المعنية فقد برئت ذمته ولا يسأل عما يكون بعد ذلك، ومن أداها بنفسه استقلالاً برئت ذمته، ومن أدى بعضها على هذا الوجه وبعضها على هذا الوجه فكل ذلك جائز، وهو من المناهج التي تميز أهل السنة عن غيرهم. كثير من أهل الأهواء والبدع لا يجيزون صرف الزكاة من خلال ولاة الأمر أو من خلال السلطان، وهذا راجع إلى أنهم لا يعتقدون للسلطان بيعة ولا يعتقدون له ولاية، كالرافضة وكثير من الخوارج وبعض فرق المعتزلة والجهمية وسائر الفرق ما عدا المرجئة فيما يظهر لي، فإن أكثر الفرق لا تعتقد ولاية السلطان ما دام من أهل السنة والجماعة، ولذلك قد لا تؤدي الزكاة إلا من باب المجاملة لا تديناً، وربما يؤدي بعضهم الزكاة للإمام ويصرفها احتياطاً كما تفعل الرافضة من باب التقية، والله أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم من أنكر الرؤية متأولا

حكم من أنكر الرؤية متأولاً Q إن من أنكر الرؤية فهو كافر فهل يدخل في ذلك المؤولة الذين قصدوا من ذلك تنزيه الرب تعالى مثل بعض الأشاعرة؟ A الأشاعرة ما أنكروا الرؤية، لكنهم أثبتوها إثباتاً فيه نوع بدعة، قالوا: يرى إلى غير جهة، فهم يعتقدون الرؤية، ولا أعرف في الرؤية مؤولاً، ليس فيها إلا مثبتة ونافية؛ لكن بعض المثبتة عندهم نوع من الابتداع في إثبات الرؤية وهو إثبات الرؤية إلى غير جهة هروباً من إثبات العلو الذاتي والاستواء والفوقية، وهروباً من إثبات الصفة الفعلية والذاتية فقط، وإلا فالأشاعرة يثبتون الرؤية.

شرح السنة [11]

شرح السنة [11] أول واجب على المكلف هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وبذلك يدخل في الإسلام، وهذا هو أول الإسلام خلافاً لمن زعم غير ذلك، كما يجب على المكلف أن يؤمن بجميع الشرائع السماوية، وأن الرسول قد أخبر بأن هذه الأمة ستفترق كما افترقت غيرها من الأمم، فيلزم طريق أهل السنة والجماعة حتى يكون من الفرقة الناجية المنصورة.

أول الإسلام وأول واجب على المكلف

أول الإسلام وأول واجب على المكلف قال أبو محمد الحسن بن علي البربهاري رحمه الله تعالى: [واعلم أن أول الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وأن ما قال الله كما قال ولا خلف لما قال، وهو عند ما قال]. في هذه الفقرة يشير المؤلف إلى الأصل عند السلف وإلى تخطئة المخالفين؛ لأن قوله: (أول الإسلام) فيه إشارة واضحة إلى الرد على الذين قالوا: بأن أول واجب على العبد وأن مفتاح الدخول إلى الإسلام هو النظر أي: في وجود الله عز وجل ووحدانيته وأسمائه وصفاته كما يقول المتكلمون ومن سلك سبيلهم، فهو يقرر الحق الذي ورد في الكتاب والسنة والذي كان عليه سلف هذه الأمة، وهو أن أول الإسلام هو تسليم القلب واللسان والجوارح لله، ويتمثل ذلك بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهو أول واجب على العبد. أما من زعم غير ذلك فقد أخطأ؛ لأن المتكلمين الذين زعموا أن أول واجب على المكلف هو النظر ألجئوا الناس إلى ما لا يطيقون؛ لأن المقصود بالنظر هو استقلال العقل بمعرفة ما يرضي الله عز وجل، وهذا لا يمكن أن يكون؛ لأنه ليس المقصود في قول أهل السنة إن أول الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله النظر في وجود الله ووحدانيته وأسمائه وصفاته على سبيل العموم بما اقتضاه العقل. ليس هذا هو المقصود؛ لأن هذا أمر فطري، إنما المقصود والمطلوب من العباد هو التسليم لله عز وجل والإذعان له، ثم التسليم للرسول صلى الله عليه وسلم وأن يطاع فيما جاء به عن الله ثم ما بعد ذلك يعتبر متضمناً في الشهادة. وما يتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته فلا شك أنه مطلوب من العباد، وهو أول أركان الإيمان ومقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، لكن ذلك على جهة التفصيل لا يمكن للعبد أن يصل إليه بالنظر الذي هو التفكير أو بالقصد إلى النظر، فإن الله عز وجل قد كفانا ذلك، فقد ذكر الله عز وجل وذكر رسوله صلى الله عليه وسلم كل ما يتعلق بالله في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله وحقوقه على جهة التفصيل، مما جعلنا لا نحتاج إلى أن نلجئ عقولنا للخوض فيما لا تدرك ولا تطيق، ولأن هذه الأمور متعلقة بأمور الغيب، والعقل لا يدرك إلا الإجماليات التي لا يتحقق بها رضا الله عز وجل ولا تتحقق بها عبادته؛ لأن الإدراك الإجمالي موجود عند المسلمين كما هو موجود عند غير المسلمين، أعني الإدراك الإجمالي لوجود الله ووحدانيته وتفرده بالخلق والرزق، فقد ذكر الله عز وجل لنا أن المشركين ليس عندهم في ذلك مشكلة. إذاً: فلا يصح ما يقوله أهل الأهواء من أن أول واجب على العبد النظر، أو أن أول الإسلام هو التفكير في وجود الله ووحدانيته إلى آخره فإن هذه الأمور قد كفيناها فلم يبق علينا إلا العمل وتحقيق الألوهية لله سبحانه، ولاشك أن ذلك يستلزم الإقرار بالربوبية يتضمنه، ويتضمن الإقرار بأسماء الله وصفاته وأفعاله وبكل ما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم جملة وتفصيلاً، والتسليم بذلك بلا نقاش ولا دخول فيما لا تدركه العقول. قوله: (وأن ما قال الله كما قال) قصده أن ما قال الله عز وجل في أمور الدين وبخاصة ما يتعلق بأمور الاعتقاد في ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله هو كما قال الله وما قاله رسوله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال؛ أي أنه حق على حقيقته وليس مجرد تخييلات أو أمثلة، ولا كما يقول المتكلمون أيضاً أنه أمور عنى الله بها غير ما جاءت ألفاظ الشرع به. قوله: (ولا خلف لما قال) خاصة فيما يتعلق بالخبر والوعد؛ لأن الله لا يقول إلا الحق وقوله الصدق. قوله: (وهو عند ما قال) تفسير لما سبق، يعني: أن كل ما ورد عن الله عز وجل حق كما قال وعندما قال.

الإيمان بالشرائع

الإيمان بالشرائع قال رحمه الله تعالى: [والإيمان بالشرائع كلها]. الشرائع تتضمن عدة معان: المعنى الأول: الشرائع بمعناها العام، وهي شرائع الأنبياء بما فيها شريعة النبي صلى الله عليه وسلم فنحن مكلفون بأن نؤمن بأن الله عز وجل أرسل الرسل وأنزل الكتب، وأن هذه الكتب تضمنت الشرائع التي جعلها الله هدى للبشر. ويدخل في هذا الإيمان بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الخصوص. فللشرائع معنيان: الأول: الشرائع العامة التي جاء بها الأنبياء لابد أن نؤمن بها لكن لسنا ملزمين بأن نبحث عما قاله الأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك قد نسخ ودخله التحريف، لكننا نجزم بأن الرسل بلغوا شرائع الله وأن الأمم كانت مكلفة بأن تعمل بها قبل أن تنسخ، وهذا داخل في ركن الإيمان بالكتب. والمعنى الثاني للشرائع هو شرائع الإسلام التي فيها أحكام الحلال والحرام والأخلاق والتعامل بين الناس، ومن الشرائع التي يجب الأخذ بما صح منها عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم فكل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع لابد من الأخذ به، سواء كان قولاً أو فعلاً أو تقريراً.

البيع والشراء في أسواق المسلمين

البيع والشراء في أسواق المسلمين قال رحمه الله تعالى: [واعلم أن الشراء والبيع في أسواق المسلمين حلال على ما بيع على حكم الكتاب والإسلام والسنة من غير أن يدخله تغرير أو ظلم أو جور أو غدر أو خلاف للقرآن أو خلاف للعلم]. في هذه القاعدة يبدو لي أن الشيخ سار على ما ذكرت لكم في الدرس الماضي من أن السلف أحياناً ينوهون بالأحكام؛ لكن يكون سبب التنويه عنها خللاً وجد في وقتهم من بعض الفرق أو بعض أهل الزيغ أو بعض أهل البدع والأهواء، فيبدو لي أن الشيخ هنا يشير إلى مذاهب بعض العباد والنساك والصوفية الذين تعبدوا بترك البيع والشراء وهجر الصفق في الأسواق الذي هو البيع والشراء على ما أحله الله عز وجل. هناك طوائف منها فرق ومنها أفراد زعمت أن ترك الدنيا وترك الكسب هو الأصل، وأن الكسب كله مضيعة للوقت وفساد للدين والعقيدة، بعضهم يتعبد بذلك كما فعل العباد الأوائل الذين صاروا بذور الصوفية خاصة في القرن الثاني والثالث قبل أن تظهر الطرق فكثير من العباد نزعوا إلى ما يشبه تحريم البيع والشراء أو التعبد بترك هذه الأمور والنهي عنها، وهذا لا يجوز؛ لأن البيع والشراء مما أباحه الله عز وجل ولا تستقيم حياة المسلمين عموماً وخصوصاً إلا بذلك. ونجد أفاضل الأمة أئمة الهدى الكبار لم يتورعوا عن البيع والشراء وإن كان بعضهم قد انشغل بالعلم والدعوة عن البيع والشراء؛ وقد كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي يبيعون ويشترون ويذهبون إلى الأسواق ويتكسبون بأيديهم، ولم يكن ذلك نقصاً في دينهم ولا في كونهم قدوة بل هم أفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (حلال على ما بيع على حكم الكتاب والإسلام والسنة) لا أدري لماذا هذا التركيب!

الخوف والرجاء

الخوف والرجاء قال رحمه الله تعالى: [واعلم رحمك ألله أنه ينبغي للعبد أن تصحبه الشفقة أبداً ما صحب الدنيا؛ لأنه لا يدري علام يموت وبم يختم له وعلام يلقى الله عز وجل؟ وإن عمل كل عمل من الخير، وينبغي للرجل المسرف على نفسه ألا يقطع رجاءه من الله تعالى عند الموت، ويحسن ظنه بالله تبارك وتعالى ويخاف ذنوبه، فإن رحمه الله فبفضل وإن عذبه فبذنب]. الأصل في الكتاب والسنة والذي عليه سلف الأمة أن المسلم في أحواله القلبية يجب أن تقوم عبادته وتعبده لله عز وجل على الأركان العبادة الثلاثة وما يتفرع عنها: على الحب: أي حب الله عز وجل، حب التعظيم والتقديس الذي لا يليق إلا بالله سبحانه. ثم الرجاء: وهو قبل الخوف بمقتضى عموم النصوص؛ لكن لا يعني أنه يغلب الرجاء لكنه مقدم قبله؛ لأن الرجاء هو الأصل. ثم الخوف؛ هذه الأركان لابد أن تستوي عند المسلم في العبادة وأن تكون كلها موجودة. لكن أحياناً تقتضي الحال أن يغلب شيئاً على شيء، أما الحب فينبغي أن يكون على ميزان واحد، بمعنى أن يحب الله عز وجل الحب الكامل، لكن الرجاء والخوف قد تقتضي الحال تغليب أحدهما على الآخر، فمثلاً: الإنسان المسرف على نفسه المنهمك في المعاصي، الغافل عن ذكر الله، ينبغي أن نغلب عليه في الوعظ جانب الخوف؛ لأن هذا يردعه ويرده عن غيه. وإذا كان عكس ذلك فينبغي أن يغلب جانب الرجاء، خاصة إذا كان في حال المرض الشديد أو عند الموت، فينبغي أن نستبعد في تذكير المريض المسلم جانب الخوف؛ لأنه قد يؤدي به الأمر إلى اليأس في لحظات النزع، وهذا خطير على المسلم، فهو في هذه اللحظة بحاجة أن يبشر بوعد الله عز وجل، وأن يغلب عنده جانب الرجاء؛ لأنه في حال لا يمكن فيها عمل. وما عدا ذلك من الأحوال العادية ينبغي أن نوازن بين الخوف والرجاء بدون أن يكون هناك تمييز. أيضاً المسرف على نفسه قد يجوز أن نغلب عنده جانب الرجاء إذا وجدنا في قلبه رقة، أما إذا كان عنده قسوة فينبغي أن يغلب جانب الوعيد وجانب التخويف بالله عز وجل والخشية؛ لأن هذا يردعه.

افتراق الأمة وظهور الفرق

افتراق الأمة وظهور الفرق قال رحمه الله تعالى: [والإيمان بأن الله تبارك وتعالى أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على ما يكون في أمته إلى يوم القيامة. واعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة، قيل: يا رسول الله! من هم؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي). وهكذا كان الدين إلى خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهكذا كان في زمن عثمان، فلما قتل عثمان رضي الله عنه جاء الاختلاف والبدع وصار الناس أحزاباً وصاروا فرقاً، فمن الناس من ثبت على الحق عند أول تغير وقال به وعمل به ودعا الناس إليه. فكان الأمر مستقيماً حتى كانت الطبقة الرابعة في خلافة بني فلان انقلب الزمان وتغير الناس جداً، وفشت البدع، وكثر الدعاة إلى غير سبيل الحق والجماعة، ووقعت المحنة في كل شيء لم يتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، ودعوا إلى الفرقة، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفرقة، وكفّر بعضهم بعضاً، وكل دعا إلى رأيه وإلى تكفير من خالفه، فضّل الجُهّال والرعاع ومن لا علم له، وأطمعوا الناس في شيء من أمر الدنيا، وخوّفوهم عقاب الدنيا، فاتبعهم الخلق على خوف في دنياهم ورغبة في دنياهم، فصارت السنة وأهل السنة مكتومين، وظهرت البدعة وفشت، وكفروا من حيث لا يعلمون من وجوه شتى ووضعوا القياس، وحملوا قدرة الرب وآياته وأحكامه وأمره ونهيه على عقولهم وآرائهم، فما وافق عقولهم قبلوه وما خالف عقولهم ردوه، فصار الإسلام غريباً، والسنة غريبة، وأهل السنة غرباء في جوف ديارهم].

معنى حديث الافتراق ودرجته من الصحة والضعف

معنى حديث الافتراق ودرجته من الصحة والضعف في هذه الفقرة الشيخ أشار إلى شيء من الأمور المتعلقة بالافتراق والابتداع، وأحوال السنة وأهل البدعة، وفي هذا عدة وقفات ينبغي أن نتأملها قليلاً: الوقفة الأولى: عند قوله: (واعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ستفترق أمتي)) هذا الحديث معلوم ومستفيض، والحديث صحيح بمجموع طرقه وشهدت له أحاديث صحيحة أيضاً بألفاظ أخرى، ومن هنا ينبغي أن ننبه إلى خطأ بعض الذين يتناولون هذه القضية وهم يجهلون أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم مثل كثير من العصرانيين والعقلانيين، وبعض الدعاة الذين يقل فقههم في الدين، فيزعمون أن حديث الافتراق لا يثبت، هؤلاء خلطوا بين أمرين: خلطوا بين حديث الافتراق الذي فيه ذكر الثلاث والسبعين، وبين حديث الإخبار عن الافتراق، فجعلوهما سواء فزعموا أن الإخبار عن الافتراق لا يصح، مع أن هذه مكابرة للواقع فضلاً عن أنها أيضاً مخالفة صريحة للشرع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الافتراق في أحاديث كثيرة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع) وليس المقصود سننهم على الهدى، المقصود سننهم على الضلال. وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لتأخذن أمتي مأخذ القرون)، أي الأمم السالفة التي مضت، وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة المتواترة التي تثبت أن الافتراق واقع وأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر به، وخبره الصدق والحق. أما حديث الافتراق الذي فيه ذكر الثلاث والسبعين فرقة فهو أيضاً مستفيض ومشهور، والواقع يشهد له؛ فإن الأمة افترقت إلى هذا العدد، وربما تفرّع عن هذا العدد أعداد أخرى، ولذلك فإن أهل العلم حين ذكروا حديث الافتراق وقالوا إن الافتراق يزيد على ثلاثة وسبعين، قالوا: إن المقصود به الافتراق الذي يكون في أصول، ويكون له رءوس، وتكون له جماعات ذات شعارات وذات مناهج فإنه هذا الوصف هو الذي به توصف الجماعة بأنها مفارقة، أما الحالات الفردية، والنزعات التي تزول فهذه لم يبق لها أثر. وعندما نتأمل تاريخ الأمة نجد أنها افترقت إلى مثل هذا العدد أو إلى قريب منه، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا أشار إلى أمرين لا بد أن نعيهما جيداً لئلا نقع فيما وقع فيه بعض الناس من الإفراط والتفريط، فبعض الناس أخذ بمبدأ الإفراط فصار عنده شيء من اليأس، أو صار عنده شيء من عدم الوضوح وظن أن الحق ضاع، وأن الحق لا يتميز، كما قال عبد الرحمن بدوي وأمثاله يقول: كل يدّعي الحق حتى المعتزلة يقولون: نحن الجماعة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث! فالشاهد أن هناك أناساً ما استطاعوا أن يجمعوا بين هذا الحديث وأحاديث أخرى تُثبت أنه مع وجود هذا الافتراق لا بد أن توجد فرقة ناجية، وأن هذه الفرقة هي الجماعة، وأن هذه الجماعة موصوفة بأنها على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، وأنها أيضاً ضُمن لها البقاء والظهور: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من عاداهم إلى أن تقوم الساعة). فهذا وعد يبعث الأمل عند المسلم ويجعله يجزم بأن الحق محفوظ والدين ظاهر كما وعد الله، ولا بد أن يكون له من يمثله وهم القدوات من أهل العلم وأتباعهم. ثم أشار الشيخ إلى الخلاف بعد خلافة عمر، وهو من الابتلاء الذي كتبه الله عز وجل على الأمة، وأمر مضى وانقضى، لا بد أن يكون مما قدره الله عز وجل وما قدّره الله ليس لنا فيه يد إلا أن نعرف أن ذلك كله ابتلاء للأمة واختبار لمن يسلم ومن يهلك، وأن الابتداع ازداد ما بين وقت وآخر لا شك، وأن التغيير بدأ في الفتنة على عثمان رضي الله عنه، وهذه المسألة فيها دروس عظيمة لا يتسع لها الوقت وربما تأتي في مناسبات قادمة.

استقامة الناس على السنة في صدر الإسلام حتى جاءت الطبقة الرابعة

استقامة الناس على السنة في صدر الإسلام حتى جاءت الطبقة الرابعة ثم ذكر أن الأمر لا يزال مستقيماً، أي في الجملة، صحيح أن الخوارج ظهرت في الثلث الأول من القرن الأول، وظهرت الشيعة ثم الرافضة والقدرية والمرجئة في القرن الأول أيضاً، فهذه أربع فرق كبرى ظهرت في القرن الأول، لكنها مع ذلك كانت مغمورة محاربة، وكان عوارها واضحاً يحذر منها العلماء، وليس عند الناس فيها غبش أو إشكال، وكانت تعامل بشيء من الهجر والتضييق؛ لأن الأمة كلها كانت على مذهب السلف. قوله: (إلى أن جاءت الطبقة الرابعة)، وأنا لا أدري ماذا يقصد بالطبقة الرابعة، هل هو على اصطلاح المحدثين أو على اصطلاح المؤرخين، أو على اصطلاح عامة العلماء، لكن يظهر لي أنه يقصد خلافة بني العباس، بقوله: (خلافة بني فلان)، وربما يقصد خلافة بني مروان في منتصف القرن الأول الهجري، وكل هذا وارد، لكن الوصف الذي قاله ينطبق على خلافة بني العباس -خاصة بعد هارون الرشيد في القرن الثالث الهجري- أكثر مما ينطبق على غيره، ويتوافق مع مفهوم الطبقة الرابعة عند كثير من أهل العلم.

فشو البدع في عهد المأمون وكتمان السنن

فشو البدع في عهد المأمون وكتمان السنن قوله: (تغيّر الناس جداً وفشت البدع)، والبدع مع وجودها لم تفش فشواً ظاهراً ويُبتلى بها الناس إلا في القرن الثالث الهجري، يعني في عهد المأمون وما بعده، لأن المأمون فتح المجال للبدع ونصرها، فنصر مذهب الجهمية والشيعة، حتى أن بعض البدع العملية التي لم تكن تعرف عند الخوارج والشيعة، ولا عند المرجئة ولا القدرية، ما أظهرها إلا المأمون، بمعنى أنه تنفست الفرق التي كانت تعمل ببدعها سراً فأظهرتها، بل صدرت بعض التعليمات من الخلافة في تأييد بعض البدع مثل الذكر الجماعي بعد الصلاة، وإعلانها على الملأ، وجعلها من الرسميات في بعض الجوامع، فهذا ما قصده المؤلف هنا بفشو البدع، أي بدع الأذكار والأعمال والعقائد وكثرة الدعاة إلى غير سبيل الحق؛ لأن الجهمية والمعتزلة وسائر الفرق بدأت تظهر أعناقها وترفع راياتها وتستجلب الناس أو تتنافس عليهم، ووقعت المحن وعلى رأسها محنة القول بخلق القرآن، محنة الجهمية والمعتزلة، ومحنة الرافضة، وفي هذا الوقت كفّر الناس بعضهم بعضاً، واستهووا الجهّال والرعاع أكثر من ذي قبل، وأطمعوا الناس في أمور الدنيا بالترغيب والترهيب، حصل هذا بشكل واضح أيام المأمون حينما كانت وزارة الدولة بأيدي الجهمية والمعتزلة كـ ابن أبي دؤاد وأمثاله. ثم قال بعد ذلك: (فصارت السنة وأهلها مكتومين)، يقصد بهذا أيضاً وقت المحنة. (وظهرت البدعة وفشت، وكفروا من حيث لا يعلمون من وجوه شتى، ووضعوا القياس)، هنا أشار إلى مناهج أهل الأهواء واختلال مصادر التلقي عندهم، ومن مناهجهم تكفير المخالفين لهم والتكفير بغير علم، ومن مناهجهم وضع القياس في العقيدة، أي: قياس الشاهد على الغائب، وقياس عقائد المسلمين على عقائد الفلاسفة واليونان والمجوس والصابئة واليهود والنصارى. ثم قال: (وحملوا قدرة الرب)، ويقصد بها عموم الصفات (وآياته وأحكامه وأمره ونهيه على عقولهم وآرائهم)، يعني: أخذوا يقررون الدين بعقولهم، فيقررون العقيدة بما فيها ما يتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله بمجرد العقول والآراء، فما وافق عقولهم قبلوه، وما خالف عقولهم ردوه، (فصار الإسلام غريباً، والسنة غريبة، وأهل السنة غرباء في جوف ديارهم). والغربة نسبية، فهي غربة عن موقع الصدارة ليست غربة عن الوجود، فقد كان السلف رغم وجود الأهواء إلى بداية القرن الثالث هم أهل الصدارة وهم أهل الحل والعقد، وكان كل شيء بأيديهم حتى السلطان، فكانوا أعزّة، وكانوا أقوياء، وكانت الجماعة محفوظة والسنة ظاهرة مشهورة، وعامة المسلمين على السنة لا يخرجون عن أهل العلم قيد شعرة، حتى جاءت هذه الفتنة ففتنت الناس حتى العامة، صار عندهم اختلاط في العقائد، وفُتن الرعاع الجهّال كما قال الشيخ، ومن هنا ظهرت الغربة في جوف ديار الإسلام -غربة الصدارة- وصارت الصدارة لأهل الأهواء حتى انجلت الفتنة على يد إمام السنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وقيّض الله المتوكل وبعض الخلفاء الذين جاءوا بعده، فأعادوا للسنة هيبتها وقوتها من جديد، لكن بعدما وجد الجرح المنكي في الأمة وإلى اليوم، وحسبنا الله ونعم الوكيل!

شرح السنة [12]

شرح السنة [12] أهل السنة والجماعة يحرمون المتعة كما حرمها الله ورسوله إلى يوم القيامة، ويعرفون لكل ذي فضل فضله، فيعرفون لبني هاشم فضلهم وقرابتهم من الرسول، وكذلك غيرهم من المهاجرين والأنصار وقريش وأهل المدينة وسائر من له فضل وقدم في الدين، ولم يزالوا يردون على المخالف من أهل البدع كالجهمية وسائر الفرق الضالة، حتى لا تنفق عقائدهم وتروج بين المسلمين.

تحريم نكاح المتعة

تحريم نكاح المتعة قال البربهاري رحمه الله تعالى: [واعلم أن المتعة متعة النساء والاستحلال حرام إلى يوم القيامة]. يشير الشيخ إلى مذهب الرافضة الذين يجيزون المتعة وهو الزواج المؤقت المشروط، وهي أن يكون الزواج بين الطرفين مقصوداً به المتعة المؤقتة بوقت، وهذا تحايل على الزنا نسأل الله العافية. ولا يدخل فيه الزواج بنية الطلاق، وإن كان قد يشبهه من بعض الوجوه، لكن الزواج بنية الطلاق ليس فيه شرط بين الطرفين ولا من أحد الطرفين، وإذا وجد شرط الطلاق فإنه يلحق بالمتعة، فعلى هذا فإن زواج المتعة هو الزواج الذي يكون فيه توقيت بين الطرفين على أن ينتهي بساعة أو ساعتين أو يوم أو يومين أو شهر، فهذا حيلة على الزنا، أما الزواج بنية الطلاق فهذا أمر راجع إلى نية الزوج، وليس فيه شرط ظاهر، ولذا فإنه من المعلوم أن من يتزوج بنية الطلاق قد يرغب ولا يطلق وليس ملزماً بالطلاق أيضاً، وإن كان في الأمر شيء من حيث كونه قد يضر بالطرف الآخر وهو المرأة، فهذا الإضرار إذا كان متعمداً من الزوج فهو إثم بحد ذاته، لكن لا دخل له بأصل العقد.

حقوق بني هاشم وقريش والأنصار والعرب

حقوق بني هاشم وقريش والأنصار والعرب قال رحمه الله تعالى: [واعرف لبني هاشم فضلهم لقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعرف فضل قريش والعرب وجميع الأفخاذ، فاعرف قدرهم وحقوقهم في الإسلام، ومولى القوم منهم، وتعرف لسائر الناس حقهم في الإسلام، واعرف فضل الأنصار ووصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، وآل الرسول فلا تنساهم، واعرف فضلهم وكراماتهم، وجيرانهم من أهل المدينة فاعرف فضلهم]. هذا أيضا ما يتعلق بحقوق العباد فيما بينهم، وهي تتدرج، فمنها ما هو عام ومنها ما هو خاص ومنها ما هو أخص، فكما نعرف أن لكل مسلم على أخيه المسلم حقاً، وأن للعلماء حقاً وللولاة حقاً على عموم المسلمين، فكذلك هناك حقوق أخص لفئات من المسلمين نوه الله بحقوقهم وأوصى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأول حق للعباد يجب على الجميع هو حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك ورد في الحديث الصحيح أنه لا يصح إيمان المسلم حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه ومن ولده والناس أجمعين. ثم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً لهم حق خاص، وهم بنو هاشم. ثم أيضاً قريش كلها، فقد ورد في أحاديث صحيحة أن قريشاً أفضل العرب، وأفضل قريش بني هاشم، وأفضل بني هاشم محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه الحقوق لا بد أن يكون لها اعتبارها. وقال: (وجميع الأفخاذ)، يعني أفخاذ قريش، والعرب أيضاً وأفخاذ العرب؛ لأن العرب لهم مزيد فضل عن بقية الأمم، وهذا الفضل يؤخذ من عموم النصوص، لكن ذلك لا يعني العصبية، إنما يعني فضل الاصطفاء الذي ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن الله اصطفى من الأمم خيرها وهم العرب، ومن العرب خيرها وهم قريش، ومن قريش خيرها وهم بنو هاشم، ومن بني هاشم خيرها وهو النبي صلى الله عليه وسلم، فالعرب هم أفضل الأمم من مقتضى عموم كثير من النصوص، فلا بد أن يُعرف لهم قدرهم لكن ذلك كما قلت مشروط بتمسكهم بدين الله عز وجل. قوله: (فاعرف قدرهم وحقوقهم في الإسلام)، أي: أما إذا خرجوا من الإسلام فلا حق لهم. قوله: (ومولى القوم منهم). المولى يُطلق على صنفين: الصنف الأول هم الرقيق، سواء كانوا في الرق أو تحرروا من الرق فإنهم يعتبرون موالي، ولولايتهم لسادتهم تبعات وعلى سادتهم تبعات، فالمولى يلحق سادته في جملة الحقوق وليس في جميعها فإنه لا يلحق بهم بالنسب مثلاً. الصنف الثاني من الموالي الأحلاف بين قبائل العرب، وهذا يحدث كثيراً حيث تحالف قبيلة القبيلة الأخرى فتصيران تحت اسم واحد أحياناً، ولذلك نجد كثيراً من قبائل العرب تتشكل من مجموعات من العرب فتتسمى باسم جديد أو تحت شعار جديد، وهذا لا حرج فيه. قال: (وتعرف لسائر الناس حقهم في الإسلام)، هذا الحق العام كما ذكرت. ثم قال: (واعرف فضل الأنصار)، وهذا على سبيل التمثيل وإلا فالمهاجرون أفضل من غيرهم في الجملة، لكن الأنصار هم الذين آووا الرسول صلى الله عليه وسلم وآووا المهاجرين. (واعرف فضل الأنصار ووصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، وآل الرسول صلى الله عليه وسلم فلا تنساهم، واعرف فضلهم وكراماتهم)، المقصود هنا بالكرامات معنيان: المعنى الأول ما أكرمهم الله به من الفضل، وهذا هو الظاهر، وقد يعني بذلك النوع الثاني وهو الكرامات التي يكرم الله بها بعض عباده، قد تكون في آل البيت عند بعض الناس أكثر أو أظهر، والله أعلم. ثم ذكر: (وجيرانهم من أهل المدينة فاعرف فضلهم)؛ لأنهم يشملهم فضل أهل المدينة، والنبي صلى الله عليه وسلم نوه بفضلهم ودعا لهم في أكثر من مرة، وقربهم من الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبتهم له جعلتهم أقرب من غيرهم.

الرد على المخالف لمنهج أهل السنة

الرد على المخالف لمنهج أهل السنة قال رحمه الله تعالى: [واعلم أن أهل العلم لم يزالوا يردون قول الجهمية حتى كان في خلافة بني فلان، تكلم الرويبضة في أمر العامة، وطعنوا على آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذوا بالقياس والرأي، وكفّروا من خالفهم، فدخل في قولهم الجاهل والمغفل والذي لا علم له حتى كفروا من حيث لا يعلمون، فهلكت الأمة من وجوه، وكفرت من وجوه، وتزندقت من وجوه، وضلت من وجوه، وتفرقت وابتدعت من وجوه إلا من ثبت على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره وأمر أصحابه، ولم يخطئ أحداً منهم ولم يجاوز أمرهم ووسعه ما وسعهم، ولم يرغب عن طريقتهم ومذهبهم، وعلم أنهم كانوا على الإسلام الصحيح والإيمان الصحيح فقلدهم دينه واستراح، وعلم أن الدين إنما هو بالتقليد، والتقليد لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم]. قوله: (واعلم أن أهل العلم لم يزالوا يردون قول الجهمية)، يشير بذلك إلى منهج وأصل وغاية من غايات الدين، عمل به السلف حتى صار من سماتهم ومن أصولهم ومناهجهم الكبرى، وهو الرد على المخالف، ونظراً لأن أشد المخالفين وأكثرهم فتنة وأعمهم بلوى هم الجهمية فذكرهم هنا بالاسم، ولأن السلف اجتمعت قواهم واحتشدت على الجهمية. كثير من السلف قد لا يكون له كثير كلام في الأهواء والبدع والفرق، وكثير من السلف لم يتعرض للرد لكنهم فيما يتعلق بالجهمية أسهموا بذلك، حتى من لم يعرف عنه الاهتمام بهذه المواقف، لأن أصول الجهمية أصول لعامة أهل الأهواء الذين جاءوا بعدهم، والعجيب أن جميع الفرق التي فارقت أهل السنة والجماعة أخذت بأصل أو أكثر من أصول الجهمية، مما يدل على عموم البلوى بالجهمية، وأن السلف حينما احتشدت جهودهم ضد هذه الفرقة فذلك لأنهم عرفوا أصولها الفاسدة وتمويهاتها على الأمة، وعرفوا أيضاً مخاطر أصول الجهمية على الأمة، فالجهمية هم أشد الفرق على الأمة وأكثرها تمويهاً وتلبيساً على الناس. ثم قال: (حتى كان في خلافة بني فلان تكلم الرويبضة في أمر العامة)، يظهر لي أن هذا لم يحدث إلا في عهد بني العباس وليس في أوله، إنما في القرن الثالث في عهد المأمون وما بعده، أما قبل ذلك فرغم ما حصل من ظهور أوائل الفرق الكلامية إلا أنه لم يحدث أن تكلم الرويبضة -وهو الإنسان التافه الحقير- باسم الدين وباسم الأمة، أي: رغم وجود الفرق في عهد بني أمية وأول دولة بني العباس إلا أن السلطة كانت قوية حازمة ضد الأهواء، وكانت أيدي السلاطين بأيدي العلماء ضد جميع الفرق، فلما كان في عهد المأمون توجه المأمون لتأثره بالجهمية والمعتزلة إلى التنفيس للفرق، وإتاحة الفرصة لها لتخرج أعناقها وترفع رايتها، بل إنه أيدها وعمل أعمالاً هي في سبيل الافتراق، فأذن بسب بعض الصحابة كـ معاوية رضي الله عنه علناً، بل أمر به، وأمر بإحداث بعض البدع في المساجد كبدعة الذكر الجماعي، ونصر الجهمية في القول بخلق القرآن، وأرغم الأمة عليها، ومن هنا تكلمت الرويبضة، وهو الرجل التافه الحقير، والذي يتمثل بكثير ممن انطووا تحت لواء الجهمية والمعتزلة من عشاق الشهرة وأهل الأهواء. ثم قال: (وطعنوا على آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهذا مما يدل على أنه قصد الجهمية والمعتزلة، فإن الفرق التي سبقت كان لها منهج منحرف وضال في نظرتها لآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنها لم تجرؤ على الطعن في النصوص، ولم يجرؤ على رد الأحاديث إلا المعتزلة والجهمية. (وأخذوا بالقياس والرأي) يعني في أمور العقيدة وأصول الدين، لأنا نعرف أن القياس والرأي إذا كان في الاجتهاديات فهو جائز بالضوابط الشرعية، بل الأصل في العالم والمجتهد أنه يقيس مسألة على مسألة ترجع إلى دليل، وكذلك يبدي رأيه في الاستدلال والترجيح، فهذا ليس هو المقصود هنا، إنما المقصود بالقياس والرأي المذموم ما كان في أصول الدين والعقيدة، لأنها توقيفية غيبية لا يعلمها إلا الله عز وجل.

التكفير من سمات أهل الأهواء

التكفير من سمات أهل الأهواء (وكفّروا من خالفهم)، أكثر من كفّر من خالفهم أهل الأهواء قديماً وحديثاً، أولهم الخوارج والسبئية والمرجئة والقدرية والمعتزلة والجهمية وسواهم كل هؤلاء تكفيرهم لمن خالفهم أكثر مما يظن كثير من الناس من أنهم أهل تسامح في الرأي، والعجيب أن الجهمية والمعتزلة تدّعي أنها هي العقلانية وأنها تنصر حرية الرأي، وحينما نجد منهجها وتعاملها مع الآخرين نجدها أشد الفرق حجراً على رأي الآخرين، ولذلك كفّروا من خالفهم في وجهة النظر حتى كفّر بعضهم بعضاً كما هو معروف. إذاً: فالتكفير من سماة أهل الأهواء، حتى المرجئة الذين يظن بعض الناس أن أصل شبهتهم التساهل في الأحكام، وأنهم لا يكفّرون غيرهم إلا أن المتأخرين منهم أكثر وقوعاً في التكفير من غيرهم. قوله: (فدخل في قولهم الجاهل والمغفل)؛ لأنهم يلبّسون على الناس، (والذي لا علم له)، يعني لأنهم جرئوا الجهال على القول في الدين، وهذا منهج لأهل الأهواء في كل زمان، ومع الأسف أن هذا المنهج ظهر في زماننا بشكل سافر وخطير ومزعج، فإن كثيراً من أصحاب الاتجاهات وأصحاب الأهواء الشخصية والجماعية، يطرحون قضايا الدين وقضايا الشرع ومصالح الأمة العظمى في المجالس العامة، ويثرثرون بها كما يتناولون قضايا الحياة العامة، ويجعل الدين كسائر التخصصات وكسائر الأمور، بل ربما يحترمون التخصصات العلمية الأخرى ولا يحترمون قضايا الشرع والدين، فيقولون على الله بغير علم، ويجرئون الناس على ذلك، فصار الناس بالتبع لهذه الفئة الذين يدّعون التحرر والثقافة والفكر يتناولون الدين بغي علم، ويتكلمون بما لا علم لهم به، وهذا منهج خطير ينبغي التنبه له. قال: (حتى كفروا من حيث لا يعلمون)، طبعاً كثير من الناس يقع في الكفر وهو لا يعلم لجهله (فهلكت الأمة من وجوه)، الهلكة هنا هي الوقوع في الفتنة؛ لأن أعظم ما يوقع الناس في الهلكة في دينهم ودنياهم الفتن، وأول الفتن الفتن في الدين، فإنها هي التي ينبثق عنها الفتن في الدنيا فالفتن في الدين والأخلاق هي الهادمة التي تهدم كيان الناس وأمنهم وتهدم مصالحهم من وجوه، ذكر هذه الوجوه. وقوله: (وكفرت من وجوه)؛ يقصد بذلك لما كثرت البدع والأهواء وقع الناس في الكفر من حيث أرادوا الإسلام، ووقعوا في البدعة من حيث يزعمون أنهم يريدون السنة، فكفرت كثير من الفرق وكفّروا كثيراً من الناس، لوقوعهم في أقوالهم الكفرية. (وتزندقت من وجوه)، يقصد بهذا الإشارة إلى وجود غلاة المرجئة والجهمية وغيرهم الذين أعرضوا عن الدين وتساهلوا فيه، حتى كان الدين عندهم مجرد معرفة القلب، فلما وجدت هذه النزعة بسبب الجهمية وجدت الزندقة وكثرت في الأمة؛ لأنهم أشاعوا في الناس أنه يكفي للمسلم أن يعرف ربه، وأنه إذا عرف ربه لم تنفعه طاعة بعد ذلك ولا تضره معصية، فمن هنا انفتح باب الزندقة، ولذلك نجد كثيراً من رءوس الجهمية زنادقة، فهم أهل تحلل في الدين وإعراض عن شرع الله عز وجل، وأهل تفسّخ ووقوع في شنائع الذنوب وكبائرها؛ لأنهم اعتقدوا أن الدين هو المعرفة فقط، ولذلك دخلت هذه العقيدة الخبيثة في كثير من الفرق التي تقمصت أصول الجهمية فيما بعد مثل طرق الصوفية التي تكثر فيها الزندقة باسم الدين، ويحصل فيها الفجور باسم الدين، والتفسّخ والتحلل من الأخلاق والأديان والعقائد باسم الدين. ثم قال: (وضلت من وجوه)، يعني ضلال الأهواء كما هو معروف. (وابتدعت من وجوه)، لعله يقصد بهذا البدع الظاهرة؛ لأنه ذكر البدع قبل ذلك، لكن ربما يقصد البدع الظاهرة التي بدأت تنتشر في وقته بشكل ذريع أكثر من ذي قبل، حيث انتشرت بدع الأقوال وبدع الأعمال وبدع العبادات القبورية، والمشاهد والآثار، والتوسل البدعي وهذا في جميع الفرق لا تتميز به فرقة عن أخرى، وإن كانت الطرق أكثر من غيرها في تسويق البدع الظاهرة. قال: (إلا من ثبت على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره وأمر أصحابه، ولم يخطئ أحداً منهم) وهم أهل السنة والجماعة، فإن أهل السنة والجماعة ثبتوا على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى منهج الصحابة، ولم يخطئوا أحداً من الصحابة، والمقصود هنا بالتخطئة تخطئة التبديع، هذا معلوم، وإلا فكون الصحابة يخطئون في الاجتهاد أمر عادي، لكن الخطأ في الاجتهاد لا يُعد ذنباً ولا عيباً، ولا بدعة، بل هو سنة الله في خلقه، وهو من سمات هذا الدين الذي وسّع للناس في أمر الاجتهاد. فلا يقصد هنا التخطئة في الاجتهاديات، لكن تخطئة التبديع أو تحميلهم المسئولية أو اتهام النيات والقلوب، وهذا كله وقع فيه أهل الأهواء كلهم، ومن لم يقدح بأعيان الصحابة قدح في منهجهم في رواية الحديث، أو منهجهم في تطبيق قواعد الإسلام، أو منهجهم في تعامل بعضهم مع البعض. أقول وأنا موقن: إنه لا يوجد فرقة من الفرق إلا وقعت في أعراض الصحابة واتهمتهم بأي نوع من أنواع الاتهام، هذا لا أجد فيه استثناء. قال: (ولم يجاوز أمرهم) أي: أمر الصحابة، (ووسعه ما وسعهم، ولم يرغب عن طريقتهم ومذهبهم، وعلم أنهم كانوا على الإسلام الصحيح، والإيمان الصحيح، فقلدهم دي

الأسئلة

الأسئلة

معنى قول المؤلف: (والاستحلال)

معنى قول المؤلف: (والاستحلال) Q ماذا يقصد بقوله في متعة النساء: والاستحلال؟ A كأنه يشير أن ذلك استحلال للفروج، أي أنه كما قلت: تحايل على الزنا.

الفرقة الناجية هي الطائفة المنصورة

الفرقة الناجية هي الطائفة المنصورة Q هل هناك فرق بين الفرقة الناجية والطائفة المنصورة؟ A الفرقة الناجية والطائفة المنصورة هي وصف لأهل السنة والجماعة، وهم الطائفة الظاهرة المذكورة في حديث: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين). فالظهور معناه ظهور بالحق من خلال قدوات هذا معنى، وكونها منصورة لأن الله عز وجل وعدهم بالنصر متى قاتلوا أو جاهدوا أو جادلوا بالحق. وكذلك هم الفرقة الناجية لأن الله عز وجل جعل طريقهم هو سبيل النجاة، فهذه الأوصاف كل وصف له معنى، لكن كلها تنطبق على موصوف واحد، فلا مشاحة في ما يدور من خلاف في هذه الاصطلاحات؛ لأن كل ممن قال بهذه المعاني قصد معنى صحيحاً، فالذي فرّق بين الطائفة المنصورة والفرقة الناجية لا يقصد أنهما فرقتان، لكن يقصد أن النصر له معنى، والنجاة لها معنى، وهذا صحيح، فهذه المسألة سهلة.

الداعية بين الاهتمام بمشكلات الواقع وأمور العقيدة

الداعية بين الاهتمام بمشكلات الواقع وأمور العقيدة Q كيف نتعامل مع المبتدعة؟ وما الرد على الاهتمام بالمشكلات الواقعة وترك الأهم وهي العقيدة؟ A الداعي إلى الله عز وجل ينبغي أن يدعو بما يستطيع وبحسب علمه، وكل له من القدرة والاستعداد ما ليس عند الآخر، لكن الدعوة كمنهج والداعية العالم الذي أعطاه الله عز وجل كفاءة في العلم والقدرات لا ينبغي له أن يقدم على العقيدة شيئاً؛ لأن هذا هو منهج النبيين، لا بد في كل دعوة أن تبدأ بتصحيح العقيدة ونفي ما يضادها، ولا تغفل عن الجوانب الأخرى، فإنا نجد الأنبياء كلهم دعوا إلى توحيد الله عز وجل واجتناب الطاغوت ونفي الشرك، وأكثرهم ممن ورد قصصهم في القرآن والسنة اهتموا بجوانب أخرى، فأحدهم مثلاً نهى عن بعض الجرائم الخلقية الموجودة في وقته مثل لوط، وبعضهم نهى عن التطفيف في الميزان، وبعضهم نهى عن البطر في العيش وكفر نعمة الله عز وجل؛ لأنها ظواهر في المجتمعات، لكن بدءوا بالتوحيد وما أغفلوا الجوانب الأخرى. فلذلك لا ينبغي لطلاب العلم أن يخلوا بهذا المنهج، فيقصروا الناس على شيء دون النظرة الشمولية أقول: إن الدعوات الكبار والدعاة الذين أعطاهم الله شمولية في التصور والمنهج يجب عليهم ألا يُغفلوا جانب التوحيد، وإذا أغفلوا جانب التوحيد والنهي عن الشرك والبدع اختلت دعوتهم، أما أفراد الناس فبعض الناس لا يستطيع أن يدعو إلى التوحيد، لكن يستطيع أن يعمل بعض أعمال البر، فهذا نعتبره داعياً إلى الله عز وجل ولو لم يدع إلى التوحيد.

الفرق بين الشرعة والمنهاج

الفرق بين الشرعة والمنهاج Q قوله عز وجل: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] ما الفرق بين الشرعة والمنهاج؟ A الشرعة والمنهاج من الكلمات المترادفة التي لكل لفظة منها خصوصية، فالشرعة هي الشريعة وأحكام الحلال والحرام، والمنهاج قواعد الدين التي تحكم الاجتهاديات، فنحن نعرف أن الشريعة منها مفردات ومنها قواعد، فمن قواعد الدين مثلاً (إنما الأعمال بالنيات) هذه داخلة في المنهاج، (الدين النصيحة) داخلة في المنهاج، (لا ضرر ولا ضرار) داخلة في المنهاج، (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) فهذا من المنهاج، (كل محدثة بدعة) هذا من المنهاج، لكن تحريم النبي صلى الله عليه وسلم لأشياء بعينها مثل تحريم الربا في نص هذا يعتبر داخلاً في الشرائع. فالتحريم والتحليل المباشر لأفعال معينة وأقوال معينة يعتبر شرعة، والقواعد التي تحكم الجزئيات تعتبر مناهج.

إجراء حقوق بني هاشم للأشراف

إجراء حقوق بني هاشم للأشراف Q هل الحقوق الواجبة لبني هاشم تجري على ما يسمونه في وقتنا الأشراف؟ A الأشراف إذا ثبتت نسبهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فالصالحون منهم لهم حق خاص، فينبغي أن يكون لهم اعتبار تطبّق فيه الأحكام في حقهم.

حكم الدعاء بـ (يا هاد يا دليل)

حكم الدعاء بـ (يا هاد يا دليل) Q هناك دعاء عند العوام: يا هاد يا دليل، فهل ورد وصف الله عز وجل بالدليل؟ A هذا الأمر في نظري مما يتسامح فيه؛ لأنه لا يقصد بالدليل الاسم أو الصفة، إنما يقصد الخبر عن الله عز وجل، فالدعاء بهذه الصورة لا أظن فيه حرجاً ما دام يقصد معنى الهادي، مثلما يقال: يا دليل الحائرين، يعني الذي يدل الحائرين، ولو لم يكن الدليل من أسماء الله أو من صفاته، فهذا مما يسع فيه الأمر؛ لأنه من باب الأخبار عن الله عز وجل.

حكم الترحم على المبتدعة

حكم الترحم على المبتدعة Q هل يترحم على من زلّت به قدمه بمثل هذه العقائد؟ A وكأنه يقصد ما مر في الكتاب كالجهمية والمعتزلة، فالمسلم الذي يقع في بدعة غير مغلظة يترحم عليه، والمسلم الذي يقع في بدعة كفرية مغلظة أو من كبائر البدع التي قد تؤدي إلى الكفر، أو كان من ضمن الفرق التي اتفق السلف على أنها خارجة عن السنة في أصول كفرية، وإن لم يكفّروها كالمعتزلة فهؤلاء الأولى ألا يترحم عليهم ولا يدعى عليهم، فتبقى المسألة تحت مشيئة الله عز وجل، لأن الترحم عليهم وهم أهل بدع ظاهرين نوع من تأييد البدعة والترويج لها، فيكون ترك الترحم نوع من أنواع الهجر للبدعة وأهلها وإن كانوا أمواتاً، وإلا فهم باقون على أصل حقوقهم في الإسلام؛ لأن الفرق التي لم تخرج عن الملة وهي من الثنتين والسبعين كالمعتزلة والمرجئة والقدرية لهم حقوقهم في الإسلام، مثل أن يدفنوا في مقابر المسلمين ويصلى عليهم كحقوق سائر المسلمين، لكن الداعية منهم، أو المبتدع الذي يمارس بدعة ظاهرة فالأولى عدم الترحم عليه لئلا يكون ذلك وسيلة إلى ترويج بدعته للناس، فهو من باب الهجر، والله أعلم.

شرح السنة [13]

شرح السنة [13] الجهمية فرقة ضالة منحرفة، أرادوا هدم الدين وإفساد عقائد المسلمين بما ابتدعوه من عقائد ضالة كفرية، كقولهم بخلق القرآن، والتعطيل المطلق، وتكفير المسلمين، وإنكار ورد آيات الكتاب وأحاديث الرسول، وغير ذلك من أصولهم التي خرجوا بها عن الدين فضلوا وأضلوا.

حكم من قال: لفظي بالقرآن مخلوق

حكم من قال: لفظي بالقرآن مخلوق قال الإمام أبو محمد الحسن بن علي البربهاري رحمه الله تعالى: [واعلم أن من قال لفظه بالقرآن مخلوق فهو مبتدع، ومن سكت فلم يقل مخلوق ولا غير مخلوق فهو جهمي، هكذا قال أحمد بن حنبل. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً؛ فإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة، وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين وعضوا عليها بالنواجذ)]. بدأ في أول هذه الفقرة عن مسألة متفرعة عن أصل من أصول العقيدة عند السلف، وهي ما يتعلق بالقرآن، فأولاً نحن نعرف أن الله عز وجل موصوف بأنه متكلم، وكلامه على ما يليق بجلاله عز وجل، وأن القرآن الكريم كلام الله منزّل غير مخلوق، وأن هذا مما أجمع عليه سلف الأمة؛ لأنه اقتضته النصوص وقواعد العقيدة ولم يخالف في ذلك إلا الجهمية ومن سلك سبيلهم، من المعتزلة وبعض أهل الكلام والفلاسفة والباطنية وبعض المتصوفة وغيرهم، فإنهم زعموا أن القرآن مخلوق، وبذلك كفّرهم السلف لأنهم أقاموا عليهم الحجة، وبيّنوا لهم الآيات البينات من كتاب الله تعالى ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف. فالقرآن كلام الله منزّل غير مخلوق، فلما قالت الجهمية بأنه مخلوق وحاورها السلف وأقاموا عليها الحجّة، تبيّن عنادها، وأنها حكّمت العقل فيما لا طاقة له به، وحكّمت أصول الفلاسفة وقواعد المتكلمين فزعمت أن القرآن مخلوق، فمن هنا حكم السلف بكفرية هذا القول، فتفرع عن هذا مسائل أخرى منها: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق. والأصل أن الناس في عافية من هذا الأمر، وكذلك يجب أن يكونوا، ومن هنا فهذه المسألة ينبغي ألا تثار عند الناس إذا لم يكن الكلام فيها مشتهراً. فمنذ عهد الإمام أحمد وقبله من منتصف القرن الثاني الهجري إلى نهاية القرن الثالث تقريباً أو قبل نهايته بقليل والجهمية يرفعون شعارهم بذلك، خاصة في عهد المأمون في بداية القرن الثالث الهجري إلى منتصفه فإنهم زعموا أن القرآن مخلوق، ورفعوا ذلك على المنابر وأشهروه في المناظرات والكتب، وفتنوا الناس به، فاضطر السلف إلى أن يتكلموا في هذه المسائل، ثم حينما انهزمت الجهمية والمعتزلة على يد الإمام أحمد وتبين الحق وانجلت الفتنة ولم يبق إلا المعاند ظهر بعض ضعاف الجهمية بقول يظنون أنهم يرضون به السلف، وقالوا: نحن لا نقول: القرآن مخلوق، لكن نقول: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة! ويقصدون بذلك القرآن، فهي حيلة على البدعة. فلما تفطن السلف لهذه الحيلة بدّعوا من قال بهذا القول سواء بنفي أو إثبات؛ لأنه أولاً: ذريعة إلى الخوض في هذه المسألة الخطيرة، وثانياً: مدخل للجهمية بأن يتأولوا من خلاله لقولهم المبتدع الكفري، وثالثاً: لأن الناس قد تتفاوت مفاهيمهم ومداركهم لهذه الكلمة. فالقول بأن اللفظ بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق فيه شبهة، فبدّع السلف من قال به، ولذلك وجد من السلف من قال بهذا القول على مقصد صحيح، وهو قوله بأن ألفاظنا وأصواتنا بالقرآن التي خرجت عن ألسنتنا وحلوقنا وشفاهنا مخلوقة، وهذا صحيح، لكن المبتدع لا يقف عند هذا الحد فيقصد اللفظ والمعنى، وإن قال لفظي بالقرآن مخلوق فإنه ربما يقصد القرآن أيضاً ويتأوّل. فمن هنا أقول: إن هذه المسألة محل نزاع بين السلف، لكن أئمة السلف كرهوها وبدّعوا من قال بها لأنها ذريعة إلى القول بالبدعة، سواء بالنفي أو الإثبات.

أصول الجهمية وكيف وضعت

أصول الجهمية وكيف وضعت قال رحمه الله تعالى: [واعلم أنه إنما جاء هلاك الجهمية أنهم فكروا في الرب عز وجل، فأدخلوا لم وكيف، وتركوا الأثر ووضعوا القياس، وقاسوا الدين على رأيهم، فجاءوا بالكفر عياناً لا يخفى أنه كفر، وكفّروا الخلق، واضطرهم الأمر حتى قالوا بالتعطيل].

كيفية نشأة أصول الجهمية

كيفية نشأة أصول الجهمية الكلام هنا في أصول الجهمية، وأصول الجهمية كثيرة وسيوردها الشيخ بعد قليل فيما أورده الإمام أحمد وغيره من الأئمة، لكنه هنا ذكر مجمل أصول الجهمية التي خالفوا فيها السنة والتي تفردوا بها وعارضوا بها الحق، وأول ذلك أنهم فكّروا في الرب عز وجل، أي: أخضعوا ما يتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله لأفكارهم، وجعلوا للعقول سلطاناً على الخوض في الجوانب الغيبية من ذلك. والتفكير في الرب عز وجل لا طاقة للبشر فيه ولا للمخلوقات، والتفكر إنما هو في مخلوقات الله وفي آلائه ونعمه، وفي حكمه وخلقه، لا في ذاته ولا في أسمائه وصفاته وأفعاله. ويجب على المسلم أن يقف عند ألفاظ الشرع ومعانيها ولا يتجاوز ذلك إلى الكيفيات، أو إلى الحقائق الغيبية، فإن الحقائق الغيبية غير معلومة، هذا هو الأصل، والجهمية تجاوزت هذا الأصل وفكّرت في ذات الله عز وجل وأسمائه وصفاته وأفعاله على الحقيقة الغيبية، أو فكّرت في الحقيقة الغيبية بالكيفيات، فمن هنا وقعت فيما وقعت فيه بعد ذلك، حيث أعملوا عقولهم فيما لا طاقة لها به من أمور الغيب، وبخاصة ما يتعلق بالله عز وجل، فنشأ عن ذلك الأصل الباطل الثاني عند الجهمية، وهو أنهم لما أعملوا عقولهم وردت عليهم أسئلة وشبهات لِم وكيف؟ يعني: لِم فعل الله كذا؟ لِم وصف الله نفسه بكذا؟ لِم لم يصف الله نفسه كذا؟ وكيف كان كذا؟ وكيف تكون صفته؟ وكيف يكون اسمه؟ إلى آخره ثم نشأ عن ذلك أصل ثالث، وهو أنهم حينما وجدت عندهم هذه الشبهات لم يعالجوها بالأثر، والأثر هو الكتاب والسنة وما ورد عن الصحابة والتابعين وأئمة السلف. وكأن الشيخ يقول: لما فكّروا في الرب عز وجل وأخطئوا في ذلك ثم دخلوا في الشبهات بكيف ولِم، كان المفروض أن يزيلوا هذه الشبهات والشكوك بالرجوع إلى الكتاب والسنة الذي هو الأثر، والرجوع إلى آثار السلف الصالح، لكنهم لم يفعلوا فتركوا الأثر، فنتج عن ذلك أصل رابع، وهو أنهم حينما خاضوا وفكّروا في الرب عز وجل وأدخلوا لِم وكيف، ولم يحكّموا الكتاب والسنة اضطروا لوضع أصول من عندهم على القياس أي: قياس الغائب على الشاهد، وأعظم الغيب وأوله وأعلاه وأجله ما يتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته، فقاسوا الغيب على عالم الشهادة فقالوا: لا يكون موجود إلا جسماً، ولا يكون جسم إلا مركّباً من أجزاء، ولا يكون مركّب من أجزاء إلا مفتقراً إلى أجزائه، ثم قالوا: هذه الأمور لا تليق بالله عز وجل، فنفوا عن الله الأسماء والصفات والأفعال ولما وضعوا القياس وقاسوا الدين على رأيهم، نتج عن هذا نتيجة وهي الأصل الخامس، وهو أن جاءوا بالكفر عياناً، فأنكروا ذات الله عز وجل وأسمائه وصفاته وأفعاله إنكاراً صريحاً، حتى أنهم لم يثبتوا لله عز وجل إلا الوجود المطلق أو مطلق الوجود، أو الوجود المجرد، أو الوجود الذهني، أو الوجود العقلي على اختلاف بينهم. فنتج عن ذلك أن خالفوا الأمة، فلما خالفوها وقالوا بالكفر اضطروا لنتيجة وهي الأصل السادس، وهي تكفير من خالفهم. فالجهمية تكفّر من خالفها من المعتزلة ومتكلمة الأشاعرة. وكما قلت: إنه في مثل هذا المقام إذا تكلمنا عن الجهمية نقصد بهم العموم إلا إذا دلّت القرينة على أن المقصود طائفة منهم، فالجهمية هم كل من أنكر الصفات أو أوّلها، فعلى هذا فالجهمية الخالصة جهمية، والمعتزلة جهمية، ومتكلمة الأشاعرة والماتريدية جهمية، ومتكلمة الكلابية جهمية وهكذا، لكن الذين وقعوا في الكفر هم الجهمية الأصلية، وطوائف من المعتزلة. ثم وقعوا في الأصل السابع عندهم وهو القول بالتعطيل

خلاصة أصول الجهمية

خلاصة أصول الجهمية هذه خلاصة أصول الجهمية: أولاً: أنهم أعملوا العقول في الغيب في الله عز وجل وفكّروا في الله ولم يفكّروا في خلقه وآلائه. ثانياً: أدخلوا الشبهات لِم وكيف. ثالثاً: أعرضوا عن الأثر ليحلوا مشكلاتهم بقولهم ولم يوفقوا لتحكيم الكتاب والسنة فنتجت النتيجة الرابعة. رابعاً: وضعوا القياس وقاسوا الغائب بالشاهد، فترتب على هذا النتيجة الخامسة. خامساً: جاءوا بالكفر عياناً، ثم بعد ذلك ترتب عليها القاعدة السادسة أو الأصل السادس وهو سادساً: أنهم كفّروا المخالفين، ثم انتهى بهم الأمر إلى سابعاً: التعطيل المطلق.

أصول الجهمية التي كفروا بها

أصول الجهمية التي كفروا بها قال رحمه الله تعالى: [وقال بعض العلماء منهم أحمد بن حنبل رضي الله عنه: الجهمي كافر، ليس من أهل القبلة، حلال الدم لا يرث ولا يورث؛ لأنه قال: لا جمعة ولا جماعة، ولا عيدين، ولا صدقة، وقالوا: من لم يقل القرآن مخلوق فهو كافر، واستحلوا السيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وخالفوا من كان قبلهم، وامتحنوا الناس بشيء لم يتكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه، وأرادوا تعطيل المساجد والجوامع، وأوهنوا الإسلام، وعطّلوا الجهاد، وعملوا في الفرقة، وخالفوا الآثار، وتكلموا بالمنسوخ، واحتجوا بالمتشابه، فشككوا الناس في آرائهم وأديانهم، واختصموا في ربهم، وقالوا: ليس عذاب قبر ولا حوض ولا شفاعة، والجنة والنار لم تخلقا، وأنكروا كثيراً مما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستحل من استحل تكفيرهم ودماءهم من هذا الوجه؛ لأنه من رد آية من كتاب الله فقد رد الكتاب كله، ومن رد أثراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد رد الأثر كله، وهو كافر بالله العظيم، فدامت لهم المدة، ووجدوا من السلطان معونة على ذلك، ووضعوا السيف والسوط دون ذلك، فدرس علم السنة والجماعة، وأوهنوهما وصارتا مكتومتين لإظهار البدع والكلام فيها ولكثرتهم، واتخذوا المجالس، وأظهروا رأيهم، ووضعوا فيه الكتب، وأطمعوا الناس، وطلبوا لهم الرياسة، فكانت فتنة عظيمة لم ينج منها إلا من عصم الله، فأدنى ما كان يصيب الرجل من مجالستهم أن يشك في دينه أو يتابعهم، أو يرى رأيهم على الحق، ولا يدري أنه على حق أو على الباطل، فصار شاكاً، فهلك الخلق، حتى كانت أيام جعفر الذي يقال له: المتوكل، فأطفأ الله به البدع، وأظهر به الحق، وأظهر به أهل السنة، وطالت ألسنتهم مع قلتهم وكثرة أهل البدع إلى يومنا هذا. والرسم وأعلام الضلالة قد بقي منهم قوم يعملون بها ويدعون إليها، لا مانع يمنعهم، ولا حاجز يحجزهم عما يقولون ويعملون]. هذا كلام عظيم، ويمثل خلاصة وصف الجهمية المعتزلة على وجه الخصوص، ووصف أهل الأهواء على وجه العموم وسماتهم في كل زمان، وهذا أشبه بكلمات الإمام أحمد وإن لم يجزم أنه من كلامه، لكنه فيه عبارات هي من كلام الإمام أحمد؛ لأن الإمام أحمد يتميّز منهجه بالتأصيل وانتخاب العبارات الجامعة المانعة في التعبير عن أصول الاعتقاد وأصول المخالفين، ولا يحب الحشو من الكلام ولا الاستطراد. وهنا أشار الشيخ إلى سبعة عشر أصلاً من أصول الجهمية ثم عرّج على سمات الجهمية التي كانت تتميز بها في ذلك العصر، بل وفي كل عصر، وهذا الكلام الذي سأذكره وهو قواعد الجهمية يشمل الجهمية والمعتزلة في ذلك الوقت؛ لأن الجهمية في ذلك الوقت تتمثّل بالمعتزلة، وانطوت تحت لوائها، وصارت المعتزلة هي التي رفعت لواء التجهّم في القرن الثالث، فلا فرق بينهما في هذه الفترة التي عبّر عنها الإمام أحمد والأئمة من بعدهم، والتمييز الفني أو التمييز التخصصي بين الجهمية والمعتزلة إنما يأتي عند الكلام المفصّل عنهما، أما عند الكلام عن مفردات مقولاتهما فإنه لا فرق بينهما إلا في أمور قليلة، لا سيما في الأصول، فإن أصول الجهمية والمعتزلة واحدة، إنما الاختلاف في بعض التفريعات والتفصيلات، فمن هنا الكلام عن الجهمية يشمل المعتزلة ويشمل الفرق التي أخذت بأصول التجهم والاعتزال في ذلك الوقت، وهي الرافضة والخوارج. فإن الرافضة والخوارج في ذلك الوقت أخذوا بأصول التجهّم والاعتزال، حتى أنه من المشهور الذي ينبغي أن يعلمه أيضاً كل طالب علم، أن الذين رفعوا لواء الفتنة من المعتزلة الجهمية في القرن الثالث كان أغلبهم رافضة لكن شعار التجهّم غلب عليهم، ومنهم شيعة غير رافضة. فعلى هذا نقول: إن الكلام هنا يشمل جميع أهل الأهواء في ذلك الوقت، وإن كان موجهاً إلى الجهمية والمعتزلة. قال الشيخ: (وقال بعض العلماء منهم أحمد بن حنبل رضي الله عنه: الجهمي كافر)، يقصد بذلك الجهمي الخالص، أو الجهمي الذي أصر في ذلك الوقت على القول بخلق القرآن؛ لأنها قضية الساعة في ذلك الوقت. ومن هنا نستفيد فائدة في منهج تقرير الدين والدفاع عنه، وهو أنه كلما اشتهرت مسألة من المسائل التي تخالف الحق سواء كانت من بدع العقائد أو بدع العادات أو بدع العبادات أو بدع الأعياد أو بدع الأحوال أو غيرها، فإنه يسع طلاب العلم أن يكثروا من الكلام عنها، ولا يكون ذلك مخالفاً للمنهج؛ لأن كل شيء له مناسبته، فإذا بُلي الناس ببلية من البلايا فلا بد من كثرة الكلام عنها، فإذا ابتلي الناس مثلاً بالطعن في العلماء فلا بد من التركيز على هذه القضية، ولا يعتبر ذلك خروجاً أو مبالغة وإذا ابتلي الناس بعدم النصح للولاة، فلا بد من التركيز على هذه القضية؛ لأنها قضية خطيرة إذا تُركت فتكت بالأمة، وإذا ابتلي الناس بالكلام عن إنكار الشفاعة مثل ما ظهر في الآونة الأخيرة عن بعض المفتونين، فيسع طلاب العلم أن يشهروا القضية ويتك

الأصل الأول: قولهم: لا جمعة ولا جماعة ولا عيدين ولا صدقة

الأصل الأول: قولهم: لا جمعة ولا جماعة ولا عيدين ولا صدقة قال: (الجهمي كافر ليس من أهل القبلة، حلال الدم ولا يرث ولا يورث)، ثم علل لذلك، وهذا التعليل هو شرح لأصول الجهمية التي أولها قولهم لا جمعة ولا جماعة، ولا عيدين، ولا صدقة هذا مما لا يعرفه أكثر الناس عن الجهمية والمعتزلة والرافضة والخوارج في ذلك الوقت، بل في كل وقت، وهو أن من أصولهم أنهم لا يعتقدون لولاة المسلمين ولاية، ولولا أن المأمون سايرهم ما اعتقدوا له بيعة، فمن هنا كان لا يعتقدون صحة الجمعة ولا الجماعة، ولا العيدين، ولا الصدقة التي هي الزكاة التي تجبيها الدولة، وهذه سمة عامة لجميع أهل الأهواء في كل زمان. ثم إن أغلب رافع رايات الجهمية في ذلك الوقت إما خوارج وإما رافضة أو شيعة، وهؤلاء كلهم معروف رأيهم في الجمعة والجماعة والعيدين والصدقة، هذا من جانب. من جانب آخر يشير والله أعلم إلى أن الجهمية مرجئة خالصة لا ترى للأعمال وزناً، فتستهين بالجمعة والجماعة والعيدين والصدقة، وكلا الاحتمالين وارد، بل أظن الاحتمالين مجتمعين في أهل الأهواء الجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم.

الأصل الثاني: تكفير من لم يقل بخلق القرآن

الأصل الثاني: تكفير من لم يقل بخلق القرآن ثم ذكر الأصل الثاني: (وقالوا: من لم يقل القرآن مخلوق فهو كافر). ومعنى هذا أنهم كفّروا المسلم، وهذا يقتضي كفرهم هم بناء على الحديث: (من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما). هذا كله تبرير لقوله بأنهم كفار ليسوا من أهل القبلة، حلال الدم ولا يرثون ولا يورثون.

الأصل الثالث: استحلال السيف على أمة محمد

الأصل الثالث: استحلال السيف على أمة محمد ثم ذكر الأصل الثالث قال: (واستحلوا السيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم). واستحلال السيف على الأمة سمة عامة للمبتدعة، وهو الخروج على الولاة، والخروج عن جماعة المسلمين، واستحلال دماء المخالفين، لكن هذه السمة تتفاوت بينهم من مقل أو مكثر، فمنهم من هو صريح يُعلن ذلك ويرفعه كالخوارج، ومنهم من هو جبان منافق كالرافضة، فيرون أن ذلك لا يُعلن إلا إذا ظهر إمامهم الموهوم الخرافة. ولعل من حظ المسلمين أن الرافضة يعلقون خروجهم على المسلمين بظهور هذه الخرافة التي ينتظرونها، ونعلم أنه لن يظهر إلا إن كان على صورة الدجال، ولا أستبعد أنهم إذا ظهر الدجال يعتقدون أنه مهديهم؛ لأنا نعرف أن عامة أهل البدع والأهواء يفتنون بـ الدجال وأولهم الرافضة، ويخرج من بلادهم أيضاً. فعلى هذا يظهر أن السلف أجمعوا واتفقوا على أن من سمات أهل الأهواء والجهمية استحلال السيف، ومن استحل السيف على الأمة سواء فعل أو لم يفعل فهو كافر؛ لأن بعض الناس يظن أن استحلال السيف هو رفعه! وليس كذلك، بل المعنى أنهم يستبيحون قتل المسلمين لو تمكنوا، لكن ليس منهم من فعل ذلك إلا الخوارج، وكذلك المعتزلة حينما تمكنت في عهد المأمون. والدليل على استحلالهم السيف أنهم استحلوا دماء الناس حتى الأئمة، كان ابن أبي دؤاد رأس الجهمية في ذلك الوقت يحرّض أحد الولاة ولا أدري هل هو المأمون أو الواثق أو المعتصم على الإمام أحمد في أثناء المناظرة ويقول: اقتله ودمه في ذمتي، فهذا من استحلال السيف، أما الإمام أحمد فما قال هذه الكلمة، ولا حرّض على الجهمية وقد عايش غلاتهم الذين أعلنوا الزندقة.

الأصل الرابع: مخالفة السلف

الأصل الرابع: مخالفة السلف رابعاً من أصولهم: (وخالفوا من كان قبلهم)، ما عليه سلف الأمة.

الأصل الخامس: امتحان الناس بشيء لم يتكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه

الأصل الخامس: امتحان الناس بشيء لم يتكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وخامساً: (وامتحنوا الناس بشيء لم يتكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه). أوقعوا الناس في حرج في دينهم، وألزموهم بأن يقولوا الكفر، فكانوا لا يولون قاضياً حتى يقول بكفرهم، ولا يولون محتسباً ولا والياً ولا أميراً ولا خطيباً للجمعة حتى يقول بقولهم، حتى قالت بعض كتب التاريخ: إنهم وضعوا المتاريس على الأسواق فلا يعبرها إلا من يقول بكفرهم وإلا يُحبس في بيته ويموت، ووضعوا السياج والحراس في أبواب المساجد فلا يدخل أحد يصلي ولا يخرج حتى يقول بكفرهم، وهذا لم يفعله أهل الحق الذين هم على السنة، فيكون هذا من باب الإكراه الذي لم يأمر الله به، فامتحنوا الناس بشيء لم يتكلم فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، امتحنوهم بالصفات، وامتحنوهم بالأسماء، وامتحنوهم بالقول بخلق القرآن، وامتحنوهم بأشياء كثيرة.

الأصل السادس: تعطيل المساجد والجوامع

الأصل السادس: تعطيل المساجد والجوامع سادساً: (وأرادوا تعطيل المساجد والجوامع). ويقصد بذلك أن منهجهم هذا يؤدي إلى تعطيل المساجد والجوامع؛ لأنهم من جانب أعلنوا الجبر والإرجاء الكامل الذي جعل الناس يعرضون عن شرع الله فلا يعتادون المساجد، وجعلوا المعرض عن المسجد والمصلي كليهما كاملي الإيمان، فهذا أدى إلى تساهل الناس في الدين، كما أنهم أرادوا تعطيل المساجد بمنع الناس أن يدخلوها إلا على مذهبهم، وأيضاً لا يرون مشروعية ما عليه السلف من إقامة الجمع والجماعات كما سبق، وهذا راجع إلى ما ذكره في الفقرة الأولى.

الأصل السابع: أوهنوا الإسلام

الأصل السابع: أوهنوا الإسلام سابعاً: (وأوهنوا الإسلام) من كل وجه. أولاً: حطّموا العقيدة في قلوب الناس، وهذا أعظم وهن في الدين، ثم بعد ذلك أشاعوا الزندقة والإلحاد والإعراض عن الدين في السلوك، وأشاعوا الفلسفات والأمراض العقلية والثقافية والعقدية، ثم بعد ذلك أوهنوا المسلمين بما ذكره فيما بعد من تعطيل الجهاد، وشغلوا المسلمين عن مكاسب الحياة وعمارة الأرض بالفلسفة والمناظرات والمجادلات، وهذا من أعظم المشغلات عن الجد في حياتهم. وأعظم من هذا أشغلوا بعض المسلمين ببعض عن الجهاد جهاد العدو، ولذلك لا أعرف أنه قام جهاد ضد الأمم المشركة والضالة على يد أهل الأهواء والافتراق والبدع، وصلاح الدين الأيوبي رحمه الله كان قائداً يحترم السنة والجماعة ويحترم السلف، وإن كان ينتسب للأشاعرة لكن ليس أشعرياً خالصاً فيما أعلم، ولو كان من المتكلمين لما استطاع أن يرفع راية الجهاد ولكان جهاده ضد أهل السنة والجماعة، لكن هو ليس بمتكلم وكذلك من كان مثله من الأتراك الأولين، فهؤلاء يرفعون شعار السنة ويوقرون السنة ويوقرون السلف، لكن لا أعرف أنه قامت معركة حاسمة بين المسلمين والكفار على يد رافضي أو خارجي أو نحوهم. وينطبق على جميع أهل الأهواء الخارجين عن السنة وصفهم الذي أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أدري عن مدى صحته عن الخوارج بأنهم يقاتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، فهم عطّلوا الجهاد فعلاً وجعلوا الجهاد جهاد المسلمين ولم يجاهدوا الكفار، أو صرفوا الجهاد إلى المراء والجدل الذي حرمه الله عز وجل.

الأصل الثامن: عملوا في الفرقة

الأصل الثامن: عملوا في الفرقة (وعملوا في الفرقة) وهذا هو الأصل الثامن عندهم، ومن السمات والأصول الطبيعية لأهل الأهواء أنهم يعملون الفرقة لأنهم مفارقون، فالمفارق لا بد أن يكون سعى إلى الفرقة بنفسه أو بغيره.

الأصل التاسع: خالفوا الآثار

الأصل التاسع: خالفوا الآثار ثم تاسعاً: (وخالفوا الآثار). أي خالفوا ما جاء في الكتاب والسنة وآثار السلف بأصولهم الفاسدة.

الأصل العاشر: تكلموا في المنسوخ

الأصل العاشر: تكلموا في المنسوخ وعاشراً: (وتكلموا في المنسوخ). وهذا دليل على جهلهم وانحراف مناهجهم، ربما استدلوا بالمنسوخ على الناسخ، فوقعوا في الخلط والخبط في الاستدلال.

الأصل الحادي عشر: احتجوا بالمتشابه

الأصل الحادي عشر: احتجوا بالمتشابه الحادي عشر: (واحتجوا بالمتشابه)، وجعلوه هو الأصل، والمفروض أن المتشابه يرد إلى المحكم.

الأصل الثاني عشر: شككوا الناس في آرائهم وأديانهم

الأصل الثاني عشر: شككوا الناس في آرائهم وأديانهم والثاني عشر: (فشككوا الناس في آرائهم وأديانهم)؛ لأن الناس كانوا على السلامة الأصلية لا يعرفون هذه الحذلقات والفلسفات والمناظرات والجدال والأمور التي لا تظهر أمام العامة، مثل العرض، والجوهر، والمباينة، والمفاصلة، والكلام في الصفات والأسماء والأفعال، والكلام في التشبيه والتجسيم، والقرآن بأنه محدث أو مخلوق وغير مخلوق كل هذه الأمور ما كان الناس يعرفها، فشككوا الناس في آرائهم وأديانهم.

الأصل الثالث عشر: اختصموا في ربهم

الأصل الثالث عشر: اختصموا في ربهم والثالث عشر: (واختصموا في ربهم) عز وجل. حقيقة حالهم أنهم اختصموا في الله، والله عز وجل أعفاهم من ذلك، فالله عز وجل قرر لنا ما لا حاجة إلى البشر بعده من ذكر عظمته وجلاله بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله على جهة التفصيل، وكل ما يحتاجه البشر مما يتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله جاء في الكتاب والسنة، لكنهم ذهبوا يخاصمون في ربهم، والله عز وجل يقول: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [إبراهيم:10].

الأصل الرابع عشر: أنكروا السمعيات

الأصل الرابع عشر: أنكروا السمعيات الرابع عشر: أنهم (قالوا: ليس عذاب قبر ولا حوض ولا شفاعة). وهذا يسمى إنكار السمعيات، وهذا يقع من الجهمية الخالصة وبعض المعتزلة.

الأصل الخامس عشر: زعموا أن الجنة والنار لم تخلقا

الأصل الخامس عشر: زعموا أن الجنة والنار لم تخلقا الخامس عشر: قال: (والجنة والنار لم تخلقا). هذه عندهم شبه عقلية يقولون: إذا كانت قد خلقت فأين تكون، وهي لا تستوعبها السماء والأرض؟! يعني فقط مجرد عقول، مع أن أحوال الجنة والنار والغيبيات، وأحوال البرزخية وأحوال القيامة لا تقاس بأحوال الدنيا أبداً.

الأصل السادس عشر: أنكروا كثيرا مما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

الأصل السادس عشر: أنكروا كثيراً مما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم السادس عشر: (أنكروا كثيراً مما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستحل من استحل تكفيرهم ودماءهم من هذا الوجه)؛ يعني: حينما ردوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا كفر صريح.

الأصل السابع عشر: رد آيات الكتاب

الأصل السابع عشر: رد آيات الكتاب السابع عشر: (لأنه من رد آية من كتاب الله فقد رد الكتاب كله، ومن رد أثراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد رد الأثر كله)، يعني أن ردهم للآثار والنصوص جعلهم يقعون في الكفر بالله العظيم.

خصائص وسمات المبتدعة

خصائص وسمات المبتدعة (فدامت لهم المدة)، يعني ظهرت رايتهم في القرن الثالث، (ووجدوا من السلطة معونة على ذلك) في عهد المأمون ومن بعده إلى أن جاء المتوكل، (ووضعوا السيف) أي أعملوه في رقاب المسلمين، (والسوط دون ذلك) أي دون كفرهم، فهم يحمون كفرهم بالسوط والسيف. (فدرس علم السنة) يعني انقرض أو ضعف (والجماعة، وأوهنوهما وصارتا مكتومتين لإظهار البدع والكلام فيها ولكثرتهم، واتخذوا المجالس، وأظهروا رأيهم)، وهذا دليل على أنه في الفتن تكون الغوغاء والكثرة مع الباطل لا مع الحق، وهذا موطن عبرة يجب أن نستفيد منه، أنه في الفتنة لا نقيس بالكثرة؛ لأن هذا الوصف وصف صحيح فإنه في عهد المأمون بالذات جعجعت العامة والغوغاء والرعاع والهمج مع الجهمية إما خوفاً وإما رجاءً أو جهلاً، وظنوا أن السلطان لا يكون إلا مع الحق، ربما يكون أكثر عامة المسلمين على ذلك. قال: (ووضعوا فيه الكتب)، يعني ألّفوا في الباطل، (وأطمعوا الناس)، وهنا وقفة عظيمة جداً. طبعاً هو هنا نسيت أن أقول لكم أنه منذ أن انتهى الأصل السابع عشر وهو رد الكتاب والأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن ذلك كفر، بدأ يذكر السمات وانتهى من الأصول، والسمات التي هي الخصائص وإن لم تكن أصولاً. فمن سماتهم أنهم تمكنوا في عهد الإمام المأمون ومن بعده، وأنهم أيضاً استعدوا السلطة حتى وجدوا منها معونة، وأنهم أيضاً يضعون السيف والسوط على الأمة، وأنهم يحرصون على اندراس علم السنة والجماعة لا كما يدّعون أنهم يرفعون السنة والجماعة. ومن سماتهم إخفاء السنة ومحاولة إماتتها وإيهانها، وطمس معالم السنة وكبت أهل السنة. قال: (وصارتا مكتومتين لإظهار البدع ولكثرتهم). وأيضاً من سماتهم أنهم يستثيرون الغوغاء إذا تمكنوا من ذلك حتى يكثروا من سوادهم، وأنهم يتخذون المجالس، بمعنى أنهم يثرثرون في قضايا الدين الخطيرة في المجالس كما يحصل من بعض المفتونين الآن بين المسلمين، ويتخذون الثرثرة في هذه القضايا الخطيرة في المجالس العامة والخاصة ومجالس الأدباء الكُتّاب والمفكرين، والمعجبين بهم والمبهورين، ويظهرون رأيهم، ويضعون في ذلك كتباً ومؤلفات. ثم قال: (وأطمعوا الناس)، وهذه إشارة إلى أن من سمات أهل الأهواء استعداء العامة واستثارتها، وأيضاً دغدغة مشاعر الناس بالكلام فيما يحلو لهم. ومن مسائل الأهواء في كل عصر أنهم يلتمسون حاجات الناس فيرفعون شعارات دفع الظلم عنهم والاهتمام بشئونهم والعطف عليهم إلى آخره. وأطمعوا الناس في الكلام الدين، وأطمعوا الناس في السلطان، وأطمعوا الناس على العلماء، وأطمعوا الناس بالجرأة على أن يتكلموا بما ليس لهم بعلم، أطمعوهم في الأهواء أطمعوهم في الشبهات والشهوات. (وطلبوا لهم الرياسة) كما يكون من بعض الدعاة الآن في الحزبيات والشعارات السياسية وغيرها، وهذا يختلط فيه الطمع. قال: (وطلبوا لهم الرياسة فكانت فتنة عظيمة لم ينج منها إلا من عصم الله، فأدنى ما كان يصيب الرجل من مجالستهم أن يشك في دينه أو يتابعهم)، هذا إشارة إلى أن مجالستهم خطيرة، وهذا ينسحب على الأولين والآخرين، كجهمية اليوم، ومعتزلة اليوم وعقلانية اليوم التي ابتلي بها كثير من شبابنا اليوم بسبب المجالسة في الجلسات العامة وفي الديوانيات والاستراحات وغيرها، وهذا مسلك خطير يجب أن يبتعد منه من يريد أن يحافظ على دينه، ولا يقول: إنه درس العقيدة وعرف وعرف! فهؤلاء شياطين يلبّسون على الناس، ويموّهون على الأئمة فكيف بطلاب العلم أمثالنا وعندنا من التقصير الشيء الكثير، فيجب أن نحمي أنفسنا ونحمي من له علينا حق النصح من مجالسة أهل الأهواء. فأدنى ما كان يصيب الرجل من مجالستهم أن يشك في دينه أو يتابعهم، أو يرى رأيهم على الحق، ولا يدري أنه على الحق أو على الباطل، بمعنى أنهم على الأقل يلبّسون عليه. (فصار شاكاً فهلك الخلق حتى كانت أيام جعفر الذي يقال له: المتوكل)، هذا أشبه بكلام الإمام أحمد والله أعلم، وكنت أود لو أني تمكنت من الرجوع إلى المصادر، لكن لعل أحد الإخوان إن شاء الله يتطوع ويوثق لنا هذا الكلام، فلعله موجود في بعض المصادر عن الإمام أحمد؛ لأن قوله: الذي يقال له المتوكل، كأنه يرى أن وصف الرجل لنفسه بـ المتوكل نوع تزكية. قال: (فأطفأ الله به البدع، وأظهر به الحق، وأظهر به أهل السنة، وطالت ألسنتهم مع قلتهم وكثرة أهل البدع إلى يومنا هذا). ثم قال، وكأنه يقول: ومع نصر السنة على يد المتوكل وقمع أهل البدع والأهواء إلى أن الرسم وأعلام الضلالة قد بقي منهم قوم، وهذه سنة الله في خلقه، فالابتلاء باق، ولذلك ما من فرقة من الفرق الكبرى انقطعت في التاريخ أبداً كلها بقيت إلى يومنا هذا، لكنها قد تتلون، قد تدخل في فرق أخرى، قد تظهر شعارات جديدة، لكن قال: (ومع أن السنة ظهرت وأبطل الله البدع إلا أنه بقي الرسم)، يعني: ب

الأسئلة

الأسئلة

ثناء ابن تيمية على ابن أبي دؤاد من كرم وخير

ثناء ابن تيمية على ابن أبي دؤاد من كرم وخير Q هل هناك مقولة عن شيخ الإسلام ابن تيمية يثني فيها على ابن أبي دؤاد وهو الذي فعل ما فعل يوم المحنة ضد الإمام أحمد في مقولة خلق القرآن مع باقي العلماء من أهل السنة رحمهم الله، نرجو التوضيح؟ A شيخ الإسلام ابن تيمية إذا تكلم عن خصومه أو عن خصوم السنة فإنه يبين ما يذكر لهم من خصال، فقد ذكر عن ابن أبي دؤاد أنه رجل كريم، وأنه صاحب شفاعات يشفع للناس، وقال: إنه بعد إصابته بالفالج وانقطاع الناس عنه تراجع ورقَّ له الناس. فشيخ الإسلام ابن تيمية يذكر محاسن الرجل ويذكر علمه وجاهه وكرمه، وأن الرجل وجيه وقوي في الوزارة إلخ. وهي جوانب إنسانية في البشر، وجوانب محاسن، وما زكاه في عقيدته، وهذه عادة شيخ الإسلام ابن تيمية، فعندما تكلم عن الرازي ذكر الجوانب الجيدة فيه، وعندما ذكر أبا المعالي الجويني أثنى على جوانب جيدة فيه، وعندما تكلم عن خصومه الذين آذوه كان يثني عليهم خيراً، وكان يقول فيهم كلاماً لا يقوله بعضهم في بعض، وهذا في جوانب تتعلق بما عندهم من خصال، فالعالم يعترف له بعلمه، والشجاع يعترف له بشجاعته، والقاضي العادل في قضائه يعترف له بعدله، وإن كان من خصومه.

حكم التدين بالكذب كما يفعل الرافضة

حكم التدين بالكذب كما يفعل الرافضة Q هل التدين بالكذب وما يفعله الرافضة كفر في ذاته؛ لأنه من تحليل الحرام واتخاذه ديانة؟ A ما أدري كيف نحمل تأولهم، هل هم يتأولون أم يستبيحون الكذب؟ إن استباحوا الكذب فلا شك أن هذا كفر، لكن أحياناً يكون من باب التقية ومن باب النفاق، أو تأول أنه من باب دفع الأذى عنهم، لكنهم يكذبون حتى في دينهم، يكذبون على أئمتهم، فيبدو لي أن الكذب ينصرف إلى من تعمد الكذب منهم، ومع ذلك فالمسألة تحتاج إلى شيء من البحث، فما عندي فيها قول. نعم، فيهم شيعة رافضة وفيهم شيعة، الشيعة الأوائل منذ أن ظهروا وهم منقسمون، كان الناس يسمونهم شيعة كلهم، الغلاة الذين قالوا بإلهية علي، أو قالوا بتقديم علي على جميع الصحابة حتى أبي بكر وعمر، وهم الذين نسميهم المختارية، وضربهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقتل الأوائل. وأما الشيعة المفضلة الذين يفضلون علياً على عثمان فقط، أو على بعض الصحابة، أو على كل الصحابة، لكن يقولون بصحة إمامة الشيخين أبي بكر وعمر كالزيدية، هؤلاء كلهم يسمون شيعة، لكن عندما تميزوا في سنة (120) أو (121) على عهد زيد بن علي شيخ الزيدية المعتزلي المشهور؛ خرجت المعتزلة الشيعة مع زيد بن علي، فظهر عموم الشيعة المعتزلة وغير المعتزلة؛ لأن زيداً معتزلي، وأكثر شيعتها معتزلة، لكن معه عموم الشيعة، فلما نما إلى علم الرافضة الغلاة أن زيداً يقول بإمامة أبي بكر وعمر ويترحم عليهما اغتاظوا وقالوا: هذه تقية، فقالوا: نختبره، فسألوه في مجلس خاص بهم؛ لأنهم يرون أنه إذا لم يكن مجلس خاص بهم فإنه يجب على الإمام أن يكذب ويقول غير الحق من باب التقية. فلما سألوه في مجلس خاص فيما تذكر بعض الروايات، فسألوه: ما تقول في أبي بكر وعمر؟ فقال فيهما خيراً وترضى عليهما ولم يسبهما؛ فانفضوا من حوله فقال: رفضتموني؛ فسموا الرافضة. فالرافضة زائدة على الشيعة، بقيت الشيعة هي الزيدية والمفضلة إلى يومنا هذا، سواء كانوا جماعات أو أفراداً، فمن فضل علياً على عثمان فهو شيعي مفضل، ومن فضل علياً على جميع الصحابة فهو شيعي زيدي، أو شيعي بمعنى شيعي خالص. ومن سب الصحابة ولم يترض عنهم، أو وقف الموقف المشين الذي تقول به الرافضة؛ فهو رافضي. إذاً فالرافضة هي فرقة خرجت عن مقتضى التشيع، فهي شيعة وزيادة، فيصح إدخالها ضمن عموم الشيعة وإفرادها بالرفض.

سبب النهي عن قول: لفظي بالقرآن مخلوق

سبب النهي عن قول: لفظي بالقرآن مخلوق Q هل النهي عن قول: لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق، من أجل أن اللفظ حادث أو من أجل المعنى الذي يترتب عليه هذا القول؟ A النهي يترتب على أن الجهمية تتحيل في قولها بخلق القرآن بأن تلفظ بمقولة: لفظي بالقرآن مخلوق؛ حيلة، وإلا فاللفظ إن قصد به حركات الإنسان التي خلقها الله عز وجل من خلال جوارحه؛ فلا شك أنها مخلوقة، ولذلك قال بهذا الإمام البخاري وحصل له ما حصل، وضيق عليه، واتهم؛ لأنه قصد معنى صحيحاً عنده، لكن الأئمة الآخرين احترزوا؛ لأن الجهمية يقصدون بذلك معنى آخر، وهو الحيلة على القول بخلق القرآن.

المراد بالكلمات التامات التي يستعاذ بها

المراد بالكلمات التامات التي يستعاذ بها Q هل المراد في الحديث: (أعوذ بكلمات الله التامات) القرآن؟ A تشمل كلمات الله في القرآن وغير القرآن، أي: كلماته الشرعية والكونية، فكلها كلمات الله عز وجل، كلمات الشرع وكلمات القدر.

الحديث القدسي ليس كالقرآن من كل وجه

الحديث القدسي ليس كالقرآن من كل وجه Q وهل الحديث القدسي كالقرآن في كونه من كلام الله المنزل غير المخلوق؟ A ليس من هذا الوجه على إطلاقه، فالحديث القدسي اختلف فيه، هل هو مما تكلم الله به، أو هو مما عبر به جبريل عما فهمه عن الله عز وجل؟ هذا محل خلاف ليس فيه قطع، والله أعلم.

شرح السنة [14]

شرح السنة [14] لقد تكفل الله تعالى بحفظ الدين وإظهاره إلى أن تقوم الساعة، فلا تزال طائفة متمسكة بالحق، يهديهم الله، ويهدي بهم الناس، ويحيي بهم السنن، ويقمع بهم البدع، وهم الذين تمسكوا بكتاب الله وسنة رسوله، وجعلوهما مصدرهما الوحيد في الأخذ والتلقي، وتركوا الرأي والقياس المخالف للدليل من الكتاب والسنة.

دور الهمج الرعاع في نشأة البدع وتثبيتها

دور الهمج الرعاع في نشأة البدع وتثبيتها قال أبو محمد الحسن بن علي البربهاري رحمه الله تعالى: [واعلم أنه لم تجئ بدعة قط إلا من الهمج الرعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، فمن كان هكذا فلا دين له، قال الله تبارك وتعالى: {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [الجاثية:17]، وقال: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [البقرة:213] وهم علماء السوء وأصحاب الطمع والبدع]. في هذه الفقرة أشار الشيخ الإمام رحمه الله إلى سمة هامة من سمات أهل الأهواء والبدع، وإلى خصلة ينبغي أن يتنبه لها في كل عصر، وهي أن غالب أتباع أصحاب البدع من العوام وأشباه العوام، الرعاع والذين ليس عندهم علم ولا فقه من الغوغاء، وهم الهمج الرعاع أتباع كل ناعق، وأهل الأهواء أول ما تبدأ الفتنة منهم باستجلاب وخداع هؤلاء. وإذا تأملنا رءوس البدع الذين بدءوا بالفتن على المسلمين، وخرجت عن فتنهم الفرق، نجدهم يقصدون الرعاع الهمج، الذين لا فقه لهم ولا عقل ولا رأي في الدين، ويستدرون عواطفهم بالشعارات. ومسألة الشعارات ليست جديدة، إذ يظن بعض الناس أن الشعارات من الأمور المحدثة، وليس كذلك، فكل أهل الأهواء أصحاب شعارات، وكلهم يستهوون الناس بما يستميلون به عواطف العامة، ويثيرون الفتنة من خلال هؤلاء الهمج، فأول من فعل ذلك -كما هو معروف- ابن سبأ اليهودي ابن السوداء، فإنه عجز عن أن يدخل على الأمة من خلال علمائها ولا من خلال عقلائها ولا من خلال أمرائها، فدخل عليها من خلال السفهاء من حدثاء الأسنان ومن العوام والعجم الذين لم يكتمل فقههم في الدين، ومن الرعاع والهمج، فصار يستثير عواطفهم، ويتكلم بما يهمهم، ويدعي أنه يتكلم عن مظالمهم، وأنه مشفق على أحوالهم، وأنه ناصح لهم. وهذا الصنف من الناس كل من رفع لهم هذه الشعارات تبعوه في كل زمان. ثم لما ظهرت الخوارج والشيعة رفعت هذه الرايات؛ لتستميل وتستدر عواطف الرعاع والهمج بهذه الأساليب؛ بإثارة العواطف باسم الغيرة على الدين باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثم جاءت بعدهم القدرية وفعلت ذلك، ثم جاءت بعدهم المعتزلة وفعلت ذلك، ولذلك نجد أن من أسباب وقوع الهمج والرعاع أن أهل الأهواء يتظاهرون أو يظهرون بالزهد والورع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحرص على مصالح الأمة، ولا بد أن يكون ذلك من أسباب استجلاب العوام والرعاع. وأصدق مثال لذلك: رءوس المعتزلة واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، فقد اشتهرا بالزهد والورع والحرص على مصالح الناس ودفع المظالم. فمن هنا يرفع كل صاحب بدعة شعار بدعته على هذه الأسس، ثم من خلالها يدخل على هؤلاء الهمج الرعاع بتثبيت بدعته، سواء كانت اعتقادية أو قولية أو عملية، والغالب أنها تجتمع. إذاً: فقول الشيخ صحيح، والواقع يشهد له أنه لم تجئ بدعة قط إلا من الهمج والرعاع، يعني: هم الذين يتبعونها، وإلا فقد يكون مخترع البدعة من الأذكياء العباقرة؛ لكن قصده أن البدعة لا تنتشر ولا تستفحل إلا من خلال انتشارها بين هذا الصنف الذين يميلون مع كل ريح، أتباع كل ناعق. قوله: (فمن كان هكذا فلا دين له)، بمعنى أنه لا يصمد على دين، بل يتلون بحسب الأحوال، وفعلاً فإن الرعاع ليس لهم دين، قد يكون عندهم شيء من الصلاح والتقوى لكن ليس لهم قرار، ليس لهم اتباع؛ لأنهم مقلدة، فمن هنا تتقلب بهم الأهواء من حيث يشعرون ولا يشعرون، فيتلونون من لون إلى لون ومن فئة إلى فئة ومن فرقة إلى فرقة. ولذلك إذا حدثت الفتن الكبار يكون للرعاع بسبب اتباعهم للناعقين قوة ضاغطة حتى على الراسخين في العلم والعقلاء والكبار وأهل الأمر والنهي، حيث يعجزون عن مقاومة اتجاه الرعاع؛ لأن أهل الأهواء يستغلون الرعاع، فمن هنا إذا حدثت الفتن قد تكون السنة في غربة بسبب أن الرعاع مع الناعقين، لا يتثبتون ولا يرجعون إلى أهل العلم، ولا إلى أهل المشورة والرأي، خاصة إذا وجدوا رايات وشعارات تحجبهم عن العلماء. ثم قال بعد ذكر الآية: (وهم علماء السوء)، أي: الذين اختلفوا هم علماء السوء وأصحاب الطمع والبدع.

بقاء الحق والسنة مهما انتشرت البدع وعمت الضلالة

بقاء الحق والسنة مهما انتشرت البدع وعمت الضلالة قال رحمه الله تعالى: [واعلم أنه لا يزال الناس في عصابة من أهل الحق والسنة يهديهم الله ويهدي بهم غيرهم، ويحيي بهم السنن، فهم الذين وصفهم الله تعالى مع قلتهم عند الاختلاف فقال: ((وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ))، فاستثناهم فقال: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال عصبة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون)]. هذا استدراك في مكانه، فإن على طالب العلم والعالم إذا ذكر أمر الفتن والأهواء والبدع أن يستدرك ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم وتواتر عنه؛ أنه لا تزال طائفة على الحق ظاهرين؛ لئلا يصاب الناس باليأس، ولذلك لا ينبغي للواعظ وطالب العلم والمتكلم في هذه الأمور أن يشعر الناس باليأس، ويبالغ في وصف الباطل وأهل الباطل وما هم عليه، بل لا بد أن يفتح للناس باب الأمل الذي وعد به الله عز وجل. وحينما نذكر البدع والأهواء والمفاسد وكثرتها وانتشارها، فلا بد أن نبين للناس أن الحق لا يضيع، وأن الله عز وجل تكفل بحفظ الدين، ووعد بظهور طائفة على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، وأن هذه الطائفة تتمثل بالعلماء الراسخين الذين هم على السنة بأتباعهم، وأنهم بهم القدوة والحجة، ولابد أن يكونوا أعلاماً يشار إليهم بالأصابع والبنان في كل مكان وزمان، وإن كثر الخبث. فمن هنا ندرك فداحة خطأ الذين يشحنون قلوب الناس باليأس. نعم، ذكر المفاسد وغيرها يستثير غيرة الناس، ويجعلهم يأتمرون بالمعروف ويتناهون عن المنكر، ويحذرهم من غوائل الفساد والجريمة والانحراف، لكن لا يكفي ذلك عن الاستدراك وفتح باب الأمل، وأن الله عز وجل وعد، وأن الوعد مشروط باتباع السنة والاعتصام بها، والاجتماع على الحق وعلى أهل الحق. فالمؤلف ذكر هذا الأمر بعد أن ذكر كثرة الهالكين وكثرة أصحاب الطمع والرعاع الذين يميلون مع كل ناعق، ولكن مع ذلك لا تزال في الناس طائفة من أهل الحق والسنة يكون بهم الحق ظاهراً وتقوم بهم الحجة، ويكونون دعاة بقدوتهم وبأعمالهم وبسلوكهم.

العالم من اتبع السنن وإن كان قليل العلم والكتب

العالم من اتبع السنن وإن كان قليل العلم والكتب قال رحمه الله تعالى: [واعلم -رحمك الله- أن العلم ليس بكثرة الرواية والكتب، إنما العالم من اتبع العلم والسنن، وإن كان قليل العلم والكتب، ومن خالف الكتاب والسنة فهو صاحب بدعة وإن كان كثير العلم والكتب]. يقصد بهذا أنه لا يشترط فيمن يكون على السنة أن يكون عالماً، لكن السنة لا تتبع إلا بعلم، وعلماء الأمة هم العلماء الراسخون، لكنه يقول: ليس هذا شرطاً في وصف الشخص بأنه على السنة، فالعامي المستمسك بالحق الذي يتبع الهدى هو من أهل السنة، ولو لم يكن صاحب رواية ولا صاحب كتب. وكذلك العالم الراسخ في العلم الذي ينفع الله به ليس من شرط علمه أن يؤلف ويكتب، ولا من شرط علمه أن يكثر من الرواية، فإذاً السنة تحصل على ثلاثة أصناف: الصنف الأول: هم العلماء الراسخون، أئمة الهدى، هؤلاء تقوم بهم الحجة، وهم الأعلام الذي ترجع إليهم الأمة، وهم أهل الحل والعقد، وهم الذين يرسمون المنهج في كل زمان للأمة في علمها وعقيدتها ومناهجها ومصالحها العامة. ثم الدرجة الثانية: من دونهم من طلاب العلم والدعاة والصالحين، ولا يلزم أن يكونوا من العلماء المتبحرين، فإنهم على السنة ما داموا على نهج أئمة الهدى قديماً وحديثاً. فسائر طلاب العلم الذين يطلبون العلم هم أهل السنة ولو لم يكثروا الرواية ولو لم يؤلفوا. ثم الدرجة الثالثة: العامة الذين يستقيمون على دين الله عز وجل فيقيمون الفرائض ويشهدون الجماعات، ويدينون للعلماء بالفضل والقدر والمرجعية، هؤلاء وإن كانوا عوام فهم من أهل السنة قطعاً. وعامة أهل السنة -أي أكثرهم- من هذا الصنف، فلا يشترط في المستمسك بالسنة أن يكون عالماً، لكن يتبع مناهج العلماء ويرجع إليهم، ويجتمع معهم فيما اجتمعوا عليه.

ذم القياس في أمور العقائد

ذم القياس في أمور العقائد قال رحمه الله تعالى: [واعلم -رحمك الله- أن من قال في دين الله برأيه وقياسه وتأوله من غير حجة من السنة والجماعة؛ فقد قال على الله ما لا يعلم، ومن قال على الله ما لا يعلم فهو من المتكلفين]. يشير بهذا إلى منهج أهل الأهواء، ومخالفة هذا المنهج للسنة مخالفة تضاد وتباين، وهو أن أهل الأهواء يقولون في دين الله برأيهم وقياسهم، ويقصد هنا القياس في أصول الدين لا القياس في الأحكام؛ لأن القياس في الأحكام مبني على الاجتهاد في أمر معلوم؛ إما باستنباط حكم من دليل، أو بقياس مسألة على أخرى لها دليل، أو ترجع إلى قاعدة شرعية تقوم عليها الأدلة، فهذا قياس عمل عليه المجتهدون من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة الفقه. فكان يلزم في كثير من المستجدات أن يقيسوا ما يستجد على ما له حكم سابق في دليل أو مستنبط من قاعدة، والممنوع الذي يذمه السلف -وذكره الشيخ هنا- هو القياس في أمر العقيدة، قياس صفات الله عز وجل وأسمائه وأفعاله وذاته على المخلوقين، وكذلك قياس أمور الغيب على عالم الشهادة. قياس قضايا القطعيات على الأمور غير القطعية، كل ذلك من القياس الفاسد، وهو منهج أهل الأهواء، ولذلك نجد أن أغلب أهل الأهواء ما أتوا في فساد عقائدهم إلا من باب القياس، حيث استعملوا القواعد الفلسفية والعقلانية فجعلوها وسيلة لقياس قضايا العقيدة على أوهام الناس وأفكارهم، فضلوا وأضلوا. إذاً: من قال في دين الله برأيه وقياسه فقد ضل. وكذلك التأويل من غير حجة من السنة والجماعة، فمن تأول، أي: عمل واجتهد، على غير حجة من قواعد أهل السنة؛ فقد أخطأ وقال على الله ما لم يعلم. وهذا يشمل أمور الاجتهاد، فمن اجتهد من غير حجة بينة، أو دليل واضح، أو رجوع إلى قاعدة، أو تبع فتاوى العلماء المعتبرين؛ فإن كلامه في الدين من القول على الله بغير علم. ومن سمات أهل الأهواء أنهم يتجرءون على القول على الله بغير علم، سواء في العقائد والأحكام، ومع ذلك فقد كثر ذلك في هذا العصر حتى عند من ينتسبون للسنة، وهذه ظاهرة يجب على طلاب العلم أن يعنوا بعلاجها بشكل واضح، وأن ينبهوا الناس لها. أقول: إنه في عصرنا الآن كثرت جرأة الناس -حتى أهل السنة من طلاب العلم ومن العوام وغيرهم- على القول على الله بغير علم، وصاروا يتناولون قضايا العقيدة والأحكام كما يتناولون سائر أمور الحياة، بل ربما يتردد أو يتورع أحدهم من أن يتكلم في قضايا العلوم المادية خوفاً من أن ينتقد، ولا يتورع عن الكلام في الدين والقول على الله بغير علم، والقول في الدين برأيه. وصار الكلام في الدين والقول على الله بغير علم فاكهة المجالس، حتى عند بعض الصالحين والمتدينين، وهذا مسلك خطير وظاهرة لم تكن معروفة، وهي توقع في الأهواء إن عاجلاً أو آجلاً. فينبغي التحذير منها والتنبيه لها، لأن من قال على الله ما لا يعلم فهو من المتكلفين؛ لأنه تكلف ما لا علم له به.

مصدر التلقي عند أهل السنة

مصدر التلقي عند أهل السنة قال رحمه الله تعالى: [والحق ما جاء من عند الله عز وجل، والسنة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجماعة ما اجتمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان]. هذه قواعد معروفة، فالحق ما جاء من عند الله عز وجل، يعني: الوحي الذي جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن هذا هو الحق، وهو الميزان وهو المرجع، فلا يجوز لمسلم أن يبحث عن الحق من غير الوحي. فهو بهذا يشير إلى مصدر التلقي، والمسلم يجب أن يتلقى دينه مما جاء عن الله عز وجل. ثم عرف السنة، وهذا من أجود التعاريف وأخصرها وأبينها أيضاً، أعني قوله: (والسنة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم). فالسنة ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو بيان أو نحو ذلك من السيرة وغيرها. ثم ذكر الجماعة أيضاً بأخصر معانيها، وهي ما اجتمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، وكذلك علي، لكنه قصد بذلك أن علياً رضي الله عنه ما جاء بجديد؛ لأن الخلافة ما استقرت في عهده بسبب القلاقل والأحداث، فأكثر ما أشار به علي رضي الله عنه لا يخرج عن سنة الثلاثة. وعلى هذا فإن هذا من تعاريف الجماعة، فالجماعة هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقتهم، ثم من تبعهم على نهجهم فهو من الجماعة. إذاً فللجماعة مفهومان معروفان: الجماعة بمعنى الجماعة الأولى، وهم الصحابة رضي الله عنهم، ومن جاء بعدهم فهو منهم بالتبع. والمفهوم الآخر: أن الجماعة هم من اجتمعوا على الحق في كل زمان ومكان، وأولى من اجتمع على الحق الصحابة، فيعرف بهم غيرهم، ولذلك حينما يقتصر بعض السلف في تعريف الجماعة على الصحابة لا يقصد بذلك حصر الجماعة، لكن يقصد بذلك أنهم هم الأنموذج، ومن جاء بعدهم إلى قيام الساعة تبع لهم، وإلا فما حصر أحد من السلف الجماعة بالصحابة إلا المعاصرين لهم، فلما جاءت الأجيال التالية لهم ممن كان من الجماعة دخلت في هذا التعريف بالتبع، وهذا تعريف أو اصطلاح ساد عند السلف الأوائل أن يعرفوا الشيء بأوضح معانيه، أو بأبين أمثلته، أو بأفضل درجاته. والدليل على هذا أنهم عرفوا علم العقيدة بالتوحيد، يقصدون بالتوحيد العقيدة كلها، بينما التوحيد هو توحيد الله عز وجل بأسمائه وصفاته وأفعاله، وتوحيده بالربوبية والإلهية والعبادة، وبقية الأمور سميت توحيد تبعاً؛ لأن توحيد الله هو أشرف علوم التوحيد وأعلاها وأجلها، فسمي العلم بأشرف أجزائه، فكذلك الجماعة أحياناً تحصر بالصحابة لا على سبيل الحصر الأنموذجي وأن من جاء بعدهم تبع لهم.

الاقتصار في محاجة البدع على السنة

الاقتصار في محاجة البدع على السنة قال رحمه الله تعالى: [ومن اقتصر على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه أصحابه والجماعة؛ فلج على أهل البدعة كلهم، واستراح بدنه، وسلم له دينه إن شاء الله؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ستفترق أمتي)، وبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناجي منها فقال: (ما أنا عليه وأصحابي)، فهذا هو الشفاء والبيان، والأمر الواضح والمنار المستنير، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والتعمق، وإياكم والتنطع، وعليكم بدينكم العتيق)]. هذا الحديث أثر عن ابن مسعود، لكن معانيه ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما النهي عن التعمق والتنطع فقد ورد في نصوص كثيرة صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما قوله: (وعليكم بدينكم العتيق) فهذا من كلام ابن مسعود. وابن مسعود وغيره من الصحابة كثيراً مما يروون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إما بالنص، أو يفهمون معاني كلام النبي صلى الله عليه وسلم فينطقون به حكمة أو قواعد. وفي هذه الفقرة أشار الشيخ إلى أن من وقف على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمعه الحجة، وفعلاً! فإن من وقف على سنة النبي صلى الله عليه وسلم في محاجة أهل البدع، فهذا هو المحق. وقوله: (فلج) بمعنى خصم وقويت حجته في الخصومة، وانتصر. ولذلك نجد السلف في محاوراتهم ومناظراتهم يقفون على هذا الأصل، كما فعل الإمام أحمد في مناظرته للجهمية أمام الخلفاء، فإنه ناظرهم بالكتاب والسنة، حتى كان يجيب بالآية ويجيب بالحديث، مما استثار حفيظة خصومه، وجعلهم يغضبون، وهو لا يقصد استفزازهم، لكن قصدي أنه أوقفهم على النص، وهذا هو المنهج السليم، فإن الآيات اشتملت على الدلالة الشرعية والدلالة العقلية ضد البدع والأهواء والشرك. فمن هنا ينبغي لطالب العلم أن يتحرى دلالات القرآن وحجج القرآن وحججه وبراهينه في الرد على المخالفين، فإنها قواعد، فمن اقتصر على السنة في استدلاله وفي عمله وفي قدوته وفي انتسابه إلى الحق، وفي محاجته وجداله، وفي علمه وتعليمه، خصم أهل الأهواء والبدع؛ لأنه جاء بالحق الخالص. قوله: (فلج على أهل البدع كلهم واستراح بدنه وسلم له دينه إن شاء الله؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ستفترق)) بمعنى أنه بين أن الافتراق سيكون، وأن الذين هم على الحق سيفلجون ويغلبون وينتصرون، وهم الجماعة، وهم من كان على ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته. إذاً فالسنة هي الشفاء وهي البيان وهي الأمر الواضح وهي المنار المستنير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماها: الواضحة، وقال ابن مسعود في الأثر: (إياكم والتعمق)، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التنطع في الدين والتعمق فيه؛ لأن من التنطع الخروج عن مقتضى السنة، سواء في الاستدلال أو في منهج التلقي أو في المحاجة والجدال، أو في العمل والتطبيق، فكل من خرج عن السنة فهو متعمق خارج عن مقتضى الحق، والله أعلم.

شرح السنة [15]

شرح السنة [15] لقد مات عثمان رضي الله عنه والدين واحد والأمة مجتمعة، ثم حدثت الفرقة والاختلاف بعد موته، فظهرت الفتن، وتقاتلت الأمة، وتجارت بها الأهواء، وظهرت البدع والمحدثات، والنجاة من هذا كله هو باتباع الكتاب والسنة على ما كان عليه الصدر الأول من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم.

الدين العتيق ما كان قبل الفرقة والاختلاف

الدين العتيق ما كان قبل الفرقة والاختلاف قال أبو محمد بن الحسن بن علي البربهاري رحمه الله تعالى: [واعلم أن الدين العتيق ما كان من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكان قتله أول الفرقة وأول الاختلاف، فتحاربت الأمة وتفرقت، واتبعت الطمع والأهواء والميل إلى الدنيا، فليس لأحد رخصة في شيء أحدثه مما لم يكن عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يكون رجل يدعو إلى شيء أحدثه من قبله من أهل البدع فهو كمن أحدثه، فمن زعم ذلك أو قال به فقد رد السنة وخالف الحق والجماعة، وأباح البدع، وهو أضر على هذه الأمة من إبليس].

اتفاق الأمة إلى مقتل عثمان

اتفاق الأمة إلى مقتل عثمان في هذا المقطع ذكر بعض الأصول: أولها: تقرير أن الدين ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وسماه العتيق بمعنى الأصل الأول الذي تركنا عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقد كمل الدين، فالعتيق هنا تعني المنسوب إلى الزمن الأول أي: إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو زمان قديم بالنسبة إلى عصر المؤلف وما بعده. ثم ذكر أصلاً آخر، وهو أن الأمة كانت متفقة، وإجماعها معتبر، وأصولها واحدة، وجماعتها واحدة إلى مقتل عثمان رضي الله عنه، فبعد مقتل عثمان لم يستتب الأمر لـ علي رضي الله عنه، ولم تتم الجماعة على الوجه الكامل، خاصة فيما يتعلق بالشغب الذي حدث من السبئية الخارجين على عثمان، والذي انبثق عن الافتراق الحقيقي افتراق الخوارج وافتراق الشيعة، فعلى هذا لا اعتبار للخلاف بعد هذه الفتنة، أي لخلاف السنة، فقد انتقضت قاعدة أن المسلمين كانوا كلهم على سمت واحد وهدي واحد في الدين، وفي الإمامة، والخلافة، وفي سائر الأمور، والجماعة كانت جماعة واحدة إلى أن حدث هذا الحدث العظيم، وانبثق عنه خروج الفرق الأولى التي خرجت عن المسلمين. إذاً: كان قتل عثمان رضي الله عنه بداية شرارة الفرقة، وإن كانت لم تحدث إلا بعد قتله بثلاث أو أربع سنوات. وأول افتراق ظاهر أعلن سنة (37هـ)، لكن هذا من حيث الإعلان، أما من حيث الوقوع فإن مجرد وجود الاحتشاد من قبل أهل الفتنة كان بداية ظهور الافتراق، أو بداية تقرير الافتراق وإن لم يظهر.

أهل الأهواء يستميلون الغوغاء بالدنيا

أهل الأهواء يستميلون الغوغاء بالدنيا وقوله: (فتحاربت الأمة)، يقصد: طوائف من الأمة، وذلك أن الذين خرجوا على الأمة أوقعوا الأمة في الحرج، فحدثت الحرب بين الفرقاء المختلفين. (وتفرقت) بمعنى أنها ظهرت الفرق التي فارقت الجماعة وإن كانت قليلة ومغمورة إلا أنها حدثت بها الفرقة، (واتبعت الطمع والأهواء)، أي طوائف من المنتسبين لهذه الأمة استهوتهم الأطماع والأهواء فكانوا ضمن من خرجوا على الجماعة فيما بعد، (والميل إلى الدنيا)؛ لأن البواعث على الفتنة التي أثارها ابن سبأ والزنادقة، واستمالوا فيها الغوغاء والرعاع أغلبها بواعث مادية، كانوا يقولون -زعماً- بأن عثمان رضي الله عنه لما فتحت الدنيا عليه أغدق على الصحابة حتى قعدوا عن الجهاد، وجلسوا في الضيع والبساتين، وتركوا الأمة، وهذه شبهات انطلت على ضعاف العقول وضعاف العلم، وعلى حدثاء الأسنان وسفهاء الأحلام. وقالوا أيضاً بأن عثمان رضي الله عنه ولى أقاربه، وأنه لم يعدل في القسم، وأنه حابى أناساً وترك أناساً إلخ. إذاً: المنشأ والمطمع والباعث لتحريك العواطف هو أمور الدنيا، والكلام في الأثرة، وهذه السمة هي سمة أهل الأهواء في كل زمان، أول ما يبدءون في دغدغة عواطف العوام وأشباه العوام من الرعاع والدهماء والنساء والأحداث بهذه الأمور، ويبطنونها بدعاوى الدين، لابد أن يظهروا أن ما حدث من مظالم ضد العدل وضد ما أمر الله به، ومجاوزة لدين الله، ومجاوزة للشرع، في حين أنهم يسيلون لعاب هؤلاء بالدنيا؛ ولذلك أكد النبي صلى الله عليه وسلم على الصبر على الظلم والصبر على الأثرة في أحاديث كثيرة، ولا شك أن هذا من تشريع الله عز وجل للأمة؛ فإن ذلك لعلم الله عز وجل بأن هذه الأمور من بواعث الفتن عند الناس، وأنه أكثر ما يفرق بين المسلمين ويفتت جماعتهم، وهذا ما حدث في عهد عثمان كما تعلمون، وكما قلت هذه سمة غالبة في سائر أهل الأهواء في كل زمان ومكان. قال: (فليس لأحد رخصة في شيء أحدثه ما لم يكن عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم)، هذه أيضاً قاعدة ترجع إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد). (أو يكون رجل يدعو إلى شيء أحدثه من قبله من أهل البدع فهو كمن أحدثه)، بمعنى أن داعية البدعة كمؤسسها وقائلها الأول؛ لأنها في سبل الغواية وسبل الشيطان. (فمن زعم ذلك أو قال به فقد رد السنة وخالف الحق والجماعة، وأباح البدع، وهو أضر على هذه الأمة من إبليس)، من وجه وليس من كل الوجوه؛ لأن غالب أهل الأهواء تلبيسهم على الناس بحكم أنهم يظهرون بمظاهر التقوى والصلاح. أما إبليس فمعلوم شره، ومعلوم أنه شر من كل وجه.

ما لم يكن عليه عمل الصحابة فلا خير فيه

ما لم يكن عليه عمل الصحابة فلا خير فيه قال رحمه الله تعالى: [ومن عرف ما ترك أصحاب البدع من السنة وما فارقوا فيه فتمسك به؛ فهو صاحب سنة وصاحب جماعة، وحقيق أن يتبع، وأن يعان وأن يحفظ، وهو ممن أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم]. أيضاً هذا أصل من الأصول، وهو أنه لا خير فيما لم يكن عمل به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ما تركوه من المحدثات والبدع فالأولى والأجدى بغيرهم أن يتركه. ولأن أصول البدع ظهرت لها مظاهر في عهد الصحابة رضي الله عنهم فنفوها وأبوها، وردوا على أصحابها ونكَّلوا بهم. وجميع البدع التي حدثت فيما بعد حدث في عهد الصحابة نماذج منها، وإن كانت نماذج صغيرة، لكنها تمثل هذه القاعدة، وهو أن الصحابة نفوا البدع، وميزوها بسرعة وبحذر شديد، فلذلك حدث في عهد الصحابة القول بالقدر، لكنهم نفوه وردوه وعنفوا أصحابه، وحدث في عهد الصحابة نزعة التنطع والتشدد في الدين والغلو كما حدث من الخوارج، وحدث في عهد الصحابة الغلو في الأشخاص، وهو باب واسع من أبواب الفتنة، حدث من السبئية الرافضة في عهد الصحابة، فأبوا ذلك ونفوه، ووقفوا منه الموقف المعلوم. ثم حدث أيضاً في عهد الصحابة الكلام في الدين والمراء والجدل الذي هو أصل الجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم، فنفاه الصحابة وردوه. حدث في عهد الصحابة بذور التصوف والبدع الظاهرة بذور البدع المقابرية والبدع العملية كما يسميها الناس، فقد حدثت في عهد الصحابة كما حصل في عهد ابن مسعود وأبي موسى الأشعري في العراق التسبيح بالحصى، وحدث الذكر الجماعي، والعزلة عن جماعة المسلمين، واتخاذ مساجد خاصة دون بقية المسلمين، والظهور بمظهر في العبادة فيه تنطع مثل الغشي والصعق والصياح والصراخ عند سماع القرآن، وعند سماع القصائد الزهدية، كل هذا حدث في عهد الصحابة فنفوه بشدة. فإذاً قد يقول قائل: إن أصول ما وجدت في عهد الصحابة، ولم يكن لهم فيها موقف، وهذا خطأ. أما الأصول فأظن أن أصول البدع الأولى أو أصول الفرق الكبرى كلها حدث لها نماذج في عهد الصحابة؛ لأنهم عايشوا أمماً مختلفة في ديانتها ومللها ونحلها، وكل أمة حاولت عن جهل أو عن تجاهل أو عن خبث من بعض الأشخاص أن تظهر ديانتها بين المسلمين، فصارت هذه المظاهر في عهد الصحابة فنفوها.

أصول البدع أربعة أبواب

أصول البدع أربعة أبواب قال رحمه الله تعالى: [واعلموا -رحمكم الله- أن أصول البدع أربعة أبواب انشعب من هذه الأربعة اثنان وسبعون هوى، ثم يصير كل واحد من البدعة يتشعب، حتى تصير كلها إلى ألفين وثمانمائة وكلها ضلالة، وكلها في النار إلا واحدة، وهو من آمن بما في هذا الكتاب، واعتقده من غير ريبة في قلبه ولا شكوك، فهو صاحب سنة، وهو الناجي إن شاء الله]. هذا الكلام امتداد للفترة السابقة؛ لأنه عندما ذكر أن مما يميز صاحب السنة: تركه لما عليه أصحاب البدع، فذكر بعد ذلك أن أصول البدع أربعة، يعني: أن الأصول الكبرى التي انبثقت عنها البدع الأولى أربعة أبواب، ولم يذكرها على التفصيل لكنه أشار إليها إشارة، ويبدو لي أنه يقصد بذلك: أولاً: الغلو في الأشخاص الذي هو التشيع. ثانياً: الغلو في الدين والعبادة الذي هو مذهب الخوارج. ثالثاً: القدر الذي هو مذهب القدرية. رابعاً: الخلل في مسألة الإيمان الذي هو مذهب المرجئة. هذه الأصول الأربعة هي أصول البدع الأولى. الشيعة انبثقت عنها فرق كبيرة وأصول كبيرة جداًَ إلى يومنا هذا: الرافضة الزيدية الشيعة المفضلة الشيعة المفترية الإسماعيلية وفرق الباطنية ومن سلك سبيلها، كل هذه انبثقت عن التشيع من الباب الأول وهو باب الغلو في الأشخاص وباب الشيعة. ثم بعد ذلك التنطع في الدين والتشدد، وعبادة الله على جهل، هذا من أصول الخوارج وعليه كثير من الفرق أيضاً؛ لأن هذه الأصول ليست خاصة بالخوارج، فنزعة الخوارج موجودة في غالب الفرق، لكنها تختلف في التعبير عنها وربما يأخذون أصلاً ويتركون أصولاً. وكذلك أصول القدرية تعتبر من أعظم أبواب الابتداع؛ لأن الكلام في القدر فتق الكلام في جميع قضايا الاعتقاد، فأصول الجهمية والمعتزلة أول ما بدأت في الحديث عن القدر، فالقدرية تجرءوا على الكلام في أقدار الله عز وجل وفي تقديره للعباد. وتجرءوا على الكلام في علم الله وكتابته ومشيئته وخلقه، وتجرءوا بأن يعارضوا النصوص الشرعية بعقولهم وأهوائهم؛ فجرهم ذلك إلى الكلام في أسماء الله وصفاته وأفعاله. فأصول القدرية تعتبر هي المرتكزات الأولى لظهور المعتزلة والجهمية والفرق الكلامية التي تلت، فيعتبر هذا الباب الثالث. والباب الرابع: الإرجاء، وهو ما يتعلق بالحديث عن الإيمان، سواء ما يتعلق بتعريف الإيمان حقيقة الإيمان دخول الأعمال في مسمى الإيمان زيادة الإيمان ونقصانه الاستثناء في الإيمان. أيضاً لوازم ذلك مما يسمى بالأسماء والأحكام، والحكم بالكفر والإسلام والإيمان والفسق والظلم والشرك، كل ذلك انبثق عن قضايا الإيمان والتي أخلت بها المرجئة، فظهرت لها وتشعبت لها مقالات، وظهرت لها ردود فعل من المذهب المقابل وهو مذهب القدرية. أما ما ذكره الشيخ من أن هذه الثنتان وسبعون فهو من باب الظن، وليس من باب اليقين، وهو يشير بذلك إلى الفرق الثنتين والسبعين التي فارقت الجماعة، فهو يقول: إن هذه الفرق الثنتين والسبعين انشعبت من الأربع. قال: (ثم يصير كل واحد من البدعة ينشعب حتى تصير إلى ألفين وثمانمائة قالة)، كأنه وزع المقالات على هذه، وهذا أيضاً من باب التقريب والظن، لا من باب الجزم، فإنا لا نستطيع أن نجزم أن هذا العدد منضبط، قد يكون الأمر أكثر أو أقل، لكن كما قال: (كلها ضلالة، وكلها في النار إلا واحدة)، أي: الفرق التي خرجت عن الجماعة كلها متوعدة بالنار، فهم من أهل الوعيد إلا واحدة، وهم أهل السنة والجماعة. أنا ذكرت الشيعة والخوارج والقدرية والمرجئة؛ بناء على تقسيم الشيخ، وذكرت أن القدرية هي أصل ظهور علم الكلام. وظهور علم الكلام نتجت عنه المعتزلة والجهمية، ثم الفرق الكلامية التي تلت. حتى المشبهة في الحقيقة هي فرق كلامية، وليست فرقاً مستقلة، بل فرق كلامية عندها ردود فعل ضد الجهمية والمعتزلة، وكذلك الكرامية، وكذلك الأشاعرة والماتريدية والكلابية، كل هذه امتداد للنزعة الكلامية التي بدأت شرارتها في القدر؛ ولذلك كل فرق أهل الكلام عندها خلل في عقيدة القدر، فتشترك في هذا القاسم المشترك، يقل أو يكثر.

الوقوف عند السنن وعدم التجاوز منجاة من البدع

الوقوف عند السنن وعدم التجاوز منجاة من البدع قال رحمه الله تعالى: [واعلم -رحمك الله- لو أن الناس وقفوا عند محدثات الأمور ولم يتجاوزوها بشيء، ولم يولدوا كلاماً مما لم يجئ فيه أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه؛ لم تكن بدعة]. أي: لو أن الناس وقفوا على التزام شرع الله عز وجل، وحذروا المحدثات، بحيث لم يفعلوها ولم يصدقوها ولم يتبعوا أهلها، ولم يتجاوزوها بشيء، ولم يولدوا كلاماً مما لم يجئ فيه أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن أصحابه لم تكن بدعة، بمعنى أن الناس لو تعلموا الدين وأخذوا به لم تكن بدعة؛ لأن هذا الكلام الذي قاله الشيخ لا يمكن أن يتأتى بمجرد الدعوى، أو بمجرد دعوى العلم اللدني، أو دعوى الحصانة كما يقول بعض الجهلة الآن، يقول: أجيالنا محصنة، نحن بيئة صالحة وأجيالنا نشأت على الفطرة؛ فنحن في مأمن من الأهواء والبدع لأن أجيالنا محصنة من العقائد الفاسدة. أقول: هذا تهور وتفريط وجهل مطبق! فإنه ليس هناك من المسلمين من يعتبر محصناً إلا إذا بذل الأسباب، ونحن إذا لم نستمر على النهج الذي كنا عليه، وورثناه عن السلف الصالح، فأجيالنا معرضة للأهواء، وقد بدأت قرون الأهواء تظهر بين أجيالنا بعنف، فلا ينبغي أن نتساهل في الأمر، بل لا بد أن نقف عند الحد الذي أوقفنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين ونحذر المحدثات، وذلك لا يتم إلا بتربية أجيال المسلمين على النهج السليم من حيث تلقين العقيدة تلقيناً جيداً وحازماً، ومن حيث تلقين أصول الإسلام وآدابه ومنهج السلف في العلم والعمل والتعاون، ومن حيث الأخذ بأصول التلقي على نهج سليم، ومن الأخذ بأصول العلم الشرعي على نهج سليم. ما لم نلقن أجيالنا بهذا الأسلوب السليم، ونربيهم على العقيدة الصحيحة، ونحذرهم مما ينافيها على جهة الإجمال؛ فإنا معرضون للفتن قطعاً، لأنه ليس بيننا وبين الله عز وجل إلا أن نتمسك بدينه، وما لم نتمسك فالعصمة منتفية. قال رحمه الله تعالى: [واعلم -رحمك الله! - أنه ليس بين العبد وبين أن يكون مؤمناً حتى يصير كافراً إلا أن يجحد شيئاً مما أنزله الله تعالى، أو يزيد في كلام الله أو ينقص، أو ينكر شيئاً مما قال الله عز وجل، أو شيئاً مما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتق الله رحمك الله! وانظر لنفسك، وإياك والغلو في الدين؛ فإنه ليس من طريق الحق في شيء]. هنا أشار الشيخ أيضاً إلى نواقض الإسلام، وأشار أيضاً إلى أمر مهم، وهو أنه ليس بين العبد وبين الكفر إلا أمور قد يستصغرها أغلب الناس، وهي أحياناً أمور قلبية أو لسانية أو عملية غير ظاهرة، وأن الكفر لا يعني أن الإنسان يمر بمراحل وأحوال وتقلبات ظاهرة، أو يمر بأشياء لا بد أن تترتب بعضها على بعض! لا، فأحياناً يحدث الكفر في لحظة، بحالة القلب، أو بكلمة من اللسان، أو بعمل مكفر، وهذا أمر خطير ينبغي أن نتنبه له، بعض الناس يظن أن الكفر أمر صعب، وأنه بعيد عن المسلم إلا بأحوال وإجراءات قد لا يقع فيها المسلم إلا عمداً، بينما الصحيح أنه قد يقع في قلبه أشياء توقعه في الكفر، لكن الحكم بكفره هو الذي يحتاج إلى شيء من التأني، أما الوقوع في الكفر فإن المسلم يخشى عليه ما لم يتعاهد نفسه بفهم العقيدة الصحيحة، وبالاستعانة بالله عز وجل والتوكل عليه والخضوع له، وبالحذر من فلتات اللسان وخطرات القلب التي ربما تخرجه من الدين، فليكن المسلم حذراً من أن يحدث له ما يخرجه من الدين، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بقوله: (يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك)، وأشار إلى أن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء. فالمسألة خطيرة جداً، فما بين الكفر والإيمان إلا شعرة، ذكر الشيخ نماذج منها قال: (ما بين العبد وما بين أن يصير كافراً إلا أن يجحد شيئاً مما أنزله الله تعالى). الجحد أيضاً أحياناً يحدث من الإنسان وهو غافل، لكن لا يحكم بكفره، كمن يسمع نصاً من النصوص الشرعية يظن أنه ليس بصحيح فيجحده، فهذا قال الكفر لكن قد لا يكفر لأنه جاهل، وأعظم من هذا من يسمع بأمر من أمور الدين فينكره؛ ظناً منه أنه ليس من أمور الدين، وهو من أصول الدين ومن قطعيات الدين، فقد يجحده ظناً منه أنه ليس من الدين. أما إذا جحد لهواه أو استناداً على مقاييس ومصادر تلق من غير الدين؛ فإنه يكفر كفراً صريحاً. وكذلك قال: (أو يزيد في كلام الله عز وجل)، هذا أيضاً من بواعث الكفر، وهو أن يدخل في الدين ما ليس منه، سواء زاد آية أو زاد حديثاً، أو لم يزد آية ولا حديثاً لكنه جعل شيئاً من البدع من الدين وليس من الدين. (أو ينقص) أي: ادعاء أن هناك أموراً من أمور الدين الأصلية يمكن أن يستغنى عنها، أو لا نحتاجها، أو ليست من الدين؛ فهذا أيضاً من النقص، وربما يقع به الإنسان في الكفر، أما الإنكار فهو يرجع إلى الجحود، لكن الجحود أشد من الإنكار؛ لأن الإنكار يدخل فيه الإنكار باللسان، بينما الجحود جحود اللسان والقلب، أو جحود القلب، فهو أشد من الإنكار.

كل ما ورد في كتاب شرح السنة للبربهاري مأخوذ عن الكتاب والسنة أو عن السلف أو عن أحدهم

كل ما ورد في كتاب شرح السنة للبربهاري مأخوذ عن الكتاب والسنة أو عن السلف أو عن أحدهم قال رحمه الله تعالى: [وجميع ما وصفت لك في هذا الكتاب فهو عن الله تعالى وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه وعن التابعين، وعن القرن الثالث إلى القرن الرابع؛ فاتق الله يا عبد الله! وعليك بالتصديق والتسليم والتفويض والرضا لما في هذا الكتاب، ولا تكتم هذا الكتاب أحداً من أهل القبلة؛ فعسى يرد الله به حيراناً عن حيرته، أو صاحب بدعة عن بدعته، أو ضالاً عن ضلالته فينجو به، فاتق الله! وعليك بالأمر الأول العتيق، وهو ما وصفت لك في هذا الكتاب، فرحم الله عبداً ورحم والديه قرأ هذا الكتاب وبثه وعمل به، ودعا إليه واحتج به؛ فإنه دين الله ودين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه من استحل شيئاً خلاف ما في هذا الكتاب فإنه ليس يدين الله بدين وقد رده كله، كما لو أن عبداً آمن بجميع ما قال الله تبارك وتعالى إلا أنه شك في حرف؛ فقد رد جميع ما قال الله تعالى، وهو كافر. كما أن شهادة أن لا إله إلا الله لا تقبل من صاحبها إلا بصدق النية وإخلاص اليقين، كذلك لا يقبل الله شيئاً في ترك بعض، ومن ترك من السنة شيئاً فقد ترك السنة كلها؛ فعليك بالقبول، ودع المحك واللجاجة؛ فإنه ليس من دين الله في شيء، وزمانك خاصة زمان سوء فاتق الله!]. هذا الكلام فيه شيء من التزكية والمبالغة لما كتبه الشيخ عن نفسه، لكن يظهر لي أنه يقصد مجمل ما ورد في الكتاب؛ لأنه لا يتصور أن مثل البربهاري يعتبر كل ما قاله من القطعيات، ومن هنا يكون هذا الوعيد على من خالف أو التأكيد على التمسك به، وقوله: (وجميع ما وصفت لك في هذا الكتاب فهو عن الله تعالى وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن أصحابه أو عن التابعين)، يقصد هنا التنويع، أنه إما أن يكون عن الله تعالى، أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة أو عن التابعين، أو عن القرن الثالث إلى القرن الرابع، وهو قد عاش في القرنين الثالث والرابع. فيبدو لي أنه إذا عبرنا بـ (أو) فالكلام صحيح، أما أن ينسب جميع ما قاله عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم ففي هذا نظر؛ لأن هناك أشياء اجتهد فيها رحمه الله ليست ثابتة عن الله ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي محل نظر عند أئمة العلم، لكن السياق يتحمل أن يقصد التنويع، أن كل ما ذكره إما عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابة، أو عن التابعين، أو عن القرون الثلاثة المفضلة، وهذا صحيح، فكل ما ذكره مما قاله أئمة السلف أو بعضهم أو أحدهم، أما الباقي فهو أشبه بالموعظة والوصية، وهذا لا حرج عليه فيه حينما أمر بتوزيع هذا الكتاب ونشره والاهتمام به؛ لأنه يمثل خلاصة أصول أهل السنة والجماعة، وأظن -والله أعلم- أنه في وقته يندر أن يوجد مثل هذا الكتاب الجامع الموجز. صحيح أن أئمة السلف في وقته كتبوا مطولات في العقائد، لكنها كانت إما ضمن كتب الحديث، أو كانت مفردة في العقائد لكنها طويلة ومسندة تصل إلى مجلدات، أو أنها في بعض قضايا العقيدة: إما في الإيمان أو في أفعال العباد، أو في قضية بدعة خلق القرآن، أو في مسائل القدر وغيرها. فيندر في وقت المؤلف رحمه الله أن يوجد كتاب موجز يذكر أصول السلف على هذا النحو بجميع ما يرى أنه من الأصول، فهو من الكتب المبكرة جداً التي على هذا النحو، فيبدو لي أنه أوصى بالكتاب لأنه على هذا النحو الذي ذكرته لك، وإلا فهو يعلم أن للأئمة كتباً ومؤلفات فيها أصول الدين، وفيها ذكر هذه الأصول أو بعض هذه الأصول. ثم ضمن هذه الوصية بعض الأشياء، مثل: (عليك بالأمر الأول العتيق) هذا سبق الكلام عنه. وكذلك قوله: (فإنه من استحل شيئاً خلاف ما في هذا الكتاب فإنه ليس يدين الله بدين)، يقصد قضايا أصول الدين التي ذكرها، ما أظن أنه يقصد جميع ما ورد فيه؛ لأن بعض ما ورد فيه جزئيات وفرعيات، لكن يقصد جملة الأصول، فلا شك أن من استحل شيئاً من هذه الأصول التي اتفق عليها السلف فإنه ليس يدين الله بدين. وقوله: (وقد رده كله) لأن من رد شيئاً من أصول الدين فقد رد الباقي. ثم ذكر ما يؤيد ذلك، وذكر أيضاً مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، (كما أن شهادة أن لا إله إلا الله لا تقبل من صاحبها إلا بصدق النية وإخلاص اليقين، ولا يقبل الله شيئاً في ترك بعض هذه الأصول، ومن ترك من السنة شيئاً فقد ترك السنة كلها)، يعني: من الأصول القطعيات، لا يقصد السنة المفهومة عند الفقهاء التي هي بمعنى المستحبات وما دون الواجب ونحو ذلك، إنما يقصد بالسنة العقيدة، كما هو معروف عند السلف. قوله: (فعليك بالقبول، ودع عنك المحك)، أي: المماحكة، وهي المغالطة والمراء والجدال، وهي أيضاً ترادف اللجاج، (فإنه ليس من دين الله في شيء). (وزمانك): يقصد الزمان الذي كان فيه بداية القرن الرابع الهجري، وفعلاً تميز ذاك القرن برواج البدع وعنفها على السنة، وشدة وطأتها على المسلمين؛ بسبب وجود دويلات الرافضة، ودويلات الفلاسفة، الدويلات التي نشرت البدع، ومع ذلك كان زمانه من أفضل الأزمنة بعد القرون الثلاثة الفاضلة، والله أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

حصر الكفر في الاعتقاد فقط

حصر الكفر في الاعتقاد فقط Q هل القول بأن الكفر لا يكون إلا باعتقاد من أقوال أهل السنة والجماعة؟ A القول بأن الكفر لا يكون إلا بالاعتقاد -أي: بالأمور الاعتقادية- قول لبعض أهل السنة، لكنه قول مرجوح، ويخالف قول الجمهور، وقد ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، وذكره عن أئمة كبار من أئمة الدين المعدودين من أئمة السنة. لكنه كلام غير مفسر؛ لأنهم قالوا: إن الكفر الاعتقادي لا بد أن ينبثق عنه عمل، فكأنهم جعلوا الكفر العملي من لوازم الكفر الاعتقادي. فعند التفصيل نجد أنهم يتفقون على أن الكفر ليس الكفر الاعتقادي فقط، بل وفيه العملي، لكنهم يقولون بأنه لا يمكن أن يكون هناك إخلال عملي إلا وهو ناتج عن فساد الاعتقاد، وإن اختل شيء من ذلك فهذا من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا الله عز وجل، لكن نحن نحكم بقرائن الأحوال. فالشاهد أن هناك من أئمة السلف من قال بأن الكفر لا يكون إلا بالاعتقاد، لكنه كما قلت كلام مجمل يفسره قول من فصلوا، ومع ذلك فهذا القول مرجوح، والذي عليه جمهور السلف أن الكفر يكون بالاعتقاد فقط، ويكون بالعمل فقط، ويكون بهما سواء؛ لأن الإعراض عن دين الله بالكلية كفر وإن لم يصحبه اعتقاد والشرك بالله عز وجل كفر ولو لم يصحبه اعتقاد؛ لأن مسألة الاعتقاد مسألة ليست حدية، أي: ليست ظاهرة، بل مسألة مجملة مبهمة، قد لا يفهمها كثير من الناس، فإن بعض الناس لا يستصحب الاعتقاد في الأعمال الشركية على الوجه الذي نتصوره نحن، قد يعمل الشرك بالتقليد، لكن مع ذلك يعد مشركاً. فأقول: إن هناك من الأعمال ما يقتضي الخروج من الملة ولو لم يصحبه اعتقاد في الظاهر لنا. وكذلك الاعتقاد قد يكون مخرجاً من الملة -وهذا متفق عليه- وإن لم ينبثق عنه عمل، وقد يجتمع العمل الظاهر والعمل القلبي في الكفريات، وهذا هو الغالب.

التكفير بالجهل

التكفير بالجهل Q ما حكم التكفير بالجهل؟ A الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في رسائله وفي كتبه كفر الجاهلين أحياناً، ونفى عنهم الكفر أحياناً، وهذا صحيح وهذا صحيح. إذا قرأت ما قاله؛ فإنه لا يكفر الجاهل إذا وقع في الكفر عرضاً، هذا ظاهر ما تأملته من كلامه وكلام أئمة الدعوة، يرون أن الجاهل الذي يقع في الكفر عرضاً لا يكفر حتى نتثبت منه، لكن الجاهل الذي يقع في الكفر أصالة بالتبع، بمعنى أنه يمارس الكفر دائماً وهو ديدنه، كمن يطوف بالقبر يومياً أو كل أسبوع أو كل سنة، ويستمر على هذا، أو يسجد للصنم دائماً وإن ادعى الإسلام، لأنه يعمل الكفر بشكل دائم، والأصل فيه الكفر. أما الكفر العارض فهو ينفى عن الجاهل حتى تتبين حاله، فالمسلم الذي الأصل فيه أنه على السنة، فإذا وقع في كفر يحمل على الجهل فنتثبت من حاله. أما من كان الأصل فيه البدعة المغلظة والكفرية وهي ديدنه؛ فهذا الأصل فيه الكفر حتى يتبين لنا ما يعارض ذلك. هذا الظاهر من كلام الشيخ.

الطحاوي ممن يقول: لا كفر إلا باعتقاد

الطحاوي ممن يقول: لا كفر إلا باعتقاد Q الطحاوي هل هو ممن يقول بالقول الأول: لا كفر إلا باعتقاد؟ A هذا الظاهر، الطحاوي رحمه الله مال في هذه المسألة إلى قول المرجئة في قوله: إنه لا كفر إلا باستحلال، أو بالاعتقاد، فقوله أميل إلى قول المرجئة، لكن في عباراته اضطراب، فهو عندما أجمل ذكر قول المرجئة أنه لا يكفر أحد بذنب ما لم يستحله، وهذا غير صحيح، فهذه ليست عبارة السلف، فيبدو لي -والله أعلم- أنه أقرب إلى قول المرجئة، لكن إذا نظرنا إلى عبارته عند التفصيل نجد أنه يحاول أحياناً أن يقول بقول أهل السنة والجماعة، ولا يستبعد أنه في هذه المسألة على مذهب شيوخه من مرجئة الفقهاء، وإن كان رحمه الله من أئمة السنة في سائر أصول الدين.

أحسن الكتب التي ترد على الفكر الإرجائي

أحسن الكتب التي ترد على الفكر الإرجائي Q بدأ ينتشر في الآونة الأخيرة وعلى شاشات الفضائيات الفكر الإرجائي، ونريد مرجعاً شاملاً عن هذا الفكر وهذا الاعتقاد A لقد كتبت عدة كتب في الإرجاء والمرجئة، وهي متوفِّرة في الأسواق، لكن من أراد التأصيل العلمي لمثل مستويات الذين يحضرون الدروس الشرعية فكتاب شيخ الإسلام ابن تيمية مؤصل، وذكر هذه الأمور تفصيلاً. وعلى سبيل الإيجاز، من الكتب القديمة: أحسن من ناقش هذه القضية أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه الإيمان، رسالة موجزة، لكن في الحقيقة تقصي أقوال المرجئة وأدلتهم بعبارة سهلة موجزة، وليس فيها استطراد، وبالدلالة الشرعية الظاهرة القوية. أما انتشار الفكر الإرجائي في الفضائيات فهو راجع إلى أن أغلب الذين يسهمون في البرامج الإسلامية في الفضائيات أشاعرة ماتريدية، وعقلانيون عصرانيون، وهؤلاء مرجئة في الأصل، لا نتوقع منهم غير ذلك، إلا من وفقه الله عز وجل للقول بقول أهل السنة والجماعة.

علاقة المسلمين بنهاية الألف عام أو بدايته

علاقة المسلمين بنهاية الألف عام أو بدايته Q هل للمسلمين علاقة بالألفية؟ A مسألة الألفية لا علاقة للمسلمين بها، أعني التعلق بنهاية الألفي عام، بعض الناس يظن أن الألفية هي نهاية عام (1999)، وليس كذلك بل بعد (1999) تدخل السنة الأخيرة من الألف الثانية من ميلاد المسيح إن صح تاريخ هذا الميلاد، مع أن فيه نظراً كبيراً؛ ولذلك مما يحتج عليهم بتنبؤاتهم الكاذبة أن الميلاد بهذا التاريخ فيه شك كبير. لكن على أي حال أقول: إنه لا علاقة للمسلم بهذه الألفية إطلاقاً، فالمسلم لا يتعلق دينه ولا مصيره ولا مصائر الأمم عنده بشيء من الأرقام أو الحسابات أو السنين أو المئات أو الألوف، وكل من يتعلق بالألف أو المائة أو العشرة هم الأمم الهالكة التي ليست على دين صحيح، فهي تعيش أوهاماً، خاصة اليهود والنصارى والرافضة الآن كلهم متعلقون بالألفية. الرافضة سمعت لهم أشرطة في تعلقهم بهذا الألف الذي نحن فيه لا يقل عن تعلق اليهود والنصارى الذين صنعوا دين الرافضة والمجوس. فالشاهد أن المسلم ليس له علاقة ولا ينبغي أن يتعلق قلبه وتوهماته ولا مصيره ولا اهتماماته بالألف الذي نحن فيه ونهايته، أو بداية الألف القادم. أما اليهود والنصارى والأمم الأخرى فلهم اعتقادات، هذه الاعتقادات كانوا يرحلونها، ففي فترات قديمة من الزمان كانوا يعتقدون أنه بعد مائة سنة من موت المسيح سيحدث شيء، وبعد المائتين، وبعد الثلاث، وبعد الأربع، وبعد الخمس، وبعد الست ما حصل شيء، ثم تعلقوا بالألف الأول، وجاءهم شيء عظيم من الإرجاف والدجل والكذب في الألف الأول من التاريخ الميلادي السابق، وعلقوا به آمالاً أشد من تعليق المعاصرين؛ لأن أولئك كانوا أكثر تديناً، ولكن تبخرت آمالهم. وهؤلاء أيضاً ستتبخر آمالهم بإذن الله جزماً في هذه الألفية، فهم يعتقدون أن في نهاية هذا الألف ستحدث أحداث جسام تغير معالم الدنيا وتغير العالم تكون في صالحهم، واليهود يجزمون بأن الأحداث ستكون في صالحهم، والنصارى يجزمون بأن هناك أحداثاً كونية ستحدث وأنها في صالحهم، يعتقدون أنه سيخرج مهدي أو رسول أو نبي أو مصلح إلى آخره، أو ملك بالنسبة لليهود من نسل داود يتوج ويحكم مملكة إسرائيل العظمى، ويحكم العالم، والنصارى كذلك، ولذلك كل نبوءاتهم متعلقة بأجزاء من فلسطين، وبدءوا يمهدون للاحتفالات بهذا. لكن في الحقيقة هم يذكرون الشيء الذي يعجبهم ولا يذكرون ما لا يعجبهم، فيجاريهم ضعاف المسلمين خاصة بعض المثقفين والمفكرين، وبعض المؤسسات الغوغائية جارتهم في مثل هذه التوقعات والتوهمات. العجيب أن لهم نبوءات من عشر سنين، (91) و (92) و (93) و (94) و (95) و (96) و (97) بالذات و (98) و (99) التي نحن فيها، فهذه الثلاث علقوا بها أشياء كثيرة ما حدث منها شيء بحمد الله، بل الذي يحدث عكسها، لكنهم لا يعلنون ما يسوءهم، وأكثركم ربما سمع بنبوءاتهم عن شهر إبريل الماضي، وأنه يحدث فيه حدث عالمي عظيم، حتى إن بعضهم عطل حياته وعطل وظيفته وترك البناء وهجر بيته. فالشاهد أن التعلق بالألفية من خرافات الأمم الوثنية، وما يقولونه من نبوءات تتعلق بأحداث كبرى هم متخرصون كاذبون، وقد يحدث الله عز وجل شيئاً، لكن لا يحدث ما يوافق نبوءاتهم. فلذلك أقول: لا نبالغ في النفي ولا الإثبات، نحن نجزم بأن ما يقولونه لن يكون، لكن لا نبالغ بأنه لن يحدث من العوارض الكونية شيء؛ لأن الله عز وجل يتصرف في خلقه كما يشاء، فقد تحدث فيضانات أو زلازل، كما يحدث في سائر السنين، فلذلك لو حدث شيء لا قدر الله؛ فيجب أن لا نربطه بتوهماتهم. مثلاً: هذه السنة كثرت الزلازل، لكن كثرت لأنها سنة من السنين التي قدر الله فيها الزلازل، لا لأنها نهاية الألفين. ويجب أن نعتقد هذا جازمين بأنه لا علاقة لما يمكن أن يحدث بنبوءاتهم إن حدث، وإلا فأنا متفائل أن الله عز وجل سيخيب آمالهم، ولن يحدث شيء على الأقل من باب ألا تكون نبوءاتهم فتنة للناس، إلا أن يعاقبنا الله عز وجل بسبب التعلق بأذيالهم. فالشاهد أن التعلق بالألفية من خرافات الأمم ولا علاقة لها بالإسلام، وأن الإسلام لم يعلق مصائر الأمة ولا مصير أحد من الناس ولا شيء من الأحداث بهذه السنين، والسنين كلها واحدة يقدر الله فيها ما يشاء، فيجب على المسلمين أن يتنبهوا ولا يجاروا ما يحدث في الإعلام وما يشيعه ضعفاء النفوس، وما يحدث من الأمم الآن من التهيب والتحفز والاستعدادات الضخمة التي يستعدون بها. وينبغي أيضاً إشاعة هذا الأصل بين الناس اليوم؛ لأن الهواجس والوساوس قد انتشرت بين أبناء المسلمين، وقد قال لي أحد الشباب: إنه ذهب ليشتري جهازاً من الأجهزة فلقيه آخر فقال: لا تشتر حتى ينتهي عام (1999م) فقلت: لقد أخطأ في التقدير، وكان المفروض أن يقول لك: حتى ينتهي عام (2000) لأن الألفية الثالثة لا تبدأ إلا في بداية سنة ألفين وواحد. فهذا مسلم دخله الوهن الوسواس، ولو قدر أن قامت الساعة بعد مائة سنة أو ألف سنة فهل يعني هذا أن المسلمين يتواصون بعدم الاستمرار في عمارة الدنيا وعبادة الله عز وجل؟ يقول النبي صلى الله عليه و

السرية في الدعوة إلى الله بدعة

السرية في الدعوة إلى الله بدعة Q لقد ذكرت في إحدى المنابر الإعلامية أن السرية في أعمال الدعوة من سمات أهل الأهواء؟ A السرية في الدين والنجوى في الدين من سمات أهل الأهواء؛ لأن الدين ليس فيه نجوى، والدعوة إلى الله عز وجل ليس فيها نجوى لكن أن يكون للناس أحوال في ترتيبهم لأمورهم وفي تقديرهم لمعاشهم في بعض أمور الدعوة إلى الله عز وجل بما تقتضيه المصلحة، ككتمان شيء من الأشياء التي في إشاعتها مضرة، هذا أمر راجع إلى القواعد الشرعية؛ لكن السرية في أمر الدعوة بمعنى أن يتفق أناس على تأسيس أمور دون جماعة المسلمين يسمونها مناهج في الدعوة أو نحوها، هذا هو المحذور. ولذلك قال كثير من السلف: إذا رأيت أناساً يتناجون من دون العامة فاعلموا أنهم على تأسيس ضلالة، أي: فلماذا يتهامسون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله عز وجل في مناهجها وأصولها. أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد يحتاج إلى شيء من الكتمان، كما إذا أراد محتسب أن يقضي على منكر ويخشى في إشاعة عمله لإزالة هذا المنكر ما يسيء إلى سمعة الآخرين، أو يضر بأعراض الناس، أو يؤدي إلى قطع السبب؛ فهذا أمر آخر لا علاقة له بما أذكر، فأنا أقصد بالسرية في الدين والدعوة أن يكون هناك مناهج وأساليب يختص بها أناس عليها يوالون وعليها يعادون، ويكون لهم خصوصيات يعتزلون فيها عن جماعة المسلمين، وعن العلماء وطلاب العلم الآخرين، يكونون أصحاب شعار وتوجه خاص بهم؛ هذا هو الممنوع، وهو السرية التي هي بدعة وتؤدي إلى البدعة وإن صدق أصحابها في نياتهم فمآلها إذا لم يتركوها إلى البدعة، هذا ما أقصده، وفعلاً أنا كررت هذا في برنامج البدعة والسنة في إذاعة القرآن ولعل السائل يقصد ذلك بالمنابر الإعلامية، والله أعلم.

شرح السنة [16]

شرح السنة [16] الفتنة شر وبلاء، تحدث بين المسلمين فتقع الفرقة والاختلاف في الدين أو في الدنيا، وقد يحدث بسببها قتال وتنازع، فإذا وقع ذلك فيجب على المسلم أن يلزم بيته، ويعتزل الفتنة ومن دعا إليها، وإن كان من أهل العلم والمكانة وسعى في الإصلاح والخير حتى تزول الفتنة؛ فذلك خير عظيم وواجب كبير.

الموقف من الفتن

الموقف من الفتن قال أبو محمد الحسن بن علي البربهاري رحمه الله تعالى: [وإذا وقعت الفتنة فالزم جوف بيتك، وفر من جوار الفتنة، وإياك والعصبية، وكل ما كان من قتال بين المسلمين على الدنيا فهو فتنة، فاتق الله وحده لا شريك له ولا تخرج فيها، ولا تقاتل فيها ولا تهوى ولا تشايع ولا تمايل ولا تحب شيئاً من أمورهم، فإنه يقال: من أحب فعل قوم خيراً كان أو شراً كان كمن عمله، وفقنا الله وإياكم لمرضاته، وجنبنا وإياكم معصيته].

معنى الفتنة ومتى تكون

معنى الفتنة ومتى تكون هذا أيضاً من الأصول المهمة التي وردت الإشارة إليها في كثير من النصوص الشرعية وأكد عليها السلف، وما يتعلق بموقف المسلم من الفتن، وقد ذكر الشيخ هنا بعض هذه الأصول في موقف المسلم من الفتن، وقبل أن أذكر ذلك أحب أن أشير إلى معنى الفتنة ومتى تكون فتنة؛ لأن أكثر الناس قد يستعجل بعض الأمور فيسميها فتنة أو يطلق عليها فتنة وليس الأمر كذلك، وأيضاً بعض الفتن قد تعصف بالأمة ومع ذلك يتساهل فيها بعض الناس أو يرى أنها ليست من الفتنة. فالفتنة: هي كل ما أدى إلى الفرقة بين المسلمين في دينهم أو في دنياهم، وليس من شروط الفتنة أن يصل الأمر فيها إلى القتال. فما أدى إلى الفرقة في الدين فهو فتنة، وما أدى إلى مفارقة جماعة المسلمين فهو فتنة، وما أدى إلى الخروج على ولاة المسلمين وطاعتهم وترك البيعة والسمع والطاعة فهو فتنة، وما أدى إلى الإخلال بمصالح الأمة العظمى كالإخلال بالأمن أو تضييق المعايش على الناس أو الوقوع في الظلم الظاهر بين العباد؛ فإن ذلك كله فتنة. إذاً: فالضابط في الفتنة هو الإضرار بالدين أو الدنيا. يقول: (فإذا وقعت الفتنة فالزم جوف بيتك) هذا هو الأصل في كل مسلم إذا رأى الفتنة أن يلزم جوف بيته؛ لأن كثيراً من الذين يقعون في الفتن يقعون فيها بسبب ولوجهم أو تساهلهم في المشاركة فيها، وأعني بذلك أن كثيراً ممن يقعون في الفتنة قد لا يقصدون الباطل أو لا يريدونه؛ فمجرد المشاركة تتعقد عليهم الأمور، وتصرفهم الخطوب، وأيضاً قد تعمى بصائرهم عن الحق حتى يقعوا في الباطل من حيث لا يشعرون والفتنة تدع الحليم حيراناً، والمتأمل لحال الفتن في تاريخ الإسلام يجد كثيراً ممن وقعوا فيها لم يكونوا يقصدون الفتنة وليسوا أهل فتنة؛ لكنهم تساهلوا بأن شاركوا مع أحد أطراف الفتنة وبقصد الإصلاح أحياناً، لكن الأمر يفوت على الشخص؛ لأن الفتنة لا تكون فيها القيادة والريادة لأهل العلم، ولا لأهل الحلم، ولا لأهل الحكم، ولا لأهل الحل والعقد، بل تكون القيادة والريادة في الغالب لأهل الفساد في الأرض، أو الدهماء والرعاع الذين لا عقول لهم ولا دين. وينقاد العالم الحليم الحكيم إلى الفتنة مع الرويبضة، ومع الرعاع والدهماء رغم أنفه، إلا إذا لزم بيته، هذا على العموم لكن قد يتعين على بعض الناس مثل ولاة الأمر والعلماء أهل الحل والعقد المطاعين في عشائرهم أن يسعوا إلى الإصلاح لكن لا يكون لهم انحياز مع أحد أطراف الفتنة؛ لأن الانحياز يؤدي إلى إيقاد الفتنة.

اعتزال الفتنة والدعوة إلى الإصلاح

اعتزال الفتنة والدعوة إلى الإصلاح إذاً: الأصل في المسلم عند الفتنة أن يلزم بيته وأن يصمت ويسكت حتى وإن رأى الحق مع أحد الأطراف، أما العلماء المطاعون والولاة الذين بأيديهم الحل والعقد والذين يطاعون في عشائرهم وفي أقوامهم فهؤلاء ينبغي أن يسعوا للإصلاح حتى تزول الفتنة. قال: (وفر من جوار الفتنة وإياك والعصبية) هذا أيضاً دليل فقه الشيخ رحمه الله، فإن الفتنة غالباً تثير العصبية، وما من فتنة إلا وتثور مع العصبية؛ لأن الفتنة تقرب ضعاف الإيمان والعقول الذين تجرهم العصبيات، وتبعد أولي الفقه والحلم، ومن هنا تدخل العصبية للبلاد، العصبية للشعار، العصبية للحزب، العصبية للجماعة، العصبية للقبيلة، لأن الذي يقود الناس في الفتن هو من لا يخاف الله عز وجل، أو يقودهم الرعاع أو أصحاب الظلم والجور أو طلاب الدنيا وطلاب السلطان وهؤلاء هم أصحاب العصبية. قال: (وكل ما كان من قتال بين المسلمين على الدنيا فهو فتنة). هذه قاعدة عظيمة أيضاً، إذا كان النزاع على دنيا فهو فتنة في العموم. (فاتق الله وحده إلى آخره) يكفي ما ذكره الشيخ؛ لأن ما ذكره هو أعظم الأصول التي تتعلق بالفتن، وإلا فالكلام في الفتن مهم لاسيما في هذا العصر الذي كثرت فيه الرايات وكثرت فيه الشعارات والانتماءات، ووصلت إلى حد الظلم والتجاوز بين فئات المسلمين، لكن لا يتسع المقام الآن.

النظر المذموم في النجوم

النظر المذموم في النجوم قال رحمه الله تعالى: [وأقل من النظر في النجوم إلا بما تستعين به على مواقيت الصلاة، واله عما سوى ذلك فإنه يدعو إلى الزندقة]. يقصد بالنظر إلى النجوم ما هو مشهور عند الفلاسفة وعند بعض الفلكيين وعند كثير من الأمم والطوائف والديانات الذين يتعلقون بالنجوم تعلقاً بدعياً أو شركياً، ولا يقصد مجرد النظر بالعين الباصرة فإن النظر في النجوم وهي تتلألأ والتفكر فيها على أنها من آيات الله وخلقه من المطلوب. ولذلك ينبغي لأي واحد منا إذا خرج إلى البرية وابتعد عن أضواء الكهرباء أن يعطي نفسه فرصة للنظر والاعتبار في هذه النجوم، فإن فيها عبرة؛ لكن الشيخ قصد النظر المحرم الذي اعتادته كثير من الأمم والملل والديانات والطوائف مثلما يفعل الصابئة وفلاسفة اليونان القدامى الذين يزعمون أن النجوم فيها أرواح الملائكة، أو أنها آلهة، أو أنها مدبرة للكون أو غير ذلك، ومن هنا يتعلقون بها تعلق عبادة وتقديس وتعظيم، أو الذين ينسبون بعض الأحداث الكونية العالمية أو المحلية أو غيرها إلى النجوم، أو الذين يربطون مصائر الأفراد بالنجوم مثل أصحاب الطوالع، يقول طالع فلان سعيد وطالع فلان شقي، فلان ولد في البرج الفلاني فهو إذاً سعيد، وفلان ولد في البرج الفلاني فهو إذاً شقي إلى آخره. فهذا كله من باب التعلق البدعي والتعلق المحرم بالنجوم. إذاً: فكل نظر في النجوم يؤدي إلى الاعتبار في خلق الله عز وجل، أو يؤدي إلى الفائدة الدنيوية كمعرفة الصيف والشتاء وتقلبات الجو التي عرفت بمسارات النجوم ونحو ذلك جائز؛ لأنه تتعلق به مصالح العباد في معاشهم خاصة في الزراعة والبذور والأحوال الجوية.

ذم النظر في علم الكلام

ذم النظر في علم الكلام قال رحمه الله تعالى: [وإياك والنظر في الكلام، والجلوس إلى أصحاب الكلام]. أيضاً هذه قاعدة معروفة ومن أعظم القواعد عند السلف تجاه الأهواء وأهلها فإن من أعظم أسباب الأهواء هو الكلام، والمقصود بالكلام هو التحدث في أسماء الله وصفاته وأفعاله والغيبيات الأخرى والأخبار وما لا طاقة للبشر به بغير علم، حتى أمور الدنيا؛ لكن الغالب أن علم الكلام يتعلق بأمور الدين, وبخاصة في أسماء الله وصفاته وأفعاله والسمعيات الأخرى التي ورد بها الشرع، فإن تلاميذ الفلاسفة من الجهمية والمعتزلة ومتكلمة الأشاعرة والماتريدية خاضوا في الأمور الغيبية وأمور العقيدة بأسس عقلانية أو مقاييس مادية، وحكموا عقولهم ومقاييسهم في أمور الدين أو في أمور العقيدة، فقالوا على الله بغير علم، وتأولوا ما ثبت عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم تأولاً لا يصح، وأنكروا ما وردت به النصوص أو حرفوه وأدخلوا على الدين ما ليس منه، ونفوا ما هو من الدين أو حرفوه، وكل ذلك ناتج عن علم الكلام. إذاً: فعلم الكلام من العلوم المذمومة باتفاق السلف، ولا يمكن لسلفي خالص أن يمدح علم الكلام أو يثني عليه أو يستسيغ تعلمه ودراسته والنظر فيه والله أعلم.

شرح السنة [17]

شرح السنة [17] على المسلم أن يكون سلفياً على الجادة، متبعاً لا مبتدعاً في جميع مسائل الدين، مقتفياً لآثار الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وأن يعبد الله بما شرع لا باتباع أهل الأهواء والبدع، فعليه أن يحذر منهم ومن طرقهم ومناهجهم، وخاصة منهم الصوفية والجهمية، فإنهم من شر أهل الأهواء والضلال؛ حتى يصلح له أمر دينه ودنياه.

لزوم الآثار وأهل الآثار

لزوم الآثار وأهل الآثار قال أبو محمد الحسن بن علي البربهاري رحمه الله تعالى: [وعليك بالآثار وأهل الآثار، وإياهم فاسأل، ومعهم فاجلس ومنهم فاقتبس]. بعدما حذر في الفقرة السابقة من الالتفات إلى علم الكلام والنظر فيه والجلوس إلى أهله جلوس المنادمة والمصادقة والتلقي، رجع إلى الأصل الذي عليه السلف، وهو أن المسلم وطالب العلم بخاصة يجب أن يعنى بالآثار التي هي مصادر التلقي، وهي الكتاب والسنة ثم ما تفرع عنها من آثار السلف التي هي سبيل المؤمنين، فمناهج السلف وتفسيراتهم وطرائقهم في العلم والعمل تدخل في الآثار دخولاً أولياً؛ لأنها هي سبيل المؤمنين المستمد من الكتاب والسنة. قال: (وأهل الآثار) يعني: أهل السنة والجماعة؛ لأنهم هم أهل هذا الوصف، وغيرهم لا يتوفر فيه هذا الوصف؛ لأنهم بدلوا وغيروا في مصادر التلقي وفي تقرير الدين ومناهجه وفي طرائق العلم. وأيضاً المسلم إذا سأل عن دينه ينبغي أن يسأل أهل الذكر، وأهل الذكر هم أهل السنة والجماعة أهل الآثار، وأيضاً إن جالس فليجالس هؤلاء؛ لأنهم هم القوم لا يشقى بهم جليسهم، ويسعد بهم أنيسهم، ومن تلقى عنهم ثبت على المحجة البيضاء بإذن الله.

عبادة الله بالخوف والرجاء لا بالمحبة وحدها

عبادة الله بالخوف والرجاء لا بالمحبة وحدها قال رحمه الله تعالى: [واعلم أنه ما عبد الله بمثل الخوف من الله وطريق الخوف والحذر، والشفقات والحياء من الله تبارك وتعالى]. هذا جزء من الأحوال القلبية التي تتم بها العبادة وهي كما تعلمون تبدأ بمحبة الله عز وجل والرجاء والخوف، وهنا الشيخ أشار إلى الخوف ثم الرجاء والذي عبر عنه بالشفقات والحياء من الله عز وجل؛ لأن ذلك يؤدي إلى الخوف والرجاء. قال رحمه الله تعالى: [واحذر أن تجلس مع من يدعو إلى الشوق والمحبة، ومن يخلو مع النساء وطريق المذهب؛ فإن هؤلاء كلهم في الضلالة]. يشير هنا إلى طوائف من المتصوفة أو إلى مناهج المتصوفة وبعض مصطلحاتهم التي ضلوا بها بعدما ذكر أن من أصول العبادة الخوف والرجاء، فأشار إلى الأصول التي انحرف بها الصوفية في جانب العبادة، حيث وقفت الصوفية عند مصطلح الشوق والمحبة، ولا يقصد بذلك الرجاء والمحبة المعروفة عند أهل السنة والجماعة في الكتاب والسنة، إنما يعني أكثر الصوفية بالشوق عبادة الله عز وجل بالمحبة دون الرجاء والخوف، ويبالغون في الشوق إلى حد يخرجهم عن سمت العبادة الصحيحة والمستقيمة، بحيث إن المتصوف إذا تعبد بالشوق يتهور ويقيس محبة الله عز وجل بمحبة العباد، فيتشوق للخالق كما يتشوق المخلوق للمخلوق، فيقع في عبادته شيء من الانحراف والعدول عن منهج الكتاب والسنة والمبالغة في ذلك، وعدم المبالاة بما شرعه الله عز وجل من ضرورة الخوف والرجاء. فالمؤلف بهذا يشير إلى منهج الصوفية البدعية الطرقية الذين يقولون: لا نعبد الله رجاء جنته ولا خوف ناره إنما نعبده محبة له. فهم إذاً يعولون على المحبة والشوق ويبالغون، فيها ويعرضون عن جوانب العبادة الأخرى التي لا تتكامل العبادة إلا بها خاصة الخوف والرجاء. وأشار أيضاً إلى جانب آخر من انحرافاتهم، وهم أولئك الذين يتعبدون بالخلوة أو يستجيزون الخلوة مع النساء، وهذه الخصلة موجودة عند بعض النساك والعباد الجهلة أو الذين داخلهم الزنادقة، فيتساهلون في هذا الأمر فيسلكون مسلك الرهبان الذين يتساهلون في هذا الأمر فيختلطون في دور العبادة وفي أماكن التعبد التي يتخذونها ويظنون أنهم على الطريق الأسلم وأنهم حينما يفعلون ذلك برآء مما يحدث عند الناس من غوائل الاختلاط. وطريق المذهب يبدو لي أن المقصود به الطرق الصوفية التي بدأت أصولها في عهد البربهاري لكنها ليست على نحو ما حدث في القرن الثالث وما بعده، إنما بدأ العباد يسلكون مسالك الاتجاهات في بذر الطرق، فلعله يشير إلى هذا في قوله: (وطريق المذهب)، أي: مناهج العباد التي يتخذونها مدارس ويكون لهم في ذلك أتباع يخرجون بها عن سمت أهل السنة والجماعة. قال: (فإن هؤلاء) أي: أصناف هؤلاء الصوفية (كلهم على الضلالة). وممكن أن ينتحل صاحب المذهب الباطل المحبة، بمعنى أن يتكلف فيدعي أنه لا يعبد إلا بالمحبة ويلغي الشرائع، ويلغي الخوف والرجاء، فهذا يرد عند مذاهب الضلال، أما في ميزان الحق فلا يمكن أن تكون المحبة الخالصة لله تعالى إلا بالعبادة، والعبادة لا تكون إلا مع الخوف والرجاء، وهذا بدهي! لكنهم لا يعبدون الله حق عبادته، بل يعبدونه بطرائق الوثنيين والفلاسفة التي تنزع إلى الجانب العاطفي دون تصور كمال الله عز وجل، ولذلك لا يتصورون لله كمالاً على حقيقته، فيعبدونه عبادة عاطفية يقتصرون فيها على المحبة تبعاً للفلاسفة كما هو معروف.

التوفيق للإسلام وحسن الخاتمة فضل من الله

التوفيق للإسلام وحسن الخاتمة فضل من الله قال رحمه الله تعالى: [واعلم -رحمك الله- أن الله تبارك وتعالى دعا الخلق كلهم إلى عبادته، ومنَّ من بعد ذلك على من يشاء بالإسلام تفضلاً]. هذه القاعدة واضحة؛ فإن الله عز وجل حينما تفضل على بعض الخلق بأن وفقهم للهدى والإسلام فلا يعني ذلك أن البقية غير مدعوين إلى عبادة الله؛ لأن التوفيق -خاصة في الخاتمة- أمر محجوب عن العباد فيجب أن يعمل جميع العباد بما يرضي الله عز وجل، وكل موفق وميسر لما خلق له، لكن الله عز وجل دعا الخلق كلهم لعبادته، وضمن لمن اتبع الحق ألا يضل ولا يشقى، وضمن بأن ينصفه الله عز وجل وأن يجزيه الجزاء الحسن، فبقي ما قدره الله عز وجل من هداية بعض العباد دون بعض أمر غيبي محجوب، وإنما على العباد أن يعبدوا الله كما أمر؛ لأنه دعاهم كلهم إلى ذلك، وليعلم جميع العباد أن طريق السعادة في اتباع أمر الله عز وجل، وأن من اتبع أمر الله فلن يظلم، وأن من حاد الله فهو الذي كتب الله عليه الشقاوة. ولذلك لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن كتابة السعادة والشقاوة في صحيفة كل إنسان قد وقعت أثناء نفخ روحه بعد مائة وعشرين يوماً وأن هذا أمر مقرر سلفاً، قال الصحابة: ففيم العمل يا رسول الله إذا كان الأمر قد قدره الله؟ فقال: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، وهذا يعني: أن أمر الخاتمة لكل إنسان غيب لا يعلمه إلا الله عز وجل، وما دام غيباً فعلى الإنسان أن يحرص على أن تكون خاتمته سعيدة بسلوك طريق النجاة، والله عز وجل قد بين طريق النجاة وسهله وأمر به وأرشد إليه ويسر أمره، ثم وعد من سلكه. فليس لأحد عذر!

الكف عما شجر بين الصحابة

الكف عما شجر بين الصحابة قال رحمه الله تعالى: [والكف عن حرب علي ومعاوية وعائشة وطلحة والزبير رحمهم الله أجمعين ومن كان معهم، لا تخاصم فيهم وكل أمرهم إلى الله تبارك وتعالى، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم وذكر أصحابي وأصهاري وأختاني)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تبارك وتعالى نظر إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)]. الأصل الكف عما شجر بين الصحابة من أمور الحرب أو ما دون الحرب؛ لأن الذي حدث بين الصحابة رضي الله عنهم اجتهاد تأولوه، وكل منهم كان له منزعه في الاجتهاد، ولم يحدث بينهم حرب أرادوها، إنما أوقع الحرب بينهم بعض مشعلي الفتنة. فالصحابة لم يكن منهم إرادة حرب ولم يعزموا عليها، بل سعوا بكل ما يستطيعون إلى إطفاء نار الحرب، وهذا ثابت عنهم، لكن قصد الشيخ هنا الكف عما شجر بينهم من أمور اختلفوا عليها وطواها التاريخ، فينبغي لنا أن نحسن الظن فيهم، وأن نعرف أنهم إنما فعلوا ذلك عن اجتهاد، فمنهم من أخطأ ومنهم من أصاب، وكلهم على أجر؛ فمن أخطأ فله أجر ومن أصاب فله أجران، وعلى هذا فإن الخوض في حقهم أو تجريم أحد منهم على سبيل الانتصار والعصبية يعد من الباطل ومن أكبر المعاصي؛ لأن الله تعالى زكاهم؛ ولأن أغلب الذين حصل بينهم ذلك ممن زكاهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأعيانهم، وكثير منهم من أهل بدر الذين غفر الله لهم ذنوبهم وضمن لهم الجنة في الجملة فهؤلاء يجب ألا نخوض فيهم أبداً، وكذلك بقية الصحابة. والحديث الذي ساقه المؤلف ضعيف بل لا أصل له، إنما الوارد -وهو بطريق حسن- قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا)، وكذلك أحاديث أخرى مثل: (لا تسبوا أصحابي)، وغيرها أحاديث كثيرة تنهى عن أن نقع في أشخاص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في جماعاتهم أشد النهي.

التورع عن أموال الناس

التورع عن أموال الناس قال رحمه الله تعالى: [واعلم أنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه، وإن كان مع رجل مال حرام فقد ضمنه، لا يحل لأحد أن يأخذ منه شيئاً إلا بإذنه، فإنه عسى أن يتوب هذا فيريد أن يرده على أربابه، فأخذت حراماً]. هذه أيضاً مسألة فقهية واضحة في أن الأصل فيمن غصب مالاً أو سرقه ألا يستجاز منه هذا المال ولا يسوغ ما بيد المنتهب والغاصب وما يجري على ألسنة العوام من أن سرقة من السارق حلال لا أصل له، فلا يحل لأحد أن يأخذ شيئاً بغير طريقه ولو كان المال الذي بيد الآخر من كسب حرام أو مغصوب، فإنه لعله يتوب يوماً فيرجع هذا المال إلى أهله، أو لعل أهله يجدونه فيأخذونه منه.

طلب المكاسب والاستغناء عما في أيدي الناس

طلب المكاسب والاستغناء عما في أيدي الناس قال رحمه الله تعالى: [والمكاسب مطلقة ما بان لك صحته فهو مطلق إلا ما ظهر فساده، وإن كان فاسداً يأخذ من الفساد ممسكة نفسه، ولا تقول: أترك المكاسب وآخذ ما أعطوني، لم يفعل هذا الصحابة ولا العلماء إلى زماننا هذا، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كسب فيه بعض الدنية خير من الحاجة إلى الناس]. أيضاً هذه من الأصول الفقهية والقواعد في الأحكام، فإن الأصل في المكاسب والحرف والرواتب والمكافآت وكسب العيش وطلب الرزق والضرب في الأرض والتجارة، كلها الأصل فيها الحل ما لم يتبين فيها حرام أو مشتبه، فالحرام حرام والمشتبه مكروه. قوله: (إلا ما ظهر فساده) يعني: أنه محرم أو مغصوب أو مشبوه أو نحو ذلك. قال: (وإن كان فاسداً يأخذ من الفساد ممسكة نفسه) يعني: يأخذ ما تقتضيه الضرورة، فمثلاً الميتة لا شك أنها فاسدة وحرام، لكن إذا اضطر لها الإنسان بحيث لم يبق إلا أن يموت أو يأكل منها أكل للضرورة، وكذلك بقية المكاسب الحرام إذا وقعت في يد إنسان هالك إن لم يأكلها فله أن يأكل منها بقدر ما ينقذ حياته فقط، وهذا معنى قوله: (يأخذ من الفساد ممسكة نفسه) يعني: من المال الفاسد، وكذلك عبر عنها في نسخة ط وهي أصح: (يأخذ من المال الفاسد ما تقوم به نفسه عند الضرورة). قوله: (ولا تقول أترك المكاسب وآخذ ما أعطوني) يعني: كما يفعل كثير من العباد والنساك الأوائل الذين اتكأت عليهم الصوفية فإنهم قعدوا عن كسب العيش وصاروا عالة على الناس ويأخذون ما يعطيهم الآخرون ويتركون المكاسب بدعوى أنهم يريدون أن يتفرغوا للعبادة، وهذا خلل، فإن خيار الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأخذ نصيبه من الدنيا، ويعطي ويتصدق ويعمل بكل الوسائل والأساليب المباحة في الحياة الدنيا، ثم كان خيار الصحابة من بعده الخلفاء الراشدين، وكانوا أصحاب مكاسب يطلبون العيش بأيديهم، يتاجرون ويرابحون ويعملون ولم يقعدوا، فكانوا في العبادة مثالاً يحتذى وفي طلب العيش مثالاً يحتذى، وفي التجارة كانوا مثالاً يحتذى. فإذاً: هذا هو الأصل، ولذلك تجد أمثل الناس هم الذين يعملون ذلك، وما كان دون ذلك فهو دونه إلا لظروف تحدث لإنسان، كأن تكون الأمة بحاجة إليه في تخصص معين وهو مكفي في حياته لكنه لا يستجدي أحداً، إنما ييسر الله له رزقه بطرق مشروعة ولا يمد يده للآخرين. أقول: إن الأمثل من أئمة الدين قديماً وحديثاً هم الذين لا يتركون المكاسب ويجلسون على عطايا الناس، ولم يفعل هذا الصحابة ولا العلماء إلى زماننا هذا كما قاله الشيخ. (وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كسب فيه بعض الدنية) أي: مثل بعض الحرف التي يحتقرها الناس، على أن احتقارهم للحرف ليس مبنياً على أصل شرعي، ومع ذلك فكسب فيه بعض الدنية خير من الحاجة إلى الناس، وهذه قاعدة عظيمة.

حكم الصلاة خلف الجهمية

حكم الصلاة خلف الجهمية قال رحمه الله تعالى: [والصلوات الخمس جائزة خلف من صليت خلفه إلا أن يكون جهمياً فإنه معطل، وإن صليت خلفه فأعد صلاتك، وإن كان إمامك يوم الجمعة جهمياً وهو سلطان فصل خلفه وأعد صلاتك، وإن كان إمامك من السلطان وغيره صاحب سنة فصل خلفه ولا تعد صلاتك]. هذه أيضاً قاعدة معروفة وظاهرة وإن كان مقتضاها لم يحدث في عصور السلف (القرون الثلاثة الفاضلة) في قلب البلاد الإسلامية في مصر والشام والحجاز لم يحدث أن كان من الجهمية إمام إلا المأمون ومن بعده، وهم الواثق والمعتصم، فهؤلاء فعلاً كانوا ينزعون إلى مذهب الجهمية، وصلى خلفهم الأئمة، وكان بعض الأئمة الذين يصلون خلفهم يعيد الصلاة وبعضهم لا يعيدها؛ لأنه يرى أن هؤلاء ليسوا جهمية بالأصل إنما غرر بهم وتأولوا، والراجح في مثل المأمون أنه تعاد الصلاة خلفه؛ لأنه جهمي خالص في مسألة القول بخلق القرآن، ومن جاءوا بعده ربما يكونون أخف؛ لأنهم أخذوا بسياسته ولا نعرف أنهم على هذا المذهب من كل وجه والله أعلم. على أي حال الصلاة خلف الجهمي الخالص تعاد إذا كان إمام المسلمين الأكبر، أما إذا كان إماماً من الأئمة العاديين دون الإمام الأكبر فلا تجوز الصلاة خلفه أصلاً؛ لأنه هنا يقصد الإمام الأعظم فإن في ترك الصلاة خلفه مفسدة عظمى تؤدي إلى الإخلال بدين الناس وأمنهم ومصالحهم، فمن هنا استجاز السلف الصلاة خلف الإمام الأعظم وإن كان جهمياً؛ لكن إذا ثبت أنه جهمي خالص فتعاد الصلاة، وإذا لم يثبت فالأمر فيه خلاف. وهذا ليس فيمن يقتدى به، بل حتى عوام الناس، إلا أن من يقتدى به ينبغي أن يكون أكثر حذراً وأكثر تطبيقاً للسنة. والعامي الذي لا يلفت النظر تحركه ولا يؤدي إلى فتنة الأولى ألا يصلي خلف هؤلاء لكن هذه مسألة لا تنضبط، فالأولى أن تبقى القاعدة على ما عليه الأئمة والناس تبع لهم، وكذلك الرافضي تعاد الصلاة بعده.

الإيمان بأن الشيخين مدفونان في حجرة عائشة مع الرسول صلى الله عليه وسلم

الإيمان بأن الشيخين مدفونان في حجرة عائشة مع الرسول صلى الله عليه وسلم قال رحمه الله تعالى: [والإيمان بأن أبا بكر وعمر رحمة الله عليهما في حجرة عائشة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دفنا هناك معه، فإذا أتيت القبر فالتسليم عليهما واجب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم]. هذا أمر معلوم، وربما ساقه الشيخ هنا لأن بعض الرافضة زعموا أن أبا بكر وعمر لم يدفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد أن ينفي هذا الزعم.

وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال رحمه الله تعالى: [والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب إلا من خفت سيفه أو عصاه]. هذه قاعدة، وهي أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم بحسب استطاعته فيما يعلم، ولا يأمر وينهى بغير علم، وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون بالقلب وباللسان وباليد بحسب الاستطاعة. (إلا من خفت سيفه وعصاه)، وهو الإمام أو الوالي، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حقه يكون بحسب المصلحة، لكن إذا لم يقدر المسلم على أن يأمر الوالي وينهاه عن المنكر فعليه أن يناصحه، لأن النصيحة واجبة، وعند خوف السيف أو العصا تبقى درجة المناصحة بالرفق والملاينة بالتي هي أحسن، فإنها لا تثير غضب السلطان الظالم، ولا تجعله يعمل السيف أو العصا على الآمر والناهي، فأقول: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يسقط بمعناه الاصطلاحي، لكن لا تسقط النصيحة، فالنصيحة تؤدى بأي أسلوب.

تعميم السلام بين المسلمين

تعميم السلام بين المسلمين قال رحمه الله تعالى: [والتسليم على عباد الله أجمعين]. يعني: من عرفت ومن لا تعرف من عباد الله المسلمين يجب أن تسلم عليه، وهو يقصد هنا التسليم على المسلمين لا على عموم العباد.

ترك الجمع والجماعات من سمات المبتدعة

ترك الجمع والجماعات من سمات المبتدعة قال رحمه الله تعالى: [ومن ترك صلاة الجمعة والجماعة في المسجد من غير عذر فهو مبتدع، والعذر كمرض لا طاقة له بالخروج إلى المسجد، أو خوف من سلطان ظالم، وما سوى ذلك فلا عذر له، ومن صلى خلف إمام فلم يتقد به فلا صلاة له]. يقصد من تركها قصداً لا تساهلاً أو عن تأول، فمن تعمد ترك الجماعة لمذهب يذهب إليه كما يقول: والله أنا لا أطمئن إلى الجماعة، أو هؤلاء ليسوا على مذهبي أو على طريقتي. أما إذا ترك الجماعة تساهلاً فهذا يعتبر عاصياً وآثماً لكن لا يسمى مبتدعاً، والشيخ قصد بهذا طوائف من أصحاب الأهواء والبدع يتركون الصلاة في المساجد؛ لأن لهم رأياً في السنة وأهلها، ولهم عقائد ومقالات تخالف أهل السنة والجماعة، فيتركون الصلاة عمداً لأنهم من المخالفين في العقيدة أو العبادة، فهذا قصده، والله أعلم.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير خروج بالسيف

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير خروج بالسيف قال رحمه الله تعالى: [والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد واللسان والقلب بلا سيف]. (بلا سيف) يعني: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد واللسان والقلب جائز بل مشروع بلا سيف فلا يستعمل المسلم غير الوالي السيف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا يشهر السيف على العصاة أو على الظلمة سواء من عامة المسلمين أو من ولاتهم؛ لأن استعمال السيف من حق الولاية؛ لكن يضرب بالعصا إذا كان هذا في حدود ما فوض إليه، وما دون ذلك يضرب باليد وغيرها من أساليب الردع التي يملكها دون السيف، أي: دون استعمال القتال، فإن استعمال القتال بدعوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مناهج الخوارج ومن سلك سبيلهم، من الفرق المخالفة والمفارقة فإنها تسلك طريق الخروج على أئمة المسلمين، بل وعلى جماعاتهم وعامتهم، وهذا اعتقاد الخوارج والرافضة والجهمية والمعتزلة.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الخوض فيما حصل بين الصحابة بهدف الدفاع عنهم

حكم الخوض فيما حصل بين الصحابة بهدف الدفاع عنهم Q ما رأيكم فيمن يخوض فيما حصل بين الصحابة من باب الدفاع عن الصحابة والاعتذار عما حصل بينهم، خصوصاً أنه في بعض البلاد الإسلامية قد شوه تاريخ الصحابة رضي الله عنهم؟ A الدفاع عن الصحابة بالأصول الشرعية المعروفة مطلوب، فإذا وجدت من يلمز أو يقدح في الصحابة أو طائفة منهم أو أفراد فيجب أن تدافع عنهم بالأصول الشرعية؛ لكن لا يصل الأمر إلى حد المراء، بل تقيم الحجة وتبين أن الله عز وجل زكاهم، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم زكاهم، وأنهم كذا وكذا مما ورد فيهم، وأن أكثر ما نسب إليهم مكذوب عليهم، وأنهم وقع بعضهم فيما وقعوا من الاختلاف عن اجتهاد. هذه هي الأصول العامة فمن لم يقتنع بها فهو صاحب هوى فلا داعي أن تماريه وتجادله، لكن أكثر الناس يجهل هذه الأصول، وهذا مما يجب أن يتنبه له طلاب العلم، فإننا نتصور أن كثيراً من المثقفين والشباب والقراء وغيرهم ممن غرر بهم تجاه الصحابة، نتصور أن عندهم علماً في القواعد الشرعية، والصحيح أن أغلبهم وإن كثرت ثقافته لكن ليس عنده علم مؤصل يعرفون به القواعد الشرعية الواردة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند السلف، بل يجهلونها، فهم يحتاجون إلى أن يلقنوها تلقيناً بيناً مع ما يصحب ذلك من الوعظ والتخويف بالله عز وجل، وبيان خطورة هذا الأمر على دين المسلم، وأنه من الأمور الغيبية التي انقضت وانطوت، ويجب على المسلم أن يبقى سليم الصدر تجاه عموم المسلمين الذين سبقوا. هذه القواعد ينبغي أن ننشرها وأن نبينها وأن نعرضها على الناس دائماً؛ لأن الناس قد كثر خوضهم وخلطهم وخبطهم في هذا الموضوع، وكثر دعاة الضلالة الذين انبروا للقدح في الصحابة رضي الله عنهم حتى انطلت شبهاتهم على بعض من ينتسبون إلى الثقافة والعلم.

ما كان ينفقه رسول الله صلى الله عليه وسلم

ما كان ينفقه رسول الله صلى الله عليه وسلم Q ما هو عمل النبي صلى الله عليه وسلم الدنيوي الذي كان يكسب منه وينفق منه؟ A النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك أموالاً خاصة به لكنها ترد إليه أموال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عزف عن الدنيا لكنه لم يمنع من أن تأتي الدنيا والأرزاق والأموال إليه من عدة طرق، منها طريق الجهاد، ومنها ما يرد إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحكم أنه حاكم المسلمين مما يتعلق بالفيء، وما يتعلق أيضاً بمصارف الزكاة، وما يتعلق بأمور ترد حقوقاً عامة لبيت مال المسلمين. النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلب لنفسه شيئاً؛ لكن الله كفاه رزقه فرزقه رزق الكفاف، لكنه ما كان يدعو إلى ترك الدنيا وكان إذا قبض شيئاً مما يهدى إليه يأكل ما يكفيه ويتصدق بما يزيد. أما ما يتعلق بمصارف الأمة فهو يصرفها على الطرق الشرعية المعروفة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يملك أموالاً بالهدايا والحقوق التي تخصه مما أباحه الله له من الغنائم والأفياء وغيرها، لكنه ما كان يبقى في يده إلا ما يكفيه، وأحياناً يمر عليه الأيام وهو طاو ليس في بيته ما يؤكل إلا الأسودان التمر والماء، بل أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يجلس ثلاثة أيام بل أحياناً أربعة لا يأكل شيئاً، لأنه كان ينفق، ولا ذلك أنه كان يمنع أن تصله الدنيا، فقد كانت تصله لكنها تخرج منه إلى مستحقيها من المسلمين الذين يسألونه أو يرى أنهم يحتاجون.

شرح السنة [18]

شرح السنة [18] من سمات أهل البدع والأهواء الطعن في الأدلة والآثار من الكتاب والسنة، أو ردها بأي نوع من أنواع الرد والتأويل، وكذلك الطعن أو التنقص من حملتها وناقليها إلينا، وهم الصحابة الكرام ومن تبعهم من العلماء الربانيين والأئمة المصلحين إلى يوم الدين، والواجب هو مجانبة أهل البدع في كل ذلك، واتباع الدليل في كل شيء من أمور الدين، ومن ذلك ما جاء في التعامل مع الولاة والسلاطين المسلمين، مما هو مبين في الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة.

الأصل في المسلم السلامة ما لم تظهر له ريبة

الأصل في المسلم السلامة ما لم تظهر له ريبة قال إمام أهل السنة أبو محمد الحسن بن علي البربهاري رحمه الله تعالى: [والمستور من المسلمين من لم تظهر له ريبة]. المقصود الإشارة إلى قاعدة تتفرع عنها هذه المسألة، وهي أن الأصل في المسلم السلامة وأن يحسن به الظن، ما دام يظهر شعائر الإسلام، ومن هنا فإنه لا يجوز أن يفتش عن غير الظاهر ما لم تكن هناك أسباب أو قرائن، وهي التي سماها الشيخ هنا الريبة، كأن يظهر من الشخص بدعة، أو يظهر منه فسق أو فجور ظاهر، أو ينسب عنه الثقات ما يخالف السنة من قول أو عمل أو اعتقاد، فإنه إذا أظهر أو تكلم بما يخالف الأصل فإن هذا من موجبات الاسترابة في حقه. فمن هنا ينظر في أمره من يرى ومن يعلم موطن الريبة؛ لكن لا يشهر ذلك بين المسلمين حتى يشهر هو، فإنه إذا أشهر وجاهر يخرج عن الستر فيكون ممن فضح نفسه، فيعامل بحسب ما ظهر منه، إن كانت بدعة فيبدع، وإن كانت فجوراً وفسقاً ظاهراً ولم يرتدع فكذلك يحكم عليه بحال مثله. إذاً: فالأصل في المسلم السلامة في عقيدته وفي أعماله ما دام مظهراً لشعائر الإسلام، فلا يفتش عما وراء ذلك ولا يمتحن لا في قوله ولا في اعتقاده، ولا تتبع أعماله وأفعاله التتبع الذي نهى الله عنه ما لم يكن لذلك موجب عند أهل العلم المعتبرين.

كل علم في أمور الدين ليس في الكتاب والسنة فهو بدعة

كل علم في أمور الدين ليس في الكتاب والسنة فهو بدعة قال رحمه الله تعالى: [وكل علم ادعاه العباد من علم الباطن لم يوجد في الكتاب ولا في السنة فهو بدعة وضلالة، لا ينبغي لأحد أن يعمل به ولا يدعو إليه]. وهذا متعلق بمصادر التلقي للدين ومنهج التلقي، وهو يعني أن كل علم يدعيه أي إنسان مما لم يرد في الكتاب والسنة في أمور الدين فهو باطل، فالعلم في أمور الدين لا يمكن أن يستند إلا من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا في العموم، لكن من ادعى أيضاً أن عنده شيئاً من علم الباطن فهو بذلك أشد ابتداعاً. وهذا ينطبق على الصوفية والباطنية، وينطبق على سائر أهل الأهواء، فإن كلاً منهم يدعي أن لديه علماً استمده من غير الكتاب والسنة، وقد يلبس على الناس ويزعم أنه استمده بموجب أصل من أصول السنة أو من آية من كتاب الله أو نحو ذلك، فهذا من تلبيس الشيطان. ويشمل ذلك الصوفية الذين يدعون العلم اللدني، وأنهم توارثوه أو اكتسبوه عن طريق غير الطريق الشرعي، أو ما يدعونه من وسائل أخرى مثل ما يسمونه الكشف والذوق والفناء، سواء عن طريق اليقظة أو عن طريق المنام أو عن طريق الاصطلام أو ما يطلق عليه في العصر الحاضر الهسترة، فإن كثيراً من أهل التصوف والذين استحوذ عليهم الشيطان تأتيهم حالات أشبه بالجنون يفقدون فيها شيئاً من الوعي، فتختلط عليهم وساوس الشيطان وإيحاءات الشيطان ويهذون بما لا يعلمون، وتستغلهم شياطين الجن والإنس فيوحونه إليهم زوراً وكذباً ويدعون أن ذلك من الدين، وهذا يحصل كثيراً عند الذين يسلكون مسلك تجويع النفس والشدة في العبادة والانقطاع عن الأكل والشراب مدة طويلة، حتى يكون عند أحدهم نوع من الخلط في رءوسهم والخلط في قواهم وأعصابهم، فتستغلهم الشياطين والجن، فجعلوا لذلك مصادر اصطلحوا عليها فأحياناً يسمون ذلك الكشف أو الذوق أو الفناء أو الاصطلام. وكل هذه الحالات يزعمون أنهم يتلقون فيها من العلم ما لم يرد بالكتاب والسنة، ثم هم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرهم على مثل هذه الترهات، حتى أنهم قد تبدو لهم شياطينهم بصور الصحابة أو بصور أئمة الإسلام السابقين أو المعاصرين مثلاً فيدعون أنهم أتوهم وقالوا لهم: هذا حق، وافعلوا كذا، واعملوا كذا، واعتقدوا كذا، فيأتون من ادعاء علم في الباطن. أما الباطنية فمعلوم أنهم يعتقدون أن للشريعة ظاهراً وباطناً، وأن هذا الباطن هو ما يحلو لهم في أذواقهم وأهوائهم، فيفسرون نصوص الشرع بما لم يرد في الكتاب والسنة، بل بما لا تقتضيه أصول التفسير ولا مقتضيات اللغة ومصطلحات الناس، ويدعي كثير منهم أن ذلك مما يأتيهم من مصادر يزعمون أنها وحي أو علم لدني أو نحو ذلك، وكل ذلك من الباطل.

حكم هبة المرأة نفسها لرجل

حكم هبة المرأة نفسها لرجل قال رحمه الله تعالى: [وأيما امرأة وهبت نفسها لرجل فإنها لا تحل له، يعاقبان إن نال منها شيئاً إلا بولي وشاهدي عدل وصداق]. هذا يظهر أنه من الأمور التي تظهر أحياناً في البيئات الجاهلة المعرضة عن دين الله عز وجل، وفي البيئات التي اجتالتها فرق الرافضة وبعض الاتجاهات التي تميل إلى الإرجاء أو تميل إلى التساهل والإعراض عن دين الله عز وجل، فيكون بين الرجل والمرأة علاقات قد يدعون أنها شرعية لكنها على غير مقتضى الكتاب والسنة، فمن هنا قد تهب المرأة نفسها للرجل فيستحلها بذلك، وإلى الآن توجد هذه الظواهر كما نقرأ كثيراً في الجرائد ووسائل الإعلام في بعض البلاد الإسلامية، والآن أصبحت توجهاً عند بعض الشباب في بعض البلاد الإسلامية، وقرأت عنها مقالاً استقرأ هذه الحالات ووجدها توجد بأعداد كبيرة في بعض البلاد الإسلامية المجاورة، ويستحلون الفروج بهذه الصورة، حيث تهب المرأة نفسها للرجل فيعقد العقد هو فيما بينه وبينها دون شاهد ودون ولي والصداق بالتصالح، ويرون أن هذا إجراء شرعي يتم به الزواج. هذه حالات تحدث مع إعراض الناس عن دين الله عز وجل، وقلة الفقه في الدين، ومع اتباع الأهواء وسيطرة البدع وهيمنتها على عقول الناس.

الطعن على الصحابة علامة على الهوى

الطعن على الصحابة علامة على الهوى قال رحمه الله تعالى: [وإذا رأيت الرجل يطعن على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه صاحب قول سوء وهوى، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا ذكر أصحابي فأمسكوا)، فقد علم النبي صلى الله عليه وسلم ما يكون منهم من الزلل بعد موته فلم يقل فيهم إلا خيراً، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ذروا أصحابي لا تقولوا فيهم إلا خيراً)، ولا تحدث بشيء من زللهم ولا حربهم، ولا ما غاب عنك علمه، ولا تسمعه من أحد يحدث به، فإنه لا يسلم لك قلبك إن سمعت]. هذه أيضاً قاعدة من القواعد التي تميز بها السلف عن غيرهم تجاه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه حتى الفرق التي تزعم أنها تحترم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فإنها تخوض في الأحداث التي حدثت بينهم والآراء التي صارت وما شجر بينهم، وهذا خطأ لأسباب ذكرها السلف: منها أن ما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم لم ينقل لنا كله، والذي نقل نقل كثير منه بالخطأ، والذين نقلوها أيضاً فسروا نيات الصحابة رضي الله عنهم واتهموهم بما لم يكن منهم، وما حدث منهم أمر لم نشهده ولم نعلمه على وجه اليقين وانتهى بخير؛ بمعنى أنه انتهى بحيث اتفقوا وميزوا الحق من الخطأ، فالمخطئ منهم اعتذر وتاب، ومن لم يخطئ عفا عما حصل له من قبل أخيه، فإذاً: لا داعي لإثارة مثل هذه الموضوعات. ثم إنها توغر الصدور أكثر إذا جمع الأحداث التي حدثت بين الصحابة رضي الله عنهم ولم يستوعب فقه هذه الأحداث وما وراءها من اجتهادات ونيات، فيقع في قلب السامع ما لا يجوز في حق هؤلاء الذين زكاهم الله وزكاهم الرسول صلى الله عليه وسلم. ولذلك لما ظهرت بعض الأشرطة في الآونة الأخيرة عن بعض طلاب العلم فيما شجر بين الصحابة من الأحداث كره مشايخنا حفظهم الله ذلك، ونهوا عن تداول هذه الأشرطة وعن سماعها وعن بيعها مع أنهم -حسب ما علمت- ما وجدوا فيها أخطاء ذات بال، لكنهم كرهوها وكرهوا تداولها بناء على الأصل، وهو أن ما شجر بين الصحابة لا ينبغي إثارته ولا الحديث فيه؛ لأنه يوقع عامة الناس في أمور قد توجب أن يكون في نفوسهم شيء على بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أحداث لم نشهدها ولم تنقل لنا عن يقين، والذي نقل منها كثير منه خطأ وفسرت فيها نياتهم، وهم أيضاً لقوا ربهم على أحسن حال وانتهت هذه الأحداث بالتصافي بينهم وبالرجوع إلى الحق، ولم يحدث من أحد منهم أن فارق الجماعة أو خرج على السنة، وهذا هو المهم، وما عداه ينبغي يجب الإعراض عنه. وأنا سمعت الأشرطة وسمعها غيري، فلم أجد فيها شيئاً يخرج عن مقتضى ما عليه عموم أهل السنة والجماعة، ودافع عن الصحابة رضي الله عنهم بعاطفة دينية طيبة يشكر عليها، وهو قد اجتهد في ذلك، وبلغ من قبل المشايخ بأن هذا لا ينبغي. أما القول بأنه يميل للرافضة في مثل هذه الأشرطة فلم أجد من ذلك شيئاً، فضلاً عن أن يكون الحكم أكبر من ذلك. والحقيقة أنه لا ينبغي أن يكون بين الناس شيء من هذه التجاوزات، فإذا اجتهد مجتهد في مثل هذه الأمور ينصح فقط، أما أن تصل المسألة إلى حد الاتهام فهذا لا يجوز، وهذا علاج للخطأ بخطأ أكبر منه، وإذا كان قد أخطأ بعض الخطأ فهو قد رجع إلى أهل العلم فيما أعلم، وأرجو أن يكون استفاد من فتاوى العلماء. أما الحديث عنه بأكثر من ذلك فلا ينبغي ولا يجوز.

الطعن على الآثار أو ردها من سمات أهل الأهواء والبدع

الطعن على الآثار أو ردها من سمات أهل الأهواء والبدع قال رحمه الله تعالى: [وإذا سمعت الرجل يطعن على الآثار أو يرد الآثار أو يريد غير الآثار فاتهمه على الإسلام، ولا تشك أنه صاحب هوى مبتدع]. هذا حق، والمقصود بالآثار النصوص الشرعية وما ورد عن السلف من مناهج الدين وأصول الاعتقاد والاجتهادات والتطبيقات وغيرها. فكل ما نقل عن السلف من هديهم في القول والعلم والسلوك والمناهج، بما في ذلك مناهج تلقي الدين وطرق الاستدلال ومصادره، وبما في ذلك تناول قضايا الاعتقاد وأصول الدين، ومناهجهم في الاجتهاد وحفظ آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن طعن على الآثار فقد طعن على أهلها، وأهلها هم أهل السنة والجماعة، وهم المؤمنون الذين توعد الله من خالف سبيلهم؛ لأن من طعن على الآثار فقد طعن على رواتها وطعن على الدين نفسه؛ لأن الدين إنما نقله الله إلينا من خلال العدول الثقات الذين ورثوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم العلماء الذين بهم يبقى الدين محفوظاً إلى قيام الساعة، فإن الطعن على الآثار طعن في الدين نفسه، وكذلك رد الآثار يدخل في الطعن فيها، بل هو أشد. فالطعن على الآثار من مثل فرق المرجئة وأهل الكلام المتأخرين، أما رد الآثار فقد حدث من الخوارج وبعض المعتزلة، وحدث من الجهمية والرافضة والباطنية. قوله: (فمن أراد غير الآثار) يعني: تلقى الدين من غير مصادره الصحيحة كما مر (فهو متهم على الإسلام، ولا تشك أنه صاحب هوى مبتدع) سواء علم أو لم يعلم؛ لأن كثيراً من أصحاب الأهواء يقعون في الهوى بسبب تفريطهم في دين الله عز وجل وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً، لكنهم أثموا من حيث إنهم تركوا الاتباع وتركوا الاقتداء بمن يجب القدوة بهم وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الصحابة والتابعون.

جور السلطان لا ينقص فريضة من فرائض الله

جور السلطان لا ينقص فريضة من فرائض الله قال رحمه الله تعالى: [واعلم أن جور السلطان لا ينقص فريضة من فرائض الله التي افترضها على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، جوره على نفسه، وتطوعك وبرك معه تام لك إن شاء الله تعالى، يعني: الجماعة والجمعة معهم والجهاد معهم وكل شيء من الطاعات فشاركه فيه فلك نيتك]. الشيخ فسر القاعدة يقول: إن جور السلطان وهو كونه ظالماً أو فاسقاً أو فاجراً أو تحدث منه تجاوزات في حقوق العباد، وتعد عليهم في أموالهم وأنفسهم، كل ذلك لا ينبغي أن ينقص من فرائض الإسلام التي يقوم بها شيئاً مادام مسلماً له بيعة، فلابد أن يصلي خلفه وخلف خلفائه وأئمته الذين يعينهم، ولابد أن يقام معه الجهاد، سواء جهاد دفاع أو جهاد نشر لدين الله عز وجل، ولابد أن تؤدى بقراراته وبولايته شعائر الدين كالحج، والحج يوم يحج الناس مع إمامهم. وكذلك فرائض الدين كالصيام والأعياد وغيرها لابد أن يسير الناس على ما يسير عليه السلطان، فلا يتركون الجمعة والجماعة، ولا شعائر الإسلام الأخرى مثل صلاة الاستسقاء، وعند النوائب لابد من جمع الكلمة عليه وعدم الفرقة، ولابد من السمع والطاعة له بالمعروف والدعاء له كما سيذكر الشيخ فيما بعد. إذاً: جور السلطان لا ينقض فريضة، سواء من حق السلطان نفسه أو من شعائر الدين أو من أركان أو مصالح الأمة العظمى؛ لأنها واجبات لا يمكن تأديتها إلا مع السلطان سواء كان براً أو فاجراً.

الدعاء للسلطان من السنة

الدعاء للسلطان من السنة قال رحمه الله تعالى: [وإذا رأيت الرجل يدعو على السلطان فاعلم أنه صاحب هوى، وإذا رأيت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح فاعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله. يقول فضيل بن عياض: لو كانت لي دعوة ما جعلتها إلا في السلطان؛ أخبرنا أحمد بن كامل قال: حدثنا الحسين بن محمد الطبري حدثنا مردويه الصائغ قال: سمعت فضيلاً يقول: لو أن لي دعوة مستجابة ما جعلتها إلا في السلطان، قيل له: يا أبا علي فسر لنا هذا، قال: إذا جعلتها في نفسي لم تعدني، وإذا جعلتها في السلطان صلح فصلح بصلاحه العباد والبلاد. فأمرنا أن ندعو لهم بالصلاح، ولم نؤمر أن ندعو عليهم، وإن ظلموا وجاروا؛ لأن جورهم وظلمهم على أنفسهم وصلاحهم لأنفسهم وللمسلمين].

الدعاء للسلطان مصلحة للأمة

الدعاء للسلطان مصلحة للأمة هذا أيضاً من الأصول الشرعية التي قررها السلف، ولذلك أقروا كلام الفضيل ونقلوه واستحسنوه، وجعلوه قاعدة من قواعد الدين، وأصلاً من أصول العقيدة يتناقلونه إلى يومنا هذا؛ لأنه مبني على النصوص الشرعية التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن من أعظم صور المناصحة الدعاء لولي الأمر بأن يهديه الله ويصلحه ويوفقه ويسدده ويعينه وييسر له الأعوان الصالحين، هذا من الأمور التي ترجع فائدتها لدين الناس ودنياهم لا لذات السلطان فقط، مع أنه يجب أن ندعو للمسلم بالصلاح وإن لم يكن سلطاناً، فكيف إذا كان سلطان.

الدعاء على السلطان من علامات الهوى والبدعة

الدعاء على السلطان من علامات الهوى والبدعة إذا تأملت مقتضى النصوص الشرعية والمصالح الدينية والدنيوية تجد أنه لا يدعو على السلطان إلا أحد اثنين: إما صاحب هوى وهو الغالب، بمعنى أن عنده هوى سواء كان هذا الهوى هوى القلب أو ما يسمى هوى الاتجاه الذي هو اتباع الفرق. بعض الناس قد يكون سبب دعائه على السلطان مبني على أمر شذ به عن جماعة المسلمين، إما اتجاه وإما حزب وإما فكر، فيكون عنده توجه معين يجعله يقف من السلطان الظالم والفاجر موقفاً يصل إلى الدعاء عليه، فلذلك لا يدعو على السلطان إلا متهور جاهل أو صاحب هوى؛ هذا في نظري، ولا أجد هناك صوراً أخرى، إلا أن يجتهد مجتهد فيقع في مثل هذا لكنه مع ذلك مخطئ، لأن من استساغ الدعاء على السلطان فهو مخالف لقواعد الشرع ولمقتضى العقل السليم، فإن العاقل لا يمكن أن يفعل مثل ذلك ما لم يكن يوجهه عن هذا أمر آخر صارف، وإلا فالهوى قد يصرف حتى العاقل عن مقتضى العقل. فإذاً: هذا أمر مهم، بل العكس هو المطلوب شرعاً، وهو الدعاء للسلطان بأن يهديه الله وليس الدعاء عليه يعني: الذين استساغوا الدعاء على السلطان لم يقعوا في الهوى وخلاف السنة، بل وقعوا في مصادمة الأصل الشرعي تماماً، فبدلاً من أن يعملوا بالمشروع وهو الدعاء للسلطان أن الله يهديه ويوفقه ويصلحه دعوا عليه، ولو سكتوا لكان الأمر أسهل؛ لأن بعض الناس قد يجهل الأمر فيسعه السكوت، لكن أن يخالف القاعدة مخالفة صريحة فيدعو على السلطان هذه مسألة لا تستساغ شرعاً ولا عقلاً، وإن وقع فيها بعض المجتهدين فهذا زلل ينبغي أن ينبه عليه، وإلا فقد يجتهد طالب علم أو إنسان له حظه من الفقه، وقد يكون ممن يعرف بالإخلاص والصدق، لكن إذا وقع في هذا فهو مخطئ يجب أن ينبه على زلته ويرجع إلى الأصل.

الأسئلة

الأسئلة

حكم التزام الدعاء للإمام في الخطبة

حكم التزام الدعاء للإمام في الخطبة Q ما حكم التزام الدعاء للإمام في الخطبة؟ A التزام الدعاء للسلطان في الخطبة من الأمور التي فيها خلاف، والتزامه باعتقاد أنه من سنن الخطبة -كما يظن بعض الناس- ليس بمشروع، لكن من التزمه من باب القيام بالأمر المشروع لا من باب أنه واجب ولا من باب أنه من أركان الخطبة فلا حرج عليه، ولذلك ينبغي لطالب العلم أن يغفله أحياناً لئلا يظن الناس أنه من واجبات الخطبة؛ لأن هذا الأمر قد يحدث، أعني أنه إذا التزمه الناس فمع كثرة طرقها يظن عامة المسلمين أنه من شروط الخطبة، لكن الأصل أنه مشروع وينبغي أن يؤدى بالطريق المناسب، يعني: يدعو كثيراً ويتركه أحياناً؛ لأن حاجة المسلمين اليوم قائمة وملحة إلى الدعاء لولاة أمورهم بأن الله يهديهم ويصلح حالهم، فينبغي لطالب العلم أن يدعو لهم؛ لكن لا مانع أن يتركه ما بين وقت وآخر لئلا يشعر الناس بأنه من الشروط والواجبات.

حكم طاعة السلطان الذي يحارب الإسلام ويلاحق الدعاة

حكم طاعة السلطان الذي يحارب الإسلام ويلاحق الدعاة Q إذا ابتلي المسلمون بحاكم يحارب الإسلام ويعادي الدعاة ويلاحقهم، فهل تجب طاعته والدعاء له؟ A محاربة الإسلام والمسلمين أمر نسبي قد يختلف عليه الناس، فما معنى محاربة الإسلام والمسلمين، هذه مسألة. وعلى أي حال فعند تقرير قواعد الشرع لا ينظر للشذوذات، فالقواعد المتعلقة بولي الأمر والسلطان تنطبق على السلطان المسلم الذي في عنق الناس له بيعة، هذا هو الأصل، وإذا ابتلي المسلمون بسلطان غير مسلم فلابد أن يعالجوا أمرهم على قواعد الشرع، ونحن في عافية بحمد الله، ونسأل الله أن يعافينا دائماً، وأن ييسر لجميع المسلمين أمورهم، وأن يولي عليهم خيارهم. فنحن بعافية في بلدنا هذا من مثل هذا الأمر لكن من ابتلي فينبغي أن يعالج الأمر على ضوء قواعد الشرع، وتصبح أموره أمور ضرورة يعالجونها بالحد الأدنى الذي يستطيعونه، ومع ذلك قواعد الشرع لا يمكن ترك جميعها إذا انتقض بعضها، فتبقى المصالح معتبرة وكذا درء المفاسد. في القرن السابع الهجري انفلتت أحوال الأمة وضاعت الخلافة وقضي على سلطان المسلمين في كثير من بلاد المسلمين وغلب عليهم التتار، وكانوا في أول أمرهم جاءوا بالشرك والوثنية والفلسفة ضد الإسلام، وغلبت الباطنية وسيطرت الرافضة وصارت تلدغ المسلمين من كل وجه، فحصل على الناس حرج في دينهم، ومع ذلك ما فتئ العلماء يحلون مشكلات الناس بقدر ما يستطيعون. فيبقى الحد الأدنى من ضرورة حفظ أمن الناس، ويبقى حد أدنى من الطاعة للوالي وإن كان أحياناً ليس عنده من الإسلام إلا الاسم، فاجتمع المسلمون على ولايات أصحابها من أفجر الفجار، وربما نقول: من أكفر الكفار ممن يدعون الإسلام من الباطنية وغيرهم، بل ممن لا يدعون الإسلام. هذه بلوى يجب أن نسأل ربنا العافية، فإذا ابتلي بلد من بلاد المسلمين بسلطان لا يقيم حدود الله أو يحارب الإسلام، يجب أن يتقوا الله ما استطاعوا، ولابد أن يبقى عندهم حد أدنى من الطاعة لا للسلطان؛ لكن لأن الناس لابد من أن يجتمعوا ولو اجتماعاً رمزياً يحفظ الحد الأدنى من أموالهم وأعراضهم وحقوقهم، ولو انتهك الكثير منها، أي أننا نرجع إلى تطبيق قواعد الشرع. لأن بعض الناس يعيش خيالات فيقول: إذا كان البلد المسلم فيه حاكم غير مسلم لا يقيم شعائر الله فمعناه لا سمع له ولا طاعة، فيفعل ما يشاء ويبيح للناس أن يفعلوا ما يشاءون، ونحن نقول: هذا غير صحيح، فإن المسلمين ابتلوا في بعض عصورهم بأن سيطر عليهم المحتلون من الكفار يهود ونصارى، ومع ذلك بقي العلماء يفتون الناس بالبقاء والاستمساك بمصالح معينة، لا لأنها طاعة للسلطان لكن لأنها الحد الأدنى الذي به تستقيم حياة الناس، فكانوا يصلون ويقيمون الجمعة والجماعات، وأحياناً يعملون أشياء ربما تكون من أعمال السلطان كالحسبة؛ لأنه لا يوجد سلطان، فيديرون أمورهم بقدر ما يستطيعون. فالشاهد أن مثل هذا البلوى بحاكم غير مسلم وليس له بيعة لابد من الرجوع فيها إلى العلماء وإلى قواعد الشرع، ولا تترك للاجتهادات الفردية كل يقول فيها ما يشاء، فتكون الدنيا فوضى، والناس إذا نزعت من قلوبهم الطاعة انفلت الأمن عندهم، فلابد من قدر معين من النظام تقوم به المصالح وتدفع به المفاسد، والله أعلم.

حكم استباحة أموال الكفار في بلاد الكفر

حكم استباحة أموال الكفار في بلاد الكفر Q بعض الناس يعيش في بلاد الكفار، فيستبيح أخذ أموالهم وسرقتها باعتبار أنهم حربيون، فما الحكم؟ A هذا حرام، فمثلاً إنسان عاش في بريطانيا أو أمريكا أو أوروبا أو أي بلد كافر خالص هل يستبيح الأموال أو لا يدفع القيمة إذا اشترى سلعة بدعوى أنها أموال كفار؟! هذا لا يجوز، ومن قال إنه يباح مال الكافر بهذه الطريقة؟! فليس هذا بحال حرب فيقول غنمت أموال الكفار، وعلى ذلك إذا غنمها لو أخذ منها قيمة قشة بدون وجهها الشرعي فهي غلول، فكيف بأموال الناس. كذلك استباحة الأنظمة التي تقوم بها حياة الناس حتى في بلاد الكفار ما لم تكن أنظمة تحل حراماً أو تحرم حلالاً، لكن أكثر الأنظمة المادية العادية التي فيها بيع وشراء أو فيها اعتبار مصالح وتنظيم لحياة الناس هذه لا بد أن تُحترم وتُعتبر وإن كانت في بلاد الكفار، وإلا فلن تستقيم حياة الناس، فلولا الأنظمة في بلاد الكفار ما استطاع المسلمون أن يقيموا شعائر الدين في بلاد الكفار، ولا أن يكون لهم ممتلكات ومساجد ويدعون إلى الله عز وجل، كثير من بلاد الكفار الدعوة فيها أكثر حرية من بلاد المسلمين، ولا يعني ذلك أنا نفضّل أنظمة الكفار؛ لكن نقول: الضرورات لها أحكامها، ولا ينبغي للمسلم أن يتجاوز الأصول الشرعية إذا فقد السلطان المسلم، ولا يستحل ما لا يجوز له، فلا بد من اعتبار جلب المصالح ودرء المفاسد على قدر ما يجتهد فيه أهل الاجتهاد.

حكم التحذير ممن ينشر مخالفاته في الكتب

حكم التحذير ممن ينشر مخالفاته في الكتب Q إذا نشر الرجل أقواله في كتبه وهي تخالف ما عليه السلف، فهل يشهّر به ويحذّر منه؟ A إذا كان الرجل ممن يقرأ له ويُتبع فهذا نوع من المجاهرة، فلا بد من الرد عليه وبيان حاله، أما إذا كانت كتبه مغمورة ومدفونة ولا تقرأ فربما يكون من المصلحة معالجة الأمر بغير التشهير.

حكم عدم التأمين عند الدعاء لولي الأمر

حكم عدم التأمين عند الدعاء لولي الأمر Q ما الواجب على الإنسان إذا علم أن بعض الناس في الدعاء لولاة الأمر يسكت ولا يؤمّن على الدعاء في القنوت؟ وما حكم فعل ذلك الشخص؟ A هذا هو خلاف السنة، فلعله اشتبه عليه الأمر أو قلّد غيره، فينبغي أن يُنصح ويبيّن له، ولا أدري ما الذي يضيّق صدر المسلم في أن يهتدي الوالي؟ فهذا من تحجير ما وسع الله تعالى، فينبغي أن ينصح وينبه أنه وقع في الهوى وهو لا يدري. ومعنى الهوى أن في نفسه على الحاكم شيئاً فيصعب عليه أن يؤمن إذا دُعي للحاكم. وهذا ما قدّم دين الله على رغبة نفسه، فيجب أن يفتش عن حاله وينصح في هذا الأمر، وليست هذه مجرد وجهة نظر، بل هذه من سنن الهدى، فقد نختلف في مسألة استمرار الدعاء، لكن إذا دعا مسلم أو دعا إمام لولي الأمر بأن الله يهديه ويصلحه فلا يسعك إلا أن تقول: آمين، فليفكر العاقل، ومع ذلك قد يكون هذا الحال عن غفلة وهو الغالب، أي أنه قد يكون بعض الناس غافلاً أثناء الدعاء حتى لو دعا بدعاء آخر، فأرجو أن يتثبت الذي يجد مثل هذه الظاهرة من حال الذي يحدث منه ذلك؛ لأنه في الغالب أنه لا يسع مسلم يتقي الله عز وجل ويريد مصالح المسلمين إلا أن يؤمّن في الدعاء لولي الأمر.

الخلل الذي طرأ للعز بن عبد السلام في العقيدة

الخلل الذي طرأ للعز بن عبد السلام في العقيدة Q ذكرت أن العز بن عبد السلام عنده بعض الخلل في العقيدة؟ A هذا صحيح، والعز بن عبد السلام رحمه الله من أئمة الإسلام وأئمة الهدى وله مواقف محمودة في نشر السنة ورد البدع، لكنه في جانب العقيدة تابع الأشاعرة في بعض الأمور وخالف أهل السنة، وهناك ردود عليه معروفة في وقته وبعد وقته، لكن لعلها تكون من زلّات العلماء، فهو مما يظهر أنه لا يقصد البدعة، لكن مع ذلك عنده أمور واضحة مثل تقسيمه البدعة التقسيم الذي صار يتكئ عليه الآن أهل البدع، فهو يرى أن هناك بدعة حسنة وغير حسنة، وأن البدعة تجري عليها الأحكام الخمسة، فهذا لا شك أنه خلاف منهج أهل السنة والجماعة، بل يعد خللاً في منهج أهل السنة في هذا الجانب، كذلك موقفه من الصفات، لكن يغفر الله لنا وله، وهو ممن يتأول وصاحب التأوّل يجب ألا نبدّعه أو نخرجه من السنة بالجملة، لكن فيما خالف فيه أهل السنة نبيّن ذلك.

شرح السنة [19]

شرح السنة [19] من علامات أهل السنة أنهم يعرفون لأمهات المؤمنين أزواج الرسول الكريم فضلهن وحقهن، ويترضون عنهن، ولا يذكرونهن إلا بخير، ومن علاماتهم أنهم يتعاهدون الفرائض مع جماعة المسلمين، ومن علامات أهل البدع أنهم ينبزون أهل السنة بما ليس فيهم، ويطعنون فيهم بما هم منه براء، فمن كان كذلك فهو مبتدع يجب الحذر منه، ولا يجوز الأخذ أو التلقي عنه في أمور العقيدة وأصول الدين.

عقيدة أهل السنة في أمهات المؤمنين

عقيدة أهل السنة في أمهات المؤمنين قال إمام أهل السنة في عصره أبو محمد الحسن بن علي البربهاري رحمه الله تعالى: [ولا تذكر أحداً من أمهات المؤمنين إلا بخير]. كما يقال في الصحابة رضي الله عنهم عموماً، وكما يقال أيضاً في حق العشرة المبشرين بالجنة، وكما يقال في حق آل البيت، وكما يقال في حق الخلفاء الأربعة؛ كذلك يقال في حق أمهات المؤمنين أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يذكرن إلا بخير لأن الطعن أو اللمز في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ينعكس على حق النبي صلى الله عليه وسلم لأنه استنقاص لحقه، فإنه لا يليق أن يقال في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ما يسيء إليه هو وما يسيء إليهن أيضاً بصفتهن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وبصفتهن مؤمنات مسلمات زكّاهن الله عز وجل في كتابه، فهن يدخلن في عموم الصحابة في عدم جواز السب لهم وعدم جواز اللمز والطعن فيهم، ولهن حق أخص بصفتهن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه إشارة إلى ما وقع عند أهل الأهواء، فإن المسلم المستقيم الذي على الفطرة مهما كان عنده من الفسق والفجور، فإنه إذا استقامت عقيدته لا يمكن أن يجرؤ على القول في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أو في إحداهن كما فعلت الرافضة فعلى هذا فإنه لا يقدح فيهن إلا صاحب هوى، ولذلك لم يحدث شيء مما ذكره هو وأشار إليه من ذكر أمهات المؤمنين بغير الخير إلا من أهل الشر والبدع والأهواء وعلى رأسهم الرافضة، فالرافضة هم أول من تولى كبره في ذلك، وكذلك بعض الخوارج.

تعاهد الفرائض في جماعة علامة على السنة

تعاهد الفرائض في جماعة علامة على السنة قال رحمه الله تعالى: [وإذا رأيت الرجل يتعاهد الفرائض في جماعة مع السلطان وغيره، فاعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله تعالى، وإذا رأيت الرجل يتهاون بالفرائض في جماعة وإن كان مع السلطان فاعلم أنه صاحب هوى]. هذه من شعائر الدين ومن علامات السنة الظاهرة التي تميز أهل السنة وأهل الحق عمن سواهم من أهل الأهواء والبدع والافتراء، وأصحاب النزعات الفردية أو النزعات الجماعية الذين خالفوا السنة والجماعة، ذلك أن أكبر برهان ظاهر على التزام السنة الذي أمر الله به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم هو التزام جماعة المسلمين في الصلاة، لأنها هي المظهر الأول والبيّن الذي يتكرر في حياة المسلم ويتميّز به عن غيره، فيتعاهد الفرائض في جماعة مع السلطان، يعني مع ولي الأمر أو من ينيبه ولي الأمر، لأن أئمة المساجد يقومون بإمامة المساجد بتعيين الولاية لهم أو برضا الجماعة عنهم، فيكون هذا الأمر حاصلاً في حق الإمام الأكبر أو فيمن ينوّبهم من أئمة المساجد وفي كل جماعة تقوم لها صفة الجماعة وإن قلّت في الحي، وفي العمل، وفي السفر أو الحضر، فالمهم أن شعار المسلم المستمسك بالسنة الحفاظ على جماعة المسجد، والجماعة في مصالح الأمة الأخرى أيضاً، لكن كما قلت: الفرائض هي أكبر شعار يتبين به من يلتزم الجماعة ومن لا يلتزم. إذاً: فالذي يلتزم الجماعة ويواظب عليها يكون ظاهره من أهل السنة ما لم يكن هناك قرائن أخرى تصرفه عن ذلك، وكذلك العكس، إذا كان هناك رجل يتهاون بالصلاة ولا يحضر الجماعة فهو مغموز في دينه، فهو إما صاحب هوى يقدح في الجماعة ويشذ عنها بهواه وببدعته، وإما أن يكون ممن غُمز بالفسق والفجور والتهاون في دين الله عز وجل. قال: (وإن كان مع السلطان)، بمعنى أنه إذا ترك الجماعة وإن كان مبايعاً للسلطان يسمع ويطيع، أو وإن كان من أعوان السلطان وحاشيته فإنه إذا ترك الجماعة فإن هذه علامة سوء ومغمز يغمز به ويعتبر ممن أخطأ في حق الجماعة ووقع في المحذور الشرعي.

ضوابط معرفة الحلال والحرام والشبهة

ضوابط معرفة الحلال والحرام والشبهة قال رحمه الله تعالى: [والحلال ما شهدت عليه وحلفت عليه أنه حلال، وكذلك الحرام، وما حاك في صدرك فهو شبهة]. الشيخ هنا يقرر القاعدة الفطرية لا القاعدة الشرعية؛ لأن مسألة الحلال والحرام تتبين بأمور: أولها: النصوص، فالحلال ما أحلّه الله والحرام ما حرمه الله، وقد جاءت النصوص في بيان أن الأصل في الأمور الحل، وأن الحرام ما نُص عليه أو دخل في قاعدة من القواعد التي يتبين بها الحرام من خلال النصوص الشرعية أو الإجماع، هذا أمر. الأمر الآخر: أن هناك درجة أخرى للتمييز بين الحلال والحرام بعد النصوص الشرعية، وهو الفطرة والعقل السليم، فإن الفطرة والعقل السليم رُكّبت على أنها توافق الشرع في الإقرار بما أحله الله عز وجل والنفور مما حرمه الله. وهو هنا يشير إلى المعنى الفطري في المسلمين الذين هم على الاستقامة، وهم عامة المسلمين الذين لم تدخلهم الشبهات ولا الشهوات، أما إذا دخلت على الإنسان الشبهات والشهوات فإنه قد يحلف على الحلال بأنه حرام والعكس كذلك، لأنه مسخت فطرته، وفسد عقله، وتبع هواه. إذاً: فكلام الشيخ هنا ينطبق على المسلم العادي الذي هو على الفطرة في الأصل ولم ينجرف بالشهوات ولم ينحرف بالشبهات، فهذا يجد أن الحلال بيّن ويحلف عليه أنه حلال بمقتضى أنه يفقه دين الله عز وجل، وكذلك الحرام. ثم قال: (وما حاك في صدرك فهو شبهة)، وهذا أيضاً للمسلم الذي لم تعتره الصوارف التي تصرفه عن مقتضى الفطرة من الشبهات في الشهوات، فإنه إذا بقي على الفطرة فإنه ينطبق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطّلع عليه الناس).

المستور والمهتوك

المستور والمهتوك قال رحمه الله تعالى: [والمستور من بان ستره، والمهتوك من بان هتكه]. وهذا أيضاً راجع إلى قاعدة الحكم بالظاهر، فالناس ليس لهم إلا الظاهر ما لم تتوافر قرائن على الشخص في تزكيته أو في تجريحه، فالمستور من ستره الله عز وجل، لا ينبغي أن نحكم على الناس بالظن، ولا بالشبهات التي لا تقوم بها حجج وأدلة، ولا بمجرد القرائن التي لا تقوى على إخراج الإنسان من حكمه الأصلي، فبعض الشبهات أو القرائن القليلة لا تكفي في أن إخراج الإنسان عن الستر، فالأصل التبيّن والتثبّت. وكذلك العكس: فإذا ظهر في الإنسان الفجور وجاهر بالبدعة فقد خرج من كونه في عافية كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يقال إن الأصل فيه الستر، إنما الستر على من لم يظهر منه شيء.

من علامات أهل الأهواء أنهم ينبزون أهل السنة

من علامات أهل الأهواء أنهم ينبزون أهل السنة قال رحمه الله تعالى: [وإن سمعت الرجل يقول: فلان مشبّه، وفلان يتكلم في التشبيه، فاتهمه واعلم أنه جهمي، وإذا سمعت الرجل يقول: فلان ناصبي فاعلم أنه رافضي، وإذا سمعت الرجل يقول: تكلم بالتوحيد واشرح لي التوحيد، فاعلم أنه خارجي معتزلي، أو يقول: فلان مجبر أو يتكلم بالإجبار أو يتكلم بالعدل فاعلم أنه قدري؛ لأن هذه الأسماء محدثة أحدثها أهل الأهواء]. هذه أيضاً قواعد جيدة، وهي على التغليب، ذلك أن الأصل في المسلمين الإسلام والسنة، ما عدا من خرجوا وتميزوا بالبدعة، فالخوارج مثلاً تميّزوا ببدعتهم، والرافضة والشيعة تميّزوا ببدعتهم، والجهمية والمعتزلة والقدرية والمرجئة تميزوا ببدعتهم، فيبقى عامة المسلمين هم الذين لهم هذا الحكم، بمعنى أننا نعرف أن الأصل في المسلمين الذين على السنة أنهم ليسوا مشبّهة ولا ناصبة ولا مرجئة ولا مجبرة ولا مكفّرة ولا غير ذلك.

من ينبز السني بالتشبيه فهو جهمي

من ينبز السني بالتشبيه فهو جهمي إذاً فإذا سمعت من يطلق على المسلم المستقيم أنه مشبّه فاعلم أن هذا الذي أطلق التشبيه على المسلم عنده نزعة تجهّم؛ لأن المشبهة انقطعت ولم تعد موجودة الآن، ولأن التشبيه أمر بيّن لا يمكن ألا يعلم به إلا مثل هذا الشخص الذي يلمز الناس ويغمزهم ويشير إليهم بأصابع الاتهام، وهو صاحب الهوى. إذاً فمن أطلق هذه الكلمة على أخيه المسلم فينبغي أن تتثبت من حاله، فالغالب أنه جهمي أو معتزلي أو مؤول، وهذه كلها يشملها مسمى جهمي كما ذكرت في دروس سابقة، وهو منهج السلف في الآونة الأخيرة، فإنهم يسمون كل من أوّل وعطّل، وكل من لمز السلف أو عاب منهجهم، أو تكلم في الصفات، أو قرر الدين بغير مناهج السلف جهمياً، وهذه هي التسمية الحقيقية؛ لأن كل أصول الفرق ترجع إلى منهج الجهمية السابقة لها واللاحقة، فعلى هذا كل من وصف مسلماً بأنه مشبّه فهو جهمي إلا إذا ثبت أنه مشبه فعلاً وهذا نادر، والنادر لا حكم له.

من ينبز السني بالنصب فهو رافضي

من ينبز السني بالنصب فهو رافضي وكذلك من قال فلان ناصبي، والناصبة هم الخوارج، فإذا أطلق كلمة ناصبي على غير الخوارج فهو رافضي، أو عنده نزعة تشيّع.

من يبالغ في الكلام على التوحيد فهو قدري

من يبالغ في الكلام على التوحيد فهو قدري وكذلك إذا سمعت الرجل يتكلم بالتوحيد، يعني يبالغ، فهو قدري، وفي عهد الشيخ لم تشتهر كلمة التوحيد في إطلاقها على العقيدة، وإنما كانت العقيدة تسمى السنة، ويندر استعمال كلمة توحيد، وأكثر ما اشتهرت في القرن الرابع في عهد الإمام ابن خزيمة ومن جاء بعده، مع أنه ما أطلق التوحيد على عموم العقيدة، وإنما أطلق التوحيد على الصفات في كتابه التوحيد، فإذاً الكلمة كانت في مرحلة من مراحل الاصطلاح التي مرت بها، فكان في عهد البربهاري إطلاق العقيدة تحت وصف السنة لا التوحيد، فكان الذين يرفعون مسمى التوحيد هم المعتزلة والجهمية وبعض الرافضة وبعض الخوارج، ويقصدون بالتوحيد إنكار الصفات. ثم بعد ذلك الاصطلاح تحول حتى صار شائعاً عند أهل السنة أنهم يطلقون على العقيدة توحيداً، خاصة في القرن السادس والسابع والثامن والتاسع، ثم في عهد الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب ومن جاء بعده صاروا يطلقون على العقيدة كلها توحيداً من باب أن أكثر ما وجد الإخلال في الأمة في العصور المتأخرة في جانب التوحيد من الناحية العملية، حيث وقعت كثير من الأمم في البدع والشركيات والتوسلات، فصار التركيز على إظهار العقيدة بمسمى التوحيد هو المناسب للعصور المتأخرة، ولا مشاحة في الاصطلاح. فالشاهد أنه في عهد الشيخ البربهاري كان الذي يبالغ في مسألة التوحيد أكثر من اللزوم في الغالب أنه يقصد بها نفي الصفات وهذا هو الحاصل، هذا هو الحاصل إذا استقرأنا كتب ومناظرات ومؤلفات وأعمال الجهمية في ذلك الوقت، فيسمون تعطيلهم توحيداً. ثم قال: (فاعلم أنه خارجي معتزلي)، لأن الخوارج والمعتزلة في وقته بدءوا يعتنقون مذهب الجهمية، فكلهم يطلقون على التأويل والتعطيل والتحريف توحيداً. (أو يقول: فلان مجبر أو يتكلم بالإجبار أو يتكلم بالعدل فاعلم أنه قدري)، أي: أو جهمي؛ لأن الأصل في عموم المسلمين أنهم يقولون مذهب أهل السنة والجماعة بأن القدر من الله عز وجل بخيره وشره، فمن بالغ في هذا الأمر وقال بأن فلاناً مجبر فهو قدري، والذي يطلقها هو القدري المعتزلي الذي يصف من يخالفه بالجبر.

من يتهم أهل السنة اليوم بالإرجاء أو التكفير

من يتهم أهل السنة اليوم بالإرجاء أو التكفير كذلك يمكن أن يقاس على هذا ما يناسبه أو ما يقابله، فمن أطلق على أئمة أهل السنة وعلمائهم وطلاب العلم منهم بأنهم مكفّرة فهو مرجئ، وهذا كثير في عصرنا هذا، والعكس كذلك من أطلق على بعض علماء المسلمين الذين يقولون بقول من أقوال السلف في الإيمان أو في الأحكام والأسماء بأنهم مرجئة ففي الغالب أن عنده نزعة تكفير ولا أقول: دائماً، ولذلك كثر ذلك الآن عند الذين عندهم شيء من الغلو ونزعة التكفير وإن لم يكونوا خوارج، فتجدهم يطلقون على بعض أقوال أهل السنة بأنها إرجاء، ويطلقون على كثير من علمائنا المعاصرين وطلاب العلم بأنهم مرجئة، وهذه أيضاً كثرت فيجب التنبه لها؛ لأن أقوال السلف في مسائل الإيمان وفي الأسماء والأحكام فيها تفاوت في الحقيقة، وبعضها قد يكون قريباً من قول المرجئة لكن لا يعني أن من قال بها فهو مرجئ، وبعضها قريب من قول المكفّرة لكن لا يعني أن من قال بها فهو مكفّر. فأقوال أهل السنة والجماعة تتفاوت لكن لا تصل إلى القول بالتكفير المحض ولا القول بالإرجاء المحض ولا حتى إرجاء الفقهاء، لكن هناك توافق في بعض فتاوى السلف وأقوالهم مع بعض أقوال المرجئة، بل أقول إن كثيراً من السلف تتوافق فتاواهم مع كثير من أقوال المرجئة في مسألة الأسماء والأحكام، والعكس كذلك يوجد كثير من السلف تتوافق فتاواهم مع بعض أقوال الذين عندهم شيء من التشدد، لكن ليس من كل وجه، فهم لا يوافقونهم على لوازم الحكم، ولا يوافقونهم على أحكام المعيّن، إنما في الأحكام العامة. فالسلف في تفاصيل الأسماء والأحكام ليس بينهم اتفاق، إنما اتفاقهم في أصول مسائل الإيمان وحده وحقيقته، ودخول الأعمال في مسمى الإيمان، والاستثناء في الإيمان أيضاً في الجملة، وإن كان بعضهم يرى أنه واجب وبعضهم يرى أنه جائز، وبعضهم يرى أنه مكروه، ومع ذلك كلهم يقولون بمشروعية الاستثناء في الإيمان، وكذلك ما يتعلق بمجملات الأسماء والأحكام، مثل حد الكافر والمنافق والفاسق والفاجر لكن عند التفاصيل وعند التطبيق على المعيّن، وعند بعض الأحكام التي تستنبط من النصوص بين الوعد والوعيد، نجد أن السلف منهم من يميل إلى تغليب الوعد ومنهم من يميل إلى تغليب الوعيد، ولا يخرجون إلى مذهب المرجئة ولا إلى مذهب الخوارج، فيكون هناك مسافة معينة في الخلاف بين أهل السنة، فمن لم يخرج عن نطاق هذه المسافة فلا يجوز وصفه بمرجئ ولا بمكفّر. وليت واحداً ينبري لهذه المسألة يقعّد فيها حتى يسهم في إصلاح ذات البين الحاصلة الآن بين كثير من طلاب العلم من أهل السنة والجماعة، لأن الأمر إذا لم يعالج قد يصل إلى حد الفرقة، نسأل الله السلامة.

عدم جواز الأخذ والتلقي عن أهل البدع في بدعهم

عدم جواز الأخذ والتلقي عن أهل البدع في بدعهم قال رحمه الله تعالى: [قال عبد الله بن المبارك: لا تأخذوا عن أهل الكوفة في الرفض شيئاً، ولا عن أهل الشام في السيف شيئاً، ولا عن أهل البصرة في القدر شيئاً، ولا عن أهل خراسان في الإرجاء شيئاً، ولا عن أهل مكة في الصرف، ولا عن أهل المدينة في الغناء، لا تأخذوا عنهم في هذه الأشياء شيئاً]. هذا كلام جيد، وهذا ليس بأحكام، بل هو من باب الخصائص والسمات. ولا شك أن المتأمل لأحوال الافتراق والفرق منذ نشأتها وإلى يومنا هذا يجد أن لها علاقة بالبيئات والمواطن، ولها علاقة بالأجواء السياسية والاجتماعية، فالأحداث والفتن في بقعة ما قد تتسبب في ظهور بدعة أو فرقة في هذه البقعة أو في هذا المكان أو في هذا الزمان، فهذه الخصائص موجودة في الحقيقة لكن ليست لازمة في كل الأزمنة، فهذا الذي ذكره كان في عهد عبد الله بن المبارك، وقد يكون هو الغالب في الأقاليم على وجه الاستمرار، لكن لا يعني أن هذه أحكام قطعية، إنما هذه ظروف أو أحوال عرفت من خلال الاستقراء التاريخي، فنجد أن الرفض بدأ في الكوفة، وهو الغلو في علي رضي الله عنه وفي آل البيت، والرفض صنعة مجوسية فارسية يهودية خالصة، والدليل على هذا أن الرافضة تعلقوا في أول نشأتهم بآل البيت، لكنهم أول من أساء وخذل آل البيت، وذلك حين انخدع بهم الحسين حتى خذلوه وقتل على أيديهم، وانخدع بهم علي بن أبي طالب قبله وأقبل إليهم لينصروه فخذلوه، ولجأ إليهم كثير من أئمة أهل البيت فخذلوهم، فهم من أرذل الناس وأخذلهم، وهذا مما يدل على أنهم ليسوا صادقين إذاً: الذي ليس بصادق يرجع إلى أصوله وعليه فإن الأصول العقدية للرفض راجعة إلى المجوس والفرس، والموطن موطن المجوس والفرس، وإن كانت الكوفة إنما أنشئت في عهد عمر بن الخطاب لكن أكثر من استوطنها طوائف من شذاذ الأمم والقبائل المختلفة، فبذرت بينهم بذور الرفض، فكانت البيئة جغرافياً وعقدياً واجتماعياً بيئة مناسبة للزنادقة الذين أنشئوا هذه العقيدة، وذلك قدر من أقدار الله، لكن مع ذلك يكون للبشر الذين جعل الله فيهم فتنة وابتلاء على العباد أثر في اختيار البيئات المناسبة لمثل هذه الأفكار، فالرفض فعلاً نشأ في الكوفة ولا يزال إلى يومنا هذا أقوى ما يكون في الكوفة أو ما حولها. ثم قال: (ولا عن أهل الشام في السيف شيئاً)، يظهر من كلامه أنه يقصد أن أهل الشام منهم طوائف عندهم طاعة عمياء يطيعون في المعروف والمنكر، ولذلك كان في بعضهم غلو حتى زكّوا الفجار والظالمين، فمن هنا قد يكون رأيهم في هذا الأمر ليس معتبراً، لأنه لا يعرف أن أهل الشام أهل خروج، بل العكس كانوا أهل تعصب مع الحاكم. (ولا عن أهل البصرة في القدر شيئاً) قدرية المعتزلة نشأت في البصرة، وترعرعت ونمت وعشعشت وفرّخت في البصرة، ثم انتقلت إلى بقية العالم الإسلامي. (ولا عن أهل خراسان في الإرجاء شيئاً) أهل خراسان أغلبهم من أتباع أبي حنيفة رحمه الله، وأبو حنيفة مرجئ، فتعلق الأحناف بمذهب الإرجاء لأنه مذهب إمامهم، وأكثر ما تمكن في العصور الأولى في خراسان مذهب الأحناف، فتعلق المذهبان بعضهما ببعض من هذه الناحية، فكان أهل خراسان مرجئة غالباً لأنهم أحناف، والأحناف متعصبة في الإرجاء. (ولا عن أهل مكة في الصرف شيئاً)، للصرف احتمالان: الاحتمال الأول الذي ذكره المحقق هو صرف العملات؛ لأن مكة تفد إليها جميع فئات المسلمين من كل بلد، وكل فئة معها عملة، فكانت الضرورة تلجئهم إلى أن يتساهلوا في الصرف، يأتي مغربي معه عملته فيضطر إلى أن يصرف بطريقة قد يكون فيها شيء من المعاملات التي فيها لبس، فالذي يظهر لي أن أهل مكة يوجد في تجارهم التساهل في مسألة صرف العملات لكثرة وفود الحجاج الذين تكثر عملاتهم وتتنوع فلا يكون هناك ضبط، والله أعلم. الاحتمال الثاني: أن المقصود به الصرف السحري، ولا يعني هذا أن هذه الصفة غالبة على أهل مكة، لكن نظراً لأن مكة موئل لكثير من المسلمين، فيأتي إلى مكة من عندهم شيء من الشعوذة والدجل، ويقتنصون الناس هناك نظر لأنهم أكثر حاجة في مكة بسبب الغربة، وهذه الغربة يكتنفها شيء من الجهل وقلة الفقه في دين الله عز وجل، فربما تكثر الشعوذة والدجل على أيدي الدهماء والعوام الذين يردون إلى مكة، والله أعلم. (ولا عن أهل المدينة في الغناء)، كذلك لا يعني هذا أن المدينة اشتهرت بالغناء، لكن يعني ذلك أنه في فترة من الفترات وجد من تساهلوا في الغناء، لكن هؤلاء لا يكونون من علية القوم، والغالب أنهم من السفلة الذين يعيشون في أجواء معينة، وقد يشتهر تبتلى مدينة من المدن بشهرة اثنين أو ثلاثة ممن يعرفون بهذا، فيكون علماً بارزاً أو سمة بارزة في وقت من الأوقات وفي ظرف من الظروف، لا سيما بعد خروج أهل المدينة على يزيد بن معاوية حيث انتهكت المدينة وحصل فيها شيء من ضعف أهل الحل والعقد، وربما أدى هذا إلى ظهور الفجور في بعض الفترات، فكانت هذ

الأسئلة

الأسئلة

تعليل عدم سؤال أهل مكة عن الصرف بفتوى ابن عباس في الربا

تعليل عدم سؤال أهل مكة عن الصرف بفتوى ابن عباس في الربا Q أليس سبب عدم سؤال أهل مكة عن الصرف والأخذ عنهم هو بسبب أن ابن عباس رضي الله عنهما كان لا يرى الربا إلا في النسيئة؟ A هذا قد علل به بعض أهل العلم، وأنا في الحقيقة نسيت ذلك وإلا فقد ورد عن كثير من أهل العلم القول بذلك، ومع هذا قد لا يكون هو السبب الوحيد، لا سيما أن ابن المبارك رحمه الله كان في القرن الثاني الهجري، فقد طال الزمن بين عهد ابن عباس وهذه الفترة، ومع هذا يبقى هذا سبباً وجيهاً.

حكم الألعاب السحرية

حكم الألعاب السحرية Q هل يعد فعل أمور غريبة أمام الناس إما لكونها تعتمد على الحيلة وخفة اليد، وإما لاستخدام مواد كيميائية فيها تمويه وليس فيه استخدام شياطين من المحذور الشرعي، وما حكم الذهاب إلى من يفعله؟ A أي شيء يوقع الناس في شيء من الخدعة، أو يوقع في أنفسهم شيئاً من الاعتقادات الباطلة أو التوهمات فلا ينبغي سلوكه، ولذلك كان السلف ينكرون ويزجرون الكيميائيين الذين يستعملون أعمالاً علمية، مع أن أهل العلم الراسخين يعرفون أن هذا علم كيميائي، لكن كان يختلط هذا بالقمار ويختلط بالدجل والشعوذة، فكان السلف ينهون عنه أشد النهي؛ لأنه لا ينبغي لأحد أن يستعمل ما عنده من علم أو تجربة أو تمرينات في خداع الناس ولفت أنظارهم إليه أو التمويه عليهم، فهو نوع من أنواع الدجل؛ لكنه ليس كالدجل بفعل الشياطين والجن، إنما يدخل في المشتبهات، بل أحياناً يصل إلى حد التحريم إذا ترتب عليه أكل أموال الناس بالباطل أو ترتب عليه التمويه على الناس.

تفسير غناء أهل المدينة بغناء الصوفية غير صحيح

تفسير غناء أهل المدينة بغناء الصوفية غير صحيح Q ألا يفسّر قول ابن المبارك: (ولا عن أهل المدينة في الغناء شيئاً)، بغناء الصوفية المعروف عندهم، ولا سيما أن المدينة موطن صوفية؟ A لا، ففي عهد ابن المبارك كانت المدينة نظيفة من التصوف وليس فيها أدنى شيء مما يوجد الآن، بل المشهور أنه يوجد فيها بعض أهل المجون والغناء الذين اشتهرت قصائدهم وبعض أفعالهم، لكن هذه من سفلة الناس، وربما بعض أهل العلم لعموم البلوى في مثل هذه الأمور يكون عندهم بعض الفتاوى في الترخيص.

حكم تعليق الصور على الحائط

حكم تعليق الصور على الحائط Q ما حكم تعليق الصور على الحائط، مثل تعليقها في الفصول الدراسية كوسيلة لفهم التلاميذ؟ A إذا كانت المادة التي تدرس تقتضي الاستفادة من الصورة في شرح شيء علمي مفيد فهذا مما لا حرج فيه، لكن إذا زال السبب ينبغي أن تزول الوسيلة.

شرح السنة [20]

شرح السنة [20] أهل السنة يحبون بعضهم بعضاً، خاصة كبارهم وعلماءهم ومن لهم سبق قدم في الإسلام، وأهل البدع يجالسون من هم على شاكلتهم، ويحبون ويعظمون رءوس البدع والأهواء، ويردون الأثر من الكتاب والسنة، ويدعون الناس إلى السيف، وإلى التعطيل والزندقة، ويطعنون في الصحابة ليؤذوا رسول الله بذلك، فيجب الحذر منهم ومن بدعهم وأهوائهم؛ لأن البدعة أشد خطراً من المعصية.

من سمات أهل السنة محبة علماء السنة

من سمات أهل السنة محبة علماء السنة قال إمام أهل السنة والجماعة في عصره أبو محمد الحسن بن علي البربهاري رحمه الله تعالى: [وإذا رأيت الرجل يحب أبا هريرة وأنس بن مالك وأسيد بن حضير فاعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله. وإذا رأيت الرجل يحب أيوباً وابن عون ويونس بن عبيد وعبد الله بن إدريس الأودي والشعبي ومالك بن مغول ويزيد بن زريع ومعاذ بن معاذ ووهب بن جرير وحماد بن سلمة وحماد بن زيد ومالك بن أنس والأوزاعي وزائدة بن قدامة فاعلم أنه صاحب سنة. وإذا رأيت الرجل يحب أحمد بن حنبل والحجاج بن المنهال وأحمد بن نصر وذكرهم بخير وقال قولهم فاعلم أنه صاحب سنة]. هذا من الأصول والسمات في أهل السنة والجماعة، فمن أبرز السمات بين أهل السنة حبهم لبعضهم، ذلك أنهم يعرفون بالسنة وتعرف السنة أيضاً بعملهم وتطبيقهم، فهم أئمة الهدى، والمرء مع من أحب، ومن أحب قوماً حُشر معهم، والمرء على دين خليله. ومحبة أئمة السنة دليل على محبة السنة نفسها، فمن أحب النبي صلى الله عليه وسلم فيجب أن يتبعه، ومن أحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واقتدى بهم فهو منهم، ومن أحب بعد ذلك أئمة الهدى من التابعين وتابعيهم فإن هذا دليل خير، ويقصد بذلك المحبة التي يعقبها الاتباع؛ لأن كل دعوى دليلها العمل، وإلا فكل يدّعي وصلاً بليلى، لكن العبرة بالعمل والتطبيق والاتباع، فإن من أحب أئمة السنة عمل بمقتضى ما هم عليه. وعدد الشيخ هؤلاء الأئمة لأنهم عرفوا بالسنة، فهم أئمة الهدى علماً وقدوة، ولا يعني ذلك أنهم معصومون، لكن يعني بذلك أنهم شهدت لهم الأمة بالفضل والفقه في دين الله عز وجل، والعبادة والجهاد والزهد والحرص على مصالح المسلمين ونشر الخير والدعوة إليه، وتحقيق معاني الولاية والبراءة هؤلاء كلهم أئمة هدى، فمن أحبهم ومال إلى نهجهم فهو صاحب سنة، والعكس بالعكس كما سيذكر الشيخ.

التحذير من مجالسة أهل الأهواء

التحذير من مجالسة أهل الأهواء قال رحمه الله تعالى: [وإذا رأيت الرجل يجلس مع أهل الأهواء فحذّره وعرّفه، فإن جلس معه بعدما علم فاتقه فإنه صاحب هوى]. أي إذا رأيت الرجل ليس على النهج السابق، بمعنى أنه يجالس أهل الأهواء فهو صاحب هوى، ولو جالس رجلاً واحداً كما ذكر الشيخ؛ لأن المرء مع خليله، والمرء مع جليسه، فإذا رأيت الرجل يجالس آخر من أهل الأهواء وينادمه فالغالب أنه صاحب هوى مثله. لكن قد يرد في حالات نادرة أن يكون جاهلاً، فيبصّر ويبلّغ ويقال: هذا صاحب بدعة، صاحب هوى، دعه ولا خير لك في مجالسته، فلا تجالس إلا صاحب سنة، فإن أصر فهو -كما ذكر الشيخ- صاحب هوى، لأنه ما جالسه إلا لأنه يوافقه في هواه، أو له ميل ورغبة في الجلوس إليه، وهذه ذريعة إلى البدعة، والذريعة إلى الشيء تأخذ حكم الشيء.

من علامات الزندقة رد الأثر تذرعا بأن القرآن كاف

من علامات الزندقة رد الأثر تذرعاً بأن القرآن كافٍ قال رحمه الله تعالى: [وإذا سمعت الرجل تأتيه بالأثر فلا يريده ويريد القرآن، فلا شك أنه رجل قد احتوى على الزندقة، فقم من عنده ودعه]. هذا من مناهج أهل الأهواء، فإن أهل الأهواء يردون ما يخالف أصولهم من السنة والآثار، وهذه سمة في جميع أهل الأهواء سواء كانوا أفراداً أو فرقاً، فإن صاحب الهوى لا يريد الدليل الذي يخالف هواه، ونظراً لأن القرآن مجمل ولا يستطيع أحد أن ينكره، ولا أن يقدح فيه أو يتكلم لأنه كلام الله عز وجل، وأهل الأهواء يدّعون أنهم لا يأخذون إلا بالقرآن، فإذا جاءهم الحديث إن أعجبهم أخذوا به، وإن خالف هواهم ردوه، وكذلك آثار السلف، ويزعمون أنهم إنما يريدون القرآن، وهذا لا شك أنه خلاف منهج الحق؛ لأن الله عز وجل أمرنا في كتابه بالأخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وباتباع سبيل المؤمنين، فهذا يعني أن من ادّعى أنه يأخذ بالقرآن ثم إذا جاءته السنة والأثر رده، لا شك أنه صاحب هوى وبدعة، سواء كانت هذه النزعة فردية شخصية أو كانت نزعة فرقية ترجع إلى أصل بدعة أو أصل فرقة، فالأمر سواء.

الأهواء كلها ردية تدعو إلى السيف وإلى التعطيل

الأهواء كلها ردية تدعو إلى السيف وإلى التعطيل قال رحمه الله تعالى: [واعلم أن الأهواء كلها ردية تدعو كلها إلى السيف، وأردؤها وأكفرها الروافض والمعتزلة والجهمية، فإنهم يريدون الناس على التعطيل والزندقة]. هذا أيضاً أصل من الأصول المهمة، وهو قاعدة لا خلاف عليها عند أهل الحق، وهو أن الأهواء كلها ردية، سواء الخفيف منها أو المغلّظ فلا خير فيها، مع أنه من المعلوم أنه ليس هناك بدعة غير مغلظة عند أهل الأهواء، اللهم إلا ما يقال عن بعض الفرق التي هي على منهج السنة في عموم الدين لكنها خالفت في أصل كمرجئة الفقهاء، ولا يوجد غيرها مثلها في قربها من السنة. أما من عداهم من الجهمية والروافض والمعتزلة فهؤلاء أصحاب مناهج وأصول فاسدة، وغيرهم تبع لهم، فالقدرية صارت هي المعتزلة، ومتكلمة الأشاعرة والماتريدية والكلابية والسالمية ومن سلك سبيلهم على أصول المعتزلة والجهمية، فهؤلاء في مناهجهم لا في أفرادهم يريدون الناس على التعطيل، بمعنى أن مآل مناهجهم تعطيل صفات الله عز وجل وأسمائه وأفعاله، وتعطيل الغيبيات، أي إبقاؤها بلا حقيقة، بمعنى أنهم يعتقدون أن أصول الصفات ليست لها حقيقة، وكذلك بقية الغيبيات. والزندقة تشمل إنكار أصول الدين، وتشمل الفجور في الأعمال الظاهرة، وهي تعني النفاق، وتعني الخروج من مقتضى الدين، وتعني الإعراض عن دين الله عز وجل فهؤلاء سواء قصدوا أو لم يقصدوا -أي الروافض والمعتزلة والجهمية- مآل مذاهبهم التعطيل والزندقة، وهذا الحاصل فعلاً. أما قوله: (وتدعو كلها إلى السيف)، فهذه أيضاً سمة سبق الإشارة إليها، فمن العلامات الظاهرة الفارقة بين أهل السنة والجماعة وبين مخالفيهم من أهل الأهواء أن أهل الأهواء كلهم إلا القليل النادر الذي لا حكم له يرون السيف، حتى المرجئة كثير منهم يرون السيف، وهذا أمر عجيب، والمفترض في أهل الإرجاء التساهل، لكن نظراً لأنهم خالفوا أصول السنة صار كثير منهم يرون السيف، وهذا بسبب المخالفة للسنة. ومعنى السيف الخروج على أئمة المسلمين وولاتهم، والخروج على جماعة المسلمين، وتدعو إلى السيف بمعنى أنها تراه وتعتقده سواء فعلته أو لم تفعل. وهذه مسألة مهمة؛ لأن كثيراً من الفرق تجد في كتبها وأصولها ومناهجها وما أجمع عليه السلف عنها أنها ترى الخروج ولا تعتقد لأئمة المسلمين ولاية، لكن قد لا تخرج، فكم كانت الرافضة ترى السيف في فترات من التاريخ طويلة والغالب أنها لا تستطيع الخروج فلا تخرج، والمعتزلة كذلك ما خرجت بالسيف إلا في حالات نادرة جداً، والجهمية كذلك لكنهم يعتقدون السيف ويرون السيف ويدعون إليه ما أمكنهم ذلك. إذاً: المسألة تدور على أنه اعتقاد عند جميع أهل الأهواء، لا يرون أئمة المسلمين وولاتهم طاعة ولا يرون لهم بيعة، هذا هو الأصل عند عموم أهل الأهواء. المرجئة في الحقيقة لا نستطيع أن نثبّت عنهم موقفاً واحداً خلال تاريخ الإسلام، لكن من خلال حوادث التاريخ كان غالب أئمة المرجئة من الفقهاء وأهل العلم يميلون إلى الفتوى بجواز الخروج على الظلمة، أما أنه منهج يدعون إليه فلا. ومرجئة الفقهاء يقررون غالباً منهج أهل السنة في العموم، لكن إذا تأملنا بعض أئمة الدين من الفقهاء الذين خالفوا عموم أهل السنة بجواز الخروج لتعللات معينة نجد أغلبهم من المرجئة، هذا هو قصدي، أما أنه مذهب يعلنونه فلا، فهم في عموم أصول الدين على السنة ما عدا مسألة الإيمان.

الطعن في الصحابة إيذاء للرسول صلى الله عليه وسلم

الطعن في الصحابة إيذاء للرسول صلى الله عليه وسلم قال رحمه الله تعالى: [واعلم أنه من تناول أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه إنما أراد محمداً صلى الله عليه وسلم وقد آذاه في قبره]. هذا حق، فإن الإنسان يقاس بأصحابه، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن من البر الذي يبقى من الابن لأبيه إذا مات صلة أحبابه، كأن تبر صديق أبيك وهو ميت، وهذا يعني بالضرورة أنك إذا لم تبر بأصدقاء أبيك فقد أسأت إلى أبيك وهو ميت، وهو نوع من العقوق. فإذا كان عدم بر أصدقاء الأب عقوق بالأب وهو ميت، فمن باب أولى أن يكون الطعن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدم البر بحقه، والرسول صلى الله عليه وسلم قد زكّى أصحابه ونهى عن سبهم، وتوفي صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فالقدح فيهم قدح في حق النبي صلى الله عليه وسلم وانتقاص لحقه، وإساءة إليه بالضرورة، فمن تناول أحداً من الصحابة فإنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم حتى ولو ادعى أنه يحبه، إذ كيف يدّعي أنه يحب الرسول صلى الله عليه وسلم ثم يطعن في أصدقائه وصحابته وإخوانه الذين زكّاهم، بل وأوصى وصية مؤكدة بحفظ ورعاية حقوقهم والترضي عنهم وعدم القدح فيهم، فهو مخالفة صريحة للسنة، ثم إنه عود على حق الرسول صلى الله عليه وسلم بالارتداد، بمعنى أن من طعن في أي من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فإنما طعن في حق الرسول صلى الله عليه وسلم وآذاه في قبره.

البدعة أخطر من المعصية

البدعة أخطر من المعصية قال رحمه الله تعالى: [وإذا ظهر لك من إنسان شيء من البدع فاحذره، فإن الذي أخفى عنك أكثر مما أظهره، وإذا رأيت الرجل رديء الطريق والمذهب فاسقاً فاجراً صاحب معاص ضالاً وهو على السنة فاصحبه واجلس معه، فإنه ليس يضرك معصيته، وإذا رأيت الرجل مجتهداً في العبادة متقشفاً محترفاً بالعبادة صاحب هوى، فلا تجالسه ولا تقعد معه ولا تسمع كلامه ولا تمش معه في طريق، فإني لا آمن أن تستحلي طريقته فتهلك معه!].

سبب التحذير من المبتدع أشد منه من العاصي الفاجر

سبب التحذير من المبتدع أشد منه من العاصي الفاجر هذا الكلام في أصله صحيح، لكن في تفصيلاته مبالغة، وربما قصد الشيخ معنى آخر فخانته العبارة فهو بشر، وكان الصواب أن يقول: إذا رأيت الرجل من أهل السنة فاحمد له ذلك، وإن كان واقعاً في المعاصي والفجور فاكره فيه معاصيه وفجوره وتجنبه للمعصية وللفجور، لكن لا تتبرأ منه كتبرئك من صاحب البدعة، فإن صاحب البدعة انطوى على البدعة، أما هذا العاصي فإنه يرجى له التوبة والمعصية، وهو أقل خطراً على الإنسان في دينه وعقيدته من البدعة! ومن هنا يكون التعامل مع صاحب البدعة أكثر حذراً وأشد ذنباً من التعامل مع صاحب الذنب والمعصية؛ لأن صاحب الذنب والمعصية إذا لم تظهر منه بدعة فالأصل بقاؤه على السنة والعقيدة السليمة، لكنه غالباً يدري أنه على معصية فيرجى له يوماً أن يتوب. ثم إن أثر المعصية في انتقالها إلى الشخص الآخر أخف وأقل احتمالاً من أثر البدعة، لأن البدعة فيها تلبيس وتدخل على الإنسان من حيث لا يشعر، وفاعلها يفعلها وهو يظن أنه على حق، أما الفاجر الفاسق فإن فجوره ظاهر ينفر منه الطبع والعقل السليم وينهى عنه الشرع، وكل إنسان مهما كان ينبذ الفجور، فلذلك تكون عنده حصانة ذاتية من الفجور؛ لأنه ممقوت بالطبع عند أهله وعند الناس. وتستطيع أن تميز بوضوح خطأ الفجور والفسق، لكن لا تميّز خطأ البدعة، فمن هنا كانت مصاحبة صاحب البدعة لا تجوز؛ لأنه ربما يحسنها لك حتى تظن أنها الحق والسنة، ومصاحبة صاحب الفجور إثم رغم أن فجوره واضح لكن ليس كإثم مصاحبة صاحب البدعة لهذه الاعتبارات

معنى قول المؤلف في الفاجر: (فاصحبه واجلس معه)

معنى قول المؤلف في الفاجر: (فاصحبه واجلس معه) إذاً ليست مصاحبة صاحب الفجور من الأمور المطلوبة، وقوله: (فاصحبه) بمعنى: أن الفجور لا يمنع من أن تصاحبه عند الحاجة في سفر أو حج أو نحو ذلك لعلك تستصلحه، بخلاف صاحب البدعة. فلعله قصد بالصحبة الصحبة عند الضرورة أو الحاجة التي تقتضي ذلك. والجلوس معه أيضاً في غير فسقه، أي في غير مجال الفسق، كأن تصاحبه في الطريق إلى المسجد، أو تصاحبه في الوليمة، أو في الزيارة الشرعية، أو في جنازة، أو تتحدث معه في الأمور العامة وفيما يصلح حاله، وتجيب دعوته وهو في غير حال فجور وتدعوه هذه من الأمور التي تشرع لا سيما مع حسن النية والنصح، أما صاحب البدعة فهذه الأمور تتجنبها إطلاقاً. فمن هنا لعل الفرق هو الذي جعل الشيخ يقول هذا الكلام، أما مصاحبة صاحب الفجور مصاحبة منادمة ورضا، ومصاحبة محبة لما هو عليه، بمعنى أن تعطيه نفسك في الصداقة والولاء والمودة فهذا غير صحيح، بل يجتمع فيه الولاء والبراء، فتبرأ من فسقه وفجوره، ومن مجالسته حالة فسقه وفجوره، وتواليه بما فيه من الخير وبقاء الفطرة وتناصحه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ورأى يونس بن عبيد ابنه وقد خرج من عند صاحب هوى فقال: يا بني من أين جئت؟ قال: من عند فلان، قال: يا بني لأن أراك خرجت من بيت خنثى أحب إلي من أن أراك تخرج من بيت فلان وفلان؛ ولأن تلقى الله يا بني زانياً فاسقاً سارقاً خائناً أحب إلي من أن تلقاه بقول فلان وفلان. ألا ترى أن يونس بن عبيد قد علم أن الخنثى لا يضل ابنه عن دينه، وأن صاحب البدعة يضله حتى يكفره]. قصد الشيخ أيضاً ما ذكرنا في السابق فليس القصد من كلامه أن تصاحب الخائن والفاسق والزاني وتجلس معه في بيته وتنادمه وتجالسه، لكن يقول: إذا خير الإنسان بين مفسدتين في المصاحبة والمجالسة، فكونه يصاحب العاصي الذي يرجى له التوبة ومعصيته ظاهرة وخطره أقل على الدين، أسهل من الوقوع في مصاحبة صاحب البدعة. فهذه المقارنة كسابقتها. وقوله: (خرجت من بيت خنثى)، يقصد البيوت المشبوهة، وإن كان الخنثى له مفهومان: مفهوم يقصد به من لديه آلة الذكر والأنثى، وقد يقصد به أيضاً من عنده شيء من الفساد الخلقي، وقد يقع فيه كثيراً هذا الصنف من الناس، فالمقصود المشبوه، يعني: لأن أراك خرجت من بيت مشبوه أحب إلي من أن أراك تخرج من بيت فلان وفلان، ممن هم من أهل البدع. قد يكون الشيخ تساهل في التعبير فإنه لا هذا ولا ذاك مطلوب، فالمسلم عليه أن يجتنب مواطن الخنا والشبهة، وأهل الخنا والشبهة في المجالسة والمنادمة وفي دخول بيوتهم وغير ذلك، لكن كما قال عند المقارنة لا شك أن هذا أسهل وأقل خطراً من ذاك، أي من صاحب البدعة مهما كان.

غربة السنة

غربة السنة قال رحمه الله تعالى: [واحذر ثم احذر أهل زمانك خاصة، وانظر من تجالس وممن تسمع ومن تصحب، فإن الخلق كأنهم في ردة إلا من عصمه الله منهم]. الشيخ رحمه الله يتكلم عن أهل زمانه في القرن الرابع؛ لأنه لو قارناه بما قبله وجدنا الفارق كبيراً، فإن الناس كثرت فيهم الأهواء والبدع، وظهرت الباطنية بشكل سافر، وظهرت الرافضة وتمكنت من كثير من بلاد المسلمين، وضعفت الخلافة الإسلامية، ووجدت أمور كثرت فيها الأهواء وكثر إعراض الناس عن دين الله عز وجل وكثر الجهل، فهذا أمر نسبي مع أن زمانه أفضل من كثير الأزمنة التي تلت فيما بعد، لكن هذا من باب النصح والبيان للناس، ولا يعني أن الزمان فسد كله وأنه لا يوجد أهل الخير والسنة، لكن الحذر من أن يتساهل المسلم فيمن يجالس ومن يسمع ومن يصحب. وقوله: (فإن الخلق كأنهم في ردة)، بمعنى أنه بدأت الغربة في السنة، فكأن الناس يعملون غير أعمال الإسلام، فلم يبق منهم إلا بعض الشعائر الظاهرة، قد استولى عليهم الجهل والبدع والهوى، نسأل الله السلامة.

قاعدة التعامل مع رءوس أهل الأهواء

قاعدة التعامل مع رءوس أهل الأهواء قال رحمه الله تعالى: [وانظر إذا سمعت الرجل يذكر ابن أبي دؤاد وبشر المريسي أو ثمامة أو أبا الهذيل وهشام الفوطي أو واحداً من أتباعهم وأشياعهم، فاحذره فإنه صاحب بدعة، فإن هؤلاء كانوا على الردة، واترك هذا الرجل الذي ذكرهم بخير ومن ذكر منهم]. هذه قاعدة أيضاً في الحكم والتعامل مع رءوس أهل الأهواء الذين اشتهروا ببدعة أو ببدع، فلا ينبغي للمسلم أن يتعلق بهم أو يثني عليهم في جانب الدين، ولا ينبغي أيضاً أن نتساهل في إظهار هؤلاء الرءوس عند ناشئة المسلمين؛ لأنه يوجد عندهم من الخصال البشرية ما يعتبر إما من باب الفضائل مثل الكرم والحلم وغيرهما، كما عند ابن أبي دؤاد، وإما من باب العلم والذكاء كما عند ثمامة وبشر المريسي وأبي الهذيل وهشام الفوطي هؤلاء كلهم اشتهروا بخصال موجودة في عموم البشر بالذكاء والعبقرية والقدرة على النقاش، وقد تكون من باب رجاحة العقل والقدرة على الحجاج مع الفلاسفة أو مع الملاحدة، كل هذه موجودة عند بعضهم، لكن هذه خصال لا ينبغي أن تتخذ ذريعة للثناء عليهم فيتعلق بهم ناشئة المسلمين، ويفتنون بهم فإن من فتن بهم فتن بمذاهبهم، ولا شك أن الناشئ إذا أُعجب بإنسان تعلق بفكره وبعمله، وهو يشعر أو لا يشعر. وأيضاً ربما يدافع عنه ويكون في قلبه ولاء له، ومن هنا صار التعلق برأس من رءوس البدعة قديماً وحديثاً من علامات الهوى والبدعة وأي إنسان تجده يثني على هؤلاء ويدافع عنهم أو أمثالهم قديماً وحديثاً، ويحاول إبراز فضائلهم دون أن يبين شرورهم، ويحاول أن يجعل منهم قدوة وأن يعتذر لهم، فهو رافع راية بدعة، كما يفعل كثير من الأدباء الآن وبعض الكُتّاب الإسلاميين والحداثيون وغيرهم، فهؤلاء الآن يعتبرون رافعي راية البدع وأهلها وتنبيش القبور، ومحاولة رد الناس إلى الإعجاب بهذه المذاهب والمناهج والأشخاص، وهذا كله خلاف السنة مخالفة صريحة، فلا ينبغي للمسلم فضلاً عن طالب علم أن يجاري هذا الاتجاه. قد يقول قائل: لماذا لا نثني عليهم بما هم فيه؟ فنقول: نعم نثني عليهم عند اقتضاء الحاجة؛ لأن الناس لا تتعلق نفوسهم بالشيء الذي يشارك فيه هؤلاء غيرهم من عموم الناس، إنما تتعلق نفوس البشر بالشيء الذي خالفوا فيه، وهذه طبيعة فطرية ونزعة يحركها الشيطان في بني آدم، هذا أمر. الأمر الآخر: فرق بين أن نتكلم عن سيرهم في التراجم مثلاً وعندما نتكلم عنهم في أمور عارضة أو في دروس أو في مناهج، فإن الناس لا مصلحة لهم من ذكر خصال يشترك فيها عموم البشر، في حين أن عليهم ضرراً ومفسدة في ذكر خصال هؤلاء دون التحذير منهم. وفرق أيضاً بين الكلام الذي يخرج عند عامة الناس وبين الكلام الذي يكون بين خاصة أهل العلم أو يكون في بطون الكتب، فإنه لا مانع عندما أتكلم بكلام في السير أن أقول: ابن أبي دؤاد مثلاً رأس البدعة، داعية القول بخلق القرآن، آذى الإمام أحمد وأئمة الدين وآذى السلف، ومع ذلك فإنه عُرف بالكرم وعُرف بالحلم وسعة الصدر هذا أمر آخر. فعند ذكر ما على الإنسان من خير وشر لا مانع أن تذكر جانب الفضائل، ولكن بشرط أمن الفتنة على الناس وبكلام لا يطير في الآفاق عند أناس لا يميّزون بين الحق والباطل، كأن يكون في صحف أو في كتب شهيرة أو في مناهج أو نحوها فهذا لا يجوز، لكن عند اقتضاء الحال أو عندما تتكلم عند أهل العلم أو تكتب كتاباً تريد أن تسطر فيه أخلاق الرجال عموماً بما فيها من خير أو شر، فلا مانع من هذا بضوابطه وشروطه.

الأسئلة

الأسئلة

توجيه قول أبي قلابة عن أهل الأهواء بأن مصيرهم إلى النار

توجيه قول أبي قلابة عن أهل الأهواء بأن مصيرهم إلى النار Q قال أبو قلابة: إن أهل الأهواء أهل الضلالة، ولا أرى مصيرهم إلا النار، فجرّبهم فليس أحد منهم ينتحل قولاً -أو قال حديثاً- فيتناهى به الأمر دون السيف، وإن النفاق كان ضروباً، ثم تلا قوله عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} [التوبة:75] {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:58] {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} [التوبة:61]، فلماذا قال إن مصيرهم إلى النار؟ A هذا من باب الوعيد؛ لأنه ما جزم، فالمعنى: أنهم يخشى عليهم من النار، وهذا الكلام لا يعدو أن يكون مثل نصوص الوعيد، ما دام لم يجزم فيكون الأمر سهلاً، وإلا فأهل الأهواء الذين لم يخرجوا من الملة داخلون في الوعيد وهم من أهل الوعيد.

شرح السنة [21]

شرح السنة [21] الأصل في المسلمين الإسلام والعقيدة الصحيحة؛ ولذلك فلا يجوز امتحانهم؛ لأن ذلك من سمات أهل البدع، كما أن من سماتهم الخوض في الكلام والمراء والجدال والمناظرة في الدين بغير علم ولا بصيرة، فيجب الحذر من هذه المسالك الخطيرة، واتباع الأثر وأصحاب الأثر، والوقوف عند المتشابه، وترك الرأي والقياس الفاسد، فبذلك تكون النجاة والفوز في الدارين.

الامتحان في الإسلام والسنة

الامتحان في الإسلام والسنة قال أبو محمد الحسن بن علي البربهاري رحمه الله تعالى: [والمحنة في الإسلام بدعة، وأما اليوم فيمتحن بالسنة لقوله: إن هذا العلم دين فانظروا ممن تأخذون دينكم، ولا تقبلوا الحديث إلا ممن تقبلون شهادته، فتنظر فإن كان صاحب سنة له معرفة صدوق كتبت عنه وإلا تركته]. هذه القاعدة أصل في الدين، وهو أن الأصل في المسلمين السلامة، والأصل فيهم الإسلام ما لم يظهر قرائن بيّنة على خلاف ذلك، ولذلك فإن امتحان الناس بسؤالهم عن عقائدهم بدون مبرر ولا موجب شرعي يعتبر من البدع، سواء كان ذلك الامتحان يقصد به كشف ما عند الشخص من قول أو اعتقاد، أو يقصد به التثبت، فإن التثبت غير مطلوب ما دامت السنة في الناس هي الظاهرة، والناس على الأصل، فالمسلم الذي يظهر الإسلام يشهد له بذلك في الجملة، ولا يجوز التفتيش عما وراء ذلك. وسواء هذا في أمور جزئية أو كلية، بمعنى أنه لا يجوز أن نمتحن الناس أو نسألهم عن بعض قضايا العقيدة فضلاً عنها كلها، كما يفعل بعض الناس في سؤال بعض من يتعمقون عن بعض مسائل العقيدة كأن يقول: أين الله؟ أو يقول: ماذا تعتقد في الرؤية مثلاً، أو ماذا تعتقد في كلام الله عز وجل؟ فإن هذا فتنة للناس، وربما كان المسئول لا يعرف في ذلك شيئاً فيجيب بغير الحق وهو لا يدري، وهذا ما عليه غالب المسلمين أنهم لا يعرفون تفاصيل الاعتقاد، حتى في بعض الأصول القطعية المعلومة، وربما يعاند المسئول فيوقعه السائل في الإثم، فلذلك لا ينبغي أن يمتحن الناس في الأمور الباطنة أو الأمور غير الظاهرة. أما إذا كان لذلك موجب كأن ظهرت في الشخص قرائن تدل على أنه يقول بالبدعة أو يعتقدها أو يفعلها، فلا مانع من سؤاله، أو كان الإنسان سيتعامل مع شخص تعاملاً يتعلق بالعقود، كتعامل تجاري دائم، أو تعامل علمي مستمر كأن تلقي العلم عنه أو يدرّسه، أو فيما يتعلق مثلاً بتزويجه أو نحو ذلك، فإذا توافرت قرائن معينة فلا مانع من السؤال. أما قوله: (وأما اليوم فيمتحن بالسنة) فهو يقصد غلبة البدع في بعض البلاد وفي بعض الأزمان، فإذا كان الإنسان في بلد الغالب فيه البدعة فإنه يسأل؛ لأن القاعدة تنقلب وتنعكس سواء كانت بدعاً اعتقادية أو عملية أو هما معاً، والغالب أن البدع العملية والاعتقادية تتلازم خاصة في العصور المتأخرة، فما من أصحاب بدع اعتقادية إلا وعندهم بدع عملية، وما تنشأ البدع العملية أيضاً إلا عن بدع اعتقادية، فإذا كان الإنسان في موطن تكثر فيه البدع، أو هم الأصل فيه، فإنه يحتاج إلى السؤال؛ لأنه سيصلي خلف أئمتهم وسيتعامل معهم فيما يتعلق بدينه ويتلقى عنهم، وقد يضطر إلى أن يزكيهم أو يشهد لهم، فالسؤال مطلوب للتثبت من أهل السنة وتمييزهم عن أهل البدعة، لكن هذا ليس هو الغالب في المسلمين. ثم قال: (إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم) هذا الحديث فيه ضعف كما تعلمون، ولكنها قاعدة سليمة صحيحة، بمعنى أن الإنسان إذا أراد أن يتلقى ويتعلم العقيدة والأحكام فينبغي أن يتأكد من سلامة من يتلقى عنهم. إذا دخل الشخص بلداً يغلب عليها البدع، وأراد أن يصلي مع الناس في مسجد معين فالأصل السلامة ما لم يظهر له أن الإمام مبتدع، فالبلاد تختلف بيئتها، فمثلاً البلد التي يكثر فيها البدع تجد فيها قرى ومواطن هم أهل سنة، بل مساجد الحي الواحد تجد فيه مسجد سنة ومسجد أهل بدع، وهم يعرفون هذا ويعرفون هذا، فأنت إن ظهرت لك قرائن تدل على أنه من موطن بدع فلا حرج أن تسأل، وإلا فيبقى الأصل السلامة، ولا مانع أن يسأل الإنسان لكن لا يسأل الشخص نفسه، فأكثر الذين يأتونا الآن من بلاد الإسلام الأخرى يعرف بعضهم بعضاً، ويوجد منهم من أهل السنة والصالحين من نعرفهم بيننا، فيسأل من خلال الاسم ومن خلال الوصف والبلد فإذا غلب على موطنه وبيئته أنهم أهل بدع فالأولى أن يسأل ويتبين من أمره، وإذا بقي على الجهالة أو عرفت أن موطنه موطن سنة فالأولى ألا تسأل.

التحذير من الكلام وأهله

التحذير من الكلام وأهله قال رحمه الله تعالى: [وإذا أردت الاستقامة على الحق وطريق أهل السنة قبلك فاحذر الكلام، وأصحاب الكلام، والجدال، والمراء، والقياس، والمناظرة في الدين، فإن استماعك منهم وإن لم تقبل منهم يقدح الشك في القلب، وكفى به قبولاً فتهلك، وما كانت زندقة قط ولا بدعة ولا هوى ولا ضلالة إلا من الكلام، والجدال، والمراء، والقياس، وهي أبواب البدعة والشكوك والزندقة]. الأصل الذي تقتضيه نصوص الكتاب والسنة والذي عليه الصحابة والتابعون وأئمة الهدى إلى يومنا هذا التحذير من الكلام ومن أهل الكلام، والجدال، والمراء في الدين، والقياس في أمور العقيدة والمناظرة في أمر الدين، فإن الأصل هو المنع، لكن إن جاز فباستثناءات وضرورات، فأهل السنة اضطروا للمناقشات واضطروا لقراءة كتب علم الكلام للرد على أهلها، لكن هذه حالات ضرورة لا يقوم بها إلا من تتوافر فيه الشروط. وإذا وجد عالم اضطر لأن يستعمل هذه الأمور أو يلجأ إلى مناظرة أهل الكلام، أو أن يقرأ كتبهم ثم يرد عليهم فهذه من المحرمات التي جازت لضرورة الدفاع عن الحق؛ لأن هذه الأمور عمت بها البلوى، فلا يمكن أن تقام الحجة على الناس ويبين لهم الحق إلا من خلال هدم أصولها، ولا تهدم أصولها إلا بمعرفتها، لكن ليس هذا لكل إنسان بل وليس لكل طالب علم أن يستمع للمتكلمين، ولا أن يقرأ علم الكلام، ولا أن يوقع نفسه في المجادلات والمناظرات بغير استعداد. بعض الناس يقول: أنا أجد أحياناً الساحة خالية -كما يفعل بعض من يشاركون في الفضائيات- وأنا لا بد أن أقوم ولو بجهد المقل، وهو غير مؤهّل هذا في الحقيقة ما عرف قاعدة المصالح والمفاسد، لأن الإنسان إذا انبرى لأمر من الأمور كأن يجادل أحد عتاة الضلالة من العقلانيين أو العصرانيين أو العلمانيين أو المتكلمين وهو من العتاة الكبار والمتمرّسين في هذا الأصل، ثم وقف له إنسان عن ضعف، بدعوى أنه يريد أن يدافع عن الحق لأن الساحة خالية، فإن هذا ما أدرك أنه سيؤدي إلى خذلان الحق، لأنه بظهوره بمظهر الضعف سيؤدي إلى افتتان الناس بالرجل الآخر صاحب الباطل. وهذا الموقف ينبغي أن يسلك فيه المسلم مثل موقف جد النبي صلى الله عليه وسلم حينما جاء إلى أبرهة يسأله إبله، قال: الآن بيتكم سيدك، ومقدّساتكم ستهدم وأنت تأتي تطلب الإبل؟ فقال: أنا رب إبلي وللبيت رب يحميه! فللدين رب يحميه فلا تدخل وأنت ضعيف، أو جاهل بأصول المناظرة وبمذهب الخصم، بل أنت جاهل بمذهبك نفسك. وأغلب الذين وقفوا مع أهل الأهواء في المجادلات عبر الفضائيات في الآونة المتأخرة لم يفقهوا السنة فضلاً عن أن يفقهوا عقائد الخصم، فدخلوا بغير استعداد إلا مجرد الغرور والتعالي والظن بأنهم يعرفون الحق، وهم لا يعرفون السنة، بل ينتسبون إليها وهم ضدها، فقد يكون عندهم شيء من البدع في أنفسهم فيتصدون لهذه المواقف على أنهم أهل السنة، فهذا يوقع أهل الحق في حرج، ويوقع الحق في حرج، فلا ينبغي للمسلم أن يسلك هذه المسالك إلا عن استعداد. ولذلك ينبغي لمن رأى مثل هذه الأمور أن يعرف أن الناس يبذلون وسعهم، وأن الدخول من غير مقدرة واستعداد خارج الوسع، والله عز وجل تكفّل بحفظ الدين فلا نخاف على دين الله عز وجل، لكن يجب أن نعد أنفسنا لأنا قصرنا. نعم، ينبغي أن تنبري طائفة من طلاب العلم الآن تعد نفسها للردود باستعداد جيد، وبفقه لدين الله عز وجل، وباستيعاب لعقيدة السلف ومناهج الدين، ثم بعد ذلك ندخل في هذه الحلبة ولو بعد سنين ولا يضر، أما الدخول من غير مقدرة فإنه يؤدي كما حصل إلى خذلان الحق والتباس الأمور على الناس.

الحث على اتباع الآثار وأصحابها

الحث على اتباع الآثار وأصحابها قال رحمه الله تعالى: [وقف عند المتشابه، فالله الله في نفسك، وعليك بالأثر وأصحاب الأثر والتقليد، فإن الدين إنما هو بالتقليد -يعني للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين- ومن قبلنا لم يدعونا في لبس فقلدهم واسترح ولا تجاوز الأثر وأهل الأثر]. يقصد بالتقليد هنا الاتباع، فبعض السلف يسمي الاتباع تقليداً، والتقليد الذي هو التبعية من غير بصيرة ولا تثبت لا يجوز. قوله: (عليك بالأثر وأصحاب الأثر والتقليد)، العبارات يفسّر بعضها بعضاً، فالأثر هو آثار السلف الذين استمدوا مناهجهم من الكتاب والسنة؛ لأنه ليس لكل إنسان استطاعة ومقدرة بأن يستنبط أحكام الدين من الكتاب والسنة، هذا لا يكون إلا للراسخين أو للمتخصصين الذين تمكنوا من آلة الاجتهاد واستنباط الدين ومناهج الدين. فإذاً: غالبية المسلمين في كل عصر حتى في العصور الأولى في عهد السلف الصالح لم يكونوا يستطيعون أن يستنبطوا أحكام الدين ويعرفوا أصول العقيدة بمجرد تلاوتهم لنصوص الكتاب والسنة، هذا أمر معلوم من الدين بالضرورة، ولذلك فلابد أن يكون للناس مرجع، والمرجع هو الكتاب والسنة، الكتاب والسنة لا بد للرجوع إليهما من أصول وضوابط، والذي يعرف هذه الأصول والضوابط هم أهل الذكر الذين سماهم الله عز وجل وأمر باتباعهم فقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، وهم الذين يستنبطونه كما وصفهم الله عز وجل، وإلا فلو فتحنا الباب لكل قارئ أن يستنبط من الكتاب والسنة لوقع من الناس مثل ما وقع من الخوارج والرافضة وأهل الأهواء، يستدلون كما يشاءون بأهوائهم من غير معرفة مقاييس الاستدلال وأصوله. إذاً: الدين يؤخذ بالأثر الذي هو سبيل المؤمنين، وسبيل المؤمنين يتمثل بأقوالهم وأفعالهم وتقاريرهم وفهومهم وتطبيقاتهم للدين ومناهج التعامل، هذا هو الأثر، فإذاً غير المتخصص وغير العالم لا بد أن يتّبع، وهذا ما سماه الشيخ التقليد.

الوقوف عند المتشابه

الوقوف عند المتشابه قال رحمه الله تعالى: [وقف عند المتشابه ولا تقس شيئاً]. المقصود الذي يشتبه عليك، بمعنى لا تستوعبه أو لا تفهمه، فأول المتشابه هو كيفيات الغيب، فإنه متشابه على جميع الناس، فيجب أن تقف عنده ولا تخوض فيه. ثم دونه الأمر الذي يصعب فهمه، فإنه متشابه على عموم المسلمين لكن يعرفه الراسخون، فالمسلم ما دام لا يفهم يقف عنده ويسأل، فإذا سأل وعرف فبها ونعمت! وإن لم يعرف يصبح الأمر متشابه عند أهل العلم ويسلم، بمعنى أن يقول: صدق الله وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، آمنت بالله وبما جاء عن الله، وبما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذعن بقلبه وجوارحه ولسانه ويسلّم ويقف عند المتشابه. إذاً المتشابه نسبي، وهو ما لم يتضح لك بعد بذل الجهد، فقد يكون أغلب الدين عند بعض عوام الناس متشابهاً، وتقل نسبة المتشابه عند العالم الراسخ إلى أن قد يكون لا يخفى عليه إلا النادر من الأمور التي تقع تحت طائلة الاجتهاد من كيفيات الغيب التي لا يعلمها إلا الله عز وجل. قوله: (ولا تقس شيئاً) أي: في الدين، فالقياس في أصول الدين لا يجوز، أي: فلا تقس الغائب على الشاهد، ولا أسماء الله وصفاته وأفعاله على ما عند المخلوقين، ولا أصول الدين القطعية على ما دونها، بل الأصل في كل أصول الدين وأمور العقيدة عدم القياس لأنها ثوابت، أما في الأحكام فلا شك أن قياس حكم على حكم يرجع إلى دليل شرعي فهو من الأمور التي تقتضيها ضرورة الاجتهاد.

لا يرد على أهل البدع إلا من كان متمكنا وإلا فليسكت

لا يرد على أهل البدع إلا من كان متمكناً وإلا فليسكت قال رحمه الله تعالى: [ولا تطلب من عندك حيلة ترد بها على أهل البدع، فإنك أُمرت بالسكوت عنهم، ولا تمكنهم من نفسك، أما علمت أن محمد بن سيرين في فضله لم يُجب رجلاً من أهل البدع في مسألة واحدة ولا سمع منه آية من كتاب الله عز وجل، فقيل له فقال: أخاف أن يحرفها فيقع في قلبي شيء]. هذا هو الصحيح، والمعنى: لا تأخذك العاطفة إذا سمعت شبهات أو رأيت ما لا يليق من الكلام في الدين، فإذا رأيت عند المبطلين شيئاً مما يخالف الحق أو سمعت بشبهات أو نحوها فلا ترد بتكلف، وإذا لم يكن ردك عن يقين فيسعك أن تسكت ولا تقل على الله بغير علم، فينبغي ألا تدفعك العاطفة والغيرة على أن تتصدى لأمر لست من أهله، أو لم تستعد له، أو لم تتمكن منه، أو تتوقع من الخصم أن يحرجك فتخذل الحق وأنت لا تدري، وهذا مما يقع في كثير من الذين يجادلون أهل الأهواء الآن، تجده يرد بتكلف أو من غير تبصّر فيضربه الخصم بداهية لا يتخلص منها، فيظن السامعون أن هذا ضعف في الحق الذي معك. وكذلك لا تفرط بأن توقع نفسك في مواقع الشبهات أو في المجالس التي تثار فيها الفتن والشبهات، فإذا سمعت بمجلس تُطرح فيه بعض القضايا الخطيرة فعليك أن تعتزل هذا المجلس ولا تستهويك هذه الأمور أو يدفعك حب الاستطلاع إلى أن تجلس هذه المجالس فيقع في قلبك الأمر فيمرضك وأنت لا تدري، أو ربما تتشّرب بعض البدع وأنت تظن أنها هي الحق، ولذلك لا ينبغي أن يحضر مثل هذه المجالس التي تثار فيها قضايا شائكة إلا طالب علم مستعد ومتمكن. وبعض الشباب قد يحضر بعض المجالس التي اشتهر فيها ذكر مناهج الباطل وذكر الشبهات حول الحق وأهله بدافع أنه يريد أن ينقل هذه الشبهات إلى أهل الحق ليردوا عليها، أقول: ما دمت تشعر أن على نفسك فتنة فلا تحضر، ولا تأسف على الناس، لكن طالب العلم المتمكن قد يجب عليه أحياناً معرفة وجوه الباطل عند أهلها للرد عليها ونقلها إلى أهل العلم ليردوا عليها، لكن صغار الشباب المبتدئين منهم الذين لم يتمكن العلم في نفوسهم ولم يفقهوا الفقه الكافي لا ينبغي أن يعرّضوا أنفسهم لمثل هذه اللقاءات بدافع الغيرة؛ لأنهم قد يهلكون، بل إنه قد هلك عدد من الشباب في مثل هذه الأمور ووقعوا في الشبهات، وبعضهم صرّح بما يدل على تأثره، وبعضهم وقع في صراع نفسي كما عرفت في الآونة الأخيرة من بعض الذين تعرضوا لمثل هذه المجالس، فهو لا يستطيع أن يصرح بأن الشبهة أثّرت فيه، لكنه لم يتخلص منها وتأتينا أسئلة محررة من مثل هذا النوع الآن بشكل ملفت للنظر.

من سمات المبتدعة التعطيل بذريعة التنزيه

من سمات المبتدعة التعطيل بذريعة التنزيه قال رحمه الله تعالى: [وإذا سمعت الرجل يقول: إنا نحن نعظّم الله إذا سمع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعلم أنه جهمي يريد أن يرد أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدفعه بهذه الكلمة، وهو يزعم أنه يعظّم الله وينزهه، إذا سمع حديث الرؤية وحديث النزول وغيره، أفليس قد يرد أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وإذا قال: إنا نحن نعظّم الله أن يزول من موضع إلى موضع فقد زعم أنه أعلم بالله من غيره، فاحذر هؤلاء، فإن جمهور الناس من السوقة وغيرهم على هذا الحال، وحذّر الناس منهم]. يشير هنا إلى علامة من علامات الجهمية والمعتزلة وأهل الكلام عموماً، خاصة فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته وبعض السمعيات التوقيفية، فإن من شبهاتهم أنهم إذا وردت النصوص التي فيها إثبات لأسماء الله وصفاته وأفعاله أو بعض السمعيات قالوا: إن هذا يُشعر بالتشبيه، أو يشعر بالأمور المعروفة المعهودة في عالم الشهادة، وقالوا: إنه يجب إذا شعرنا بهذا الأمر أن نعظّم الله عز وجل، يقصدون بذلك ألا يثبتوا له شيئاً، فجعلوا تعظيم الله عز وجل ذريعة للتعطيل. وهذه الشبهة موجودة في أذهان أكثرهم، بمعنى أنهم لم ينكروا أسماء الله وصفاته والسمعيات إلا حينما انقدح في أذهانهم المشابهة والمماثلة، فلما انقدحت في أذهانهم المماثلة فروا منها لكن لا إلى الإثبات اللائق أو إلى إثبات المعاني اللائقة، إنما فروا منها إلى التعطيل فصارت سمة لهم، بمعنى أنهم إذا سمعوا بآيات الله عز وجل التي فيها أسماء الله وصفاته وأفعاله، أو سمعوها في الأحاديث استشعروا أن هذا يوهم التشبيه، فانتقلوا من التشبيه إلى التعطيل وقالوا: إنما فعلنا ذلك لنعظّم الله عز وجل. فإذا سمع المعطّل قول الله عز وجل: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] قال: أنا أعظّم الله، يقصد بذلك نفي صفته، زعماً منه أن إثبات اليد يقتضي المشابهة، وهكذا بقية الأمور، ولذلك ضرب الشيخ مثلاً لهذا بحديث الرؤية وحديث النزول، وأتى بنموذج لكلامهم فقال: (وإذا قال) أي: هذا المؤول المعطّل (إنا نحن نعظّم الله أن يزول من موضع إلى موضع، فإنه يقصد بذلك نفي النزول ونفي الاستواء)، فأشار إلى الشبهة وبنى عليها التعطيل فزعم أن إثبات النزول يعني إثبات الانتقال من موضع إلى موضع، أو زوال الله عز وجل من موضع إلى موضع على الوضع المعهود في المخلوقات، وإلا فهذا الكلام مجمل -أعني زواله من موضع إلى موضع- فهو مجمل لا ننفيه ولا نثبته، لكنا نثبت النزول؛ لأنه صريح كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم والنزول في حق الله لا يلزم منه ما يلزم في نزول الخلق. فالمهم أن هذا منهج لأهل الكلام، يدخلون به على العوام وأشباه العوام، فيثيرون الشبهات حول النصوص ويزعمون أن من مقتضى تعظيم الله عز وجل إثارة هذه الشبهات، فيبنون عليه التعطيل والنفي، ويسمون النفي تعظيماً لله عز وجل، ويسمون التأويل تعظيماً لله عز وجل لأنه ناتج عن شبهات في أذهانهم، وهذه الشبهات لو التزمت قد تكون باطلاً، لكن ليست هي معاني النصوص، وهم فسّروا النصوص بتفسير خاطئ وجعلوا هذا التفسير الخاطئ ذريعة إلى الإنكار وإلى التحريف والتعطيل في أسماء الله وصفاته.

الأسئلة

الأسئلة

الاستعداد لمناظرة المبتدعة عبر الفضائيات

الاستعداد لمناظرة المبتدعة عبر الفضائيات Q ما مدى الاستعداد للوقوف في المناظرات عبر الفضائيات حتى لو بعد عشر سنوات، أم أن نقول السائد هو أن للبيت رباً يحميه؟ A هذا القول ليس هو الأصل، الأصل أن نستعد لا شك، ويجب على الأمة أن تستعد وبخاصة طلاب العلم الشرعي يجب أن يستعدوا للدفاع عن الحق وللتصدي للشبهات والردود عليها، ولا يلزم أن تكون هناك سنوات للانتظار، لكن أنا ضربت مثلاً، وواقعنا ليس حجة لنا بل هو حجة علينا، نعم التقصير موجود فيجب أن نسعى لأن نؤهّل أنفسنا أو تتأهل طائفة من طلاب العلم لمثل هذه الأمور، لكن مع ذلك يبقى ما قلته في رأيي هو المنهج، أنه ما دمنا لم نستعد فعلينا أن نتحمل مسئولية عملنا، ولا يعني ذلك أنا معذورون أمام الله عز وجل، لكن أيضاً لا نخذل الحق بأن نقف موقف المنهزم، وأن نتصدى لأمر لم نستعد له. إذاً الواجب علينا الاستعداد، ومتى يكون ذلك؟ قد يكون بعض طلاب العلم الآن مؤهّلاً ويحتاج فقط إلى أن يستكمل بعض الجوانب في الاستعداد لذلك، وبعضهم يحتاج إلى سنوات هذه الأمور في نظري لا يلزم أن نخطط لها في برامج مرسومة، وإن حدث في المؤسسات الرسمية وغير الرسمية فلا بأس. والجامعات ومراكز العلم عليها أن تخطط لهذا تخطيطاً جيداً وتؤهّل، لكن لا يلزم أن نقف حتى ندرس ما دام الأمر واجباً، وعندنا من طلاب العلم من عندهم المقدرة إذا استعدوا، فيجب أن يستعدوا.

الكلام على ما كان من سؤال العلماء للناس عن الأصول الثلاثة

الكلام على ما كان من سؤال العلماء للناس عن الأصول الثلاثة Q ما قولكم في عمل علماء نجد السابقين رحمهم الله حينما كانوا يسألون الناس عن الأصول الثلاثة؟ A ذاك سؤال تعليم وليس سؤال امتحان، ومن أحسن طرق التعليم السؤال، فهو أحسن وسيلة لتثبت المعلومة، والسؤال يفيد المسئول ويفيد السامعين، وكنت أتمنى لو يرجع لها أئمة المساجد بأسلوب يناسب الناس اليوم، حتى يذكروا الناس بأصول دينهم، فمثلاً يحدد إمام المسجد وقتاً معيّناً وليكن بين الأذان والإقامة فيعرض قضايا الدين الأساسية بأساليب متعددة، وليكن منها الأسلوب القديم، حيث يأتي بطالب علم متمكن فيحاوره: ما رأيك بكذا؟ وهو يجيب ومن هنا يتعلم الناس ويسمعون. فهذا أسلوب جيد يثبت المعلومة في عقول الناس، فليتنا استعملنا هذا الأسلوب الذي أصبحنا الآن نظن أنه عيب، والعكس هو الصحيح، فهم يستعملون هذه الطريقة بما يناسب وقتهم ويناسب الناس، ونحن يجب أن نستعملها الآن أيضاً بما يناسب. نعم، الناس الآن عندهم من الكبر والتعالي والغرور بحيث يأنف الواحد أن تسأله أمام الناس، فنحن نشكو إلى الله من ذلك، أما المجتمع من قبل فقد كان يتقبّل وكان عنده استعداد، وكان العامي يفرح أنه يسأل عن دينه؛ لأنه يعرف أن هذا من مصلحته، لكن ما دام قد وجد هذا الشعور بالتعالي والغرور فلا مانع من أن نغير الأساليب.

شرح السنة [22]

شرح السنة [22] ختم الإمام البربهاري رحمه الله كتابه شرح السنة بذكر جملة من الأصول التي يجب التزامها والعمل بها، وكلها تصب في باب التزام السنة والعمل بها في جميع مسائل الدين، وفي التحذير من البدعة وأصحابها بجميع صورها، فمن كان كذلك ملتزماً بالسنة ظاهراً وباطناً فهو سني، ومن خالف في شيء من تلك الأصول فقد وقع في البدعة بحسب مخالفته وبدعته.

آداب مناظرة أهل البدع والتعامل معهم

آداب مناظرة أهل البدع والتعامل معهم قال أبو محمد الحسن بن علي البربهاري رحمه الله تعالى: [وإذا سألك الرجل عن مسألة في هذا الكتاب وهو مسترشد فكلمه وأرشده، وإذا جاءك يناظرك فاحذره، فإن في المناظرة المراء، والجدال، والمغالبة، والخصومة، والغضب، وقد نهيت عن جميع هذا جداً، وهو يزيل عن طريق الحق، ولم يبلغنا عن أحد من فقهائنا وعلمائنا أنه جادل أو ناظر أو خاصم. قال الحسن البصري: الحكيم لا يماري ولا يداري في حكمته أن ينشرها، إن قبلت حمد الله وإن ردت حمد الله].

التفريق بين من يسأل مسترشدا ومن يسأل متعنتا

التفريق بين من يسأل مسترشداً ومن يسأل متعنتاً قول الشيخ رحمه الله: (وإذا سألك الرجل عن مسألة في هذا الكتاب)، ورد في الهامش أنه في نسخة: (في هذا الباب)، ومع ذلك يبدو أن (هذا الكتاب) هي الأرجح وهي المقصودة، ويقصد محتويات الكتاب، وهذا سيأتي مثله بعد قليل أيضاً. ويقصد الشيخ محتويات هذا الكتاب؛ لأن هذا الكتاب يعرض أصول عقيدة أهل السنة والجماعة، والمعنى: إذا جاءك أحد يجادلك أو يسألك عن مسألة مما ورد في هذا الكتاب، من أصول السنة، وهو مسترشد؛ فأصغ له سمعك وأرشده وبيّن له، حتى وإن كان سؤاله يتضمن شبهة أو نحو ذلك، أما إذا جاء يناظر فاحذره، وهذه المسألة أيضاً فيها تفصيل، فقوله: (فاحذره)، يقصد أن عموم القراء ينبغي أن يحذروا من يريد أن يناظرهم في أصول دينهم؛ لأنهم ما استعدوا للمناظرة، ثم إن على الإنسان أن يجيب بالإجابة الحكيمة، يقول: أنا ليس عندي شك في ديني، فأنت إن كان عندك شك فابحث عن غيري، هذا هو الأصل، لكن إذا كان من يطلب المناظرة جاداً ومن طلبت منه المناظرة من أهل السنة متمكناً، فلا بد أن يستجيب لإقامة الحجة والبيان، لكن هذا عزيز جداً، قلَّ أن يوجد من أهل الأهواء من هو في طلبه للمناظرة جاد، وقل أن يوجد من أهل السنة الآن من هو متمكن مستوفية فيه شروط المناظرة والجدل.

الأصل النهي عن الجدال

الأصل النهي عن الجدال قال رحمه الله تعالى: [وجاء رجل إلى الحسن فقال: أنا أناظرك في الدين فقال الحسن: أنا عرفت ديني، فإن ضل دينك فاذهب فاطلبه]. هذا هو الأصل، وهو النهي عن الجدال، وفتح باب الجدال يبقى استثناء، وهذا أدب الحسن البصري رحمه الله، وهو إمام السنة في ذلك الوقت، وهو من أكابر العلماء ومن أقدرهم على المناظرة، لكن يظهر لي أنه توسم فيمن سيناظر أنه من أهل الأهواء والبدع الذين أرادوا الاستظهار والتعالي والغرور، وإلا فكان الإمام الحسن يفتح صدره ويتسع صدره لمناظرة من يريد الحق. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً على باب حجرته يقول أحدهم: ألم يقل الله كذا، وقال الآخر: ألم يقل الله كذا، فخرج مغضباً فقال: أبهذا أمرتم أم بهذا بعثت إليكم؛ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟)]. الحديث صحيح، ومفاده أن الأصل عدم المجادلة، ولذلك حينما أذن الله عز وجل بمجادلة أهل الكتاب كان الإذن بعد النهي: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46] فالنهي هو الأصل، والاستثناء مشروط بأن يكون ((بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) وهي تعني استيفاء شروط الجدل التي سبق الكلام عنها في درس ماض، وهذا هو الذي تدل عليه أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان ينهى عن الجدل والمراء في الدين؛ لأن قضايا الدين القطعية غيبية توقيفية، والجدل في الغالب ليس تقريراً، لأن التقرير لا يحتاج إلى جدل، واستشكال المسلم ثم سؤاله للعالم لا يعتبر جدلاً، لأن الجدل هو ما زاد عن مجرد السؤال والجواب، أما إذا اقتصر الأمر على سؤال ثم جواب من قبل عالم فلا بأس، لكن إذا قصد السائل المحاجة وأشعرك بأنه سيرد ما معك من الحق، وأنه مستعد أن يناقشك، فهو جدال. والمعنى اللغوي للمجادلة هو: المماحكة والأخذ والرد أكثر من مرة، هذا هو أصل المجادلة، وهو الذي وردت النصوص بالنهي عنه.

كراهة السلف للجدال

كراهة السلف للجدال قال رحمه الله تعالى: [فنهى عن الجدال، وكان ابن عمر يكره المناظرة، ومالك بن أنس، ومن فوقه ومن دونه إلى يومنا هذا، وقول الله عز وجل أكبر من قول الخلق، قال الله تبارك وتعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر:4]. وسأل رجل عمر بن الخطاب فقال: ما الناشطات نشطاً؟ فقال: لو كنت محلوقاً لضربت عنقك]. معروف أن الذي أثار هذه المشكلات هو صبيغ بن عسل التميمي، وصبيغ قصته مشهورة وصحيحة، وهو أنه كان يثير هذه القضايا على شكل شبهات وإشكالات، ويجادل فيها أيضاً، ولما بدأت منه هذه البادرة نهاه أهل العلم فلم ينته، وظل يثيرها بين عامة الناس والأجناد الذين ليس عندهم علم، فلما أصر على هذا رُفع أمره إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما رآه يصر على مثل هذه الأمور جلده، وقال: (لو كنت محلوقاً لضربت عنقك)، يشير بذلك إلى الخوارج، والله أعلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الخوارج. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن لا يماري، ولا أشفع للمماري يوم القيامة، فدعوا المراء لقلة خيره)]. الظاهر أن الحديث ضعيف جداً، وعبارته تدل على ذلك، فإن فيها ركاكة تدل على أنه موضوع، لكن النهي عن المماراة لا شك أنه ثابت بغير هذا الحديث.

متى يكون المرء صاحب سنة

متى يكون المرء صاحب سنة قال رحمه الله تعالى: [ولا يحل لرجل مسلم أن يقول: فلان صاحب سنة حتى يعلم أنه قد اجتمعت فيه خصال السنة، لا يقال له: صاحب سنة حتى تجتمع فيه السنة كلها]. يقصد اجتماع السنة بالجملة، وإلا فالمسلم قد لا تجتمع فيه السنة كلها، لكن يقصد المنهج، وكثير من تعبيرات السلف المجملة في هذه الأمور يقصدون بها المنهج، بمعنى أن يكون نهجه على السنة، وإلا فقد يقع في معاص وقد يقع في بعض الأمور المخالفة، وقد يكون عنده بعض البدع الصغيرة غير المخرجة من السنة. فقوله: (حتى تجتمع فيه السنة كلها) بمعنى أن يلتزم أصول السنة، ويلتزم نهج أهل السنة والجماعة، ولذلك من كان على السنة في المنهج إجمالاً فهو صاحب سنة وإن خالف في بعض الأمور، سواء كانت معاصي أو من البدع الصغيرة، فلا يخرج من السنة إلا إذا عمل ببدعة مغلظة، أو خالف أهل السنة والجماعة في الأصول والمنهج، أو تكاثرت عنده البدع الصغيرة حتى صارت هي الأصل، فإنه بذلك يخرج عن السنة وإن ادعى أنه على السنة. قال رحمه الله تعالى: [وقال عبد الله بن المبارك: أصل اثنين وسبعين هوى أربعة أهواء، فمن هذه الأربعة الأهواء انشعبت هذه الاثنان وسبعون هوى القدرية، والمرجئة، والشيعة، والخوارج]. هذا الكلام اجتهاد من الإمام عبد الله بن المبارك، وقال بمثله يوسف بن أسباط، وأصل قولهم في ذلك أنهم سبروا الأهواء في وقتهم، وذلك في نهاية القرن الثاني الهجري، فوجدوها كذلك. فبعد الإمام عبد الله بن المبارك والإمام يوسف بن أسباط زادت الفرق، ولذلك فالذي عليه جمهور السلف أنا لا نستطيع أن نحدد الفرق بأعيانها، ولا أن نحدد الأصول على وجه الجزم؛ لأنه لا يزال إلى اليوم تخرج فرق بأصول جديدة، لكن يمكن أن تكون هذه أصول الفرق في ذلك الوقت. والقدرية تشمل المعتزلة؛ لأن المعتزلة قدرية. والمرجئة تشمل مرجئة الفقهاء، والمرجئة الغلاة، ما عدا المرجئة الجهمية، لأن الجهمية تخرج من الملة. والشيعة تشمل الشيعة الرافضة والشيعة الزيدية، وهذا قبل أن تقول الرافضة بالعصمة والمهدية وغير ذلك، لأن الرافضة في ذلك الوقت لم تكن عند جميعها أصول الكفر، وإن كانت موجودة عند بعض فرقهم، فالشيعة هي المفضّلة والمفترية، أما الرافضة فالغالب أنها لا تدخل في هذه الأربع؛ لأنها تخرج من الملة. والخوارج تشمل إلى أصنافاً كثيرة. ففي ذلك الوقت كانت هذه الفرق الأربع هي أصول الفرق، أما بعد ذلك فقد جاءت الفرق الكلامية مثل الصوفية أصحاب الطرق، وجاءت مذاهب الفلاسفة الذين يسمون بالفلاسفة الإسلاميين، ومذاهبهم إلى الآن تحتذى. وفي الحديث: (كلها في النار إلا واحدة) يعني أنها من أهل الوعيد، أما الخارجة من الملة منها فليست من فرق المسلمين، فالتوعد بالنار هنا ما دامت مسلمة، فهي مثل أصحاب المعاصي؛ لكن البدع أشد من المعاصي العملية. إذاً فقوله: (كلها في النار) من أحاديث الوعيد باتفاق السلف، ولا يدل على خروجهم من الملة.

الأصول التي من قال بها واعتقدها فهو سني

الأصول التي من قال بها واعتقدها فهو سني قال رحمه الله تعالى: [فمن قدم أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً على جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتكلم في الباقين إلا بخير ودعا لهم، فقد خرج من التشيع أوله وآخره، ومن قال: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص فقد خرج من الإرجاء أوله وآخره، ومن قال: الصلاة خلف كل بر وفاجر، والجهاد مع كل خليفة ولم ير الخروج على السلطان بالسيف، ودعا لهم بالصلاح فقد خرج من قول الخوارج أوله وآخره، ومن قال: المقادير كلها من الله عز وجل خيرها وشرها يُضل من يشاء ويهدي من يشاء، فقد خرج من قول القدرية أوله وآخره، وهو صاحب سنة]. هذه الضوابط صحيحة نقية واضحة جداً، ذكر فيها أبرز سمات أهم الفرق في ذلك الوقت، وإلى اليوم نستطيع أن نقول بمثل قوله، بمعنى أن من قدّم أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً على جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو صاحب سنة، وقد برئ من التشيع، وكذلك من قال الإيمان قول وعمل يزيد وينقص فقد برئ من الإرجاء المذموم، وهكذا بقية الأصول، ويمكن أن نضيف إليها أصلاً واحد ينتظم جميع أصول الفرق في القرون الثلاثة الفاضلة، وهو: من أثبت لله عز وجل ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تمثيل، ونفى ما نفاه الله عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تأويل ولا تعطيل، فقد برئ من التجهم أوله وآخره، ثم نستطيع أيضاً أن ندرج قواعد تخرج الصوفية، وقواعد تخرج الفلاسفة، وقواعد تخرج بعض الفرق التي ظهرت بعد ذلك.

أصول الرافضة التي خرجت بها من الملة

أصول الرافضة التي خرجت بها من الملة قال رحمه الله تعالى: [وبدعة ظهرت هي كفر بالله العظيم، ومن قال بها فهو كافر بالله لا شك فيه، من يؤمن بالرجعة ويقول: علي بن أبي طالب حي وسيرجع قبل يوم القيامة، ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر ويتكلمون في الإمامة، وأنهم يعلمون الغيب فاحذرهم فإنهم كفار بالله العظيم ومن قال بهذا القول]. هذه إشارة إلى الرافضة، وهنا أخرج الرافضة من الفرق، وعلى هذا فإنها لا تدخل في الشيعة في أول الكلام الذي ذكره عن ابن المبارك في الفرق الأربع، لأن الرافضة خرجت من الملة بعدة أمور منها القول بالرجعة، ومنها كذبها على الرسول صلى الله عليه وسلم كذباً صريحاً، وخرجت من الملة بنسبتها البهتان إلى أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه قدح في عرض النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إنها خرجت من الملة بتكفيرها للصحابة، وبردها للسنة رداً مطلقاً، وهي المصدر الثاني من مصادر الدين. ثم خرجت الرافضة بزعمها العصمة للأئمة وأنهم فوق الأنبياء، ثم بموقفها العام من المسلمين، فإن الرافضة تتفق على أنها على غير دين المسلمين، ويعدون المخالفة من دينهم، وهم يسمون أنفسهم المسلمين، ويسمون أهل السنة الناصبة، ويسمونهم بأسماء أخرى، فهم بكل صراحة قد أخرجوا أنفسهم من الملة. ولذلك أنا أعجب من تردد بعض طلاب العلم في مسألة الرافضة الآن! أناس لا يريدون الإسلام الذي نريده ونتعبد الله به، فلماذا يقحمهم بعض الناس فيه؟ وأنا وجدت في الآونة الأخيرة نصاً لأحد علمائهم يقرءونه ولا ينكرونه، يقول ما معناه: إن الرب الذي يدّعي الناصبة أنه أباح للنبي صلى الله عليه وسلم الزواج بـ عائشة هو غير ربهم، فهذا كلام نعمة الله الجزائري إمام الأئمة، وله كتاب آخر يدّعي فيه أن القرآن محرّف، وهو كتاب مشهور عندهم، وبعضهم ينكر ذلك، ولكن أنا لا أستبعد أن إنكار الكتاب من باب التقية. فإذاً: الرافضة كما قال الشيخ كفروا بالله العظيم، وذكر أصلاً واحداً من الأصول التي كفروا بها، وهي كثيرة، وكل واحد منها فيما أعلم وحسب كلام الأئمة المجتهدين كاف للقول بأنهم رافضة، ومن أخفاها على الناس القول بالبدا، حيث يرون أن الله يبدو له أمر آخر فينكشف له ما لم يعلمه من قبل، ولذلك فسّروا كثيراً من الأشياء التي هي معضلة عليهم بذلك، مثل: جعل عائشة بنت أبي بكر تحت النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً حفصة بنت عمر، ولماذا كان الصحابة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بعد ذلك كفروهم وقالوا: لا يليقون بأنهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كل هذا يفسّرونه بأنه بدا الله، أي انكشف له أن الصحابة لا يستحقون ذلك، فهذا واحد من الأصول المغمورة عند الرافضة، فكيف بالعقائد الشهيرة! ومن ذلك: قولهم بنقص القرآن وتحريفه، ويعتقدون عقيدة المهدية والرجعة، وأنه سيظهر قرآن آخر غير الذي نتلوه، وهو مصحف فاطمة، وكلهم يعتقدون هذا، صحيح أن بعضهم يموّه على أهل السنة ويقول: نحن نعرف أن هذا القرآن الذي بين أيدينا غير محرف، لكن يعتقدون أن هناك قرآناً آخر، وغالبيتهم يرون أن هذا القرآن نفسه محرّف ومنقوص ومزيد، لكن بعضهم يموّه على بعض. وبعض الناس يسأل عن عوامهم، فنقول: عوامهم مثل عوام المشركين، لكن الله أعلم بحال الأشخاص بأعيانهم، وقد يكون بعض الناس مسلماً مستضعفاً، والعامي الخالص منهم قد يكون يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولا يعرف إلا مجملات الدين، لكن ما نسبة هذا إلى عوام الرافضة؟ لا ندري، قصدي أن الغالب أن هذا نادر جداً؛ لأن عموم الرافضة حتى العوام منهم يشركون بالله عز وجل في العبادة، فيدعون علياً ويدعون عباساً، ولا يستغني رافضي عن الأضرحة والمشاهد التي تمارس فيها الكفريات، هذا هو دين الرافضة الذي هم عليه الآن إلا النادر، والنادر لا حكم له، بل الحكم على العموم. أما أن يفترض أن يوجد رافضي عامي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيم أركان الإسلام، ولا يعرف الشركيات، فهذا محتمل عقلاً، لكن الواقع غير ذلك، فلا نلغي الأحكام لمجرد احتمالات نادرة وقليلة، فيبقى الأصل هو أن هؤلاء القوم ليسوا من المسلمين، بل هم ديانة فارسية مجوسية، فلا علاقة لها بالإسلام إلا مجرد الاسم، والله أعلم.

الفارق بين السني والشيعي والرافضي

الفارق بين السني والشيعي والرافضي قال رحمه الله تعالى: [قال طعمة بن عمرو وسفيان بن عيينة: من وقف عند عثمان وعلي فهو شيعي لا يُعدّل ولا يكلم ولا يجالس، ومن قدّم علياً على عثمان فهو رافضي قد رفض آثار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن قدّم الثلاثة على جماعتهم وترحم على الباقين، وكف عن زللهم فهو على طريق الاستقامة والهدى في هذا الباب]. قوله: (من وقف عند عثمان وعلي)، عبارة محتملة لعدة أمور، لكن حين قال فهو شيعي فكأنه يقصد من توقف في فضل عثمان على علي؛ لأنه قال: (لا يُعدّل ولا يكلم)، ثم ذكر كلاماً آخر وهو: (من قدّم علياً على عثمان)، وهذا هو التشيع التفضيلي، فقوله فيه: (فهو رافضي)، فيه نظر؛ لأن الرافضي هو الذي يسب أبا بكر وعمر، والشيعي هو الذي يفضّل علياً على عثمان، هذه قاعدة عليها جمهور السلف. فالرافضي هو الذي يسب أبا بكر وعمر، ومن البديهي أن من سب أبا بكر وعمر سيسب بقية الصحابة، وهم لا يدينون ولا يعترفون بالفضل إلا لثلاثة، وبعضهم يرفعهم إلى خمسة، وبعضهم إلى سبعة من الصحابة: علي رضي الله عنه والحسن والحسين، وسلمان الفارسي والمقداد بن الأسود وعمار بن ياسر، وأبو ذر. والمهم أن كلام الشيخ في هذه الفقرة فيه اضطراب ولا أدري ما سبب هذا الاضطراب، هل هو خلل في الأصول أو عند الشيخ وهم؟ الله أعلم. قوله: (ومن قدّم الثلاثة على جماعتهم وترحم على الباقين، وكف عن زللهم فهو على طريق الاستقامة). يقصد من قدّم أبا بكر وعمر وعثمان، ولا يعني ذلك أن يقدح في علي، لكن كما قلت لكم في وقت سابق وكما ذكر المحققون من أهل العلم: أنه لما كثر كلام الناس في تفضيل علي على عثمان، وفي الثلاثة ومن هم أفضل؟ وهل علي يدخل في الخلفاء الراشدين أو لا يدخل؟ استقر مذهب السلف على التالي: أولاً: النصوص التي وردت في الفضل أكثر ما وردت في أبي بكر رضي الله عنه وحده، ثم في عمر وحده، ثم في أبي بكر وعمر، ثم ذكر عثمان مع الشيخين أبي بكر وعمر ثم ذكر الأربعة، فبعض السلف نظراً لكثرة النصوص التي تجمع بين الثلاثة على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أو على لسان الصحابة، حين كانوا كثيراً ما يقرنون أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله وأقواله بالثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان فوقفوا عند الثلاثة لا للغض من قدر علي رضي الله عنه؛ لكن للوقوف على قدر معين من النصوص، وترحموا على الباقين. وفي بعض النسخ: (الأربعة)، وهذا جيد لا بأس، ولكن كلمة (الثلاثة) واردة على لسان السلف وليست غلطاً.

اعتقاد أهل السنة في العشرة المبشرين بالجنة

اعتقاد أهل السنة في العشرة المبشرين بالجنة قال رحمه الله تعالى: [والسنة أن تشهد أن العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة أنهم في الجنة لا شك فيه]. هذا أيضاً تخالف فيه الرافضة، وليس العجيب من كلامهم، العجيب من خفاء أمرهم على طلاب العلم، والعجيب أنهم في الوقت الذي يكفّرون فيه من شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة يشهدون بالجنة للمشركين من أهل الجاهلية، وهذا من عباداتهم الأساسية.

الجمع بين الصلاة والسلام خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم

الجمع بين الصلاة والسلام خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم قال رحمه الله تعالى: [ولا تفرد بالصلاة على أحد إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى آله فقط]. بمعنى أن لا تقول: اللهم صل وسلم على فلان، إلا للنبي صلى الله عليه وسلم، وآله، أما بقية الناس فلا، مثلاً بقية الأنبياء يقال: عليهم السلام، ومع ذلك ورد في النصوص جواز ذكر الصلاة والسلام لبقية الأنبياء، لكن الأصل أن الجمع بين الصلاة والسلام لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وآله أمر واجب، ولبقية الأنبياء غير واجب، فإذا ذكرت محمداً صلى الله عليه وسلم فلا تقل: عليه السلام فقط، فهذا إخلال بحقه وترك للواجب، أما إذا قلت في حق الأنبياء عليهم السلام أو عليهم الصلاة والسلام فالأمر لا حرج فيه.

قتل عثمان بن عفان مظلوما

قتل عثمان بن عفان مظلوماً قال رحمه الله تعالى: [وتعلم أن عثمان بن عفان قُتل مظلوماً، ومن قتله كان ظالماً]. هذا موجب النصوص الواردة في حق عثمان رضي الله عنه.

إطراء المؤلف لكتابه

إطراء المؤلف لكتابه قال رحمه الله تعالى: [فمن أقر بما في هذا الكتاب وآمن به، واتخذه إماماً، ولم يشك في حرف منه، ولم يجحد حرفاً واحداً؛ فهو صاحب سنة وجماعة كامل قد اكتملت فيه السنة، ومن جحد حرفاً مما في هذا الكتاب، أو شك في حرف منه، أو شك أو وقف فهو صاحب هوى]. هذا من الأمور الحقيقة التي تشكل عند البربهاري رحمه الله في ظاهر العبارة، وإن كان لها محامل صحيحة، ومع ذلك فالعبارة فيها إشكال ينبغي أن نتوقف عند هذا الإشكال. يقول: (فمن أقر بما في هذا الكتاب)، الظاهر أنه يقصد الكتاب الذي بين أيدينا. (وآمن به واتخذه إماماً)، هذا كله كلام جيد؛ لأنه يقصد أن هذا الكتاب عرض أصول السلف ومناهج السلف، ولا شك أن أصول السلف ومناهج السلف على العين والرأس، ولذلك درسناه ويدرسه غيرنا ويعتبر من كتب أهل السنة، فاتخاذه إماماً أمر حسن؛ لأنه ليس رأي شخص أو فرد، إنما هو منهج أهل السنة وأصولهم أجملها بقدر اجتهاده، لكن قوله بعد ذلك: (ولم يشك في حرف منه)، يبدو لي أنه خانته العبارة، أو عبّر بتعبير مجازي للحرف، وهذا جائز تسعه اللغة، فكأنه قصد بالحرف الأصل، وهذا يستعمل عند كثير من أهل العلم، فلا يقصد الحرف المعهود، لكن يقصد بالحرف الأصل، والمعنى: ومن لم يشك في أصل من الأصول القطعية التي وردت في هذا الكتاب، (ولم يجحد حرفاً)، يعني أصلاً من هذه الأصول (فهو صاحب سنة وجماعة كامل قد اكتملت فيه السنة). أما إن قصد الحرف بمعناه الدقيق ففي هذا نظر، وهذه زلة، لكن أنا أستبعد هذا. وقوله: (ومن جحد حرفاً مما في هذا الكتاب أو شك في حرف منه، أو شك أو وقف فهو صاحب هوى) والتوجيه في هذا كسابقه، يعني أنه يقصد بذلك أصلاً أو منهجاً أو قاعدة من القواعد التي سردها والتي هي محل اتفاق عند أهل السنة والجماعة.

حكم من جحد حرفا من القرآن أو السنة أو شك فيه

حكم من جحد حرفاً من القرآن أو السنة أو شك فيه قال رحمه الله تعالى: [ومن جحد أو شك في حرف من القرآن أو في شيء جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الله تعالى مكذباً، فاتق الله واحذر وتعاهد إيمانك]. يعني الأولى أن تكون هذه الفقرة قبل التي قبلها، لأن تقديم القرآن أولى فيما يتعلق؛ لأن القرآن هو الأصل الذي أخذ منه السلف ما سماه الشيخ حرفاً، أي الأصول.

من السنة عدم الإعانة على معصية

من السنة عدم الإعانة على معصية قال رحمه الله تعالى: [ومن السنة أن لا تعين أحداً على معصية الله، ولا أولي الخير ولا الخلق أجمعين، ولا طاعة لبشر في معصية الله، ولا يُحب عليه أحداً، واكره ذلك كله لله تبارك وتعالى]. هذا أمر معلوم ظاهر، فلا شك أنه ينبغي للمسلم ألا يعين أحداً على معصية أو على ظلم، وكذلك لا يعين أحداً على أولي الخير، فلا يقف في صف الظالمين المعتدين، ولا في صف أهل البدع ضد أهل الخير، فهذا من الأمور المخالفة لأصل السنة. قوله: (ولا طاعة لبشر في معصية الله)، هذه قاعدة شرعية أيضاً. (ولا يحب عليه أحداً، واكره ذلك كله لله تبارك وتعالى)، يقصد في العموم.

أهمية التطبيق العملي وحسن التعامل عند أهل السنة

أهمية التطبيق العملي وحسن التعامل عند أهل السنة والسلف كثيراً ما يذكرون في آخر كتبهم ما يسمى بمناهج أهل السنة وخصائصهم، أو ما يسمى بالقواعد التطبيقية لقضايا العقيدة، وكأنه يريد بذلك أن يشير إلى أن منهج المسلم في سلوكه وتعامله من ضمن العقيدة، وأن من حقيقة الاستمساك بالسنة أن يكون المسلم على الأخلاق الفاضلة بعيداً عن الأخلاق السيئة، فيكون مع العدل وضد الظلم، ومع الإحسان ضد الإساءة، أن يحب الفضائل ويكره الرذائل فهذا بالإجمال يدخل في أصول السنة، حتى وإن سماها الناس أخلاقيات، لأن الأخلاقيات هي الثمرة العملية لتطبيق السنة. ولذلك نجد من أكثر ما يسبب الحرج على أهل السنة أن كثيراً من المنتسبين للسنة يكون تعاملهم مع الآخرين على غير السنة، وهذه إساءة إلى العقيدة نفسها؛ لأن أغلب الناس ليس عندهم مدارك يفرقون بها بين المعاني والأعمال، وإنما يقيسون أهل السنة بتصرفاتهم ومواقفهم تجاه الآخرين، وكثير من المنتسبين للسنة خاصة طلاب العلم المبتدئين وبعض الدعاة غير المتفقهين في الدين لا يهتمون باستقامة التعامل، ومن هنا يسيئون إساءة عظيمة إلى السنة وأهل السنة، ولو سلمت السنة الآن من هؤلاء لكانت استجابة الناس إلى السنة ودخولهم فيها أكثر مما هو حاصل بكثير. فمن هنا ندرك أن أهل العلم حينما يضعون مثل هذه القواعد في آخر كتب العقيدة، يقصدون بذلك أنه لابد من المنهج العملي مع المنهج النظري، فنأخذ العقيدة كقضايا نظرية، ومن ناحية التطبيق لا بد من العمل بمقتضى السنة في تعامل الإنسان أولاً مع ربه عز وجل، ثم في موقفه من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن سنته، ثم موقفه من الآخرين ابتداء من الحقوق الخاصة كالوالدين والأقربين والجيران والضيوف وغيرهم، وأصحاب الحق العام كالولاة والعلماء وأهل الاعتبار والطاعة والمشورة، ثم مع المخالفين من المسلمين ومع المخالفين من الكفار. فلا بد من مسلم يكون عنده منهج مميز واضح ظاهر يتمثل في سلوكه مع الآخرين، وهذا مما أخل به كثير من المنتسبين للسنة اليوم، ولذلك فأكثر الذين يرقبون أعمال المسلمين كبعض المفكرين والمثقفين يحسبون تصرفات بعض الذين ينتسبون للسلفية على السنة والجماعة، ولو قرأت مثلاً بعض الكتب الشهيرة التي تمثل موقف العقلانيين أو العصرانيين من السنة والجماعة لوجدت أنهم يحكمون على السنة والجماعة من خلال تصرفات بعض الذين ينتسبون للسلفية وهم يسيئون إليها.

وجوب التوبة

وجوب التوبة قال رحمه الله تعالى: [والإيمان بأن التوبة فريضة على العباد أن يتوبوا إلى الله عز وجل من كبير المعاصي وصغيرها. ومن لم يشهد لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة فهو صاحب بدعة وضلالة، شاك فيما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم]. نعم هذه قاعدة واضحة.

حث السلف على التزام السنة

حث السلف على التزام السنة قال رحمه الله تعالى: [قال مالك بن أنس: من لزم السنة وسلم منه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مات، كان مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وإن كان له تقصير في العمل. وقال بشر بن الحارث: الإسلام هو السنة والسنة هي الإسلام]. نرجع إلى قول مالك فقول مالك واضح أنه يقصد به أن الإنسان إذا حسنت عقيدته واستقامت، وسلم من الكلام في السابقين الأولين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة الهدى، فلم يطعن فيهم ولم يكن في قلبه عليهم شيء ولا تكلم عليهم بلسانه، فإن مصيره إلى الجنة ومصيره إلى الخير وإن وقع في بعض المعاصي، وهو يقصد التفريق بين البدع الاعتقادية وبين المعاصي، فالعاصي يرجى له الخير وإن مات على معصيته، أما الذي يقع في خلاف السنة فهو أشد وعيداً. قال رحمه الله تعالى: [وقال الفضيل بن عياض: إذا رأيت رجلاً من أهل السنة فكأنما أرى رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا رأيت رجلاً من أهل البدع فكأنما أرى رجلاً من المنافقين]. هذه النصوص والتي ستليها كلها تندرج تحت موضوع واحد، فلذلك يكفي التعليق عليها الآن. وذلك أنها تدخل في عبارات السلف في النهي عن البدع والتحذير منها على سبيل الوعيد والردع وحماية السنة والوقاية من البدعة، فهي أشبه بنصوص الوعيد التي يراد بها الزجر، وليست على وجهها من كل جانب، والمعنى أن بعض العبارات فيها قسوة أو فيها حكم مغلّظ، وهذا كله على سبيل الزجر؛ لأن السلف يجعلون هذا من وسائل حماية الأمة من البدع. فإذاً الآثار الآتية عن السلف التي في النهي عن البدع ووصف أهلها ببعض الأوصاف الصعبة جاءت على سبيل الردع والحماية والوقاية وعلى سبيل الوعيد. قال رحمه الله تعالى: [وقال يونس بن عبيد: العجب ممن يدعو اليوم إلى السنة، وأعجب منه من يجيب إلى السنة فيُقبل. وكان ابن عون يقول عند الموت: السنة السنة وإياكم والبدع! حتى مات. وقال أحمد بن حنبل: مات رجل من أصحابي فرئي في المنام فقال: قولوا لـ أبي عبد الله: عليك بالسنة، فإن أول ما سألني الله سألني عن السنة. وقال أبو العالية: من مات على السنة مستوراً فهو صديق، ويقال: الاعتصام بالسنة نجاة].

تحذير السلف من البدع والتشديد على المبتدعة

تحذير السلف من البدع والتشديد على المبتدعة قال رحمه الله تعالى: [وقال سفيان الثوري: من أصغى بأذنه إلى صاحب بدعة خرج من عصمة الله ووكل إليها، يعني إلى البدع. وقال داود بن أبي هند: أوحى الله تبارك وتعالى إلى موسى بن عمران: لا تجالس أهل البدع، فإن جالستهم فحاك في صدرك شيء مما يقولون أكببتك في نار جهنم. وقال الفضيل بن عياض: من جالس صاحب بدعة لم يُعط الحكمة. وقال الفضيل بن عياض: لا تجلس مع صاحب بدعة فإني أخاف أن تنزل عليك اللعنة. وقال الفضيل بن عياض: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه. وقال الفضيل بن عياض: من جلس مع أصحاب بدعة في طريق فجز في طريق غيره. وقال الفضيل بن عياض: من عظّم صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام، ومن تبسّم في وجه مبتدع فقد استخف بما أنزل الله عز وجل على محمد صلى الله عليه وسلم، ومن زوّج كريمته من مبتدع فقد قطع رحمها، ومن تبع جنازة مبتدع لم يزل في سخط الله حتى يرجع. وقال الفضيل بن عياض: آكل مع يهودي ونصراني ولا آكل مع مبتدع، وأحب أن يكون بيني وبين صاحب بدعة حصن من حديد. وقال الفضيل بن عياض: إذا علم الله من الرجل أنه مبغض لصاحب بدعة غفر له وإن قل عمله، ولا يكون صاحب سنة يمالئ صاحب بدعة إلا نفاقاً، ومن أعرض بوجهه عن صاحب بدعة ملأ الله قلبه إيماناً، ومن انتهر صاحب بدعة آمنه الله يوم الفزع الأكبر، ومن أهان صاحب بدعة رفعه الله في الجنة مائة درجة فلا تكن صاحب بدعة في الله أبداً]. ينبغي التنبه لمثل هذه العبارات وإن وردت عن مثل الفضيل رحمه الله، ففيها نظر، مثل قوله: (ومن انتهر صاحب بدعة آمنه الله يوم الفزع الأكبر)، كان المفروض أن يقال: أرجو أن يؤمّنه الله عز وجل من الفزع الأكبر، من باب الرجاء، وكذلك قوله: (من أهان صاحب بدعة رفعه الله في الجنة مائة درجة) فتحديد المائة فيه نظر، وهو لا ينبغي في الحقيقة، وهذا من التساهل عند بعض العبّاد أمثال الفضيل رحمه الله. (فلا تكن صاحب بدعة في الله أبداً)، بمعنى: لا تقع في البدعة، لكن العبارة فيها ركاكة واضطراب. المهم أن تحديد هذه الأمور توقيفي لا ينبغي أن نأخذ الكلام فيها على التسليم، بل لا بد أن نناقشها، ونقول: هذا شيء يحتاج إلى دليل شرعي، وليس عندنا دليل شرعي، فنتوقف في مثل هذه الأمور، وقد ذكر لها العلماء قواعد كثيرة فيما يتعلق بالاستدلال، وكونها صدرت من الفضيل أو أمثال الفضيل لا يعني أنها تُقبل من كل وجه، فهي زلة. نسأل الله أن ينفعنا بما علمنا، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، ونسأل الله للجميع التوفيق والسداد والرشاد. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

§1/1